تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية

محمد سهيل طقوش

المقدمة

المقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد بن عبد الله خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين، وبعد: تتناول هذه الدراسة موضوعًا شائكًا في التاريخ الإسلامي المبكر، يعد من أهم الموضوعات في مجال البحث العلمي، ويشكل استمرارًا لانتقال الأمة الإسلامية من مرحلة التحالف القبلي إلى مرحلة الدولة الإسلامية التي ابتدأت في حياة النبي، ويحدد النهج لمرحلة ما بعد عصر الرسالة، ويتضمن ملابسات تكوينه، وتطوره في ضوء ما حدث في عصر صدر الإسلام من فتوح، وما ارتبط بها ونتج عنها من صراعات سياسية، ونقاشات دينية حادة، ونزاعات حزبية وتطورات اجتماعية، ويشير مصطلح صدر الإسلام إلى عصر الخلفاء الراشدين، ويعد الارتباط بين الجانب الديني، والتطور التاريخي أحد أهم ملامحه. لقد تفاعلت عوامل مختلفة داخلية وخارجية، سياسية واجتماعية، اقتصادية ودينية؛ ساهمت، بشكل متفاوت، في رسم مسار الأحداث التاريخية، وتحديد غاياتها، ولا يمكننا استيعاب هذا التطور إلا من واقع متابعة الأحداث الأساسية المفردة، وتعقب نشاط الشخصيات التاريخية البارزة لهذا العصر، بالإضافة إلى نشاط مختلف شرائح المجتمع، والملاحظ أنه كلما توسعنا، وتعمقنا في التحليل التاريخي لأحداث هذا العصر؛ ازداد تنوع وتضارب الآراء، والتوجهات حول تقييمها. وسوف يتم تسليط الأضواء على الأحداث التاريخية، والمشكلات الاجتماعية التي واجهت المسلمين الأوائل، الناتجة عن خلافة النبي صلى الله عليه وسلم وحروب الردة، والفتوح بدءًا بخلافة أبي بكر الصديق، ومرورًا بخلافة عمر بن الخطاب، ووصولًا إلى خلافة عثمان بن عفان، وانتهاء بخلافة علي بن أبي طالب. والواقع أن قضية نظام الحكم كانت المشكلة الأولى التي واجهت المسلمين بعد وفاة النبي الذي لم يعهد لأحد بتدبير أمور المسلمين من بعده، سياسيًا بشكل خاص.

وأضحى لزامًا على المسلمين أن يتصرفوا ضمن حدود القرآن والسنة، وينشئوا نظامًا يفهم الاختلاف والفرقة، فأنشأوا نظام الخلافة. واجه أبو بكر، خلائل حياته السياسية القصيرة بعد أن اختير أول خليفة على المسلمين، مشكلتين كبيرتين، تمثلتا بردة العرب عن الدين الإسلامي بعد وفاة النبي، وبالفتوح خارج الجزيرة العربية، لكنه ما لبث أن تغلب عليهما، فاستعادت الجزيرة العربية وحدتها، ودانت بالطاعة للحكومة المركزية في المدينة مما سمح ببدء عمليات الفتوح والتوسع في العراق، وبلاد الشام التي وضع أساسها النبي لنشر الدين الإسلامي بين القبائل العربية خارج الجزيرة العربية. وواصل عمر بعد انتخابه خليفة، على أثر وفاة أبي بكر وبعهدته، عمل هذا الأخير، فاستكمل الفتوح في العراق، وبلاد الشام بالإضافة إلى بلاد فارس ومصر، وأضحى المسلمون في عهده عاملًا مهمًا في التاريخ العام بعد أن فتحوا هذه المناطق، وقضوا على الإمبراطورية الفارسية، وانتزعوا أملاكًا واسعة من الإمبراطورية البيزنطية، وهو الحدث الملفت في التاريخ الذي تم إنجازه في أعوام معدودة، وتميز بطول المسافة وإتساع الرقعة، وعمق الأثر ودوامه، وشهد عهده نقلة نوعية من واقع استكمال خطوات النبي في الانتقال من مرحلة التحالف القبلي إلى مرحلة الدولة الإسلامية، وذلك بما وضع من تنظيمات سياسية، واجتماعية واقتصادية نظمت العلاقات بين مختلف أفراد المجتمع الإسلامي من جهة، وبينهم وبين الدولة المركزية من جهة أخرى، بالإضافة إلى تنظيم العلاقات بين الدولة الإسلامية، وسكان البلاد المفتوحة، والواقع أن هذه العملية تتميز بالتعقيد؛ لأنها خرجت إثر انقلاب شامل في جميع مجالات الحياة، وترافقت مع انتشار الإسلام. وفي الوقت الذي كانت فيه الدولة الإسلامية تسير بخطى واسعة، وثابتة نحو الاستقرار، تعرضت لاضطرابات داخلية نتيجة تنامي النفوذ السياسي، والاقتصادي "للأرستقراطية" القرشية، فتجدد التنافس بعد مقتل عمر بن الخطاب، بين بني هاشم وبني أمية، تجلى منذ اختيار عثمان بن عفان خليفة للمسلمين، وتعرضت سياسة هذا الخليفة للسخط من جانب بعض الشخصيات الإسلامية من واقع انقسام المجتمع الإسلامي على نفسه بين مؤيد لبني هاشم، ومؤيد لبني أمية، بالإضافة إلى الفرز الاجتماعي الناتج عن عمليات الفتوح، والمتمثل بتحديد العطاء، وتوزيع الثروات المحصلة من الغنائم، وتنامي قوة الأمصار على حساب القوة المركزية في المدينة، وقد أدى كل ذلك إلى مقتل عثمان.

ودفع علي بن أبي طالب إلى تسلم الخلافة في خطوة تكاد تكون انقلابية ضد سياسة سلفه، لكنه ما لبث أن واجه معارضة سياسية مغلفة بإطار الثأر لمقتل عثمان، وبدا التنافس السياسي على السلطة واضحا بين قادة المسلمين، مما انعكس سلبا على أوضاعهم وقدراتهم، فتراجعت حركة الفتوح، وواجه علي حركتين معارضتين لحكمه، تمثلت الأولى بخروج طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعائشة أم المؤمنين، وانتهت هذه الحركة بانتصاره في حرب الجمل، وتمثلت الثانية بمعارضة بني أمية بزعامة معاوية بن أبي سفيان والي الشام، وقد تطورت إلى حرب دارت رحاها في صفين، وانتهت باتفاق الطرفين على التحكيم، لكن هذه الخطوة لم تنه الخصومة بين الهاشميين والأمويين، وأخذت الصعاب تلاحق عليًا في دولته حتى قتل على يد الخوارج، وانتهى بمقتله عصر صدر الإسلام. اعتمدت في هذه الدراسة على مصادر أساسية، ومراجع متنوعة مبينة في ثبت المصادر والمراجع، وآمل بما اعتمدت عليه أن يخدم الحقيقة التاريخية. أما تشكيل الموضوعات التي يراها القارئ بعناوينها، فقد قسمتها إلى أربعة أبواب تتضمن أربعة عشر فصلًا. عالجت في الفصل الأول الأوضاع السياسية في الجزيرة العربية عقب وفاة النبي، حيث برزت مشكلتان سياسيتان أمام المسلمين، تمثلت الولى في اختيار خليفة للنبي، وتمثلت الثانية في بروز الردة بين القبائل العربية، وإذا كان المسلمون قد نجحوا في حل المشكلة الأولى باختيار أبي بكر الصديق خليفة عليهم، فقد أخذ هذا على عاتقه التصدي لحل المشكلة الثانية. وعالجت في الفصل الثاني تفشي ظاهرة التنبؤ في المجتمع العربي، حيث ظهر المتنبئون مثل: الأسود العنسي في اليمن، ومسيلمة الكذاب في اليمامة، وطليحة الأسدي في بزاخة، وسجاح التميمية، وذي التاج لقيط في عمان. وتطرقت في الفصل الثالث إلى حروب الردة التي خاضها المسلمون ضد المتنبئين، والمرتدين حتى القضاء عليهم، مما أتاح لأبي بكر إعادة الوحدة السياسية، والدينية للعرب في جزيرتهم. وتضمن الفصل الرابع سجلًا بأوضاع الدولتين الفارسية، والبيزنطية عشية الفتوح الإسلامية من كافة الجوانب السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية والدينية، بالإضافة إلى العلاقات بينهما تلك التي اتسمت بالعدائية غالبًا، والمعروف أن الدولة الأولى كانت تمر بمراحل شيخوختها، وأن الثانية كانت تعاني من صعاب داخلية وخارجية، مما سمح للمسلمين بالإنسياب إلى أراضيهما.

وعالجت في الفصل الخامس الفتوح في عهد أبي بكر الصديق، في العراق وبلاد الشام، وقد ارتبطت بدايات فتوح العراق بانتهاء حروب الردة حيث وجد المسلمون أنفسهم على حدود هذا البلد، فسيطروا على جنوبه ووسطه. واشتهر كل من المثنى ابن حارثة الشيباني، وخالد بن الوليد، اللذان حققا هذا الإنجاز، وكانت بلاد الشام في مقدمة اهتمامات أبي بكر الهادفة إلى التوسع عبر المناطق المألوفة للعرب جغرافيًا، فأرسل الجيوش إلى هذه البلاد لفتحها، فانتشر المسلمون في ربوعها، ونتيجة للصحوة البيزنطية المتمثلة برد الفعل، احتاج المسلمون إلى قيادة خالد بن الوليد، فانتقل من العراق إلى بلاد الشام بناء لأوامر الخليفة، وقاد المسلمين من نصر إلى نصر في عدة معارك أهمها أجنادين. وخصصت الفصل السادس لتدوين أحداث فتوح العراق حتى معركة القادسية، وذلك في عهد عمر بن الخطاب الذي تولى الخلافة بعد وفاة أبي بكر الصديق. وخاض المسلمون عدة معارك ضد الجيوش الفارسية، أشهرها القادسية، وقد انتصر المسلمون فيها، وحطموا القوة الميدانية للجيش الفارسي، وأدى مقتل رستم، القائد الفارسي، في هذه المعركة إلى ازدياد اليأس، والاضطراب في المجتمع الفارسي، وفتح هذا الانتصار الباب واسعًا أمام المسلمين لاستكمال فتوح العراق، والانطلاق إلى المناطق الشرقية للإمبراطورية الفارسية، وبرز سعد بن أبي وقاص كقائد محترف أدار المعركة بنجاح. وعالجت في الفصل السابع استكمال فتوح العراق، وفتوح بلاد فارس حيث نجح المسلمون في فتح المدائن عاصمة الإمبراطورية الفارسية، وجلولاء وحلوان، وطهروا العراق من بقايا الوجود الفارسي، ثم فتحوا تكريت ونينوى، والموصل في شمالي العراق، وقرقيسياء وهيت على الفرات، وماسبذان الواقعة على الحدود العراقية الفارسية، ثم الأبلة والبصرة في الجنوب، ودخلوا الأقاليم الفارسية الشرقية، ففتحوا الأهواز وتستر والسوس، ونهاوند وهمذان وأصفهان، وقومس وجرجان، وطبرستان وأذربيجان، وإقليم فارس وكرمان وسجستان، ومكران وخراسان، وطاردوا الإمبراطور الفارسي يزدجرد الذي فر من مدينة إلى مدينة حتى انتهى به المطاف إلى الخروج من بلاده، واحتمى بملك الترك حيث قتل بعد ذلك، وتم القضاء على الإمبراطورية الفارسية. وتطرقت في الفصل الثامن إلى أحداث استكمال فتوح بلاد الشام، وفتوح الجزيرة وأرمينية والباب، وتحدثت عن عزل خالد بن الوليد، عن قيادة جيوش المسلمين في

بلاد الشام، وإسناد القيادة إلى أبي عبيدة بن الجراح، وهو القرار الذي اتخذه عمر، وخاض المسلمون عدة معارك كان أشدها اليرموك التي فتحت الباب واسعًا أمامهم للولوج إلى عمق بلاد الشام، وفتحوا كافة مدنها إما صلحًا، وإما عنوة، كما فتحوا الثغور الساحلية باستثناء طرابلس الشام، وإقليم الجزيرة الفراتية، وجزءًا من أرمينية، والباب على بحر قزوين. وتضمن الفصل التاسع سجلًا بفتوح مصر التي كانت تحت الحكم البيزنطي، وقاد عمرو بن العاص جيش المسلمين، وحقق انتصارات مذهلة على القوى البيزنطية، وفتح كافة المدن المصرية بما فيها الإسكندرية، وأسس الفسطاط، وحتى يؤمن على مكتسبات الفتح من جهة الحدود الغربية، أو نتيجة لغريزة التوسع لدى القائد الإسلامي، فقد قام بحملة باتجاه الغرب، وفتح برقة وطرابلس الغرب، وكما حاول تأمين حدود مصر من جهة الجنوب بمهاجمة بلاد النوبة. وعالجت في الفصل العاشر تنظيم الدولة في عهد عمر في خطوة، فرضتها أوضاع المسلمين السياسية، والاجتماعية والاقتصادية، واحتكاكهم الحضاري بشعوب البلاد المفتوحة، ونمو الدولة بسرعة مذهلة، فتحدثت عن نظام الحكم والإدارة، والدواوين وبيت المال والقضاء، وعن علاقة الخليفة بالمجتمع الإسلامي، وإدارة البلاد المفتوحة من واقع الطابع العام لعقود الصالح، وختمته بعلاقة الفاتحين بسكان البلاد المفتوحة. ودونت في الفصل الحادي عشر أحداث الفتوح في عهد عثمان بن عفان الذي خلف عمر بن الخطاب بعد مقتله، والواقع أن عمر عمد إلى بلورة وجهة نظر جديدة تجاه مسألة الحكم تنطلق من إحياء الشورى، التي تأستت عليها بيعة سقيفة بني ساعدة تاركًا لنخبة المسلمين من أهل الحل، والعقد قرار اختيار الخليفة المناسب، فاختار مجلسًا للشورى مؤلفًا من ستة أعضاء من بينهم عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وبعد مداولات تداخلت فيها المصالح العامة، والخاصة اختير عثمان خليفة، وقد واجه في مستهل حياته السياسية عدة ثورات في البلاد المفتوحة، ونجح في قمعها، ثم التفت إلى استكمال الفتوح، ففتح أرمينية وطرابلس الشام، وغزا الجزر البحرية, وإفريقية وبلاد النوبة، وخاض المسلمون في عهده معركة بحرية كبرى ضد البحرية البيزنطية في ذات الصواري. وتناولت في الفصل الثاني عشر أحداث الفتنة الكبرى التي عصفت بالمسلمين، وأدت إلى قتل عثمان، وذلك من واقع التطور الاجتماعي، والسياسي للمجتمع

الإسلامي نتيجة الفتوح، وتدفق الأموال وتكديسها، وقد أفرزت حياة جديدة للمسلمين، وعلاقات تصادمية بين الإدارة المركزية، وجمهور القبائل الذين تركزوا في الأمصار بفعل هيمنة المدينة على القرار السياسي من خلائل إعادة هيكلية، وتحديد وظيفة الخلافة، وصلاحيات الخليفة على حساب دور القبائل ومنزلتها، وقد ذهب عثمان ضحية ذلك. وعالجت في الفصل الثالث عشر أوضاع المسلمين العامة في ظل خلافة علي بن أبي طالب الذي تولى الخلافة بعد مقتل عثمان في ظل الانقسام الذي أفرزته الثورة، واتساع الهوة بين الفئات المتناقضة التوجهات في المجتمع الإسلامي، وقد خلقت فرزًا اجتماعيًا جذريًا بين الجمهور القبلي من جانب، وبين النخبة القرشية من جانب آخر، وعد اختياره انقلابًا على نهج عثمان، وعودة إلى نهج عمر المتشدد، على الرغم من تغير الظروف الموضوعية واختلافها كثيرًا، مما خلق معارضة سياسية ضد حكمه تمثلت بقيام حلف بين طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعائشة أم المؤمنين، كما عارضته الفئات الأموية بزعامة معاويءة بن أبي سفيان، بحجة الثأر لمقتل عثمان، وتواجه المسلمون عسكريًا لأول مرة في تاريخهم في معركة الجمل، وانتصر علي على قوى التحالف، وقتل كل من طلحة والزبير، وسيطر علي على العراق، واستعد لمواجهة معاوية القابع في بلاد الشام. واستكملت في الفصل الرابع عشر الحديث عن أوضاع المسلمين العامة في ظل خلافة علي بن أبي طالب من واقع الصراع بينه، وبين معاوية بالإضافة إلى الخوارج الذين ظهروا على الساحة السياسية بعد معركة صفين التي جرت بين الرجلين، وما جرى من إشكالات سياسية على أثر معركة صفين، فقد اتفق الخوارج على التخلص من علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص الذين عدوهم المسئولين المباشرين عن انقسام المسلمين وتشتتهم، فنجحوا في اغتيال الأول في الكوفة، وفشلوا في اغتيال معاوية في دمشق، وعمرو في مصر، وبمقتل علي بن أبي طالب، انتهى عصر صدر الإسلام. وأنا على ثقة بأن القارئ سيجد في هذه الدراسة متعة وافئدة، كما سيلمس موضوعية في معالجة الأحداث. والله أسأل أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وأن ينفع بها القارئ العربي والمسلم، إنه سميع مجيب. بيروت في 3/1/ 2003. أ. د. محمد سهيل طقوش.

الباب الأول: أبو بكر الصديق 11-13هـ-632-634م

الباب الأول: أبو بكر الصديق 11-13هـ-632-634م الفصل الأول: الأوضاع السياسية في الجزيرة العربية عقب وفاة النبي الأوضاع السياسية في المدينة ... الفصل الأول: الأوضاع السياسية في الجزيرة العربية عقب وفاة النبي الأوضاع السياسية في المدينة: التعريف بأبي بكر: هو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب1، ويلتقي بنسبه مع النبي في مرة، كان يسمى في الجاهلية عبد الكعبة، فسماه النبي عبد الله، ولقبه بـ"عتيق" لحسن وجهه، وعتقه من النار2، وبالصديق؛ لأنه بادر إلى تصديقه لا سيما صبيحة الإسراء3. أبوه عثمان، ولقبه أبو قحافة، وأمه سلمى بنت صخر بن عمرو بن عامر بن كعب بن مرة، وكنيتها أم الخير4. ولد أبو بكر في مكة بعد عام الفيل بعامين وأشهر، وهو من سراة أهلها، عالمًا بأنساب العرب وأخبارهم5، عمل بزازًا يتاجر بالثياب، وهو أول من أسلم من الرجال، وسرعان ما ترك التجارة بعد إسلامه، وتفرغ للدعوة الإسلامية مع النبي. اشتهر أبو بكر بالعفة والخصال الحميدة، لم يشرب الخمر التي كانت متفشية في المجتمع الجاهلي، زاهدًا متواضعًا في أخلاقه ولباسه، ومطعمه ومشربه سخيًا كثير البذل والعطاء، لينًا، رقيقًا، بعيد النظر، ثاقب الفكر، حازمًا في اتخاذ القرارات، أعتق سبعة من المسلمين كانت قريش تعذبهم، منهم بلال من رباح وعامر بن فهيرة، أسلم بدعوته كثير من العرب الذين افتخر بهم الإسلام، مثل عثمان بن عفان، والزبير بن

_ 1 الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير: تاريخ الرسل والملوك، ج3 ص424، 425. 2 ابن هشام، أبو محمد عبد الملك بن هشام: السيرة النبوية على هامش الروض الأنف لأبي القاسم عبد الرحمن السهيلي، ج1 ص287. 3 الطبري: ج3 ص425، العسقلاني، الحافظ شهاب الدين المعروف بابن حجر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري ج8 ص8. 4 الطبري: المصدر نفسه. 5 ابن هشام: ج1 ص288.

العوام وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله1. كان إيمان أبي بكر بالنبي شديدًا، صدقه في صباه، ورافقه عندما هاجر إلى المدينة، فهو المقصود بقوله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوب: 40] . وعندما استقر النبي في المدينة كان أبو بكر ساعده الأيمن، وقد خصه بمزايا لم يخص أحدًا بها، وقدر له منزلته، وأشاد بذكره كثيرًا: "ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه إلا أبا بكر، فإن له عندنا يدًا يكافئه الله عز وجل بها يوم القيامة"2، "ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت له فيه كبوة، غير أبي بكر، فإنه ما عكم"3. روى أبو بكر مائة واثنين وأربعين حديثًا عن النبي، معظمها في حق الأنصار. وعندما قال النبي في آخر خطبة له: "إن عبدًا من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار الله"، فهمها أبو بكر وعلم أن النبي إنما يريد نفسه، وأن وفاته قد حانت؟ بكى وقال: "نفديك بأنفسنا وأبنائنا"، فقال: "على رسلك يا أبا بكر، انظروا هذه الأبواب الشوارع اللافظة في المسجد، فسدوها، إلا ما كان من بيت أبي بكر، فإني لا أعلم أحدًا كان أفضل عندي في الصحبة يدًا منه"، وفي رواية أنه قال: "إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن إخوة الإسلام؛ لا تبقى خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر" 4.

_ 1 ابن هشام: ج1: ص288، 289، ج2 ص67، 68. 2 فنسك: المعجم المفهرس لألفاظ الحديث ج7 ص354. 3 عكم: تردد. 4 الطبري: ج3 ص190، 191.

اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة

اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة 1 دوافع الاجتماع: توفي النبي محمد صلى الله عليه وسلم ضحى يوم الاثنين "في 12 ربيع الأول 11هـ/ 7 حزيران 632م" في المدينة2، وأحدثت وفاته صدمة عنيفة، فاجأت المسلمين عامة، وخلقت

_ 1 سقيفة بني ساعدة في المدينة، وهي ظلة كانوا يجلسون تحتها، وأما بنو ساعدة الذين نسبت إليهم السقيفة، فهم حي من الأنصار، وهو بو ساعدة بن كعب بن الخزرج، الحموي، ياقوت: معجم البلدان ج3 ص228، 229. 2 الطبري: ج3 ص200.

وضعية خاصة ذات ملامح منفردة ومصيرية، وبرزت فورًا مسألة الحفاظ على أنجازاته من دين ودولة، وبالتالي مسألة خلافته. وساهمت غيبته في إبراز الطابع الدنيوي لأحداث، حيث أخذت المصالح الاجتماعية للقبائل المختلفة، التي ما زالت ضمن الحظيرة الإسلامية، تعبر عن نفسها بأشكال مباشرة، وصريحة تتلاءم مباشرة مع محتواها. والواضح أن مسألة قيادة المسلمين بعد وفاة النبي، كانت المسألة الرئيسية والحماسة التي ارتبطت بها كل المسائل الأخرى على أن تتلازم مع الأسس التي وضعها لإقامة دولة، ولا يستطيع المؤرخ لتاريخ صدر الإسلام السياسي، والاجتماعي أن يتجاهل التناقضات، والصراعات التي تفجرت بعد وفاته. ففي الوقت الذي أعلن فيه خبر الوفاة، برزت لدى كبار الصحابة من الأنصار، الأوس والخزرج، قضية اختيار خليفة للنبي، ذلك أنه لم يرد في القرآن الكريم نص صريح يحدد أسس انتخاب خليفة لرسول الله، لكنه دعا إلى الشورى، يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ، وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 37، 38] ، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] . الواضح أن كلمة الشورى قرآنية كما يتضح من الآيتين السالفتين، أما الأولى، فتحدد للأمة الإسلامية خصائص من بينها أن "أمرهم شورى بينهم"، وأما الثانية، فقد نزلت بعد هزية أحد، ومن المعروف أن النبي شاور أصحابه قبل الخروج إلى أحد، وهي التي أدت إلى هذا الخروج للقاء المشركين في ميدان مكشون، وكان رأي النبي التحصن بالمدينة، وعدم الخروج. وهكذا فإن القرآن الكريم يطلب من النبي استشارة الأمة في الأمر حتى تنتفي الشبهة تمامًا في المسألة، وهذا الأمر هو لفظ عام للأفعال، والأقوال والأحوال، ومن ضمنها مسائل الحرب التي أدت الآراء المختلفة فيها إلى الهزيمة1. وتنفيذًا لهذا التوجه، لم يضع النبي تفاصيل خارجة عن إطار هذه المعاني القرآنية العامة، وبقيت سياسته منسجمة مع الهيكلية القبلية، ولم تمس نهائيًا زعاماتها

_ 1 السيد، رضوان: السلطة في الإسلام، دراسة في نشوء الخلافة، بحيث في كتاب: بلاد الشام في صدر الإسلام ص407، 408، المؤتمر الدولي الرابع لتاريخ بلاد الشام 1987.

ورئاستها القائمة، بالإضافة إلى ذلك، فإن لم يتصرف كسياسي باسم قريش، أو باسم قبيلة ما، بل اكتفى في عمله السياسي بشخصه وحده، وكانت هيبته الدنيوية لا تنفصل عن سلطانه النبوي الروحي، فهو لم يقم بجمع القبائل من حوله كشريف قريشي، وإنما كنبي ورسول فحسب، وقبيلته قريش كانت آخر من يمكن أن يدعي أنها قد ساهمت مساهمة جدية في مساعدته ونصرته. وكأن النبي أراد بذلك أن يترك الأمر شورى بين المسلمين ليختاروا من يصلح لخلافته من بينهم جريًا على عادة النظام القبلي الذي ألفه العرب، وبخاصة أنه لم يكن له ولد ذكر يستخلفه من بعده. لا يمكن لهذه الإشكالية، أن تجد حلًا معقولًا، ومقبولًا إلا على أرضية النظام القبلي السائد، وإن المؤرخ لهذه الحقبة، لا بد أن يرى جملة من التناقضات والصراعات التي تفجرت بعد وفاة النبي على أنها جزء لا يتجزأ من تركيبة الأمة نفسها1، وهو ما يفسر لنا تسابق القبائل، والبطون على أن يكون الأمر لها دون غيرها، وتجلت النفس العربية والطبيعة القبلية إذ ذاك، فالنصار يخافون قريشًا والمهارجون إن استأثروا بالأمر دونهم، وهم جميعًا فيما بينهم يتوجسون، وتخشى كل من الأوس والخزرج صاحبتها، ولم يكن الوضع في مكة بأقل منه في المدينة، فقد دب التنافس في هذا الأمر بين بطون قريش، فسعى أبو سفيان بن حرب في إيغار صدر علي على أبي بكر، ونعت عليًا والعباس بـ"الأذلين المستضعفين"2. ومن جهة أخرى، تضمنت روايات المصادر نية النبي، وهو على فراش الموت، كتابة وصية للمسلمين لن يضلوا بعدها، غير أنه حصل لغط، واختلاف بين الحاضرين، فمن قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجه، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله"، وعلى رأس هؤلاء عمر بن الخطاب، ومن قائل: "قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم"، الأمر الذي ضايق النبي، فقال لهم: "قوموا عني، ما ينبغي أن يكون بين يدي النبي خلاف"، فقال عندئذ، ابن عباس: "الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم"3. ولعل النبي قد تأثر برأي عمر أكثر مما تأثر برأي غيره نظرًا لصدقه، وإخلاصه وصراحته في رأيه.

_ 1 إبراهيم، أيمن: الإسلام والسلطان والملك ص115. 2 الطبري: ج3 ص209. 3 ابن سعد: ج2 ص242.

توضحت إذن الخطورة التاريخية لمسألة الخلافة على مصير الأمة الإسلامية السياسي بعد وفاة النبي، وكانت مفتوحة وموضع أخذ ورد، ومثار جدل بين قوى مختلفة، وتذكر المصادر أن الأنصار اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة للتباحث فيمن يتولى الأمر بعد وفاة النبي، لكنها لم تذكر من الذي دعا إلى هذا الاجتماع، ولا كيف تمت الدعوة، وإنما روت حصول الاجتماع في السقيفة. ويبدو أن الدعوة للاجتماع تمت على عجل دون إعلام المهاجرين، وكأن الهدف أخذهم على حين غرة، وخلق واقعة سياسية، أو أن بعض الأنصار تذاكروا في أمر من يخلف النبي خلال مرضه، وأنهم توقعوا وفاته، فلما حصلت الوفاة دعوا إلى هذا الاجتماع فاجتمعوا. يقول الطبري: "إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قبض اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: نولي هذا الأمر بعد محمد صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة"1، والراجح أن تغلب الخزرج على الأوس هو الذي دفع الخزرج إلى ترشيح رئيسهم سعد بن عبادة، والجدير بالذكر أن سيد الأوس سعد بن معاذ كان قد توفي قبل ذلك، ويبدو أن الأوس لم يكونوا راضين في قراره أنفسهم عن تولية سيد الخزرج، ولا ندري أكانوا جميعًا حاضرين في اجتماع السقيفة، أنهم كانوا يراقبون الموقف من بعيد، وينتظرون تطوراته. والراجح أن الأنصار كانوا مدفوعين بعدة عوامل للاجتماع على عجل لعل أهمها: - شعورهم بأنهم بحاجة ماسة إلى اختيار خليفة يتولى شئون المدينة، وأمر المسلمين، فمدينتهم مهددة بعد وفاة النبي من الإعراب، ورجال القبائل بوصفها العاصمة الإسلامية، كما أن كثيرًا من الإعراب، ومعظم رجال القبائل لم يؤمنوا، وإنما أسلموا بلسانهم خوفًا من قوة المسلمين المتنامية. - إدراكهم بأنهم مهددون قبل غيرهم من أولئك؛ لأنهم كانوا السند لرسول الله، وهم الذين ناصروه، واستطاعوا مع المهاجرين أن يضعوا نواة الدولة الإسلامية الأولى، التي تمكنت من إخضاعهم، والسيطرة على ديارهم2. - رأوا أنهم أصحاب المدينة، وأصحاب الغلبة والنفوذ فيها، وأنهم ما زالوا أصحاب الضرع والزرع، وأن الحكم حق لهم دون غيرهم، ويرغبون في التصرف

_ 1 تاريخ الرسل والملوك: ج3 ص201- 218. 2 شاكر، محمود: تاريخ الإسلام ج3 ص49.

كأسياد واسترداد سيادتهم التي تنازلوا عنها للنبي في حياته، ولا يجوز لغيرهم أن يحكمهم في بلدهم، بدليل أن الحباب بنا لمنذر الأنصاري طلب من الأنصار، في إحدى مراحل النقاش مع أبي بكر، وأصحابه من المهاجرين، بإجلاء هؤلاء عن أرضهم إذا لم يصغوا لما يقول1. - أحقيتهم بالخلافة من المهاجرين نظرًا لسابقتهم في الإسلام، ونصرتهم لرسول الله وأصحابه، وإيوائهم له، وإليهم كانت الهجرة2، وما نتج عن ذلك من فضائل لم تتوفر لية قبيلة عربية، وعززوا موقفهم بالإشارة إلى أن النبي استمر مدة طويلة يدعو قومه إلى الدين الجديد، ولم يؤمن به منهم إلا عدد ضئيل لم يكونوا قادرين على الدفاع عنه أو تعزيزه، وهذا ما اختص به الأنصار، فبقوتهم دانت العرب للإسلام، وهو ما دفع سعد بن عبادة إلى أن يخاطبهم بقوله: "استبدوا بهذا الأمر، فإنه لكم دون الناس"3. - أرادوا تحاشي هيمنة قريش الظاهرة منذ فتح مكة، والتي ارتضوها احترامًا للنبي، وخشوا إن انتخب مرشح قرشي من المهاجرين، أن يستبد بالأمر، فيقعوا تحت سيطرة قريش التي حاربوها ثماني سنوات، مما يهدد باختلال التوازن لغير مصلحتهم في المرحلة القادمة. والواضح أن هذه الهواجس لم تكن غائبة عن تفكيرهم منذ فتح مكة حيث كانت الراية معقودة لسعد بن عبادة، وقد بلغت به الحماسة، فقال: "اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة"4، فعد النبي هذا القول على أنه موجه ضد قريش، فأخذ الراية منه وأعطاها لقرشي مهاجر هو علي بن أبي طالب5، كما استثناهم النبي من العطاء في أعقاب غزوة الطائف6، مما أثار قلقهم، وقد أدرك النبي هذا الشعور لديهم بعد أن كثرت القالة منهم، فبدده قائلًا: "ألا ترضون يا معشر الأنصار أن تذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا وسلكت الأنصار شعبًا، لسلكت شعب الأنصار" 7، كما أوصى المهارجين بهم في مرضه الأخير حين

_ 1 ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم: الإمامة والسياسة ج1، ص12، الطبري: ج3 ص218- 220. 2 المصدران نفساهما. 3 الطبري: ج3 ص218. 4 ابن هشام: ج4 ص91. 5 المصدر نفسه. 6 المصدر نفسه: ص156. 7 المصدر نفسه: ص156، 157.

قال: "يا معشر المهاجرين استوصوا بالأنصار خيرًا، فإن الناس يزيدون والآنصار على هيئتها لا تزيد، وإنهم كانوا عيبتي التي أويت إليها، فأحسنوا إلى محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم"1. وتدل فكرة الانتخاب على: - وجود نهج سياسي محصور بالنخبة. - وإن الوظيفة النبوية كانت تفهم كوظيفة قيادية تستلزم خلفًا2. موقف الأنصار خلائل المناقشة مع المهاجرين: مما لا شك فيه أن الروايات التاريخية الكثيرة التي حفظتها لنا المصادر حول ما دار في اجتماع السقيفة، يشوبها الكثير من التضارب، ومع ذلك فهي تشترك في نقاط جوهرية تشكل أرضية صالحة ينظر إليها على أنها ذات محتوى تاريخي يستند إليه في التاريخ لهذه الحقبة، حيث كانت مسألة خلافة النبي مسار جدل اتسم بالحدة أحيانًا، وقد تولى كل من سعد بن عبادة، والحباب بن المنذر، التكلم باسم الأنصار عامة، وقد افتتح الأول المناقشة بخطبة تشير إلى أن الأنصار أعطوا لأنفسهم الحق بالتفرد في تقرير مصير خلافة النبي مع ما لهذه القضية من أهمية وخطورة، دون الوقوف على رأي الطرف الآخر الذي يشكل شطر المجتمع الإسلامي في المدينة، وهم المهاجرون، وقد عللوا موقفهم هذا بأسباب موجبة لا تخرج عن موقفهم المشرف من الدين وصاحبه، ونصرتهم له، وخذلان أكثر العرب له، وعجز المهاجرين عن حمايته، وحماية أنفسهم حتى اضطروا إلى الهجرة إلى مدينة الأنصار، فكان بعد ذلك النصر المؤزر، مما أوضحناه في دوافع الاجتماع3. ولا شك بأن هذا التصرف هو سلوك انفصالي لا يأخذ بالحسبان مجموع الأمة، ثم إن رئاسة الدولة إنما هو أمر ديني، وسياسي معًا. ويبدو أن بعض الأنصار أدركوا بعد ذلك، حقيقة وضعهم في أنهم ليسوا وحدهم أصحاب الحق في تقرير أمر الخلافة، وأن لهم منافسًا قويًا سوف يزاحمهم، إنهم المهاجرون، يدل على ذلك، رد الفعل الأولي عند هؤلاء على خطاب سعد بن عبادة، فبعد أن دعموا رأيه، وأيدوا موقفه، استدركوا الواقع التاريخي الذي يعيشون فيه، ورأوا أن المهاجرين لن يسلموا بهذا الأمر، ولا بد أن يعارضوه، وجرت بينهم

_ 1 ابن هشام: ج4: ص257. 2 جعيط، هشام: الفتنة ص34. 3 انظر نص الخطبة في الطبري: ج3 ص218.

مناقشة هادئة انتهت إلى القول بالثنائية في الحكم "منا أمير ومنكم أمير"1. كان الحباب بن المنذر صاحب هذه النظرية، وجاءت كجواب على الرفض القاطع للمهاجرين في تفرد الأنصار بالإمارة دون سواهم، معللًا رأي هؤلاء بقوله: "منا أمير ومنكم أمير، فإنا والله ما ننفس هذا الأمر عليكم أيها الرهط، ولكنا نخاف أن يليه أقوام قتلنا آباءهم وإخوانهم"2. حاول الجاحظ أن يشرح موقف الأنصار، وسلوكهم في اجتماع السقيفة وبخاصة في ما يتعلق برأيهم في ازدواجية الإمارة، وهو يفهم كلام الأنصار: "منا أمير ومنكم أمير"، كما لو أنهم أرادوا أن يقولوا: "لا بد لنا معشر الأنصار من أمير على أي حال، وأنتم بعد أعلم بشأنكم، فأقروا عليكم من بدا لكم، وليس في هذا طعن على خاصة أبي بكر، كما أنه ليس فيه تأكيد لإمامته دون غيره"3. موقف المهاجرين: كان المهاجرون آنذاك أكثر بعدًا عن هذا المناخ السياسي، بعضهم قد شغل بوفاة النبي وجهازه، ودفنه، وبعضهم ما تزال الصدمة تملأ نفسه، وبعضهم لم يفكر في اختيار خليفة، معتقدًا أن هذا الأمر هو آخر ما يقع الاختلاف فيه، وهم على يقين أن ما من طائفة من المسلمين سوف تنازعهم في هذا الأمر4. ولما بلغ خبر اجتماع السقيفة أبا بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، مضيًا إلى هناك مسرعين، بفعل أهمية وخطر الموضوع المطروح من مشكلة الحكم، والتقيا في طريقهما أبا عبيدة بن الجراح فأخذاه معهما، وشكل هذا الثلاثي جماعة متماسكة، ربما منذ المرحلة المكية من الدعوة، فهم ينتمون إلى عشائر قرشية صغيرة، وكان هذا سببًا لتقاربهم، وقد واجهوا خصوصية متفردة لم تكن قادرة على خلافة النبي في عمله التوحيدي. وشق أبو بكر طريقه إلى صدر الاجتماع، وألقى خطبة في المجتمعين بين فيها وجهة نظر المهاجرين عامة من قضية اختيار خليفة لرسول الله5، وهي تختلف في مضمونها عن خطبة سعد بن عبادة.

_ 1 الطبري: ج3 ص318. 2 البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر: أنساب الأشراف ج2 ص260. 3 الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر: العثمانية ص177. 4 شاكر: ج3 ص51. 5 انظر نص الخطبة عند الطبري: ج3 ص219، 220.

لقد فضل أبو بكر وحدة الأمة التي أسسها النبي، والسابقة في الجهاد من أجل الإسلام، وحدد الأولوية بالأقدمية في حياة الإسلام، وبالعذاب في سبيل العقيدة والإيمان، وقدم قاعدة الصحبة كمعيار لاختيار الأفضل، ثم أشاد بمزايا الأنصار، ولم يغمطهم حقهم من التكريم، إلا أن ذلك يأتي في المرتبة الثانية. وتضمنت الخطبة الأسباب الموجبة ليكون المراء من المهاجرين محصورة في أنهم أول من عبد الله في الأرض، وآمن بالله وبالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحق الناس بهذا الأمر من بعده، لا ينازعهم في ذلك إلا ظالم. ويبدو أنها رد على مقالة سعد بن عبادة التي قالها في الأنصار قبل حضور المهارجين، وكررها الحباب بن المنذر، وهي صفة جعلت كثيرًا من المسلمين يتراجعون عن المطالبة بالحكم خشية من أن يكون ظالمًا لا سيما أن توقيت إثارة هذه المطالب لم يكن مناسبًا؛ لأن الوضع كان مفعمًا بالحزن، والألم نتيجة وفاة النبي، ولكن هناك صراعًا خفيًا يكاد يعصف بالأمة الإسلامية يتمثل في اعتقاد أهل النبي، وعشيرته بأحقيتهم بهذا الأمر1. وهكذا كانت السابقة في جانب المهاجرين من زاوية إسلامية محض، وكان التفوق في جانبهم أيضا من وجهة نظر عربية محض؛ لأنهم ينتمون إلى قبيلة قريش، قبيلة النبي، وبالتالي فإن الوراثة في جانبهم2. إذن لا انقسام للسلطة، بل وحدة الأمة، وتفوق قريش، وأولوية المهاجرين، ومواصلة العمل النبوي. وحتى انتهاء أبي بكر من إلقاء كلمته التي وجهها إلى الأنصار، لم يكن المهاجرون قد استقروا على تحديد الشخص الذي سيتولى هذا الأمر، ويدل ذلك على أن اهتمامهم كان بالمبدأ، وليس بالأشخاص، على عكس الأنصار الذين كانت رؤيتهم واضحة، وقدموا مرشحهم سعد بن عبادة. بيعة أبي بكر: تطورت المواقف المتباينة التي عرضت في اجتماع السقيفة نحو التأزم، ولم تنفرج إلا بعد أن أيد بشير بن سعد الأنصاري أبو النعمان بن بشير، وهو من الخزرج، موقف المهاجرين3، ويبدو أنه استاء من تولية سعد بن عبادة، ويدل ذلك

_ 1 شنقارو، عواطف العربي: فتنة السلطة ص38. 2 جعيط: ص35. 3 ابن قتيبة: ج1 ص12، 13.

على أن الاعتراضات في اجتماع السقيفة نحت اتجاهًا قبليًا، فقد خشيت الأوس أن يتزعم خزرجي الأمة الإسلامية، وكذلك خشيت الخزرج من أن يترأس أوسي حكم المسلمين، وقد أنهت هذه المفارقة موقف الأنصار ودورهم، الأمر الذي أدى إلى مبايعة أبي بكر كأمر واقع، أو فلتة1 على حد قول عمر بن الخطاب. وتحرك أبو بكر في تلك اللحظة مستغلًا تحول الموقف لصالح المهاجرين، فلم ينح لأحد من المتكلمين التعليق على كلام بشير بن سعد، ورأى الفرصة سانحة لإقفال باب المناقشة، فدعا المجتمعين إلى مبايعة عمر بن الخطاب، أو أبي عبيدة بن الجراح، أمين هذه الأمة، ولكن عمر أبى إلا أن يتولاها أبو بكر، أفضل المهاجرين، وثاني اثنين إذ هما في الغار، وخليفة رسول الله على الصلاة، فطلب منه أن يبسط يده ليبايعه، فسبقه بشير بن سعد، وأسيد بن حضير، ثم أقبل الأوس والخزرج على مبايعته، ووثب بعد ذلك أهل السقيفة يبتدرون البيعة، وكأنهم كانوا يترقبون أن يأخذ أحدهم زمام المبادرة، ولم يبق أحد لم يبايع سوى سعد بن عبادة، وما منعه من ذلك سوى حراجة وضعه كزعيم رشحته الخزرج، وصحة جسمه حيث كان عليلًا، وفي اليوم التالي لهذه البيعة الخاصة، بويع أبو بكر البيعة العامة في المسجد2. وهكذا تولى المهاجرون السلطة الفعلية في الوقت الذي ابتعد الأنصار عنها كثيرًا دون أن يكون للتسوية التي طرحها أبو بكر في اجتماع السقيفة: "نحن الأمراء وأنتم الوزراء"، أي نصيب من التنفيذ، باستثناء مشاركة تمت لهم في عهد عمر بن الخطاب الذي قرب جماعة منهم على حساب قريش، ومشاركة أكثر فعالية في عهد علي بن أبي طالب الذي اعتمد عليهم في إدراته وحروبه. جرت هذه الوقائع في الوقت الذي كان فيه علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، ونفر من بني هاشم، وطلحة بن عبيد الله، مشغولين بجهاز النبي، ودفنه، فغابوا عن اجتماع السقيفة، وعليه، لم يكن لعلي رأي مباشر في النقاش إلا أنه بايع أبا بكر، واتفق مع جماعة المسلمين بغض النظر عن المدة التي قضاها بدون بيعة3. وربما يكون من المفيد استعراض الكيفية التي حدثت بها مبايعة أبي بكر من قبل القرشيين، فقد ذكر ابن قتيبة: "وإن بني هاشم اجتمعت عند بيعة الأنصار، إلى علي بن أبي طالب، ومعهم الزبير بن العوام رضي الله عنه، وكانت أمه صفية بنت عبد

_ 1 فلتة: بغتة وفجأة. 2 الطبري: ج3 ص221، 222. 3 البلاذري: ج2 ص262، 263.

المطلب، وإنما كان يعد نفسه من بني هاشم، واجتمعت بنو أمية إلى عثمان، واجتمعت بنو زهرة إلى سعد وعبد الرحمن بن عوف، فكانوا في المسجد الشريف مجتمعين، فلما أقبل عليهم أبو بكر وأبو عبيدة، وقد بايع الناس أبا بكر قال لهم عمر: "ما لي أراكم مجتمعين حلقًا شتى، قوموا فبايعوا أبا بكر فقد بايعته الأنصار، فقام عثمان بن عفان، ومن معه من بني أمية فبايعوه، وقام سعد وعبد الرحمن بن عوف، ومن معهما من بني زهرة فبايعوا"1. كما غابت عن المنافسة المباشرة في اجتماع السقيفة الفئة "الأرستقراطية"، بزعامة أبي سفيان بن حرب، إلا أنه تبنى المرشح الأوفر حظًا بهدف استمرارية مصالحه على الرغم من أنه حرض عليًا، ودعاه إلى البيعة لنفسه، فزجره علي، غير أن خالد بن سعيد بن العاص، وهو أحد أشراف مكة ووجهًا من وجوه بني أمية، وكان النبي قد أرسله عاملًا على صدقات مذحج، كان له موقف متميز، فبعد أن قدم إلى المدينة، وكانت البيعة قد تمت، توجه إلى علي وعثمان، وخاطبهما قائلًا: "إنما الشعار دون الدثار، أرضيتم يا بني عبد مناف أن يلي أمركم عليكم غيركم؟ فقال علي: "أوغلبة تراها؟ إنما هو أمر الله يضعه حيث يشاء، قال: فلم يحتملها عليه أبو بكر واضطغنها عمر"، وبقي هذا الصحابي ممتنعًا عن بيعة أبي بكر مدة ستة أشهر2. التعقيب على اجتماع السقيفة: - يعد اجتماع السقيفة بمثابة مؤتمر سياسي، عالج فيه المسلمون مشكلة لم يكن لهم بمثلها عهد من قبل، ودارت فيه المناقشات وفق الأساليب الحديثة. - إن حدة الحوار في اجتماع السقيفة، وقسوة العبارات المتبادلة أحيانًا، وروعة العبارات البليغة أحيانًا أخرى، تجعلنا نقف في هذا الاجتماع على حقيقتين: الأولى: التعرف على الدوافع التي تحرك المتحاورين وتوجههم. الثانية: حجم الحرية الذي أوصل الحوار إلى هذا المستوى الراقي3. -لقد تمت بيعة أبي بكر وفقًا للعادات المتعارف عليها في تصنيف، وانتخاب الزعامات القبلية، لكن ضمن إطار الدين4؛ لأن المسلمين افتقدوا في ذلك الوقت، وتلك المرحلة من تطور أوضاعهم السياسية والاجتماعية، إلى أسس تحدد كيفةد

_ 1 الإمامة والسياسة: ج1 ص17. 2 الطبري: ج3 ص388. 3 عبد المجيد، أحمد فؤاد عبد الجواد: البيعة عند مفكري أهل السنة ص38. 4 الدوري، عبد العزيز: مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي ص15، 16.

انتخاب خليفة، ويؤكد الاختلاف القوي بين الصحابة في بداية الاجتماع على أن ما حدث لم يتحقق عن طريق الشورى كما روت المصادر، إذ المعروف أن الشورى في عهد النبي هي التي كانت تتم في المسجد، حيث يجتمع المسلمون بالنبي، ويتناقشون في أمور دينهم، ودنياهم دون تمييز، ويأخذ برأيهم ومشورتهم، وبالتالي كان يسمح بإعطاء الرأي لأكبر عدد منهم، اهتداء بما دعا إليه القرآن الكريم، كمبدأ عام ونهج كلي، وترك التفصيل فيه والتحديد له لاجتهاد الأمة وفق مصالحها المتجدة، وحاجتها المتطورة1. - إن غيبة النبي وما نجم عنها من فراغ معنوي، خلقت توافقًا تامًا في المحتوى، والشكل في سلوك الجماعات الإسلامية المختلفة، وما كان للرابط الديني أن يطغى في هذه المرحلة، على المعايير الاجتماعية السائدة، وأخلاقياتها، وسلوكها، القائلة على القبلية، لهذا كان السجال في اجتماع السقيفة أقرب إلى السجال القبلي بين القبائل المسلمة2. - لم يكن أحد أكثر تعبيرًا عن الواقع القبلي كما كان أبو بكر حين خاطب الأنصار، فبدأ الانقسام بين تجمعين، أو وحدتين قبليتين "أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش، هو أوسط العرب نسبًا ودارًا"3، ثم إن الاعتراضات التي ظهرت من كلا الفريقين لم تكن شخصية، أو دينية بقدر ما كانت ذات طابع قبلي. - احتوت الخلافة في طورها الأول، على الأقل، على مبدأين: الأول: الفضل والمنزلة في الإسلام. الثاني: النسب والشرف. ولم يكن النقاش الذي دار بين المهاجرين، والأنصار سوى انعكاس لهذين المبدأين. - اقتنع الأنصار بما قاله أبو بكر من أن العرب لن تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، وأن المهاجرين سوف لا يستبدون بالأمر، وسيشاورونهم في الشئون العامة، ولا يتفردون باتخاذ القرارات مكتفين بالعيش إلى جانبهم، وفي كنفهم، مطمئنين إلى وصية النبي في مرضه الأخير.

_ 1 شنقارو: ص40، 41. 2 إبراهيم: ص120. 3 البلاذري: ج2 ص262، 263.

- بغض النظر عن المناقشات التي دارت حول هذا الموضوع الحساس، عبر فريق الأنصار عن أول اتجاه سياسي في الإسلام بعد وفاة النبي، إلا أنه كان أوهى الاتجاهات، وأقلها خطورة، وبخاصة أنه اصطدم بوحدة غير منتظرة من جانب قريش مما أعاق حركته منذ بدايتها، كما أنه لم يكن بقادر على أن يقنع فريق المهاجرين بوجهه نظره في خلافة النبي، وبالتالي أن يكون سيد الموقف، والواقع أنه افتقر إلى الانسجام وإلى الزعامة، وكلتاهما من ركائز الطموح إلى السلطة، ومن شروطها المبدأية1، فمن حيث فقدان الانسجام، لم يكن الأنصار يشكلون جبهة موحدة، وإن مثلوا جبهة مشتركة لم تتأخر في التصدع أمام مقاومة المهاجرين، ولم يتفقوا على المرشح سعد بن عبادة، كان هناك الأوس من جهة والخزرج من جهة أخرى، وكان يفصل بينهما في الماضي نزاعات قبلية، فوحدهم الإسلام داخل قضية مشتركة، فقد ترددت قبيلة الأوس في منحه التأييد لكونه خزرجيًا، إذ عز عليهم أن يتفرد على زعامة المسلمين بعامة، والأنصار بخاصة، بدليل قول أسيد بن حضير، سيد الأوس، لعشيرته: "لا والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة، ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيبًا أبدًا"2، كما ساد التنافس الداخلي بين الخزرج، إذ عندما ساند بشير بن سعد الخزرجي موقف المهاجرين، وطلب من الأنصار ألا ينازعوهم في هذا الأمر؛ لأن النبي من قريش، وقومه أحق به وأولى، ثم قام فبايع أبا بكر؛ قال له الحباب بن المنذر: "أنفست الإمارة على ابن عمك؟ "3. ومن حيث الافتقار إلى الزعامة السياسية، فقد كان سعد بن عبادة مريضًا، ولم يكن بحجم المنصب الكبير، أما الأوس فقد تراجعت قوتهم السياسية بعد وفاة زعيمهم سعد بن معاذ، فالزعامة السياسية إذن كانت غائبة عن تكتل الأنصار الذي طالب بالسلطة4، غير أن هؤلاء قدموا الخدمة بتفجيرهم المشكلة لفريق المهاجرين المعتدل الذي قاده أبو بكر، وعمر وأبو عبيدة، حيث كان الأقدر على التحرك بما يملكه من خلفيات نضالية، فضلًا عن التقدير لزعامته5، كما لم يثيروا غضب التيار المتشدد الذي التف حول علي، ولا تيار المحافظين بزعامة أبي سفيان بن حرب صاحب النفوذ القوي قبل الإسلام.

_ 1 بيضون، إبراهيم: ملامح التيارات السياسية في القرن الأول الهجري، ص13. 2 الطبري: ج3 ص221. 3 المصدر نفسه. 4 بيضون: ص13، 14. 5 المرجع نفسه: ص14.

- أدى عمر دورًا بارزًا في إيصال أبي بكر إلى منصب الخلافة من واقع قوة شخصيته، ونتيجة لتفكيره السياسي المستنير الذي جعله أحد مستشاري النبي الأكثر حظوة وإصغاء، لقد أدرك أن الأمر قد يتطور إلى نزاع مسلح حيث اعتقدت كل فئة بأحقيتها بهذا الأمر، فكانت السرعة في التحرك، وفي الاختيار، وفي الأسباب التي أدت إلى نجاحه في اختيار أبي بكر، ولئن كان صحيحًا أن هذا الأخير قد فرض نفسه بنفسه من واقع شخصيته الهادئة، والمعتدلة والمقبولة من الجمع بالإضافة إلى حب النبي له، وقربه منه، وأسبقيته في الإسلام، فمن الصحيح أيضًا أن عمر قد ساعده كثيرًا، حيث قام بالحركة الأولى للاعتراف به، وشكل معه ثنائيًا لا يقبل الانفكاك، كما ارتبطا مع الأنصار برباط المصاهرة، ويبدو أن انتماءهما لعشائر قرشية صغيرة، طمأن الأنصار إلى كونهما لا يحكمان بالاعتماد، أكثر، على عشائر قريش القوية، وأن سياستهما ستكون إسلامية قائمة على السابقة في الإيمان والعقيدة، أكثر مما تقوم على روابط الدم1. - إن ما أوردته روايات المصادر في أن الإمامة في قريش، تستند إلى رواية أبي بكر حين قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الأئمة من قريش"، فهي مقولة استغلتها جميع الفرق الإسلامية وفسرت بها الإمامة، كل حسب رؤيتها ومصالحها، ولو سلمنا جدلًا أن النبي قد قالها، فإننا نرى أنه قصد إمامة الصلاة، والنظر في الشئون الدينية، ولم يقصد الجانب السياسي، فكلمة الإمامة لم تكن معروفة بالمفهوم السياسي إلا بعد ظهور الشيعة، والغلاة ثم الخوارج، وتحديدًا في عهد عثمان بن عفان حيث أصبح الإمام في نظرهم هو من يتولى الشئون السياسية والدينية، وخصوا بها شيعة علي، وأولاده من بعده، أما في عهد النبي فكانت الإمامة تعني الصلاة بدليل أن النبي طلب من أبي بكر أثناء مرضه أن يؤم المسلمين في الصلاة، ولهذا السبب أخذها المسلمون عن طريق القياس، في حين نجد أن النبي يستعمل لفظ أمير للقائد الذي يقود السرايا التي كان يرسلها في مهمات عسكرية، وهي ذات دلالة سياسية أكثر؛ لأنها تعني الزعامة، وبالتالي لو أن النبي كان يقصد الزعامة، لقال لهم مثلًا: "الأمراء من قريش"، ولكنه قال: "الأئمة"2.

_ 1 جعيط: ص36، 37. 2 شنقارو: ص41، 42.

- الواقع أن اختيار أبي بكر كان صائبًا، وملائمًا لمتطلبات المرحلة بفعل ما تمتع به من خصال حميدة، وقبول واسع في أوساط المهاجرين، والأنصار الذين وجدوا فيه الرجل القادر على جمع الصفوف، وتوفير حد مقبول من الاتفاق والإجماع، كما كان ذا شرف، وهيبة في عيون القبائل. -ارتبط مصير المسلمين بعامة ارتباطًا وثيقًا بمسألة الخلافة، وبالتالي بمسألة تسوية الأوضاع الداخلية للمسلمين، لذلك كان الانتهاء من هذه القضية الشرط اللازم، والضروري لعملية البدء بإعادة ترميم التصدعات الكبرى في الكيان السياسي الإسلامي، وارتبطت هذه بوحدة قريش التي مثلت السند القوي لأبي بكر تجاه القبائل. - حددت الظروف الموضوعية التي تمت فيها مبايعة أبي بكر، الإطار العام للسياسة التي وجب عليه اتباعها، وهي المحافظة على ما حققه النبي من إنجازات فعمد، بعد مبايعته، إلى التعريف بسياسته في منصبه الجديد، وشرح مهمات الخلافة، وعلاقتها بعامة المسلمين، وذلك في الخطبة التي ألقاها في المسجد حيث قال: أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه، والقوي ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، إن شاء الله تعالى، لا يدع أحد منكم الجهاد، فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله"1. إن قراءة متأنية لهذه الخطبة نلاحظ أنها تضمنت النقاط التالية: - خليفة المسلمين هو واحد منهم وليس بخيرهم، له ما لهم وعليه ما عليهم. - لا يجوز أن تتعدى صلاحيات الخليفة صلاحات المخلوف، وطاعة المسلمين له مقرونة ومرهونة بذلك، فعلى الخليفة أن يقود الأمة كما كان النبي قد قادها من قبله. - إصلاح الخليفة إذا شذ عن النهج النبوي، ورقابته واجب على المسلمين2. وقد بقي أبو بكر مخلصًا لهذه التصورات السياسية محافظًا عليها طوال حياته.

_ 1 سيرة ابن هشام: ج4 ص262. 2 إبراهيم: ص125، 125.

النتائج السياسية لاجتماع السقيفة: كان لاجتماع السقيفة أثر كبير في الحياة السياسية للدولة الإسلامية في العصر الراشدي، فقد: - مثلت مسألة الإمارة، واختيار خليفة للنبي قادر على لم شمل المسلمين، البعد الداخلي لهذه الأزمة التي عصفت بالمسلمين بعد وفاة النبي. - أقر مبدأ الشورى كما جاء في القرآن الكريم، على الرغم من أن عملية انتخاب أبي بكر كانت أقرب إلى الواقع السياسي منها إلى إجراء انتخابي، لكن سرعان ما خرجت البيعة عن إطار الشورى إلى إطار التعيين "خلافة عمر بن الخطاب"، أو إلى ما يشبه التعيين "خلافة عثمان بن عفان"، ثم إلى إطار الاختيار كأمر واقع من قبل بعض المسلمين في ظل ظروف قاهرة "خلافة علي بن أبي طالب"، وستتطور في عهد دولة الخلافة الأموية، وما يليه من عهود أخرى باتجاه التعيين، وفقًا لتطور الظروف السياسية التي يمر بها كل عهد. - انبثق نظام الخلافة في الدولة الإسلامية، ويقوم هذا النظام على مبدأ الانتخاب المباشر لاختيار أصلح الموجودين من كبار رجال الصحابة في العصر الراشدي على الأقل، وأصبحت البيعة شرطًا من شروطه. - ترتب على مبدأ الانتخاب مبدأ آخر هو البيعة، وكانت على ضربين: خاصة وعامة، فالبيعة الخاصة جرت في اجتماع السقيفة، ولم ير فيها المسلمون البيعة المشروعة، فعقدوا في الغداة اجتماعًا آخر في المسجد الجامع حيث بايع عامة المسلمين أبا بكر خليفة. كانت البيعة تتم في أول الأمر بالمصافحة، أو بضرب كف المبايع على كف الخليفة، ثم تطورت في العصور اللاحقة لعصر الراشدين، واتخذت عدة طرق منها: تقبيل طرف رداء الأمير، أو تقبيل الأرض بين يديه، وهذه محاكاة لما كان يجري في بلاد الفرس1. - استنت البيعة الخطبة التي يلقيها الخليفة، ويعلن فيها برنامجه في الحكم، واستمرت هذه الخطبة بمفهومها حتى يومنا هذا، وأصبحت تعرف بخطاب العرش، أو البيان الوزاري، والجدير بالذكر أن هذا المبدأ لم يكن من ابتكار أبي بكر، ولكنه كان معروفًا في فارس وبيزنطية، فاستحسنها العرب بعد أن بدأ بها أبو بكر، وساروا عليها2. - استقر الوضع السياسي على أربع فئات هي:

_ 1 مقدمة ابن خلدون: ص174، 175. 2 الشامي، أحمد: الخلفاء الراشدون ص30- 32.

1- الفئة "الأرستقراطية" بزعامة أبي سفيان بن حرب، التي تراجعت عن الواجهة السياسية بفعل بروز النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنها استطاعت أن تستعيد مركزها بعد ذلك بفعل تسربها إلى مواقع السلطة من خلال تأييدها ودعمها للخليفة. 2- فئة التيار الهاشمي: بزعامة علي بن أبي طالب، وقد انضم إليه بعض كبار الصحابة من عامة المسلمين بعد أن تحسنت أوضاعهم الاجتماعية بفعل الدين الجديد، أمثال سلمان الفارسي، وعمار بن ياسر وأبي ذر الغفاري، ولا يخفى ما لهذا التيار من أثر معنوي كبير في مسار الأحداث السياسية، وقد حاولت الفئة "الأرستقراطية"، إثارة أعضائه ضد الخليفة للوصول إلى أهدافها، وكان باستطاعة أفراده السيطرة على الحكم إلا أنهم آثروا المصلحة العامة، ودخلوا في ما دخل فيه الناس من البيعة لأبي بكر. 3- تألفت الفئة الثالثة من شخصيات قيادية معتدلة أمثال أبي بكر، وعمر، وأبي عبيدة، وقد ساهم أفرادها في النضال الإسلامي أثناء حياة النبي، ولا سيما أبي بكر، وكان عمر أنشط أعضاء هذه الفئة، وإليه يعود الفضل في استرداد المبادرة من الأنصار، ومبايعة أبي بكر بالخلافة، وقد جمعت أعضاء هذه الفئة، وأعضاء الفئة الثانية، رؤية سياسية موحدة. 4- فئة الأنصار، وكان لها دور عابر اقتصر على إثارة المشكلة.

الأوضاع السياسية خارج المدينة

الأوضاع السياسية خارج المدينة: الحدثان البارزان في خلافة أبي بكر القصيرة1 هما الردة، وانطلاق الفتوح الإسلامية خارج نطاق الجزيرة العربية، وكان لكل منهما تأثيره الخاص على مستقبل الدعوة الإسلامية والعرب، وتطلق جميع روايات المصادر على التطورات التي حصلت على أطراف الجزيرة العربية عقب وفاة النبي، وما نجم عنها من انتفاضة القبائل؛ بحركة الردة أو بالارتداد عن الإسلام2، على أن هذا الموقف، لا يمكن المحافظة عليه بعد الأبحاث المستجدة في تاريخ صدر الإسلام. ذلك أن التطورات

_ 1 لم تزد مدة خلافة أبي بكر عن سنتين، وثلاثة أشهر، وعشرة أيام. 2 الطبري: ج3 ص225- 242، ورد في التنزيل: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} [المائدة: الآية 54] ارتد عنه: تحول، والاسم الردة، ومنه الردة عن الإسلام أي الرجوع عنه، وارتد فلان عن دينه أو كفر بعد إسلامه، ورد عليه الشيء إذا لم يقبله، وكذلك إذا أخطأه، ونقول: رده إلى منزله، ورد إليه جوابًا أي رجع، والردة بالكسر: مصدر قولك: رده برده، والردة الاسم من الارتداد. وفي حديث القيامة والحوض يقال: "إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم"، أي متخلفين عن بعض الواجبات"" انظر: ابن منظور، جمال الدين محمد: لسان العرب ج3 ص173.

خريطة مواطن القبائل في شبه الجزيرة العربية

التي حدثت بعد وفاة النبي كانت أكثر تباينًا في نوعها من أن ندخلها تحت حركة الردة، ولهذا لا يمكن الحديث بأي حال، عن ارتداد عام عن الإسلام، ولا بد من أن نبحث في كل حالة على حدة، ونتوغل في عمق كل قبيلة، بل في كل بطن من بطون القبائل الكبيرة. ويواجه المؤرخ صعوبة في استنباط أسبابها الدينية والسياسية، والاجتماعية والاقتصادية، نظرًا لقلة المادة التاريخية المتعلقة بظروفها وحيثياتها، مع أنها شكلت تحديًا كبيرًا لهيبة الدولة الإسلامية الناشئة، وأول اختبار للمجتمع الإسلامي الجديد، وأول شرخ يصيب هذا المجتمع الموحد في إطار الدين الإسلامي، كما كانت المواجهة الأولى للخليفة حين وضعت كفاءته أمام الامتحان الصعب، وعملت على إنهاء نفوذه على كثير من مناطق الجزيرة العربية، لذلك، فإن علينا البحث عن اللمحات، والإشارات المبعثرة في المصادر، ومحاولة جمعها وتصنيفها، وتنسيقها بما يسمح بتشكيل صورة قريبة نسبيًا من الحقيقة التاريخية، ويذكر أن الردة لم تنشأ صدفة، ولم تكن مفاجأة، وإنما لها مقدماتها وشروطها المرتبطة ارتباطًا عضويًا بتاريخ تنامي نفوذ المدينة، وما نجم عن ذلك من التحاق الكثير من القبائل بها. اتجهت سياسة النبي العامة نحو توحيد العرب تحت راية الدين الإسلامي في مؤسسة تتخطى النظام القبلي، واستطاع أن يؤسس جماعة دينية سياسية جسدت كيان دولة، فدخل العرب عامتهم في هذا الدين، وانضووا تحت لواء النبي، ودانوا له بالزعامتين الدينية، والسياسية بفعل أنه يصدر أحكامه عن وحي الله وأمره، بالإضافة إلى أنه كان مثاليًا في سلوكه، إذ سوى في المعاملة بين القبائل المختلفة، ولم يخضع لنزعات النفس البشرية، وميلها إلى إيثار الأهل والعشيرة، ويعد ذلك حدثًا دينيًا، وسياسيًا بالانضمام إلى دولة المدينة، واعتناق دينها، وهذه سمة توحيدية. وهكذا تم توحيد القبائل في الجزيرة العربية في دولة واحدة يرأسها النبي ومركزها المدينة، لكن هذه الوحدة كانت مفككة، فالاضطراب الذي لازم مواقف القبائل العربية، التي لم يترسخ الإسلام في قلوبها نظرًا لحداثته؛ وحد التيارات المختلفة في المدينة، فالتف الجميع حول الخليفة، أما خارج نطاق المدينة، وفي أرجاء واسعة من جزيرة العرب، فلم يكن يوجد سوى أشكال من التحالف السياسي مع المدينة، بالإضافة إلى ذلك فإن الدخول في الإسلام كان قرارًا سياسيًا استهدفت به زعامات القبائل المحافظة على كيانها، وتحاشي خطر المسلمين عليها.

لكن هذه الزعامات، ربطت بين شخص النبي وبين ما حققه للعرب بعامة من مكاسب دينية، واجتماعية، وسياسية غيرت تمامًا حياة العربي، والنظام القبلي الاجتماعي، فقد استبدل الإسلام، منذ بداياته، رابطة الدم برابطة الدين والعقيدة، والغزو والجهاد والعرف بالشريعة، والتمزق القبلي بوحدة الأمة1، وحد من النزاعات القبلية التقليدية من خلال رفع مبدأ الثأر بشكله القبلي، ونقل مسئولية ذلك إلى الجماعة الإسلامية، وشرع الجهاد في سبيل الله بدلًا من القتال من أجل الثأر، أو التسابق على الماء والكلأ، وأطاح فردية القبيلة لقاء فكرة الجماعية التي تستند عليها الأمة، وأرسى قواعد الدولة الإسلامية، وساوى بين المسلمين، ودعا إلى التكافل والتضامن، ونظم المجتمع العربي على نحو يتناسب، وطباع العرب2، ومع ذلك لم يتمكن من الإنجاز التام، والنهائي لمد نفوذ الدولة الإسلامية الناشئة على سائر أنحاء الجزيرة العربية، وبرهنت حركة الردة عن ضعف هذا الكيان السياسي في الأطراف خاصة، وهشاشة دخول القبائل في الإسلام، وأن تجذر العادات والتقاليد القبلية في النفوس كان أقوى من رابطة الدين. والحقيقة أن سياسة التوحيد لم تكن قد استكملت، ولم يتجذر الدين إلا بين سكان المدينة، ومكة والطائف، وبعض القبائل القاطنة بجوارهم، ولا تدع المصادر مجالًا للشك في الاتساع الشديد لحركة الردة سواء من الناحية القبلية، أو من الناحية الجغرافية، فلقد خرجت الأكثرية الساحقة للقبائل على حكم المدينة، ولم يبق مواليًا سوى نواة صغيرة جدًا تتألف من القبال التالية: قريش وحلفاؤها التقليديون الذين كانوا يعيشون بالقرب من مكة، الأوس والخزرج وحلفاؤهم التقليديون الذين كانوا يسكنون بالقرب من المدينة، ثقيف في الطائف، فقد ثبتت مزينة وغفار، وجهينة وبلى وأشجع وأسلم وخزاعة؛ على الإسلام، ويذكر بأن هذه القبائل تربطها بمكة، والمدينة مصالح مشتركة، وهي تدخل تقليديًا في تحالف معها، أما قبائل هوازن وبني عامر وسليم، فقد اتخذوا موقفًا متربصًا. أما سكان المناطق الأخرى في الجزيرة العربية، ولا سيما اليمن وعمان وحضرموت في الجنوب، فلم يكن الدين قد تجذر في نفوس سكانها، ولقد كان إسلامهم سطحيًا ومرحليًا، واستسلامًا للأمر الواقع خشية القتل والسبي، وليس

_ 1 الدوري: مقدمة في تاريخ صدر الإسلام ص37. 2 سالم، السيد عبد العزيز: تاريخ الدولة العربية ص434، 435.

اقتناعًا بالإسلام كعقيدة، ونظام ومنهج1، كما كان وليد ظروف سياسية خاصة أحدثها دخول قريش في الإسلام، ولم يؤد إلى خلق ترابط، ووثاق اجتماعي مادي فيما بينهم، كذلك، كان موقفهم من الإسلام ضعيفًا، إذ إن الإسلام لم ينتشر في هذه المناطق البعيدة عن مكة والمدينة، إلا بعد فتح مكة، وغزوة حنين والطائف، أي بعد العام الثامن للهجرة، وظل نشاط النبي قبل ذلك محصورًا في المنطقة المحيطة بالمدينتين المقدستين، ومعنى ذلك، أن كثيرًا من عرب الأطراف دخلوا في الإسلام، وفي قلوبهم مرض أو شيء من النفاق؛ لأنهم أسلموا مقتدين برؤسائهم الذين تقبلوا سلطة الحكومة الإسلامية في المدينة، وأطاعوا النبي، بعد أن حقق انتصارات كبرى على القوى المعادية له، ولدعوى الإسلام للمحافظة على كيانهم، وإبعاد خطر المسلمين عنه، ولا يدل إرسال الوفود القبلية إلى المدينة لتعلن إسلامها على أن القبائل فهمت، واستوعبت الإسلام وآمنت بتعاليمه، وحرصت على الدخول فيه، وبخاصة أن المدة الزمنية بين دخول هذه القبائل في الإسلام؛ ووفاة النبي، كانت قصيرة لا تتجاوز ثلاثة أعوام، بالمقارنة مع المدة التي استغرقها استقرار الدين الإسلامي في مكة والمدينة، البالغة عشرين عامًا، كما أن هذه القبائل الضاربة على الأطراف كانت تمر بمرحلة تحول سياسي لتتخلص من الضغط الفارسي الواقع عليها، وبخاصة في اليمن، بالإضافة إلى الصراعات الداخلية، بينها، على النفوذ. لذلك، تفاوت إيمان هذه القبائل بين القوة، والضعف بشكل عام، ولقد كان النبي يعي ذلك تمامًا، ونزلت بهذه الصدد الكثير من الآيات القرآنية التي توثق هذه الواقعة التاريخية، وهي تتهم الأعراب، وهم الأكثرية المطلقة للعرب آنذاك، بالضعف، والتخاذل والكفر، والنفاق: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 97، 98] . نفهم من هذا النص القرآني أن عددًا من القبائل كانت لا تخفي موقفها المتربص من الإسلام، وبالنبي على الرغم من دخولها في الدين الجديد، وولائها ومبايعتها للنبي. ولعل أكثر الآيات دلالة، وبيانًا على موقف القبائل من الإسلام تلك التي تقول:

_ 1 عاشور، سعيد عبد الفتاح: بحوث في تاريخ الإسلام وحضارته ص56.

{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 14] ، وقد نزلت هذه الآية في وقت أخذ الكثير من القبائل تسارع عبر وفودها للدخول في الإسلام1. وكان النبي قد شعر بما تنعم به هذه القبائل من حرية العيش، فتركها تعيش حياتها الخاصة مع الالتزام بالإسلام، لذلك لم تفقد شيئًا من حريتها السياسية، ولم يكن الحكم الإسلامي عليها يتجاوز العهود التي ارتبطت بها مع النبي التي لم تكن في نظرها سوى حلقًا، أو عقدًا مع شخص النبي نفسه لدوافع، وشروط معينة، فرضتها ظروف خاصة نشأت عن اتحاد قريش تحت رايته، وبوفاة الشخص المتعاقدة معه تنتهي آليًا صلاحية العقد إن لم يتم البت فيه مجددًا مع شخص آخر. تذكر الروايات التاريخية أن ممثلي أسد، وغطفان وطيء اجتمعوا، بعد وفاة النبي وأرسلوا وفدًا مفاوضًا عنهم إلى المدينة مطالبين بإعفائهم من الزكاة، استقبل أبو بكر الوفد استقبالًا حسنًا، لكنه رفض طلبهم بترك الزكاة رفضًا قاطعًا على الرغم من أنهم أكدوا عزمهم على الاستمرار في الدين والصلاة، ولما عادوا خائبين من المدينة ارتدوا، والتحقوا بالمتنبئ طليحة الأسدي2، وما يصح على هذه القبائل يصح أيضًا على الأكثرية الساحقة من القبائل مثل كندة، وقضاعة وهوازن وغيرهم، حيث أعلنوا ارتدادهم، وفضوا عقودهم مع النبي، واستقلوا بأنفسهم. ويبدو أن هذه القبائل التي ارتدت لم تكن تعلم ما يفرضه الدين الإسلامي عليها من واجبات، والتزامات وفروض ربما كانت غير طبيعة في نظرها، وكان معنى ذلك الخروج عما ألفت، وتغيير جذري في مجرى حياتها الدينية والاجتماعية، والحد من حريتها، وسرعان ما ضاقت ذرعًا بالواجبات التي فرضها الإسلام عليها، وبخاصة الزكاة، ورأت فيها انتقاصًا من حريتها الشخصية والجماعية، كما أوجدت نوعًا من الشعور بالإذلال لم تألفه هذه القبائل مما يتعارض مع كبرياء العربي، وأنفته على الرغم من الإسلام لم يعد الجزية أتاوة يدفعها المغلوب للمنتصر، فامتنعت عن دفع الزكاة لأبي بكر. هذه كانت، على ما يبدو، نظرة القبائل للأمور، هذه النظرة التي لا يمكن عزلها عن أحداث الردة، وهكذا يتضح لنا كيف أن أحداث الردة كانت بهذا المعنى جزءًا لا يتجزأ من التزكية السياسية للأمة الإسلامية نفسها، وكشفت هذه الحركة بوضوح عن

_ 1 انظر تفسير ابن كثير: ج4 ص218، 219. 2 الطبري: ج3 ص258.

الطابع التاريخي الملموس للكيان السياسي الذي أسسه النبي، ووطده عبر سنوات طويلة من الممارسة السياسية العملية. وأدى العامل الأجنبي دورًا آخر في تحريك البواعث التي أدت بدورها إلى انتفاضة العرب وردتهم، ذلك أن إرسال النبي الكتب إلى المملوك، والأمراء المجاورين، ومن بينهم عاهل الفرس وإمبراطور البيزنطيين "الروم"، يدعوهم فيها إلى الإسلام، ما جعل هؤلاء يعملون على إثارة الفتنة في بلاد ليس فيها من أسباب الوحدة غير الدين الجديد1. روى الطبري أنه "لما بويع أبو بكر رضي الله عنه، وجمع الأنصار في الأمر الذي افترقوا فيه قال: ليتم بعث أسامة، وقد ارتدت العرب إما عامة، وإما خاصة في كل قبيلة، ونجم النفاق، واشرأبت2 اليهود والنصارى، والمسلمون كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم، وقلتهم وكثرة عدوهم"3. ومن ثم فإن لنا أن نتصور، على الرغم من قلة المادة التاريخية، وانعدامها أحيانًا، حجم الدور اليهودي، والنصراني في حركة الردة والتنبؤ في حياة أبي بكر. ويذكر أن اليهود بخاصة يعملون خفية، ومن وراء حجاب، وقد أخفقت محاولاتهم لضرب الإسلام في عصر الرسالة، وكانت النتيجة التشتت، والتردي بعد أن طردهم النبي من المدينة، وأخضعهم في خيبر، فتربصوا بالإسلام والمسلمين. وكان لتنوع الحياة في الجزيرة العربية دور في اضطراب العرب، فحياة الحضر والبدو تتجاور مع ما بينها من تباين، مما يجعل الوحدة القومية أمرًا ليس سهلًا، ثم إن طبيعة حياة البدوي لا تخضع لحاكم على النحو الذي يفهمه الحضري. فالبدوي لا يقابض باستقلاله الفردي شيئًا، كما ترى القبيلة في البادية أن حياتها تكمن في استقلالها، فتقاوم كل ما من شأنه الانتقاص، أو الحد منها. وعندما انتشر الدين الإسلامي بين العرب، وهو يدعو إلى التوحيد، خشي هؤلاء من أن تمتد وحدة الإيمان بالله إلى وحدة سياسية تقضي على استقلال أهل البادية4. وبرزت العصبية القبلية بعد وفاة النبي بأوضح معانيها عند بعض القبائل، وقد اتخذت موقفًا سياسيًا معاديًا من قريش، بشكل خاص، التي تزعمت بنظرها جماعة المسلمين، ذلك أن هذه القبائل لم ترض من قبل بتفوق قريش، وزعامتها عليها،

_ 1 هيكل، محمد حسين: الصديق أبو بكر ص99، 100. 2 اشرأبت: ارتفعت وعلت. 3 تاريخ الرسل والملوك: ج3 ص225. 4 هيكل: ص99.

وعدت استمرار هذه الزعامة بعد وفاة النبي كنوع من الوراثة التي لم يألفها العرب، لذلك لم تأخذ بيعة أبي بكر طابعها الإجماعي في أوساط القبائل، فكان لبعضها موقف لا ينسجم تمامًا مع الأسلوب الذي تم بموجبه اختياره كخليفة دون أن يكون لها رأي في هذا الاختيار. ويرتبط بالعصبية، وما يتولد عنها من تنافس وتحاسد بين القبائل، ما نلاحظه من تسابق في إدعاء النبوة، فظهر المتنبئون في أنحاء مختلفة من الجزيرة العربية، وكانت هذه الظاهرة أحد الأصداء التي أحدثها نجاح النبي عقب فتح مكة، وتوسيع نفوذ الحكومة الإسلامية عبر توحيد مكة والمدينة. وقد أتى الخطر الأكبر من شخصيتين ادعتا النبوة في حياة النبي: الأولى: هي المتنبئ عبهلة1 بن كعب، ذو الخمار، المعروف بالأسود العنسي الذي نشر دعوته في اليمن. والثانية: هي المتنبئ مسيلمة بن حبيب، المعروف بمسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة في بني حنيفة في اليمامة. ويوضح الاستعراض الذي سنتعرض له في الفصل التالي للحوادث المرتبطة بظهور هاتين الشخصيتين في المركزين الخطيرين المنافسين للمدينة، كيف أنه التقت في هذه الأحداث حركتان مختلفتان. الحركة الأولى: هي حركة تأسيس تحالفات قبلية على غرر التحالف الإسلامي، وتقليده في الشكل من خلال ظهور المتنبئين. الحركة الثانية: هي حركة الردة الفعلية، أي نكث القبائل لعهودها التي عقدوها مع النبي في المدينة، وادعائهم بأن هذه العقود قد انتهت بوفاته، فامتنعوا عن دفع الزكاة. وشاءت طبيعة الأحداث أن تندمج هاتان الحركتان، فكندة مثلًا التي ارتدت فعلًا بعد وفاة النبي التحقت بمركز الأسود العنسي بعد أن انفصلت عن مركز المدينة، والمعروف أن المصادر تدمج هذه الاتجاهات المختلفة في إطار واحد غير مميز، وتسميه الردة مع العلم بأن مسيلمة الكذاب مثلًا لم يعتنق الإسلام، ثم ارتد عنه وادعى النبوة حتى ننعته بالمرتد. من خلال هذه الرؤية، فإن لحركة الردة أكثر من خلفية لا تبدو بالضرورة متجانسة، ولكنها تضافرت مع بعضها، وأدت إلى تفجير الوضع، وهذا يعني أن الردة بمفهومها

_ 1 وفي رواية: عيهلة "بمثناة تحتية".

الفقهي لا تأخذ بعدها الشمولي لدى جميع القبائل؛ لأن بعضها كانت تحركه دوافع سياسية، أو اقتصادية لم تصب مطلقًا جوهر العقيدة1. وإذا تجاوزنا عدم التمييز الذي تعتمده المصادر، فإن حركة الردة بعامة تمثل الجانب الديني والسياسي، والاجتماعي والاقتصادي من ردود الفعل التي أحدثها فورًا موت النبي، وعليه يمكن تصنيف المرتدين، والمنتفضين على حكم المدينة إلى أربع فئات: الأولى: هي التي اعترضت على نتائج السقيفة مع احتفاظها بإيمانها، وصلتها بالعقيدة الإسلامية، غير أنها وعت بعد استتباب الأمر لأبي بكر، ولم ترتد عن الإسلام. الثانية: هي التي ارتدت عن الإسلام، ووضع زعماؤها التيجان على رؤوسهم2. الثالثة: هي التي رفضت دفع الزكاة إلى أبي بكر بوصفها نوعًا من التبعية، والتقييد لحرية، واستقلال هذه القبائل. الرابعة: هي التي تبعت المتنبئين حتى اعتقد بعض الزعماء القبليين أن ادعاء النبوة وسيلة للوصول إلى الحكم، مدفوعين بعامل العصبية القبلية. انتشرت حركة الردة جغرافيًا مع معظم أنحاء الجزيرة العربية، وامتدت من البحرين، وعمان على طول ساحل الخليج العربي، ومن الشرق إلى الجنوب الشرقي، ومن هناك إلى حضرموت3، واليمن في الجنوب، ثم من هناك إلى اليمامة4، أي أن هذه الحركة شكلت شبه نصف دائرة أحاطت بالقسم الأكبر من الجزيرة العربية.

_ 1 بيضون: ص25، 26. 2 كان النعمان بن المنذر بن ساوى التميمي في البحرين قد وضع التاج على رأسه، وكذلك فعل لقيط بن مالك ذو التاج بعمان، انظر اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب: تاريخ اليعقوبي ج2 ص13- 17. 3 حضرموت: ناحية واسعة في شرقي عدن بقرب البحر، الحموي: ج2 ص270. 4 اليمامة: معدودة من نجد وقاعدتها حجر، كانت في الماضي منازل طسم وجديس، المصدر نفسه: ج5 ص442.

الفصل الثاني: تفشي ظاهرة التنبؤ في المجتمع العربي

الفصل الثاني: تفشي ظاهرة التنبؤ في المجتمع العربي تمهيد: لم يكد نبأ وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ينتشر في بلاد العرب حتى اشتعلت الفتنة في كل أنحاء الجزيرة العربية بأشكال مختلفة، ولأسباب متباينة، وبرزت ظاهرة التنبؤ كإحدى الانعكاسات للنجاح الإسلامي في الحجاز، وإن كان بعض المتنبئين قد أعلنوا دعوتهم في أواخر حياة النبي. فتنبأ الأسود العنسي في اليمن، ومسيلمة الكذاب في بني حنيفة في اليمامة، وطليحة في بني أسد، وسجاح التميمية، ولقيط في عمان، وكانت ثورة اليمن أعنف مظاهر الانتفاض على الدين الجديد في الجزيرة العربية في أواخر حياة النبي، لكن قبائل اليمامة وما جاور الخليج العربي، كانت تتهيأ للثورة على الدين الجديد، ومع أن النبي لم يغفل هذا التطور السلبي في أواخر حياته، إلا أن اهتمامه السياسي انحصر في الالتفات نحو الشمال من خلال تجهيزه حملة أسامة بن زيد، إذ أمره أن يتوجه إلى تخوم البلقاء1، والداروم من أرض فلسطين، واعتقد بأنه إذا استطاع تحقيق الانتصار هناك، فإن ذلك من شأنه تقوية موقفه داخل الجزيرة العربية، وبين قبائلها، وبخاصة أن الدعوة الإسلامية انتشرت آنذاك في مختلف أنحاء الجزيرة العربية من الشمال إلى الجنوب، ثم إن خروج أسامة إلى وجهته يعبر عن الإقلال من شأن هؤلاء الخارجين والمرتدين، وخطرهم، ولا شك بأن هذه السياسة تعطي المسلمين دفعًا معنويًا لمواجهة الخارجين، والمرتدين في اليمن واليمامة، وغيرهما من أنحاء الجزيرة العربية. كان المتنبئون آنذاك يتهيأون للجهر بدعواتهم آملين بأن تحل بالمسلمين نكبة ما، وأخذوا يبشرون بها، كل في ناحيته بهدوء وأناة، دون أن يطعن أحد منهم بصحة نبوة

_ 1 البلقاء: كورة من أعمال دمشق بين الشام ووادي القرى، قصبتها عمان. الحموي: ج1 ص489.

محمد، وإنما ساووا أنفسهم به، فهو نبي وهم أنبياء مثله بعثوا في أقوامهم، كما بعث هو في قومه، لكن أحدًا منهم لم يقدم خصائص لدعوته تضاهي خصائص الدعوة الإسلامية. وتستوقفنا في هذا المقام بعض الدوافع التي أدت إلى بروز هذه الظاهرة نذكر منها ما يلي: - إن المناطق التي انطلق منها المتنبئون، كانت أكثر مناطق الجزيرة العربية تحضرا وأضخمها ثروة، كما كانت مجاورة لأراضي الفرس، أو كان للفرس فيها نفوذ. - اعتمد المتنبئون على الناحية العصبية، وبخاصة ما كان بين اليمنية، والمضرية من عداوة راسخة الجذور، بالإضافة إلى التنافس بين ربيعة ومضر، وإذا تغلغلنا في صميم هذه الظاهرة نلمس شواهد واضحة على أثر العصبية القبلية. ويرتبط بالعصبية القبلية ما ينتج عنها من تحاسد، وتنافس بين القبائل العربية والتسابق في إدعاء النبوة، ذلك أن المظاهر الأساسية لحركة الردة لم تقتصر على رفض بعض أركان الإسلام، أو عدم الاعتراف بسلطة المدينة، وإنما جاءت مصحوبة بإدعاء بعض الأشخاص النبوة، إذ إن النجاح الذي حققه النبي في حياته، والمكانة التي وصلت إليها قريش في الجزيرة العربية، عند وفاته، غدت مثار حسد كافة القبائل العربية، ولم تلبث أن أضحت سيرة النبي مثلًا يحتذى لتحقيق نوع من الأهمية، والزعامة في مجتمع يمجد الأبطال. والواضح أن كثيرًا من الأفراد في المجتمع العربي كانوا طلاب زعامة ورئاسة، فأرادوا الاقتداء بالنبي لتحقيق تطلعاتهم، فحاولوا التشبه به في ما أوحي إليه من القرآن الكريم، فأتوا بعبارات مسجوعة مفككة المعاني، ركيكة المضمون، لا روح فيها، تتصف معانيها بالسذاجة، وسجعها بالتكلف. وتمادى المتنبئون حين امتدت أيديهم إلى التشريع، من ذلك أن مسيلمة الكذاب شرع لأصحابه أن من أصاب ولدًا واحدًا عقبًا لا يأتي امرأة إلى أن يموت ذلك الابن، فيطلب الولد حتى يصيب ابنًا ثم يمسك، فحرم بذلك النساء على من له ولد ذكر1، كما ادعوا بأن الوحي ينزل عليهم من السماء. والحقيقة أنه لم يكن عند هؤلاء شيء من أدب النبوة، وأن بعضهم كان لا يبالي أن يطلع الناس على قبيح، ولعل في علاقة مسيلمة الكذاب مع سجاح، والتي

_ 1 عاشور: ص71.

سنبحثها في موضعها ما، يثير الاشمئزاز، فضلًا عن خروجها على الآداب العامة. ومن مظاهر التشبه بالإسلام أن بعض المتنبئين عمد إلى اتخاذ بيت حرام ينافسون به البيت الحرام في مكة، من ذلك أن مسيلمة الكذاب ضرب حرمًا في اليمامة نهى الناس عنه، وأخذ الناس به، فكان محرمًا1. - تفجرت ظاهرة التنبؤ في بلاد وعلى أيدي أفراد عرفوا النصرانية، وسمعوا بها أو اشتهروا بالكهانة، لقد ساد الجزيرة العربية آنذاك باستثناء الحجاز، اضطراب ديني بفعل عدم استقرار العقيدة في النفوس، فالنصرانية واليهودية، والمجوسية والوثنية، تجاورت كلها في ظل نقاش جدلي في أي منها تحقق السعادة لأتباعها، مما مهد الطريق أمام المتنبئين للظهور، واستقطاب الناس بكلام منمق، وبمظاهر يتخذونها آيات صدقهم، واستطاعوا بهذه الوسيلة أن يحققوا نجاحًا مبدئيًا، ذلك أن النصرانية انتشرت في الجزيرة العربية قبل الإسلام عن طريق الأحباش في الجنوب، والأنباط في الشمال، وكان ملك اليمامة هوذة بن علي نصرانيًا أرسل إليه النبي سليط بن عمرو يدعوه إلى الإسلام2، ثم إن العرب شأنهم في ذلك شأن معظم الشعوب الوثنية عرفوا الكهانة، وبخاصة عرب الجنوب، حمير، مثل طريفة الخبر التي تنبأت بأخبار سد مأرب، وسطيح الغساني وغيرهما، فادعى بعض الكهان أن نفوسهم قد صفت، واطلعت على أسرار الطبيعة، وادعى آخرون أن الأرواح المنفردة، وهي الجن، تخبرهم بالأشياء قبل حصولها، وحصل تقارب بين النصرانية، والكهانة عند العرب في الجاهلية، هذا على الرغم من أن أدعياء النبوة اختلفوا على الطرفين في أتباعهم أسلوب التي في سيرته، وأقواله وأفعاله، فادعوا أنهم أنبياء، وأن الوحي ينزل عليهم، وشرعوا لأتباعهم، وطالبوا لأنفسهم بسيادة وزعامة عليهم3. - اعتمد المتنبئون على العامل الإقليمي، فقد استغل الأسود العنسي استياء اليمنيين من الفرس، ونفورهم من الحجازيين. - تشكل ظاهرة التنبؤ إحدى الانعكاسات التي أحدثها فتح مكة، وانتشار الإسلام في أجزاء واسعة في الجزيرة العربية، وتوسيع نفوذ الحكومة المركزية في المدينة، ذلك أن هذا التطور الإسلامي أثار عمليات مشابهة، متوازية ومتزامنة في أنحاء متفرقة، حيث بدأت تنشأ تحالفت قبلية واسعة يتزعمها أناس يدعون النبوة، اقتداء

_ 1 الطبري: ج3 ص283. 2 ابن الأثير: ج2 ص95. 3 عاشور: ص73.

بالنجاح الذي حققه النبي محمد، أدى فيها التطور الإسلامي دور الباعث والمحرك1. - شجعت ثورة الأسود العنسي قبائل اليمامة، وبني أسد على الاقتداء به إثر وفاة النبي محمد، فقد كان كل من مسيلمة، وطليحة يخشى قوة المسلمين المتنامية، ويرى أنه لا قبل له بمقاومتها، لذلك لم يعلن ثورته مبكرًا، ولما تجرأ الأسود العنسي على إعلان دعوته، ورفع راية العصيان، وحاز من النجاح ما أثار مخاوف المسلمين، اقتدت قبائل اليمامة به، وشجعها على ذلك أن النبي محمد توفي في ذلك الوقت2. عبهلة بن كعب: الأسود العنسي: إن إحدى المهمات الكبرى التي واجهت النبي محمد في السنتين الأخيرتين من حياته، كانت ضرورة محاربة المتنبئين الذين أخذوا بالظهور في أنحاء متفرقة من الجزيرة العربية؛ بحزم شديد وحكمة بالغة، وتذكر المصادر أن المتنبئ، الأول ظهر ودعا إلى نفسه، كان في قببيلة مذحج في اليمن في عام "10هـ/ 631م"، وهو ذو الخمار عيهلة بن كعب المعروف بالأسود العنسي من قبيلة عنس3. والواضح أن اليمن لم يكن موحدًا سياسيًا عند ظهور الإسلام، ولم تكن فيه سلطة عليا يتعامل معها النبي، تدلنا على ذلك كتبه التي كتبها إلى عدة أفراد وجماعات، ذكرتها المصادر، وتعدد الوفود التي قدمت إلى المدينة لإعلان اعتناق الإسلام4. وكان للفرس نفوذ واسع في حكم اليمن، وهم من بقايا التطورات الأخيرة التي مرت بها هذه البلاد، ولكنهم لم يشكلوا سلطة مركزية، وإنما تمركزوا في صنعاء5، وفي بعض مناطق اليمن ذات النشاط الاقتصادي كعدن6، وذمار7 بينما كان لسادات القبائل من حضر، وبدو سلطاتهم المحلية، وقد شاء بعضهم أن يظهر بمظهر الملوك المنفردين بالحكم والسلطان والجاه، فلقبوا أنفسهم بلقب ملك، وقد نعتت

_ 1 إبراهيم: ص105، 106. 2 هيكل: ص96، 97. 3 البلاذري، فتوح البلدان ص113، الطبري: ج3 ص147- 185، لقب بذي الخمار؛ لأنه كان يلقي خمارًا رقيقًا على وجهه، ويهمهم فيه. 4 الطبري: المصدر نفسه ص115- 125، 130- 146. 5 صنعاء: قصبة اليمن، وأحسن بلادها، الحموي: ج3 ص426. 6 عدن: مدينة مشهورة على ساحل بحر الهند من ناحية اليمن، الحموي: ج4 ص89. 7 ذمار: اسم قرية باليمن على مرحلتين من صنعاء، المصدر نفسه: ج3 ص7.

كتب التاريخ والسير سادات حمير في أيام النبي بملوك حمير1، ولم تكن العلاقات القبلية جيدة، وظهرت القبائل البدوية من خلال الأحداث كقوة مؤثرة، وكانت تضغط على اليمن من أطرافه. ومن أبرز الكتل التي شكلها الأعراب في اليمن هي الكتلة التي نشأت عن تحالف القبائل المنتسبة إلى مذحج مثل زبيد، والحارث بن كعب، وبني عبد الودان, خولان، واجتمعوا في مذاب بالجوف2. واحتفظ الجيل الجديد من الفرس، الذي ظهر في اليمن بنتيجة تزاوج الجنود الفرس باليمانيات، وهو الجيل الذي عرف بالأبناء؛ بنفوذ كبير في اليمن عامة، ويبدو أن التغييرات الإدارية المستجدة في الجزيرة العربية لم تصب كثيرًا الطبقة الإدراية، وعمادها الأبناء، فظلت في مواقعها كطبقة متفوقة، يستعين بها أهل اليمن. اصطدمت قوى التحالف بالسلطة الفارسية في مأرب3، والجوف ونجران4 حيث كانت معظم قبائل هذا التحالف تقيم على التخوم الشمالية الشرقية لليمن، كما تستوطنها قبائل همدان، وهي من المناطق الصحراوية الفقيرة إجمالًا بإنتاجها الاقتصادي، ولا تساعد على نشوء الاستقرار البشري، وبخاصة منطقة مذحج بين حضرموت ونجران، وللفرس فيها استثمارات في منطقة سبأ5، والرضراض حيث مناجم الذهب والفضة. واشتد تهديد هذه القوى للسيطرة الفارسية في عهد باذان العامل الفارسي، حيث كانت فارس تعاني من اضطراب الأوضاع الداخلية، وظهرت تكتلات معادية للفرس تمثلت في غارات قبائل تميم على طريق التجارة الشرقي في منطقة اليمامة6، يضاف إلى ذلك، أن قوة الأذواء، سادات القبائل الحميرين، تطورت وازداد نفوذهم. حدث ذلك، في الوقت الذي كان فيه سكان القرى اليمنية يعانون من كثرة الضرائب7، واستغلال طبقة المرابين الذين كانوا يشترون المحاصيل قبل نضجها

_ 1 الطبري: ج3 ص120. 2 الجوف: من أرض مراد في سبأ، كما أن الجوف أرض بعمان، الحموي: ج2 ص187، 188. 3 مأرب: بلاد الأزذ باليمن، المصدر نفسه: ج5 ص34. 4 نجران: في مخاليف اليمن من ناحية مكة، المصدر نفسه: ص266. 5 سبأ: أرض باليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام، الحموي: ج3 ص181. 6 الحديثي، نزار عبد اللطيف: أهل اليمن في صدر الإسلام ص71. 7 النويري، شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب: نهاية الأرب في فنون الأدب ج6 ص373.

بأسعار متدنية، فاستاءوا من هذا الوضع الاقتصادي السيئ، ومن المحتمل أن بعض القوى استغلت وضعهم هذا، ووجهتهم ضد السيطرة الفارسية. وتحرك الفرس في اليمن للحفاظ على مكتسباتهم، فتحالفوا مع همدان التي كانت تمر بمرحلة تفكك، وقد جمعت الطرفين مصلحة مشتركة، ذلك أن الفرس أرادوا أن يعوضوا عن انقطاعهم عن الدولة الساسانية، وفي المقابل، أرادت همدان الاعتماد على قوة موالية لها لمواجهة قوة حمير المتزايدة، حيث إن توحيد همدان قد ينتزع من حمير ما كان معها من بطون همدان، بالإضافة إلى الأراضي التي خسرتها أمامها. اجتمع باذان مع عمرو بن الحارث بن الحصين الشاكري البكيلي، وعمرو بن يزيد بن الربيع الحاشدي، واتفقوا على عقد حلف موجه ضد القبائل المحتشدة في مذاب بالجوف، والتي كانت تسعى لاستقطاب أطراف أخرى إلى جانبها. ومع أن نتيجة الاصطدام غير معروفة، إلا أن حالة التوتر قد استمرت بين همدان ومذحج، وانضمت مراد إلى هذه الأخيرة، وكانت بقيادة قيس بن هبيرة الذي يعرف أحيانًا بقيس بن عبد يغوت، وأحيانًا بقيس بن المكشوح1، ويعد هذا التوسع دليل نضج في تطور الأوضاع السياسية، وتعزيز موقف المعارضة اليمنية ضد الوجود الفارسي. وطرأ في هذه الأثناء، تطور آخر على أوضاع اليمن، تمثل بامتداد الدولة الإسلامية باتجاه الجنوب بعد فتح مكة في عام "8هـ/ 630م"، فجاورت اليمن، وبدأ عمال النبي محمد يصلون إلى اليمن، يبشرون بالدين الجديد، كما أن وفودًا من أهل اليمن بدأت تتوجه نحو المدينة، لتعلن دخولها في الإسلام لتعود، ومعها عمال النبي2. كان لهذا التطور تأثيره على أوضاع اليمن السياسية والدينية، ذلك أن باذان اعتنق الإسلام بعد حادثة مقتل الإمبراطور الفارسي كسرى الثاني أبروبز على يد ابنه قباذ الثاني شيرويه، وتسلم هذا الأخير الحكم، وبخاصة أنه علم بهذه الأحداث، عن طريق النبي محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن تصل إليه من فارس، فاتجه إلى الاستفادة من الطرف الإسلامي في مقاومة قوى التحالف، واستمر في منصبه كعامل للنبي على اليمن بعد أن كان عامل الفرس عليها3.

_ 1 البلاذري: ص114، الطبري: ج3 ص185-230. 2 الطبري: المصدر نفسه ص147. 3 الطبري: ج2 ص655، 656، ج3 ص227.

ولما مات باذان عين النبي ابنه شهر واليًا على صنعاء وما والاها، كما عين ولاة من أهل اليمن، وآخرين من أصحابه على الأقاليم المختلفة، فكان عمرو بن حزم على نجران، وخالد بن سعيد بن العاص على ما بين نجران ورفع وزبيد1، وعامر بن شهر على همدان، وطاهر بن أبي هالة على عك والأشعريين، وأبو موسى الأشعري على مأرب، ويعلى بن أمية على الجند2، ومعاذ بن جبل معلمًا يتنقل في عمالة كل عامل باليمن، واستقر في الجند، كما عهد إليه بمهمة القضاء، وقبض جميع الصدقات. ويبدو أن الوجود الإسلامي، وجمع الزكاة، واجها معارضة من قبل بعض زعماء القبائل، وأشارات الروايات إلى وجود تحرك معارض في منطقة حمير، وأن معاذًا قائلهم، وانتصر عليهم. وفي الوقت الذي كان فيه العمال المسلمون ينظمون شئون ولاياتهم، ويجمعون الصدقات، جاءتهم كتب الأسود العنسي ينذرهم فيها أن يردوا ما بأيديهم، فهو أولى به "أيها المتوردون علينا أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا، ووفروا ما جمعتم، فنحن أولى به، وأنتم ما أنتم عليه"3، وأعلن حركته الانفصالية، وكانت تلك أول ظاهرة لفتنته4، ومعنى هذا أن الحركات الانفصالية انطلقت من بلاد اليمن، وأن خروج الأسود العنسي يمثل الشرارة الأولى لتلك الحركات. تتضمن محتويات كتب الأسود العنسي اتجاهين: الأول: سياسي إقليمي "أيها المتوردون علينا"، فعد عمال النبي دخلاء على اليمن، مغتصبين لأرضهم، وكان معاذ بن جبل عامل النبي على اليمن قد نفذ سياسة تخدم السلطة المركزية التي كان النبي قد حدد قواعدها في المدينة، ويبدو أن هذه السياسة كانت تتعارض مع النزعات الاستقلالية التي تتحكم بأهل اليمن. الثاني: اقتصادي "أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا"، ذلك أن النبي حدد السياسة الاقتصادية الإسلامية العامة في اليمن من خلال المباحثات التي أجراها مع رسل ملوك حمير، إذ على المسلمين أن يؤتوا الزكاة، ويعطوا خمس الله من المغانم، وسهم نبيه وصفيه5، وما كتب على المؤمنين من الصدقة من العقار6 عشر ما سقت العين

_ 1 زبيد: مدينة مشهورة في اليمن، الحموي: ج3 ص131. 2 الطبري: ج3 ص228، 229، والجند من أرض السكاسك في اليمن بينها، وبين صنعاء ثمانية وخمسون فرسخًا، الحموي: ج2 ص169. 3 الطبري: المصدر نفسه ص229. 4 هيكل: ص82. 5 الصفي: نصيب الرئيس من الغنيمة. 6 العقار: الأرض التي تزرع.

وما سقت السماء، وكل ما سقي بالغرب1 نصف العشر، وفي الأربعين من الإبل ابنة لبون، وفي ثلاثين من الإبل ابن لبون ذكر، وفي كل خمس من الإبل شاة، وفي كل عشر من الإبل شاتان، وفي كل أربعين من البقر بقرة، وفي كلا ثلاثين من البقر تبيع، جذع أو جذعة، وفي كل أربعين من الغنم سائحة وحدها شاة، وأنها فريضة الله التي فرضها على المؤمنين في الصدقة2. ويبدو أن هذه السياسة الاقتصادية ضايقت بعض الفئات اليمنية، وبخاصة الأعراب الذين شعروا بعدم قدرتهم على تحملها، ولذلك تكتلوا وراء الأسود العنسي. كان الأسود العنسي كاهنًا، مشعوذًا، قوي الشخصية، يقيم في جنوب اليمن في كهف خبان من بلاد مذحج، بري الناس الأعاجيب بفنون من الحيل، ويستهوي الناس بعباراته، فتنبأ ولقب نفسه "رحمان اليمامة"3، وكان يزعم أن سحيقًا، وشقيقًا ملكين يأتيناه بالوحي، ولم ينكر نبوة محمد4. وحظيت حركته بتأييد واسع، وبخاصة أنها نحت اتجاهًا قوميًا بتصديها للنفوذ الفارسي، وللمسلمين الذين ليسوا من أصول يمنية، وذلك بعد انتشار الإسلام في ربوع اليمن، واستمدت قوتها من الحلف القديم بين مذحج، وبعض قبائل خولان والأزد، وانضم إليه بعض المقاتلين من حمير، وأيدته نجران. هاجم الأسود العنسي بعد أن وثق من قوته، مدينة نجران واستولى عليها، وطرد منها عمرو بن حزم عامل المسلمين عليها، وانضم أهل نجران إليه، ثم سار إلى صنعاء، واصطدم فيها بشهر بن باذان، وانتصر عليه وقتله واستولى على المدينة، وفر المسلمون منها، ومن بينهم معاذ بن جبل5. وأخذ الأسود العنسي يدعو إلى نفسه، بعد هذه الانتصارات، وسرعان ما قوي أمره، واشتد ساعده بمن التف حوله من الأتباع، وسيطر على منطقة واسعة تمتد من حضرموت جنوبًا حتى حدود الطائف بما فيها قبيلة عك في تهامة غربي الحجاز، ومن الشواطي اليمنية على البحر الأحمر غربًا، وحتى الخليج شرقًا، وكانت جميع المدن

_ 1 الغرب: الدلو. 2 الطبري: ج3 ص121، ورواه أبو داود في الزكاة. 3 البلاذري: فتوح البلدان ص113. 4 البلخي، أبو زيد أحمد بن سهل: كتاب البدء والتاريخ ج2 ص192. 5 الطبري: ج3 ص229، 230.

الكبري في هذه المنطقة كعدن، وصنعاء وغيرهما واقعة تحت حكمه، ثم أخذ بعين الولاة ليحكموا باسمه، ويسمى قادة فرقه العسكرية، فعين قيسًا بن هبيرة المرادي قائدًا لعسكره، وفيروز وداذويه الفارسيين وزيرين، وتزوج من امرأة شهر بن باذان1. كانت مذحج السند القبلي الأساسي الذي اعتمد عليه وانطلق منه، وبمساعدتها تمكن من إخضاع اليمن لسلطته، والتحق به عشرات البطون، والوحدات القبلية التي كانت قبل مدة وجيزة قد أرسلت وفودها إلى المدينة. ويبدو أن معارضي الوجود الإسلامي من مختلف القبائل أبدوا حركته، ورأوا فيه ممثلًا لمصالحهم، ومع ذلك فقد واجه معارضة تمثلت في الجماعات المسلمة من مذجح التي انسحبت مع فروة بن مسيك المرادي إلى الأحسية2، أما في منطقة حمير، فقد كان لجهود ذي الكلاع، وآل ذي لعوة الهمدانيين، دور في الاحتفاظ بالنفوذ الإسلامي، وقد وقفوا ضد عك بتهامة. ظل الأسود العنسي مدعيًا النبوية مدة ثلاثة أشهر، وفي رواية أربعة أشهر، ارتكب خلالها الحماقات، وفضح النساء وأنزل الرعب، والخوف في قلوب اليمنيين، وبخاصة الأبناء3. لم يركن النبي محمد إلى الهدوء، وهو يرى جهوده الرامية إلى نشر الإسلام في اليمن وتوحيد قبائله، تتعرض للنكسة، وكان يتجهز لغزو البيزنطيين لانتقام من هزيمة مؤتة، فواجه حركة الأسود العنسي بالحزم، ولم يشغله ما كان فيه من الوجع عن أمر الله, والدفاع عن دينه، فأرسل الرسل إلى اليمن يأمر اليمنيين بالقضاء على الأسود العنسي، ويستنهضهم للمواجهة الذاتية معه، ومعنى هذا أنه لم يرسل جيوشًا من المدينة للقضاء عليه، وإنما اعتمد على القوى المحلية. كما أرسل إلى عماله في تلك الجهات يحثهم على الاستعانة بالثابتين على الإسلام، والصمود أمام المنشقين، والقضاء على رءوس الفتنة، وكتب إلى زعماء اليمن أمثال ذي الكلاع الحميري، وذي عمرو، وذي ظليم، مع جرير بن عبد الله البجلي، وأرسل الأقرع بن عبد الله الحميري إلى ذي زود، وذي مران، فاستجاب هؤلاء لدعوته، وأعلنوا ثباتهم على

_ 1 الطبري: ج3 ص230، لم ترد إشارة إلى أن فيروز، وداذويه قد اعتنقا الإسلام في هذه المرحلة، كما ظل كثير من الأبناء على ديانتهم المجوسية، وأن استعانة عيهلة بهما حتمها واقع الظروف السياسية والإدارية. 2 الحموي: ج1 ص112، والأحسية موضع باليمن. 3 البلاذري: ص114، والطبري: ج3 ص239، 240.

الإسلام، كما كتب إلى أهل نجران، وإلى عربهم وساكني الأرض من غير العرب -الأبناء- فانضم جماعة منهم إلى دعوته، وأرسل الحارث بن عبد الله الجهني إلى اليمن بمهمة تتعلق بأحداثه1. لكن جهود هؤلاء لم تثمر في وضع حد لانتفاضة الأسود العنسي، ولا تعطي المصادر صورة واضحة عن جهودهم، ومحاولاتهم للقضاء عليه، وكان آخر من أرسله النبي هو وبر بن يحنس الأزذي، ومعه كتاب إلى المسلمين في اليمن يأمرهم فيه بالقيام على دينهم، والنهوض في الحرب، والقضاء على الأسود العنسي، إما غيلة أو مصادمة، وأن يستعينوا على ذلك بمن يرون عنده نجدة ودينًا2، واكتفى من أمر اليمن بهذا، ووجه معظم اهتمامه لتنظيم جيش أسامة، وإرساله إلى بلاد الشام. وسرعان ما ضايقت تحركات المسلمين الأسود العنسي فشعر بالهلاك، على أن الخطر الذي عصف به، وقضى عليه جاء من الداخل، فقد اتصل وبر بن يحنس، فور وصوله إلى اليمن، بالأبناء ليبلغهم طلب النبي محمد، ولم يتوجه إلى المسلمين من حمير وغيرها، علمًا بأن معظم هؤلاء الأبناء كانوا لا يزالون على المجوسية، ولم ترد إشارة إلى إسلامهم قبل هذا التاريخ، حتى إن الروايات التاريخية تذكر بأنه نزل عند داذويه، وكان من حاشية الأسود العنسي، يضاف إلى ذلك، لم يكن الأبناء مؤهلين لأن يؤدوا دورًا فاعلًا ضد الأسود العنسي. بعد أن فقدوا قوتهم عندما فشلوا في الدفاع عن صنعاء، ويحدد ابن سعد تاريخ إرسال وبر بن يحنس في عام "10هـ/ 630م"، أما الطبري فيذكر أنه أرسل في عام "11هـ/ 632م"3. والراجح أن هذا المنحى الذي انتهجه وبر بن يحنس للتخلص من الأسود العنسي مرده إلى عدة أسباب لعل أهمها: - أراد أن يحيك مؤامرة للتخلص منه بوساطة مستشاريه، وأعوانه المقربين منه. - استبعد الخيار العسكري بعد أن خشي نتيجة الصدام المسلح نظرًا لعدم توازن القوتين، إذ كان الأسود العنسي متفوقًا عسكريًا. - لقد حصل في ذلك الوقت نفور بين الأسود العنسي، ومستشاريه بفعل اعتداده بنفسه، واستخفافه بقيس بن هبيرة، وفيروز وداذويه، كما شك في ولائهم له، ورأى في سائر الفرس أنهم أعداؤه، ويأتمرون لقتله، فاستغر وبر بن يحنس هذا التطور للقضاء عليه.

_ 1 الطبري: ج3 ص187. 2 المصدر نفسه: ص231. 3 المصدر نفسه، طبقات ابن سعد: ج5 ص388.

ولأن الجيش كان أشد ما يحذر ويخاف، دعا الأسود العنسي قائد جيشه قيس بن هبيرة، وأخبره بأن شيطانه أوحى إليه، يقول: "عمدت إلى قيس فأكرمته حتى إذا دخل منك كل مدخل، وصار في العز مثلك، مال ميل عدوك, وحاول ملكك، وأضمر على الغدر"، وأجاب قيس: "كذب وذي الخمار، لأنت أعظم في نفسي، وأجل عندي من أن أحدث بك نفسي"، وأجال الأسود العنسي نظرة في قيس، وقال له: "ما أجفاك! أتكذب الملك، قد صدق الملك، وعرفت الآن أنك تائب مما اطلع عليه منك"1. وخرج قيس من عنده مرتابًا في ما يضمر له، واجتمع بفيروز وداذويه، وذكر لهما ما جرى بينه وبين الأسود العنسي، وسألهما رأيهما، فقالا: "نحن في حذر"، ويبدو أن الأسود العنسي علم بهذا الاجتماع، فأرسل إليهما يحذرهما مما يأتمران به، فخرجا من عنده، ولقيا قيسًا وهم جميعًا في ارتياب وخطر2. وعلم المسلمون في اليمن بما يجري في بلاد الأسود العنسي، كما وقفوا على فحوى رسالة النبي لهم، فأرسلوا إلى قيس وأصحابه يشجعونهم على التخلص من الأسود العنسي. واستطاع وبر بن يحنس أن يستقطب عددًا من زعماء الأبناء، أمثال فيروز وداذويه، وجشيش وغيرهم، وقرر الجميع اغتيال الأسود العنسي، فاستعانوا بامرأته أذاد التي كانت تحقد عليه؛ لأنه قتل زوجها شهر بن باذان من قبل، ثم تزوجها بعد ذلك3. وحانت فرصة التحرك لتنفيذ المؤامرة عندما أرسل الأسود العنسي قواته في مهمة عسكرية بين صنعاء ونجران، فدخل المتآمرون حجرة نومه بعد أن مهدت لهم آذاد الطريق، فقتله فيروز واحتز قيس رأسه، وألقاه في باحة القصر، وتنادى الناس في المدينة فخرجوا صباحًا، واضطرب الوضع ثم استقر على أن يتولى الأمر معاذ بن جبل4. ولا بد لنا من الإشارة أخيرًا إلى التاريخ الذي قتل فيه الأسود العنسي، فهل جرت حادثة القتل قبل وفاة النبي أما بعد وفاته؟ يذكر اليعقوبي أن الأسود العنسي تنبأ في عهد رسول الله، فلما بويع أبو بكر ظهر أمره، واتبعه على ذلك قوم، فقتله قيس بن هبيرة المرادي، وفيروز الديلمي، دخلًا منزله وهو سكران فقتلاه5، أما الطبري فيروي، قنلًا عن سيف، أنه قتل قبل وفاة النبي، وأنه صلى الله عليه وسلم أوحي ذلك إليه ليلة حدوثه

_ 1 الطبري: ج3 ص231، 232. 2 المصدر نفسه: ص232. 3 البلاذري: ص114. 4 الطبري: ج3 ص235. 5 تاريخ اليعقوبي: ج2 ص15.

فقال: "قتل العنسي، قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين" قيل: من قتله؟ قال: "فيروز، فاز فيروز"1، وفي رواية أخرى نقلًا عن عمر بن شبة أن خبر موت العنسي وصل إلى المدينة بعد أن قبض رسول الله، فأمضى أبو بكر جيش أسامة بن زيد في آخر ربيع الأول، وأتى مقتل العنسي في آخر ربيع الأول بعد مخرج أسامة؛ وكان أول فتح أتى أبا بكر، وهو في المدينة2. والراجح أن مقتل الأسود العنسي تم قبل وفاة النبي بيوم أو بليلة، وورد الخبر من السماء بذلك، وأعلم أصحابه به، ولكن الرسل وصلت في خلافة أبي بكر في "آخر شهر ربيع الأول عام 11هـ/ شهر حزيران عام 632م"3. ومهما يكن من أمر، فقد استقر الوضع الداخلي في اليمن بعد مقتل الأسود العنسي، وتراضى المسلمون على معاذ بن جبل، فصلى بهم في صنعاء، حتى إذا جاء خبر موت النبي عم الاضطراب مجددًا ربوع اليمن، وسنتناول أسباب ذلك، ونتائجه في موضعه من جهاد أبي بكر أهل الردة؛ لأنها تتخطى الأسود العنسي وثورته ومقتله. مسيلمة بن حبيب الحنفي، مسيلمة الكذاب 4: لم يكن الأسود العنسي الوحيد الذي ادعى النبوة، فقد تكرر مثل هذا الادعاء في اليمامة بين اليمن، ونجد قرب البحرين في قبائل بني حنيفة على يد مسيلمة بن ثمامة بن كثير بن حبيب، وذلك في السنة العاشرة للهجرة، وقد عد من أشهر المتنبئين وأخطرهم، وكانت اليمامة تشبه المدينة في تركيبتها إلى حد بعيد. كان مسيلمة قبل ادعائه النبوة يتجول في الطرقات، يطوف في الأسواق التي كانت بين دور العجم، والعرب مثل الأبلة5 وبقة6، والأنبار7 والحيرة8، يلتمس

_ 1 تاريخ الطبري: ج3 ص236. 2 المصدر نفسه: ص240. 3 المصدر نفسه: ص187. 4 كان اسمه مسلمة، وصغره المسلمون تحقيرًا له. 5 الأبلة: بلدة على شاطئ دجلة البصرة العظمى، في زاوية الخليج الذي يدخل إلى مدينة البصرة، وهي أقدم من البصرة، الحموي: ج1 ص77. 6 بقة: اسم موضع قريب من الحيرة، المصدر نفسه ص473. 7 الأنبار: مدينة على الفرات غربي بغداد بينهما عشرة فراسخ، وكانت الفرس تسميها فيروز سابور، المصدر نفسه: 257. 8 الحيرة: مدينة كانت على ثلاثة أميال من الكوفة على موضع يقال له النجف، وكانت مسكن ملوك العرب في الجاهلية من عهد نصر، ثم من لخم النعمان وآبائه، وكان عمرو بن عدي بن نصر اللخمي أول من اتخذها منزلًا، من الملوك، وهو أول ملوك اللخميين من آل نصر، المصدر نفسه: ج2 ص328- 331.

تعلم الحيل والنيرنجات، واحتيالات أصحاب الرقى والنجوم، ويتابع أخبار المتنبئين1. ويبدو أنه كان على قدر من قوة البيان والشخصية، على عكس ما تصفه المصادر بأنه كان "رويجلا، أصيفر، أخينس"2، إذ ترك تأثيرًا ملموسًا في أوساط بني حنيفة، والقبائل المجاورة، اشتهر بالخلابة، والقدرة على استهواء النفوس من الرجال والنساء، وخليق بهذا أن يظن به السحر، وتنتظر منه الخوارق بين الجهلاء؛ لأنهم يرون سلطانه ولا يعلمون مأتاه، فيخيل إليهم أنه سر من الغيب، أو معونة من الجنة والشياطين، وهو على هذا كان يعين حيلته بما استطاع من صناعة الشعوذة، والألاعيب التي كان يحذقها بعض الكهان في بلاد العرب والعجم، ولم يكن في طبيعته بمعزل عن طبائع السحرة، وأدعياء الغيب3، وتسمى بالرحمن، فقيل له: رحمن اليمامة4. وعندما كتب النبي محمد إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى الإسلام، كتب إلى هوذة بن علي الحنفي النصراني وأهل اليمامة، وأرسل كتابه مع سليط بن قيس بن عمرو الأنصاري، فاشترط هوذة أن يجعل الأمر له من بعده، فرفض النبي وقال: "لا ولا كرامة اللهم أكفنيه"، فمات بعد قليل5. وقدم مسيلمة إلى المدينة في بضعة عشر رجلًا من قومه بني حنيفة برئاسة سلمى بن حنظلة، وفيهم الرجال بن عنفوة أحد وجهاء القبيلة، لإجراء مباحثات مع النبي، وإعلان إسلامهم، ويبدو أنهم أملوا، مقابل دخلوهم في الإسلام، الحصول على موافقة من النبي لخلافته، ويذكر أن بني حنيفة تعد من أضخم القبائل العربية، وأوفرهم حظًا بالمنعة والجاه، وقد دفعوا أولا بمسيلمة للوقوف على رأي النبي، فاجتمع به منفردًا، وطلب منه أن يجعل الأمر له من بعده، فرفض النبي وقال له: "لو سألتني هذا القضيب -وكان بيده- ما أعطيتكه، وإني لأراك الذي رأيت فيه ما رأيت" 6، ثم اجتمع أعضاء الوفد بالنبي في المسجد بدون مسيلمة، والواقع أن ذلك كان متعمدًا، ولم تذكر المصادر ما دار في هذا الاجتماع، إنما روت خروج أعضاء الوفد، وقد اعتنقوا الإسلام، وأعطاهم النبي جوائزهم، غير أنه استنادًا إلى تطور الأحداث بعد ذلك يحملنا على

_ 1 الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر: كتاب الحيوان ج4 ص369 وما بعدها. 2 الطبري: ج3 ص295، البلخي: ج2 ص197. 3 العقاد، عباس محمود: عبقرية خالد ص97. 4 البلخي: ج2 ص195، 196. 5 البلاذري: ص97. 6 ابن كثير، الحافظ عماد الدين أبو الفداء: البداية والنهاية، ج5 ص50.

الاعتقاد بأنهم كرروا طلب مسيلمة بأن يكون الأمر لهم بعد النبي، وأن النبي رفض طلبهم، ولما قرروا العودة خاطبوا رسول الله قائلين: "إنا خلفنا صاحبًا لنا في رحالنا يبصرها لنا، وفي ركابنا يحفظها علينا"، وهذا دليل على أن تخلف مسيلمة كان متعمدًا وفق خطة مبيتة علهم ينتزعون من النبي وعدًا، أو ما يشبه الوعد، بتحقيق هدفهم، ولا شك بأن النبي أدرك فورًا هدفهم بأن صاحبهم هذا هو مسيلمة، فلم يميزه، وساواه بأصحابه، وقال: "ليس بشركم مكانًا يحفظ ضيعة أصحابه"، فقيل ذلك لمسيلمة، فقال: "عرف أن الأمر إلي من بعده"1، فلما عادوا إلى ديارهم أدعى النبوة متخذًا من حديث رسول الله مع وفد قومه، وإخباره أنه ليس بشرهم مكانًا؛ دليلًا على دعواه، وهذا تفسير أحادي الجانب يتناقض مع قول النبي محمد الصريح بشأن وضعه. ومهما يكن من أمر، فقد أدرك النبي، من خلال ما جرى مع وفد بني حنيفة، أن هؤلاء القوم سوف يغدرون به، ويرتدون عن الإسلام، وأن صاحبهم سيقودهم إلى شر عاقبة يهلكهم بها، فهم وهو في شر سواء2. واستغل نهار الرجال بن عنفوة وجوده في المدينة، فتعلم القرآن وتفقه في الدين، ووقف على تعاليم الإسلام، وكان هذا الرجل ذا بصيرة، وذكاء فعينه النبي معلمًا لأهل اليمامة يفقههم في الدين، ويرد من اتبع منهم مسيلمة، ويشغب معهم عليه، ويشد من عزائم المسلمين. لكن نهارًا كان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة، وما كان تفقهه إلا رياء، فهو لم يلبث أن انضم إليه، وأقر بنبوته، وشهد بأن محمدًا أشركه معه في الرسالة، فالتف بنو حنيفة حوله، ومن جهته فقد وضع مسيلمة كل ثقته بنهار يستشيره في كل أمر يقلد فيه محمدًا3. وبعد أن عاد مسيلمة إلى قومه، وأظهر دعوته، كتب إلى النبي كتابًا يدعي فيه مشاركته في الرسالة، ويساومه في اقتسام الملك والسيادة في جزيرة العرب، فقال: "من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك فإني قد أشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشًا يعتدون"4. وأبى النبي أن يترك الفرصة لمثل هؤلاء الكذابين للتشكيك في أمر الدين، فكتب إليه: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلام

_ 1 الطبري: ج3 ص137، 138. 2 السهيلي: ج4 ص225، ابن كثير: ج5 ص50-52. 3 الطبري: ج3 ص282-287. 4 المصدر نفسه: ص146.

على من أتبع الهدى، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين"1. واتخذ مسيلمة حرمًا باليمامة، كما أشرنا، فأخذ الناس به، فكان محرمًا، ونظم ونظم كلامًا مضاهاة للقرآن، وقصده الناس ليتسمعوا منه بعد أن اشتهر أمره، وتمكن من التأثير في بعضهم، وكان ممن قصده المتشمس بن معاوية، عم الأحنف بن قيس، فلما خرج من عنده قال عنه: إنه كذاب، وقال عنه الأحنف بن قيس وكان قد رآه أيضًا: ما هو بنبي صادق، ولا بمتنبئ حاذق2. عرف مسيلمة بين أتباعه برسول الله، وكانوا يتعصبون له، ويؤمنون بدعوته إيمانًا شديدًا، وكانت المنافسة بين قبائل مضر وربيعة على أشدها، والأخيرة تتععصب لنسبها، وتأنف أن تعلوها قريش بفضل النبوة والرئاسة، وليس أدل على ذلك من طلب هوذة الذي أشرنا إليه، بالإضافة إلى رأي طلحة النميري الذي قدم إلى اليمامة للاجتماع بمسيلمة، والوقوف على حقيقة دعوته، واختبار نبوته، إذ عندما طلب الاجتماع به وسماه باسمه، مسيلمة، رد عليه قومه: مه يا رسول الله، فقال: لا حتى أراه، فلما جاءه قال: أنت مسيلمة؟ قال: نعم، قال: من يأتيك؟ قال: رحمن، قال: أفي نور أو في ظلمة؟ فقال: في ظلمة، فقال: أشهد أنك لكذاب وأن محمدًا صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر"3. والراجح أن مسيلمة كان يتوق إلى استعادة مركز قبيلته بني حنيفة، التي كانت تضارع قريشًا في الجاهلية، ويطمع في أن يكون لها السيطرة على جزء من بلاد العرب، وأنكر أهل اليمامة أن يكون محمد رسول الله إليهم، وكانوا يرون لأنفسهم ما لقريش من حق، فلهم نبي ورسول، ولقريش نبي ورسول، فلجأ إلى إدعاء النبوة كذبًا ليتمكن من تحقيق أغراضه، وتطلعات قبيلته، فحركته سياسية عصبية اتخذت من الدين قناعًا زائفًا، هذا ولا تشير الأخبار التي تتحدث عنه، عندما قدم مع وفد قومه إلى المدينة، ولا التي تتحتدث عنه وهو في اليمامة؛ إلى قبوله الإسلام، بل نجد فيها كلها أنه ظل يرى نفسه نبيًا مرسلًا من الرحمن وصاحب رسالة، لذلك ليس من الصواب أن نقول: ردة مسيلمة أو ارتداد مسيلمة، أو نحو ذلك؛ لأنه لم يعتنق الإسلام، ثم ارتد عنه حتى ننعته بالمرتد! 4.

_ 1 البلخي: ج3 ص196. 2 الطبري: ج3 ص283، الجاحظ: ج5 ص530. 3 الطبري: ج3 ص286. 4 علي، جواد: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج6 ص97.

وتعاون مسيلمة في إحدى مراحل ادعائه النبوة مع سجاح بنت الحارث بن سويد التميمية، التي أدعت هي الأخرى النبوة، والتف حولها قومها بنو تميم، وأخوالها من تغلب وغيرهم من قبائل ربيعة، وتزوجها مسيلمة، وانضم أتباعها إليه، فتقوى بهم، وتحدى حكومة أبي بكر في المدينة. طليحة بن خويلد الأسدي: كان طليحة أحد كهنة بني أسد، وقد ادعى النبوة هو الآخر في أواخر حياة النبي، شأنه في ذلك شأن الأسود العنسي ومسيلمة، واستقر في بزاخة، وهي ماء لبني أسد، وظهر أمره بعد وفاة النبي، فتبعه قومه، واستقطبوا حلفاءهم من طيء والغوث ومن إليهم، وانضمت إليه غطفان، والتف حوله عوام طيء، والغوث وبني أسد. وكانت منازل بني أسد في نجد، وتقع إلى الشرق من ديار طيء، وإلى الجنوب من منازل بكر، وإلى الشمال من ديار هوازن وغطفان، وتتاخم قبائل عبد القيس وتميم من الغرب، وبحكم هذا التجاور تحالفت هذه القبائل، أو تخاصمت وفقًا لتطور أوضاعها، والظروف المحيطة بها. قدم وفد بني أسد إلى المدينة، لمبايعة النبي والدخول في الإسلام، وقد تألف من عشرة أشخاص منهم ضرار بن الأزور، ووابصة بن مبعد، وطليحة بن خويلد وغيرهم، ويبدو أنهم كانوا في حال عداء مع جيرانهم بني طيء، ففصل النبي في هذا النزاع، وكتب لهم كتابًا، كتبه له خالد بن سعيد، ورد فيه: "ألا يقربن مياه طيء وأرضهم، فإنه لا تحل لهم مياههم، ولا يلحن أرضهم من أولجوا"، وأقر عليهم قضاعي بن عمرو وهو من بني عذرة، وجعله عاملًا عليهم1، كما كتب إلى حصين بن نضلة الأسدي "أن له أرامًا وكسة لا يحاقه فيها أحد"2، أي أن له أصلًا، وشرفًا لا ينازعه فيهما أحد. وكانت أسد وغطفان وطيء قد تحالفت في الجاهلية قبل البعثة النبوية، ثم حدث خلاف بينهم، فخرجت طيء من الحلف، فأجلاها بنو أسد وغطفان عن ديارها، وانقطع بذلك ما بينها وبينهما، وهذا الذي دفع النبي إلى إصلاح ذات البين، ومنع أسدًا من التعدي على مياه طيء وأرضهم، ثم حصل تباعد بين الحليفين، أسد وغطفان، ولما أدعي طليحة النبوة، وظهر أمره بعد وفاة النبي، ساندته غطفان؛ لأنها كانت على عداء مع قريش، وقال عيينة بن حصن الفزاري: "ما أعرف حدود غطفان منذ انقطع ما بيننا وبين بني أسد، وإني لمجدد الحلف الذي كان بيننا في القديم، ومتابع طليحة،

_ 1 ابن سعد: ج1 ص270- 292. 2 المصدر نفسه: ص274.

والله لأن اتبع نبيًا من الحليفين أحب إلينا من أن نتبع قريشًا، وقد مات محمد وطليحة حي"1، والواقع أن هذه القبائل المضرية كانت تكره سيادة قريش. ليس واضحًا ما دفع طليحة إلى التنبؤ، وربما كان للتنافس القبلي دور في ذلك بدليل قول عيينة بن حصن الذي أشرنا إليه، بالإضافة إلى انتشار ظاهرة التنبؤ في بلاد العرب. لم يدع طليحة العرب إلى العودة لعبادة الأصنام، كما لم يدع غيره من المتنبئين إلى العودة لعبادتها، والراجح أن مرد ذلك بأن النبي محمد قضى على الوثنية في الجزيرة العربية قضاء مبرمًا، واستقرت عقيدة التوحيد في النفوس بشكل جعل التفكير في العودة إلى عبادة الأصنام ضربًا من الهذيان، فدعا إلى أفكار لم يحفظ لنا التاريخ منها شيئًا يذكر2، وكل ما وصل إلينا، أنه أنكر الركوع والسجود في الصلاة، وقال: "إن الله لم يأمر أن تمرغوا وجوهكم في التراب، أو أن تقوسوا ظهوركم في الصلاة"، وقال أيضًا: "إن الله لا يصنع بتعفير وجوهكم، وقبح أدباركم شيئًا، فاذكروا الله أعفة قيامًا، فإن الرغوة فوق الصريح"3، وهذا تأثير نصراني، الراجح أن السبب في ندرة المعلومات يعود إلى أن المسلمين الأوائل لم يدونوا إلا ما كان يتوافق مع أحكام الدين الإسلامي، وأهملوا ما دون ذلك. لقد حارب النبي انتشار ظاهرة التنبؤ في حياته، فكما أوعز إلى مقاومة الأسود العنسي، والتخلص منه إما غيلة وإما مصادمة، فقد وجه ضرار بن الأزور إلى عماله على بني أسد يأمرهم بالقيام على كل من ارتد، ونزل المسلمون واردات4، ونزل طليحة ومن معه سميراء5، وكانت كفة المسلمين هي الرجحة بفعل تواتر الأنباء على انتصاراتهم في غير منطقة، حتى هم ضرار بالسير إلى طليحة ومقابلته، ولقد سبقه أحد المسلمين يريد أن يتخلص من هذا المتنبئ، فضربه بالسلاح فأخطأه، وأسرع المحيطون به باستغلال هذه الحادثة، وأذاعوها بين الناس مدعين بأن السلاح لا يؤثر في نبيهم، وفي الوقت الذي كان فيه المسلمون يستعدون لمواجهة هذا الموقف، إذ جاءهم نعي النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فاضطربوا وتناقص عددهم، وهرع الكثيرون منهم إلى طليحة يتابعونه ويؤيدونه6.

_ 1 الطبري: ج3 ص257. 2 هيكل: ص130. 3 البلاذري: ص106. 4 واردات: موضع عن يسار طريق مكة، وأنت قاصدها، الحموي: ج5 ص347. 5 سميراء: منزل بطريق مكة، المصدر نفسه: ج3 ص255، 256. 6 الطبري: ج3 ص257.

سجاح بنت الحارث بن سويد التميمية: كانت سجاح متنبئة وعرافة، وهي واحدة من طائفة المتنبئين، وزعماء القبائل الذين ظهروا في الجزيرة العربية قبل الردة أو خلالها، ونستدل من نسبها الذي اتضح من تاريخها بأنه صحيح، أنها كانت من بني يربوع أحد بطون تميم، وأمها من بني تغلب في العراق، وهي قبيلة اعتنق معظم أفرادها النصرانية نتيجة احتكاكهم بسكان إقليم الفرات، أقامت سجاح بينهم، وتزوجت فيهم، وتنصرت مع من تنصر منهم1. تقع منازل بني تميم على مقربة من بني عامر إلى الجنوب، وتجاور المدينة من الشرق، وتمتد نحو الخليج العربي، وتتصل بمصب نهر الفرات من ناحية الشمال. وكانت فروع من القبيلة تتمتع بحقول الرعي في أنحاء تمتد إلى الفرات الأوسط. ولبني تميم مكانة كبيرة بين قبائل العرب في الجاهلية، وفي عصر النبوة، واشتهر التميميون بالشجاعة، والكرم، ونبغ من بينهم شعراء، وأبطال تلقبوا بلقب الملوك2. والواضح أن هذا الامتداد الجغرافي للقبيلة أدى إلى: - تنقل بطونها بين الجزيرة العربية والعراق، في ميدان واسع يشيع فيه التوتر بين كلا المركزين الكبيرين الحيرة ومكة، لكنهم اتخذوا موقف الحياد في علاقاتهم السياسية مع كليهما، وكان من الواضح أن العلاقات المنظمة، والمنضبطة بين بني تميم، كانت تبلغ الأهمية عند أمراء الحيرة، وبالتالي الفرس من واقع ضمان مرور القوافل التجارية دونما عائق، والمعروف أن تجارة فارس كانت تنطلق من المدائن3 حتى تصل إلى الحيرة حيث يتولى النعمان بن المنذر حراستها بقوى من بني ربيعة، ثم يتسلمها هوذة بن علي الحنفي، فيسير بها في أرض تهامة إلى أن تبلغ اليمن، وذلك لقاء أجر، وعليه كانت العلاقات جيدة بين الفرس، وبين البطون الضاربة على هذا الطريق التجاري، وحاولت فارس ربطهم بها عن طريق منح يربوع وظيفة الردافة، ومن جهة أخرى، أقامت بطون متفرقة من تميم، علاقات مكثفة مع مكة في العصر الجاهلي من واقع تنظيم الخمس، وعهود الإيلاف، والحصول على السلطة، والتقدم في الأسواق، وفي أداء شعائر الحج، ومنهم من ارتبط في الفضائل العسكرية التي كانت تقدمها القبائل لحراسة مكة.

_ 1الطبري: ج3 ص272. 2 المصدر نفسه: ص116. 3 المدائن: عاصمة ملوك بني ساسان الأكاسرة، بناها كسرى أنوشروان بن قباذ، وأقام بها هو ومن أتى بعده من ملوك بني ساسان إلى أيام عمر بن الخطاب، واسم المدائن بالفراسية طيغون، وإنما سمتها العرب المدائن؛ لأنها تتألف من سبع مدن، الحموي: ج5 ص74، 75.

- انتشار النصرانية في ربوع بني تميم بتأثير ما كان سائدًا من مذاهب نصرانية في الجزيرة الفراتية، وشمالي بلاد الشام. - تعدد الولاءات في صفوف القبيلة، سياسيًا بين الاستقلالية، وبين الهيمنة الفارسية أو البيزنطية، ودينًا بين الوثنية والنصرانية. - ظل المركز الممتاز لبني تميم محفوظًا حتى السنين الأخيرة من العصر الجاهلي، بدليل أن التميمي الأخير الذي كان يمارس وظيفة القاضي الفخرية، في سوق عكاظ، هو الأقرع بن حابس. في ظل هذه الظروف، ونتيجة لانتشار الإسلام في ربوع الجزيرة العربية، قدم وفد بني تميم إلى المدينة، في عام "9هـ/ 630م" لتقديم الطاعة، والولاء وإعلان دخول التميميين في الإسلام، وضم الوفد بعض أشرافهم مثل عطارد بن حاجب بن زرارة، والأقرع بن حابس، والزبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، ولم يكن مالك بن نويرة ضمن أعضاء الوفد، والإشارات التي تذكر أنه توجه بمفرده إلى النبي لاعتناق الإسلام قد تكون صحيحة؛ لأن النبي عينه عاملًا على صدقات عشيرته بني يربوع، وردهم النبي إلى قومهم راضية نفوسهم1. واختلف بنو يربوع بعد وفاةو النبي حول أداء الزكاة إلى أبي بكر، أو قسمتها بين الناس، وفاجأتهم سجاح في هذا الوقت، مقبلة من أرض الجزيرة بالعراق يحيط بها رهطها من بني تغلب على رأس جيش من ربيعة، والنمر وأياد وشيبان، تريد غزو المدينة، مما أدى إلى ازدياد الانقسام فيما بينهم. وكانت سجاح قد تنبأت بعد وفاة النبي أسوة بغيرها من المتنبئين، بدافع العصبية أو بحب الظهور، فاستجاب لها الهذيل بن عمران في بني تغلب، وترك التنصر، ولم تجد إلا القليل من التجاوب عند قومها. ولما وصلت إلى الحزن2 راسلت بطون تميم، ودعتهم إلى الموادعة والمعاضدة، واستقطبت، بما بشرت به من ادعاءات، بني مالك برئاسة وكيع بن مالك، وبني يربوع بزعامة مالك بن نويرة3. استغل مالك بن نويرة هذه القوة للقضاء على خصومه من عشائر بني تميم، فصرفها عن مهاجمة المدينة، وأقنعها بمهاجمة بني الرباب، غير أنها منيت بهزيمة

_ 1 ابن سعد: ج1 ص293، 294، الطبري: ج3 ص115. 2 الحزن: بلاد يربوع من جهة الكوفة، وهي أطيب البادية مرعي، الحموي: ج2 ص254، 255. 3 الطبري: ج3 صس115.

قاسية، وتكبد الطرفان خسائر فادحة مما دفعهما إلى التفاهم، وتبادل الأسرى1 ونتيجة لهذا الفضل انفصل مالك بن نويرة عنها. سمعت سجاح بعد فشلها في إخضاع الرباب إلى مهاجمة المدينة، ودعت قومها بني يربوع إلى مساندتها، فطلبوا منها أن تؤلف بطون تميم إلى دينها قبل الزحف نحو الحجاز لمحاربة المسلمين، فلم يتفق بنو تميم على رأي واحد، عندئذ خرجت بجندها حتى بلغت النباج2، فتصدى لها أوس بن خزيمة الهجيمي وهزمها، ومنع جندها من المرور في أراضيه، ثم تحاجز الفريقان، واتفقا على تبادل الأسرى على أن تنصرف عنهم، ولا تتخذ طريقًا إلى المدينة إلا من ورائهم3. ولما رأيت إحجامًا من قومها، التفت نحو اليمامة حيث كان مسيلمة الكذاب يتخفز كذلك للخروج على الإسلام، وانتشرت أخبار دعوته في الجزيرة العربية، إلا أنه وجد نفسه في وضع حرج، فقد خشي أن تشغله سجاح عن قتال أبي بكر في الوقت الذي كان يترقب فيه زحف المسلمين إليه، كما كان يتعرض لضغط القبائل المجاورة، لذلك عرض عليها التفاهم، والتعاضد ما دام هدفهما واحدًا، وهو الزحف نحو المحجاز، وأسفرت المفاوضات التي جرت بينهما عن النتائج التالية: - التقارب الأسري بالزواج. - دمج قدراتهما لمواجهة المسلمين، والسيطرة على الجزيرة العربية. - يؤدي مسيلمة لسجاح نصف غلات اليمامة4. وفعلًا ثم الزواج بينهما، وأقامت سجاح مع مسيلمة مدة ثلاثة أيام5 عادت بعدها إلى قومها في أرض الجزيرة دون سبب ظاهر، حاملة معها شطر النصف مما اتفقا عليه، وتركت وراءها ممثليها مع مسيلة ممن سيحملون لها النصف الآخر، وأقبلت في غضون ذلك الجيوش الإسلامية، فاجتاحت اليمامة، وقتلت مسيلمة. وظلت سجاح في بني تغلب تعيش مغمورة بين أهلها، ثم دخلت في الإسلام عندما انتهى رأي أسرتها إلى الاستقرار في البصرة التي غدت المركز الأول لبني تميم في عهد بني أمية، وعاشت مسلمة، وماتت في سنة "55هـ/ 675م"6. قد يبدو للوهلة الأولى أن سجاح كانت مدفوعة بحميتها الدينية لمحاربة المسلمين،

_ 1 الطبري: ج3 ص115، 270، 271. 2 النباج: موضع بين البصرة ومكة، الحموي: ج5 ص255، 256. 3 الطبري: ج3 ص271. 4 المصدر نفسه: ص273- 275. 5 البلخي: ج2 ص198. 6 الطبري: ج3 ص275.

فهي بحكم عقيدتها النصرانية نقمت على محمد وأتباعه، أو للتبشير بدين جديد على أثر انتشار ظاهر التنبؤ في الجزيرة العربية، لكن هذين الدافعين كانا غطاء لدافع سياسي بعد الدافع الرئيسي لحركتها، فقد كان بنو يربوع أقرب بطون تميم إلى نفوذ الفرس، يعزز ذلك أنها اجتمعت أثناء رحلتها بعملاء لفارس من أبناء البوادي العراقية، والنجدية1، كما كان مسرح عملياتها المناطق التي كانت فارس تحرص على تجديد نفوذها القديم فيها، وعليه تكون مهمة هذه المتنبئة قد توضحت على هذه الصورة، فقد قضت وقعة ذي قار2 على هيبة فارس في الجزيرة العربية، وساء ظن الأكاسرة حكام فارس، بالمناذرة ملوك الحيرة الذين كانوا صنائعهم، ويعتدون عليهم في إخضاع القبائل العربية القريبة والبعيدة، وتأمين تجارتهم إلى اليمن، فنكلوا بهم، وقضوا على دولتهم قبيل ذلك بقليل، فأرسلوا امرأة تغلبية لتخلف المناذرة في هذه المهمة القديمة، فانحدرت مدفوعة من الفرس، وعمالهم في العراق كي تؤجج الثورة في الجزيرة العربية على الحكم الإسلامي المتنامي، وتمهد الطريق لفارس لاستعادة ما كان لها من نفوذ، وسلطان في كثير من أرجائها، وقد يرجح ذلك أنها كانت الامرأة الوحيدة التي أدعت النبوة، وأنها لم تمكث في الجزيرة العربية إلا بقدر ما تشجع الانتقاض على الحكم الإسلامي، ثم عادت إلى العراق بعد أن تأكدت من تهيؤ القبائل للثورة على هذا الحكم، وكان طبيعيًا أن تنزل في بادئ الأمر بين قومها بني تميم، وقد اختارت أن تتعاون مع بني تغلب؛ لأن هؤلاء أعداء بني بكر الذين خاضوا معركة ذي قار ضد الفرس، وانتصروا عليهم، وكان تردد بني تميم وانقسامهم، في التعامل الجدي معها، بالإضافة إلى بني حنيفة، مرده إلى صداقتهم للمناذرة منذ زمن قديم، وحتى يتجنبوا غضب فارس، كانت الطريقة الفضلى في صرفها راضية، وإقناعها بأن الثورة على الإسلام حاصلة، ولم يتحقق أكثر من ذلك عن رسالتها وسيرتها3. ذو التاج لقيط: ذو التاج لقيط بن مالك الأزدي، أدعى النبوة وغلب على أهل عمان4، وطرد منها عمال الخليفة أبي بكر، كان الغالب على عمان، الأزد فلما كانت سنة "8هـ/ 629م".

_ 1 العقاد، عباس محمود: عبقرية خالد، ص77. 2 ذي قار: اسم مجرى من الماء في منازل بكر بن وائل بين واسط والكوفة، وقد نسب إليه يوم من أيام العرب وقع بين هذه القبيلة والفرس، وكانت الغلبة فيه لبكر، وهو بعد من أشهر أيام العرب وأمجدها، انظر دائرة المعارف الإسلامية ج9 ص398. 3 العقاد: ص77. 4 عمان: اسم كورة عربية على ساحل بحر اليمن, الهند، الحموي: ج4 ص150.

بعث النبي أبا زيد الأنصاري، وعمرو بن العاص إلى عبيد، وجيفر بمن بني جلندي حكام عمان، ومعهما كتاب يدعوهما فيه إلى الإسلام، وقال: "إن أجاب القوم إلى شهادة الحق، وأطاعوا الله ورسوله، فعمرو الأمير، وأبو زيد على الصلاة"، فأسلم عبيد وجيفر، ودخل أهل عمان في الإسلام، ولم يزل عمرو وأبو زيد في عمان حتى توفي رسول الله، فارتدت الأزد عليها لقيط بن مالك ذو التاج، وانحازت إلى دبا1، والتجأ عبيد وجيفر إلى الجبال والبحر هربًا منه، وكاتبًا أبا بكر الصديق بخبر ما حدث2. كانت عمان في عصر الرسالة تابعة لفارس، فهي بحكم موقعها الجغرافي في الجزء الجنوبي الشرقي من جزيرة العرب، أقرب إلى فارس منها إلى المناطق الشمالية الغربية في الجزيرة العربية التي يفصلها عن الربع الخالي، وكانت فارس حريصة على إخضاع القبائل الضاربة في شرقي الجزيرة العربية على الخليج العربي؛ لتتحكم بهذه الخليج وبمداخله الجنوبي، مضيق عمان "هرمز"، ومن جهتها اعتمدت هذه القبائل على فارس، فكان طبيعيًا أن تعادي الدعوة الإسلامية، وكما دفع الفرس بسجاح لإثارة المشكلات في وجه الدعوة الإسلامية، ومحاربة المسلمين، فادعت النوبة لتستقطب القبائل، كذلك دفع هؤلاء ذا التاج لقيط بن مالك الأزذي، فادعى النبوي، وحمل قومه على الإيمان به، وحارب المسلمين.

_ 1 دبا: سوق من أسواق العرب بعمان، المصدر نفسه: ج2 ص435. 2 البلاذري: ص87.

الفصل الثالث: حروب الردة

الفصل الثالث: حروب الردة مدخل ... الفصل الثالث: حروب الردة تمهيد: واجه أبو بكر، في بداية حياته السياسية كخليفة، ردة العرب وانتقاضهم على الإسلام كدين، وعلي حكم المدينة كقوة سياسية، ووردت إليه الأخبار من كافة أرجاء الجزيرة العربية بارتداد بني أسد بقيادة طليحة بن خويلد الذي ادعى النبوة، وبني فزارة بقيادة عيينة بن حصن، وبني عامر وغطفان بقيادة قرة بن سلمة القشيري، وبني سليم بقيادة الأشعث بن قيس الكندي، وبني بكر بن وائل في البحرين بقيادة الحكم بن زيد، وبني حنيفة بقيادة مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة، وحافظت قريش وثقيف، وأهل المدينة على ولائهم. قرر أبو بكر التصدي لهذه الحركات الارتدادية بالقوة والحزم، وبخاصة بعد ورود أنباء عن تحفز القبائل لشن هجوم واسع على المدينة، وتدمير القاعدة المركزية للدين الإسلامي. وبغض النظر عن الأحكام الفقهية التي ترعى شئون المرتدين؛ لأن المسألة هنا تختص بالناحية التاريخية، وربما كان الحديث النبوي: "من بدل دينه فاقتلوه" 1؛ مبررًا لاتخاذ هذا القرار، بالإضافة إلى ذلك، كان لأبي بكر موقف من الذين امتنعوا عن دفع الزكاة، وفرقوا بينها وبين الصلاة: "لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة"2. والواضح أن أبا بكر أدرك أن الزكاة هي التجسيد الملموس، وربما التجسيد المادي الوحيد، لوحدة القبائل، وهي العلاقة الوحيدة التي يمكن لها أن تربط فيما بينهم، فكل قبيلة كان يمكن لها أن تصلي وراء إمامها، ويقتصر الحال على هذا، في حين تتطلب الزكاة نوعًا من العلاقة المتبادلة، والتنظيم المركزي لجمعها وصرفها، من هنا أصر أبو بكر على ضرورة استمرار القبائل في دفع الزكاة3.

_ 1 العسقلاني: ج15 ص296، 297. 2 المصدر نفسه: ص302- 309. 3 إبراهيم: ص130.

لكن كان على أبي بكر، قبل ذلك، أن يرسل جيش أسامة بن زيد إلى وجهته التي حددها له النبي قبل وفاته، وهي الإغارة على القبائل الشامية على الطريق التجاري بين مكة وغزة، والمعروف أن هذا الجيش كان معسكرًا في الجرف، من أرباض المدينة، حين توفي النبي وانتخب أبو بكر، فتوقف عن الزحف. ويبدو أن أسامة أدرك حرج موقف الخليفة، والمسلمين في تلك المرحلة الدقيقة التي تتطلب تجميع القوى الإسلا مية وحشدها، وبخاصة أن جيشه البالغ سبعمائة مقاتل ضم غالبية المهاجرين والأنصار، ومن كان حول المدينة من القبائل. وأبدى بعض الصحابة تحفظًا على إرسال هذا العدد الكبير من المقاتلين إلى خارج المدينة في ظل أجزاء ثورات القبائل والمرتدين، لكن أبا بكر أبى أن يخالف وصية النبي1، وأثبتت الأحداث أنه كان محقًا في إصراره؛ لأن في ذلك دلالات واضحة على قوة المدينة، وثقتها بنفسها، وساعد على رفع هيبتها في عيون القبائل. وهكذا قامت سرية أسامة بتنفيذ مهمتها، وخلت المدينة في غضون ذلك، من المدافعين عنها باستثناء بضع مئات من المهاجرين والأنصار، والحقيقة أن أبا بكر أثبت في مواجهة هذا التحدي أنه رجل الدولة القوي، وصاحب القرار الجريء. تعرض المدينة لجهوم القبائل: الواقع أن خروج أسامة بن زيد بلاد الشام قد شتت القوة الإسلامية النامية، مما شجع الخارجين وبخاصة عبس، وذبيان على مهاجمة المدينة، فعسكروا حولها، وأرسلوا وفدًا إلى أبي بكر ليساوموه على موقفهم بعدم دفع الزكاة، وأطلعوا في غضون ذلك، على الوضع الداخلي في المدينة مما دفع أبا بكر إلى تنبيه المسلمين كي يأخذوا حذرهم2. انتهت المفاوضات بين الجانبين بالفضل بسبب التصلب في المواقف، فعاد أعضاء الوفد إلى معسكرهم، في حين قام أبو بكر بحشد القوى، وتدعيم دفاعات المدينة، وشن المحاصرون هجومًا ليليًا بعد ثلاثة أيام، غير أنهم لم يحققوا أي نصر على الرغم من قلة المدافعين، وارتدوا على أعقابهم3. كان لهذا الانتصار الإسلامي السريع عدة نتائج إيجابية لعل أهمها: - ازداد المسلمون، في كل قبيلة، ثباتًا على دينهم.

_ 1 الطبري: ج3 ص225، 226. 2 المصدر نفسه: ص244، 245. 3 المصدر نفسه: ص246.

- ازداد المرتدون تعنتًا، فوثبوا على من فيهم من المسلمين وقتلوهم، فحلف أبو بكر ليقتلن في كل قبيلة بمن قتل من المسلمين. - هرع من ثبت على إسلامه إلى المدينة لأداء الزكاة. تجهيز الجيوش لحرب المرتدين: عاد، في هذه الأثناء، أسامة بن زيد وجيشه بعد سبعين يومًا من خروجهم، فأبقاه الخليفة في المدينة حتى يستريح هو وجنده، وهاجم، بالقوى التي توفرت له، مضارب بني ذبيان، ودخلها بعد أن انسحب منها هؤلاء بفعل ضغط القتال، ثم عاد إلى المدينة ليستعد لحرب المرتدين1، فعبأ المسلمين وجهز من الجيوش أحد عشر لواء تتناسب في عديديها وفي إماراتها، وفي وجهتها، مع قوة القبائل التي وجهها إليها، ومدى إلحالحها في درتها، فخصص ثمانية ألوية للجنوب بفعل تركز غالبية المرتدين، والمتنبئين في الأماكن الجنوبية، في حين وجه ثلاثة ألوية إلى الشمال، واحتفظ بقوة عسكرية لحماية المدينة. تألفت ألوية الجنوب من الجيوش التالية: - خالد بن الوليد إلى طليحة بن خويلد الأسدي في بزاخة، ومن انضم إليهم من مرتدي طيء وعبس وذبيان، والمعروف أن بني أسد، وبني تميم كانوا أقرب القبائل المرتدة إلى المدينة، فكان طبيعيًا أن يبدأ المسلمون بمهاجمتهم. - عكرمة بن أبي جهل إلى مسيلمة الكذاب المتنبئ باليمامة، فإذا فرغ توجه إلى دبا. - شرحبيل بن حسنة مددًا لعكرمة، فإذا فرغ منه، لحق بقضاعة لمساعدة عمرو بن العاص. - المهاجر بن أبي أمية المخزومي إلى اليمن لمحاربة الأسود العنسي، ومساعدة الأبناء ضد قيس بن هبيرة المرادي، وعمرو بن معدي كرب الزبيدي، فإذا فرغ، قصد كندة وحضرموت لمحاربة المرتدين بزعامة الأشعث بن قيس. - سويد بن مقرن إلى تهامة اليمن. - العلاء بن الحضرمي إلى الحطيم بن ضبيعة، والمرتدين من ربيعة في البحرين. - حذيفة بن محصن الغلفاني إلى ذي التاج لقيط بن مالك الأزدي، المتنبئ في عمان.

_ 1 الطبري: ج3 ص246.

خريطة جيوش حروب الرِّدَّة

- عرفجة بن هرثمة إلى أهل مهرة. وتألفت ألوية الشمال من الجيوش التالية: - عمرو بن العاص إلى قضاعة، ووديعة والحارث في شمالي الحجاز. - معن بن حاجز السلمي إلى بني سليم، ومن معهم من هوازن. - خالد بن سعيد بن العاص إلى مشارف الشام1. ويضيف البلاذري أميرًا آخر هو يعلى بن منبه، حليف نوفل بن عبد مناف، إلى خولان باليمن2. والملاحظ أن جميع الأمراء الذين اختارهم لقيادة العمليات العسكرية كانوا من المهاجرين، وأنه استبقى الأنصار للدفاع عن مدينتهم، ولا مبرر للقول بأنه استبقاهم حذرًا منهم لما أبدوه في سقيفة بني مساعدة، إذ لم يكن الأنصار دون المهاجرين إيمانًا بالله ورسوله. إن قراءة متأنية لقرار الخليفة، والتوزيع الجغرافي للألوية تطلعنا على الحقائق التالية: - مدى خطورة الموقف الذي يواجهه الإسلام كدين، وعقيدة ودولة، والمسلمون كأمة، فقد انتشر المرتدون والخارجون والمتنبئون، من مشارف بلاد الشام شمالًا حتى حضرموت ومهرة، واليمن في الجنوب، ومن البحرين وعمان والخليج العربي شرقًا حتى شاطئ البحر الأحمر غربًا، بالإضافة إلى قلب الجزيرة العربية، ومشارف الحجاز وأبواب المدينة. - عظيم المسئولية الملقاة على عاتق أبي بكر، والمسلمين من حوله، والتي تتطلب بذل جهد غير عادي لمواجهة الموقف. - كان المسلمون يمثلون قلة عددية في تلك المرحلة بالمقارنة مع الكثرة العددية للقبائل المرتدة والثائرة، فكان عليهم مواجهة هذه الظاهرة. - حتمية التعاون بين هذه الجيوش وفق خطة عسكرية محكمة بحيث لا تعمل كأنها جيوش منفصلة تحت قيادات مستقلة، وإنما هي، على الرغم من تباعد الأمكنة، جهاز واحد تلتقي، وتفترق كلها أو بعضها. - اتخذ أبو بكر المدينة مقرأ له، وقاعدة لإدارة العمليات العسكرية. انطلقت الألوية الإسلامية من ذي القصة كل إلى الوجهة المحددة لها، بعد أن

_ 1 الطبري: ج3 ص249. 2 فتوح البلدان: ص109.

زود الخليفة قادتها بكتاب ذي مضمون واحد إلى جميع العرب1، يعكس سياسته وأسلوبه في التعامل مع هذه الفتنة بحيث إنه2: - حرص على أن يبدأ الكتاب باسم الله، وأن يوضح صفته التي يخاطب بها الناس، ويتعامل معها بمقتضاها، فهو خليفة رسول الله، وله عليهم ما للرسول من الولاية العامة، والطاعة التامة. - وجه الكتاب إلى العرب عامة، من أقام على إسلامه منهم، ومن رجع عنه، ومعنى ذلك أنه أراد أن يكون مضمونه بيانًا للناس جميعًا سواء من بقي على الطاعة ومن خرج منها. - اختص بتحية الإسلام، من اتبع الهدى فقط، أما المرتدين والخارجين، فلا سلام عليهم، وذكر الجميع بشعار الإسلام، وأول ركن من أركانه هو شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله. - أقر بكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وكفر كل من ينكر ذلك، وتعهد بقتاله. - وضح رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وبين الأسلوب الذي اتبعه النبي لتحقيق الهدف: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} ، وذكر الجميع بأن النبي اتبع سياسة حازمة تجاه المشركين والكفار. - أوضح صفة النبي البشرية، ورد على الجماعة التي عجبت من وفاته، وذكرها بما جاء في كتاب الله من أن محمدًا بشر يجري عليه من يجري على سائر البشر من حياة وموت، ويعكس هذا ادعاءات بعض المرتدين: "لو كان محمد نبيًا لما مات"، ثم أبرز قدرة الله، وأنه حي لا يموت. - قدم النصح للناس بتقوى الله، واتباع ما جاء به رسوله والاعتصام بدينه، وذلك بأسلوب هادئ، وهو في خلال ذلك يبشر المهتدين بثواب الله، ويحذر الضالين من عذابه، وأوضح أن الأمر كله لله، من ثواب وعقاب. - أشار إلى ما بلغه من ردة بعض العرب عن الإسلام، وخروجهم عن طاعة الله، وأوضح لهؤلاء أن هذا من عمل الشيطان، وحذرهم من المصير الذي ينتظر أولياء الشيطان، وحزبه وهو حكم الله في الضالين. - كشف سياسته العامة تجاه المرتدين القائمة على منحهم فرصة للتفكير، ودعوتهم بالحسنى للعودة إلى الله، بعد أن انساق كثير من العرب وراء الدعاة، خشية

_ 1 انظر نص الكتاب في الطبري: ج3 ص249- 252. 2 هيكل ص127، عاشور: ص98.

ما يصيبهم إذا استمروا على إسلامهم، فإذا رأوا أنفسهم بين قوتين مالت نفوسهم إلى إسلامها، أو أمسكوا على الأقل، عن الانضواء تحت راية زعماء الردة، وبذلك تحقن دماء، ويتراجع اندفاع كثير من المرتدين، ويتوقفوا عن القتال، ولا شك بأن هذه السياسة الحكيمة التي انتهجها قد حققت أهدافها الموضوعة، فعاد قسم كبير من المرتدين عن ردتهم، في حين استمر آخرون عليها، فتعرضوا للقتل بالسيف، والحرق بالنار، وسبي الذراري والنساء. - لم يقصد أبو بكر المداورة من خلال منح القبائل فرصة للتفكير، حتى إذ لم يفلح التمس وسيلة غيرها، بل كان جادًا في كل كلمة من كلمات كتابه، وفي كل صورة من صور التهديد التي ذكرها فيه. وأوصى أبو بكر قادة الألوية1 تنفيذ المهام الموكولة إليهم ضمن إطار الخطة التي وضعها، وزودهم بتفاصيلها، ويتفق مضمونها مع وصايا دأب النبي على تزويد أمراء جنده بها عند خروجهم للجهاد، وتضم طرفًا من آداب الإسلام في الجهاد، كما أمرهم بالتنسيق معه إيمانًا منه بأن وحدة القيادة في الحرب هي السبب الأكثر أهمية في تحقيق النصر. خرجت الألوية الإسلامية، في ضوء هذه التوجهات، في اتجاهات متعددة، ومعها أوامر مشددة بقمع ثورات القبائل دون تمييز بين دافع وآخر، والقضاء على الأخطار التي واجهت الإسلام، ودولته الناشئة. قتال طليحة الأسدي -معركة البزاخة: برز خالد بن الوليد في حروب الردة كقائد محترف، ومقاتل شجاع، مارس عمليًا مهام القائد العام، واستطاع بفضل الخطط العسكرية المبتكرة، والمداهمات الصاعقة التي نفذها ضد المرتدين؛ أن يحقق النجاح المطلوب في مهمته الصعبة، ففي أقل من عام، كانت لديه القدرة لقمع حركة الردة، وتصفية جيوب التمرد في كافة أنحاء الجزيرة العربية. كانت مواجهته الأولى ضد طليحة الأسدي، وخصصه أبو بكر بأربعة آلاف مقاتل، أقلهم من المهاجرين، وأكثرهم من القبائل القريبة من المدينة، وبعض بني كنانة، وكان فيهم من الأنصار ما بين أربعمائة إلى خمسمائة مقاتل بقيادة ثابت بن قيس، وحمل أبو لبابة رايتهم2.

_ 1 انظر نص الوصية في الطبري: ج3 ص251، 252. 2 المصدر نفسه: ص254.

أقام طليحة في منازل بني أسد ببزاخة، وعسكر جيشه في سميراء، وانضمت إليه فلول عبس، وذبيان الذين هزمهم أبو بكر، كما انحازت إليه قبائل غطفان وسليم ومن جاورهم من أهل البادية في شرق المدينة، وفي شمالها الشرقي، وحاول استقطاب طيء للانضمام إليه، عن طريق الحلف الذي كان بينهم، وبين بني أسد، في الجاهلية، فتعجل أقوام من جديلة والغوث، وهما من طيء بالانضمام إليه، وأوصوا من تأخر باللحاق بهم1، وفعلًا، وحدتهم العصبية القبلية، وتقبلوا رأي عيينة بن حصن "نبي من الحليفين أحب إلينا من نبي من قريش، وقد مات محمد، وطليحة حي"2، ولم تخالجهم أدنى ريبة في تعرضهم لهجمات المسلمين إن هم أصروا على خروجهم على سلطان المدينة، ومتابعة طليحة، وامتنعوا عن دفع الزكاة3. واشتد ساعد طليحة بما انضم إليه حتى ظن أنه لن يغلب، ونقل معسكره من سميراء إلى بزاخة، الأكثر مناعة، استعدادًا لمواجهة محتملة مع المسلمين. وأمر أبو بكر خالدًا أن يبدأ بطيء قبل أن يتوجه إلى البزاخة، وحتى يموه على الحملة تصرف على محورين: الأول: أذاع أنه خارج بنفسه على رأس الجيش إلى خيبر4 حتى ينضم إلى قوات خالد، ثم ينطلق لمحاربة المرتدين، فابتعد بذلك عن طريق البزاخة، فاطمأنت طيء، وتقاعست عن الخروج لمساعدة طليحة، ففصل بذلك بين الحليفين، ليضرب كلًا على حدة. الثاني: حاول أن يستقطب طينًا عن طريق عدي بن حاتم الطائي، وهو أحد الأشخاص الذين ثبتوا على إسلامهم، فكلفه بمهمة إخراج قومه من التحالف مع طليحة، والعودة بهم إلى طاعة المدينة، ونجح عدي في مهمته، لكن كان على طيء أن تسحب قواتها الموجودة في معسكر طليحة خشية أن يقتلهم أو يرتهنهم، فطلبوا من عدي أن يكف خالدًا عنهم حتى يستخرجوهم5. استحسن خالد هذا العرض، وأمهلهم ثلاثة أيام، مدركًا في الوقت نفسه أن من شأن ذلك أن يكسبه قوة إضافية، ويضعف من قوة خصمة، وطلب القوم من إخوانهم

_ 1 الطبري: ج3 ص253. 2 المصدر نفسه: ص257. 3 المصدر نفسه: 258. 4 خيبر: ناصية على ثمانية برد من المدينة لمن يريد الشام، وهي ولاية تشتمل على سبعة حصون، ومزارع ونخل كثير، الحموي: ج2 ص409- 411. 5 الطبري: ج3 ص253.

في البزاخة أن يعودوا إلى منازلهم ليساعدوهم في التصدي لزحف المسلمين، وسمح لهم طليحة بالعودة، فانضم بذلك خمسمائة مقاتل من الغوث إلى صفوف المسلمين1. ارتحل خالد بعد ذلك إلى الأنسر2 يريد جديلة، فتدخل عدي بن حاتم أيضًا، وأقنع الجديليين بالعودة إلى حظيرة الإسلام، ويبدو أن انضمام الغوث إلى المسلمين، شكل دافعًا لهؤلاء لتغيير موقفهم، وانضم خمسمائة مقاتل منهم إلى صفوف خالد، فأضحى عدد جنوده خمسة آلاف3، كما انضمت سليم إلى صفوف المسلمين، وكانت لا تزال مترددة إلى أن زحف خالد نحو بني أسد، فخشيت على نفسها. والواقع أن بعض القبائل التي صنفها المؤرخون في عداد المرتدين، مثل طيء، كانت في الحقيقة ضحية مزيج من عدة مشاعر تفاعلت في أبنائها نتيجة عدم تجذر العقيدة الإسلامية في قلوبهم، بالإضافة إلى وقوعهم تحت تأثير التقاليد الجاهلية وأفكارها، ثم ارتباطهم بروابط الأحلاف، وحسن الجوار مع قبائل أخرى، هذا فضلًا عما رأوه في بعض أحكام الإسلام من تضييق على حريتهم، وانتقاص من سطوتهم، وتحملهم أعباء هم في غنى عنها4، ومثل هؤلاء، كانوا بحاجة إلى مزيد من الإقناع، والموعظة الحسنة، والتعريف بأحكام الإسلام وأهدافه، ويتعذر تحقيق ذلك في بضع سنين. ومهما يكن من أمر، فقد بلغت أنباء التحولات الجديدة طليحة في البزاخة، فاغتم، لكنه أصر على موقفه، وشجعه عيينة بن حصن الفزاري الذي كان يكن الحقد على أبي بكر والمسلمين. ويبدو أن طليحة، على الرغم من أنه اتصف بالشجاعة والحذر، لم يستطع مخالفة عيينة بعد أن انسحبت جموع طيء من صفوفه، خيشية من انقلابه عليه، وتعريض حياته للخطر، وآثر البقاء حيث هو منتظرًا قدوم خالد، وعسكر على ماء آخر يقال له الغمر5. وبث طليحة العيون على فجاج الصحراء حتى لا يؤخذ على غرة، وعلم منهم بزحف المسلمين قبل أن يصلوا إلى بزاخة، فعبأ قواته استعدادًا للمواجهة، ووضع

_ 1 الطبري: ج3 ص253، 254. 2 الأنسر: ماء لطيء دون الرمل قرب الجبلين أجأ وسلمى، الحموي: ج1 ص256. 3 الطبري: ج3 ص253. 4 عاشور، سعيد عبد الفتاح: بحوث في تاريخ الإسلام وحضارته ص106. 5 الغمر: ماء من مياه بني أسد، الحموي: ج4 ص212.

خطة عسكرية قائمة على الغلبة، والفرار في حال الهزيمة، فعزل معظم النساء في مكان أمين؛ لئلا يقعن في السبي إذا دارت الدائرة عليه، وأحاط نفسه بأربعين فارسًا من أشد فتيان بن أسد. تميز جيش طليحة بميزتين هما الكثرة العددية، والراحة فقد زاد عدد أفراد جيشه عن عدد أفراد جيش خالد بألف مقاتل، أو أكثر مع وفرة السلام والركائب، كما كان مرتاحًا في دياره، على عكس الجيش الإسلامي الذي كان على أفراده أن يقاتلوا بعد سير مئات الأميال في الأودية والجيال1، وشغلت نجد كلها بهذه المعركة التي أضحت على الأبواب. التفت قيس، وبنو أسد حول طليحة، واستعدوا للقتال، فأشارت جماعة من طيء على خالد أن يحارب قيسًا، ويعدل عن بني أسد، وذلك لحلف كان بينهم في الجاهلية كما أشرنا، وإن دل هذا الطلب على شيء، فإنه يدل على أن القوم لا زالوا يفكرون بالعصبية الجاهلية، وينظرون بالعين القبلية، وأن الإسلام لم يتجذر في قلوبهم، وأن عودة طيء عن ردتها كانت بدافع الواقع السياسي والعسكري. عارض عدي بن حاتم هذا التوجه، وكان خالد حريصًا على ألا يسمح لأي انشقاق يحصل داخل صفوف قواته، فهو بحاجة إلى كل مقاتل، نظرًا لشدة بأس عدوه الذي يحارب على أرضه، فأقنع عديًا بمجاراة قومه، وهكذا قاتلت طيء قيسًا، وقاتل سائر المسلمين سائر بني أسد2. والتحم الجيشان في رحى معركة ضاربة انتهت بانتصار المسلمين، وانفض الفزاريون عن طليحة بعد أن اكتشفوا أنه كاذب، فطاردهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم، وكان عيينة من بين الأسرى، ولاذ طليحة بالفرار حتى النقع من منازل كلب على تخوم بلاد الشام، وقتل من جيشه خلق كثير، وعاد من بقي عن ردته3. وعندما علم طليحة بتحول كفة الصراع إلى جانب المسلمين، وبلغه ما لقيت أسد، وغطفان من الشدة، وعودة من ارتد منهم إلى الإسلام، أسلم وحسن إسلامه بعد ذلك، واشترك في معركة القادسية، وحفظ له عمر مكانته، ورأيه في الحرب، فكتب إلى النعمان بن مقرن، أحد قادة جيوش فتح العراق، "أن استعن في حربك بطليحة، وبعمرو بن معدي كرب"، ولقد استشهد في معركة نهاوند4.

_ 1 العقاد: ص85. 2 الطبري: ج3 ص255. 3 المصدر نفسه: ص255- 257. 4 المصدر نفسه: ص261، ونهاوند مدينة عظيمة قبلة همذان بينهما ثلاثة أيام. الحموي: ج5 ص313.

ذيول معركة البزاخة: - استثمر خالد انتصاره في البزاخة لإخضاع القبائل المرتدة الضاربة في الجزء الشمالي الشرقي من الجزيرة العربية، ودفعها للعودة إلى حظيرة الإسلام، وتثبيت أقدام المسلمين في هذا الجزء، لذلك أقام في المنطقة مدة شهر كامل نفذ خلاله عدة عمليات عسكرية ضد فلول المرتدين، وهكذا عاد بنو عامر، وسليم وهوازن من ردتهم1. - طلب خالد من غطفان وهوازن، وسليم وطيء، حين وادعهم، تسليمه الذين قتلوا المسلمين، ومثلوا بهم أثناء ردتهم، فلما جيء بهم عفا عن المقاتلين العاديين، وأرسل الزعماء إلى المدينة، كان من بينهم قرة بن هبيرة القشيري صاحب ردة بني عامر، وعيينة بن حصن الفزاري، وقتل الذين عدوا على المسلمين، وكتب إلى أبي بكر يعلمه بتصرفه هذا2. - وافق أبو بكر على تصرفات خالد، وشجعه على الاستمرار في محاربة المرتدين ومطاردتهم، ورأى أن يتألف زعماء القبائل؛ لأن حركة الانتفاضة على الحكم الإسلامي في الجزيرة العربية كانت لا تزال في بدايتها، والمسلمون بحاجة إلى تأليف قلوب هؤلاء ليكونوا عونًا لهم في هذه المحنة، فعفا عن قرة وعيينة وعلقمة بن علاثة الكلبي، وقتل الفجاءة، وهو بجير بن عبد الله السلمي، نتيجة ما اقترفت يداه من العدوان، والقتل بحق المسلمين3. - اصطدم خالد بسلمى بنت مالك الفزارية المعروفة بـ"أم زمل"، وقد خرجت لتصيب ثأرًا عند المسلمين4، وساندتها بعض القبائل المرتدة، وأسفر اللقاء عن انتصار المسلمين، ومقتل أم زمل وفرار أتباعها5.

_ 1 الطبري: ج3 ص262. 2 المصدر نفسه: ص263. 3 المصدر نفسه: ص259، 260، ابن أعثم: ج1 ص22، 23، البلاذري: ص107. 4 لقد قتلت والدتها أم قرفة في عهد النبي على يد زيد بن حارثة حين اجتاح بن فزارة. 5 الطبري: ج3 ص263، 264.

ملابسات حوادث بني تميم

ملابسات حوادث بني تميم: أوضاع بني تميم: انقسم بنو تميم على أنفسهم بعد وفاة النبي نتيجة عاملين: ديني يتعلق بامتناع فئة من التميميين عن دفع الزكاة، وسياسي يتعلق بظهور مدعبة النبوة سجاح، والأثر الذي تركته على أوضاع القبلية من واقع محاولة مالك بن نويرة استغلالها لصالحه ضد خصومه في القبيلة. ففي ما يتعلق بالعامل الأول، فقد كان رد فعل الذين كلفهم النبي بجمع الزكاة، أي العمال؛ رد غير المستيقن من خبر وفاة النبي، ويتم إثبات الشكوك والمؤامرات التي صدرت عن ولاة الأمور المتنافسين في ما رواه الطبري: "فكان الزبرقان بن بدر على الرباب وعوف والأبناء، وقيس بن عاصم على مقاعس والبطون، وصفوان بن صفوان، وسبرة بن عمرو علي بني عمرو، وهذا على بهدى، وهذا على خضم، ووكيع بن مالك ومالك بن نويرة على بني حنظلة، هذا على بني مالك، وهذا على بني يربوع، فضرب صفوان إلى أبي بكر حين وقع إليه الخبر بموت النبي صلى الله عليه وسلم بصدقات بني عمرو، وما ولي منها وبما ولي سبرة، وأقام سبرة في قومه لحدث إن ناب القوم، وقد أطرق قيس ينظر ما الزبرقان صانع، وكان الزبرقان متعبًا عليه، وقلما جادله إلا مزقه الزبرقان بخطوته وجده، وقد قال قيس وهو ينتظر: لينظر ما يصنع ليخالفه حين أبطأ عليه: وا ويلنا من ابن العكلية! والله لقد مزقني فما أدري ما أصنع! لئن أنا تابعت أبا بكر، وأتيته بالصدقة لينحرنها في بني سعد فليسودني فيهم، ولئن نحرتها في بني سعد ليأتين أبا بكر فليسودني عنه، فعزم قيس على قسمها في المقاعس والبطون، ففعل، وعزم الزبرقان على الوفاء، فاتبع صفوان بصدقات الرباب وعوف الأبناء حتى قدم بها المدينة ... وتحلل الأحياء ونشب الشر وتشاغلوا، وشغل بعضهم بعضًا، ثم ندم قيس بعد ذلك"1. من غير المجدي أن نحدد من كان يؤدي الزكاة ومن كان يمنعها، إلا أنه من الثابت أن بعض زعماء بني تميم كانوا مترددين، وأرادوا التربص والانتظار ليروا مدى ثبات أبي بكر في وجه المشكلات التي كان يواجهها، أما الاستثناء الوحيد فقد شكله مالك بن نويرة الذي ظل على رفضه أداء الأموال حتى وصول خالد، فانكشف أمام المسلمين من وجهين، وهنا يتداخل العاملان الديني والسياسي، إذ كان قد انضم إلى سجاح، وأنه امتنع عن إرسال الزكاة إلى المدينة، ويعد هذا التصرف منه أحد مظاهر الاحتجاج على موقفه من خلافة أبي بكر، كما أن علاقته بسجاح تشجع على هذا الاعتقاد، على الرغم من أنه رفض عرضها للتحالف ضد المدينة، وكفها عن

_ 1 تاريخ الرسل والملوك: ج3 ص267، 268.

مهاجمتها، غير أن هذا الموقف لم يعفه من دفع الثمن باهظًا من دون الالتفات إلى العوامل التي قد تسقط العقاب، أو بعضًا منه تجاه الجماعات الأخرى، وبخاصة أن هؤلاء كانوا أقرب إلى الاحتجاج في موقفهم منه إلى الثورة، أو الارتداد1. زحف خالد باتجاه بطاح بني تميم: بعد أن انتهى خالد من القضاء على حركة الردة في الشمال الشرقي للجزيرة العربية، سار إلى بطاح بني تميم في شهر "شعبان 11هـ/ تشرين الأول 632م"، ولا تتحدث المصادر عن اشتباكات كبيرة، لكن الحملة انتهت بقتل مالك بن نويرة التي أثارت حفيظة بعض المسلمين، وعرضت خالدًا للنقد الغليظ. والواقع أن خالدًا استغل ما حصل في بني تميم من الانقسام لإخضاع التميميين، ويفعل أنه خرج من المدينة لإخضاع المرتدين، والقضاء على ثورات القبائل، ولم تكن معركة البزاخة سوى الخطوة الأولى، ولا يجوز الوقوف عندها، ثم إنه لم يشأ أن يتمسك بسياسته، وقيادة جيشه عند حرفية النص، في حال وجوده، وبخاصة أن الاتصالات مع المدينة كانت بطيئة نظرًا لطبيعة المواصلات في البادية مما يضيع عليه كثيرًا من الفرص، ثم إن إخضاع التميميين من شأنه أن يطهر المنطقة من وجود المرتدين، وبالتالي يحمي مؤخرة جيشه من خطر الاعتداء عليها، ويعطيه فرصة للتفرغ لأهل اليمامة، وهو مطمئن؛ لذلك، قرر الزحف نحو بطاح بني تميم لإخضاع المرتدين. وتتباين روايات المصادر حول هذه المبادرة، أكانت شخصية محضة اتخذها خالد من واقع مهمته بإخضاعه المرتدين، أم بتوجيه من الخليفة2، ويجد الباحث نفسه أمام ثلاثة احتمالات: الأول: إذا كان ثمة مجرد أمر شامل موجه إلى خالد، فهذا يمكن أن يعني أن الأنصار الذي اعترضوا على زحف خالد باتجاه البطاح لم يكونوا على علم بوضع بني تميم، وكان خالدًا خليقًا عندئذ أن يكون مكلفًا أن يسير بالجيش إلى مضاربهم، ويقرر ما سوف يفعله، فيعاقب المرتدين، ويدعو سائر السكان إلى الإسلام. الثاني: أن الأنصار بلغهم رفض أداء الزكاة من قبل بعض فروع بني تميم، وأن الخليفة أرسل خالدًا ليذكر المتلكئين في تأدية واجبهم. الثالث: أنه إذا لم يكن هناك أمر شامل موجه ضد بني تميم، ولا أمر خاص موجه ضد مالك بن نويرة، أي إذا كان خالد يريد، بدافع شخصي، أن يغير على بني تميم

_ 1 بيضون: ص29. 2 الطبري: ج3 ص253، 276، 277.

بحكم مجاورتهم لبني أسد، فسيكون من الممكن عندئذ أن نستنتج من ذلك أن الأمر لم يبلغ مدى بعيدًا في ما يتعلق بإسلام بني تميم وردتهم، وفي هذه الحالة يكون خالدًا خليقًا أن ينتهز الفرصة السانحة التي أتيحت له، ويكون لقاؤه مع مالك بن نويرة من باب الصدقة1. بين خالد ومالك بن نويرة: تختلف روايات المصادر في عرضها لقضية مالك بن نويرة، الأمر الذي يجعل الحديث عن رواية نموذجية، ينطوي على الإشكال، فقد قدم مالك على النبي فيمن قدم من أمثاله من العرب، فولاه صدقات قومه بني يربوع كما أشرنا، فلما مات النبي امتنع عن دفع الزكاة، وفرق ما في يده من إبل الصدقة، وتجاهل نصائح أقرانه في القبيلة، بعدم الإقدام على هذا التصرف2، وعندما علم بزحف خالد باتجاه البطاح، هاله الأمر، وأدرك أنه عاجز عن مواجهة المسلمين ميدانيًا، فأمر أتباعه بالتفرق، ونهاهم عن الاجتماع والمقاومة3، وتوقف عند هذا الحد، فلم يخرج للقاء خالد، وإعلان توبته وعودته إلى الإسلام، ويبدو أنه لم يكن بوسعه أن يحمل نفسه على مسيرة عدها مذلة لكبريائه. والواقع أن أحداث بني تميم، ومقتل مالك تتضمن خمسة عناصر جوهرية هي: - سوء الفهم اللغوي الذي أدى إلى القتل بطريق الخطأ. - استجواب مالك الذي انتهى بحكم الإعدام. - شهادة أبي قتادة الأنصاري التي يتم إيرادها كرواية مواكبة بأن مالكًا، وبني يربوع كانوا مسلمين. - الاختلاف في وجهات النظر بين أبي بكر وعمر. - اتهام خالد بقتل مسلم، والتزوج بامرأته. تظهر قضية سوء الفهم أو الالتباس اللغوي، في رواية سيف التي رواها الطبري4، إذ عندما وصل خالد إلى البطاح بث سراياه، وأمرهم بداعية الإسلام على أن يأتوه بكل من لم يجب، وإن امتنع أن يقتلوا تنفيذًا لوصية أبي بكر، فجاءته الخيل بمالك بن نويرة مع نفر من أصحابه من بني يربوع، فاختلف أفراد السرية فيهم.

_ 1 كلير، كلاوس: خالد وعمر، بحث نقدي في مصادر التاريخ الإسلامي المبكر ص159، 160. 2 الأصفهاني، أبو الفرج علي بن الحسين: كتاب الأغاني: ج15 ص305. 3 الطبري: ج3 ص277. 4 المصدر نفسه: ص277- 279.

فشهدت فئة منهم بأنهم أذنوا، وأقاموا وصلوا وأقروا بالزكاة، كان من بينهم أبو قتادة الأنصاري، في حين شهدت فئة أخرى بأنهم استمورا على ردتهم، فلما وقع الاختلاف، أمر خالد بسجنهم حتى الصباح ليحكم في الأمر، وكانت ليلة باردة، تزداد بردًا كلما مضى شطر من الليل، فأخذت خالد الشفقة عليهم، فأمر مناديًا "أدفئوا أسراكم"، وكان معنى العبارة في لغة كنانة القتل، ولما كان الحرس من هؤلاء قتلوهم، فقتل ضرار بن الأزور مالكًا، وسمع خالد الضجة، فخرج وقد فرغوا منهم، فقال: "إذا أراد الله أمرًا أصابه"1. هذه هي صياغة المشهد التي يبدو عليها علائم الاختلاف، وذلك أن المرء لا يستطيع في مخيم عسكري أن يدبر مجزرة لا يلاحظها القائد إلا بعد انتهائها، ولكن هذا هو هدف القصة، فهل تعمد خالد إصدار الأمر الذي يساء فهمه، ثم راح ينتظر حتى تحققت النتيجة المرجوة، وهي قتل مالك بن نويرة، والتزوج بامرأته أم تميم ابنة المنهال؟ كيف صح من قائد المسلمين أن يخاطب الحراس بلغة يعلم أنها ليست لغتهم، فيما يقصد إليه من معنى وهدف؟ وإن كان لا يعلم فلماذا لم يعتذر بهذا العذر عند الخليفة عندما عاتبه؟ الواضع أن هذه القصة لا تذكر سببًا معقولًا، ومقبولًا لقتل مالك بن نويرة، على الرغم من أنها تستشهد بأقوال فئة من أفراد السرية بأنه عاد من ردته، ونصح قومه بالاقتداء به. وإذا تأملنا في صيغة الأمر من الوجهة اللغوية، كان معناها الأساسي الدفء، أما المعنى الجانبي الذي هو القتل، فلا تسجله معاجم اللغة إلا على الهامش، وبناء على هذا نجد الصياغة في لسان العرب، دفف على الجريح أجهز عليه، وكذلك دافه مدافة، ودفافًا ودافاه وهي لغة لجهينة، معناها القتل2. وتجري رواية استجواب خالد لمالك بن نويرة للوقوف على أي الشهادتين حق، الشهادة بإسلامه، أم الشهادة بإصراره على الرده ومنع الزكاة، فعندما جاءت به السرية حاوره خالد في موقفه من الإسلام، فقال مالك: "أتقتلني وأنا مسلم أصلي إلى القبلة؟ فقال خالد: لو كنت مسلمًا لما منعت الزكاة، ولا أمرت قومك بمنعها، والله ما نلت ما في مثابتك حتى أقتلك"3، وفي رواية أنه قال: "أنا آتي الصلاة دون الزكاة.

_ 1 الطبري: ج3 ص278. 2 ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد: لسان العرب ج9 ص104- 106. 3 ابن أعثم: الفتوح ج1 ص26.

فقال له خالد: أما علمت أن الصلاة والزكاة معًا، لا تقبل واحدة دون الأخرى؟ فقال مالك: قد كان صاحبكم يقول ذلك، قال خالد: أوما تراه لك صاحبًا؟ والله لقد هممت أن أضرب عنقك، ثم تجادلا في الكلام، فقال خالد: إني قاتلك، فقال له: أو بذلك أمرك صاحبك؟ قال خالد: هذه بعد تلك، وكان عبد الله بن عمر، وأبو قتادة الأنصاري حاضرين، فكلما خالدًا في أمره، فكره كلامهما، فقال مالك: يا خالد إبعثنا إلى أبي بكر، فيكون هو الذي يحكم فينا، فقال خالد: لا أقالني الله إن أقلتك، وتقدم إلى ضرار بن الأزور بضرب عنقه"1. قد تكون هذه الرواية أقرب إلى القبول؛ لأنها تذكر سبب ردة مالك بن نويرة، ومن اتبعه من قومه، وهي امتناعه عن دفع الزكاة لأبي بكر، كما أن كلامه بحق النبي لا يصدر عن شخص مخلص في إسلامه، ألا يرى مالك أن النبي سد له وصاحب؟ ومع ذلك فقد تضمن الاستجواب إشارتين إلى إسلام مالك، وهما القول بأنه على استعداد لإقامة الصلاة، وقوله لخالد: "أتقتلني وأنا مسلم أصلي إلى القبلة" غير أنه رفض دفع الزكاة، وهنا يوصف بأنه مرتد معاند، وأن تصريحاته الاستفزازية لم تدع مجالًا لخاير آخر سوى القتل، ومن هنا أيضًا استقى خالد حجته عليه بعد أن كشف نواياه التي لا تخرج من قلب سليم الإيمان، ومع ذلك فإن خالدًا لم يتسرع في إصدار الحكم عليه، وجادله عليه يتمكن من إقناعه بالعودة عن ردته، إلا أنه أصر على موقفه، فلم يبق في نفس خالد بعد ذلك موضع للشك في ردته، فعقد العزم على قتله، ورفض أن يرسله إلى أبي بكر كما أرسل غيره، أمثال قرة بن هبيرة والفجاءة السلمي وغيرهما، ولم يكن مالك بأقل قدرا منهم، إلا أنه كان أعظم إثمًا2، وأستبعد أن يكون أصدقاء خالد اختلقوا حديثًا متقن الحبكة يضع عنه الوزر؛ لأن مالكًا إذا كان مطلعًا على الإسلام هذا الاطلاع الحسن، والذي يمكنه من مناقشة خالد في دقائقه، فمعنى ذلك أنه كان مسلمًا3، والراجح أنه لم يكن مسملًا وقت قتله على الأقل. وتصب شهادة أبي قتادة الأنصاري في مصلحة مالك، إذ أنكر على خالد فعله، فظن ما حدث حيلة من حيله، فذهب إليه، وقال: "هذا عملك، فزبره خالد، فغضب، ومضى حتى أتى أبا بكر"، فأثار القضية أمامه4، والراجح أن إقحام اسم أبي قتادة هو

_ 1 ابن خلكان، أبو العباس أحمد: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان ج6 ص13، 14. 2 عرجون، إبراهيم صادق: خالد بن الوليد ص169، 170. 3 كلير: ص178. 4 الطبري: ج3 ص278.

من نوع التمويه والتضليل، وأن يكون هذا الرجل بخاصة هو الذي يدلي بالشهادة ضد خالد، فأمر يستحق النظر؛ لأنه هو نفسه كان قد عارض خالدًا في أمر بني جذيمة، وانتقده انتقادًا كبيرًا1، أو كان للحادث في نفسه صورة أخرى، فهم منها أبو بكر ما أملى عليه قوله في رده على عمر "تأول فأخطأ". يضاف إلى ذلك، فقد شاهد عشرات من الصحابة ما شاهد أبو قتادة، ولم يتصرفوا مثله، أما عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي حضر الجلسة، فعلى الرغم من أنه خالف خالدًا، وعبر عن رأيه في هذه القضية إلا أنه لم يخرج على قائده، وهذا من فقه ابن عمر؛ لأنه علم أن خالدًا، ومن معه من الصحابة الذين وافقوه على قتل مالك لا يصدرون أحكامهم عن هوى، وأنهم إن أخطأوا فقد تأولوا2. تتحدث بعض روايات التاريخ الإسلامي عن اختلاف في وجهات النظر بين أبي بكر، وعمر في هذه القضية، فتجري إحداها أنه لما بلغ خبر مقتل مالك، وأصحابه عمرًا، قال: "إن في سيف خالد رهقًا3، فإن لم يكن هذا حقًا، حق عليه أن تقيده، وأكثر عليه في ذلك"، فأجابه أبو بكر: "هيه يا عمر، تأول فأخطأ، فارفع لسانك عن خالد"، وأضاف: "لم أكن لأشيم سيفًا سله الله على الكافرين"، وودى مالكًا وكتب إلى خالد أن يقدم عليه، ففعل4. وثمة مشهد حدث في المسجد يلخص حكاية جرت في المدينة حيث يظهر خالد عند أبي بكر قادمًا من أرض بني تميم، فيدخل المدينة مصحوبًا بكل علائم الحرب، ويلتقي عمر في مسجد النبي، فيذله ويرميه بتهمه يلقي بها في وجهه: "قتلت امرأ مسلمًا ثم نزوت على امرأته، والله لأرجمنك بأحجارك"، فلم يكلمه خالد، ومضى في اضطراب بالغ إلى أبي بكر، وهو يظن أن رأيه مثل رأي عمر. وجرى حوار بين الرجلين اعتذر في نهايته خالد أمام أبي بكر، فعذره وتجاوز عنه، لكنه عنفه في التزويج الذي كانت العرب تجمع على كراهته أيام الحرب، وأمره أن يفارق امرأة مالك، فخرج خالد وعمر جالس في المسجد، فقال: هلم إلي يا ابن أم شملة، فعرف عمر أن أبا بكر قد رضي عنه فلم يكلمه، ودخل بيته"5. الواضح أن هذه الرواية قد استغلت من واقع توجيهها دون مراعاة لحرمة

_ 1 الواقدي: مغازي ص877، تحقيق مارسدن جونز لندن 1966. 2 عرجون: ص169، 170. 3 الرهق: النزوع إلى العنف. 4 الطبري: ج3 ص278، 279. 5 المصدر نفسه: ص280.

أصحاب رسول الله: فتصور خالدًا في صورة تجافيها المروءة، وينكرها الدين، وتشمئز منها الرجولة، ولا يرضى عنها عامة الناس، وتحشر رجلًا هو ثالث ثلاثة، فنجعل منه محورًا تدور عليه فصولها، وذلك هو عمر بن الخطاب، وهي تحمل في طياتها عوامل الشك فيها، منها: - أنها تصور خلافًا حادًا في الرأي بين أبي بكر، وعمر في تقييم ما صنع خالد، وهو خلاف غريب في حادث يمس حدًا من حدود الله، وإذا لم يكن الاتفاق ضروريًا بين المجتهدين، فليس هذا الحادث من مواضع اختلاف المجتهدين؛ لأنه اختلاف في تكييف الحادث لا في فهم النص، وتطبيقه،1 بالإضافة إلى ماهية السياسة التي يجب أن تتبع في هذا الموقف الدقيق من حياة المسلمين تجاه المرتدين، وقيام الثورة في أنحاء الجزيرة العربية2. - لا يمكن الوصول إلى دلالة "ابن أم شملة"، التي هتف بها خالد في وجه عمر أثناء خروجه من عند أبي بكر، لكن مما لا شك فيه أن خالدًا لم يكن يكنى بذلك عن والدة عمر، ولكن مجرد المخاطبة بلقب ابن امرأة ينطوي وحده على إهانة بالغة، وهذا بعيد عن سلوك الصحابة. - لم تذكر هذه الرواية لأحد من أصحاب رسول الله رأيًا في هذه القضية سوى أبي بكر وعمر، ولا سيما أنها تتعلق بتصرف أكبر قادة المسلمين الذي إذا صح ما نسب إلى عمر في إتهامه لخالد، لكان جزاء هذا القائد في الشريعة الإسلامية القتل، ولا يحق للخليفة تعطيل أحكام الدين، أما بقاء المتهم في مقامه في صدارة الدولة، فهذا يتناقض مع ما عرف عن الصحابة من شدة البحث عن الحقيقة3، فهل اقتدى أبو بكر بالنبي عندما لم يضع نهاية لتقدير خالد عن تصرفه مع بني جذيمة، ولم يقم الحد عليه، والمعروف أن الحادثين متشابهتان في حيثياتهما من حيث الالتباس في إسلام القوم من وجهة نظر فئة من المسلمين، والتأكيد على عدم إسلامهم في نظر خالد على الأقل، وهو أمير السرية آنذاك وإليه يعود تقدير الأمور4. - عندما تولى عمر بن الخطاب الخلافة بعد أبي بكر، وكان رجلًا قوامًا على حدود الله، جريئًا في الحق، وكان خالدًا يومئذ أميرًا على عامة جيوش المسلمين في

_ 1 عرجون: ص164. 2 هيكل: ص161، 162. 3 عرجون: ص163، 164. 4 انظر: الطبري: ج3 ص66- 69، وقارن بالبلاذري: أنساب الأشراف ج1 ص489، 490.

بلاد الشام، فلم يرجمه بأحجاره كما توعده، ولم يقتله قصاصًا بمالك وأصحابه، أما عزله عن الإمارة، فلم تكن قضية مالك بن نويرة سببًا من أسبابها على وجه اليقين1. وتتباين المصادر أيضا في وضع أرملة مالك بن نويرة، ويمكن أن نطرح عدة أسئلة تتعلق به مثل: هل تزوج خالد أم تميم امرأة مالك أم اتخذها محظية فحسب؟ وهل عاشرها فورًا، أم بعد انتهاء عدتها، وكيف تطورت العلاقة بينهما بعد ذلك؟ يروي الطبري: "وتزوج خالد أم تميم ابنة المنهال، وتركها لينقضي طهرها، وكانت العرب تكره النساء في الحرب، وتعايره"2، وثمة رواية أخرى: "وقبض خالد امرأته "امرأة مالك"، فقيل: اشتراها من الفيء وتزوج بها، وقيل: إنها اعتدت بثلاث حيض ثم خطبها إلى نفسه، فأجابته"، فطلب من ابن عمر، وأبي قتادة أن يحضرا النكاح فأبيا3، وتجري رواية ثالثة على لسان عمر أثناء قدوم خالد للاجتماع بأبي بكر: "قتلت امرأ مسلمًا، ثم نزوت على امرأته"، وكأنه يتهمه بالزنى، ومع هذه النظرة العامة، فإن المسألة لم تحسم بعد، لكن معظم المصادر تتحدث عن زواج، على أن الوضع الشرعي يوصف بمسألة ما إذا كان يجوز له أسر زوجة مسلم، أما الزواج من أرملة، فلم يكن يحول دونه شيء إذا تم الالتزام بمدة العدة الشرعية إلا أن تكون غير مسلمة، أما معاشرة الأسيرة "الأمة"، فلم يكن يوجد تقييد لها، وكان الاستحواذ على نساء المغلوبين من قبل المنتصر ما يزال أمرًا مألوفًا، وعلى هذا لا يتوافر التصرف الجرمي إلا إذا كان مالك، وأم تميم مسلمين، وعند ذلك فإن عملية الزواج تكون متفرعة من أصل عملية القتل، فإن كان قتل مالك حلالًا، فلا شيء على خالد، وإن كان قتله حرامًا، فجرم القتل أعظم من جرم الزواج، وجرم قتل الجماعة أخطر من جرم قتل الفرد الواحد, ومن المستبعد أن يضع خالد نفسه في موقف دقيق من الوجهة الشرعية، والراجح أن تكون الروايات عن زواج مع الإشارات المؤيدة لها إلى انتظار مدة الطهر، إنما تم إيرادها لتدعيم وضع مالك من حيث كونه مسلمًا4. والخلاصة أن سلسلة من الحقائق يمكن وضعها في مواضعها المحكمة من العملية التاريخية، إذ تواجه المرء أكثر من رواية لا تنسجم بالضررة مع الصورة العامة للردة، فإذا كان خالد قد اقترف ظلمًا عندما قتل مالكًا بن نويرة، فماذا يبقى إذن بعد ردة بني تميم؟ أتراهم بالفعل كانوا مسلمين جميعًا؟ وهل كان من الممكن

_ 1 عرجون: ص164، 165. 2 تاريخ الرسل والمملوك: ص66- 69. 3 المصدر نفسه: ص278، وابن خلكان: ج6 ص14. 4 كلير: ص181.

القضاء على التذبذب لدى زعماء القبائل الذين تتحدث عنهم أكثر المصادر مودة بلغة تهديد بالغة الضآلة من قبل المدينة؟ وهل كان تجلد أبي بكر، وثباته يكفيان لإدماج قبيلة تميم الكبرى من جديد في المجتمع الإسلامي؟ إنها أسئلة لا يمكن الإجابة عليها بسهولة عندما يفكر المرء في حال المصادر، ذلك؛ لأن هدف المؤرخين كان يتمثل على ما يبدو في خفض حجم ردة بني تميم إلى مستوى شخص مالك، بل تقديمه في صورة المسلم الذي يساء تقدير إسلامه1.

_ 1 كلير: ص178، 179.

القضاء على ردة بني حنيفة

القضاء على ردة بني حنيفة: الزحف نحو اليمامة: عاد خالد من المدينة إلى البطاح بعد أن كلفه أبو بكر بقتال مسيلمة في اليمامة، وزوده بقوة عسكرية إضافية ضمت جماعة من المهاجرين، وممن شهد بدرًا والقراء، فبلغ عديد جيشه، ما بين عشرة آلاف إلى اثني عشر ألف مقاتل، كما زوده بتعليمات سياسية، وعسكرية محددة تنم عن وعي كامل لرجل دولة يواجه تحديات كبرى1. والواقع أن المسلمين لم يواجهوا أي قتال ضار خلال القضاء على المرتدين قبل اليمامة، حيث كانت القبائل التي هاجمت المدينة عقب وفاة النبي، وبيعة أبي بكر، لا يدعي أحد من أفرادها النبوة، ولا تطمع في شيء إلا أن تعفى من الزكاة، وتضاءلت قوة طليحة بعد انقضاض القبائل عنه، ولم تكن أم زمل بقادرة على خوض معركة ناجحة بمن اجتمع حولها من فلول تلك القبائل، وكان بنو تميم على خلاف داخلي، في الوقت الذي وهنت سجاح من قوة مالك بن نويرة، فمل يكن بينه، وبين خالد قتال. أما الوضع في اليمامة، فكان مختلفًا، فقد أنكر بنو حنيفة نبوة محمد، ووضعوا أنفسهم بمصاف قريش، فلها نبي ورسول ولهم نبي ورسول، كما كان لهم مكانة بين العرب تضارع مكانة قريش، وفيهم من الجند الشجعان أضعاف جند قريش، وهم إلى ذلك كتلة متراصة لا يفت في عضدهم خلاف، ولا يضعضع من عزمهم تنافس، وليس بينهم تفاوت في العقيدة والجنس، فكانوا أولي بأس شديد، كما انتصروا على جيشين إسلاميين أرسلهما أبو بكر لإخضاعهم، الأول بقيادة عكرمة بن أبي جهل، والثاني بقيادة شرحبيل بن حسنة2.

_ 1 انظر: ابن أعثم، ج1 ص28، 29. 2 الطبري: ج3 ص281.

وصل خالد إلى أراضي بني حنيفة، وبعد أن درس الوضع الميداني وضع خطة عسكرية من شقين: الأول: إرباك العدو وإضعافه، وتوهين عزائمه، فيما يسمى في عصرنا بالحرب النفسية، وذلك عن طريق الإنذار والتهديد. الثاني: الاصطدام المسلح به. ففي ما يتعلق بالشق الأول، فقد حاول استقطاب بعض أشراف بن حنيفة، والطلب منهم التأثير على أتباع مسيلمة، وسلخهم من جيشه، عن طريق الترهيب والترغيب، لكن محاولته فشلت في دق إسفين بين بني حنيفة، ومسيلمة، وعلى الرغم من الجهود التي بذلها1، فقد جاءت نتائجها الإيجابية محدودة جدًا، وظل بنو حنيفة متكتلين حول مسيلمة، وقد نظروا إلى هذا الصراع من زاوية قبلية محضة. وفي ما يتعلق بالشق الثاني، فقد توغل في أراضي بني حنيفة، وهو على تعبئة، استعدادًا للقاء المرتقب مع مسيلمة، وكان هذا الأخير قد عسكر بعقرباء في طرف اليمامة عندما علم بزحف المسلمين جاعلًا ريف اليمامة، وحصونها وراء ظهره، وعبأ جنوده البالغ عددهم أربعين ألفًا استعدادًا للمواجهة، وعسكر خالد في مواجهته، وتأهب الجمعان لخوض أشرس معركة سمع بها العرب حتى ذلك الحين، يعلق كل طرف مصيره بمصير ذلك اليوم، ولم يبالغ أي منهما في تقدير هذا الأمر، فيوم اليمامة من الأيام الحاسمة في التاريخ المبكر للإسلام، وفي تاريخ العرب. معركة عقرباء: ابتدأت المعركة بمبارزات فردية قبل أن يلتحم الجمعان في عدة جولات، وتعرض المسلمون في بداية المعركة لضغط قتالي شديد مما اضطر خالدًا إلى تعديل خطته العسكرية، فأجرى تغيرات جذرية في وضع الجيش من خلال تمييز المقاتلين حسب قبائلهم2, ويقصد به أن تمتاز كل فرقة عن أختها، أي تفترق عنها وتقاتل منفردة، وقد هدف من وراء هذا التعديل أن: - يعرف بلاء كل فرقة على حدة. - يعرف المسلمون من أبلى بلاء حسنًا، ومن صمد منهم في المعركة، ومن ضعف وانهزم. - إثارة التنافس بين المسلمين للقتال حتى أقصى مداه.

_ 1 ابن أعثم: ج1 ص29- 31. 2 الطبري: ج3 ص293.

وفعلًا، فقد أثارت هذه التغييرات القوة العصبية، والحمية الدينية لدى المقاتلين المسلمين، فاشتد التنافس بينهم، وبلغت الحماسة الدينية الأوج، فكل فرقة تقاتل تحت رايتها، وتود أن تنال النصر وشرف الغلبة، فيندفع جنودها إلى الموت1. استمر القتال في الجولة الأخيرة عدة ساعات، كثر فيها عدد القتلى من الجانبين، وثبت بنو حنيفة لوقع السيوف، ولم يحفلوا بكثرة من قتل منهم، فأدرك خالد عندئذ أن الحرب لا تخف وطأتها ما بقي مسيلمة بين بني حنيفة، وأن العدو لا ينهزم إلا إذا قتل، ولن تنتهي بالمعركة إلا بموته، لذلك شدد ضغطه القتالي، فاضطر مسيلمة إلى التراجع، ودخل حديقته مع عدد كبير من أتباعه، وأغلق بابها لتخفيف الضغط، حاصر المسلمون الحديقة، واقتحموها وجرى بداخلها قتال ضار، ولاحت لوحشي، مولى المطعم بن عدي، وقاتل حمزة في معركة أحد، وكان قد أسلم بعدها، فرصة انكشف مسيلمة خلالها أمامه، فضربه بحربته، فأصابه ووقع أرضًا، فانقض عليه سماك بن خرشة بسيفه وأجهز عليه2. شكل مقتل مسيلمة بداية النهاية لهذه المعركة الضارية، ووضع حدًا لذلك القتال الشديد، إذا تزعزعت قوة العدو وانهارت، واشتدت في المقابل قوة المسلمين، ففتكوا بجنود مسيلمة فتكًا ذريعًا لم يترك لمجاعة من مرارة الحنفي، الذي تولى القيادة بعد مقتل مسيلمة، الخيار، فأعلن استسلامه، وطلب الصلح3، تكبد بنو حنيفة واحدًا وعشرين ألف قتيل، فيحين تكبد المسلمون ألفًا ومائتي قتيل4، وتقرر الصلح على البندين التاليين: - يسلم بنو حنيفة نصف ما عندهم من الذهب، والفضة والسلاح، والخيل، وربع السبي، وحائطًا من كل قرية ومزرعة. - يعصم المسلمون دماءهم على أن يدخلوا في الإسلام5. والواقع أنه لم تعرف الجزيرة العربية في تلك العصور موقعة كان فيها ما كان في معركة عقرباء من دماء، لذلك أطلق المسلمون على حديقة مسيلمة، وهي حديقة الرحمن، اسم حديقة الموت، كما عرف هذا اليوم بيوم اليمامة6.

_ 1 الطبري: ج3 ص293، سويد: ص188. 2 الطبري: المصدر نفسه ص293-295، تاريخ خليفة بن خياط: ص57. 3 الطبري: المصدر نفسه. 4 المصدر نفسه: ص297، البلاذري: ص102. 5 المصدران نفساهما: ص297، 298، ص100. 6 الطبري: المصدر نفسه، ص294-297.

ظهور اتجاه معارض للصلح: لقي صلح خالد -مجاعة، معارضة من الجانبين الإسلامي والحنفي، فقد عارضه فريق من الأنصار بزعامة أسيد بن حضير، وأبي نائلة اللذين تمسكا بوصية أبي بكر إلى خالد عندما أرسله لقتال بني حنيفة: "إن أظفرك الله ببني حنيفة، فلا تبق عليهم"، لذلك، أشارا عليه برفض الصلح، والإجهاز على القوم، لكن خالدًا أبى الانصياع لهذه المشورة، وبخاصة أن المسلمين أنهكتهم الحرب، وأنه أبرم صلحًا مع القوم لا يجوز نقضه، فاقتنع الأنصار، وكتب خالد إلى أبي بكر بالصلح الذي أبرمه، فأجازه1. وعارض سلمة بن عمير الحنفي، وهو أحد قادة بني حنيفة، الصلح وراح يحرض قومه على القتال، لكنهم رفضوا الاستجابة له، وبخاصة أن القتال كان قد أجهدهم، وتكبدوا خسائر فادحة في الأرواح بحيث لم يبق سوى النساء والأطفال، والشيوخ، والضعفاء من الرجال2. عودة بني حنيفة إلى الإسلام: وحشر بنو حنيفة للبيعة والبراء مما كانوا فيه، وجيء بهم إلى خالد في معسكره، فبايعوا وأعلنوا توبتهم منن الردة، وعودتهم إلى الإسلام، ثم فتحت الحصون وأخرج ما فيها من السلاح، والحلقة والكراع، والذهب والفضة، فقسمه خالد على الجند وعزل الخمس، فأرسله إلى أبي بكر مع وفد من بني حنيفة تدليلًا على توبتهم، فجددوا إسلامهم أمامه3. زواج خالد من ابنة مجاعة: بعد أن اطمأن خالد إلى النصر، وأتم الصلح، وتسلم زمام الأمر؛ طلب من مجاعة أن يزوجه ابنته، فوافئق بعد تردد، وتعرض خالد للنقد من جانب الخليفة، لكنه دافع عن نفسه، وبين وجهة نظره في هذا الزواج4. إن قراءة متأنية لكتاب أبي بكر إلى قائده ورد خالد عليه، توضح لنا موقف كل منهما من هذه التطور الحدثي. ففيما يتعلق بموقئف أبي بكر، فقد عاب على خالد أنه: - فارغ النفس من الهموم، لا يشغله ما كان حريًا أن يشغل غيره من المسلمين ممن يقف في موقفه.

_ 1 ابن أعثم: ج1 ص38. 2 الطبري: ج3 ص296. 3 المصدر نفسه: ص300. 4 انظر نص كتاب الخليفة إلى قائده ورد خالد عليه في المصدر نفسه، ابن أعثم: ج1 ص39، 40.

- لم يحزن على قتلى المسلمين، ودماؤهم لم تجف بعد، ولم يصرفه هذا الحزن عن التفكير في الزواج، والتعريس بالنساء استجابة لعواطفه. - خدع عن رأيه حين صالح القوم بعد أن أمكنه الله منهم، وكان باستطاعته أن يستأصل شأفتهم، وبخاصة أنه يخطب إلى الرجل الذي خدعه1، فيرتبط معه برباط المصاهرة بعد الذي بدر منه2. وفيما يتعلق بموقف خالد: - جاء دفاع خالد عن نفسه حازمًا في لين، صريحًا في صدق، قويًا في هدوء. - إن النصر ولو مع التضحية لا يبقي في النفوس الكبيرة آثار الآلم، ولواعج الأحزان، ولقد تم للقائد السرور بالنصر المؤزر، وفرت به الدار ببسط سلطانه على أعدائه. - يؤكد خالد ما يبرر خطبته إلى هذا الرجل الذي خدعه حتى لا تندفع الأوهام الضعيفة في التظنن بالقائد الفذ، كما وقع التظنن في زواجه بامرأة مالك بن نويرة من قبل، فهو يعلن أنه قد خطب إلى رجل هو سيد قومه، فيما يمنعه من أن يجعل الخطبة إليه وسيلة من وسائل الاستقرار، وتطييب النفوس، على أن الخطبة سعت إليه دون تخطيط مسبق، ولو عمل إليها من المدينة قصدًا لها ما كان عليه في ذلك من عتاب. - أبدى خالد حزنه على قتلى المسلمين، بشكل واضح، وأن هذا الحزن كان كفيلًا أن يرد الحياة إليهم، لو كان حزن يرد الحياة إلى ميت، وكان كفيلًا أن يخلد من كان من المسلمين باقيًا، لو كان الله كتب البقاء، والخلود لأحد من الأحياء3. ولا بد أن نشير في هذا المقام إلى النتائج العامة لمعركة اليمامة الشهيرة، فقد: - أعادت الموازين إلى حجمها في الجزيرة العربية. - أنهت أسطورة مسيلمة. - أوقعت الرعب في قلوب بقية المرتدين في الجزيرة العربية، وبخاصة في تهامة التي تجمعت فيها فلول ممن انضوى تحت قيادة مسيلمة، من مدلج وخزاعة، وكنانة بقيادة جندب بن سلمى المدلجي، وراحوا يجوبون المنطقة بين صنعاء ونجران.

_ 1 إشارة إلى الخدعة التي نفذها مجاعة بعد انتهاء المعركة، لإنقاذ ما تبقى من بني حنيفة، فقد ألبس النساء والذراري، والعبيد السلاح، وعرضهم للشمس فوق الحصون موهمًا خالدًا أنها مملوءة رجالًا. انظر: البلاذري ص102، الطبري: ج3 ص296. 2 عرجون: ص201. 3 المرجع نفسه: ص202.

فأرسل إليهم عتاب بن أسيد، عامل أبي بكر على مكة، أخاه فاصطدم بهم في الأبارق وانتصر عليهم، وفر جندب من أرض المعركة"1. - أظهرت الألمعية القيادية التي اتصف بها خالد، والتي ستتجلى في حروب الفتوح. القضاء على الردة في البحرين: استمرت الردة مشتعلة في البحرين، وعمان ومهرة واليمن، وحضرموت وكندة، وهي ممالك تقع كلها على شاطء الخليجين العربي، والعماني والبحر الأحمر، وهي بعيدة عن الحجاز، وشمالي الجزيرة العربية، وتفصلها عنها صحراء الربع الخالي، وبحكم موقعها الجغرافي، كان لفارس عليها سلطان ونفوذ، وهو أكثر وضوحًا في البحرين وعمان، وقد استوطنتهما جاليات فارسية، كانت فارس تمدها بنفوذها، وتدعمها بقواتها في أوقات الشدة، وبحكم واقعها هذا لم يتجذر الإسلام في نفوس سكانها، فكانوا آخر من دان بالإسلام في عصر الرسالة، كما كانوا أول من ارتد بعد وفاة النبي، ثم سيكونون آخر من يعود إلى الإسلام بعد حروف طاحنة تختم حروف الردة. بدأ المسلمون بالبحرين؛ لأنها تجاور اليمامة، وقد استوطنتها بنو بكر بن وائل، وبنو عبد القيس من ربيعة، وأقامت جماعة من التجار الهنود، والفرس في الثغور من مصب الفرات إلى عدن، كان ملك هذه الأنحاء، المنذر بن ساوى العبدي زعيم عبد القيس، وكان نصرانيًا، لكنه اعتنق الإسلام حين دعاه العلاء بن الحضرمي مبعوث النبي إلى البحرني في السنة التاسعة للهجرة، واقتدى قومه به. وتوفي المنذر في السنة التي توفي فيها النبي، فارتد بنو بكر بزعامة الحطم بن ضبيعة، وملكوا عليهم المنذر بن النعمان بن المنذر بن سويد، وكان يسمى الغرور، وهو من سلالة المناذرة الذين حكموا الحيرة يومًا، واستمر بنو عبد القيس على إسلامهم توجيه من زعيمهم الجارود بن المعلى، وحاصر المرتدون بني عبد القيس في جواثا2، فأرسل إليهم أبو بكر قوة عسكرية بقيادة العلاء بن الحضرمي، وعسكر الطرفان في مواجهة بعضهما، وخندقا على أنفسهما، ثم جرى اشتباك بينهما أدى إلى انتصار المسلمين، وقتل الحطم في المعركة وأسر الغرور، وفر من نجا إلى جزيرة دارين3 واعتصموا

_ 1 الطبري: ج3 ص318- 320. 2 جواثا: حصن لعبد القيس بالبحرين، الحموي: ج2 ص174، 175. 3 دارين: فرضة بالبحرين يجلب إليها المسك من الهند، المصدر نفسه: ص432.

بها، فلحقهم المسلمون، وجرى بين الطرفين قتال شديد دارت الدائرة فيه على المرتدين الذين قتلوا عن آخرهم، وكتب العلاء إلى أبي بكر بخبره بما فتح الله عليه، واستقر المسلمون في البحرين1. القضاء على ردة أهل عمان، ومهرة وعك والأشعريين: كانت عمان تابعة لفارس، وعليها أمير يدعى جيفر بن عبد الله بن مالك من بني سليم، وقد أرسل إليه النبي عمرو بن العاص، فأسلم على يديه، أقام عمرو بين القوم حتى وفاة النبي حيث عاد إلى المدينة بعد أن ارتد أهل عمان، وفر جيفر إلى الجبال، ولم يرتد مع المرتدين2. تزعم ذو التاج لقيط بن مالك الأزدي حركة الارتداد، وادعى النبوة مقتديًا بغيره، وكان يعرف بالجلندي، وعندما بلغت أخبار الردة مسامع أبي بكر أرسل ثلاث فرق عسكرية إلى المنطقة، الأولى بقيادة حذيفة بن محصن الغلفاني الحميري، والثانية بقيادة عرفجة بن هرثمة البارقي الأزدي، والثالثة بقيادة عكرمة بن أبي جهل3. والتقى الطرفان في دبا، وأسفر عن انتصار المسلمين، أقام حذيفة بعمان يوطد الأمور، ويسكن الناس، وعاد عرفجة إلى المدينة، ومعه خمس الغنائم، وتوجه عكرمة غربًا إلى مهرة، فأخضع سكانها من المرتدين بقيادة المصيح، أحد بني محارب4. وارتدت قبائل عك والأشعريين بتهامة، وانضم إليهم الأوزاع، فتمركزوا في الأعلاب5، وقطعوا المواصلات بين مكة والساحل، فتعطل الأمن على الطريق المؤدي إلى اليمن6. كانت الطائفة أقرب المدن الإسلامية إلى هذا الطريق، فكتب عاملها طاهر بن أبي هالة إلى أبي بكر يشرح له الوضع المتدهور، ويستأذنه بإخضاع المرتدين، فإذن له، فاصطدم بهم في الأعلاب وهزمهم7. القضاء على الردة في اليمن: تعرض اليمن بعد وفاة النبي لانقسامات سياسية حادة نتج عنها اضطراب في

_ 1 الطبري: ج3 ص308- 311. 2 المصدر نفسه: ص314. 3 المصدر نفسه: ص314، 315. 4 المصدر نفسه: ص315، 316. 5 الأعلاب: أرض لبني عك بن عدنان بين مكة والساحل. 6 الطبري: ج3 ص320. 7 المصدر نفسه: ص320، 321.

أوضاعه، وقد تضافرت عدة عوامل، أججت الوضع الداخلي لعل أهمها عاملان: الأول: تنافس الزعامات القبلية، وتسابقها لاستعادة نفوذها السابق، متأثرة بانتشار الردة في مختلف أرجاء الجزيرة العربية. الثاني: عامل العصبية لقد أجرى أبو بكر تعديلات في السلطة في اليمن، فعين فيروزًا على صنعاء، وداذويه، وجشيشًا مساعدين له، وقيس بن هبيرة على الجند، كان الثلاثة الأوائل من الفرس في حين كان قيس عربيًا من حمير، وراودته أحلام السيطرة على كامل مخاليف اليمن، لذلك غضب من تدابير أبي بكر. والواقع أن قيسًا خشي من تصاعد نفوذ الأبناء، الذي يهدد النفوذ العربي في اليمن، فحاول استقطاب عرب اليمن جميعًا للقضاء عليهم، وبخاصة ذي القلاع الحميري1، ولعله أدرك قيمة حمير في أحداث اليمن، غير أن "ذا القلاع" لم يستجب له كما لم ينصر الأبناء، واكتفى بالرد عليه "لسنا مما ها هنا في شيء، أنت صاحبهم، وهم أصحابك"2. ويبدو أن موقف الحميريين من هذا النزاع حتمه واقع الظروف الدينية، ذلك أن الأبناء كانوا مسلمين، ويتمتعون بحماية المدينة، وكل نزاع معهم قد تكون نتائجه سلبية على الوضع العام في اليمن، وبخاصة بعد ارتداد جماعات من اليمنيين، بحيث أضحى هذا البلد معرضًا لهجمات المسلمين من الشمال مما لا سبيل لليمنيين إلى مواجهته. حاول قيس، بعد فشله في استقطاب الحميريين، إقناع أتباع الأسود العنسي، فطلب منهم أن ينضموا إليه بفعل الأهداف المشتركة، وهي العداء للأبناء وطردهم من اليمن، فاستجابوا له، وهاجمت قوى التحالف صنعاء ودخلتها، وقتلت داذويه، وتربع قيس على دست الحكم، وفر فيروز وجشيش إلى جبل خولان، ملتجئين عند أخوال الأول، وانضمت إليهما جماعات من حمير في ظل استمرار إحجام الزعماء3. وأقدم قيس على إجلاء أسر الأبناء عن اليمن، وحاز رضى أهل اليمن من مختلف القبائل، مما أثار فيروز، فاستقطب القبائل التي استمرت على إسلامها، وشكل منهم قوة عسكرية، واصطدم بقيس وأجلاه عن صنعاء، وعاد أميرًا عليها، ووافقه الخليفة على ذلك، وأمده بقوة عسكرية مساندة بقيادة طاهر بن أبي هالة4.

_ 1 الطبري: ج3 ص323. 2 المصدر نفسه. 3 المصدر نفسه: ص324، 325. 4 المصدر نفسه: ص325، 326.

والواقع أن عودة فيروز إلى الحكم، لم تحقق الأمن والسلم في ربوع اليمن، إذ استمر الثائرون على ردتهم، ويبدو أن الخصومة القديمة بين الحجاز، واليمن كانت حائلًا دون التوصل إلى تفاهم، وقاد عمرو بن معدي كرب جموع اليمنيين في حركة معادية للوجود الإسلامي، وسانده قيس، وحافظ أهل نجران على عهودهم مع المسلمين، فلم ينضووا تحت لوائه1. واجه أبو بكر هذه الثورة بحزم، فأرسل جيشين إلى اليمن أحدهما بقيادة عكرمة بن أبي جهل، والآخر بقيادة المهاجر بن أبي أمية لإخضاع اليمنيين، ويبدو أن الثائرين هالهم زحف المسلمين باتجاه بلادهم، وشعروا بعجزهم عن التصدي لهم، وبخاصة بعد أن دب الخلاف بين عمرو وقيس، وقبض الثاني على الأول وسلمه إلى المهاجر، فقبض هذا الأخير على الاثنين، وأرسلهما إلى أبي بكر الذي عفا عنهما2، ودخل المهاجر صنعاء وتعقب فلول المتمردين، وعسكر عكرمة في الجنوب بعد أن استبرأ النخع وحمير، فانتهت بذلك الردة في اليمن، وعاد هذا البلد إلى حظيرة الإسلام3. القضاء على الردة في كندة وحضرموت: كان النبي قد أمر بأن توزع بعض صدقات كندة في حضرموت، وبعض صدقات حضرموت في كندة، ويبدو أنه حدث خلاف بين سكان البلدين بشأن هذا التوزيع، والتبادل في الصدقات، وتوفي النبي في هذا الأثناء مما دفع سكان البلدين إلى الارتداد، واستجابت كندة لدعوة الأسود العنسي4. كان زياد بن لبيد البياضي الأنصاري عامل النبي على حضرموت، والمهاجر بن أبي أمية عامله على كندة، لكنه لم يتسلم منصبه حتى توفي النبي، وأناب عنه زيادًا بن لبيد، ويبدو أن هذا الوالي اشتد في جباية الصدقات، مما أثار الناس، وشكل دافعًا آخر للجنوح نحو الارتداد، ولما حاول قمع الثورة بالقوة، تعرض للهزيمة على يد الأشعث بن قيس الكندي، وتوسعت الثورة، فشملت كندة وحضرموت5. خشي الوالي من استفحال الأمر، فاستنجد بالمهاجر في صنعاء فأنجده، كما أنجده عكرمة، وانضمت قواته إلى قوات المهاجر، وهاجمتا الأشعث بمحجر الزرقان وتغلبتا عليه، وفر الأشعث من ساحة المعركة، والتجأ إلى حصن النجير،

_ 1 الطبري: ج3 ص326، 327. 2 المصدر نفسه: ص327-330. 3 المصدر نفسه. 4 المصدر نفسه: ص331. 5 المصدر نفسه: ص331، 332.

فحاصره المسلمون، وأرسل المهاجر في الوقت نفسه قوة عسكرية طهرت المنطقة حتى الساحل، أما عكرمة فقد تمركز في مأرب وفقًا لاتفاق القادة1. ويبدو أن المتحصنين في النجير أزعجهم توغل المسلمين في بلادهم، كما خشوا من عواقب إطالة الحصار، لذلك قرروا الخروج، والتصدي للمحاصرين، وهكذا حديث الصدام الذي أسفر عن انتصار المسلمين، وأسقط في يد الأشعث الذي اتصف بالتقلبات السياسية، فهو مع الجانب القوي دائمًا ليحافظ على حياته ونفوذه، فبدا له أن يسلم الحصن للمسلمين وينجو بنفسه. فذهب إلى عكرمة ليستأنس له من المهاجر على نفسه، وعلى تسعة من أتباعه، فطلب منه عكرمة أن يدون أسماءهم، فدونها، ونسى أن يدون اسمه معهم، وعندما دخل المهاجر إلى الحصن أطلق سراح التسعة، ولما لم يكن اسم الأشعث من بينهم قبض عليه، وأرسله إلى المدينة، وجرى حوار بينه وبين الخليفة، هو أقرب إلى المعاتبة، والتهديد بالقتل من جانب الخليفة، وانتهى بالعفو عن الأشعث بعد أن عاد إلى الإسلام، وأقام المهاجر وعكرمة في حضرموت، وكندة حتى استتبت الأمور تمامًا للمسلمين وتحقق الأمن، فكان ذلك آخر حروب الردة2. نتائج حروب الردة 3: انتهت حروب الردة في الجزيرة العربية، وقد شكلت حدثًا ترك آثارًا على أوضاع العرب المسلمين بعامة لعل أهمها: - شملت حروب الردة كافة أنحاء الجزيرة العربية كرقعة جغرافية، وأصابت كل شخص في المجتمع العربي حيث كان، إما مرتدًا أو ثابتًا على الإسلام، فهي إذن حروب أهلية من الصعوبة أن تمحى آثارها من ذاكرة العربي في مجتمع يقوم على الثأر، وبخاصة أن العرب كانوا حديثي عهد بالإسلام، إذ إن القتل أصاب مختلف القبائل التي ارتدت، فكان من الضروري فتح جبهات جديدة تحول اهتمام الناس عن الشأن الداخلي، فكانت الفتوح خارج نطاق الجزيرة العربية، مع الملاحظة بأن العامل الديني كان السبب الأبرز، والدافع الأول الذي دفع الجيوش العربية الإسلامية إلى الفتوح. - كانت الوحدة السياسية بعد الوحدة الدينية ضرورية لدفع العرب إلى جزيرتهم

_ 1 الطبري: ج3 ص335. 2 المصدر نفسه: ص335- 339. 3 انظر: كمال، أحمد عادل: الطريق إلى المدائن ص181- 185.

التي تعد قاعدة الفتوح، فإذا كانت هذه القاعدة مضطربة، فكيف يمكن للفتوح أن تبدأ وتنجح وتستمر، وقد أناحت حروب الردة تحقيق هذه الوحدة، وتعبئة كل طاقات العرب، وحشدها للأعمال العسكرية التي تلت. - هناك صلة بين حركة الردة والفتوح، ذلك أن حجم واتساع حروب الردة كانت أول تدريب عسكري عملاني على الأرض لكافة العرب المسلمين في الجزيرة العربية، على مستوى الجيوش الكبيرة، ابتداء من الحشد، والتعبئة العامة إلى التحركات والسير والالتحام، إلى أعمال الدوريات، والحصار والجاسوسية والتدابير اللوجستية، ويذكر أن الحروب بين العرب في الجاهلية، وحتى عصر الرسالة كانت على مستويات أقل، فكانت حروب الردة أول حرب أشعلت كل الجزيرة العربية، واشترك في معاركها عشرات الآلاف من المقاتلين، وعليه يمكن وصف هذه الحروب بمثابة جسر عبر المسلمون العرب عليه إلى خارج الجزيرة العربية بهدف الفتح. - كانت حروب الردة فرصة موآتية لبروز قيادات عسكرية اكتسبت خبرة في القتال، وتدرجت من قيادة عمليات صغيرة محدودة الإمكانات إلى قيادة عمليات على نطاق أوسع، نذكر من بين هذه القيادات: خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، وسعد بن أبي وقاص، والقعقاع بن عمرو، وأخاه عاصمًا وجرير بن عبد الله، والمثنى بن حارثة الشيباني وعدي بن حاتم، والنعمان بن مقرن وإخوته، وغيرهم كثير. - كانت حروب الردة مرحلة وسيطة من حيث الحجم بين غزوات النبي، وبين المعارك الكبرى للفتوح التي غيرت مجتمعات فارسية، وبيزنطية مثل اليرموك والقادسية وما بعدهما. - كانت حروب الردة ذات قيمة فنية لا تقدر، إنها أعطت المسلمين الثقة بالنفس، وبالنظام الذي اختاروه، وبالقدرة على الانتصار، وهي ثقة هامة وضرورية في مواجهة قوى كبرى تتمتع بقدرات مادية وكثرة عددية، هذا إلى جانب الإيمان بالهدف.

الفصل الرابع: أوضاع الدولتين الفارسية والبيزنطية عشية الفتوح الإسلامية

الفصل الرابع: أوضاع الدولتين الفارسية، والبيزنطية عشية الفتوح الإسلامية: أوضاع الدولة الفارسية 1: الوضع السياسي: يبرز أمامنا، في بداية هذا الفصل، سؤال كبير هو كيف تمكن المسلمون من تحقيق انتصارات مذهلة على الجيوش الفارسية، والبيزنطية "الرومية" النظامية، مع أنهم كانوا خارجين حديثًا من جزيرتهم، ولأول مرة، كمحاربين فاتحين لم يبلغوا من التطور ما بلغته الشعوب التي فتحوا بلادها. والواقع أن تلك الدولتين، وإن كانتا على شيء من الأبهة والعظمة، إلا أن الدولة الفارسية الساسانية2 كانت تمر بمراحل شيخوختها، والدولة البيزنطية أهملت الدفاع عن حدودها الجنوبية مع الجزيرة العربية، كما كانت تمر بمرحلة تحول إدري عسكري بعد انتصارها على الفرس، ولم تجد الوقت الكافي للانتقال إلى الوضع

_ 1 يتوجب قراءتها الدولة الإيرانية؛ لأن مفهوم كلمة بارس كما يستعملها غير الإيرانيين أوسع من مفهومها الأصلي، ويطلق سكان هذه البلاد على أنفسهم لقب الإيرانيين، ويسمون بلادهم إيران، والمعروف أن إيران التي أطلق عليها في الأفستا آيريانا هي موطن الآريين، وطبقًا لهذا فإن مفهوم هذا الاسم بعيد جدًا عن لفظ بارس؛ لأن بارس قسم من أرض إيران، ولما كانت اللغة العربية خالية من حرف "ب" استبدلوه بحرف "ف"، وعربت إلى فارس، وكانت فارس إحدى ولايات إيران العديدة، غير أنها لكونها مسقط رأس الأسرة الهخامنشية التي كانت تحكم إيران قبل الميلاد بستة قرون، والأسرة الساسانية التي حكمت إيران منذ القرن الثالث الميلادي، وقد رفعتها اسم إيران عالبًا في الشرق والغرب؛ فقد انتشر معنى هذا اللفظ الخاص، وأطلق على العام، وشمل الشعب كله، والمملكة بأسرها، وهي التي نسميها فارس، وسنستعمل هذا التعميم في هذه الدراسة فنقول مثلًا: الدولة الفارسية، الأراضي الفارسية، إلخ، انظر: الحموي: ج1 ص289، ج4 ص226، 227، براون: تاريخ الأدب في إيران ج1 ص38، 39. 2 ينتسب الساسانيون إلى ساسان، وهو من عائلة نبيلة عاش في أواخر عهد الدولة الأشكانية، وكان سادنًا على بيت نار اصطخر يقال له: بيت نار أناهيد.

الجديد واستثماره، يضاف إلى ذلك، أنها كانت في نزاع مذهبي مع سكان بلاد الشام. استغل المسلمون هذه الأوضاع القلقة ليحققوا، بفضل إيمانهم، تلك الانتصارات المذهلة، ولا بد لنا من شرح موجز لأوضاع الدولية الفارسية، وتراجع النفوذ البيزنطي في بلاد الشام، ورصد تأثير ذلك على حركة الفتوح. كان العراق، الذي غزاه المسلمون بعد حروب الردة، جزءًا من الإمبراطورية الساسانية التي أسسها أردشير بن بابك في عام 224م، وبعد أن توسع باتجاه الجنوب وسيطر على كرمان1، والخليج العربي والأهواز2، وميسان3، وتغلب على الجيش الأشكاني بقيادة أردوان، آخر الملوك الأشكانيين4، التفت نحو الشمال، وسيطر على همذان5 والجبال6، وأذربيجان7 وأرمينية8، والموصل9 واجتاز السواد10، ثم

_ 1 كرمان: إقليم واسع بين فارس ومكران، وسجستان وخراسان، الحموي: ج4 ص454. 2 الأهواز: هي خوزستان الفارسية، وهي سبع كور بين البصرة وفارس، المصدر نفسه: ج1 ص284، 285. 3 ميسان: اسم كورة، واسعة كثيرة القرى، والنخل بين البصرة وواسط، قصبتها ميسان عند مصب نهر دجلة، المصدر نفسه: ج5 ص242، 243. 4 حكمت الدولة الأشكانية مدة مائتين عام، ولا تعني بهم الأساطير الفارسية، بل تعدهم أجانب، لم يتركوا أثرًا في آداب الفرس، ولم يكشف التاريخ عن أصل هذه الدولة أكانت من أصل إيراني أم توراني، وتدل آثار حضارتها على اصطباغها بالصيغة اليونانية، ويذكر بأن الأشكانيين كانوا أعظم ملوك الطوائف الذين نبغوا في فارس بعد الإسكندر المقدوني. 5 همذان: أكبر مدينة في إقليم الجبال، الحموي: ج5 ص410. 6 الجبال: اسم علم للبلاد المعروفة، باصطلاح العجم، بالعراق، وهي ما بين أصبهان إلى زنجان، وقزوين وهمذان والدينور وقرميسين، والري وما بين ذلك. المصدر نفسه: ج2 ص99. 7 أذربيجان: بلاد واسعة حدها من برذعة شرقًا إلى أرزنجان غربًا، ويتصل حدها الشمالي ببلاد الديلم، والجبل والطرم وقصبتها تبريز، المصدر نفسه: ج1 ص128. 8 أرمينية: بلاد واسعة حدها من برذعة إلى باب الأبواب، ومن الجهة الأخرى إلى بلاد الروم وجبل القبق، ومن مدنها نفليس وشروان، المصدر نفسه: ص160. 9 الموصل: باب العراق ومفتاح خراسان، وسميت بذلك؛ لأنها وصلت بين الجزيرة والعراق أو بين دجلة، والفرات أو بين سنجار والحديثة؛ وتقع في شمالي العراق على نهر دجلة، وتقابلها من الجانب الشرقي مدينة نينوى، المصدر نفسه: ج5 ص223. 10 السواد: رستاق العراق وضياعها، وسمي بذلك لسواده بالزروع، والنخيل والأشجار؛ لأنه تاخم جزيرة العرب التي لا زرع فيها ولا شجر، فكانوا إذا خرجوا من أرضهم ظهرت لهم خضرة الزروع، والأشجار فسموه سوادًا. وحده من حديثه الموصل طولًا إلى عبادان، ومن العذيب بالقادسية إلى حلوان عرضًا، المصدر نفسه: ج3 ص272.

بسط سلطانه على المناطق الفارسية الشرقية، وتجاوز خراسان1 إلى مرو، وبلخ وخوارزم2، واتخذ المدائن عاصمة له، وأطلق على نفسه لقب شاهنشاه، أي ملك الملوك3. توفي أردشير في عام241م4 بعد أن أقام صرح الدولة على أساس وحدة الإقليم، وأخضع العروش الكثيرة التي تربع عليها ملوك الطوائف، إما باستعمال القوة أو بالإغراء بالمال، وحدد سياسته تجاههم وعلاقته بهم من جانب قوي، بوصفه الأقوى على الساحة السياسية والعسكرية، فمنحهم بعض الامتيازات مثل حق اختيار خلفه، وأشرك معهم رجال الدين، لكنه لم يقدر أنه سيكون من بين خلفائه أشخاص ضعاف، وأنهم سوف يخضعون لمشيئة هؤلاء مما سينعكس سلبًا على أوضاع الدولة. وأثبتت الأحداث السياسية، اللاحقة تذبذب ولاء هؤلاء لملك الملوك، وفقًا لتطورات الظروف السياسية مما أدخل البلاد في متاهات الصراع على السلطة والنفوذ، واضطر ملوك الملوك بعد أردشير أن يتعاونوا مع ملوك الإقطاع، ورجال الدين، الذين تزايد خطرهم بعد أن ملكوا القرى، والأراضي الشاسعة، وأضحوا مركز قو عسكرية ومادية، كما أضحى بقاء ملك الملوك أو سقوطه رهنًا بإرادتهم5. تعرضت الدولة الساسانية خلال مراحل تاريخها لصراعات حادة على السلطة بين أفراد البيت الساساني، نذكر منها: صراع فيروز وأخيه هرمز ابنا يزدجرد بن بهرام حيث قتل الأول الثاني، وتولى الحكم "459- 484م"، وصراع بلاش وأخيه قباذ الأول، فقد خلف بلاش والده على الحكم "484- 488م"، فنازعه أخوه وخلعه، وتولى السلطة "488- 531م"، وقتل هرمز "579- 590م" إخوته حتى لا ينافسوه على الحكم، كما قتل قباذ الثاني شيرويه "628م" أباه وتخلص من إخوته حتى لا ينازعوه على السلطة.

_ 1 خراسان: بلاد واسعة حدودها مما يلي العراق، وآخر حدودها، مما يلي الهند، طخارستان وغزنة وسجستان وكرمان، وليس ذلك منها إنما هو أطراف حدودها، ومن أهم مدنها نيسابور وهراة، ومرو وبلخ وطالقان ونسا، وأبيورد وسرخس، الحموي: ج2 ص350. 2 خوارزم: اسم لناحية واسعة قصبتها الجرجانية، كثيرة الشجر، والغالب عليها شجر التوت، والخلاف، وهي على نهر جيمون، يحيط بها رمال سيالة، ويسكنها الأتراك والتركمان بمواشيهم. المصدر نفسه: ص395- 398. 3 الطبري: ج2 ص38، 39، البلخي، أبو زيد أحمد بن سهل: كتاب البدء والتاريخ ج1 ص287، 288. 4 الطبري: المصدر نفسه: ص41، 42. 5 أربري، أ. ج: تراث فارس: إسلام الفرس، يحيى خشاب ص13، 14.

وحتى يقوي المتنازعون مواقفهم لجأوا إلى الاستعانة بقوى بقوى خارجية غير مكترثين بما يترتب على ذلك من إذلال، وسقوط هيبة الحكم، نذكر منها: استعان بهرام جور "420- 438م" بالمناذرة1 العرب ليجلسوه على عرش أبيه يزدجر الأول، كما استعان قباذ الأول بالهياطلة2 في صراعه مع أخيه بلاش، واستعان كسرى الثاني أبرويز "590- 628م" بالبيزنطيين لمحاربة بهرام جوبين الذي اغتصب العرش الساساني. وفقدت الدولة الساسانية وحدتها السياسية منذ عام 631م حين انقسمت على نفسها، ففي الشرق بويع لكسرى الثالث بن الأمير قباذ أخي كسرى الثاني، وفي المدائن، عين الأشراف ورجال الدين بوران دخت بنت كسرى الثاني أبرويز، وقد حكمت سنة وأربعة أشهر قبل أن تخلفها أختها آزرميدخت، وظهر في عهدها القائد رستم بن فرخ هرمزذ كأحد القادة الأقوياء، ويبدو أنه استاء من تولي امرأة عرش الأكاسرة، كما حنق عليها لقتلها والده، فزحف نحو العاصمة، واستولى عليها وعزل الملكة، وسمل عينيها. وتتابع على الحكم حكام ضعاف مثل هرمز الخامس وكسرى الرابع، لكن لم يكن معترفًا بهما إلا في بعض أجزاء البلاد، ثم تولى عرش الدولة الساسانية أحد عشر ملكًا على مدى أربعة أعوام، كان آخرهم يزدجرد الثالث ابن الأمير شهريار الذي استولى على الحكم بمساعدة القائد رستم3. والواقع أن التفكك والضعف بدآ يظهران على جسم الدولة في الأعوام المضطربة، التي تلت موت كسرى الثاني أبرويز في عام 628م بفعل السياسية العسكرية التي نفذها كسرى الأول أنوشروان "531- 579م"، فمال التطور شيئًا فشيئًا نحو التسلط العسكري، واستقل كل قائد وحاكم ولاية بإقطاعه، وكأنه وراثي، وبخاصة عندما هوت الأسرة المالكة إلى تدهورها النهائي، وقد كثرت محاولات اغتصاب السلطة

_ 1 المناذرة أو آل نصر أو آل لخم: أمراء الحيرة من العرب، نزحوا من جنوبي الجزيرة العربية على أثر انهيار سد مأرب، واستقروا في أطراف العراق، قريبًا من حدود الدولة الفارسية الساسانية، واستعان الفرس بهم لتحقيق تطلعاتهم السياسية من خلال جعلهم سدًا أمام غارات العرب على الأطراف الفارسية، والتصدي لهجمات البيزنطيين، وحلفائهم الغساسنة على مناطق الحدود بين الدولتين. 2 الهياطلة: أمة تركية كانت تسكن ولاية طبرستان جنوبي بحر قزوين. 3 انظر الخبر عن ملوك الفرس، وسني ملكهم في الطبري: ج2 ص37- 234. الفردوسي: الشاهنامة الجزء الثاني.

من قبل القادة، وبعد تسلط هؤلاء آخر مرحلة من مراحل التطور السياسي أيام الساسانيين، ولكن نظام الإقطاع الذي برز في هذه المرحلة لم يكن لديه متسع من الوقت ليتحد قبل الفتح الإسلامي، ومنذ عهد فيروز الثاني الذي تولى الحكم بعد آزرميدخت، كانت جميع الأقاليم الواقعة شرقي مرو الروذ1 خارجة عن سلطة الدولة، ولم تكن هراة نفسها تابعة للساسانيين، وخضعت الولايات الواقعة على شواطئ بحر قزوين للديالمة، واستقرت الولايات الشمالية، والشرقية في أيدي ملوك وأمراء مستقلين. أضحى رستم الحاكم الفعلي لفارس، ولم تفلح جهود التي بذلها في إعادة اللحمة، والقوة إلى الدولة المتداعية، ووجد نفسه عاجزًا عن وقف زحف المسلمين الجارف. الوضع الاجتماعي: لم يكن تغيير الأسرة الحاكمة في فارس حدثًا سياسيًا فحسب، بل امتاز بظهور روح جديدة في الدولة، والطابعان المميزان للنظام الجديد هما تركيز قوى السلطان، واتخاذ دين رسمي للدولة، وإذا كان الطابع الأول هو عودة إلى التقاليد التي سادت أيام الملك دارًا2، فإن الطابع الثاني يعد تجديدًا، وفي مقابل تطور الحياة العامة، والتنظيم الإداري، فإن الهيكل الاجتماعي، والإداري الذي أنشأه أو أكمله مؤسس الدولة الساسانية بقي حتى نهايتها من الأمور المقدسة التي لا تحتمل التغيير3. قام المجتمع الفارسي على نظام ملزم للطبقات، ونصت الأوستا، الكتاب المقدس للفرس، على ثلاث طبقات هي: رجال الدين، رجال الحرب والحراثين، وأصحاب المهن والحرف، إذا استثنينا طبقة الحكام، غير أن تطور الحياة العامة في الدولة الساسانية، أفرز نظامًا سباعيًا على أساس سبع طبقات، وقسمت كل طبقة بدورها إلى عدة أقسام. الطبقة الأولى: الملوك، وتشمل الأمراء، وحكام الولايات، وعلى رأس هؤلاء ملك فارس الذي يحكم وفقًا لنظرية الحق الإلهي المقدس للملوك، ويدعي حاكم الولاية مرزبان، ويحمل لقب ملك "شاه"، والإمارة وراثية شرط الالتزام بما يفرضه ملك

_ 1 مرو الروذ: مدينة قريبة من مرو الشاهجان بينهما خمسة أيام، وهي في خراسان، الحموي: ج5 ص112، 113. 2 دارا: تاسع ملوك الدولة الأخمينية التي حكمت في إيران بين القرنين السابع والرابع قبل الميلاد. 3 كريستنسن، آرثر: إيران في عهد الساسانيين ص84، 85.

الملوك من تدابير يتمثل بعضها بالتزام الأمير المقطع وضع قواته العسكرية تحت تصرفه، وتأدية جزية معينة1. الطبقة الثانية: الأشراف، ويشكل هؤلاء الطبقة القوية المكونة من رؤساء الأسر السبع الممتازة، وبحق لهم وضع التيجان على رءوسهم؛ لأنهم كانوا أساسًا مساوين لملك فارس لكن تيجانهم أصغر حجمًا، ولكل من هذه الأسر منطقة نفوذ تقيم فيها إلى جانب انخراط أفرادها في البلاط، ويحتكرون بعض الوظائف العامة مثل: تتويج الملك، التعبئة العسكرية، وإدارة شئون الحرب، الإدارات المدنية، فض النزاع بين المتخاصمين الراغبين في التحكيم، قيادة الفرسان، جباية الضرائب وغيرها، والراجح أن هذه الوظائف شرفية استنادًا إلى خصائص الحكومة المطلقة التي كانت في الواقع أساس الحكم في الدولة الساسانية، إذ من غير المنطقي أن تخضع وظائف رئاسة الوزارة، وقيادة الجيش لعملية الانتقال بالميراث من رجل لآخر، وألا يكون لملك الملوك حق اختيار مستشاريه2. الطبقة الثالثة: رجال الدين، وهم عدة أقسام يرأسهم موبذان موبذ، ثم المؤابذة والزهاد، والسدنة "الهرابذة" الهربذ هو خادم النار، ويدير السدنة المراسم الدينية في المعابد، ويترأس الهرابذة، هربذان هربذ، ثم المراقبون، والمعلمون، والسدنة الروحيون، وهم المغان3. الطبقة الرابعة: رجال الحرب، يترأسهم إيران سياهيد، وتشمل صلاحياته وزارة الحرب وقيادة الجيش العليا، وله صلاحية إجراء مفاوضات الصلح، يتألف الجيش الفارسي من الفرسان والمشاة، ولكل من القسمين رتبه وموظفوه. ويطلق على ضباط الجيش لقب الأساورة، ومن رجال الجيش أيضًا، الحرس الملكي4. الطبقة الخامسة: الكتاب، وهم موظفو الدواوين، ومنهم كتاب الرسائل والحسابات، ويلقب رئيس هذه الطبقة بلقب إيران دبيران، ويدخل الشعراء والأطباء، والمنجمون في هذه الطبقة. الطبقة السادسة: الدهاقون، إنهم رؤساء القرى، يستمدون قوتهم من الملكية الوراثية للإدارة المحلية، فهم الرؤساء، وملاك الأراضي والقرى، أما وظيفتهم الأساسية، فهي استلام الضرائب وتمويل الدولة.

_ 1 كريستنسن: ص89. 2 المرجع نفسه: ص93-96. 3 المرجع نفسه: ص103. 4 المرجع نفسه: ص118، 119.

الطبقة السابعة: الشعب، وهم الفلاحون والصناع والرعاة، والتجار وأهل الحرف، تتفاوت الطبقات الاجتماعية في النسب والمنزلة, ويبدو التمييز بينها واضحًا في المركب، والملبس والمسكن والنساء والخدم1، فلكل فرد منزلته ومرتبته، ومكانه المحدد في الجماعة، وحظر الانتقال من طبقة إلى طبقة أعلى منها بوجه عام إلا في حدود ضيقة، على أن هذا الاستثناء لا يطال الارتقاء إلى طبقة رجال الدين، فالموبذ يجب أن يكون ابن موبذ، لاعتقاد أفراد هذه الطبقة أنهم أسرة واحدة لا يجوز لأجنبي أن ينتسب إليها. ضاق الفرد الفارسي بهذا النظام، فهو يربي أولاده ويرعاهم، حتى إذا شبوا وبدأوا يساعدونه على تحمل أعباء الحياة؛ جمعهم الأشراف ليقدموهم إلى ملك الملوك الذي يقذف بهم في أتون الحروب، ولقد استهان ملك الملوك برؤساء الطبقات الرفيعة، فلم يراع حق الدين والوطن، وربما أجلس عدو البلاء على العرش، كما أن رجال الدين خلعوا لباس التقوى، وألهاهم جمع المال، وفتنوا بالمظاهر، وأذلهم الطمع، وأفسد رسالتهم الحرص على الدنيا، وهم في عداء سافر مع الأشراف يكيد بعضهم لبعض، وكل طائفة تسعى لمصحلتها دون النظر إلى مصلحة المجموع2. أفقدت هذه الأوضاع الشاذة ثقة الفارسي بمجتمعه ووطنه، وتزعزع إيمانه بهذا النظام، ولم تقض إصلاحات كسرى الأول أنوشروان على ما هو في نفوس الناس من الشعور بالظلم، والتطلع إلى من يتحدث عن المساواة، وتكافؤ الفرص بين الناس، حتى وجدوا ذلك في الدين الإسلامي. الوضع الديني: أتخذ الساسانيون، منذ بداية عهدهم، الزرادشتية3 دينًا رسميًا، ومن خصائص هذا الدين تقديس عناصر الطبيعة، وللشمس عند الساسانيين حرمة عظيمة، غير أن النار أعظم شأنًا، لذلك دخلت كعامل رئيسي في عباداتهم، وبيوت النار عندهم هي مراكز العبادة والتقديس. يعتقد الزرادشتيون بوجود إله للخير والنور، خالق يسمونه أهورامزدا، وإله للشر، والظلمة يسمونه آهرمان، ولكنه ليس بمستوى أهورامزدا، إنها إذن نحلة تقوم على

_ 1 كريستنسن: ص302. 2 خشاب: ص8، 9. 3 الزرادشتية: ديانة أسسها زرادشت بن يورشب في القرن السادس قبل الميلاد، وتسمى المجوسية؛ لأن قبيلة المجوس الفارسية هي أول من تبع الزرادشتية.

الثنوية والنزاع الدائم بين إله الخير وإله الشر، لكن النصر في النهاية سيكون للإله الأول بما يبذله الإنسان من أعمال حسنة للتغلب على روح الشر. وابتلي الساسانيون بنزاعات دينية بعد ظهور الديانتين المانوية1، والمزدكية2 بفعل اختلاف فلسفاتها وتعاليمها، وكان تشجيع الأكاسرة لإحدى هذه الديانات يدفع معتنقيها إلى اضطهاد مخالفيهم، وقد أضاع هذا التاجر البلاد حين وضعها في جو مشحون بالنزاعات. تركيبة الجيش الفارسي: نحت الدولة الساسانية، منذ بداية حياتها السياسية، منحى توسعيًا؛ بهدف إحياء الإمبراطورية الشرقية التي قضى عليها الإسكندر المقدوني، وقد تطلب ذلك إنشاء جيش منظم وقوي، لذلك أدخل الملك أردشير الأول طوائف الجند التي كانت تتبع صاحب الإقطاع في الجيش النظامي، والمعروف أن الفرسان الدارعين يشكلون القوة الضاربة في الجيش الفارسي، وأن النصر يتوقف على مدى اندفاعهم، وشجاعتهم في القتال، وبخاصة الفرقة المعروفة بالخالدين، وهي مؤلفة من عشرة آلاف فارس يختارون من بين المجلين3. وتتخذ الفيلة مكانها خلف الفرسان، وكأنها حصون، وتشكل عامل رعب لخيل العدو، وعامل ثقة لأفراد الجيش الفارسي، كما يحمل عليها أبراج من الخشب مشحونة بالمقاتلين، والسلاح ورماة النبال، وحاملي الرايات، ويقدمونها أحيانًا أمامهم، ويجعلون منها نواة لفرقهم، تلتف حول كل فيل فرقة من الجيش، وإذا ذعر فيل أثناء المعركة، وارتد على جنود الفرس، يبادر الفيال إلى قتله4. شكل المشاة مؤخرة الجيش، وهم من أهل القرى، يستدعون إلى الحرب دون

_ 1 المانوية: ظهر ماني في بلاد فارس أيام حكم سابور في أواسط القرن الثالث الميلادي، وادعى النبوة يقوم مذهبه على الثنوية، فمبدأ العالم كونان أحدهما نور والآخر ظلمة، وكل منهما منفصل عن الآخر، فالنور هو العظيم الأول، وهما في صراع دائم، كان ماني متشبعًا بروح النصرانية، لذلك فرض على أتباعه الصوم والرهبنة، والصلاة أربع مرات في اليوم، والزكاة المقدرة بعشر الأموال، والدعاء إلى الحق، وتجنب الكذب والقتل والسرقة، والزنا والبخل والسحر؛ لأن من شأن ذلك الخلاص من الشر. 2 المزدكية: حركة دينية فارسية ظهرت في عهد كسرى قباذ بن فيروز في أواخر القرن الخامس الميلاي على يد مزدك الذي نادى بالشيوع في الجنس والمال، وعلى المستوى التصوري عدت المزدكية من العقائد الثنوية التي يتقول بصراع النور والظلمة. 3 كريستنسن: ص198، 199. 4 المرجع نفسه.

أجر أو حافز، إنهم الحراثون الخاضعون للنظام الإقطاعي، يلبسون دروعًا من الخيزران المتشابك المغطى بجلد غير مدبوغ1، وهم جنود غير مهرة عادة، يولون الأدبار قبل أن يبدأهم العدو بحرب. واعتمد الجيش الفارسي على المرتزقة أيضًا، وهم من الشعوب القاطنة في أطراف الدولة من الذين اشتهروا بالشدة في القتال، نذكر منهم: السجستانيون، الساجيون، القوقازيون، الديالمة وغيرهم. يقود ملك الملوك، عادة، الجيش في المعارك، وينصب العرش المالكي، وسط الجيش، ويحيط به خدمه وحاشيته، وفرقة من الجند المكلفة بحراسته. واقتبس الفرس بعض الفنون العسكرية من الرومان، مثل عمليات حصار القلاع، واستعمال المجانيق والأبراج المتحركة، وآلات الحصار الأخرى التي كانت تستعمل قديمًا، كما نفذوا أسلوب حرق المحاصيل الزراعية حتى لا يستفيد العدو منها، وفتح السدود في الأراضي التي يخصبها الري، حتى يغرق الوادي ويوقف تقدم العدو، هذا ويشترط بالقائد أن تتوفر فيه الصفات العسكرية الضرورية لإدارة الحرب، والقدرة على وضع، وتنفيذ الخطط العسكرية. لم يكن الفرس شديدي البأس في الحرب، ولم يعتادوا القتال ببسالة إلا أن يكونوا على مسافة بعيدة من عدوهم، وإذا شعروا بأن فرقهم تتراجع يتقهقرون مطلقين خلفهم سهامهم حتى يخففوا من مطاردة عدوهم لهم. تعتمد الخطط العسكرية التي طبقها الساسانيون في القتال، على الصدمة بأفواج منظمة من الفرسان الدارعين في صفوف كثيفة، كما طبقوا نظام التعبئة القائم على المقدمة من الفرسان، والقلب الذي يرتاد أفراده مكانًا مشرفًا، والجناحين والمؤخرة من الرماة والمشاة، وهو نظام الزحف2 من خلال تقسيم الجيش إلى كراديس، والواقع أن هذا النظام العسكري، لم يثبت أمام التعبئة الإسلامية القائمة على الكر والفر، والمعروف أن المسلمين استعملوا أيضًا أسلوب الكراديس في القتال. العلاقة مع البيزنطيين "الروم": إن نظرة سريعة إلى تاريخ العلاقات بين فارس وبيزنطية، خلال القرون السبعة الأولى للنصرانية، تبين أنها اتسمت بالطابع العسكري المرير مع بعض الهدوء النسبي

_ 1 كريستنسن: ص198، 199. 2 ابن قتيبة، أبو محمد، عبد الله بن مسلم: عيون الأخبار ج1 ص112. كريستنسن: ص206، 207.

عل مراحل متعددة، وقد فرضه انقسام داخلي إلى درجة الإعياء تعجيز هذا الطرف أو ذاك عن القيام بالحرب، أو حين كان الحرص على السلام يدفع بأحد الطرفين أن يذهب في التساهل إلى أي مدى يقتضيه تحقيق السلام. لقد ورث الساسانيون العداوة القديمة بين فارس، واليونان مع اختلاف الخصم بعد أن حل الرومان في ربوع الشرق الأدنى، وكان التنازع على مناطق الأطراف، وأهمية أرمينية لكلا الطرفين، بالإضافة إلى السيطرة على طرق القوافل التجارية بين الشرق، والغرب من أهم أسباب النزاع. والواقع أن الإقليم الجبلي الذي يمتد بين أقاصي شرق البحر الأسود، والمجرى الأوسط لنهر دجلة، لا يشكل حدًا طبيعيًا فاصلًا بين الإمبراطوريتين، ولو أن أرمينية كانت قوية لدرجة تكفي للحفاظ على استقلالها من اعتداء الدولتين لاستطاعت أن تشكل حاجزًا بينهما. لقد توالى على حكم أرمينية ملوك يمتون بصلة النسب البعيد إلى الأشكانيين، والنفوذ الروماني فيها متفوق على النفوذ الفارسي، لكن أردشير الأول لم يحقق نصرًا حاسمًا في حروبه مع الرومان. تجدد الصراع بين الدولتين في عهد خلفائه، فقد اصطدم سابور الأول "241- 272م" بالرومان مرتين، وأسر الإمبراطور الروماني فالريان1، إلا أنه تعرض لهزيمة قاسية على يد أذينة، الحاكم العربي لمملكة تدمر في الصحراء السورية، وحليف الرومان، واستعاد الحاكم العربي الأراضي التي كان الفرس قد استولوا عليها في إقليم الجزيرة، وطارد القوات الفارسية إلى ما وراء نهر الفرات، ووصل إلى أسوار المدائن2. استؤنفت الحرب بين الدولتين في عهد بهرام الثاني "276- 293م"، فتقدمت القوات الرومانية بقيادة الإمبراطور كاروس باتجاه المدائن، لكن الجيش الروماني تراجع فجأة إثر وفاة الإمبراطور، ثم عقد الصلح بين الدولتين في عام 283م، وكان من أهم بنوده، إعادة أرمينية، وإقليم الجزيرة إلى الحكم الروماني، يبدو أن ثورة هرمزد أخي بهرام الثاني، في خراسان، أجبرته على القبول بهذا التنازل3.

_ 1 خلدت هذه الأحداث في صورة يظهر فيها سابور الأول فارسًا، والإمبراطور جات أمامه، وهي النقوش التي تعرف في إيران اليوم باسم نقش رستم. 2 الفردوسي: ج2 ص57، علي، جواد: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج3 ص97. 3 كريستنسن: ص217، 218.

تواصلت الحرب في عهد نرسي بن بهرام الثاني "293- 302م"، وقد أثارها طرد الفرس، ملك أرمينية وحليف الرومان، وهزم القائد الروماني غاليريوس الجيش الفارسي، ووقعت أرسان زوجة نرسي أسيرة، واضطر الإمبراطور الفارسي أن يتنازل للرومان عن مقاطعة أرمينية الصغرى، وعاد ترادت ملكًا على أرمينية، واستمرت حالة السلم بين الدولتين مدة أربعين عامًا قبل أن تستأنف حالة العداء في عهد سابور الثاني "309- 379م"1. وشهدت الإمبراطورية الرومانية في غضون ذلك تحولًا نوعيًا في سياستها الدينية تمثل باعتراف الإمبراطور قسطنطين الأول بالديانة النصرانية في عام 313م بموجب مرسوم ميلان2، واعتناقه النصرانية فيما بعد، وانتشرت هذه الديانة في الربوع الأرمينية، كما اعتنقها الفرس في بابل، وجنديسابور3، وآشور وغيرها من المدن، فتوثقت الصلات بذلك، بين بيزنطية وأرمينية، ومن بين الأسباب التي دفعت الإمبراطور قسطنطين الأول إلى نقل عاصمته من روما إلى بيزنطية، التي أسسها على ضفاف البوسفور في عام 330م؛ اعتزامه أن يقاوم الخطر الفارسي من مكان قريب. وانقسمت أرمينية آنذاك على نفسها بفعل الصراع الحزبي والطبقي، فأخذت الطبقة الغنية تسعى وراء مصالحها الذاتية، وسعى الحزب المحافظ إلى إقامة علاقات وثيقة مع فارس بوصفها جارة قوية، بينما سعى حزب آخر، نتيجة لاعتناق أفراده الديانة النصرانية، إلى إنشاء اتحاد بينه، وبين إخوته النصاري في الغرب، وهناك حقيقة كانت تعمل على إذكاء العداء بشكل عام، هي أن الإمبراطورية الفارسية الساسانية كانت وثنية، وأن الإمبراطورية البيزنطية كانت نصرانية4، وحيكت المؤامرت، ونفذت عمليات اغتيال، مما أدى إلى حدوث اضطرابات. تذرع سابور الثاني بتردي الأوضاع الداخلية في أرمينية لشن الحرب، واسترجاع الأراضي التي فقدتها الإمبراطورية في عهد نرسي، فاجتاح أرمينية، واصطدم بالجيش البيزنطي في منطقة الجزيرة، وتوفي قسطنطين الأول أثناء ذلك، فتولى خليفته قنسطانز إدارة الحرب، فتحالف مع إرشاك الثالث ملك أرمينية، مما أثار سابور الثاني

_ 1 كريستنسن: ص223. 2 انظر فيما يتعلق بمرسوم ميلان: العريني، السيد الباز: تاريخ أوروبا ص50، 51. 3 جنديسابور: مدينة بخوزستان بناها سابور بن أردشير، فنسبت إليه وأسكنها سبي الروم، وطائفة من جنده، الحموي: ج2 ص170. 4 أربري: الفصل الثاني، فارس وبيزنطية، بقلم تالبوت رايس، ص63- 64.

فاجتاح إقليم الجزيرة، واستولى على آمد1، واحتل سنجار2، وجزيرة ابن عمر في عام 359م3، وأضحى للفرس اليد العليا، والنفوذ الأقوى في هذا الإقليم4. توفي الإمبراطور قنسطانز في عام 361م، فخلفه الإمبراطور يوليان، وقد قاد بنفسه الجيوش البيزنطية لحرب الساسانيين، فعبر الفرات في عام 363م على رأس جيش ضخم، ثم اتجه شرقًا نحو دجلة، فاستولى على سلوقية5 بعد أن هزم خصمه، ثم زحف نحو المدائن، غير أنه تعرض لمقاومة شديدة، وأصابه سهم في ذراعه أودى بحياته6. ترتب على مصرع يوليان تحول في السياسة البيزنطية جاء لمصلحة فارس، إذ إن خليفته الإمبراطور جوفيان عقد صلحًا مع الفرس حصل هؤلاء بموجبه على أقاليم عديدة على الضفة الشرقية لنهر دجلة، وتخلى جوفيان عن مزاعمه في أمتلاك أرمينية، وتنازل عن نصيبيين7 وسنجار. انقسمت الإمبراطورية الرومانية بعد وفاة جوفيان في عام 364م إلى قسمين، شرقي وغربي، فحكم فالنز القسم الشرقي، فورث بذلك الصراع مع الساسانيين، في حين حكم القسم الغربي أخوه فالنتيان، وحاول فالينز مرتين التدخل في شئون أرمينية، وتنصيب حاكم موال له، لكنه فشل في ذلك، واضطر إلى عقد صلح مع سابور الثاني تنازل بموجبه عن حق التدخل في الشئون الأرمينية8. استمر النزاع بين الدولتين الساسانية، والبيزنطية حول أرمينية في عهد خلفاء سابور الثاني، وبخاصة بهرام الرابع "388- 399م"، وفي عام 527م اعتلى الإمبراطور

_ 1 آمد: أعظم مدن ديار بكر، وأجلها قدرًا وأشهرها ما ذكرًا على نشز دجلة. الحموي: ج1 ص56. 2 سنجار: مدينة مشهورة من نواحي الجزيرة، بينها وبين الموصل ثلاثة أيام وهي في لحف جبل عال، المصدر نفسه: ج3 ص262. 3 جزيرة ابن عمر: بلدة فوق الموصل بينهما ثلاثة أيام، ولها رستاق خصب واسع الخيرات، المصدر نفسه: ج2 ص138. 4 Ostrogorsky, Georgiji: A History of byzantine p. 117. 5 سلوقية: مدينة بالشام تنسب إليها الدروع، والكلاب السلوقية قريبة من أنطاكية "السويدية الحالية"، الحموي: ج3 ص242. 6 رستم، أسد، الروم ج1 ص84، 85. Vasiliev, A.A: A History of Byzantine Empire: p 67. 7 نصيبين: مدينة عامرة من بلاد الجزيرة على جادة القوافل من الموصل إلى الشام، بينها وبين سنجار تسعة فراسخ، الحموي: ج5 ص288. 8 كريستنسن: ص228، 229.

جستنيان عرش بيزنطية، فبدأ عهده باسترداد تدمر1، وفي مطلع عام 528م، فيما كان الجيش البيزنطي يجتاز الصحراء للاستيلاء على مدينة نصيبين من الخلف، داهمه جيش الفرس، وألحق به خسارة كبيرة، وجدد الفرس، بمساعدة عرب الحيرة بقيادة المنذر، مهاجمة البيزنطيين في ربيع عام 529م، وهزموا الجيش البيزنطي، وارتأى قباذ الأول أن يهاجم أرمينية، لكنه استمع إلى نصائح المنذر، وتوجه بقواته إلى أنطاكية، فهاجمها ودخلها دون مقاومة تذكر، فسبى وغنم، وتراجع دون أن يلقى الجيش البيزنطي، وعرض قباذ الأول على البيزنطيين عقد هدنة، لكن عمق الخلافات حال دون تحقيقها. جدد الفرس هجماتهم على الأراضي البيزنطية في ربيع عام 531م، وبلغوا موقعًا متوسطًا بين قنسرين2 ونهر الفرات، وهزموا القائد البيزنطي بلزاريوس الذي تراجع إلى الرقة3، ثم اجتاحوا منطقة الرها4، ودخلوا إلى المدينة ونهبوها. خشي جستنيان من انهيار الجبهة الشرقية، فأثار مملكة أكسوم الحبشية على شن هجمات على مناطق النفوذ الفارسي في جنوبي الجزيرة العربية انطلاقًا من اليمن التي احتلها الأحباش قبل بضع سنوات، وعمد في الوقت نفسه إلى مسالمة الفرس، فأرسل إليه قباذ الأول مقترحات السلام التي تقوم على المبادئ التالية: - تدفع بيزنطية تعويضات الحرب للفرس. - تسحب بيزنطية قيادة قواتها من بلاد ما بين النهرين، وبالتحديد من دارا5. - تمول بيزنطية حماية الفرس لممرات القوفاز. قبل جستنيان هذه المقترحات، ولم يغير موت قباذ الأول الوضع، وجرى التوقيع على اتفاقية السلام من قبل كسرى الأول أنوشروان، الذي خلف قباذ، وسميت هذه المعاهدة بالسلام الأبدي6. يعد ارتقاء كسرى الأول عرش فارس فاتحة عهد جديد في التاريخ الفارسي بما

_ 1 تدمر: مدينة قديمة مشهورة في برية الشام بينها، وبين حلب خمسة أيام، الحموي: ج2 ص17. 2 قنسرين: كورة بالشام بينها، وبين حلب مرحلة من جهة حمص بقرب العواصم، وبعضهم يدخل قنسرين في العواصم، المصدر نفسه: ج4 ص ص404. 3 الرقة: مدينة مشهورة على الفرات بينها، وبين حران ثلاثة أيام، معدودة في بلاد الجزيرة؛ لأنها من جانب الفرات الشرقي، المصدر نفسه: ج3 ص59. 4 الرها: مدينة بالجزيرة بين الموصل، والشام بينهما ستة فراسخ، المصدر نفسه: ص106. 5 دارا: بلدة من لحف جبل بين نصيبين وماردين، المصدر نفسه ج2 ص418. 6 Deveeresse, Rebert: Arabes-Perses Arabes-Roman, Lakhmides et Ghassanides, pp 263-307.

أجرى من إصلاحات مدنية وعسكرية، وكان السلم مستتبًا بين فارس، وبيزنطية في عام 532م، وهي السنة الثانية من حكمه، ولكن كانت تبرز بين الحين، والآخر إشارات إلى عودة الصدام. كانت بيزنطية لا تزال تنظر إلى فارس على أنها العدو الأكبر التي أحدثت على الدوام أوضاعًا مقلقة على امتداد الحدود الطويلة بينهما، فكان لا بد من إضعافها، وبرزت في القرن السادس ظاهرة السيطرة على طرق القوافل التجارية بين الشرق والغرب، كلما أن النزاع بين الغساسنة التابعين لبيزنطية، ومملكة الحيرة التابعة لفارس، شغل حيزًا كبيرًا من هذا القرن، فكان الاصطدام ضرورة سياسية واقتصادية، وأدت الحروب شبه المستمرة بينهما إلى فقدان الأمن على الطريق التجاري الذي يربط الخليج العربي بصحراء بلاد الشام عبر الفرات، وفقدت المنطقة أهميتها التجارية مما أدى إلى ضرورة تحويل طريق إلى غربي الجزيرة العربية، أو البحر الأحمر، لكن بيزنطية لم تيأس من احتمال تعزيز موقعها التجاري باستعادة بلاد ما بين النهرين، كما أن تحويل طريق التجارة إلى غربي الجزيرة العربية أفقد الفرس عنصرًا مهمًا من قوتهم؛ لذلك تطلعوا إلى السيطرة على بلاد الشام ومصر، ملتقى جميع الطرق الشمالية، والجنوبية آنذاك1. وكان الحرير في ذلك الوقت قد أضحى أحد أهم عناصر التجارة الشرقية وأثمنها، وأدى احتكار الفرس لهذه التجارة إلى إثارة قلق بيزنطية، ورغبتها في البحث عن حل؛ لأنها كانت تستورد الحرير وتستعمله في الصناعة، كما كانت معظم مكاسب الفرس من هذه التجارة تنفق على القوى المسلحة الساسانية، لذلك حاول جستنيان أن يقلص هذه المكاسب، فخفض أسعار الحرير، ورد عليه الفرس بتقليص المبيعات2. لهذه الأسباب كان الصراع بين الدولتين تجاريًا في جانب مهم منه، وعمدت الدولتان إلى تقوية حلفائهما من البدو، أو إنصاف البدو واتخاذهما رأس حربة في هذا الصراع، فكان الغساسنة والمناذرة حلفاء البيزنطيين، وحلفاء الفرس. وإذ أدرك الإمبراطور الفارسي كسرى الأول ما للإمبراطور البيزنطي جستنيان من أطماع في الغرب، وبأهمية مصالحه على الحدود الشرقية، استغل الموقف، وانتهز فرصة استنجاد القوط الشرقيين به؛ فنقض الصلح، وهكذا لم يستمر السلام الأبدي سوى بضع سنين، وبدأ من جنديد العداء السافر بين الطرفين.

_ 1 Miller, J. Innes: The Spice Trade of the Roman Empire: p 32-120. 2 سحاب، فكتور: إيلاف قريش، رحلة الشتاء والصيف ص100.

استؤنفت العمليات العسكرية في عام 539م، كان النصر فيها حليف الفرس. فتقدم كسرى الأول باتجاه بلاد الشام، واستولى على دارا والرها، ومنبج1 وقنسرين وحلب، وأنطاكية التي نقل سكانها إلى أرض السواد، وسيطر في العام التالي على حمص، وأفامية2 ومدن كثيرة مجاورة، وبلغ في تقدمه ساحل البحر المتوسط، ولما حاول أن يشق طريقه شمالًا إلى البحر الأسود اعترضته قبائل اللازيين، والقوقازيين الذين يدينون بالطاعة لبيزنطية، فهزمهم واستولى على معاقلهم3. نتيجة هذا التوسع الفارسي على الأرض، خشي جستنيان مغبة الأمر، وعمد إلى الحصول على هدنة، فطلب كسرى الأول مبلغًا كبيرًا من المال، وأتاوة سنوية، وأجرة حراسة ممرات القوقاز من هجمات البرابرة. وفي الوقت الذي كان فيه الإمبراطور البيزنطي يدرس هذه المقترحات شدد كسرى الأول من ضغطه العسكري، ووصل إلى البحر المتوسط مرة أخرى عند سلوقية، واجتاح قلعة المضيق الواقعة شمال غرب حماة، وقنسرين ومنطقة الرها، واجتاز الفرات أكثر من مرة، وهدد مدينة الرها، فدفعت له الجزية، ثم استدار إلى حران4، لكنه فشل في اقتحام دارا مرة أخرى، واضطر جستنيان إلى قبول شروط الصلح. في هذه الأثناء، انتهى القائد بلزاريوس من حربه في إيطاليا، وظن جستنيان أن باستطاعته استرداد ما انتزعه كسرى الأول فحشد جيوشه، وكان من بينهم الفرقة العسكرية العربية في بلاد الشام بقيادة الحارث بن جبلة، ووضع خطة لاجتياح بادية الشام، فهاجم مناطق الفرات في عام 542م، وما إن علم كسرى الأول بذلك حتى تخلى عن جبهة أرمينية، فاجتاز كسرى الأول في عام 544م نهر الفرات مرة أخرى، وضرب حصارًا فاشلًا على الرها، ثم انسحب من المنطقة، ثم تبادل الطرفان السفراء بعد ذلك بهدف تهدئة الوضع، واتفقا في عام 545م على عقد صلح لمدة خمسة

_ 1 منبج: مدينة كبيرة واسعة ذات خيرات كثيرة، وأرزاق واسعة في فضاء من الأرض، بينها وبين الفرات ثلاثة فراسخ، وبينها وبين حلب عشرة فراسخ، الحموي: ج5 ص206. 2 أفامية: مدينة حصينة من سواحل الشام، وكورة من كور حمص، المصدر نفسه: ج1 ص227. 3 Bury, J, B: A History of Later Roman Empire II pp 79- 123. 4 حران: مدينة عظيمة مشهورة من جزيرة أقور، وهي قصبة ديار مضر بينها وبين الرها يوم، وبين الرقة يومان، وهي على طريقة الموصل والشام والروم. الحموي: ج2 ص235.

أعوام، وذكر الطبري شروط هذا الصلح بقوله: "أما سائر مدن الشام ومصر، فإن يخطيانوس "جستنيان" أتباعها من كسرى بأموال عظيمة حملها إليه، وضمن له فدية يحملها إليه في كل سنة، على أن لا يغزو بلاده، وكتب لكسرى بذلك كتابًا، وختم هو وعظماء الروم عليه، فكانوا يحملونها إليه في كل عام"1. والواقع أن هذا الصلح لم يستمر طويلًا، إذ إن نشوب الاضطرابات في أرمينية كان السبب المباشر في نقضه، فاستؤنفت العمليات العسكرية، واجتاحت القوات البيزنطية بقيادة الإمبراطور جستنيان بلاد ما بين النهرين، وأراضي ملطية2 في عام 572م، ورد كسرى الأول باجتياز الفرات في الاتجاه الآخر مستفيدًا من ضعف وسائل الدفاع البيزنطي، وفتور العلاقات البيزنطية مع الغساسنة، فوصل إلى أفامية، فأحرقها وعاد أدراجه دون أن يصادف مقاومة، فيما كان الجيش البيزنطي يحاول عبثًا محاصرة نصيبين، ثم انسحب إلى ماردين3 متخليًا عن دارا، واجتاح الفرس وادي الخابور الأعلى، واتجهوا إلى كبادوكيا، ثم انسحبوا من المنطقة4. تجدد القتال بعد ذلك، حين اضطهد كسرى الأول النصارى البلازيين في القوقاز، وعقد الصلح في عام 561 أو 562م لمدة خمسين عامًا، وتضمن البنود التالية: - تعهد الإمبراطور البيزنطي بأن يدفع سنويًا مبلغًا كبيرًا من المال لفارس. - وعد ملك الفرس بالمضي في سياسة التسامح الديني مع النصارى بشرط أن يمتنعوا عن تحويل الناس عن عقائدهم إلى النصرانية. - يتحتم على التجار من كلا الطرفين ألا يباشروا تبادل تجاراتهم إلا في أماكن معينة، حيث يجري تحصيل المكوس. - يتخلى الفرس للبيزنطيين عن لاذيق، وهو الإقليم الواقع جنوب شرقي البحر الأسود، وبذلك لم يعد للفرس موضع على ساحل هذا البحر. ولهذه الحقيقة أهميتها من الناحيتين السياسية الاقتصادية، مع ذلك فإن قوة الدولة الفارسية ازداد شأنها في الشرق الأدنى حين أخذ نجم بيزنطية في الأفول في هذه الجهات5.

_ 1 تاريخ الرسل والملوك: ج2 ص122. 2 ملطية: بلدة من بلاد الروم ومشهورة مذكورة تتاخم الشام، الحموي: ج5 ص192. 3 ماردين: قلعة مشهورة على قنة جبل الجزيرة، مشرفة على دنيس ودارا ونصيبين، المصدر نفسه: ص39. 4.Deveeresse: pp 295-297 5 Bury: II pp 120-123. Vasiliev: p 139. Ostrogorsky: p 66.

استمر النشاط الحربي ناشطًا على الرغم من توقيع معاهدة الصلح، فقد اغتنم الفرس القطيعة التي حصلت بين البيزنطيين، والغساسنة في عام 575م لشن هجمات على بلاد الشام، ورد البيزنطيون بقيادة موريس بمهاجمة بلاد ما بين النهرين، وطارد الفرس حتى سنجار، واستؤنفت مفاوضات السلام مرة أخرى. وفيما كانت معاهدة جديدة قيد الإعداد، مات جستنيان في شهر تشرين الأول عام 578م، ثم مات بعده كسرى الأول في شهر آذار عام 579م، تلا ذلك سلسلة من المعارك غير الحاسمة حتى عام 591م، حيث عقد الصلح من جديد. وبفضل ما اشتهر به موريس من المهارة السياسية، استغل لجوء كسرى الثاني أبرويز إلى القسطنطينية لطلب المساعدة ضد حركة التمرد الداخلي التي قامت ضد حكمه، ونتيجة لهذا التعاون، نجح كسرى الثاني في استعادة عرشه، وتنازل لبيزنطية مقابل هذه المساعدة عن أرمينية الفارسية، والجزء الشرقي من إقليم الجزيرة بما في ذلك مدينة دارا، ولم تنطو المعاهدة على شرط دفع الجزية السنوية الذي كان يعد بمثابنة إهانة للدولة البيزنطية1. ولا شك بأن كسرى الثاني كان مسرورًا بنقضها حين قتل موريس على يد فوقاس في عام 602م، والواقع أن الإطاحة بهذا الإمبراطور، وإعدامه قد مزق الإمبراطورية، فتراجعت قوتها العسكرية، ولم تستعدها خلال العقود الثلاثة التي تلت ذلك، وقد شكلت مرحلة جديدة، وقاسية في القرن السابع الذي برزت فيه خطوة التبدل المتسارعة في بلاد الشام إن على يد الفرس، أو على يد المسلمين بعد ذلك، ومن الخطأ الاعتقاد أن موريس كان الإمبراطور القادر على إعادة تنظيم الولايات الشرقية، وتطوير علاقات سياسية مع فارس، والقبائل العربية، على الرغم من مهارته السياسية، فثمة فجوات متعددة في سياسته مع العرب تشير إلى أن قراراته كانت غير فاعلة. لكن بيزنطية لم تكن قد وصلت آنذاك إلى مراحل شيخوختها، مع أن التبدل التنظيمي كان يسير في خطى بطيئة في الإمبراطورية، واستمر على هذه الحال حتى أوائل القرن السابع، عندما أخذت خطوات التبدل في التسارع بفضل إصلاحات الإمبراطور هرقل. وكشفت الغزوات الفارسية التي تلت ذلك في أيام كسرى الثاني أبرويز عن مواطن الضعف في الإمبراطورية، فالانهيار الواقعي للجيوش البيزنطية بين عامي 610.

_ 1 العريني، السيد الباز: الدولة البيزنطية ص104، 105.

و 618م والحملة الفارسية التي أدت إلى احتلال بلاد الشام ومصر، والحملات السلافية في البلقان، والسلب الذي رافقها؛ كل هذا أظهر للعيان الوضع المنذر بالخطر على كيان الإمبراطورية التي استطاعت أن تتحمله، ولكن على وهن، والذي لم يتح لهرقل فرصة للراحة بعد أن أطاح بالإمبراطور فوقاس، وأعدمه في عام 610م، فقد واجه ثورة قام بها كومنتيولوس أخو فوقاس في شهر تشرين الأول عام 610م، وقد أتاحت هذه الأوضاع القلقة للفرس أن يقوموا باختراقات على الجبهة الشرقية في عام 611م، فقد أرسل كسرى الثاني أبروزي ثلاث حملات عسكرية لغزو بلاد الروم، والشام ومصر: الأولى: بقيادة رميوزان، توجهت إلى بلاد الشام، فاستولت على أنطاكية في عام 611م، وعلى دمشق في العام التالي، أما في الجنوب، فقد سقطت بين المقدس في يدها في عام 614م، فأحرقتها واستولت على الصليب المقدس من كنيسة القيامة ونقلته إلى المدائن، وساقت بطريركها زكريا وقسيسيها، ومن بها من النصارى أسرى، ونقلتهم إلى العاصمة، والواقع أن ما ساد بلاد الشام، وفلسطين من النزاع الديني مع بيزنطية، بشر على الفرس الاستيلاء على البلاد. الثانية: بقيادة شهربراز، توغلت في أراضي آسيا الصغرى، وبلغت البوسفور، وعسكرت فرقها العسكرية في خلقدونية القريبة من القسطنطينية، وذلك في عام 617م. الثالثة: بقيادة شاهين، توجهت إلى مصر والنوبة، فاستولت على بيلوز في عام 617م، وعلى الإسكندرية في العام التالي، فترتب على ذلك انقطاع القمح عن العاصمة القسطنطينية ما أسهم في تدهور الأوضاع الاقتصادية، وأضحى الفرس يسيطرون على معظم أجزاء الشرق الأدنى1. أخل هذا الانتشار الواسع للقوات الفارسية بموازين القوى، وتبين أن البيزنطيين أخطأوا تقدير الموقف العسكري، وكن ذلك عاملًا على بعث الهمم داخل بيزنطية، فظهر زعيم قادر على مواجهة الموقف العصيب تمثل بهرقل، وإذ أدرك هذا الإمبراطور مدى فداحة خسارة بلاد الشام ومصر، وحرمان الإمبراطورية من دعائمها الروحية، والاقتصادية والحضارية؛ نهض لمحاربة الفرس واستعادة البلدان التي احتلها هؤلاء، وذلك في عام 622م، بعد أن أجرى إصلاحات عسكرية، واقتصادية كفلت له تقوية موقفه.

_ 1 العريني ص118، 119. vasiliev: pp 195, 196.

وبعد أن طرد الفرس من مناطق البحر الأسود وكبادوكيا، توغل هرقل في أرمينية في عام 623م، وتخلي الفرس عن مواقعهم في دروب آسيا الصغرى. وقد استدعى كسرى الثاني قواته من بلاد الشام في عام 624م لصد الزحف البيزنطي، لكنه مني بهزيمة قاسية، وحقق هرقل أول أهدافه، وهو تخليص أرمينية من قبضة عدوه1. رفض كسرى الثاني أن يعترف بالهزيمة، فوجه في عام 626م جيشين لمهاجمة القسطنطينية، واتفق مع الآفار في الغرب على أن يهاجموا المدينة في الوقت نفسه وذلك في شهر حزيران، وبعد حصار دام شهرًا باء الهجوم النهائي بالفشل. وكان هرقل، خلال حصار عاصمته، قد أعد خطة عسكرية لاجتياح فارس انطلاقًا من شمالي القوقاز بمعاونية الأرمن، والجورجيين والخزر، فاستولى أولًا على تفليس ودوين في أرمينية، ودخل مدينة جانزاك عاصمة أردشير الأول، وأشعل النار في معبد زرادشت انتقامًا لما أنزله الفرس بكنيسة القيامة، وفر كسرى الثاني من المدينة، غير أن ما تعرضت له القسطنطينية من جانب الآقار في الغرب حمل هرقل على نقل قواته إلى الجبهة الغربية، وأتاح لكسرى الثاني أن يقوم من جانبه بمهاجمة القسطنطينية من الشرق، فانطلق جيش فارسي ضخم بقيادة شهربراز باتجاه العاصمة البيزنطية، فاجتاز آسيا الصغرى، واحتل خلقدونية، وأقسام معسكره على شاطئ البوسفور، غير أن فشل هجوم الآقار حمله على الانسحاب، وارتد إلى بلاد الشام. أتاحت هذه الظروف الفرصة لهرقل ليستكمل خطته الهجومية التي كان قد أعدها، فشرع في خريف عام 627م بالزحف نحو الأراضي الفارسية، وظهر أمام نينوى2، وهناك نشبت المعركة الحاسمة التي قررت مصير النزاع بين فارس وبيزنطية، فأحرز هرقل نصرًا واضحًا، وحلت بالجيش الفارسي هزيمة ساحقة، ثم واصل زحفه باتجاه المدائن، فاستولى عليها في عام 628م، وكان كسرى الثاني قد هرب منها عند اقتراب الجيش البيزنطي. وما حدث آنذاك من انقلاب في فارس، إذا جرى عزل كسرى الثاني، وقتله وتولية ابنه قباذ الثاني شيرويه العرش؛ جعل من استمرار الحرب أمرًا لا داعي له، فعقدت الدولتان اتفاقية صلح استردت بيزنطية بموجبها ما كان لها من أملاك في أرمينية، والجزيرة، وبلاد الشام وفلسطين.

_ 1 Ostogorsky: p91. 2 نينوى: قرية يونس بن متى بالموصل، الحموي: ج5 ص339.

حطمت معركة نينوى القوى الميدانية للجيش الفارسي، ولم يعد لفارس ما كان لها من أهمية سياسية، وعسكرية في الوقت الذي كانت فيه تعاني من الإفراط في الثقة بالنفس جعلها تقف عاجزة أمام زحف المسلمين، كما أن الحملات الإسلامية التي جاءت بسرعة في أعقاب انتصار هرقل لم تسمح باستعادة التوازن الإمبراطوري، وقد أدى توالي الأزمات الداخلية، والخارجية السريعة إلى عدم الاستقرار، والتناقضات والتقلب، وهي الأمور التي فرضت على هرقل أن يظل في حالة مضطربة، صحيح أن هرقل حافظ على وحدة الإمبراطورية البيزنطية، وحال دون تفككها، إلا أنه لم يذلل الصعاب الاقتصادية التي تفاقمت من جزاء ست سنوات من الحملات العسكرية التي أدت إلى الإفلاس، ولم يتخلص من المصاعب الدينية التي أذكاها الاحتلال الفارسي. ولا شك بأن هذه الحروب بين فارس، وبيزنطية أنهكت الدولتين، واستنفدت طاقتهما دون أن تحقق لأحدهما ما كانت تهدف إليه من زعامة في الشرق الأدنى.

تراجع النفوذ البيزنطي من بلاد الشام عشية الفتوح الإسلامية

تراجع النفوذ البيزنطي من بلاد الشام عشية الفتوح الإسلامية: عوامل التراجع: يتحدث المؤرخون عن خصائص الإمبراطورية البيزنطية، وأسباب ضعفها عشية الفتح الإسلامي لبلاد الشام، والواقع أن الدراسة الموضوعية تدفعنا إلى استعراض أوضاع هذه البلاد، من خلال علاقة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالقبائل الضاربة على الحدود مع الجزيرة العربية، وسياسة الدولة البيزنطية في هذه المنطقة. ويمكن للباحث أن يرصد ثلاثة عوامل في تراجع النفوذ البيزنطي، إذا استثنينا التأثير الضعيف نسبيًا للاضطرابات الدينية في الإمبراطورية على أوضاعها الداخلية، وقوتها العسكرية، على الرغم من أن ما حدث من القلاقل الدينية بسبب ما جرى من محاولة لتنفيذ قرارات مجمع خلقدونية لعام 451م1، اتخذ صفة الثورات الوطنية العنيفة، بدليل استمرار تحالف القبائل العربية النصرانية، المخالفة للعقيدة الملكانية الرسمية مع بيزنطية2.

_ 1 انظر قرارات مجمع خلقدونية عند الأنبا بيشوي: مجمعا أفسس وخلقدونية، مقال في كتاب: المسيحية عبر تاريخها في المشرق ص211- 213. 2 من المعروف أن النصارى في بلاد الشام انقسموا منذ مجمع خلقدونية إثر الخلاف على صياغة =

الأول عامل المفاجأة: فقد نجح البيزنطيون في حل المشكلة العربية على حدودهم الجنوبية حلًا جذريًا، بنظام الأحلاف التي عقدوها مع القبائل الضاربة على مشارف بلاد الشام، لحراسة هذه البلاد من هجمات قد تنطلق من الجزيرة العربية، وقامت القبائل المعنية بدور ناجح، واقتصرت مهمة الفرق البيزنطية النظامية المتواجدة في قواعد ثابتة، ومتفرقة على الإشراف على تنقلات القبائل، ومساعدتها في التصدي لغزوات البدو عند الحاجة، ونسي البيزنطيون بعد ذلك، عرب الجزيرة، وأنهم قد يشكلون خطرًا عليهم في المستقبل. والحقيقة أن الإمبراطور البيزنطي هرقل لم يدرك مدى خطورة الوضع على جبهته الجنوبية بعد تنامي قوة المسلمين حتى رأى نفسه يواجه، فجأة، زحفهم باتجاه بلاد الشام، ولم تنفع تدابيره التي اتخذها على عجل في وقفهم، حيث كان من الصعب تجريد الحدود مع فارس في الشرق والصقالبة، والآقار في الغرب، المعرضة للخطر، من الجنود، ونقلهم للدفاع عن بلاد الشام في ظل محدودية نقلهم، واختيار مواقعهم، وكانت أي محاولة لتدريب السكان المدنيين في هذه البلاد وتسليحهم، قضية معقدة وبطيئة، ولا يمكنها أن تواجه التهديدات الخارجية المفاجئة والعنيفة، ويعد المدى الذي يمكن للقوات النظامية أن تتكيف فيه مع الأوضاع الطبيعية والمناخية، قضية أخرى، ورأى هرقل أن أفضل وسيلة للدفاع عن بلاد الشام في القرن السابع تكمن في: - تجنيد البدو العرب المقيمين على أطراف الإمبراطورية، وبخاصة أنهم يتمتعون بصفة إضافية هي معرفة طبيعة الأرض، ومناخها بالإضافة إلى أساليب القتال. وتبنى النظرية القائلة إن خير وسيلة لقتال العرب هي استخدام عرب آخرين إزائهم، لذلك كان من الضروري لبيزنطية أن تحتفظ بصداقة بعض القبائل، وتنويع صلاتها بالعرب. - تجنيد الأرمن، والمعروف أن عدد الجيش البيزنطي النظامي في بلاد الشام لم يكن كبير الحجم، ولا يمكن للإدارة العسكرية البيزنطية توفير أكثر من عشرين ألف

_ = العقيدة الخاصة بطبيعتي المسيح واتحادهما، إلى سريان أو يعاقبة وملكية أو روم، ويشير المؤرخون إلى أن المذهب اللاخلقدوني "اليعقوبي" انتشر بين القبائل العربية مثل أياد وربيعة وقضاعة، أما القائلون بالمذهب الخلقدوني "الملكية"، فكانوا بمعظمهم يعيشون في المدن التي اصطبغت بالثقافة الهلينية، مثل أنطاكية وسلوقية، واللاذقية وبعلبك، وبيروت وقيصرية وفلسطين، وبيت المقدس، ولا بد من الإشارة إلى أن نسبة عالية من اليعاقبة كانت مستاءة من الحكم المركزي.

جندي للدفاع عن هذه البلاد، في ظل الأخطار التي تتعرض لها الولايات الأخرى في آسيا، وأوروبا ومصر، ولا يمكن الحصول على جنود منها، ولم يكن ثمة مجال في البحث عن قوى عسكرية لبلاد الشام سوى أرمينية القريبة التي يمكن الاعتماد عليها. ويقودنا هذا العامل إلى ضرورة البحث في نقطتين: الأولى: التواجد القبلي في بلاد الشام عشية الفتح الإسلامي. الثانية: اهتمام النبي محمد صلى الله عليه وسلم ببلاد الشام. ففيما يتعلق بالنقطة الأولى، فقد انتشرت بعض القبائل العربية في مناطق الحدود الفاصلة بين الجزيرة العربية، وبلاد الشام مشكلة سدًا استغلته بيزنطية لصد غارات البدو على المناطق الزراعية. فقد سكن بنو عذرة، وبنو سعد هزيم على الطريق الممتد من شمالي الحجاز إلى بلاد الشام، وامتد بعض أفخاذهم، وبطونهم إلى وادي القرى1 في الشمال، واتصلوا بالمسلمين في أواخر حياة النبي، واعتنق بعض بني عذرة الإسلام قبل غزوة تبوك في السنة التاسعة للهجرة2. وسكنت إراشة وهي فرع من بلي في منطقة البلقاء في الشمال، فجاورت البيزنطيين، وأقامت حلفًا معهم، وساهمت في قتال المسلمين في معركة مؤتة3، فأرسل إليهم النبي سرية بقيادة عمرو بن العاص، فقاتلهم وفرقهم، وهي الغزوة التي عرفت بذات السلاسل4، اضطرت بعدها إراشة إلى الدخول في الإسلام، ثم ارتدت بعد وفاة النبي5. وأشارت روايات المصادر إلى نزول لخم بين مدين6، وتبوك امتدادًا إلى أذرح7

_ 1 وادي القرى، واد بين المدينة والشام من أعمال المدينة، كثير القرى. الحموي: ج5 ص345. 2 تذكر روايات المصادر أن أحد قادة المسلمين في معركة مؤتة كان رجلًا من بني عذرة يقال له: قحطبة بن قتادة -انظر سيرة ابن هشام ج4 ص72. وتبوك: موضع بين وادي القرى، والشام وهو بين الحجر وأول الشام، المصدر نفسه: ج2 ص14. 3 مؤتة: قرية من قرى البلقاء في حدود الشام، وقيل: مؤتة من مشارف الشام، المصدر نفسه: ج5 ص219، 220. 4 ابن هشام: ج4 ص239. 5 تتحدث المصادر من غارة قام بها عمرو بن العاص أثناء حروب الردة على بلي، وبعض القبائل الأخرى، الطبري: ج3 ص305. 6 مدين: قرية تجاه تبوك بين المدينة والشام، الحموي: ج5 ص77. 7 أذرح: اسم بلد في أطراف الشام من أعمال الشراة، ثم من نواحي البلقاء. المصدر نفسه: ج1 ص129.

وانتشر اللخميون في المنطقة الواقعة غرب البحر الميت ونهر الأردن1، وسكنت قبيلة جذام في المنطقة الممتدة من تبوك إلى شرق وادي عربة، والبحر الميت حتى منطقة البلقاء، حول عمان، فتداخلت مع سكن بعض فروع لخم، شكلت هاتان القبيلتان جزءًا من التحالف القبلي الخاضع لبيزنطية الذي حارب المسلمين في معركة مؤتة، وكانت غزوة تبوك ردًا على تحرك القبائل العربية، والبيزنطيين باتجاه المناطق الجنوبية2، ويبدو أن بعض بطون لخم هالهم قيام تحالف قبلي -بيزنطي موجه ضد إخوان لهم من العرب؛ فأسلم نفر منهم في السنة التاسعة للهجرة3، واعتزلت حدس، وهي إحدى بطون لخم، القتال في مؤتة، لكن هذين الحدثين لا يكفيان لإقامة الدليل على قيام علاقات طيبة بين المسلمين، وقبيلة لخم. وأغرى تعاظم قوة المسلمين بعد فتح مكة بعض الجذاميين، فاعتنقوا الإسلام، وأقاموا علاقات طيبة مع المسلمين، مثل فروة بن عمرو الجذامي حاكم معان4 من قبل بيزنطية5، وساند بنو الضبيب، وهم رهط من جذام، اعتنقوا الإسلام، زيدًا بن حارثة عندما هاجم الجذاميين الذين اعتدوا على دحية بن خليفة الكلبي، مبعوث النبي إلى الإمبراطور البيزنطي هرقل6. ونزلت قبيلة القين -بلقين- في المنطقة الواقعة شرق ديار لخم وجذام، أي في المنطقة الممتدة من وادي تجر شمال تيماء بمحاذاة وادي السرحان، وباتجاه الشمال إلى تخوم حوران، وجاورت بلاد بلي وعذرة، وكان بنو القين من ضمن التحالف القبلي الذي حارب المسلمين في معركة مؤتة7، ويبدو أن جماعة منهم اعتنقت الإسلام قبل وفاة النبي في السنة الحادية عشرة للهجرة، وأن النبي ولى عليهم عمرو بن الحكم8. وفرض الغساسنة، وهم من الأزد، وجودهم في مناطق حوران، وشرق الأردن وبعض فلسطين، بعد أن تغلبوا على بني سليح الضجاعمة وكلاء البيزنطيين9، وشعر

_ 1 المهمذاني، أبو محمد الحسن بن أحمد: صفة جزيرة العرب ص271، 272. 2 الواقدي، محمد بن عمر بن واقد، مغازي الواقدي ج3 ص1015. 3 الطبري: ج3 ص96. 4 معان: مدينة في طرف بادية الشام تلقاء الحجاز من نواحي البلقاء، الحموي: ج5 ص153. 5 ابن هشام: ج4 ص216، 217. 6 المصدر نفسه: ص235، الطبري: ج3 ص243-389. 7 ابن هشام: ج4 ص71. 8 الطبري: ج3 ص343. 9 المسعودي، أبو الحسن علي: مروج الذهب ومعادن الجوهر ج2 ص106، 107.

البيزنطيون بمدى قوتهم، فخشوا أن ينضموا إلى الفرس، فاستقطبوهم، وأحلوهم محل السليحيين، وعقدوا معهم حلفًا دفاعيًا هجوميًا موجهًا ضد غارات البدو، وهجمات اللخميين، وقام الغساسنة بتنفيذ الدور الذي حددته لهم بيزنطية على الرغم من أن الطرفين كانا على خلاف مذهبي، إلا أن ذلك لم يؤثر على العلاقة السياسية بينهما، وتمتع أمراء الغساسنة بلقب فيلارك1 الذي أضفاه عليهم الأباطرة البيزنطيون. شكل الغساسنة عماد التجمع القبلي اللخمي، والجذامي المعادي للمسلمين في غزوة تبوك، وقد رفض الحارث بن أبي شمر الغساني دعوة النبي إلى اعتناق الإسلام، واستمر في تحالفه مع البيزنطيين، والراجح أنه كان يخشى خطر التمدد الإسلامي باتجاه الشمال على وضع القبيلة الديني، والسياسي، وعلاقتها ببيزنطية. وسكنت بعض جماعات من الغساسنة في الجنوب، في تيماء والمدينة، وقد تأثروا بالدعوة الإسلامية، وربما كان الوفد الغساني الذي قدم إلى المدينة في العام العاشر للهجرة ليبايع النبي هو من هذه الجماعات2. ووجدت قبائل أخرى في بلاد الشام، لكنها لم تكن على قدر من القوة، والمنعة والأهمية حتى تعيرها المصادر اهتمامًا، مثل تنوخ، وقد نزلت في أواسط بلاد الشام، وشمالها على تخوم البادية الممتدة شمالًا حتى قنسرين وحلب، وقد ساند التنوخيون البيزنطيين في معركة مؤتة، وسكنت بهراء في أواسط، وشرق بادية الشام، وامتدت ديارها حتى نهر الفرات، والراجح أنها كانت موالية لبيزنطية، وأن فئة من رجالها ديارها إلى جانب البيزنطيين في معركة مؤتة. وفيما يتعلق بالنقطة الثانية، فقد اتخذت بلاد الشام منذ العام السادس للهجرة حيزًا بارزًا في سياسة النبي محمد صلى الله عليه وسلم الخارجية، بعد أن حسم الوضع السياسي الداخلي في الحجاز لصالحه إثر صلح الحديبية3، وكان اهتمامه بتلك البلاد كهدف حيوي: - بوصفها أرضًا عربية مثل الحجاز. - إقامة مراكز إسلامية على الأطراف الشامية لنشر الدعوة بين القبائل العربية الوثنية منها والمتنصرة، واحتوائها تحت راية الدولة الإسلامية في المدينة، أو عقد صلح معها لتمتين النفوذ الإسلامي في تلك الربوع.

_ 1 فيلارك: معناها ملك. 2 الطبري: ج3 ص130. 3 تم صلح الحديبية في أواخر السنة السادسة للهجرة بين النبي وقريش، انظر ابن هشام ج4 ص24- 29.

- فك تحالفها مع الدولة البيزنطية. - السيطرة على طريق التجارة، إذ1 إن مضاربها تعد بمثابة معاير هامة للتجارة بين بلاد الشام، وأنحاء الجزيرة العربية في الوقت الذي وصلت فيه تجارة القوافل إلى ذروة النشاط، والاستقرار. وأخذ النبي يراقب الوضع في تلك المناطق من خلال السرايا المبكرة التي كان يرسلها، والرسائل الموجهة إلى الإمبراطور البيزنطي هرقل، والأمير الغساني شرحبيل بن عمرو، وصاحب بصرى1، وسائر رؤساء القبائل العربية. وبتنامي القوة الإسلامية، شعرت القبائل الموالية لبيزنطية في جنوبي بلاد الشام، بحدوث تغيير ديني وسياسي في الحجاز، على مقربة منها، تمحض عن قيام حكومة مركزية قوية في المدينة, ودخلت في طاعتها معظم قبائل الجزيرة العربية، وراحت تتطلع نحو الشمال، ورأت في هذا التطور خطرًا يهدد كيانها الديني والسياسي، لذلك وثقت علاقاتها ببيزنطية. ورأى هرقل في هذا التنامي تدخلًا في شئونه، واختراقًا لسيادته بعد انتصاره الكبير على الفرس، ومع ذلك فقد عده مجرد اندفاع قبلي، أو محاولة إمارة عربية ناشئة توسيع رقعتها الجغرافية، من ذلك النوع الذي اعتاد بدو الصحراء أن يشنوه بين وقت، وآخر على أطراف الدولة، ولا تلبث أن تتوقف تلقائيًا عندما يتصدى لها حراس الحدود من فرق الجيش الإمبراطوري، أو القبائل الموالية لبيزنطية التي تعيش على تخوم بلاد الشام. دفعت التطورات في الحجاز القبائل القاطنة في دومة الجندل2 إلى القيام بتحرك سريع، وتزعم أكيدر بن عبد الملك الكندي النصراني تحالفًا قبليًا راح يتهيأ للزحف نحو المدينة، ولما علم النبي بتلك الاستعدادت خرج من المدينة على وجه السرعة في شهر "ربيع الأول 5هـ/ آب 626م"، وتوجه نحو دومة الجندل مستبقًا قوى التحالف، ولما وصل إليها لم يجد من يصطدم به، ويبدو أن أكيدر تهيب الموقف، فانسحب باتجاه الشمال، واستغل النبي وجوده في تلك المنطقة، فقام بعمليات استطلاعية3. تعد هذه الغزوة الحلقة الأولى في سلسلة الصراع العسكري بين المسلمين، والقبائل الضاربة على تخوم بلاد الشام بخاصة، وبين المسلمين والبيزنطيين بعامة،

_ 1 بصري: قصبة كورة حوران، وهي من أعمال دمشق، الحموي: ج1 ص441. 2 دومة الجندل: حصن بين الشام والمدينة على سبع مراحل من دمشق. الحموي: ج2 ص487. 3 الطبري: ج2 ص564.

في الصراع على بلاد الشام، يؤكد هذا ما ذكره الواقدي من أنه قيل للنبي، وهو بصدد مهاجمة دومة الجندل: "إنها طرف من أفواه الشام، فلو دنوت منها لكان ذلك مما يفزع قيصر"1. وتكتفت هجمات المسلمين على المناطق الحدودية مع بلاد الشام في العام السادس للهجرة، نذكر منها سرية زيد بن حارثة التي انتهت إلى العيص2، وتلك التي انتهت إلى حسمي وراء وادي القرى، وقد ارتبطت كسبب بدحية بن الخليفة الكلبي، وكان عائدًا من بلاد الشام بعد أن اجتمع بهرقل، فهاجمته جماعة من جذام بقيادة الهنيد بن عارض ومعه ابنه، ولا تشير الرواية إلى دور هذا الرجل، أو علاقته بالنبي إلا أن اسمه يتردد فيما بعد كمبعوث له إلى بلاد الشام حاملًا رسالته إلى هرقل، وتدل قرائن هذه المهمة الثانية أن لها علاقة بمهمة دحية الأولى، أو هي استكمال لها، بدليل أن النبي لم يتردد في إرسال قوة عسركية للانتقام له، بقيادة زيد بن حارثة، فاجأت بني جذام، وقتل زيد الهنيد وابنه3. ويبدو أن هذه السرية لم تكن محصورة بنتائجها الثأرية، ولكنها مهدت لقيام علاقة وثيقة بين المدينة، وقبيلة جذام سيكون لها تأثيرها في مسار السياسة التي انتهجها النبي تجاه القبائل العربية4، فقد تحدثت روايات المصادر على قدوم رفاعة بن زيد الجذامي في رهط من قومه إلى المدينة معتنقًا الإسلام، وأجرى مباحثات مع النبي تمحض عنها ما يشبه المعاهدة، لم تصلنا بنودها إنما عرفت بنتائجها، فقد وافق النبي على إطلاق سراح الأسرى، والأموال التي غنمها زيد، وأرسل عليًا بن أبي طالب مع الوفد لتنفيذ الاتفاق5، وستهيمن روح هذه المعاهدة على المعاهدات التي سوف يعقدها النبي في المستقبل مع القبائل العربية المتنصرة. وثمة سرية أخرى خرجت في شهر "رجب 6هـ/ كانون الأول 627م" باتجاه وادي القرى بقيادة زيد بن حارثة6، وقد أغفلت روايات المصادر دوافعها ونتائجها، إنما يمكن القول بأنها تتعلق بسياسة النبي الشامية.

_ 1 الواقدي: ج1 ص403. 2 العيص: موضع في بلاد بني سليم من ناحية ذي المروة على ساحل البحر بطريق قريش، التي كانوا يأخذون منها إلى الشام، الحموي: ج4 ص173. 3 الواقدي: ج2 ص557. 4 بيضون، إبراهيم: دولة الرسول في المدينة، بحث في كتاب تاريخ بلاد الشام ص86، 87. 5 الواقدي: ج2 ص557. 6 طبقات ابن سعد: ج2 ص89.

وخرجت سرية في شهر "شعبان 6هـ/ كانون الثاني 628م"، بقيادة عبد الرحمن بن عوف باتجاه دومة الجندل لقتال قبيلة كلب النصرانية، وقد شغلت حيزًا هامًا في سياسة النبي الشامية، فقد طلب من قائدها أن يتزوج ابنة زعيم القبيلة إن استجاب هو، وقومه إلى دعوة الإسلام، وذلك بهدف استقطابهم، وتعزيزًا للعلاقات بين الطرفين، ويوضح هذا الأهمية التي يعلقها النبي على كسب قبيلة كلب إلى جانبه، فقد كانت هذه القبيلة أهم مجموعة عربية في بلاد الشام حين ظهر الإسلام كقوة سياسية, نجح عبد الرحمن في مهمته، واعتنق الإصبغ بن عمرو الكلبي الإسلام، وتبعه أكثر قومه، وتزوج من ابنته1. تكمن أهمية هذه السرية، في الدلالة على سياسية النبي التوسعية في اتجاه بلاد الشام، نظرًا لما تمثله دومة الجندل من موقع حيوي في التجارة مع هذه البلاد لا ينافسها فيه سوى بصرى2، ويذكر بأن هذا الموقع لفت نظر النبي من قبل، فقام بغزوه في مطلع السنة الخامسة للهجرة. وتميزت السرية المعروفة بأم قرفة بدوافعها الاقتصادية الواضحة، فقد خرج زيد بن حارثة في شهر "رمضان 6هـ/ كانون الثاني 628م" في تجارة إلى بلاد الشام، فتعرض لاعتداء من قبل جماعة من فزارة في مكان قريب من وادي القرى، وعاد إلى المدينة، بيد أنه عاد مجددًا إلى استئناف مهمته بعد إصرار النبي، ونزل في المكان نفسه، واصطدم مع الجماعة التي اعترضه، فقتل وأسر وعاد إلى المدينة3، ويعد هذا الاختراق لقبيلة كبيرة كفزارة ما تزال غير مكترثة حتى ذلك الحين، بالقوة الإسلامية النامية في المدينة، عملًا ناجحًا كان له وقعه الحسن بين المسلمين! 4. الواضح أن النبي لم يتمكن في العام السادس الهجري من حسم الوضع لصالحه على الحدود الشمالية للحجاز، وهذا ما دفعه إلى استئناف حملاته، وأتاح له صلح الحديبية، التحول نحو هدفه الخارجي، وهو مطئمن على وضعه الداخلي. ومن جهة أخرى شهدت الجبهة القبلية -البيزنطية بعض الارتباك؛ إذ تزعزعت ثقة القبائل العربية ببيزنطية، بفعل محاولتها تغيير المعادلة في العلاقات الثنائية من واقع فرض سيطرتها المباشرة عليها، وتخفيف مساعداتها المالية لها، مما أسهم في تراجع الروح المعنوية لدى القبائل التي نشأت على الاستقلال، ورفض التدخل الخارجي في

_ 1 طبقات ابن سعد: ج2 ص64، 65. 2 بيضون: ص88. 3 طبقات ابن سعد: ج2 ص90، 91. 4 بيضون: ص87، 88.

شئونها إلا ما كان في إطار التحالفات، والمصالح الخاصة، كما أن الاختلاف المذهبي أسهم في خلق وعي لديها تجاه الإسلام على الرغم من أنها وجدت فيه تحديًَا عقائديًا يفوق، مبدئيًا، التحدي البيزنطي، من هذا المنطلق تكتسب غزوات المسلمين نحو الشمال، بعد صلح الحديبية، تلك الأهمية التي فرضتها إعادة ترتيب مواقع النفوذ البيزنطي في الأطراف الشمالية1. استأنف النبي نشاطه الجهادي في الشمال بعد صلح الحديبية، فأرسل كتابين، أحدهما إلى الإمبراطور البيزنطي، والآخر إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك تخوم بلاد الشام، وتطرق في الكتاب الذي أرسله إلى هرقل إلى أوضاع القبائل العربية الموالية لبيزنطية، الأمر الذي آثار الإمبراطور البيزنطي، ودفعه إلى استنفار قواته وحلفاته من العرب: "فلا تحل بين الفلاحين، وبين الإسلام أن يدخلوا فيه أو يعطوا الجزية". وقد وردت أيضا عبارة الأريسيين محل الفلاحين، أي أتباع آريوس، وهم أصحاب المشيئة الواحدة المعارضة للمذهب الملكاني الذي اعتنقه البيزنطيون، إذ كانت القبائل العربية المنتصرة على مذهب الآريوسية الذي حمل اسم اليعقوبية فيما بعد، كما وردت لفظة الأكاريين للدلالة على أولئك الذين يعملون بحراثة الأرض وزراعتها2. وهكذا ستحمل هذه المرحلة الجديدة اهتمامًا أكثر من جانب النبي بأمور بلاد الشام، وستتوج سياسته هذه بغزوتي مؤنة، وتبوك في العامين الثامن والتاسع الهجريين. ففيما يتعلق بغزوة مؤنة، فإن أسبابها مرتبطة بالتحولات التي أسفرت عنها عودة البيزنطيين إلى بلاد الشئام من واقع سياسة هرقل الجديدة نحو القبائل العربية، والعمل على احتوائها بصورة مباشرة، وكان احتكاك المسلمين بعدد من هذه القبائل، وبخاصة كلب وجذام وقضاعة وفزارة، قد أثار حفيظة الإمبراطور، وعده تحريضًا لها على الخروج على السيادة البيزنطية3، كما أن مواقف هذه القبائل المعادية للنبي والمسلمين، والتي اتخذت صفة الغدر برسله إلى بلاد الشام؛ دفعته للعمل على تأديبها. كان حادث اعتراض شرحبيل بن عمرو الغساني لمبعوث النبي الحارث بن عمير الأزدي إلى ملك بصري، وقتله عند قرية مؤتة؛ هو الذي فجر الوضع العسكري في وقت بلغ فيه التوتر ذروته بين الطرفين، وتجلى ذلك في سرعة المبادرة في إعداد

_ 1 بيضون، إبراهيم: حملة مؤتة، المؤتمر الدولي الرابع لبلاد الشام عام 1987م، ص62، 63. 2 الطبري: ج2 ص649، ابن كثير: البداية والنهاية ج4 ص265. 3 بيضون: دولة الرسول في المدينة ص90.

حملة من ثلاثة آلاف مقاتل لتأديب القبائل العربية إن لم تستجب لدعوة الإسلام، وإشعارها بقوة الدولة الإسلامية، وقدرتها على ردع المعتدين والغادرين، وأوصى قائدها: "إن لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى إحدى ثلاث، فأيتهن ما أجابوك إليها، فاقبل منهم واكفف عنهم، الدخول في الإسلام، أو إعطاء الجزية أو القتال"1. وأدرك النبي مدى الخطر الذي يهدد الحملة أمام القوات البيزنطية وخلفائها، فسمى ثلاثة قادة يخلف الواحد منهم الآخر في حال استشهاده، وهم: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة2. حشد هرقل، الذي كان يتتبع أخبار تحرك المسلمين من مقره في أنطاكية، قوة عسكرية بيزنطية بقيادة أخيه تيودور زحفت باتجاه الجنوب، وعسكرت في مؤاب من أرض البلقاء، وانضمت إليها في هذا المكان قوات عربية موالية من بهراء، ووائل بن بكر ولخم، وجذام تقدر بمائة ألف مقاتل3. خرجت الحملة الإسلامية من المدينة في شهر "جمادى الأولى 8هـ/ أيلول 629م"، وعسكرت في مدينة معان في طرف بادية الشام من أرض البلقاء، وترامت إلى مسامع قادتها أنباء الحشود الضخمة التي حشدها هرقل، فعقدوا مجلسًا حربيًا للتشاور في أمر الحرب، وقرروا المضي في مهمتهم، فانحازوا إلى قرية مؤتة ليتحصنوا بها، وجرى اللقاء بين الطرفين في هذه القرية4. والواقع أن الحملة كانت أقرب إلى أن تكون حملة استطلاعية منها إلى حملة هدفها الدخول في صدام مسلح غير متكافئ، على الرغم من وصية النبي لقادتها بقتال المشركين، بدليل قلة الخسائر التي لم تتجاوز عشرة قتلى بالإضافة إلى القادة الثلاثة، وانعدام تفاصيل تتعلق بسير القتال وطبيعته، والمعروف أن خالد بن الوليد تسلم قيادة الجيش بعد استشهاده القادة الثلاثة، وتراجع من ساحة المعركة وفق خطة تكتيكية، وعاد إلى المدينة5. لكن ذلك لا يعني التقليل من أهمية المواجهة من جانب المسلمين، حيث كان لاستشهاد القادة الثلاثة تأثير عميق في المدينة، كما شكلت حافزًا جديدًا للاستمرار في هذه السياسة، ولم ير النبي فيها إخفاقًا، أو تراجعًا لمشروعه "ليسوا بالفرار، ولكنهم

_ 1 بالغت المصادر الإسلامية في حجم القوة البيزنطية، فجعلتها مائة ألف مقاتل. الواقدي: ج2 ص757. 2 ابن هشام: ج4 ص70. 3 الواقدي: ج2 ص760. 4 ابن هشام: ج4 ص74. 5 المصدر نفسه.

الكرار إن شاء الله تعالى"،1 أما من الجانب البيزنطي، فقد كانت جزءًا من عملية استطلاع تنظيمي لمناطق خلت من عمليات عسكرية مدة عقدين، كان البيزنطيون خلالها يحاولون تثبيت سلطتهم في مناطق تخلي عنها الفرس على امتداد التخوم الجنوبية لبلاد الشام، معتمدين على مساعدة القبائل العربية المتحالفة معهم، وكان تيودور هو الذي أقنعه بإرسال وحدات قتالية إلى هناك كإجراء احترازي، إزواء تهديد المسلمين الوشيك. وتشير الروايات الواردة عن معركة مؤتة إلى أن البيزنطيين استعادوا نوعًا من السلطة في تلك المناطق البعيدة نسبيًا الواقعة شرقي نهر الأردن من أجل: - المحافظة على جناح فلسطين. - الاستجابة لمطالب السكان المحليين للحماية. - عودة الإمبراطورية إلى الحدود السابقة. - حماية الحجاج النصارى إلى بيت المقدس، وإلى جبل نبو، وهو المكان الوحيد الذي يقصده الحجاج في شرقي نهر الأردن. - تأمين طرق التجارة مع البدو، وسكان سواحل البحر الأحمر، بفعل تذمر التجار الذين كانوا يتأذون من انعدام الأمن. مما أثار النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ودفعه إلى اتخاذ قرار بإرسال حملة إلى تبوك في شمالي الحجاز، وواحة دومة الجندل. وهكذا فإن حتمية مواجهة الخطر الذي فرضته التعبئة البيزنطية الواسعة في البلقاء، كانت أبرز دوافع هذا التحرك الإسلامي المضاد، تفاديًا لإثارة المشكلات الداخلية في الجزيرة العربية، وحفاظًا على انتصارات المسلمين في الداخل، وشمولية الدعوة الإسلامية. وفي غمرة هذه التحولات، أرسل النبي حملة أخرى إلى بلاد الشام بقيادة عمرو بن العاص بعد نحو شهر، عندما بلغه أن حشودًا من بلي، وقضاعة وعاملة وكلب وغسان، ولخم وجذام تجمعت بهدف غزو المدنية، وهي التي عرفت بغزوة ذات السلاسل، وقد بلغ عديدها ثلاثمائة مقاتل، وبفعل الحشود القبلية الضخمة التي صادفها عمرو، طلب نجدة عاجلة من المدينة، فأمده النبي بمائتي مقاتل بقيادة أبي عبيدة بن الجراح، وبعد عدة اصطدامات مع جماعات قبلية عادت الحملة إلى المدينة2.

_ 1 ابن هشام: ج4 ص74. 2 المصدر نفسه: ص239، وذات السلاسل وراء وادي القرى بينها، وبين المدينة عشرة أيام.

غطت هذه الحملة بنتائجها الإيجابية، والمتمثلة بفرض الوجود الإسلامي بعد الانتشار الواسع للمسلمين في هذه المناطق، وتهديد بلاد الشام، وإن يشكل غير مباشر؛ النتائج السلبية لغزوة مؤتة، وأعادت الثقة إلى نفوس المسلمين في المدينة. ووصلت إلى مسامع النبي، بعد عودته إلى المدينة في "أواخر 8هـ/ أوائل 630م"، في أعقاب فتح مكة وانتصاره في حنين؛ أنباء عن حشود بيزنطية -عربية مشتركة بهدف القيام بهجوم على المدينة، والقضاء على الدولة الإسلامية الناشئة، قبل أن يشتد ساعدها، وتشكل خطرًا جديًا على الوجود البيزنطي في بلاد الشام؛ فقرر التصدي لها، فخرج من المدينة في شهر "رجب 9هـ/ تشرين الأول 630م" على رأس جيش يقدر بثلاثين ألف مقاتل، ووصل إلى تبوك، وهي إحدى المحطات التجارية على الطريق التجارية بين وادي القرى، وبلاد الشام1. ويبدو أن قوى التحالف تهيبت الموقف، فآثرت الانسحاب باتجاه الشمال، مستهدفة في الوقت نفسه جر القوات الإسلامية إلى عمق الأراضي الشامية، والانقضاض عليها هناك، لكن النبي لم يتح للمتحالفين تحقيق هدفهم، وعسكر في تبوك جاعلًا إياها آخر نقطة في توغله شمالًا. وراح النبي يتصل بزعماء القبائل النصرانية المنتشرة في المنطقة في محاولة لاستقطابهم، وفك تحالفهم مع بيزنطية، وفعلًا وفدت عليه وفود القبائل المجاورة، وصالحته على الجزية نذكر منهم يوحنا بن رؤبة صاحب أيلة2، ووفود من جرباء3 وأذرح ومقنًا4، وأرسل خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك أمير دومة الجندل، فقاتله وأسره وقدم به إلى المدينة، فعفا عنه النبي وصالحه على الجزية5. الواقع أن النبي حقق بحركته الصعبة تلك، انتصارًا على الجبهة الشمالية، فقد استقطب عددًا من القبائل العربية القاطنة في جنوبي بلاد الشام، وربطها بالدولة الإسلامية التي أظهرت تفوقًا أمامها، وامتد نفوذ هذه الدولة إلى عمق المناطق التي كان سكانها يعملون لصالح البيزنطيين، ويؤدون دورًا خطيرًا في مقاومة امتداد الإسلام

_ 1 ابن هشام: ج4 ص173- 177. 2 أيلة: مدينة على ساحل بحر القلزم "الأحمر" مما يلي الشام، وقيل: هي آخر الحجاز وأول الشام، الحموي: ج1 ص292. 3 جرباء: موضع من أعمال عمان بالبلقاء من أرض الشام قرب جبال السراة من ناحية الحجاز، المصدر نفسه: ج2 ص118. 4 مقنًا: تقع قرب أيلة، الحموي: ج5 ص178. 5 الواقدي: ج3 ص1025- 1028.

باتجاه الشمال، ويعد خضوع هذه القبائل، وقطع علاقاتها ببيزنطية فتحًا لمنافذ الطرق إلى بلاد الشام، وبعثًا لروح المقاومة والتحرير في نفوس العرب، ويذكر الأزدي1. أن لخمًا وجذامًا وغسانًا، وعاملة والقين وقبائل من قضاعة، اشتركوا مع المسلمين في معركتي أجنادين2 واليرموك3، كما تعد المعاهدات التي عقدها النبي مع هذه القبائل بمثابة اعتراف بالقوة الإسلامية الناشئة، كما يصح عدها نواة الفتوح الإسلامية لبلاد الشام في عهد أبي بكر الصديق4. وجهز النبي، بعد عودته إلى المدينة من غزوة تبوك، حملة أخرى بقيادة أسامة بن زيد لإرسالها إلى التخوم الشمالية، والواضح أنه لم يستهدف فتح بلاد الشام، أو الدخول في معركة سافرة مع البيزنطيين بدليل أنها تألفت من ثلاثمائة مقاتل فقط، وإنما هدف أن تكون أشبه بمناورة عسكرية، وإظهار قوة المسلمين أمام القبائل التي ما تزال تساند البيزنطيين، لكن النبي توفي قبل أن تنطلق الحملة5. الثاني: التغيير الإداري عندما تسلم هرقل زمام الحكم في القسطنطينية في عام 610م، كان الخراب والدمار قد حلا بالإمبراطورية، وساءت أحوال البلاد الاقتصادية والمالية، وأصاب الشلل أجهزة الإدارة الحكومية، وأضحى النظام العسكري الذي يستند على تجنيد المرتزقة، عديم الفائدة، بعد أن عجزت الدولة، عن تجنيد المرتزقة بفعل فراغ الخزانة من الأموال، ويكمن دور المال هنا في تجنيد العرب للخدمة في الجيس البيزنطي، وضمان استمرارهم فيه، وازدادت أهميته مع تنامي الدولة الإسلامية، وتهديدها للمناطق الجنوبية من بلاد الشام، وتعرضت الأقاليم الكبيرة الواقعة في وسط الإمبراطورية لغارات الأعداء، فاستقر الصقالبة، والآقار في البلقان، في حين وطد الفرس وجودهم في قلب آسيا الصغرى، ولم يكن ثمة وسيلة لإنقاذ الإمبراطورية، التي أضحت بحاجة ماسة للدفاع عن نفسها، سوى قيام حركة إصلاح داخلية.

_ 1 فتوح الشام: ص130، 226، 227. 2 أجنادين: موضع معروف بالشام من نواحي فلسطين، وفي رواية: أجنادين من الرملة من كورة بيت جبرين، الحموي: ج1 ص103. 3 اليرموك: واد بناحية الشام في طرف الغور يصب في نهر الأردن، ثم يمضي إلى البحيرة المنتنة، المصدر نفسه: ج5 ص434. 4 بيضون: حملة مؤتة ص123، 124. 5 ابن سعد: ج2 ص189، الواقدي: ج3 ص1117.

وفي الوقت الذي كانت فيه الإمبراطورية تتعرض للضغط الخارجي، وسوء الأحوال الداخلية، انصرف هرقل إلى القيام بإصلاحات بالغة الأهمية، وهبتها قوة جديدة، لقد التفت في بادئ الأمر إلى إعادة تنظيم أقاليم الدولة بما أدخله من نظام الأجناد، وترتب على ذلك التخلص من أسس النظام الإداري الذي وضعه الإمبراطوران دقلديانوس وقسطنطين، والذي لم يعد ملائمًا لسد حاجات العصر1. وجرى تقسيم الأراضي التي لم يمسها العدو بالضرر إلى أقاليم عسكرية كبيرة، وهي المعروفة بالأجناد، يتولى حكم كل منها قائد عسكري، وبذلك اتخذت التنظيمات الإدارية الجديدة طابعًا عسكريًا خالصًا2. ويتمثل هذا النظام في استقرار الجند في أقاليم آسيا الصغرى، وبلاد الشام، ولذا جرى إطلاق لفظ أجناد على الأقاليم العسكرية التي نشأت بعد ذلك، وأضحى هذا اللفظ الذي كان يطلق على لواء من الجند، يطلق على الأرض التي تشغلها القوات العسكرية، وتقرر منح الجند مساحات من الأرض كحل للاضطراب المالي بشرط أن تكون الخدمة العسكرية مقابل ذلك وراثية. قسم هرقل آسيا الصغرى إلى أربعة أجناد هي: الأرمنياك ويقع إلى الشمال الشرقي، ويتاخم أرمينية، والأبسيق الذي يقع قرب بحر مرمرة على الساحل الغربي، والكاراباسيني، ويقع على الساحل الجنوبي لآسيا الصغرى، والناطليق ويقع في المنطقة الشرقية، أما الأقاليم الواقعة إلى الشرق، والجنوب من هذه الجهات، فكانت في أيدي الفرس لذلك لم يشملها نظام الأجناد3. ويعد نظام الإقطاع العسكري الأساس الذي قام عليه جيش وطني قوي، وهو الذي حرر الإمبراطورية مما تفتقر إليه من الجند المرتزقة الذين يكلفون الدولة أموالًا طائفة، وغدا الجند الفلاحون الذين حصلوا على إقطاعات مقابل الالتزام بالخدمة العسكرية، والنازلون في الإقطاعة، عنصرًا ثابتًَا في قوات الجيش البيزنطي، وأمدتهم إقطاعاتهم بالوسائل الاقتصادية التي تكفل لهم سبل العيش، فكان كل منهم يخرج إلى الحرب بسلاحه وفرسه4، ومن النتائج التي ترتبت كذلك على قيام هذا النظام أن أصبح من اليسير تجنيد جيش من داخل الإمبراطورية البيزنطية يتراوح عديده بين

_ 1 العريني: الدولة البيزنطية ص120. 2.Vasilev: p227. Ostrogonky: p86 3 العريني: ص121. 4 المرجع نفسه: ص122.

مائة وثلاثة عشر ألفًا، ومائة وثلاثين ألفًا موزعين على مختلف المناطق التي تشكل الإمبراطورية. وحل نظام الأجناد محل نظام حكومات الأقاليم الذي فقد أهميته، والذي كان يعد من أهم مظاهر الإدارية البيزنطية، ونتج عن ذلك أن تغلبت الصفة العسكرية على إدارة الإمبراطورية، وأعيد النظر بتنظيم القوات المسلحة، وأتاح هذا التغيير إلى قلب المعادلة العسكرية لصالح البيزنطيين أمام الفرس1. غير أن هذا النظام الجديد لم يترسخ في بلاد الشام بفعل قصر المدة بين إقراره، ووقوع هذه البلاد بأيدي المسلمين، وبالتالي لم يتح لهذا الإقليم أن يستفيد من إيجابياته، وفوجئ البيزنطيون بالزحف الإسلامي باتجاه بلاد الشام، وهم في حالة انتقال من النظام القديم إلى النظام الجديد المستحدث. الثالث: النظام الضريبي، وأثره على الحياة العامة تعود أسس النظام الضريبي في الدولة البيزنطية إلى أيام الإمبرطورين دقلديانوس وقسطنطين، وكانت الضرائب المفروضة على المدن، والقرى في بلاد الشام على نوعين: ضرائب نظامية، وضرائب طارئة لمواجهة أوضاع خاصة، وأهم الضرائب النظامية اثنتان: الأولى: ما يفرض على الأرض، وتقدر بنسبة معينة من قيمتها، ثم قدرت بنسبة "12.5%" من المحاصيل. الثانية: ضريبة الرأس. أما الضرائب الطارئة فتفرض في مناسبات خاصة، وتعد أكثر إرهاقًا لطبقة الشعب من الضرائب النظامية، مثل ضريبة الحرب في أيام الإمبراطور هادريان، وضريبة التاج، وضريبة الطعام لسد الحاجات المتغيرة للحاميات، وللإدارة الرومانية، وأضيفت ضريبة الأرض إلى ضريبة الرأس في عهد قسطنطين، فأضحى مجموع الوحدات التي تجمع بين الناس والأرض، أساساً للتقدير، وهذا يعني ربط الإنسان بالأرض2. ويبدو أن هذا النظام الضريبي لم يعد يفي بسد حاجات الدولة بسبب كثرة النفقات العسكرية الإدارية، وسبب عيوب النظام الإداري انتشار الفساد، وتفشي

_ 1 العريني: ص123. 2الدوري، عبد العزيز: تنظيمات عمر بن الخطاب، الضرائب في بلاد الشام ص457، 458، بحيث قدم في المؤتمر الدولي الرابع لتاريخ بلاد الشام.

السرقة، وابتزاز الأموال، وأدى ذلك إلى الفقر والخراب، وأثار الاضطرابات الداخلية، وفقدان الأمن. وما حدث في الإمبراطورية بعد ذلك، من مشكلات اجتماعية، وتراجع الزراعة بفعل الحروب المستمرة في الخارج، والثورات الداخلية، دفع بالإمبراطور جستنيان إلى حل المشكلات المالية من خلال إصلاح النظام الضريبي، ففرض على رعاياه أن يدفعوا كل ما للحكومة من ضرائب، وأمر بمسح الأرض، وقسمها إلى وحدات متساوية في قيمة الإنتاج بغض النظر عن مساحتها، تدفع كل وحدة منها ضريبة ثابتة، ثم أحصى السكان في القرى، وفرض عليهم ضريبة الرأس، وتحددت قيمة الضريبة في بلاد الشام على الذكور من 14 إلى 65 عامًا، وعلى الإناث من 12 إلى 65 عامًا1. وحصل الملاكون الكبار على حق جباية الضرائب المستحقة على ضياعهم، ودفعها إلى الخزينة المركزية مباشرة مما جعل سلطة الجباة عليهم منعدمة، وكلف المجلس البلدي في كل قرية بجمع الضرائب من القرى التابعة للمدينة وتوزيعها، ولقد ساهم سكان القرية في دفع الضرائب. نتج عن هذا النظام، أن تحمل الفلاحون، والمزارعون العبء الأكبر من الضريبة، وربطوا هم، وأسرهم بالأرض التي سجلوا عليها، وذلك بهدف تيسير جمع الضرائب، ولضمان زراعة الأرض، كما أن سوء الجباية وتعسف الجباة دفع صغار الملاكين إلى طلب حماية كبار الملاكين؛ ليتولوا مسئولية دفع الضرائب عنهم مقابلت نازلهم لهم عن أملاكهم، فأصبحوا بذلك مزارعين مرتبطين بالأرض، وعمد الملاكون الكبار من جهتهم إلى مضايقة الملاكين الصغار، ودفعهم إلى طلب حمايتهم بهدف توسيع ملكياتهم، ومع أن السلطات الإمبراطورية لم تكن تشجع الحماية، وحاولت الحد منها، إلا أنها اعترفت بها في أوائل القرن الخامس الميلادي، كأمر واقع وكحل لمشكلة الضائقة الاقتصادية2. ومن الأمثلة التي يسوقها المؤرخون المتعلقة بالظلم الاجتماعي في بلاد الشام المرتبط أساسًا بالنظام المالي، أن أبا عبيدة بن الجراح استعمل حبيبًا بن مسلمة على خراج حمص بعد أن فتحها المسلمون بموجب الصلح الذي عقد بين الطرفين، وكان من أهم بنوده أن منح الأمان لأهل المدينة مقابل "سبعين ألف دينار عاجلة، وعلى أداء الجزية عن كل محتلم في كل سنة أربعة دنانير"3.

_ 1 الدوري: ص458. 2 المرجع نفسه: ص458، 459. 3 البلاذري: ص136، ابن أعثم: ج1 ص171.

وعندما اضطر المسلمون للجلاء عن حمص قبل معركة اليرموك، طلب أبو عبيدة من عامله على الخراج أن يعيد ما كان قد أخذه من أهل حمص إليهم، "فإنه لا ينبغي لنا إذا لم نمنعهم أن نأخذ منهم شيئًا"1. واجتمع حبيب بن مسلمة بأهل حمص ورد عليهم ما لهم، فقالوا له: "ردكم الله إلينا، ولعن الذين كانوا يملكوننا من الروم، ولكن والله لو كانوا هم ما ردوا علينا بل غصبونا، وأخذوا ما قدروا عليه من أموالنا، لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم، والغشم، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم"2. الجيش البيزنطي 3: عندما بحثنا في أوضاع الإمبراطورية الفارسية، تناولنا أوضاع الجيش الفارسي من حيث تشكيلاته، وعدته وتكتيكه العسكري، وحتى نستكمل الدراسة العسكرية للقوى المسلحة التي واجهها المسلمون أثناء الفتوح، نبحث هنا أوضاع الجيش البيزنطي. لقد وضع الإمبراطور موريس، والقائد بلزاريوس أساس الجيش البيزنطي، وزاد الإمبراطور هرقل من كفاءته، وقدرته القتالية، وانتصر به على الفرس، والصقالبة والآفار. أعاد الإمبراطور موريس تنظيم الهيكل العام للجيش، ووضع أسس التجنيد، ورفع عديد الوحدة القتالية إلى أربعمائة، وجعلها الوحدة الأساسية للجيش، ثم جمع عددًا من هذه الوحدات في مجموعة واحدة يتراوح عديدها بين ستة وثمانية آلاف، وسماها "الفرقة". وتشكل فرقة الفرسان الثقيلة عماد الجيش البيزنطي بما لها من أهمية كبيرة، ويرتدي الفارس قميصًا معدنيًا من رقبته حتى الفخذين، ويحمل درعًا مستديرًا، كما يرتدي قلنسوة على رأسه، وقفازًا طويلًا يغطي اليدين إلى ما بعد الرسغ، وينتعل حذاء من الصلب، وزودت جياد الضباط، وقوات الخط الأمامي بمقدمة حديد لحمايتها، وجهزت الجياد بسروج مريحة، وركاب حديدي. يستخدم الفارس أثناء القتال سيفًا عريضًا، وخنجرًا وقوسًا، ويحمل جعبة مملوءة بالسام وحربة طويلة، ويثبت بلطة في سرج جواده أحيانًا.

_ 1 الأزدي: فتوح الشام، ص155. 2 المصدر نفسه: ص138، البلاذري: ص143. 3 مونتغمري، فيلد مارشال: الحرب عبر التاريخ ص194- 202.

وكان الزي العسكري موحدًا، يشتمل على معطف، وعلم مثلث على رأس الرمح، وخصلة من الشعر على الخوذة. والواقع أن هذا اللباس العسكري للفرسان، الذي اتصف بثقل الوزن، شكل عاتقًا أثناء العمليات القتالية أمام القوى الإسلامية التي اتصف مقاتلوها بخفة الحركة، إذ حد من حرية حركة الفارس، وحرمه من الاستفادة من كفاءته القتالية، ولياقته البدنية. وانقسمت فرقة المشاة في الجيش البيزنطي إلى قسمين: الأولى: فرقة المشاة الثقيلة، ارتدى أفرادها رداء معدنيًا، وقفازات طويلة، ودروعًا للساق، وخوذة حديدية من الأمام، وحملوا دروعًا مستديرة كبيرة، وشكل الرمح والسيف، والبلطة سلاحهم الهجومي، وكان هذا اللباس عائقًا ميدانيًا لهذه الفرقة من المشاة تمامًا مثل فرقة الفرسان الثقيلة. الثانية: فرق المشاة الخفيفة، واقتصرت مهماتها العسكرية على الدفاع عن الممرات، والمناطق الجبلية، وحماية القلاع، والمدن الهامة، وشكل الرماة عماد هذه الفرقة. ويتناسب تنظيم الوحدات العسكرية مع التكتيل الذي ينفذونه أثناء القتال، وهو أسلوب مرن يتغير من معركة إلى أخرى، ويحدد من قبل القادة بالاستناد إلى أسلوب العدو القتالي. وكان هناك سلم لرتب الضباط، أما المصطلحات الفنية المستخدمة في الجيش البيزنطي، فكانت خليطًا من الكلمات الرومانية، واليونانية واللاتينية. وعرفت بيزنطية نظام الكتائب في التكتيك القتالي القائم على سلاحي الفرسان والمشاة، وذلك بعد أن أخذته عن اليونان، إلا أن في العصر الإسلامي الأول، كانت جيوش بيزنطية تقسيم إلى فرق تسمى كراديس بضم كل منها زهاء ستمائة جندي1.

_ 1 سويد: ص80.

خريطة العراق

خريطة خطة أبي بكر لفتح العراق

الفصل الخامس: الفتوح في عهد أبي بكر

الفصل الخامس: الفتوح في عهد أبي بكر فتوح العراق: تمهيد: ترتبط البدايات الأولى لفتح العراق بانتهاء حروب الردة، فقد وجد المسلمون أنفسهم على حدود هذا البلد، حيث طارد المثنى بن حارثة الشيباني فلول المرتدين حتى دخل جنوبي العراق، فاستأذن أبا بكر في غزوه، وطلب منه أن يؤمره على قومه ليقاتل بهم الفرس، فكان له ما أراد1، ويذكر أنه حدث في مطلع القرن السابع الميلادي، ما جعل العراق أرضًا ممهدة، ومهيأة للعمليات العسكرية، فقد تدهورت العلاقات بين الفرس، وبين عرب العراق لا سيما قبيلة بكر بن وائل التي ينتسب إليها المثنى، وفي الحديث عن فتوح العراق نقرأ في روايات المصادر ما يفيد بأن كلا من المثنى، وخالد بن الوليد، كان حريصًا على أن يبدأ بفتح المناطق التي تنزلها قبائل عربية. حشد المثنى جيشًا من قومه، وراح يغير على أسفل العراق، على نواحي كسكر2 تارة، وعلى أسفل الفرات تارة أخرى، وبعد عدة عمليات ناجحة تبين له خلو المنطقة من مقاومة جدية. لفت هذا النجاح المبدئي نظر أبا بكر، وأدرك الوضع المتهاوي الذي تتخبط فيه دولة الفرس، وأنه حان الوقت لغزو أراضيها، وضمها إلى الدولة الإسلامية، فوضح خطة عسكرية تقضي بفتح كافة البلدات ابتداء من الأبلة في الجنوب حتى المصيخ3 في الشمال في خط مواز لشهر الفرات، وتطهير منطقة غربي الشهر من القوات

_ 1 البلاذري: فتوح البلدان ص242. 2 كسكر: كورة واسعة بين الكوفة والبصرة، الحموي: ج4 ص461. 3 المصيخ: بين حوران، والقلت على حدود الشام مما يلي العراق، المصدر نفسه: ج5 ص144، 145.

الفارسية والعربية الموالية للفرس، وبذلك ثقف جيوش المسلمين على حدود لا تبعد أكثر من خمسين كيلو مترًا مخن المدائن، وهي الهدف الأسمى. يتطلب تنفيذ هذه الخطة إرسال جيشين، يقوم أحدهما بعبور شبكة الأنهار إلى المدائن، ويكون الآخر عونًا له، وحاميًا لمؤخرته، على أن يدخلا المنطقة من ناحيتين مختلفتين، ويلتقيان في الحيرة، فكتب إلى خالد بن الوليد، وكان آنذاك في اليمامة، يأمره بالتوجه إلى العراق لمحاربة الفرس على أن يبدأ بالأبلة، كما كتب إلى عياض ابن غنم، وكان بالفراض1 يأمره بغزو العراق من أعلاه على أن يبدأ بالمصيخ، حتى يلقى خالدًا على أن تكون القيادة لمن يصل إلى الحيرة أولًا، وأمرهما بأن لا يكرها أحدًا على المضي معهما2، وبهذه الخطة العسكرية الذكية يكون أبو بكر قد حصر القوات الفارسية الموجودة في العراق بين فكي الكماشة بحيث تواجه أحد الجيشين، وهي مهددة من خلفها بالجيش الآخر، مما يسبب لها الارتباك. انطلق القائدان، كل في الطريق المحدد له، ونفذ خطة الخليفة بتفاصيلها، ولكن قواتهما تناقصت نتيجة عدم رغبة بعض الجنود بقتال الفرس، فكتبا إلى الخليفة يطلبان مددًا، فأمد خالدًا بالقعقاع بن عمرو التميمي، وعياضًا بعبد بن عوف الحميري، وأوصاهمتا باستنفار من قاتل المرتدين، ونهاهما عن الاستعانة بمرتد، كما استنصرهما بالمثنى3. نزل خالد في النباج وكتب إلى المثنى، وكان بـ"خفان"4، أن ينضم إليه مع قواته البالغ عديدها ثمانية آلاف مقاتل فأثمر بأمره، كما كتب إلى أمراء الجند المنتشرين في المنطقة بأن ينضموا إليه، ففعلوا، وكانت تحت إمرتهم ثمانية آلاف مقاتل أيضًا، فبلغ عديد جيشه عندما دخل إلى العراق ثمانية عشر ألف مقاتل5. معركة ذات السلاسل: سار خالد إلى الأبلة في شهر "محرم 12هـ/ أواخر آذار 633م"، وعندما اقترب من مشارفها كتب إلى حاكمها هرمز يدعوه إلى إحدى الخصال الثلاث: الإسلام أو

_ 1 الفراض: موضع بين البصرة، واليمامة قرب فليج من ديار بكر بن وائل. الحموي: ج4 ص243. 2 الطبري: ج3 ص344-347، ابن أعثم، أبو محمد أحمد: الفتوح ج1 ص73-76. 3 الطبري: ج3 ص346، 347. 4 خفان: موضع قرب الكوفة، الحموي: ج2 ص379. 5 الطبري: ج3 ص347.

الجزية أو الحرب1، وهو بهذا يستوفي ركنين شرعيين: الأول: أداء واجب الدعوة قبل الحرب. الثاني: إعلان الحرب في حال الرفض2. بالإضافة إلى إحداث أثر نفسي بإلقاء الرعب في قلب عدوه بما اشتمل عليه الكتاب من تهديد ووعيد3. رسم خالد خطته العسكرية على أساس دخول العراق من أربعة محاور على أن تلتقي الفرق العسكرية الأربع في الحفير4، وعندما علم هرمز بزحف المسلمين تصرف على محورين: الأول: كتب إلى الإمبراطور قباذ الثاني شيرويه، وإلى أردشير بن شيرويه يخبرهما بالوضع الميداني المستجد. الثاني: عبأ قواته، وزحف بها إلى الحفير للاصطدام بالمسلمين، لكن هرمز لم يحظ بالجيش الإسلامي؛ لأن خالدًا غير بعض جزئيات خطته العسكرية لأسباب تكتيكية، وتوجه إلى كاظمة5، فلحقه هرمز إلى هناك، واصطدم به بعد أن ربط جنوده بالسلاسل خشية الفرار، فبارزه خالد وقتله، وتعرض جيشه للهزيمة، وفرت فلوله فطاردهم المثنى6، وانتقل خالد بعد المعركة إلى منطقة البصرة، ونزل في موقعها، وسيطر على الخريبة7، وهي من مسالح الفرس. معركة المذار 8: علمت الدوائر الحاكمة في المدائن بأنباء الهزيمة التي مني بها الجيش الفارسي في كاظمة، فأدرك القيمون على الحكم مدى تأثيرها السلبي على وضعهم في

_ 1 الطبري: ج3 ص347، 348. 2 كمال، أحمد عادل: الطريق إلى المدائن ص214. 3 سويد: ص202. 4 الحفير: أول منزل من البصرة لمن يريد مكة، الحموي: ج2 ص277. 5 كاظمة: هي على سيف البحر في طريق البحرين من البصرة، بينها وبين البصرة مرحلتان، المصدر نفسه: ج4 ص431. 6 الطبري: ج3 ص348-350. 7 البلاذري: ص243. 8 المذار: في ميسان بين واسط والبصرة، وهي قصبة ميسان، بينها وبين البصرة ومقدار أربعة أيام، وتقع على الشاطئ، الشرقي لنهر دجلة، وتتشعب عندها الطريق إلى الأهواز، والجبال وفارس والسواد، الحموي: ج5 ص88.

العراق، وأنهم إذا لم يتحركوا فورًا لوقف الزحف الإسلامي، فإن عاصمتهم تصبح مهددة، لذلك قرروا متابعة القتال. وكان الإمبراطور الفارسي قد جهز، فور تسلمه كتاب خالد من عامله هرمز، جيشًا بقيادة قارن بن قريانس، وأرسله مددًا لهرمز، غير أنه لم يدركه، وعندما وصل إلى المذار بلغته أنباء الهزيمة، ومصرع هرمز، ووصلت إليه فلول ذات السلاسل، فضمها إلى صفوف قواته، ثم أجرى مباحثات مع القيادة المركزية تقرر بنتيجتها أن يعسكر الجيش في المذار على ضفة الثني، استعدادًا للتصدي للمسلمين1. علم المثنى، الذي كان يجوب المنطقة، باستقرار الجيش الفارسي في المذار، فكتب إلى خالد الذي بادر فورًا بالتوجه إلى هناك، وهو على تعبئة، وفتح أثناء زحفه بزندود في إقليم كسكر، ودرتي وهرمزجرد2. والواقع أن المذار لم تكن على محور الأبلة -الحيرة، المرسوم للتقدم، غير أن طبيعة التحرك الفارسي حتم على خالد أن يوفر عنصر الأمن لجيشه المتقدم من أن يضرب من جانبه الأيمن، ومع ذلك لا تعد خروجًا على الخطبة التي وضعها أبو بكر. واستنادًا إلى التقاليد العسكرية التي كانت سائدة في ذلك العصر، والقاضية بالتزام المبارزة قبل الالتحام، خرج قارن من قلب جيشه، ودعا المسلمين للمبارزة، فهرع إليه خالد، ومعقل بن الأعشى، وكان الثاني الأسرع في التحرك، فبارزه وقتله، ثم التحم الجيشان في رحى معركة رهيبة، كانت أشد قتالًا مما كان في ذات السلاسل، وأسفرت عن انتصار المسلمين، وقتل من الفرس زهاء ثلاثين ألفًا كان من بينهم قائدان مشهوران هما أنوشجان وقباذ، ولجأ من نجا إلى السفن ليعبروا، فغرق بعضهم، وحال الماء دون مطاردة المسلمين لهم لافتقارهم إلى السفن، وجرت المعركة في شهر "صفر 12هـ/ نيسان 633م"3. ذيول معركة المذار: أقام خالد والمسلمون في المذار، واتخذوها قاعدة للانطلاق، وتقصي أخبار الفرس، وأقر خالد، في خطوة لافتة، الفلاحين على أرضهم، وفرض الخراج والجزية، ثم استعد للتقدم نحو الحيرة، وعمد قبل الإقدام على هذه الخطوة إلى تنفيذ إجراء إداري -عسكري تمثل بما يلي:

_ 1 الطبري: ج3 ص351. 2 البلاذري: ص244. 3 الطبري: ج3 ص351، 352.

- وضع حاميات عسكرية تجاه الأبلة، والخريبة في وضع جسر البصرة على شط العرب، وفي أسفل دجلة. - عين حاكمًا عسكريًا للمنطقة، هو سويد بن مقرن المزني، على أن يتمركز في الحفير في موقع خلفي ليحمي مؤخرة الجيش الإسلامي المتقدم. - عين أمراء في النواحي المختلفة، وربطهم بالقيادة في الحفير نذكر منهم: سويد بن قطبة على ناحيته من منازل بني ذهل من جهة البصرة، قحطبة بن قتادة السدوسي على جهته، شريح بن عامر القيني السعدي على الخريبة. وجاء هذا الإجراء لأسباب منها: - أهمية منطقة الأبلة الاقتصادي، والعسكري بوصفها الطريق المائي الوحيد بين المدائن والشرق. - قطع الطريق على أي تحرك فارسي مضاد لاستعادة المنطقة في حال توغل في عمق الأراضي العراقية. - تأمين سلامة قواته، والمحافظة على خطوط مواصلاته مع المدينة. معركة الولجة 1: أقام خالد في المذار، بعض الوقت، يستقصي أخبار عدوه، ويجمع المعلومات عنه، ويراقب مسار تحركاته، وفي المقابل، جهز الإمبراطور الفارسي أردشير جيشين بعد أن بلغته أنباء هزيمة جيشه في المذار، ودفعهما إلى ساحة المعركة، قاد الجيش الأول أندرزغر، في حين كان الجيش الثاني بقيادة بهمن جاذويه، وأمرهما بأن يعسكرا في الولجة، وينتظرا جيش المسلمين فيها، ويبدو أن بهمن جاذويه كانت له نظرة عسكرية أخرى، فحتى يحشر جيش المسلمين بين فكي كماشة، توجه إلى وسط السواد، ولم يلحق بالجيش الأول، وذلك بهدف مهاجمة المسلمين من الأمام في الوقت الذي يهاجمهم فيه أندرزغر من الخلف، حين يخرج من السواد إلى تخوم الصحراء، ونظرًا لأهمية المواجهة، استنفر الفرس القبائل العربية الموالية لهم، وبخاصة قبيلة بكر بن وائل، والدهاقين، فانضموا إلى الجيش الأول2. علم خالد وهو بالمذار بأنباء الحشود الفارسية الضخمة، وزحفها باتجاه الولجة، وحتى يتفادى الخطة الفارسية قرر ضرب الجيشين الفارسيين كلًا على حدة، وفعلًا

_ 1 الولجة: في أرض كسكر، موضع مما يلي البر، الحموي: ج5 ص383. 2 الطبري: ج3 ص353.

ضرب الجيش الأول في الولجة قبل أن يصل الجيش الثاني، وفر أندرزغر في جو الهزيمة القائم إلى الصحراء، فمات عطشًا، وجرت المعركة في "22 صفر 12هـ/ 8أيار 633م"1. معركة أليس 2: فجع العرب الموالون للفرس بكثير من رجالهم في معركة الولجة، فتنادوا للثأر، وطلبوا من الفرس مساعدة عاجلة، وعسكروا في أليس بقيادة عبد الأسود العجلي، وانضم إليهم بعض الفرس ممن وجدوا في المنطقة، وانتظروا قدوم الجيش الفارسي الذي وعدهم به الإمبراطور، والواقع أن أردشير أمر بهمن جاذويه بالتوجه إلى أليس لمساعدة من اجتمع فيها من الفرس والعرب، وأمده بقوة إضافية بقيادة جابان. إدرك بهمن جاذويه صعوبة الموقف العسكري، وخطورته فتصرف على محورين: الأول: عين جابان قائدًا للجيش، وأمره بالتقدم إلى أليس، وأوصاه بعدم الدخول في معركة مع المسلمين حتى يلحق به إلا إذا بدأوه هم بالقتال. الثاني: غادر المنطقة وتوجه إلى المدائن لإجراء مباحثات مع أركان الحكم، لوضح خطة عسكرية شاملة لوقف زحف المسلمين. ولما وصل إلى العاصمة الفارسية وجد الإمبراطور مريضًا فأقام إلى جانبه، وترك جابان يواجه قوة المسلمين منفردًا. وصل جابان في غضون ذلك إلى أليس، وسبق خالدًا إليها، فعسكر فيها ينتظر قدومه، كان خالد في طريقه إلى أليس لمقاتلة من تجمع فيها من العرب، ولم يكن يعلم شيئًا عن وصول جابان إليها، ففوجئ بهذه الأعداد الضخمة من المقاتلين، وكان الجنود الفرس يتناولون الطعام، فاستغل هذه الفرصة، وقرر الدخول في معركة فورًا كي لا يدع لخصمه مجالًا للتفكير ورد الفعل السريع، وفعلًا التحم الجيشان في رحى معركة ضارية انتهت بانتصار المسلمين، وتكبدت قوى التحالف سبعين ألف قتيل، وجرت المعركة في "25 صفر 12هـ/ 11 أيار 633م"3.

_ 1 الطبري: ج3 ص353، 354. 2 أليس: قرية من قرى الأنبار في أول أرض العراق من ناحية البادية، الحموي: ج1 ص248. 3 الطبري: ج3 ص355- 357.

خريطة فتح الحيرة

فتح أمغيشيا 1: كانت أمغيشيا مصرًا كبيرًا كالحيرة، لم تحدث فيها معركة، ولم يقع فيها قتال، إنما كانت فيئًا بغير قتال، ذلك أن خالدًا أتى البلدة بعد أن فرغ من أليس، وقد غادرها سكانها متفرقين في السواد لعدم توفر المقاتلين، وإمكانات الصمود، فدخلها المسملون، واستولوا على ما فيها من أموال، وأثاث وخيول، وذلك في "28 صفر 12 هـ/ 14 أيار 633م"2. فتح الحيرة: كانت الحيرة تحت حكم المرزبان آزاذيه، الذي كان يراقب تحركات المسلمين، فأدرك أن الحيرة هي هدفهم التالي بعد أمغيشيا، وتجهز للتصدي لهم، إلا أنه لم يتخذ التدابير العسكرية الضرورية للانتصار عليهم، واقتصرت خطته القتالية على عرقلة تقدمهم، فسد مجرى الفرات، وفتح مجاري الأنهار التي ترفده حتى يمنع جريان الماء فيه، ويحول دون عبورهم، لكن خالدًا نجح في إعادة المياء إلى مجاريها جريان الماء فيه، ويحول دون عبورهم، لكن خالدًا نجح في إعادة المياه إلى مجاريها بعد أن انتصر على القوة التي تحمي السد، بقيادة ابن المرزبان، وفجره، ونقل جيشه عبر الماء نحو الحيرة على السفن التي كان قد غنمها من الفرس، ولما علم المرزبان بهذه التطورات السلبية، انسحب مع جنوده إلى ما وراء نهر الفرات، إذ لم يكن هناك من ينجده بعد موت أردشير، وانهماك أركان الحكم في المدائن في اختيار خلف له، تاركًا إقليم الحيرة يواجه مصيره، ويدافع عنه أهله من العرب. وضرب المسلمون الحصار على الحيرة، وقد تحصن أهلها بحصونهم، ورفضوا ما عرضه عليهم خالد من الدخول في الإسلام، أو الاستسلام ودفع الجزية، وأصروا على المقاومة، وبعد مناوشات عسكرية خارج أسوار الحصون، تمكن المسلمون من اقتحامها، واضطر المقاومون إلى استسلام، وجرت مفاوضات بين الجانبين، وافق بنتيجتها نقباء الحيرة على دفع الجزية، وجرى تحرير معاهدة الصلح في شهر "ربيع الأول 12هـ/ حزيران 633م"3. ذيول فتح الحيرة: تعد الحيرة أول عاصمة إقليمية فارسية يفتحها المسلمون، وهي حاضرة متقدمة

_ 1 أمغيشيا: موضع بالعراق ينتهي إليها فرات بادقلي، وكانت أليس من مسالحها، الحموي: ج1 ص254. 2 الطبري: ج3 ص358، 359. 3 المصدر نفسه: ص359- 364، وقارن بالبلاذري: ص244.

في الطريق إلى المدائن، تقع على حافة السواد وحافة البادية، ويقع الجزء المهم منها على الضفة الغربية لنهر الفرات، وتتصل بالمزارع والمتاجر الواردة من الهند والصين، وأدى سقوطها في أيدي المسلمين إلى: - تراجع الروح المعنوية للفرس. - حصول المسلمين على قاعدة تموينية مهمة. - حصول المسلمين على ميزة سياسية، وعسكرية بفعل موقعها الجغرافي، فهي قاعدة، وموطئ قدم للانطلاق نحو الداخل العراقي، كما أنها طريق مناسب لأي انسحاب إسلامي إذا لزم الأمر. - خضوع القرى المجاورة لسيطرة المسلمين، ذلك أن الدهاقين كانوا ينتظرون نتيجة الصراع على الحيرة، ولما وقعت في أيدي المسلمين، واطلعوا على شروط الصلح الذي أربمه خالد مع أهلها، اقتدروا بهم كي يجنبوا قراهم ويلات الحرب، نذكر من هؤلاء: دهاقين الملطاط1، وقس الناطف2، والقرى بين الفلاليج3، وهرمزجرد4. - أتاح فتح الحيرة للمسلمين التوغل في عمق الأراضي العراقية في ما وراء نهر الفرات حتى شاطئ دجلة، ولم يعد للفرس موطئ قدم بين الحيرة، ودجلة. - بدأ خالد يمارس سلطاته الجديدة العسكرية منها والمدنية، إذ إن النتيجة الطبيعة لعقد المعاهدات دفعته للقيام بأمرين: الأول: حماية المستفيدين من مفاعيل الصلح ضد التعديات الفارسية. الثاني: جباية الجزية منهم. لذلك خصص حاميات عسكرية لحماية أهل الذمة، وأرسل العمال للجباية. - كان لفتح الحيرة صدى كبير في الجزيرة العربية، إذ كانت في نظر جميع العرب قبلة الشعر، وفرح المسلمون بهذا الفتح فرحًا عظيمًا. - أقام خالد في الحيرة، وجعلها مقرًا لقيادته، ومعقلًا لجيشه.

_ 1 الملطاط: طريق على ساحل البحر، وكان يقال لظهر الكوفة اللسان، وما ولي الفرات منه الملطاط الحموي: ج5 ص192. 2 قس الناطف: موضع قريب من الكوفة على شاطئ الفرات الشرقي، المصدر نفسه: ج4 ص349. 3 الفلاليج: قرى السواد، المصدر نفسه: ص270. 4 هرمزجرد: ناحية بأطراف العراق، المصدر نفسه: ج5 ص402.

خريطة فتح الأنبار

فتح الأنبار: انتهى خالد من تنفيذ الشق الأول من خطة أبي بكر بغزو العراق من جهة الجنوب، وأقام في الحيرة ينتظر أن يفرغ عياض بن غنم من أمر دومة الجندل، وكانت أول موقع عليه إخضاعه قبل أن يدخل إلى العراق من شماله وصولًا إلى الجنوب، لكنه فشل في اقتحامها، وبالتالي فإنه تأخر في الزحف نحو هدفه، وهو الوصول إلى الحيرة، وكانت أوامر الخليفة صريحة بألا يقتحم المسلمون أرض أرض الفرس، وخلفهم حاميات لهم متحصنين، والمعروف أنه ما زال للفرس حاميات في عين التمر1، والأنبار والفراض تشكل جميعها خطرًا على ميسرة، ومؤخرة أي جيش يتقدم من الحيرة إلى داخل العراق. دفعت هذه التطورات السلبية خالدًا على أن يقوم بنفسه بعمل عياض، بعد أن حصل على إذن من الخليفة، فاستخلف القعقاع بن عمرو التميمي على الحيرة، وخرج منها على رأس الجيش متوجهًا إلى الأنبار، وقد تحصن بها أهلها، وحفروا حولها خندقًا، استعدادًا للمقاومة, ولما وصل إليها طاف بالخندق متفحصًا، ثم أمر جنود ببدء القتال، وأوصاهم قائلًا: "إني أرى أقوامًا لا علم لهم بالحرب، فارموا عيونهم لا توخوا غيرها"، فرموهم فأصابوا ألف عين، ولذلك سميت المعركة بـ"ذات العيون". ودبت الفوضى داخل الحصن، وشغل أهله بمن أصيب منهم، فاضطر حاكم الأنبار شيرزاد إلى الاستسلام بعد أن فشل في المقاومة، وكان المسلمون قد طمروا الخندق، واقتحموا الحصن، ووافق شيرزاد على شروط خالد لعقد الصلح لكنه طلب بالمقابل السماح له بالخروج مع مفرزة من الفرسان، فوافق خالد، فخرج إلى المدائن حيث اجتمع ببهمن جاذويه، وشرح له صعوبة الموقف، وكان فتح الأنبار في "4 رجب 12هـ/ 11 أيلول 633م"2. استقر خالد في الأنبار، وقدمت عليه وفود من العرب والفرس، ممن يقيمون في الجوار، يطلبون الصلح، فصالحهم. معركة عين التمر: كان هدف خالد بعد الأنبار حصن عين التمر، حيث اجتمعت فيه قوات فارسية

_ 1 عين التمر: بلدة قريبة من الأنبار غربي الكوفة، الحموي: ج4 ص176. 2 البلاذري: ص247، الطبري: ج3 ص373- 375.

وعربية بقيادة مهران بن بهرام جوبين وعقة بن أبي عقة، فخرج من الأنبار متوجهًا إليه، ولما علم من بداخل الحصن بقدوم المسلمين قرروا بعد مشاورات بينهم أن يتفرد العرب بخوض المعركة على أساس أنها ستجري مع طرف عربي، وأنهم أعلم بأساليب العرب القتالية، فخرجت القوة العربية بقيادة عقة من الحصن، وعسكرت على طريق الكرخ بانتظار وصول القوات الإسلامية في حين بقيت القوة الفارسية داخل الحصن. ووصل المسلمون إلى المكان، وعقة يعبئ قواته، فقرر خالد مباغتته منفردًا، فاندفع نحوه واحتضنه وأسره، فأثر ذلك على معنويات قواته، فولوا الأدبار لا يلوون على شيء، ولما رأى مهران ما حل بعقة، وجنوده خشي على نفسه، فغادر الحصن هاربًا مع أتباعه، وتوجه نحو الشمال، واقتحم المسلمون الحصن واستسلم من به، وقتل خالد عقة، وقد حدث ذلك في "11 رجب 12هـ/ 21 أيلول 633م"1. فتح دومة الجندل: تعد دومة الجندل موقعًا حصينًا بين المدينة ودمشق، ولها أهمية تجارية وعسكرية تحث المسلمين على فتحها. ففي ما يتعلق بأهميتها التجارية، فهي بحكم موقعها الجغرافي عند ملتقى الطرق مع المدينة، والكوفة ودمشق، تستطيع أن تتحكم بسير القوافل التجارية. وفي ما يتعلق بأهميتها العسكرية، فهي موقع حصين على الطرف الجنوبي لبلاد الشام المحاذي لمناطق الحدود الشمالية للجزيرة العربية، في الوقت الذي كان فيه للمسلمين وجود عسكري في العراق، وبلاد الشام، يتطلب حماية جنوبية قبل توغل جيوشهم في عمق بلاد الشام بخاصة، كان عياض بن غنم في طريقه إلى دومة الجندل، ولما وصل إليها واجه تكتلًا قبليًا من بهراء، وتنوخ وغسان، وكلب والضجاعم، فطلب مددًا من الخليفة، فأمده بالوليد بن عقبة الذي جاء من العراق موفدًا من قبل خالد، وضرب المسلمون الحصار على الحصن، وتمكنت قوة عربية من الحلفاء الخروج من الحصن، وحاصرت المسلمين من الخلف، فوقع هؤلاء بين فكي الكماشة، وتخرج موقفهم، فعقدوا مجلسًا للمشورة، وتقرر الاستعانة بخالد، فطلبوا منه القدوم لمساعدتهم، فاستجاب لنداء الاستغاثة. وصل خالد إلى دومة الجندل في غضون عشرة أيام، فتسلم إمرة الجيش

_ ـ 1 الطبري: ج3 ص376، 377.

*الإسلامي، واشتبك مع قوى التحالف خارج الحصن، وأسفر الاشتباك عن انتصار المسلمين، والواقع أن الخطة العسكرية التي فرضها خالد على المتحالفين، والتي أدت إلى توزيع قواتهم في اتجاهين متعاكسين ومتباعدين، بالإضافة إلى انسحاب أكيدر بن عبد الملك صاحب الحصن من قوى التحالف، بسبب اختلاف وجهات النظر حول التعامل مع المسلمين1؛ قد أثر على نتيجة المعركة، واقتحم المسلمون الحصن، وقتلوا من بداخله من المقاتلين، وتم هذا الفتح في "24 رجب 12هـ/ 4 تشرين الأول 633م"2. معركة الحصيد 3: أقام خالد في دومة الجندل، وأرسل الأقرع بن حابس إلى الأنبار، فتراجع اندفاع المسلمين في العراق، وقد لاحظ الفرس ذلك، فنهضوا لاستعادة ما فقدوه من مدن وقرى، وطرد المسلمين من المنطقة، وقد نسقوا مع القبائل العربية الموالية لهم، وهكذا خرج جيشان فارسيان من بغداد4 باتجاه الأنبار. الأول بقيادة زرمهر، وقد توجه إلى الخنافس5، والثاني بقيادة روزبة، وقد سار إلى الحصيد. كان الزبرقان بن بدر حاكم الأنبار6 يتتبع تحركات الفرس، وحلفائهم من العرب، فكتب إلى القعقاع بن عمرو في الحيرة، يشرح له الوضع الميداني، فأرسل هذا قوتين عسكريتين إلى الحصيد بقيادة أعبد بن فدكي السعدي، وإلى الخنافس بقيادة عروة بن الجعد؛ لقطع الطريق على الفرس. لم ير الفرس ما يستوجب الدخول فورًا في معركة، وإنما انتظروا قدوم حلفائهم من عرب ربيعة، فأعطى هذا التباطؤ في التحرك فرصة للمسلمين استغلوها بنجاح، وكان خالد قد عاد في غضون ذلك إلى الحيرة مع عياض بن غنم، فأرسل قوة عسكرية بقيادة أبي ليلى بن فدكي السعدي إلى الخنافس للاصطدام بزرمهر، وأخرى بقيادة القعقاع إلى الحصيد للاصطدام بروزبة، وخرج هو على رأس قوة عسكرية إلى عين التمر تمهيدًا للتدخل عند الضرورة.

_ 1 الطبري: ج3 ص378. 2 المصدر نفسه: ص378، 379. 3 الحصيد: موضع في أطراف العراق، وهو واد بين الكوفة والشام، الحموي: ج2 ص266. 4 كانت بغداد آنذاك قرية في شمال المدائن. 5 الخنافس: أرض للعرب في طرف العراق قرب الأنبار من ناحية البردان. الحموي: ج2 ص391. 6 كان الأقرع بن حابس لم يصل إليها بعد.

فوجئ روزبة بزحف المسلمين، فاستغاث بزرمهر، فأنجده؛ وخاضا معًا معركة خاسرة ضد القوات الإسلامية حيث لقيا مصرعهما، وجرت المعركة في "10 شعبان 12هـ/ 20 تشرين الأول 633م"1. معركة الخنافس: لجأت فلول الفرس الناجية من معركة الحصيد إلى الخنافس، فأدى ذلك إلى إلقاء الرعب في قلوب سكانها، ووهنت نفوسهم، وفر بعضهم إلى المصيخ للاحتماء بها، مما سهل مهمة أبي ليلى، فدخلها دون قتال في "11 شعبان 12هـ/ 21 تشرين الأول 633م"2. فتح المصيخ: أتيح لخالد، بعد هذه الانتصارات، أن يهاجم المصيخ في محاولة لمنع الحلفاء من الفرس، والعرب من إعادة تنظيم صفوفهم، فاستدعى قادته، وهاجموا البلدة من ثلاثة محاور، وفاجأوا خصومهم وهم نائمون، وذلك في "19 شعبان 12هـ/ 29 تشرين الأول 633م"3. فتح الثني 4 والزميل 5: كانتا الهدف التالي بعد المصيخ، فاقتحمهما المسلمون من ثلاثة محاور، ونجحوا في دخولهما، كما وقعت الرضاب6 في أيديهم، وذلك في "23 شعبان 12هـ/ 2 تشرين الثاني 633م"7. معركة الفراض: كانت معركة الفراض آخر أعمال خالد الكبيرة في العراق، فبعد أن بسط سلطان المسلمين على سواد العراق، أراد أن يؤمن حماية مؤخرة جيشه، حتى إذا اجتاز السواد إلى فارس، كان مطمئنًا لما يخلف وراءه، وتقع الفراض على الحدود المشتركة بين البيزنطيين، والفرس وعرب الجزيرة، وكان اندفاعه حتى الفراض، توغلًا في أرض

_ 1 الطبري: ج3 ص380. 2 المصدر نفسه. 3 المصدر نفسه: ص381، 382. 4 الثني: موضع بالجزيرة، شرقي الرصافة، الحموي: ج2 ص86. 5 الزميل: موضع عند البشر بالجزيرة شرقي الرصافة، المصدر نفسه: ج3 ص151. 6 الرضاب: موضع الرصافة، قبل بنائها، المصدر نفسه: ص50. 7 الطبري: ج3 ص382، 383.

يحكمها البيزنطيون مما أثار هؤلاء، كما حقد الفرس، والعرب الموالون لهم على المسلمين، فتنادوا للثأر مما حل بهم، وبخاصة تغلب وإياد والنمر، وزحفوا نحو الفراض، وجرى بين الجانبين قتال دموي رهيب في "15 ذي القعدة 12هـ/ 21 كانون الثاني 634م"، انتهى بهزيمة الحلفاء1.

_ 1 الطبري: ج3 ص383، 384.

فتوح بلاد الشام

فتوح بلاد الشام: تمهيد: يكاد يتفق الباحثون في تاريخ الفتوح الإسلامية على أن بلاد الشام كانت في مقدمة اهتمامات الخليفة أبي بكر الهادفة إلى التوسع عبر المناطق المألوفة للعرب جغرافيًا2، وكانت هذه البلاد أكثرها التصاقًا بذاكرة العربي التاجر، حيث سعى إليها في رحلة الصيف، أو سمع الكثير عنها من رجال القوافل، ورواة الأخبار. وتعود بدايات السياسية التوسعية في تلك المنطقة إلى عصر الرسالة، كما ذكرنا من قبل، وكانت هذه الرؤية حاضرة في ذهن أبي بكر الحريص على انتهاج سياسة النبي التوسعية، منذ بداية عهده، وإذا كانت ملامح هذه السياسة قد ظهرت أولًا في العراق، فإن الجبهة الشامية قد استقطبت الجانب الأكبر من اهتمامات أبي بكر3، وبخاصة بعد انتصارات المسلمين في العراق. وتمت خطة التحرك نحو بلاد الشام في السنة الثانية عشرة للهجرة، بعد مشاورات أجراها أبو بكر مع كبار الصحابة من أهل الحل والعقد، ثم قام بتعبئة المسلمين لغزو هذه البلاد. كان رد فعل عامة المسلمين الفوري الصمت، وذلك بفعل هيبة غزو البيزنطيين، حتى قام خالد بن سعيد بن العاص الأموي، فتقبل الفكرة، فكان أول من خرج إلى بلاد الشام بعد أن عقد له أبو بكر لواء، هو أول لواء عقده لحرب الشام. تحمست بعض القبائل، في سياق هذه الحملة التعبوية، للمشاركة في عملية فتوح بلاد الشام، وأرسلت مقاتليها إلى المدينة، ومع ذلك ظلت الاستجابة بالمشاركة ضعيفة، مما دفع أبا بكر إلى استنفار قبائل اليمن، فجاءه المتطوعون من حمير ومذحج.

_ 1 الطبري: ج3 ص383، 384. 2 المصدر نفسه: ص387، ابن عساكر، أبو القاسم علي بن الحسن: تاريخ مدينة دمشق ج2 ص61، 62. 3 بيضون، إبراهيم: ملامح التيارات السياسية في القرن الأول الهجري ص59، 60.

منازل القبائل العربية في وسط وشمالي الجزيرة العربية وبلاد الشام في العصر النبوي

خريطة فتوح الشام

يخبرنا البلاذري أن أبا بكر سارع فور انتهائه من قمع قبائل الردة بتعبئة قبائل نجد، والحجاز، واليمن لغزو بلاد الشام، وسعى لتشجيعها بالغنائم العظيمة، "فسارع الناس إليه بين محتسب وطامع"1، وهذا يعني أن بعض القبائل كانت تدفعهم غريزة العزو والغنيمة، وفق تقاليد الغزو المعروفة في المجتمع العربي، وأن أبا بكر لجأ إلى هذه الوسيلة التشجيعية بعد أن لمس ضعف الاستجابة العربية لمشروعه، مما يدل على أن بعض العرب كان الإسلام لا يزال ضعيفًا في قلوبهم، كما أن منع أبي بكر، المرتدين من المشاركة في حرب الفتوح، وهم أكثر العرب، قد أثر على ذلك. ومهما يكن من أمر، فإن حركة الفتوح الإسلامية لبلاد الشام، نوقشت بين أهل الحل والعقد، ثم عرضت على عامة المسلمين، ووضعت الخطوط العريضة لها أثناء انعقاد اجتماع كبار الصحابة. جيوش الفتوح: بعد أن استكملت التجهيزات وتمت الاستعدادات، عين أبو بكر قادة الجيوش التي قرر أن يرسلها إلى بلاد الشام، وهي على الشكل التالي: الجيش الأول: عقد أبو بكر قيادة هذا الجيش إلى خالد بن سعيد بن العاص الأموي، وحدد له دمشق كهدف، ويتراوح عديده بين ثلاثة وأربعة آلاف مقاتل، وقد أبدى عمر بن الخطاب تحفظًا على قيادة خالد، لموقف اتخذه من بيعة أبي بكر2، فأعفاه الخليفة بعد أن اقتنع برأي عمر، واسترد منه اللواء، وعين مكانه يزيد بن أبي سفيان، وهو أموي أيضًا3، وربما أراد أبو بكر من ذلك، حظ التوازن في توزيع المسؤوليات بين الأسر القرشية، إنما حفظ لخالد مكانته، وعينه قائدًا لقوات احتياطية تتمركز في تيماء، ويكون تابعًا لأبي عبيدة، وذلك قبل أن ينطلق هذا الأخير إلى بلاد الشام4، وأردف أبو بكر ربيعة بن الأسود بن عامر مددًا ليزيد، فأضحى عدد قواته سبعة آلاف مقاتل، وحدد لقائده طريق زحفه وهو: وادي القرى -تبوك- الجابية5- دمشق، وزوده

_ 1 فتوح البلدان: ص115. 2 انظر موقف خالد بن سعيد بن العاص من بيعة أبي بكر عند الطبري: ج3 ص387، 388. 3 المصدر نفسه: ص387. 4 المصدر نفسه: ص388. 5 الجابية: قرية من أعمال دمشق من ناحية الجولان قرب مرج الصفر في شمالي حوران، الحموي: ج2 ص91.

خريطة توزيع الجيوش على القطاعات

بتعليمات مهمة1 تشكل مخططًا واضحًا للتعبئة، وتحدد السياسة الإسلامية العامة لقادة جيوش الفتوح، وتوضح المعطيات التالية: - عدم إلزام القائد، نفسه وأصحابه، بما يؤثر على مسيره، وإعطاء كل جندي حقه مع الراحة الضرورية لأفراد الجيش للمحافظة على قدرتهم القتالية، على أن يشاورهم في الأمر للوصول إلى قرار سليم؛ لأن ذلك يرفع من روحهم المعنوية، كما أن عليه ألا يكون شديدًا على مرءوسيه حتى لا يضعف روحهم المعنوية. - تأمين العدل لمرءوسيه، وإبعاد الشر والظلم عنهم فيوقت السلم حتى يلازموه في وقت الحرب. - تنفيذ المبادرة وإعادة تجميع القوات، وعدم الفرار عند لقاء العدو؛ لأن ذلك يغضب الله. - تجنب قتل الأولاد والشيوخ، والأطفال ونقض العهود والعذر؛ في حال الانتصار؛ لأن ذلك يؤدي إلى بث الطمأنينة في نفوس سكان المناطق المفتوحة، ويدفعهم إلى الالتزام بما عاهدوا عليه، وفي ذلك كسب كبير للمسلمين. - عدم التعرض لرجال الدين في الأديرة على أن يخير الأعداء المشركون الموالون للشيطان، بين القتل أو الدخول في الإسلام أو الجزية، وفي ذلك كسب معنوي ومادي. انطلق هذا الجيش في "23 رجب 12هـ/ 3 تشرين الأول 633م" سالكًا الطريق المحدد له2. الجيش الثاني: عين أبو بكر شرحبيل بن حسنة قائدًا للجيش الثاني، وهدفه بصرى عاصمة حوران، ويتراوح عديده بين ثلاثة وأربعة آلاف مقاتل على أن يسلك طريق معان -الكرك3- مأدبًا- البلقاء- بصرى، وأوصاه بمثل ما أوصى به يزيد، وزاد عليها خصالًا هي: "أوصيك بالصلاة في وقتها، وبالصبر يوم البأس حتى تظفر أو تقتل، وبعيادة المرضى، وبحضور الجنائز، وذكر الله كثيرًا على كل حال".

_ 1 انظر هذه التعليمات عند الواقدي: ج1 ص8، ابن عساكر: ج2 ص75- 77. 2 كمال: الطريق إلى دمشق ص176. 3 الكرك: اسم لقلعة حصينة جدًا في طرف الشام من نواحي البلقاء في جبالها، بين أيلة وبحر القلزم وبيت المقدس، وهي على سن جبل عال تحيط بها أودية إلا من جهة الربض، وهي الآن في شرق الأردن، الحموي: ج4 ص453.

خرج هذا الجيش من المدينة في "27 رجب/ 7 تشرين الأول"1، سالكًا الطريق المحدد له، وشكل الجناح الأيسر للجيش الثالث، والجناح الأيمن للجيش الرابع، ولم يصادف أثناء زحفه مقاومة تذكر، وعندما وصل إلى بصرى ضرب عليها حصارًا مركزًا، استمر حتى قدوم خالد بن الوليد من العراق. الجيش الثالث: بقيادة أبي عبيدة بن الجراح، وهدفه حمص، ويتراوح عديده بين ثلاثة وأربعة آلاف مقاتل، على أن يسلك طريق وادي القرى -الحجر- ذات المنار2 -زيزاء3- مآب4- الجابية- حمص، وأوصى أبو بكر قائده بمثل ما أوصى به عمرو بن العاص، وأضاف قائلًا له: "فإنه ليس يأتيهم مدد إلا أمددناك بمثلهم أو ضعفهم، وليس بكم والحمد لله قلة ولا ذلة، فلا أعرفن من جبنتم عنهم ولا ما خفتم منهم"5. يتضمن هذا النص مفهومًا واضحًا للتعبئة العسكرية بما حدده الخليفة من قدرة على الإمداد الصحيح في الوقت المناسب بما يزيد على إمداد العدو، وأضاف إلى التعبئة المادية، تعبئة معنوية عندما أكد لأفراد الجيش أنهم في عدة وعدد حسن، وهم فرسان ذوو بصيرة، وقدرة على القتال، وما بهم خوف ولا جبن، مما يدفعهم إلى ملاقاة عدوهم بقلوب قاسية لا تعرف المسالمة ولا اللين. وأضاف أبو بكر "فبث خيلك في القرى والسواد، ولا تحاصر مدينة من مدنهم حتى يأتيك أمري"5، والواضح أن في هذا الأمر علاقة بالتوزيع السكاني في بلاد الشام، وأن أبا بكر أراد أن يجنب قادته صدامًا كبيرًا مع العدو في المرحلة الأولى من الفتوح، ويدل ذلك على: - أن غالبية سكان مدن بلاد الشام كانوا متحالفين مع البيزنطيين، ويعارضون الانتشار الإسلامي في ربوع بلادهم. - أن سكان القرى والوساد كانوا أقرب إلى صداقة المسلمين وأقل عداوة، وذلك بفعل طبيعتهم البدوية التي تنسجم مع طبيعة العربي المسلم. - إدراك أبي بكر لطبيعة التوزع السكاني في بلاد الشام، وتوجهات سكانها.

_ 1 كمال: ص185. 2 ذات المنار: موضع في أول أرض الشام من جهة الحجاز، الحموي: ج3 ص3. 3 زيزاء: من قرى البلقاء، المصدر نفسه: ص163. 4 مآب: مدينة في طرف الشام من نواحي البلقاء، المصدر نفسه: ج5 ص31. 5 الأزدي: ص16.

- نية أبي بكر بمد سلطانه على القبائل العربية التي كان بعضها يعيش في مناطق التخوم الشامية مع الجزيرة العربية، أو في القرى المنتشرة بين الحجاز والشام, وينسجم هذا التوجه مع الهدف الأساسي للفتوح ألا وهو نشر الإسلام بين العرب أولًا، وسواهم من الأمم بعد ذلك. ويذكر في هذا المقام أن سكان بلاد الشام كانوا على نوعين من الناحية القومية، عربًا وغير عرب، أما العرب فهم بدو القبائل الرحل، وأنصاف الرحل الذين استقروا في القرى، والسواد المتاخمة للجزيرة العربية، وهؤلاء هم الذين أشار إليهم أبو بكر، وأما غير العرب، وأعني بهم سكان المدن، فقد كانوا يتكلمون خليطًا من اللغات، وإن توزع بعض العرب بينهم. خرج الجيش الثالث إلى وجهته في "7 شعبان/ 17 تشرين الأول"1، وصادف أثناء زحفه قوة للعدو في بلدة مآب، فقاتلها وهزمها، وسيطر على الجابية، ورابط فيها استعدادًا للزحف نحو حمص. الجيش الرابع: كان الجيش الرابع بقيادة عمرو بن العاص، وهدفه فلسطين، ويتراوح عديده بين ستة وسبعة آلاف مقاتل، على أن يسلك طريق ساحل البحر الأحمر حتى العقبة، فوادي القرى فالبحر الميت وصولًا بيت المقدس، وأعطاه توجيهات دينية وسيساية، وعكسرية تعد نموذجًا في التفكير لرجل الدولة: "لا تسلك الطريق الذي سار عليه يزيد، وشرحبيل بن حسنة، بل طريق إيلياء2 حتى تصل إلى فلسطين، ابعث العيون ليأتوك بالأخبار عن أبي عبيدة لمساعدته إذا كان يريد ذلك، وإلا فأنت لقتال فلسطين، قدم الفرسان لأبي عبيدة، والجيش إثر الجيش، إذا طلب منك ذلك، أكرم من معك ولا تتعال عليهم وانصحهم، شاور أولي الأمر ... اعمل على حراسة القوات وحمايتها، أوصيك بالمعاملة الحسنة لمن معك"3، واستعمله على القبائل العربية الضارية على طريقه، وهي بلي وعذرة وسائر قضاعة، ومن سقط هناك من العرب، وأمره بندبهم إلى الجهاد. خرج الجيش الرابع من المدينة في "3 محرم 13هـ/ 10 آذار 634م"4، واصطدم أثناء تقدمه بقوات بيزنطية منتشرة في المنطقة، فهزمها وفتح جانبًا من فلسطين الشرقية والجنوبية، ثم توجه إلى بيت المقدس.

_ 1 كمال: ص186. 2 إيلياء: اسم مدينة بيت المقدس. 3 الواقدي: ج1 ص15، 16. 4 كمال: ص221.

خريطة مسارات الجيوش إلى الشام

الجيش الخامس: بقيادة عكرمة بن أبي جهل، أبقاه في المدينة كاحتياط، ويبلغ عديده نحو ستة آلاف مقاتل. تعقيب على خطة أبي بكر: الواضح أنه لم تكن مهمة هذه الجيوش القيام بعمليات عسكرية واسعة ضد البيزنطيين، بل كانت أبسط من ذلك إلى حد بعيد، وهي محاولة إدخال السكان العرب في شمال الجزيرة العربية في المجال الإسلامي، ومن أجل ذلك أرسلت جيوش منفصلة، لكن عليها أن تعمل متساندة بناء لأوامر الخليفة، بحيث إذا اجتمع جيشان، أو أكثر في منطقة واحدة، فإنها تنضوي تحت إمرة قائد واحد. إن قراءة متأنية لخطة أبي بكر على الجبهة الشامية تطلعنا على الأمور التالية: - استحالة تعيين قائد عام لهذه الجيوش نظرًا لصعوبة الاتصال فيما بينها، إذ كانت تعمل مستقلة بعضها عن بعض، وكانت المسافة الفاصلة بين مناطق عملياتها لا تدع مجالًا للتفكير في أعمال مشتركة، ولم يكن في وسع المرء أن يتنبأ بالضرورة بأن المسألة ستنتهي باصطدامات كبرى مع الجيوش البيزنطية النظامية. - إن عدد أفراد الجيش الواحد كان قليلًا جدًا بالمقارنة مع عدد أفراد كل جيش من جيوش العدو، على الرغم من أن الجيوش الإسلامية لم تكن ثابتة فيما يتصل بحجمها وتركيبها، بل كانت تتلقى تعزيزات على نحو متواصل. - إن الجيوش البيزنطية كانت مجهزة بأحدث معدات القتال ووسائله، ومهيأة للحرب بأحدث أساليبها، وكانت تقاتل على أرض تحتلها، وبالقرب من خطوط تموينها، ومركز قيادتها. - تقضي الضرورة العسكرية على المسلمين المقاتلين على أرض بلاد الشام، بألا يتوغلوا فيها قبل أن تتمكن القوة الزاحفة إلى فلسطين من تثبيت أقدامها هناك. - إن الخطة المضادة من قبل البيزنطيين الذين ردوا على التهديد بتعبئة الجيوش التي كانت تزداد حجمًا في نمو مطرد؛ وهي وحدها التي فرضت التنسيق على قوات المسلمين، وطرحت مسألة القيثادة العامة في حال العمليات المشتركة. - إن تخصيص قادة الجيوش الإسلامية بالكور، أو الأجناد يتضمن الإشارة إلى تقسيم بلاد الشام الإداري في حاضرة البيزنطي، ومستقبله الإسلامي، فدل بذلك على أن هذه البلاد عندما كانت تحت الحكم البيزنطي كانت منقسمة إلى هذه الأجناد الأربعة، ويمكن أن نميز في وقائع فتوح الشام نمطين من المواجهات العسكرية:

اصطدامات متفرقة خاضها الأمراء منفردين مع جندهم حتى وطئوا أرض بلاد الشام، أو حين توغلوا فيها، ومعارك كبرى خاضتها الجيوش الإسلامية مجتمعة في مواقع فاصلة، انتهت إلى سيطرة المسلمين على هذه البلاد كما سنرى. رد الفعل البيزنطي: انطلقت الجيوش الإسلامية من قاعدتها في المدينة باتجاه أهدافها المحددة، في أوقات مختلفة كما أشرنا، وقد شعرت القبائل العربية المتنصرة، والمتحالفة مع بيزنطية بهذا الزحف، فخشيت من اجتياح إسلامي لقراها وأراضيها، كما خشي سكان المدي من توغل إسلامي في عمق بلاد الشام مما يشكل تهديدًا لهم، فكتبوا إلى الإمبراطور البيزنطي هرقل يعلمونه بالأوضاع المستجدة، ويطلبون منه مساعدة عاجلة لصد الزحف الإسلامي. كان هرقل آنذاك في فلسطين أو في دمشق، فدعا إلى عقد اجتماع مع مستشاريه، وأركان حربه للتشاور، وأدرك في الوقت نفسه مدى جدية المسلمين في تقدمهم باتجاه بلاد الشام في هذه المرحلة التي تختلف في التخطيط، والأداء عن الحملات السابقة، لذلك عرض على المجتمعين تجنب القتال، وعقد صلح معهم، إذ إن إعطاءهم نصف خراج البلاد، والاحتفاظ بالنصف الآخر، أفضل من خسارة خراج البلاد بكامله، غير أن المجتمعين عارضوا هذا الرأي، فنزل عندئذ على رأيهم1، على الرغم من أنه كان أكثرهم تقديرًا لخطر المسلمين على ملكه ودولته، كما كان أكثرهم ذعرًا وخوفًا، حتى أنه رجل عن فلسطين، واستقر بعيدًا في أنطاكية في أقصى طرف بلاد الشام الشمالي، ليوجه الجيوش منها، ويبعث بتعليماته إلى قادته، ويدير العمليات العسكرية. كان للبيزنطيين في بلاد الشام جيشان كبيران، يتمركز الأول في فلسطين، ويبلغ عديده سبعين ألف مقاتل، ويتمركز الثاني في أنطاكية، ويبلغ عديده مائتي ألف مقاتل معظمهم من الأرمن والروم. معركة مؤاب 2: وصل يزيد بن أبي سفيان إلى تبوك في أواخر عام 12هـ، في الوقت الذي نزل فيه شرحبيل بن حسنة في بصرى، وأبو عبيدة في الجابية، وكان هرقل قد جهز قوة

_ 1 الأزدي: ص27، ابن أعثم: ج1 ص84. 2 كانت مؤاب تشكل نقطة تجمع، وشكلت في الماضي خط الدفاع الروماني المتأخر في أطراف فلسطين الرومانية.

عسكرية قوامها ثلاثة آلاف مقاتل بقيادة سرجيوس قائد منطقة غزة، وأرسلها إلى وادي عربة في فلسطين لحصار المسلمين المتقدمين باتجاه الشمال، من الخلف، وقطع خطوط إمداداتهم مع المدينة. كان من المفروض أن يتصدى خالد بن سعيد لهذه القوة، وقد أمره أبو بكر بأن يتقدم في تيماء دون أن يقتحم حتى لا يؤتى من خلفه، غير أن خالدًا توغل أكثر مما سمح له حتى إنه سبق جيش أبي عبيدة المرابط في الجابية، فبلغ مرج الصفر في ضواحي دمشق. علم يزيد بتقدم جيش سرجيوس، وهو في البلقاء، في مكان يقع شرقي البحر الميت، ثم شاهد طلائعه، فاصطدم به في مؤاب وتغلب عليه، وانسحب البيزنطيون في جو الهزيمة القاتم إلى داثن، إحدى قرى غزة حيث أعاد سرجيوس تنظيم صفوف قواته ليستأنف القتال1. كانت مؤاب أول مدينة بيزنطية في بلاد الشام تسط في أيدي المسلمين، والواضح أنه كان من المجازفة أن يقوم هؤلاء بنشاطات عسكرية كبرى إلى الغرب من وادي عربة دون فتح هذه المدينة، إذ أمن هذا الفتح المركز المسيطر عسكريًا على المنطقة الواقعة جنوبي وادي الموجب، أو نهر أرنون، وسمح للمسلمين القيام بنشاطات عسكرية في وادي عربة، ثم في داثن، بعد أن أضحى جناحهم الشمالي محميًا، وأزاح كل الحواجز العسكرية الجدية من طريقهم حيث أضحى الانتشار في ربوع فلسطين يتم وفق إرادتهم. وقد أدى بذل الحد الأدنى من الضغط، في اللحظة الحرجة والمكان الصحيح إلى انتصار المسلمين مع تكبدهم الحد الأدنى من الخسائر، ويتحمل سرجيوس الذي ربما استخف بقوة المسلمين، المسئولية حيث كان استعداده العسكري غير واضح، ودخل المعركة بشكل عشوائي، وبدا واضحًا بعد اختراق المسلمين لجنوبي فلسطين أنه لم يكن ثمة خطة بيزنطية مدروسة، ومتماسكة للدفاع عن بلاد الشام، وما اتخذه هرقل، بعد ذلك، من إجراءات لتجنب الكارثة، جاءت متسرعة، ولم تحل دون وقوعها. معركة داثن: تحصن سرجيوس في داثن، وخاض المعركة الثانية ضد المسلمين فخسرها،

_ 1 الأزدي: ص52، البلاذري: ص117، الطبري: ج3 ص406.

وخسر حياته حيث قتل في المبارزة التي جرت بينه، وبين ربيعة بن عامر، وذلك في "24 ذي الحجة 12هـ/ 1 آذار 634م"1. عززت معركة داثن النجاح الذي حققه المسلمون إلى مدى أبعد شرقًا، وفي منطقة مختلفة، وخلفت الخسارة البيزنطية صدى قويًا تراوح بين الفرح الذي عم السكان اليهود بخاصة الذين عدوا انتصار المسلمين فاتحة زوال السيطرة البيزنطية، وبين الأسى الذي عم الدوائر الحاكمة في القسطنطينية، وبعض القبائل العربية في بلاد الشام، وتمثل هذه المعركة إلى جانب الهدف الديني الأسمى للمسلمين، المقاومة الإسلامية للمحاولات البيزنطية لتضييق الخناق الاقتصادي عليهم، من واقع فرض السيطرة على المناطق الحدودية، والتحكم بمرور القوافل التجارية، بعد أن استعاد هؤلاء سيطرتهم على سواحل البحر الأحمر. وتابع يزيد زحفه بعد انتصاره، فاجتاز حوران، وغوطة دمشق حتى وصل إلى أبواب مدينة دمشق، وتمركز حولها، ومنع حاميتها من الاتصال بالقيادة المركزية في أنطاكية، ثم اتصل ببقية الجيوش الإسلامية. معركة مرج الصفر: رأى هرقل أن يضرب أولًا جيش خالد بن يزيد الزاحف باتجاه مرج الصفر، فاستنفر العرب المتنصرة مثل بهراء، وكلب وسليح، وتنوخ ولخم وجذام وغسان، فتوافدوا وعسكروا في مكان قريب من آبل2، وزيزاء والقسطل3 بقيادة باهان، فاصطدم بهم خالد بن يزيد بعد أن استأذن أبا بكر، وانتصر عليهم، وفر باهان مع من تبقى من جنوده من ساحة المعركة4. كتب خالد بن سعيد بأنباء الانتصار إلى أبي بكر، وطلب منه إرسال المزيد من الإمدادات، فاستجاب لطلبه، ثم تسرع -خالد- فشق طريقه إلى مرج الصفر متجاوزًا القواعد العسكرية الضرورية للزحف، وبخاصة إرسال الطلائع لاستكشاف المنطقة، ورصد وجود تحركات العدو، مما أعطى الفرصة لباهان الذي كان يراقب تحركاته، لمهاجمته، وعندما وصل إلى مرج الصفر بين الواقوصة ودمشق، قطع عليه خط الرجعة دون أن يشعر، ثم التف حول الجيش الإسلامي وفاجأه، فلاذ خالد بن سعيد

_ 1 الأزدي: ص52، البلاذري: ص117، الطبري: ج3 ص406. 2 آبل: موضع بالأردن من مشارف الشام، الحموي: ج1 ص50. 3 القسطل: موضع قرب البلقاء من أرض الشام في طريق المدينة، المصدر نفسه: ج4 ص347. 4 الطبري: ج3 ص388-391.

بالفرار تاركًا جيشه تحت رحمة البيزنطيين، لكن عكرمة بن أبي جهل نجح في إعادة تنظيم صفوفه، وانسحب من ميدان المعركة، وعسكر على مقربة من الشام، وجرت المعركة في "4 محرم 13هـ/ 11آذار 634م"1. وصلت أنباء هذه الهزيمة إلى مسامع أبي بكر، فكتب إلى خالد بن سعيد، الذي وصف بأنه قائد غير كفوء، يعنفه، ويتهمه بالجبن، والفرار طلبًا للنجاة، وأمره بأن يظل في مكانه. الخطة البيزنطية لوقف الزحف الإسلامي: وضع هرقل خطة عسكرية لمواجهة المسلمين على أثر انتشارهم في أجزاء من بلاد الشام، تقوم على الأسس التالية: - ضرب الجيوش الإسلامية منفردة. - يتراجع البيزنطيون وفق خطة تكتيكية، ويتخلون للمسلمين عن مناطق الحدود الشمالية للجزيرة العربية. - تتجمع وحدات الجيش الأول في فلسطين، بعد تعزيزها، بقيادة تيودور أخي هرقل لمواجهة جيش عمرو بن العاص. - تتجمع وحدات الجيش الثاني في أنطاكية بقيادة وردان أمير حمص. - يزحف الجيش الثاني من أنطاكية إلى حمص، ويباشر القتال مع كل جيش من الجيوش الإسلامية الثلاثة الأول، والثاني والثالث، بكشل منفرد بحيث يستدرج كل جيش منها إلى القتال على حدة، فيهزمه ثم يميل إلى الآخر، وهكذا إلى أن ينتهي منها جميعًا، مستخدمًا أسلوب "المناورة بالخطوط الداخلية"2. وبناء على ذلك، تراجع البيزنطيون بسرعة من أمام المسلمين متخلين عن الأراضي المتاخمة لحدود الجزيرة العربية، ثم استجمعوا قواهم في أنطاكية، وفلسطين استعدادًا للتصدي للمسلمين3، وهكذا نشأت أمام المسلمين حالة جديدة لم يكونوا يتوقعونها. الخطة الإسلامية المقابلة: ازداد الموقف العسكري وضوحًا بعد استعدادات البيزنطيين، وحشدهم الجند.

_ 1 الطبري: ج3 ص390، 391، ابن عساكر: ج2 ص104، كمال: ص229. 2 سويد: ص261. 3 المرجع نفسه.

ووقف القادة المسلمون في بلاد الشام على هذه التعبئة البيزنطية، فتشاوروا فيما بينهم، واستقر الرأي على اقتراح قدمه عمرو بن العاص ويقضي باجتماع الجيوش الإسلامية في مكان واحد1، وقضت الخطة: - بالجلاء بأقصى سرعة ممكنة عن المناطق التي فتحوها في الداخل، إذ المهم في الحرب ليس السيطرة على العواصم والبلدان، بل القضاء على جيوش العدو وسحق مقاومتها. - بالتراجع حتى جوار بصرى، مع تجنب الاشتباك بالعدو، والدخول معه في معركة غير متكافئة، على أن يتم تنظيم المرحلة التالية من العمليات فيما بعد2. تنفيذًا لهذه الخطة سار أبو عبيدة باتجاه بصرى، وجلا يزيد عن الغوطة، ورفع الحصار عن دمشق، ثم جلا شرحبيل رافعًا الحصار عن بصرى، واجتمعت الجيوش الثلاثة في جوار بصرى في حين أخذ عمرو بن العاص ينسحب تدريجيًا بمحاذاة الضفة الغربية لنهر الأردن ليتصل بزملائه3. بعد تنفيذ إجراءات التراجع والتجمع في جوار بصرى، كتب أبو عبيدة رسالة إلى أبي بكر يعلمه بقرار القادة ويطلب موافقته عليه، وفعلًا وافق أبو بكر على هذا القرار، وأدرك في الوقت نفسه حرج موقف المسلمين على الجبهة الشامية، وأنهم بحاجة إلى قيادة عسكرية فذة تخرجهم من هذا الوضع الحرج، وجدها في خالد بن الوليد الذي انتشرت أخبار انتصاراته على الفرس في العراق، فاستشار أصحابه، فوافقوه4. والواقع أن المسلمين في العراق حققوا هدفهم الآني، وهو السيطرة على إقليم الحيرة وغربي الفرات، وأزاحوا وأزاحوا نفوذ القبائل النصرانية عن الفرات الأوسط، وبفعل ضعف رد الفعل الفارسي تجاه هذا التوسع بسبب النزاعات الداخلية، كان لا بد من تفعيل جبهة بلاد الشام، وبخاصة أن الجيوش الإسلامية هناك لم تحرز تقدمًا يذكر، وظلت تتمركز في مواقعها الأساسية عند حافة الصحراء على الرغم من أن التهديد الخطير الذي يمكن أن تشكله الفرق العسكرية البيزنطية في المنطقة لم يكن يتسم بالرجحان الشديد، واحتاج المسلمون إلى قوات إضافية للتوسع في مناطق المدن، وتمثل هذه الأفكار الخلفية لاستدعاء خالد بشطر الجيش، انطلاقًا من النظرة الصحيحة.

_ 1 الطبري: ج3 ص392. 2 سويد: ص261، 262. 3 المرجع نفسه: ص262. 4 الواقدي: ج1 ص24.

خريطة عبور السماوة

استدعاء خالد بن الوليد إلى الجبهة الشامية: كتب أبو بكر رسالة إلى خالد بن الوليد، وهو في العراق يأمره بالتوجه إلى بلاد الشام، جاء فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عتيق بن أبي قحافة إلى خالد بن الوليد، سلام عليك، أما بعد، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، أما بعد، فإذا جاءك كتابي هذا فدع العراق، وخلف فيه أهله الذين قدمت عليهم وهم فيه، وامض متخففًا في أهل القوة من أصحابك الذين قدموا العراق معك من اليمامة، وصحبوك في الطريق، وقدموا عليك من الحجاز، حتى تأتي الشام فتلقى أبا عبيدة بن الجراح، ومن معه من المسلمين، فإذا التقيتم فأنت أمير الجماعة, والسلام عليك"1، وفي رواية: "إني قد وليتك على جيوش المسلمين، وأمرتك بقتال الروم، وأن تسارع إلى مرضاة الله عز وجل وقتال أعداء الله، وكن ممن يجاهد في الله حق جهاده"2. يتضمن الكتاب توجيهات الخليفة بوصفه القائد العام للجيوش الإسلامية، فقد حدد لقائده الهدف، وبين له العناصر الضرورية للوصول إليه، ومنها: المكان الجغرافي، الإمكانات والموارد التي يمكن توفيرها، التحرك السريع، تولي قيادة الجيوش الإسلامية في بلاد الشام، محاربة البيزنطيين حتى النصر، إلا أنه ترك له حرية اختيار الطريق الذي سيسلكه، وأسلوب قتال عدوه؛ مبرهنًا عن بعد نظر في الشئون العسكرية. انتقال خالد بن الوليد من العراق إلى بلاد الشام: كان خالد في الحيرة عندما تلقى أمر الخليفة بالتوجه إلى بلاد الشام، لنجدة الجيوش الإسلامية المرابطة هناك، وكان قد أنشأ لنفسه موقعًا ثابتًا موطد الأركان، نسبيًا، في غربي الفرات، لكنه لم يكن ينطوي منذ البداية على الرغبة في فتح إقليم لنفسه، والاستقرار فيه، ولا بد للعمليات العسكرية المتوقعة في بلاد الشام أن تكون موضع ترحيب منه، من واقع كونها تحديًا لكفاءته العسكرية؛ لذلك أطاع الأمر فورًا3. قسم خالد، قبل مغادرته العراق، جيشه إلى قسمين، اصطحب معه تسعة آلاف، وهم الذين قدموا معه يوم جاء إلى العراق، وترك ثمانية آلاف بقيادة المثنى، وهم

_ 1 الواقدي: ص24، 25، ابن أعثم: ج1 ص107. 2 الأزدي: ص54. 3 كلير: ص231.

الذين كانوا معه في العراق1، وكان عليه أن يتحرك بسرعة ليقطع المسافة بين الحيرة في العراق، وبصرى في بلاد الشام بأقل مما يمكن من الوقت، والمعروف أن المسافة بينهما لا تقل عن ستمائة ميل، واختار طريق عين التمر -قراقر2- سوى3 -أرك4 -تدمر- القريتين -الغوطة- بصرى، ويتميز هذا الطريق بأنه خال من قلاع الفرس، والبيزنطيين ومسالحهم، ويصل بسالكه إلى بصرى دون أن يتعرض لهجمات العدو، لكنه يمر بمفازة قاحلة طويلة تحتاج إلى مسيرة خمسة أيام بلياليها، لا ماء فيها ولا كلأ، وتنتشر عليها بعد "سوى" قبائل متحالفة مع البيزنطيين، وبعد اجتيازها مغامرة قد تكون مميتة إن لم ينتصر من يغامر فيها على سراب رمال الصحراء، وعلى عطشها، ولهيب شمسها خمسة أيام متتالية، إنه طريق خطر على الرغم من قصر مسافته. خرج خالد من الحيرة في "8 صفر 13هـ/ 14 نيسان 634م"، وأرسل رسالة عامة إلى المسلمين في بلاد الشام يخبرهم بأمر الخليفة بنجدتهم، ورسالة خاصة إلى أبي عبيدة يخبره بأمر الخليفة تعيينه قائدًا عامًا لجيوش المسلمين في هذه البلاد5. كان أبو عبيدة في الجابية حين أتاه عمرو بن الطفيل مبعوث خالد بالرسالتين، فقرأ على المسلمين الرسالة الأولى، واحتفظ لنفسه بالرسالة الثانية، وعلق عليها قائلًا: "بارك الله خليفة رسول الله فيما رأى، وحيا خالدًا بالسلام"6. اجتاز خالد مع قواته المفازة بمعاونة الدليل رافع بن عميرة الطائي، فكان يسير في الليل مهتديًا بكوكب الصبح ويستريح في النهار، ولتأمين الماء للحملة، خصص خالد، بناء على اقتراح رافع، عددًا من الإبل السمان، فأعطشها أيامًا، ثم أوردها الماء حتى امتلأت أجوافها، ثم قطع مشافرها حتى لا تجتر، كما اصطحب كل جندي معه معدات المياه المنفردة، فكان كلما نزل مكانًا للراحة ينحر عشرًا من تلك الإبل، ثم

_ 1 يذكر الطبري أن خالدًا قدم على المسلمين في تسعة آلاف، ج3 ص394، وقارن بالبلاذري الذي يذكر ثلاثة أرقام هي ثمانمائة وستمائة وخمسمائة، ص118، كلير: المرجع نفسه ص223، 224، كمال: ص323، 324. 2 قراقر: واد لكلب بالسماوة من ناحية العراق، الحموي: ج4 ص317. 3 سوى: اسم ماء لبهراء من ناحية السماوة، المصدر نفسه: ج3 ص271. 4 أرك: مدينة صغيرة في طرف برية حلب قرب تدمر، وهي ذات نخل وزيتون، المصدر نفسه: ج1 ص153. 5 الأزدي: ص71، الواقدي: ج1 ص25. 6 المصدران نفساهما.

يشق بطونها، ويأخذ ما فيها من الماء فيروي الخيل منه، ويطعم أفراد الجيش من لحومها، ويرتوي هؤلاء مما حملوا من الماء على ظهور الإبل، ثم يتابع سيره إلى أن أشرفت المفازة على نهايتها، وأشرفت الإبل على النفاذ، كما نفذ الماء المحمول على ظهورها، وأحضى الجيش عرضة للهلاك عطشًا، وكان فجر اليوم الخامس حين بلغ الجيش موقع سوى، فخشي خالد أن يهلك أفراده عطشًا، فنادى رافعًا، وسأله عن الماء فطمأنه قائلًا: "خير، أدركتم الري، وأنتم على الماء"، ودلهم على بئر ماء مطمور، فحفروا ونبع الماء، فشرب الجند والإبل والخيل1، واستراح أفراد الجيش برهة في سوى، ثم تابعوا سيرهم حتى وصلوا إلى تدمر، وصالح أهل مصيخ بهراء وأرك، خالدًا بعد أن اصطدم بهم2. تجنب خالد حين حاذى إقليم الجزيرة الفراتية أن يصطدم بالبيزنطيين الذين كانوا يحتلونه، واجتهد، حين أشرف على بلاد الاشم، وأراد أن يتوغل فيها؛ ألا يترك خلفه مواقع قائمة للبيزنطيين، أو لحلفائهم من العرب، فإن الشام غير الجزيرة. فتح تدمر: كانت تدمر من المراكز العسكرية المحصنة، فحاصرها المسلمون من كل جانب، وقد تحصن بها أهلها، فهددهم خالد، وقد أصر على فتحها، ويبدو أنهم أدركوا حرج موقفهم في ظل غياب الدعم البيزنطي، فمالوا إلى طلب الصلح، وفتحوا أبواب مدينتهم للمسلمين3. فتح القريتين 4 وحوارين 5: واصل المسلمون سيرهم حتى وصلوا إلى القريتين، فاعترضهم أهلها، وجرى اشتباك بين الطرفين أسفر عن انتصار المسلمين، ثم مروا بحوارين، فتحصن أهلها وراء أسوارهم، وطلبوا مساعدة عاجلة من المدن والقرى المجاورة، فجاءهم جيشان الأول من بعلبك، والثاني من بصرى، يبلغ عديدهما أكثر من أربعة آلاف مقاتل، لكن المسلمين اصطدموا بهما قبل أن يصلا وشتتوهما، واضطر أهالي حوارين إلى قبول الصلح6.

_ 1 البلاذري: ص118، الطبري: ج3 ص409، 410، ابن عساكر: ج2 ص87، 88. 2 الأزدي: ص76، البلاذري: المصدر نفسه ص119. 3 المصدران نفساهما، ص77، ص119. 4 القريتين: قرية كبيرة من أعمال حمص في طريق البرية، وأهلها كلهم نصارى، الحموي: ج4 ص336. 5 حوارين: من قرى حلب، المصدر نفسه: ج2 ص315. 6 الأزدي: ص78، 79، البلاذري: ص119.

خريطة معسكرات المسلمين بالشام

خريطة أجنادين

خريطة حصار دمشق

توجه المسلمون بعد حوارين باتجاه الجنوب قاصدين غوطة دمشق، فاعترضتهم قبيلة غسان بقيادة الحارث بن الأيهم، وجرى اشتباك بين الطرفين أسفر عن انتصار المسلمين، وتراجعت غسان إلى حصون دمشق، وواصل المسلمون تقدمهم حتى بلغوا الثنية، ووقفوا على التل المعروف بهذا الاسم، ونشروا عليه الراية السوداء المسماة بالعقاب وهي راية النبي، ولهذا سمي المكان بثنية العقاب1، وأغاروا على بعض قرى الغوطة، وعسكروا أمام الباب الشرقي لدمشق على دير صليبا، وفي رواية أن خالدًا عسكر على باب الجابية الغربي، وأجرى مباحثات مع أسقف المدينة، وعامل هرقل منصور بن سرجون أسفرت عن معاهدة صلح، وكتب خالد كتاب الصلح "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطي خالد بن الوليد أهل دمشق إذا دخلها، أعطاهم أمانًا على أنفسهم، وأموالهم وكنائسهم، وسور مدينتهم لا يهدم، ولا يسكن شيء من دورهم، لهم بذلك عهد الله، وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلفاء والمؤمنين، لا يفرض لهم إلا بخير إذا أعطوا الجزية"2، والواضح أن دمشق لم تكن هدف خالد الآني، إنما أراد أن يحمي مؤخرة جيشه عندما يستأنف الزحف باتجاه الجنوب. واجتاز المسلمون الغوطة من الشمال إلى الجنوب حتى وصلوا إلى قناة بصرى، وكانت لا تزال بأيدي البيزنطيين، وعليها أبو عبيدة وشرحبيل ويزيد3، فاجتمعت الجيوش الإسلامية الأربعة أمامها، ويذكر بأن خالدًا قطع المسافة بين الحيرة، وبصرى في ثمانية عشر يومًا. فتح بصرى: في ظل هذه الظروف، ومع تنامي خطر الاصطدام مع البيزنطيين، حاول خالد أن يأخذ زمام المبادرة في الوقت الذي كان فيه عمرو بن العاص يتراجع بمحاذاة الضفة الغربية لنهر الأردن، يرهقه جيش تيودور، ووجد نفسه أمام خيارين: الأول: تجميع الجيوش الإسلامية الأربعة في بصرى بعد الإيعاز إلى عمرو بن العاص بالإسراع نحوهم، والانضمام إليهم، ثم انتظار جيش أنطاكية البيزنطي الزاحف باتجاه الجنوب بقيادة وردان حاكم حمص، والاشتباك معه في ذلك المكان. الثاني: الإسراع لنجدة عمرو بن العاص، والاشتباك مع جيش تيودور، حتى إذا

_ 1 البلاذري: المصدر نفسه، الطبري: ج3 ص410، 411، كان يزيد قد فك الحصار عن دمشق، وعاد إلى بصرى لمساندة أبي عبيدة وشرحبيل. 2 البلاذري: المصدر نفسه: الأزدي: ص83. 3 الطبري: ج3 ص417.

فرغوا منه عادوا ليقاتلوا جيش أنطاكية، بعد أن يكونوا قد ضمنوا مؤخرتهم، ووطدوا أقدامهم في فلسطين1. وتقرر اعتماد الخيار الثاني، وهو الأخطر والأصعب، وترتب على هذا الاختيار فتح بصرى أولًا للانطلاق منها نحو الهدف، لذلك شدد المسلمون الحصار عليها، وأجبروا أهلها على طلب الصلح، فكانت أول مدينة فتحت صلحًا في بلاد الشام، وأول جزية وقعت في هذا البلد في عهد أبي بكر، وفقًا لرواية البلاذري2. معركة أجنادين: ارتد عمرو بن العاص نحو أجنادين الواقعة بين الرملة، وبيت جبرين، وتوقف فيها ينتظر وصول جيش تيودور الذي كان يتقدم نحوه متمهلًا، وهو مطمئن إلى قوته وضعف عدوه، فوصل أيضًا إلى هذه البلدة، وانضم إليه نصارى العرب، وأهل الشام آملين أن ينالوا نهائيًا من المسلمين، ويخرجوهم من فلسطين، وكان مثل هذا العمل سيؤدي إلى إحراج المسلمين المنتشرين في المناطق الواقعة شرقي البحر الميت ونهر الأردن، ووضعهم في موضع مكشوف على نحو ينذر بالخطر، إذ كانت القوى الإسلامية بعيدة عنهم، ولعل وردان الذي تشير إليه بعض الروايات على أنه كان القائد العسكري في حمص، كان أيضًا في القيادة. عقد خالد بن الوليد مجلسًا عسكريًا عندما علم بزحف البيزنطيين تقرر فيه تجميع القوى الإسلامية، والصمود في أجنادين، وجرى اللقاء في هذه البلدة يوم السبت في "27 جمادى الأول 13هـ/ 30 تموز 634م"، دارت فيه الدائرة على القوات البيزنطية3. كانت معركة أجنادين مكشوفة، وأدت إلى جعل البيزنطيين أقل حماسة عما كانوا عليه من قبل لمجابهة المسلمين في الأماكن المكشوفة، والواقع أن الخوف كان يسبق القتال المكشوف، وقد نال المسلمون حرية نسبية مكنتهم من فتح معظم المدن دون مقاومة، وشل حركة المواصلات بين المدن. واضطرت القيادة البيزنطية إلى تغيير خططها العسكرية، بالاعتماد على المدن

_ 1 سويد: ص271، 272. 2 فتوح البلدان: ص120، الأزدي: ص81. 3 الطبري: ج3 ص418، وقارن بالبلاذري ص121، يذكر الواقدي أن عدد جنود الروم بأجنادين كان تسعين ألفًا، ج1 ص66، ابن عساكر: ج2 ص98، 99.

المحصنة كقواعد حماية لجنودها، والانطلاق لمناوشة المسلمين مع تجنب خوض معارك مكشوفة، مما قلص حركية القوى البيزنطية، وجعل المبادرة بيد المسلمين، إذ إن توزيع القوى في مدن مستقلة حال دون التعاون فيما بينها حيث شغلت كل مدينة بالدفاع عن نفسها، وأضعف قدرتها على مجابهة خصومها، وخلقت في نفوس سكانها عقلية دفاعية، ومع ذلك فقد كانت هزيلة مما يسر للمسلمين فتحها كما سنرى، وكان هرقل قد جمع سكان دمشق، وأمرهم أن يقفلوا الأبواب إقفالًا وثيقًا، وأن يأتمروا بأمر القائد الذي سيعينه عليهم، وشجعهم على الاهتمام بالدفاع عن أنفسهم. بعد أجنادين: اختلف الرواة والمؤرخون حول ما حصل بعد أجنادين، ويقول الطبري في ذلك: "ومن الأمور التي تستنكر وقوع مثل هذا الاختلاف الذي ذكرته في وقته لقرب بعض ذلك من بعض"1، ويمثل التاريخ الحولي للأحداث التي سوف أتحدث عنها إحدى المشكلات، التي لم يجر التوصل إلى حل لها في تاريخ صدر الإسلام، والروايات الواردة عند المؤرخين المسلمين متناقضة فيما بينها، وسوف انتهج خلال هذا البحث الترتيب الذي أراه أقرب إلى الصحة، والواقع من خلال النقد التاريخي للمصادر كلما أمكن ذلك. يروي الأزدي أن خالدًا سار بالمسلمين بعد أجنادين إلى دمشق2، وذكر المدائني وسيف أنه بعد أجنادين كانت اليرموك، ثم دمشق وفحل معًا3، في حين تذكر روايات كثيرة أخرىأنه بعد أجنادين كانت فحل بالأردن4، غير أن منطق الأحداث من خلال ترجيح الروايات التي أوردها الأزدي بفعل أنها أوثق بصفة عامة، كما أنها مقبولة، يحملنا على الاعتقاد بأن المسلمين قصدوا دمشق بعد أن انتهوا من معركة أجنادين. الاصطدام في مرج الصفر: توجه المسلمون إلى دمشق بعد أن فرغوا من أجنادين، عبر الجولان، ولما وصلوا إليها ضربوا عليها حصارًا مركزًا، فعكسر خالد تجاه دير صليبا، والذي عرف فيما بعد بدير خالد، وهو على مسافة ميل من الباب الشرقي، وعسكر أبو عبيدة على باب الجابية في حين نزل يزيد على جانب آخر من دمشق5، ولم يشترك جيش

_ 1 تاريخ الرسل والملوك: ج3 ص442. 2 فتوح الشام: ص94. 3 الطبري: ج3 ص434، 435. 4 المصدر نفسه. 5 الأزدي: ص94-97.

شرحبيل في الحصار، ويبدو أنه بقي في الجنوب لحماية مؤخرة المسلمين. كان هرقل لا يزال يحشد قواته، ويدفعها لقتال المسلمين، فأرسل جيشًا بلغ تعداده خمسة آلاف مقاتل بقيادة درنجار1 لمساعدة أهل دمشق، وانضم إليه عدد كبير من حامية خمص، فاضطر المسلمون أن يخففوا الضغط عن دمشق، وساروا نحو مرج الصفر لاعتراض القوة البيزنطية التي لا بد وأن تمر من هذا المكان للوصول إلى المدينة، وجرى قتال بين الطرفين في "17 جمادى الآخرة 13هـ/ 18 آب 634م"، أسفر عن انتصار المسلمين، فقتلوا عددًا كبيرًا من البيزنطيين، وفر من نجا من المعركة في كل اتجاه2. عاد المسلمون بعد انتهاء المعركة إلى دمشق، فنزل خالد على الباب الشرقي، وأبو عبيدة أمام باب الجابية، ويزيد على بعض أبوابها، وعمرو بن العاص على باب آخر، وجاءهم، وهم على هذا الحال، نعي الخليفة أبي بكر الذي توفي مساء الثلاثة في "21 جمادى الآخرة 13هـ/ 22 آب 634م"، وعزل خالد عن قيادة جيوش الشام، وتعيين أبي عبيدة بدلًا منه3، لكن هذا الأخير أخر إشاعة نبأ العزل؛ لأن المسلمين كانوا في صدد تحضير فتح دمشق، ولم يشأ أن يحدث هذا التبديل أي بلبلة في صفوف الجيش الإسلامي، ولهذا كان هناك نوع من الأزدواجية في الإمارة على الجيش لدى محاولة فتح دمشق.

_ 1 درنجار: رتبة عسكرية لقائد خمسة آلاف، وليست اسمًا لشخص. 2 الأزدي: ص95، 106، وقارن بالبلاذري: ص125. 3 المصدران نفساهما: ص98، ص122، تاريخ خليفة بن خياط: ص65، الطبري: ج3 ص419، 420، ص434، 435.

الباب الثاني: عمر بن الخطاب 13-23هـ/ 634-644م

ال باب الثاني: عمر بن الخطاب 13-23هـ/634-644م الفصل السادس: استئناف الفتوح في عهد عمر: فتوح العراق: التعريف بعمر: أبو حفص عمر بن الخطاب بن نفيل عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب، وينسب إلى عدي، فيقال له: العدوي، وأمه خثمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب، وكان نفيل جد عمر شريفًا نبيلًا تتحاكم إليه قريش1. تعد عشيرة بني عدي من أوسط قريش قوة وجاهًا، على أنها لم تبلغ من المكانة في مكة قبل الإسلام ما بلغه بنو هاشم، وبنو أمية وبنو مخزوم، إذ لم يكن لها من الثروة ما لهم، ومع ذلك نافست بني عبد شمس على الشرف، وحاولت أن تبلغ مكانتهم، إلا أنها كانت على جانب كبير من العزة والمنعة، شغل أفرادها منصب السفارة، والحكم في المنافرات، فكانوا المتحدثين عن قريش إلى غيرها من القبائل فيما ينجم من خلاف يتوجب حسمه بالمفاوضات، وبفعل التنافس العشائري، اضطر بنو عدي في حياة الخطاب، والد عمر، إلى الجلاء عن منازلهم القائمة عند الصفاء، وانحازوا إلى عشيرة بني سهم، وأقاموا في جوارها. ولد عمر بن الخطاب في عام 40 قبل الهجرة، وقبل حرب الفجار الآخر بأربع سنين2، ونشأ في مكة وترعرع في بيئة وثنية في ظل والده الخطاب، وكان فظًا عليه

_ 1 البلاذري: أنساب الأشراف ج10 ص286. 2 الفجار: هي الحرب الرابعة من حروب الفجار التي اندلعت بين قريش وكنانة من جهة، وقيس عيلان من جهة أخرى، حضر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحرب مع أعمامه، وكان عمره آنذاك عشرين سنة، وانتصرت فيه كنانة، وقريش على قيس عيلان، وسميت بحرب الفجار؛ لأن الطرفين المتقاتلين استحلا القتال، والمحارم في الأشهر الحرم، ابن هشام ج1 ص209-211.

يكلفه بالأعمال الشاقة، ويضربه ضربا مبرحًا إذا قصر في ذلك العمل، وقد تأثر بالبيئة التي عاش فيها كغيره من فتيان مكة وشبابها، تعلم الفارسية، والقتال حتى أضحى من أبطال قريش في الجاهلية، مهاب الشخصية، مرهوب الجانب، يدافع عن عبادة الأصنام بقوة، أجاد الكتابة والخطابة، والمفاخرة، تذوق الشعر ورواه، واعتلى منزلة رفيعة بين القرشيين في الجاهلية، فكان مكلفًا بالسفارة لهم. وعندما بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وآمن به عدد من القرشيين وسكان مكة، كان عمر شديد الأذى عليهم، ويرى أنهم خرجوا على دين قومهم، وبالتالي تجب محاربتهم، فكان من أشد أهل مكة خصومة للدعوة الإسلامية، ومحاربة لها؛ لأنه رأى في تعاليم الإسلام ما يقوض النظام المكي، ويثير الفساد في مكة، لقد فرقت الدعوة الإسلامية كلمة قريش، ولا بد من وضع حد لها بالتخلص من صاحبها. كان النبي يعرف تمامًا هذه الخصال في شخص عمر، ويطمع في إسلامه، ويرى بعض الذين أسلموا مبكرًا استحالة إسلامه، لكن النبي كان يدعو، ويلح بالدعاء: "اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام، أو بعمر بن الخطاب" 1، وكان أحبهما إليه عمر بن الخطاب. كانت نفس عمر تضطرب، فإذا خرج إلى قومه، ورأى تفرقهم ساءه ذلك حتى عزم على القضاء على مصدر الفتنة، وظل هذا الخاطر يتردد في نفسه حتى أمر النبي محمد صلى الله عليه وسلم أتباعه بالهجرة إلى الحبشة فرارًا إلى الله بدينه، وبعد أن صبت قريش جام غضبها، وعذابها عليهم. وساد مكة، بعد الهجرة إلى الحبشة، جو كئيب من الوحشة، إذ كان الذين هاجروا من الكثرة بحيث تركوا فراغًا هائلًا شعر به ذوو النفوس الحساسة، والعواطف الرقيقة، وكان من بينهم عمر بن الخطاب الذي انتابه قلق، وانقباض حتى فارقه المرح الذي عهد منه، وراح عمر يفكر في الحالة التي وصلت إليها مكة، ومرت به خواطر من الماضي حيث كان محمد لا يزال صغيرًا بينما هو الآن قد خرج، بعدما كبر، بتعاليم جديدة، أراد أن يفرضها على أهل مكة، تجعل الصديق يشهر سيفه في وجه صديقه، وتفرق الجماعة، وتفرض على الأغنياء أن يساعدوا الفقراء، وتلقي العداوة بين الأخ وأخيه. وقرر عمر أن يضع حدًا لتلك الأحداث، وإخماد الفتنة التي تجتاح مكة نتيجة

_ 1 ابن هشام: ج2 ص96.

تعاليم محمد، فصمم على قتله، وأثناء عودته إلى بيته ليستعد لتنفيذ الخطة الحاسمة شاهد جارة له كان يعذبها، قد جمعت متاعها، ووقفت أمام منزلها تنتظر زوجها ليخرجا معًا إلى الحبشة، فاقترب منها، وبادرها قائلًا: "إنه للانطلاق يا أم عبد الله"1، ولم يكن في صوته حدة أو دليل عدوان، فأجابته: "نعم، والله لنخرجن في أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل الله فرجًا"2، وسكت عمر وراح يفكر خلال صمته بجارته التي ستخرج أيضًا لتلحق، وزوجها بمن سبقهما، وازداد حزنه حتى رق قلبه لهذا الفراق، وسرت الرقة في صوته، وهو يحاورها، ويقول لها: "صحبكم الله" حتى طمعت في إسلامه لما تنبهت إلى تغيير نبرة صوته، واختلاف حركاته، قال لها زوجها عندما أخبرته: "فلا يسلم الذي رأيته حتى يسلم حمار الخطاب"3. أما عمر فقد خرج من بيته بعد قليل متوشحًا سيفه، ويمم وجهه صوب دار الأرقم حيث يجتمع محمد بأصحابه، ليقتله أمامهم وبخاصة حمزة الذي ضرب أبا جهل وشجه في رأسه، ثم اعتنق الإسلام، حتى يلقنه درسًا قاسيًا، ولا يجرؤ بعد ذلك على تهديد فرسان قريش، وقد صمم على قتله إن هو حاول أن يعترضه، أو يدافع عن ابن أخيه، وبذلك يكون قد أخمد الفتنة التي أحدثتها تعاليم محمد. وفجأة لقيه أحد أصدقائه، وهو نعيم بن عبد الله النحام من بني عدي، وكان قد أسلم سرًا، فسأله عن وجهته، فأجابه عمر: "أريد محمدًا، هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش، وسفه أحلامها وعاب دينها وسب آلهتها، فأقتله"4، وقال له صاحبه وهو يحاوره، وقد خشي على محمد غضبة عمر، فأراد أن يصرفه عما اعتزم: "والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض، وقد قتلت محمدًا، أفلا ترجع إلى أهل بيتك، فتقيم أمرهم"5. غضب عمر لكلام نعيم، فلم يكن يعلم بإسلام أخته فاطمة، وختنه وابن عمه سعيد بن زيد، فنسي غايته التي خرج من بيته لأجلها، وولى وجهة شطر بيت أخته، وقد انتفخت أوداجه بنار الغضب، وما إن وصل إلى المنزل حتى سمع صوت هيمنة لرجل غريب يتلو، فقرع الباب بشدة فزع لها من بالداخل، وسألوا من بالباب، فأجاب: "أنا عمر" فارتج عليهم عندما سمعوا صوته وارتبكوا، وأسرعوا يخفون ما

_ 1 ابن هشام: ج2 ص95. 2 المصدر نفسه. 3 المصدر نفسه. 4 المصدر نفسه. 5 المصدر نفسه.

كان من أمرهم، فاختبأ خباب من الأرت الذي كان يقرؤهما القرآن، في بعض البيت، وأخذت فاطمة الصحيفة التي كان يقرأ منها فأخفتها خلفها، وقام زوجها ليفتح الباب، ودخل عمر هائجًا يدور بعينيه في أرجاء الدار يبحث عن مصدر الصوت الذي سمعه، فلم ير أحدًا غير أخته وزوجها، فسألهما بغضب: "ما هذه الهيمنة التي سمعت" فأنكرا خوفًا منه، ثم صرخ في وجههما: "لقد أخبرت أنكما تبعتما محمدًا على دينه"، فتقدم من زوج أخته، وضربه بمقبض سيفه، فسال دمه، وقامت أخته فاطمة تدافع عن زوجها، فضربها عمر أيضًا فشج رأسها، عند ذلك اعترفت له "نعم قد أسلمنا، فاصنع ما بدا لك"1. وعندما رأى عمر الدم يسيل من رأس أخته تخاذلت قواه، فهدا وراح يحاسب نفسه حتى ندم على تصرفه، ثم وقع نظره على الصحيفة التي كان يقرأ منها خباب، فطلب من أخته أن تطلعه عليها لينظر ما جاء به محمد، فأعطته إياها بعد أن طلبت منه أن يغتسل، ثم قرأ ما أذهله وملأ قلبه روعة، فقال: "ما أحسن هذا الكلام وأكرمه"، وسمع خباب وهو في مخبئه قول عمر، فاندفع إليه قائلًا: "يا عمر فإني أرجو أن يكون الله خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس يقول: "اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام، أو بعمر بن الخطاب" 2. وأسرع عمر من فوره إلى دار الأرقم، فقرع الباب بلهفة وعنف، ففتح له حمزة وتهيأ للقائه إن بدر منه شر، لكن النبي أراد أن يردع عمر بنفسه، فقام للقائه، وأمسكه بطرف ردائه، وجذبه جذبة قوية ارتعد على إثرها عمر، وما أفاق حتى سمع محمدًا يقول له: "ما جاء بك يا ابن الخطاب، فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة"، فقال عمر: يا رسول الله جئتك لأؤمن بالله وبرسوله، وبما جاء من عند الله، قال: فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمر قد أسلم3. وعارض عمر أسلوب استخفاء المسلمين، وأبى إلا أن يخرجوا إلى الكعبة ليؤدوا الصلاة فيها جهارًا أمام القرشيين، ووافق النبي على الفكرة، وفي اليوم التالي، خرج المسلمون يمشون في طرقات مكة نحو الكعبة في صفين، على أحدهما حمزة وعلى الآخر عمر، فسماه النبي منذ ذلك الوقت بالفاروق؛ لأنه فرق

_ 1 ابن هشام: ج2 ص95، 96. 2 المصدر نفسه: ص96. 3 المصدر نفسه.

بين الحق والباطل1، وهكذا أسلم عمر بن الخطاب في السنة السادسة من البعثة، وهو يومئذ ابن تسع وعشرين سنة وأشهر، وعدد المسلمين لا يزيد عن أربعين2. دخل عمر في دين الله بالحمية نفسها التي كان يحاربه من قبل بها، إذ ما لبث حين أسلم أن حرص على أن يذيع في قريش كلها إسلامه، وبإسلامه وبإسلام حمزة من قبل، شعر المسلمون بالمنعة، والقوة حتى قال عبد الله بن مسعود: "إن إسلام عمر كان فتحًا ... ولقد كنا لا نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلم أسلم قاتل قريشًا حتى صلى عند الكعبة، وصلينا معه"3. وعندما أذن النبي لأصحابه بالهجرة إلى المدينة كان عمر من أوائل المهاجرين. وقد حضر مع النبي غزوة بدر، وأحد والمعارك كلها، وشارك في كثير من السرايا وقاد بعضها، وتزوج النبي ابنته حفصة. كانت لعمر مواقف حادة، وشديدة ضد أعداء الإسلام، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقه: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" 4، نذكر منها: "اقتراحه قتل أسرى بدر حتى لا يعودوا لمناوأة المسلمين، على الرغم من إقرار جماعة المسلمين قبول الفداء، ونزل الوحي مؤيدًا رأي عمر في أمر الأسرى5، فزاد ذلك عمر قربًا من النبي، ومكانة عنده، ورفض عمر صلح الحديبية مع قريش لظنه أن في بعض بنوده مهانة للمسلمين، فراح يناقش النبي في ذلك6. ولعمر مواقف أخرى ملفته بطول المقام عن شرحها، منها: موقفه من عبد الله بن أبي، زعيم المنافقين ومن حكم الخمر، ومن نساء النبي7، وهي تكشف عن جانب من شخصيته التي كانت تزداد وضوحًا، وقوة على مر الزمن. وبرز عمر في السياسة العامة، لذلك كان النبي يدعوه وزيره، وحين يشاور أصحابه يجعل لرأي عمر مكانة تعدل مكانة الرأي الذي يبديه أبو بكر، على أن صرامة عمر، وصراحته وشدته، ومخالفة النبي لرأيه في بعض ما أشار به لم تنقص يومًا من مكانة عمر، أو من احترامه، وذلك بأنه كان مخلصًا صادقًا في كل ما يراه، ويشير به.

_ 1 البلاذري: ج10 ص297. 2 المصدر نفسه: 293. 3 ابن هشام: ج2 ص95. 4 البلاذري: ج10 ص297. 5 ابن كثير، الحافظ عماد الدين: تفسير القرآن العظيم ج2 ص325، السهيلي: ج3 ص83. 6 ابن هشام: ج4 ص28. 7 هيكل، محمد حسين: الفاروق عمر: ج1 ص65-68.

كان عمر زاهدًا، فعندما أصاب أرضًا بخيبر، أتى النبي فقال: "أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالًا قط أنفس عندي منه، فما تأمر به"، فأجابه النبي: "إن شئت حبست أصلها، وتصدقت به"، فتصدق عمر بها للفقراء، وذوي القربى وفي الرقاب، وفي سبيل الله والضيف. نتيجة هذه الصفات التي اتصف بها عمر، كان موضع تقدير واحترام كل المسلمين، على الرغم مما كان فيه من غلظة وشدة، وكان عمر سندًا لأبي بكر، وقد ذكرنا في فصول سابقة مواقفه من بعض القضايا التي واجهت الخليفة الراشدي الأول. بيعة عمر: عندما مرض أبو بكر وشعر بدنو أجله، فكر في أمر خلافته، وخشي إن هو توفي، ولم يعهد بالخلافة إلى أحد، أن يتجدد الخلاف بين المسلمين، كما حدث في سقيفة بني ساعدة، ولئن اختلفوا هذه المرة، فيكون اختلافهم أشد خطرًا، وربما أدى إلى الفتنة، وقد تشمل كافة العرب، وذلك بفعل اتساع الدائرة، إذ لم يعد الأمر محصورًا بين المهاجرين والأنصار. أما إذا استخلف وجمع كلمة المسلمين على من يستخلفه، فقد يتقي ما يخشى، ويكفل لسياسة الفتوح الاستمرارية والنجاح، فرأى ببعد نظره أن يحتاط لهذا الأمر تلافيًا للأخطار، وقد دفعته الظروف إلى العمل بأسلوب آخر يختلف عن الأسلوب الذي تولى بموجبه شئون الأمة من حيث الشكل، ويتفق معه من حيث الروح, وهكذا نتعرف على صورة جديدة من صور البيعة المؤسسة على الشورى، وعلى اجتهاد أبي بكر وبعد نظره. وراح أبو بكر يستعرض سير أصحابه، ومواقفهم ليختار من بينهم رجلًا يكون شديدًا في غير عنف، ولينًا في غير ضعف، فوجد أن من توفرت فيه هذه الصفات من أصحابه أحد رجلين، عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، إلا أن الأول ربما يريد الأمر، فيرى في طريقه عقبة فيدور إليه، والثاني يرى الاستقامة لا يبالي بالعقبة تقوم بين يديه، فهو بهذا إلى الشدة أميل منه إلى اللين. وأدرك بخبرته وتجربته أن عبء الخلافة الثقيل لا يستطيع أن يتحمله شخص آخر سوى عمر، ففضله على غيره بفعل مرونته السياسية، كما أن الصفات الأخرى التي اصطبغ بها، ومالت به إلى إيثار الخير العام على نفسه، وأهله وذويه، ثم إن هذا التفكير الذي انتهى إلى تطابق في المواقف من قضية الفتوح مع الخليفة الراشدي الأول،

كان دافعًا آخر لأبي بكر على التصميم على اختيار عمر خلفًا له، أما القول بأن هذا الاختيار جاء ردًا على مساندته له في سقيفة بني ساعدة، فهو بعيد الاحتمال، بفعل أن أحدًا من الصحابة لم يحتج على اختيار عمر، يضاف إلى ذلك أن عمرًا كان لصيقًا بأبي بكر أثناء خلافته، وأتاحت له هذه الميزة أن يطلع على دقائق الأمور أثناء تسيير دفة الحكم، فاكتسب مزيدًا من الخبرة في الشأن العام، ربما حرم منها كثير من الصحابة، فإذا هو تسلم الحكم فهو أهل له. وراح أبو بكر، بعد أن قرر اختيار عمر لخلافته، يستشير كبار الصحابة من أهل الحل، والعقد ليقف على توجهاتهم وآرائهم، فلم يجد معارضة لديهم، بل ثناء على هذا الاختيار، باستثناء ما ظهر من تردد عند بعضهم، مثل طلحة بن عبيد الله الذي خشي أن يفرق جماعة المسلمين بفعل غلظته وشدته، لكن سرعان ما تلاشى1، ثم عرض قراره على الأمة، وخاطب المسلمين في المسجد، فما تردد أحد، وقالوا جميعًا: "سمعنا وأطعنا"2. والواقع أن أبا بكر لجأ إلى هذا الأسلوب مضطرًا، وعلق خلافة عمر على رضا الناس، كما أنه لم يستخلف أحدًا من أبنائه أو أقربائه، وأكد اجتهاده في هذا الاختيار بقوله: "فإن تروه عدل فيكم، فذلك ظني به، ورجائي فيه، وإن بدل وغير، فالخير أردت، ولا أعلم الغيب، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون"3، وبعد أن اطمأن إلى ضمان موافقة المسلمين، دعا عثمان بن عفان، وأملى عليه أمر الاستخلاف ليكتبه4. وهكذا أضاف أبو بكر إلى معجم الفكر السياسي الإسلامي مصطلحًا جديدًا هو الاستخلاف أو العهد، وهو شكل من أشكال الترشيح، أو البيعة الخاصة، أو البيعة الصغرى، ولا بد من البيعة العامة، أو البيعة الكبرى بعد ذلك، وقد تحققت في المسجد. ودعا أبو بكر عمر، فعهد إليه وأوصاه باستكمال الفتوح، وذكره بما يجب على ولي أمر المسلمين من تحري الحق، وبأن الله ذكر آية الرحمة مع آية العذاب ليكون العبد راهبًا، فلما فرغ من وصيته خرج عمر من عنده، وهو يفكر في هذا المر الذي ألقي على عاتقه، فود لو أن أبا بكر برئ من مرضه ليواجه موقفًا دقيقًا5.

_ 1 البلاذري: أنساب الأشراف ج10، ص304، 305، الطبري: ج3 ص428- 433. 2 الطبري: المصدر نفسه: ص428. 3 ابن قتيبة: الإمامة والسياسة ج1 ص19. 4 الطبري: ج3 ص429. 5 انظر نص الوصية عند ابن الأثير في تاريخه ج2 ص267، 268.

دعي عمر بن الخطاب خليفة أبي بكر الصديق، أو خليفة رسول الله، ولما آنس المسلمون في اللقب طولًا، سموه الخليفة على إطلاقه، وأمسى هذا لقبا لرئيس دولة الإسلام، ثم أضافوا إلى عمر لقبًا جديدًا يتماشى مع حركة الفتوح هو لقب أمير المؤمنين، وهو أول من تسمى به. دعوة المسلمين إلى الجهاد: حتى وفاة أبي بكر جرت في سواد العراق غارات، ومناوشات عديدة بين المسلمين، وبين الفرس ومن ساندهم من العرب المنتصرة القاطنين هناك، لكن هؤلاء عجزوا عن وقف هجمات المسلمين كما كان عليه الحال مثلًا في معركة عين التمر، وكانت الفرق الإسلامية تجوب أراضي السواد مغيرة على هذه القرية أو تلك، لكن في المدة، بين رحيل خالد بن الوليد ووفاة أبي بكر، لم تحدث إلا اصطدامات محدودة، بفعل أن جيش العراق ضعف بغياب خالد، وبخاصة أنه فصل معه أكثر من نصف القوات، وانهمك الفرس في المقابل في الصراعات الداخلية، والتنافس على الحكم، مما أدى إلى ركود الجبهة العراقية، واضطر المثنى، على الرغم من براعته القتالية، أن ينكفئ إلى الحيرة، وتحصن بها، إلا أنه احتفظ بكل ما غنمه المسلمون من سواد العراق، صحيح أنه انتصر على جيش فارسي في بابل، وجهه شهربراز بن أردشير بقيادة هرمز جاذويه في "أواخر ربيع الأول 13هـ/ أواخر أيار 634م"1، إلا أنه تحصن بعد انتصاره في مواقعه الأولى خشية أن يباغت مدركًا في أنه لن يستطيع التقدم، وإن استطاع المقاومة، بل تصبح المقاومة مستحيلة إذا تكتل الفرس، والعرب الموالون لهم مرة أخرى، فضلًا عن أنه لا يستطيع أن يحتفظ بالإنجازات المحققة، فكيف إذا قرر التقدم، لذلك كان لا بد من تعزيز القوة الإسلامية الموجودة تحت تصرفه، فغادر العراق إلى المدينة ليبحث مع أبي بكر في الوضع الميداني على الجبهة العراقية، ويقدم له مشروعًا جديدًا للتعبئة العامة من واقع تجنيد من ظهرت توبته من أهل الردة، وعندما وصل إليها وجد أبا بكر مريضًا، ولما أفضى إليه ما جاء من أجله، استدعى عمر وأوصاه بندب الناس مع المثنى إذا توفي2. وما كاد عمر يفرغ من دفن أبي بكر بعد وفاته حتى دعا الناس إلى التطوع لحرب الفرس مع المثنى، وركز على تعبئة المسلمين على الجبهة العراقية، وأدى المثنى دورًا بارزًا في ذلك حين اجتمع به، وشرح له الوضع الداخلي المتدهور للفرس،

_ 1 الطبري: ج3 ص411-413. 2 المصدر نفسه: ص414.

وشجعه على إرسال المسلمين لتكثيف حملاتهم على أراضي السواد، إذ لا بقاء لهم في العراق، إذ لم تعزز قواتهم هناك بمدد قوي1. أحجم معظم المسلمين، عن الاستجابة لنداء عمر، إذ كانت العرب تهاب الفرس، وتخاف الخروج لقتالهم، وذلك بفعل هيبتهم، وسطوتهم وشدة بأسهم في القتال، والواقع أن حدود فارس تبدو صعبة في نظر العرب، وخطرة ورهيبة في أعينهم، كما كانت تثير كثيرًا من الاحترام في قلوبهم، ويتجنبون تجاوزها خشية من ملوك الفرس لاعتقادهم بأنهم على قدر من القوة يكفل لهم إدخال شعوب سائر الدول تحت سلطانهم، لكن المثنى استدرك الموقف، وشرح للمسلمين حقيقة الوضع الفارسي المنهار2. أدرك عمر، من واقع الوضع الميداني، عظم المهمة، ورأى في المقابل ضآلة حجم الاستجابة، فلا بد إذن من إشراك كافة المسلمين، ودفعهم لمواجهة رد الفعل الفارسي، إنه استوعب العلاقة العضوية المباشرة بين إمكان توحيد جميع القبائل العربية الإسلامية، وإنهاء التصدعات الموجودة بينها، وبين التنظيم الواسع لحملات الفتوح، لهذا كان أول إجراء سياسي اتخذه هو رفع هذا الحاجز بين القبائل التي استمرت على إسلامها بعد وفاة النبي، وبين القبائل التي ارتدت، فدعا من كان قد ارتد، وحسن إسلامه للاشتراك في الفتوح، وقد أحدثت هذه الانعطافة تطورات جوهرية، وفتحت آفاقًا واسعة، وجديدة لحركة الفتوح القائمة على أراضي دولتي الفرس وبيزنطية، الأمر الذي أسفر في وقت قصير جدًا عن تغيير طابع هذه الحملات تغييرًا كليًا3. كان صدى دعوة عمر عند قبائل الردة من نوع آخر تمامًا قياسًا بقبائل المدينة، فقد استجابت هذه القبائل لدعوة الخليفة، وكأنها كانت تنتظرها، وسارعت بإرسال جموعها إليه لتلبية هذا النداء الذي طال ترقبها له. وهكذا رفع الحاجز بين المدينة، وبين قبائل الردة، وأخذت هذه تتدفق على المدينة بتسارع مذهل طالبة الاشتراك في الفتوح، مثل بجيلة بقيادة جرير بن عبد الله البجلي4.

_ 1 الطبري: ج3 ص444. 2 المصدر نفسه: ص444، 445. 3 إبراهيم، أيمن: الإسلام والسلطان والملك ص145. 4 الطبري: ج3 ص448.

اختار عمر أبا عبيد بن مسعود الثقفي قائدًا للجيش؛ لأنه أول من لبى النداء، متجاوزًا المثنى الذيء أرسله إلى العراق على عجل لتهيئة الأجواء، واستنفار من حسن إسلامه من أهل الردة، وأوصاه بالحذر، والتيقظ واستشارة أصحاب النبي، وبعدم التسرع في الحرب1. الوضع الداخلي في فارس: ساد البلاد الفارسي آنذاك جو من الاضطراب بسبب الصراع على العرش، وتهاوى عدة ملوك في تسارع مستمر وفي مدة زمنية قياسية، ففقد الفرس بذلك فرصة استغلال الموقف الناجم عن مغادرة خالد العراق، ورحيل المثنى إلى المدينة لاستعادة الأراضي التي خسروها أمام المسلمين، وطرد هؤلاء من العراق2. أثارت أحداث فارس بوران بنت كسرى أبرويز التي اعتلت العرش الفارسي بمساعدة القائم رستم حاكم خراسان، ثم رأت في شخصه القائد الذي ينقذ فارس من كبوتها، من التردي الداخلي، والتقهقر العسكري أمام المسلمين، فملكته وعينته على حرب فارس، وأطلقت يده في السلطة مدة عشر سنوات يكون الملك بعدها لآل كسرى، وأمرت ولاة المملكة وأعيانها بطاعته، فاستجابوا لها، وبذلك أنهى الفرس صراعاتهم، واتحدوا لمواجهة الزحف الإسلامي، واستردت المملكة قوتها السابقة3. أقدم رستم على خطوة أولى وهي خلق وعي قومي فارسي في المدن، والقرى التي فتحها المسلمون، وإثارة سكانها ضد حكامهم الجدد، فأرسل العمال والنقباء إلى جميع مدن العراق ليثيروا الحمية الدينية والقومية، فاندلعت نتيجة ذلك، الثورة ضد المسلمين في جميع مدن الفرات، وفقد هؤلاء المناطق التي كانت بحوزتهم4. وجهزت بوران جيشًا كبيرًا بقيادة نرسي ابن خالة كسرى، وجابان وهو أحد أثرياء العراق المعروفين، بعدائه الشديد للمسلمين، وسلك هذان القائدان طريقين مختلفين تحسبًا من أن ينقض عليهما المسلمون، فوصل نرسي إلى كسكر بين الفرات، ودجلة وعسكر فيها بناء لأوامر رستم، وتخطى جابان الفرات إلى الحيرة، ونزل في موقع متقدم، وفي النمارق بين الحيرة والقادسية، وطلب القائدان مزيدًا من القوات من المدائن تعزيزًا لصفوفهما5.

_ 1 الطبري: ج3 ص445. 2 المصدر نفسه: ص447. 3 المصدر نفسه. 4 المصدر نفسه: ص448. 5 المصدر نفسه: ص448، 449.

ووصل المثنى في هذا الوقت، إلى الحيرة، ولما علم بالاستعدادات الفارسية الضخمة، أدرك أنه لا قبل له بلقاء من عبأهم الفرس، فآثر الحذر وانسحب من الحيرة إلى خفان1، وأدركه أبو عبيد فيها2. معركة النمارق 3: عبأ أبو عبيد جيش المسلمين البالغ عشرة آلاف مقاتل4، وزحف من خفان نحو النمارق، وعسكر بمواجهة جابان، وفي المعركة التي دارت الطرفين في "8 شعبان 13هـ/ 8 تشرين الأول 634م"، هزم الفرس، ووقع جابان في الأسر، ولم يكن يعرفه المسلمون، فتمكن بدهائه من خديعة آسره، ففدى نفسه وهرب، كما أسر القائدان جوشن شاه ومردان، وقتل الثاني على يد آسره5. معركة السقاطية: توجه من نجا من الفرس إلى كسكر لينضم إلى جيش نرسي، فطاردهم المثنى حتى درنا6، ووصلت في ذلك الوقت أنباء هزيمة جابان إلى المدائن، فجهز رستم جيشًا آخر بقيادة الجالينوس، ودفعه إلى المعركة مددًا لنرسي، وتمنى هذا الأخير أن يدركه قبل الاشتباك مع المسلمين، فراح يناور ويتمهل في خوض المعركة، غير أن أبا عبيد لم يمهله كثيرًا، واصطدم بقواته في الساقطية الواقعة جنتوبي كسكر قرب واسط، وذلك في "12 شعبان 13هـ/ 12 تشرين الأول 634م"، وانتصر عليه، وفر نرسي في جو الهزيمة القاتم7. رفعت هذه الانتصارات الروح المعنوية للمسلمين، وحفزتهم على تكثيف حملاتهم في السواد، فأرسل أبو عبيد مجموعات صغيرة من الجيش لمطاردة فلول الفرس، والإغارة على قرى السواد، وتم لأول مرة سبي السكان، وتوزيعهم على المقاتلين كجزء من الغنيمة8.

_ 1 خفان: موضع قرب الكوفة، وقيل: هو فوق القادسية، الحموي: ج2 ص379. 2 الطبري: ج3 ص448، 449. 3 النمارق: موضع قرب الكوفة من أرض العراق، الحموي: ج5 ص304. 4 تسعة آلاف كانوا مع المثنى، وانضم إليهم ألف قدموا مع أبي عبيد. 5 الطبري: ج3 ص449. 6 درنا: هي دون الحيرة بمراحل، وكانت بابًا من أبواب فارس، الحموي: ج2 ص452. 7 الطبري: ج3 ص450، 451. 8 المصدر نفسه: ص451.

شعر أهل القرى في السواد بعجزهم عن مواجهة غارات المسلمين، والحد منها وبخاصة أن القوات الفارسية قد انسحبت من المنطقة، فاضطروا إلى مهادنتهم على أن يؤدوا لهم الجزية، ويدخلوا في ذمتهم1. معركة باقسياثا 2: عسكر الجالينوس في باقسياثا، وتقوى بمن انضم إليه من فلول جابان، فاصطدم به أبو عبيد في "17 شعبان 13هـ/ 16 تشرين الأول 634 م" وهزمه، وفر القائد الفارسي من أرض المعركة، وعاد إلى المدائن3، وانتشر المسلمون في قرى السواد، وغلبوا على تلك البلاد. معركة الجسر 4: أثار الانتشار الواسع للمسلمين في قرى السواد حفيظة الفرس الذين بدأوا يستوعبون مقدار الخطر الحقيقي الذي يهددهم، فجهزوا جيشًا آخر قوامه اثنا عشر ألف مقاتل، وأرسلوه إلى الحيرة، بقيادة بهمن جاذوبه وهو أشد العجم على العرب المسلمين، ورافقه الجالينوس، واصطحب معه راية فارس الشهيرة "درفش جاويان"5 لتحفيز الهمم، وعددًا من الفيلة. ويبدو أن رستم أراد أن يكسب معركة أمام المسلمين تعيد إلى دولته موازنة الموقف، ولحكومته هيبتها، ولجيوشه روحها المعنوية، وثقتها بنفسها. رأى أبو عبيد، عندما علم بالاستعدادات الفارسية الضخمة؛ أن يتمهل ويتحصن

_ 1 الطبري: ج3 ص451، 452. 2 باقسياثا: ناحية بأرض السواد من عمل باروسما، الحموي: ج1 ص327. 3 الطبري: ج3 ص452، 453. 4 تعرف أيضًا بالمروحة والقرقس، والقس وقس الناطف، واسم المروحة هو أكثر الأسماء مناسبًا لشكل هذه المعركة وواقعها الميداني، لكنها اشتهرت باسم الجسر، الطبري: ج3 ص454. 5 درفش جاويان: راية مصنوعة من الجلد كانت للحداد جاوة، يغطي بها قدمه عند تطريق الحديدة المحماة، وعندما نشبت الثورة ضد الملك الضحاك بقيادة أفريدون، وهو شاب من أمراء البيت المالك القديم، انضم جاوة إلى المتظاهرين، ورفع الجلد الذي يأتزر به، على عصا، فأضحت شبه علم، واجتمع تحتها خلق كثير، ونادوا بشعار أفريدون الذي انتصر في هذه المعركة، ومنذ ذلك الوقت أضحى هذا الجلد علمًا لملوك إيران، وسمي باسم الحداد درفش جاويان، أي علم جاوة، ثم توارث ملوك الفرس هذه الراية وتيمنوا بها، فرصعوها باللآلئ واليواقيت، وعلقوا عليها علائق الديباج، والحرير حتى أضحت آية من ملوك الفرس، وعدوها فاتحة النصر، انظر الفردوسي، الشاهنامة ج2 ص34.

في مكان أكثر أمنًا، ويراقب تحركات الجيش الفارسي، فارتحل عائدًا إلى الحيرة. وعندما تناهي إلى أسماعه أن وجهته الحيرة، قرر أن يصطدم به خارجها، فخرج منها وتوجه إلى قس الناطف، فعبر الفرات واستعد لمواجهته، وصل بهمن جاذويه إلى قس الناطف، وعسكر على الضفة المقابلة، وفصل نهر الفرات بين الجيشين، وخير بهمن أبا عبيد إما أن يعبر إليه، أو يدعه يعبر إلى الجانب الإسلامي على الرغم من معارضة أركان حربه، فخسر بذلك مكانًا ملائمًا للعمليات العسكرية وفقًا لأساليب العرب القتالية؛ لأن فيه "مجال وملجأ، ومرجع من فرة إلى كرة"1، ونسي نصيحة عمر إذ بعثه، وتحذيره له من أرض المكر والخديعة، وتحكمت به عواطفه "لن يكونوا أجرأ على الموت منا"2، في الوقت الذي كان أحوج إلى التفكير العقلاني الهادئ، والتخطيط السليم بعيدًا عن انفعالات العواطف. عبر المسلمون نهر الفرات فوق جسر أقيم لهذه الغاية، وقد ترك لهم بهمن مكانًا ضيقًا أجبرهم على النزول فيه خاليًا من مجال الكر والفر، مما أفقدهم حرية الحركة والانتشار، وميزة المناورة، ففرض بذلك عليهم المعركة، وأسلوب القتال، ارتكب أبو عبيد خطأ آخر حين قطع الجسر حتى يحول دون تفكير جنوده بالتراجع والانسحاب. ودارت بين الطرفين رحى معركة ضارية أدت الفيلة فيها دورًا كبيرًا، بل إنها حددت نتائجها مبكرًا حيث كانت تجفل خيل المسلمين، وإذ حشر هؤلاء في مكان ضيق، فقد أمطرهم الفرس بالسهام، ومزقوا صفوفهم، حتى عضهم الألم، وكانت معركة غير متكافئة قتل خلالها أبو عبيد تحت أقدام الفيلة مع عدد من القادة المسلمين، عندئذ أدرك المثنى حرج الموقف، وأن المعركة خاسرة، فخطط للانسحاب آملًا أن يرتد المسلمون في نظام وهدوء، فعقد الجسر، لكن عبد الله بن مرثد الثقفي بادر إلى قطعه، ومنع الجنود من العبور حتى يموتوا على ما مات عليه أمراؤهم أو يظفروا، مبرهنًا عن قصر نظر في الحقل العسكري، إذ عندما تعرض المسلمون لضغط قتالي متزايد لم يكن أمامهم سوى طريق النهر للفرار، فتواثبوا إليه، فغرق من لم يصبر في حين أسرع القتل فيمن صبر، وأخيرًا تمكن المثنى الذي جرح في المعركة من إزاحة عبد الله، وأعاد وصل الجسر، وانسحب مع من بقي من

_ 1 الطبري: ج3 ص454. 2 المصدر نفسه.

أفراد الجيش باتجاه أليس، وجرت المعركة في "23 شعبان 13هـ/ 22 تشرين الأول 634م"1. كان انتصار الفرس واضحًا، على الرغم من تكبدهم ستة آلاف قتيل، وخسر المسلمون أربعة آلاف بين قتيل وغريق، وفر ألفان، وصمد ثلاثة آلاف مع المثنى2. لم يتعقب بهمن جاذويه المسلمين؛ لأن أخبارًا وصلت إليه عن نشوب ثورة ضد رستم، فآثر العودة إلى المدائن حتى يكون قريبًا من مجرى الأحداث، إلا أنه ترك اثنين من قادته في المنطقة هما جابان، ومردان شاه ليتعقبا المسلمين، والواقع أن المثنى كمن لهما في أليس وأسرهما وقتلهما مع جندهما، وتحصن في هذه المدينة بانتظار جلاء الموقف. تعقيب على معركة الجسر: - كانت معركة الجسر أول معركة يخسرها المسلمون أمام الفرس، وتعد تجربة حية في حروبهم لإثبات قيمة كفاءة القيادة، إذ إن الإيمان والجشاعة وحدهما لا يكفيان لتحقيق الانتصار. - إن الحماس المجرد الذي أبداه أبو عبيد قبل بدء القتال، لا مكان له في المعارك إذ لم تسانده أسس صحيحة، وتخطيط سليم. - افتقد أبو عبيد إلى عنصر الأمن حين حشره بهمن جاذويه في مكان ضيق، وحرمه من حرية الحركة، والانتشار الضروريين لخوض معركة ناجحة. - على الرغم من تفوق الفرس في القتال، فإنهم لم يتمكنوا من أسر أحد من المسلمين، مما يدل على أن المقاتل المسلم احتفظ بميزاته في أشد المواقف حرجًا وشدة، وظل يقاتل حتى آخر رمق. - لا شك بأن ثبات المسلمين في القتال، كان من العوامل التي دفعت الفرس للعودة إلى المدائن، ومنعتهم من مطاردتهم. - كان لهذه المعركة أن تدور بطريقة أفضل لو أن أبا عبيد استجاب لنصيحة مستشاريه، وتذكر نصائح الخليفة عمر بن الخطاب له. - أضاعت هذه المعركة مكاسب المعارك السابقة، ولكن إلى حين، وجعلت

_ 1 البلاذري: فتوح البلدان ص252، 253، تاريخ خليفة بن خياط: ص66. الطبري: ج3 ص454-459، كمال: ص398، 399. 2 الطبري: ج3 ص455-458.

الحرب سجالًا بعد أن كانت سلسلة متصلة الحلقات من الانتصارات المتعاقبة1. - غلب على معارك المسلمين الثلاث، قبل قدوم أبي عبيد، الطابع التقليدي، وهو الإغارة على القرى، ولم يكن المسلمون مهيئين لصدام جبهوي واسع مع جيش فارسي بغياب قيادة كقيادة خالد بن الوليد. - أضحى استمرار التقدم مستحيلًا بعد هزيمة المسلمين في معركة الجسر دون إدخال إمدادات جديدة إلى المعركة، إذ إن الآلاف الثلاثة من المقاتلين الذين نجوا من المعركة، واستمروا بالتواجد على أرض العراق، شكلوا أصغر قوة إسلامية منذ بدء الفتح، فضلًا عن إثخانهم بالجراح. رد فعل عمر: تلقى عمر نبأ هزيمة المسلمين في معركة الجسر بسكون لافت، إلا أنه تأثر ضمنيًا بشكل بالغ، وشق ذلك أيضًا على المسلمين في المدينة، ثم بدأت فلول الجند من المهاجرين، والأنصار تصل إلى المدينة جزعين بما أصابهم، ورأى عمر فيهم ذلك، فنعى الشهداء وراح يواسي الناس2، إلا أنه كان قلقًا على موقف المسملين في العراق، وأدرك أن المثنى بحاجة إلى مدد يرسل إليه على وجه السرعة كي يواجه هذا الموقف الدقيق، فقام بتكثيف حملاته التعبوية بين قبائل الردة، وأرسل رسله إليها يدعوها للسير نحو فارس لغزوها، فاستجابت لندائه، وبدأت الحشود تتوافد على المدينة، من كافة أنحاء الجزيرة العربية، على رأسها قبيلة بجيلة بزعامة جرير بن عبد الله البجلي كما أشرنا، وحشود أخرى من بني ضبة وكنانة والأزد، وبعض تميم من الرباب، وبكر بن هوازن، وخثعم وحنظلة، وكان على عمر أن يتفاوض بحدة، وشدة مع هذه القبائل لإقناعها بضرورة الذهاب إلى العراق لقتال الفرس؛ لأن معظمها كان يبغي الالتحاق بجيوش المسلمين في بلاد الشام3. وهكذا دفع عمر بحشود ضخمة إلى أرض العراق مددًا للمثنى، ومن ناحية أخرى أرسل المثنى النقباء إلى جميع المناطق الحدودية يستنفر العرب، وكان من ضمنهم جموع من نصارى النمر عليهم أنس بن هلال النمري، وجموع من بني تغلب، وقبائل عربية أخرى مقيمة بالعراق، وقد آثروا الانضمام إلى إخوانهم العرب، والقتال في صفوفهم ضد العجم، وقد جمعتهم رابطة الجنس4.

_ 1 كمال: ص413-416. 2 الطبري: ج3 ص459. 3 المصدر نفسه: ص460، 462-464. 4 المصدر نفسه: ص464.

معركة البويب 1: تناهت إلى أسماع الفرس أنباء الإمدادات الإسلامية التي كانت ترسل تباعًا إلى العراق، فهالهم أمرها، وأدركوا أن انتصارهم في معركة الجسر لم يكن حاسمًا، وأن الأمور قد وصلت إلى مرحلة لا بد معها من الإعداد المنظم لمقاومة الانتشار الإسلامي الذي أتاحه الصراع الداخلي على السلطة، ولا يتحقق ذلك إلا بإزالة الخلافات الداخلية المتجددة، وهكذا أنهى رستم خلافه مع فيروز، الطامع باعتلاء العرش الفارسي، واتفقا على تجهيز جيش قوامه اثنا عشر ألف مقاتل بقيادو مهران بن باذان الهمذاني، ودفعه إلى ساحة القتال، وقد اختارا هذا القائد؛ لأنه تربى في الوسط العربي، فنشأ يعرف اللغة العربية، ويقدر مدى قوة العرب، ويقف على أساليبهم القتالية2. غادر مهران المدائن باتجاه الحيرة، وهو حريص على تحقيق انتصار يفوق بأهميته انتصار بهمن من قبل، وعلم المثنى، من جهته، بأنباء هذا الخروج فقرر أن يتحرك على الفور للاصطدام به، فغادر مكان إقامته في مرج السباخ3 إلى البويب، وهو المكان الذي اختاره لخوض المعركة، وأرسل إلى جرير بن عبد الله البجلي ليوافيه في هذا المكان، ولما وصل، عسكر على شاطئ الفرات الشرقي في مكان يعرف بدير هند، وقد بلغ عدد قواته ثمانية آلاف بعد وصول الإمدادات، وسار مهران إلى البويب أيضًا، وعسكر في بسوسا4 مقابل المسلمين لا يفصل بينهما إلا النهر5. أرسل مهران إلى المثنى يقول له: "إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم" متبعًا في ذلك خطى بهمن جاذويه، وما كان للمثنى أن يعيد خطأ أبي عبيد، كما عمل بنصيحة عمر حين عهد إليه، وإلى المسلمين ألا يعبروا بحرًا، ولا جسرًا إلا بعد ظفر6. وعبر الفرس إلى البويب، ونزلوا في الملطاط مما يلي دير الأعور في رقعة تسمى شوميًا، ومعهم ثلاثة أفيال، وعبأ كل جمع قواته استعدادًا للقاء، يحاول كل منهما أن يجعله حاسمًا، ثم اشتبكا في رحى معركة طاحنة، وأدار المثنى المعركة بحكمة بالغة

_ 1 وتسمى أيضًا معركة النخيلة، والبويب نهر كان بالعراق موضع الكوفة فمه عند دار الرزق يأخذ من الفرات، الحموي: ج1 ص512. 2 البلاذري: ص254، الطبري: ج3 ص461. 3 مرجع السباخ: بين القادسية وخفان. 4 بسوسا: موضع قرب الكوفة، الحموي: ج1 ص423. 5 البلاذري: ص254. 6 الطبري: ج3 ص463-465.

مما كفل له النصر، وقتل مهران في المعركة، وتشتت جيشه، وفر أفراده في فوضى واضطراب، فطاردهم المسلمون مدة يومين حتى السيب، وهو موضع على نهر دجلة، وسمى المسلمون معركة البويب التي حصلت في "شهر رمضان 13هـ/ شهر تشرين الثاني 634م" يوم الأعشار؛ لأنهم أحصوا مائة رجل قتل كل منهم عشرة في المعركة1. تعقيب على معركة البويب 2: - يعد انتصار المسلمين في البويت ردًا على خسارتهم في معركة الجسر، ولا شك بأن الفرس أخطأوا حين ظنوا أن بإمكانهم تكرار ما حصل قبل شهر، فإذا بهم يفجعون بفقدان الآلاف من فرسانهم. - استطاع المثنى أن يتجنب ما ارتكب من أخطاء في معركة الجسر، وأن يحول دون اتخاذا لفرس لهذا الانتصار نقطة تحول في سير العمليات العسكرية لصالحهم، بل إنه جعل من ذلك الانتصار الفارسي حدثًا عرضيًا مر وانتهى، وزال أثره. - أثبت المثنى أنه جندي محترف، وقائد عسكري على درجة عالية من الكفاءة والفروسية، فقد اختار أرض المعركة، وكانت محصورة بين الفرات والبويب، وهي تصلح لنصب الكمائن للعدو، ثم وضع الخطط المناسبة لهذه الأرض بحيث يتسنى للقوات القليلة العدد أن تكون فاعلة، وتفقد الأكثرية العددية فاعليتها، وذلك من واقع سعة خط المواجهة المحدود الذي سوف يسمح بتواجد أعداد متكافئة من الطرفين، في حين تظل الكثرة العددية خلف هذا الخط دون فاعليه، بل إنها تصبح عبئًا على جيشها، ويعد وجودها خرقًا لمبدأ الاقتصاد في القرى، كما يعد تعريضها للخطر خرقًا لمبدأ الأمن، ويكون النصر في هذه الحالة إلى جانب التدريب الأعلى، والمهارة القتالية في الميدان، وقد كان ذلك للمسلمين على الفرس، يضاف إلى ذلك، فقد ارتكب مهران خطأ عسكريًا آخر حين أغفل حراسة الجسر الذي كان يمثل خط الرجعة الوحيد له، ولعله كان واثقًا من قدرته على الانتصار. - خاض المسلمون معركة البويب بروح معنوية مرتفعة، حتى كان لكل قبيلة موقفها الذي تتحدث عنه بعد المعركة وتفاخر به، وعندما خطب المثنى بالمسلمين يحثهم على الحرب تجنب الحديث عن يوم الجسر، أو التذكير به، ولا شك بأنه كان حريصًا، وهو على أبواب معركة كبرى أن لا يذكر لهم الهزيمة.

_ 1 البلاذري: ص254، 255، الطبري: ج3 ص465-471. 2 انظر: كمال: ص442-448.

- استفاد المسلمون من أخطاء معركة الجسر، وأثبتت تجربة البويب التي خاضوها في ظروف مشابهة ذلك، بل إن المثنى استطاع أن يعيد مشاهد معركة الجسر بحذافيرها إنما بشكل معكوس، أي تبادل الغالب، والمغلوب أوضاعهما، فضلًا عن أنه نجح في الانسحاب مع من تبقى من جيشه، في حين لم ينجح الفرس في سحب قواتهم في البويب، بل تبددت وأبيدت على ضخامة حجمها. - كان من بين عوامل الانتصار التصاق المثنى كقائد في ميدان المعركة بقواته حيث ربطته بهم محبة فياضة، وذلك من خلال أحاديثه معهم، وطوافه بفرسه الشموس على راياتهم، يحمسهم ويعطيهم توجيهاته، ويحرك مشاعرهم، فضلًا عن طوافة بينهم والمعركة دائرة، ولا يغفل عن ملاحظة أي حادث يمكن أن يؤثر على معنوياتهم، فيستدركه، من ذلك ما فعل حين أصيب أخوه مسعود إصابة قاتلة، ورأى أثر ذلك على المقاتلين، فطلب منهم مواصلة القتال، ورفع الرايات حتى ينضوي تحتها المقاتلون، فقال: "يا معشر المسلمين لا يرعكم مصرع أخي، فإن مصارع خياركم هكذا"، ولا يقل عن هذا قوله عن نفسه مستبشرًا بالشهادة: "ارفعوا راياتكم رفعكم الله، لا يهولنكم مصرعي". - أرسل المثنى بعض السرايا إلى عمق الجبهة مع الفرس، وذلك لتحقيق هدفين: الأول: تشتيت قوى العدو وإرباكها، ومنعها من إعادة التجمع، فراح المسلمون يشنون الغارات فيما بين كسكر، وجنوبي الفرات إلى عين التمر، وما والاها من أرض الفلاليج1 والعال2، فشملت جميع الجنوب العراقي، وامتدت حتى تكريت3 وصفين4، وبلغوا ساباط5 على مرأى من المدائن، فغنموا وسبوا كثيرًا بحيث لم يحظ بمثلها مسلم مقاتل من قبل. الثاني: الحصول على الأقوات الضرورية لتموين قواته، فهاجم المسلمون قرى السواد، وأسواق العراق الغنية مثل الخنافس، وبغداد.

_ 1 فلاليج السواد: قراها، الحموي: ج4 ص270. 2 العال: بمعنى العلو، يقال للأنبار وبادوريا، وقطربل ومسكن الإستان العال لكونه في علو مدينة السلام -بغداد، المصدر نفسه: ص70. 3 تكريت: بلدة مشهورة بين بغداد والموصل، وهي إلى بغداد أقرب، بينها وبين بغداد ثلاثون فرسخًا، ولها قلعة حصينة في طرفها الأعلى راكبة على دجلة، وهي غربي دتجلة، المصدر نفسه: ج2 ص38. 4 صفين: موضع بقرب الرقة على شاطئ الفرات من الجانب الغربي بين الرقة وبالس، المصدر نفسه: ج3 ص414. 5 ساباط: ساباط كسرى بالمدائن، المصدر نفسه: ص166.

رد فعل الفرس -تولية يزدجرد السلطة: كان للأحداث السلبية التي شهدتها أرض العراق، رد فعل في الدوائر الحاكمة في فارس، إذ إن الهزائم المتكررة أدت إلى فقدان التوازن في دولة هرمة وعاجزة، وبدا واضحًا أن الارتباط الذي ساد مواقف الدولة إزاء الوجود العسكري الإسلامي في ممتلكاتها العراقية، أدى إلى ضياع الفرصة النادرة لوقف الخطر عبر ثلاثة أعوام من المجابهة الحذرة والمترددة، فتنبه حكام الفرس لخطورة الموقف، وأدركوا أن الأمور لم تجر على نحو طيب، إذ ما بعد بغداد وساباط، وتكريت سوى المدائن1. وتشاور أركان الحكم لاختيار أنجح السبل للخروج من المأزق، فرأوا أنهم بحاجة إلى رجل حاكم يقودهم في الحرب، فعزلوا آزرميدخت2، ونصبوا يزدجرد بن شهريار بن كسرى، وهو يزدجرد الثالث، فعين رستم قائدًا للجيش، وكلفه بأمر المسلمين في الجنوب، وجدد المسالح والثغور، وعين عليها حاميات عسكرية، فسمى جند الحيرة، والأنبار والمسالح، وجند الأبلة3. أدى هذا التفاهم، بين القيمين على شئون الحكم في فارس، إلى إنهاء حالة التمزق، كما رفع الروح المعنوية للدهاقنة، والسكان في السواد، فتوقفوا عن دفع الجزية للمسلمين، وفضوا عقود الصلح معهم، وقام الدهاقنة بمساعدة من كان لديهم من جنود ومقاتلة، بتنظيم انتفاضة فلاحية واسعة، ثم دعمها ماديًا ومعنويًا من قبل المدائن، وسارت هذه الانتفاضة بشكل مواز مع الإجراءات التي اتخذتها المدائن من واقع تنظيم جيش موحد تحت قيادة رستم بهدف التصدي للمسلمين. وهكذا حقق يزدجرد الشروط الأولى الضرورية للبدء بمواجهة التطورات السلبية في جنوبي الإمبراطورية، وجسد الالتفاف حول حكمه تطورًا جديًا لدى الجانب الفارسي، وولد انعطافة نوعية في وضع القتال على الجبهة الفارسية، وكان البدء بالانتقال إلى عملية منظمة واسعة لفتح العراق فتحًا شاملًا، وطرد الحكام الفرس منه محتوى هذه الانعطافة لدى الجانب الإسلامي4. أثارت هذه الصحوة السياسية، والعسكرية للفرس المثنى، الذي أدرك أنه توغل في

_ 1 الطبري: ج3 ص477، بيضون: ملامح التيارات السياسية ص53، 54. 2 لقد خلفت أزرميدخت الملك جشنده، وكان هذا قد خلف بوران بنت كسرى أبرويز، الطبري: ج2 ص232. 3 المصدر نفسه: ص234، 235. 4 إبراهيم: ص149.

خريطة مواقع الجيشين قبل المواجهة

التقدم أكثر مما تسمح به قوته، الاحتفاظ به، وتوقع أن يشن الفرس هجومًا مضادًا على قواته، فكتب إلى الخليفة يطلب منه النصح والرأي1.

_ 1 و 3 الطبري: ج3 ص478.

معركة القادسية

معركة القادسية: مقدمات المعركة: قدر عمر خطر الاصطدام بالفرس حق قدره، وكان شديد القلق، وهو يتلقى أنباء الحشود الفارسية الهائلة المتقدمة نحو الحيرة حيث معسكر المسلمين، وكاد الوقت أن يكون لغير صالح الخلافة دون أن يتاح لها القيام بدور ما لتبديد هذا القلق، وإنقاد قواتها في العراق؛ لولا التدابير السريعة التي اتخذتها. لقد قرر عمر عدم التراجع على الجبهة الفارسية مقتنعًا بأن الموارد البشرية الهائلة التي اكتسبها بتطبيع العلاقات مع قبائل الردة، وكذلك الموارد المادية الجيدة التي يمكن الاستفادة منها من فتوح الشام؛ كافية لتكوين قاعدة متينة لمواجهة التحدي الفارسي. لذلك ما كادت كفة الصراع في بلاد الشام تتحول لصالح المسلمين، حتى تحولت الجهود الجدية إلى العراق، وحصر الخليفة زمام المسئولية، والمبادرة والقيادة بين يديه، وقال: "والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب"1. وبعد مشاورات مستفيضة مع كبار الصحابة، تقرر إعادة انتشار القوات الإسلامية في العراق كخطوة أولى لتجنيبها خطر الإبادة على يد الفرس بانتظار قذف قوى جديدة إلى ميدان المعركة، فكتب عمر إلى المثنى يأمره بالخروج من بين ظهري الأعاجم، ويتنحى إلى البر، ويتفرق في المياه التي تلي الأعاجم على حدود الجزيرة العربية2، فنزل المثنى بذي قار، ووزع قواته بالجل3، وشراف4 إلى غضي5، فتفرقت في المياه من أول صحراء العراق إلى آخرها من غضي إلى القطقطانة6، مسالح ينظر بعضهم إلى بعض7.

_ 1 المصدر نفسه: ص487. 2 الجل: موضع بالبادية على جادة طريق القادسية إلى زبالة، الحموي: ج2 ص156. 3 شراف: بين واقعة والقرعاء على ثمانية أميال من الأحساء، المصدر نفسه: ج3 ص331. 4 غضي: جبال البصرة، المصدر نفسه: ج4 ص207. 6 القطقطانة: موضع قرب الكوفة من جهة البرية بالطف، بينها وبين الرهمية مغربًا نيفًا وعشرون ميلًا إذا خرجت من القادسية تريد الشام، الحموي: ج4 ص374. 7 الطبري: ج3 ص478.

وقام عمر بتكثيف سياسته التعبوية بين قبائل الردة، وحثها على الانخراط في الجيش الذي سوف يقذف به إلى العراق، وأخذ يجمع كل قادر على حمل السلاح والقتال، ثم أمر جميع القبائل المقاتلة التي كانت مع خالد بن الوليد في السواد، وذهبت معه إلى الشام، بالعودة إلى العراق، والالتحاق بجيوش المسلمين هناك1. وهكذا اجتمع لدى عمر بضعة آلاف مقاتل تدفقوا عليه من كافة أنحاء الجزيرة العربية، فعزم على قيادتهم بنفسه، فاستدعى عليًا بن أبي طالب، وسلمه أمور الخلافة، وخرج من المدينة وتوجه ناحية العراق2، وقد فجر ترؤس عمر للجيش الإسلامي حماسًا عامًا بين وحداته القتالية، ووصل إلى صرار3، وهو أول منازل السفر إلى العراق، وعسكر على ماء هناك4. ويبدو أن كبار الصحابة رأوا في ذهاب أمير المؤمنين إلى أرض المعركة بنفسه لا يتلاءم مع المصلحة العامة، فعرضوا عليه أن يبقى في المدينة، ويعين قائدًا للجيش الذاهب إلى العراق، وتقرر بعد التشاور تعيين سعد بن أبي وقاص قائدًا عامًا للحملة5، وهو أحد الصحابة المقربين من النبي، والمشاركين في العمليات العسكرية الأولى بين المدينة ومكة، وكانت كفاءته والظروف الصعبة التي يمر بها المسلمون في العراق وراء اختياره لهذه المهمة، ومع ذلك، فقد أمسك الخليفة، بزمام أمور الحملة كلها على سبيل الحيطة، والحذر من واقع إرسال الأوامر والتوجيهات باستمرار إلى قائده تتعلق بتحركات الجيش، وإدارة المعركة وتقسيم العسكر وغيرها من الأمور، ولم يكن سعد يقدم على عمل دون توجيهاته الخاصة. خرج سعد من المدينة على رأس أربعة آلاف مقاتل اصطحبوا معهم نساءهم وأبناءهم، قاصدًا العراق6، وكان عمر يردفه بمن يتوافد على المدينة من المقاتلين، فوصل إلى زرود7 وعسكر فيها8. كان المثنى آنذاك في ذي قار ينتظر قدوم سعد ليتقدما معًا إلى الحيرة، لكن مقامه لم يطل إذا توفي متأثرًا بجراحه التي أصيب بها في معركة الجسر، وكان قد كتب

_ 1 الطبري: ج3 ص542، 543. 2 المصدر نفسه: ص480. 3 صرار: موضع على ثلاثة أميال من المدينة على طريق العراق، الحموي: ج3 ص398. 4 الطبري: ج3 ص481. 5 البلاذري: ص255. 6 الطبري: ج3 ص485. 7 زرود: موضع بين الثعلبية، والخزيمية بطريق الحاج من الكوفة، الحموي: ج3 ص139. 8 الطبري: ج3 ص486.

وصية لسعد تتضمن خلاصة تجاريه العسكرية في العراق، وأمر أخاه المعنى أن يعجل بها إليه1. كانت الحملات الإسلامية السابقة تستهدف دخول المدائن عن طريق اختراق أرض العراق من خلال إقليم الحيرة، إذ يعد هذا الإقليم القاعدة المتقدمة للوثوب على عاصمة الساسانيين، ومع ذلك لم يغب عن تفكير أبي بكر الصديق من قبل، وعمر بن الخطاب من بعد، وقادتهما، أهمية منطقة الأبلة وشط العرب، وقد ذكرنا كيف أمر أبو بكر خالدًا بن الوليد أن يبدأ غزو العراق من الأبلة، ولم يغفل خالد أمر ذلك الثغر، فكان يترك فيه حامية عسكرية لحفظ أمن جيشه من تلك التخوم، ومراقبة تحركات الجيوش الفارسية، ورأينا المثنى ينتهج الخطة نفسها حين انسحب من العراق، فنشر قواته ما بين القطقطانة شمالًا إلى غضي بجبال البصرة جنوبًا، لذلك كتب عمر إلى سعد أثناء خروجه من زرود إلى شراف: "أن ابعث إلى فرج الهند رجلًا ترضاه يكون بحياله، ويكون ردءًا لك من شيء إن أتاك من تلك التخوم"2، فأرسل سعد المغيرة بن شعبة على رأس خمسمائة فارس، فتمركز في غضي بالصحراء تجاه البصرة، حيث كان جرير بن عبد الله البجلي ما زال هناك منذ أن أرسله المثنى، ولكن جريرًا سوف ينضم إلى قوات سعد المتقدمة باتجاه الحيرة، وكذلك سوف يفعل المغيرة، فاختص شريح بن عامر أحد بني سعد بن بكر بالتمركز في ثغر الأبلة، وكان يغير على المناطق المجاورة، ومضى إلى الأهواز من أرض إيران3. كانت محصلة جملة هذه التدابير تشكيل جيش بلغ تعداده بضعة وثلاثين ألف مقاتل، والجدير بالذكر أن عمر، وسعدًا بتنظيمهما لهذا الجيش قاما بوضع الأشكال التنظيمية الأساسية لجيوش المسلمين في هذه المرحلة، وهي ستغدو عما قريب الأساس التنظيمي لديوان عمر، كما بلورت وعيًا جديدًا لدى المقاتلين حيث بدا واضحًا توسع رقعة الاستفادة من الغنائم بالانتقال من غزو قرية، أو مدينة إلى غزو شامل للأراضي الفارسية بأكملها، وأن المعادلة الآن هي إما الخسران الكامل، أو الربح الكامل4. استقبل سعد، وهو في شراف، المعنى بن حارثة الذي سلمه وصية المثنى ليستأنس بمضمونها في حروبه، وفيها: "ألا يقاتل عدوه وعدوهم -يعني المسلمين-

_ 1 الطبري ج3 ص489، 490، البلاذري: ص255، 256. 2 الطبري: ج3 ص487، 488. 3 المصدر نفسه: ص488. 4 إبراهيم: ص150.

من أهل فارس، إذا استجمع أمرهم وملأهم في عقر دارهم، وأن يقاتلهم على حدود أرضهم على أدنى حجر من أرض العرب، وأدنى قدرة1 من أرض العجم؛ فإن يظهر الله المسلمين عليهم فلهم ما وراءهم، وإن تكن الأخرى فأووا إلى فئة، ثم يكونوا أعلم بسبيلهم، وأجرأ على أرضهم؛ إلى أن يرد الله الكرة عليهم"2. وكتب عمر إلى سعد وهو بشراف كتابًا يتضمن نصائح عسكرية تماثل ما تضمنه كتاب المثنى، حيث استفاد من تجارب الحروب السابقة مع الفرس، فوضع له خطة عسكرية تقوم على قاعدتين: الأولى: اختيار مكان مناسب لخوض المعركة على أن يكون على الحدود الطبيعية بين الصحراء، وبين المسالك والمسطحات المائية، ويحفظ خط الرجعة لجيش المسلمين إذا دارت الدائرة عليهم؛ لأنه ليس وراءهم إلا الصحراء، في حين تكون هذه العوائق المائية نكبة على الفرس إذا دارت الدائرة عليهم؛ لأنها ستعرقل انسحابهم. الثانية: أن تكون المعركة حاسمة تقضي على القوة الميدانية للجيش الفارسي بحيث يتعذر على الفرس حشد قوة أخرى بعدها3. أرسل سعد زهرة بن الحوية إلى العذيب4 كطليعة، وكانت هذه القرية من مسالح فارس الحصينة، وتحوي مخازن أسلحة الفرس، ولما وصل إليها دخلها دون قتال؛ لأن الفرس قد هجروها، وارتحل سعد في إثره، فأنزل فيها نساء المسلمين، ووضع فيها حامية عسكرية بقيادة غالب بن عبد الله الليثي، ثم تابع تقدمه حتى وصل إلى القادسية، فتمركز بحصن قديس5، في حين عسكر زهرة أمام قنطرة العتيق6، وهي مفتاح المرور بتلك الجبهة، وذلك بناء على أوامر الخليفة7. واجه سعد في بداية الأمر مشكلة تأمين المواد التموينية لقواته الضخمة، وبخاصة أنه متمركز على تخوم الصحراء، وبعد مشاورات مع المدينة تقرر أن يمدهم الخليفة

_ 1 القدرة: القرية. 2 الطبري: ج3 ص490. 3 المصدر نفسه: ص490، 491. 4 العذيب: ماء بين القادسية والمغيثة، بينه وبين القادسية أربعة أميال، وهو حد السواد، الحموي: ج4 ص92. 5 قديس: موضع بناحية القادسية، المصدر نفسه: ص314. 6 قنطرة العتيق: موضع القادسية، الحموي: ج4 ص314. 7 الطبري: ج3 ص494، 495.

بما يلزم اعتمادًا على سهم "سبيل الله" من الزكاة التي تؤديها قبائل الجزيرة العربية، بالإضافة إلى ما يؤمنه الجيش من واقع ما يشنه من غارات على نواحي العراق بين كسكر والأنبار1. أقام سعد مدة شهر في القادسية، وعلم خلال ذلك، من أهل الحيرة، أن يزدجرد عين رستم قائدًا لجيش فارس، وأمره بمحاربة المسلمين، والواقع أن القائد الفارسي كان له رأي آخر، إذ فضل أن يبقى في المدائن، وعرض على الإمبراطور الفارسي رأيه في عدم التسرع بالحرب، واقترح إرسال الجالينوس2. أتاح هذا التردد في الزحف للمسلمين القيام بغارات على قوى السواد، كانت شديدة أحيانًا، وذلك بهدف تامين مواد التموين من جهة، وشن حرب استنزاف على الفرس من جهة أخرى، آتت هذه الغارات أكلها، فأثر ضغطها المادي والنفسي على السكان والدهاقنة، فكثرت استغاثتهم بيزدجرد، وهددوا بالاستسلام للمسلمين إذا لم ينجدهم الملك على وجه السرعة3. قطع هذا التهديد كل تردد، فأمر يزدجرد رستم بالخروج فورًا من المدائن لمحاربة المسلمين، فسار إلى ساباط على طريق الحيرة وعسكر فيها، ومكث أربعة أشهر بتثاقل عن الخروج منها يتنازعه الإحجام عن القتال خشية الخسارة، والاندفاع لخوض معركة سافرة مع المسلمين يقضي عليهم، ويطردهم من العراق، إذ لم يكن تقدير الموقف العسكري المائل لصالح هؤلاء غائبًا عن ذهنه، على الرغم من الاستعدادات الفارسية الضخمة، ومن المستبعد أن يكون قد رجح النصر في الوقت الذي قدر فيه الخسارة، أو لعله تمهل ظنًا منه أن يهن المسلمون إذا لم يجدوا مؤونة تكفيهم، أو يسأموا طول المقام، فينصرفوا إلى بلادهم، وأخيرًا وصل إلى القادسية، وعسكر فيها في مقابل المسلمين4. كان الموقف خطيرًا، حيث بدأ رستم يجتاح الإقليم بقواته الضخمة البالغة مائة وعشرين ألف مقاتل نصفهم من الفرسان الدارعين، معززين بالفيلة5، والأدوات الحربية المتطورة قياسًا إلى الأسلحة التي كانت بحوزة المسلمين، فالتفوق كان ملحوظًا، نظريًا، لمصلحة الفرس، إلا أنهم لم يكن باستطاعتهم الارتقاء إلى مستوى القضية، وهي السلاح الأقوى لدى المسلمين، فقد بلغ النظام الساساني آنذاك حدًا

_ 1 الطبري: ج3: ص495. 2 المصدر نفسه: ص504، 505. 3 المصدر نفسه: 503. 4 المصدر نفسه: 510. 5 المصدر نفسه.

كبيرًا من الانهيار، وانحدرت معه قيم المجتمع لتخدم مصالح الفئة الحاكمة التي التفت حول يزدجرد، والمرتبطة عضويًا بمصالح كبار رجال الدين، مما ولد حالة من التباعد بين النظام والشعب1. المفاوضات التي سبقت المعركة: كتب سعد إلى عمر بشرح له الموقف الميداني، فأجابه عمر بأن يبعث إلى صاحب الفرس من يناظرونه، ويدعونه إلى الإسلام قبل الإقدام على القتال. فامتثل سعد لأوامر الخليفة، لكن المباحثات التي جرت بين الوفد برئاسة النعمان بن مقرن المزني ويزدجرد، انتهت بالفشل، وقد غضب الملك الفارسي عندما عرض عليه النعمان إحدى ثلاث: الإسلام أو الجزية، أو الحرب، وقد جرحت كبرياؤه أمام حاشيته وبطانته، وقد عد العرب أشقى، وأسوأ الناس "إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى، ولا أقل عددًا ولا أسوأ ذات بين منكم، وقد كنا نوكل بكم قرى الضواحي فيكفونناكم2، لا تغزوكم فارس ولا تطمعون أن تقوموا لهم، فإن كان عدد لحق فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتًا إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم، وكسوناكم، وملكنا عليكم ملكًا يرفق بكم3. وجرت اتصالات مكثفة بين سعد ورستم قبل القتال، وتبادلا السفراء، ففي غمرة تردد رستم في خوض معركة سافرة مع المسلمين، بعث برسالة إلى سعد يطلب منه إرسال رجل من عنده يفاوضه بشأن الصلح، فكلف سعد ربعيًّا بن عامر بهذه المهمة، فعرض عليه أن يختار واحدة من ثلاث: الإسلام أو الجزية، أو الحرب، وأمهله ثلاثة أيام، وترددت الرسل بين القائدين كان آخرهم المغيرة بن شعبة المشهور بفصاحته وبلاغته، وقد تمكن من إثارة حفيظة رستم أثناء المناقشة التي لم تخرج عن إطار العرض الإسلامي السابق، فيما عرض رستم منح المسلمين العطايا مقابل العودة إلى بلادهم، فرد عليه المغيرة: "إن لم تقبل الإسلام أو الجزية، فسيكون الحكم للسيف"، فاستشاط رستم غضبًا، وأقسم بالشمس: "لا يرتفع الصبح غدًا حتى نقتلكم أجمعين"، فنهض المغيرة وانصرف، وانتهت كل آمال الصلح والمهادنة4.

_ 1 بيضون إبراهيم: من دولة عمر إلى دولة عبد الملك ص52. 2 فيكفونناكم: أي يكفوننا أمركم. 3 الطبري: ج3 ص499. 4 المصدر نفسه: ص518-525.

خريطة معركة القادسية

أحداث المعركة: أثار حديث المغيرة الحمية، والغيرة في نفس رستم، كما عظم على أصحابه أن يفرض العرب الجزية على الفرس، فأصدر أوامره بالاستعداد فورًا للقتال، وأرسل إلى سعد يقول له: "إما أن تعبروا إلينا، وإما أن نعبر إليكم"1، وما كان لسعد أن يعبر النهر، ومعركة الجسر ماثلة في ذهنه، لذلك بقي في مكانه مطمئنًا إلى موقعه يحميه النهر أمامه وخندق سابور عن يمينه، والصحراء وراء ظهره، وكان لا بد لرستم من أن يعبر النهر، وبدأت جموع الفرس تتوجه نحو القنطرة ليعبروها، فضايقهم المسلمون؛ لأن سعدًا قرر أن يحتفظ بهذا الموقع نظرًا لأهميته العسكرية، إذ يعد مخرجًا سهلًا للفرس إذا دارت الدائرة عليهم، كما يتيح لهم الانتقال إلى مواقع أخرى تتيح لهم الصمود في معارك تالية أمام المسلمين، لذلك تمهل رستم حتى جن الليل، ثم أمر جنوده فطمروا العتيق بالتراب، والقصب وعبروا عليه2. عبأ رستم قواته في ثلاثة عشر صفًا الواحد تلو الآخر، فوضع الهرمزان على الميمنة والجالينوس على يساره، ووضع مهران على الميسرة، واختص هو بالقلب، وضرب لنفسه قبة نصب فيها سريره الفخم، وعين بهمن في الوسط بينه، وبين الجالينوس وبيرزان على يساره، ووزع الفيلة في مؤخرة القلب، وفي الميسرة والميمنة، ووضع الرجال على مسافات قصيرة لإيصال أخبار المعركة إلى المدائن3، وهذا نظام مستحدث بدلًا من نظام البريد التقليدي. وفي المقابل، عبأ سعد قواته، فعين زهرة بن حوية التميمي على المقدمة، ووضع عاصمًا بن عمرو التميمي في الوسط بين ميمنة عبد الله بن المعتم العبسي، وميسرة شرحبيل بن السمط الكندي، وعين صاحب الطلائع سوادًا بن مالك الأسدي على الطراز -المبارزة-، وشغل المسافات والفجوات، فخلط بين الجند في القلب، والميمنة والميسرة، واعتمد في اتصاله بالمدينة على البريد اليومي4. كان مصير فارس يتوقف على نتيجة المعركة، فإذا لم يضرب رستم المسلمين في القادسية، فسوف ينهار سلطان الأكاسرة، وتزول هيبة الفرس، لذلك كان الفرسان يتحرقون شوقًا للقاء المسلمين. لم يشترك سعد مع الجيش في المعركة؛ لأنه كان يشتكي من عرق النساء، فكان

_ 1 الطبري: ج3 ص529. 2 المصدر نفسه. 3 المصدر نفسه 3 ص530. 4 المصدر نفسه.

عاجزًا عن الحركة والمشي، فتمركز في قصر ملكي قديم في القادسية، واستند على وسادة، وأشرف على سير المعركة، وتوجيه المقاتلين بواسطة الرقع التي كان يرمي بها إلى خالد بن عرفطة الذي عينه قائدًا عنه، تتضمن أوامره1. والتحم أقدر قائدين على أرض العراق في رحى معركة طاحنة استمرت ثلاثة أيام2، ونصف اليوم، تبادل الطرفان خلالها النصر والهزيمة، وانتهت بانتصار المسملين، وقتل رستم في المعركة، كما قتل الجالينوس أثناء فراره3. رسالة الفتح إلى المدينة: نظرًا لأهمية معركة القادسية على الوضع الإسلامي العام، كان الناس في كافة أرجاء الجزيرة العربية يتابعون أخبارها شوقًا لمعرفة نتائجها4، وكان عمر أشد الناس قلقًا، لذلك كان يخرج كل صباح إلى ظاهر المدينة يتلمس الأخبار، ويسأل الركبان عن أهل القادسية، فإذا انتصف النهار رجع إلى منزله5. والواقع أن سعدًا كتب إلى عمر في صباح اليوم التالي للانتصار، يبشره بفتح القادسية، ويشرح له تفاصيل ما جرى من قتال6، وعندما تسلم عمر الرسالة قرأها على الناس، وعلق على هذا الإنجاز بشيء من التواضع7. استمر سعد يكتب إلى عمر كلما واجهته مشكلة جديدة ناتجة عن عملية الفتح، مثل تقسيم الغنائم، والعلاقة مع أهل البلاد المفتوحة الذين نقضوا عهود الصلح مع المسلمين، وساندوا الفرس، فيرسل إليه قرار حلها. ففيما يتعلق بتقسيم الغنائم، كان نصيب الفارس ستة آلاف، ونصيب الراجل ألفين، فأمر عمر سعدًا أن يفضل أهل البلاء عند العطاء، فزاد كل واحد منهم خمسائة، كما أمره بأن يعطي حملة القرآن8. وأما فيما يتعلق بالعلاقة مع أهل البلاد المفتوحة، فقد قسمهم إلى قسمين: الأول: من استمر على عهده ولم يساعد الفرس، فلهم الذمة، وعليهم الجزية. الثاني: من ادعى أنه استكره، ولم يخالف الفرس واسندهم في القتال، فيجب قتلهم9.

_ 1 الطبري: ج3 ص531. 2 هي: أرماث، وأغواث وعماس. 3 انظر الطبري: ج3 ص542-550، حيث تفاصيل مسهبة. 4 المصدر نفسه: ص582. 5 المصدر نفسه: ص583. 6 المصدر نفسه. 7 المصدر نفسه: ص584. 8 المصدر نفسه: ص586. 9 المصدر نفسه: ص585.

تعقيب على معركة القادسية 1: - لم يبادر عمر في الدخول في المعركة قبل إتمام الاستعدادات اللازمة، وبخاصة حشد القوى، وتنظيم الموارد، لقد بدأ حربه مع فارس بدراسة واقعية للموارد المتاحة للمعركة المطلوبة، واهتم اهتمامًا خاصًا بحشد الخطباء، والشعراء ورؤساء القبائل لما لهؤلاء من أثر معنوي في الحرب، لذلك كان تقدم سعد إلى القادسية بطيئًا. - درس عمر متطلبات الدخول في معركة ناجحة، فتضمنت الرسائل المتبادلة بينه، وبين سعد دراسة ميدانية لأرض المعركة، ومنطقة العمليات من حيث طبيعتها، ومداها، ومسافاتها، وكان اختيار الموقع بصفاته هذه هو أساس لمعركة القادسية، فاعتمدت على مزاياه كلها واستفادت منها، وبعد أن توضحت الصورة الميدانية، خطط للعمليات العسكرية. - كانت أرض القادسية عند التقاء الصحراء بالسواد، ووراءها الصحراء العربية، وأمامها أنهار السواد وبطائحه المغمورة بالمياه والزرع، فإذا كانت المعركة لصالح المسلمين، انحصر الفرس بين الأنهار، وتعذر على قواتهم الكثيفة الانسحاب، مما يجعلهم هدفًا سهلًا للمسلمين، أما إذا دارت الدائرة على المسلمين، فخط رجعتهم مفتوح على الصحراء التي يتوه فيها الخصم. - سبق المسلمون الفرس في الوصول إلى أرض المعركة، فاتخذوا مواقعهم فيها قبل أن يعبر هؤلاء، ثم لم يتركوا لهم متسعًا مناسبًا يستوعبهم استيعابًا مريحًا. ففرضوا عليهم مكان المعركة، وظروفها القتالية حين حرموهم من حرية الحركة، والانتشار الضروريين لخوض معركة ناجحة. - يتبين من دراسة مواقع تمركز الطرفين، أن الشمس كانت تقابل وجوه الفرس، فتضايقهم كما حرمتهم من وضوح الرؤية، بينما هي في ظهور المسلمين. - تمتع المسلمون بمعنويات مرتفعة، قائمة على إيمان قوي لا يتزعزع، منحت المقاتلين أعلى درجات الشجاعة، فهاجموا الفيلة المدرعة، والمدربة وعليها المقاتلين، وأخرجوها من المعركة مما أحدث أثرًا مزدوجًا، إذ ارتاح المسلمون منها كما فجع الفرس بخروجها؛ لأنهم كانوا يعتمدون عليها، ويعدونها سلاحهم الرهيب، كما واجهوا الأعداد الهائلة من المشاة الفرس، وفرسانهم الدارعين. - تمتع الفرس بمميزات لم تكن للمسلمين، كانت الكثرة العددية إلى جانبهم،

_ 1 كمال: ص233-242.

وأفضلية العدة والسلاح ونوعيته، وسلاح الفيلة، وستون ألفًا من الفرسان، ودرجات عالية من الكفاءة القيادية، والعسكرية تمثلت في رستم، وأركان حربه، الهرمزان والجالينوس، وبهمن جاذوبه وبيرزان، ومهران وغيرهم، واستقرار سياسي حيث التف الجمع حول يزدجرد ينصرونه، ويؤازرونه مع توقف حروب الدولة على جبهات أخرى مع البيزنطيين وغيرهم، يقاتلون في ديارهم؛ ومع ذلك كله فقد انتصرت القلة المؤمنة المسلحة على كل تلك الإمكانات. - كثرت خطب الحماسة، والتشجيع أثناء التحضير للمعركة، تذكر من ذلك قيام عاصم بن عمرو أحد قادة القادسية، الذي ألقى خطبة مؤثرة، حث فيها المقاتلين على الصبر والقتال1. - تشير الخطب والسجالات المتبادلة بين سعد، ورستم قبل بدء القتال، إشارة واضحة إلى أن خروج المسلمين من الصحراء، وما نجم عن ذلك من اندماج يومي فيما بينهم، وعلاقات متبادلة مستمرة من جهة، واصطدامهم الحضاري والثقافي مع الفرس الممعنين في الحضارة من جهة أخرى؛ أدى تدريجيًا إلى بداية تشكيل وعي عربي -إسلامي عام، وشامل يتجاوز حدود الوعي القبلي الضيق، ولم يكن هذا الوعي الجديد إفرازًا لعملية التوسع، وإنما أيضًا عاملًا مدعمًا لها ومؤثرًا فيها، تأثيرًا بناء وإيجابيًا.،إذا كان أهل الحضارة قد نافروا برقيهم وتفوقهم، وعيروا العرب ببداوتهم، فإن العرب لم ينكروا ذلك، بل أقروه كما فعل المغيرة بن شعبة في رده على رستم، لكن طرأ ما بدل الحال العربية، فكان الدين الإسلامي الذي اعتنقته القبائل العربية، وراحت تحتمي به، وتستمد منه العزة، والثقة التي تحتاجها لمتابعة توسعها، وهكذا غدا العرب أصحاب دين ورسالة، وبالتالي أصحاب ثقافة، كانت المبرر لعمليات الفتوح، وعلى هذه الصورة أخذ الدين الإسلامي يتحول إلى مكون سياسي للهوية الثقافية، والحضارية للشخصية الفاتحة التي كانت تحتاج إلى سلاح معنوي بالإضافة إلى سلاحها المادي، يبرر لها وللآخرين مشروعية غزوها لملك الآخرين بعامة2. - عرفت القادسية في الجاهلية بأنها باب فارس، حيث اتخذ سعد مركز قيادته، وسجل التاريخ نصرًا جديدًا لقوات المسلمين المنسجمة والمتلاحمة، كما سجل

_ 1 انظر نص الخطبة عند الطبري: ج3 ص532. 2 إبراهيم: ص160.

بداية عملية الفتوح الحقيقية لبلاد فارس، وبالتالي انهيار الإمبراطورية الفارسية الساسانية، ووفرت الفرصة التاريخية الكبرى التي سمحت للمسلمين بالتدخل، والتوغل في عمق الأراضي الفارسية دون عقبات كبيرة، وغدت مسألة إخضاع البلاد بعد هزيمة رستم، مسألة وقت. - تمكن المسلمون من تحطيم القوة الميدانية، للجيش الفارسي، وأدى مقتل رستم إلى زيادة اليأس، والاضطراب في المجتمع الفارسي. - تساوت القادسية في أهميتها ودورها مع اليرموك، كما سنرى. - عادت بعض القبائل العربية الضاربة في الشمال إلى طاعة المسلمين، واعتنق بعضها الإسلام.

الفصل السابع: استكمال فتوح العراق-فتوح فارس "إيران"

الفصل السابع: استكمال فتوح العراق -فتوح فارس "إيران" استكمال فتوح العراق: الطريق إلى المدائن: أقام سعد مدة شهرين في القادسية أراح خلالها جنده ودوابه، وشفي هو من مرضه، وتبادل الرسائل مع عمر فيما ينبغي أن يتصرف به، فجاء أمر عمر بأن يسير إلى المدائن، فاستعد للزحف، وأرسل عدة قادة كطليعة لتمهيد الطريق أمام الجيش الرئيسي، اصطدم هؤلاء بجيوب فارسية على امتداد الطريق المؤدي إلى المدائن، في اللسان1 وبرس2 التي كانت مخزنًا لعتاد حرب الفرس بفعل حصانتها، وبابل وكوثي3 وتغلبوا عليها، وصالحهم أهل ساباط4، ووصلت إحدى هذه الطلائع إلى بهرسير إحدى ضواحي المدائن بقايدة هاشم بن عتبة، ثم خرج سعد وراءهم، ولما وصل إلى بهرسير في شهر "ذي الحجة 15هـ/ كانون الثاني 636م"، ضرب عليها الحصار، وبث خيله في المناطق المجاورة، فأغارت على من ليس له عهد بين دجلة والفرات5، واستعمل سعد لأول مرة في حرب العراق، والأسلحة الثقيلة كالمجانيق وغيرها، استمر الحصار بضعة أشهر، ودافعت خلالها الحامية عن المدينة بشكل ملفت؛ لأنها تعد معبرًا إلى العاصمة، فإذا سقطت انكشفت المدائن، وأمدها يزدجرد بالإمدادات عبر جسر يصلها بها6.

_ 1 اللسان: لسان البر الذي أدلعه في الريف، عليه الكوفة اليوم والحيرة من قبل، وظهر الكوفة يقال له: اللسان وهو فيما بين النهرين إلى العين، الحموي: ج5 ص16. 2 برس: موضع بأرض بابل، المصدر نفسه: ج1 ص384. 3 كوثي: بسواد العراق في أرض بابل، المصدر نفسه: ج4 ص487. 4 ساباط كسرى بالمدائن. 5 البلاذري: ص262، الطبري: ج3 ص623. 6 البلاذري: ص262، الطبري: ج3 ص623، ج4 ص5، 6.

كانت أنباء الحصار، والقتال تصل إلى مسامع يزدجرد يوميًا، فيغنم، وقدر أن بهرسير سوف تسقط في أيدي المسلمين وسوف تتبعها المدائن، وذلك بفعل عدم توازن القوى الذي مال لصالح هؤلاء، وحتى يحافظ على ما تبقى عرض الصلح على سعد على أن يكون نهر دجلة حدًا فاصلًا بين الأملاك الإسلامية، والأملاك الفارسية، لكن سعدًا رفض عرض الصلح1، وأصر على القتال في ظل تعليمات الخليفة الواضحة بفتح المدائن؛ وفي ظل تراجع قوة الفرس الميدانية على الأرض، وبخاصة أنه يوشك أن يقتحم بهرسير. وأخيرًا اقتحم المسلمون، ودخلوها في شهر "صفر 16هـ/ آذار 637م" بعد أن تخلت حاميتها عنها وتوجهت إلى المدائن، وقد دمر أفرادها الجسور التي أقامواها من قبل، وحطموا السفن التي تجري في نهر دجلة على مسافة مائة وثمانين كيلو مترًا جنوبي المدائن، ومائة وثلاثين كيلو مترًا شمالها فيما بين البطائح وتكريت، حتى لا يستعملها المسلمون في العبور2، ويبقى النهر بتياره الجارف خط دفاع يصدهم عن العاصمة. ووقف المسلمون على شاطء النهر، فلاح لهم إيوان كسرى بقبته البيضاء الشامخة، وجدرانه البيضاء، فبهتوا من روعته، وضخامة بنائه وارتفاعه، واتخذ سعد من بهرسير قاعدة عسكرية استعدادًا لمهاجمة المدائن. فتح المدائن: كان نهر دجلة هو الحائل بين بهرسير والمدائن، ولم يكن هناك جسر، ولا قارب يحمل الجيش، وسعد حريص على العبور، حتى جاءه رجل فارسي، فدله على مخاضة يعبر عليها دجلة إلى قلب الوادي، فأمر سعد عاصمًا بن عمرو التميمي بالعبور، والتمركز على الضفة الأخرى للنهر ليحمي المسلمين أثناء العبور، ووضع تحت إمرته ستمائة جندي، فاشتبك مع قوة فارسية في مكان يسمى الفراض، وهزمها وولى أفرادها الأدبار، وسيطر على الضفة الأخرى للنهر وسط ذهول الفرس3. وصمد خرزاد، قائد حرس السواحل، مع عدد قليل من الجند، لتأخير زحف المسلمين حتى يتسنى لأهل الحكم مغادرة المدائن، وعين كتائب من الرماة على المناهل، وأنزل فرقة عسكرية في النهر لتسد طريق عبور المسلمين، وجرت معركة

_ 1 الطبري: ج4 ص7. 2 المصدر نفسه: ص8. 3 المصدر نفسه: ص8-11.

غير متكافئة خاضتها طليعة الجيش الإسلامي، فأجلت حرس الشواطئ الذين انسحبوا إلى الداخل الفارسي تاركين المدائن خالية ممن يدافع عنها، ويحميها1. وشرع يزدجرد، فور تبلغه بسقوط بهرسير، بنقل أفراد الأسرة المالكة إلى حلوان2، وكنوزه وأمواله إلى النهروان3، وعندما علم بعبور المسلمين إلى المدائن غادر المدينة إلى حلوان4، مرتكبًا خطًا عسكريًا فادحًا في الدفاع عن عاصمته، إذ كان عليه أن يصمد، والواقع أنه لم يعد يملك القوة الضرورية للدفاع عن المدائن، وفضل النجاة بنفسه. عبر سعد بعد ذلك بهدوء، ولما دخل المدائن وجدها خالية، والصمت سائد في جميع نواحيها، ثم دخل إيوان كسرى، ونصب المنبر مكان العرش الملكي وصلى بالمسلمين صلاة الجمعة، وغنم المسلمون ما يحويه الإيوان من كنوز، وأموال ونفائس، وأمتعة وآنية مذهبة، وآلاف القطع التذكارية منذ عهد الأكاسرة، كان من بينها سيوف، ودروع بهرام جوبين، وسياوش والنعمان بن المنذر، وقيصر الروم وراجا داهر خاقان الصين، وخناجر كيقباد وهرمز، وكسرى وتاج أنوشروان المرصع، والثياب الملكية وغيرها، والواقع أن يزدجرد لم يتمكن من نقل كل أمواله ومتاعه، كما كان مطمئنًا بعدم قدرة المسلمين على عبور النهر إلا بعد وقت طويل، وصالح من بقى من سكان المدينة المسلمين على أداء الجزية، وأمر سعد زهرة بمطاردة فلول الجيش الفارسي المنسحب إلى النهروان، والمعروف أن مهران، أحد قادة الجيش، انسحب إلى هذه الناحية وعسكر بها، ثم انتقل إلى جلولاء5. فتح جلولاء: تحصن مهران في جلولاء وخندق على نفسه، وفرش الأشواك وحسك الحديد في الطرق، والممرات التي سيسلكها الجيش الإسلامي، وأعد نفسه ورجاله لقتال

_ 1 الطبري: ج4 ص15. 2 حلوان: آخر حدود السواد مما يلي الجبال من بغداد، الحموي: ج2 ص290. 3 النهروان: هي ثلاثة نهروانات: الأعلى والأوسط والأسفل، وهي كورة واسعة بين بغداد، وواسط من الجانب الشرقي، حدها الأعلى متصل ببغداد، وفيها عدة بلاد متوسطة، المصدر نفسه: ج5 ص324، 325. 4 الطبري: ج4 ص13، 14، البلخي، أبو زيد أحمد بن سهل: كتاب البدء والتاريخ ج2 ص204. 5 الطبري: ج4 ص14- 20، البلاذري: ص262، 263، البلخي: المصدر نفسه.

طويل ومرير، وأمده يزدجرد بالرجال من شتى أنحاء المملكة1، والواضح أن الفرس أرادوا إغلاق طريق المدائن -حلوان أمام زحف المسلمين، فاختاروا جلولاء مكانًا لجولة أخرى. تناهت أنباء الحشود الفارسية إلى مسامع سعد، فكتب إلى عمر يستطلع رأيه. فكتب إليه بأن يرسل هاشم بن عتبة إلى جلولاء على رأس اثني عشر ألفًا، وأن يجعل القعقاع بن عمرو على مقدمته، وسعدًا بن مالك على ميمنته، وعمرو بن مالك على ميسرته، وعمرو بن مرة الجهني على الساقة2. ويبدو أن منطقة عمليات مهران كانت أوسع من منطقة جلولاء، ولعلها شملت جميع القوات الفارسية المتواجدة بين حلوان والمدائن3. خرج هاشم من المدائن على رأس الجيش الإسلامي وهو على تعبئة، ووصل إلى جلولاء بعد أربعة أيام، وضرب عليها حصارًا مركزًا استمر الحصار مدة ثمانين يومًا تخلله مناوشات، وكر وفر من كلا الجانبين قبل أن يشتبكا في قتال ضار "لم يقاتل المسلمون مثله في موطن من المواطن حتى نفذ منهم النبل والنشاب، وتطاعنوا بالرماح حتى كسروها، ثم فضوا إلى السيوف والطبرزينات"4. وانقض عقد الفرس وتراجعوا، فاقتحم المسلمون المدينة، وكبدوا العدو آلاف القتلى، فجللوا المجال وما أمامه وما خلفه، ولذلك سميت جلولاء بما يجللها من قتلاهم، وتم فتح المدينة في "أول ذي القعدة 16هـ/ 24 تشرين الثاني 637م"5. وأصاب المسلمون من الفيء، والمغانم أفضل مما أصابوا في القادسية. فتح حلوان: بعد أن تمت هزيمة الفرس في جلولاء، أرسل سعد القعقاع بن عمرو إلى حلوان بناء على تعليمات عمر، وأمده بأكثر من ثلاثة آلاف مقاتل إضافة إلى من اصطحبهم معه، فانطلق في آثار الفرس إلى خانقين6، وسانده الجنود الفرس الذين أسلموا، فأدرك سبيًا كثيرًا عرف في التاريخ بـ"سبي جلولاء"، وقتل من

_ 1 الطبري: ج4 ص24، 25، البلاذري: ص264. 2 الطبري: ج4 ص24، البلاذري: ص264. 3 كمال: ص73. 4 الطبري: ج4 ص27، البلاذري: ص264. 5 الطبري: ج4 ص26، 27، 32، البلاذري: ص264، 265. 6 خانقين: بلدة من نواحي السواد في طريق همذان من بغداد بينها، وبين قصر شيرين ستة فراسخ لمن يريد الجبال، الحموي: ج2 ص340.

أدرك من مقاتليهم، وكان مهران نفسه من بين القتلى؛ وفر القائد فيرزان باتجاه الشرق1. بلغت أنباء هذه التطورات السلبية مسامع يزدجرد وهو بحلوان، فأدرك أن المسلمين في الطريق إليه، فخرج منها نحو الري2، وترك فيها حامية عسكرية بقيادة خسروشنوم للدفاع عنها، وتأخير تقدم المسلمين، وقد وصل هؤلاء إلى قصر شيرين الواقع على بعد ثلاثة أميال من حلوان3. والتقى الجمعان على بعد فرسخ من حلوان، وجرت بينهما معركة قاسية، هزم فيها الفرس، وقتل زينبدي، دهقان حلوان وقائد المقدمة، وهرب خسروشنوم. ودخل القعقاع حلوان صلحًا، فكف عن أهلها وأمنهم على دمائهم، وجعل لمن أحب منهم الخروج أن لا يتعرض له، ثم عين جريرًا بن عبد الله البجلي حاكمًا على المدينة، ومضى نحو الدينور4 فلم يفتحها، وفتح قرميسين5. تطهير العراق من بقايا الوجود الفارسي: كان فتح حلوان خاتمة فتوح العراق، لكن الوضع العسكري تطلب القيام بعمليات تطهير شاملة لبقايا الوجود الفارسي، وإخضاع القرى وبخاصة في السواد الشرقي لدجلة، فنفذ هاشم هذه العمليات بنجاح، فصالحه دهقان مهرومز على جريب من دراهم على ألا يقتل أحدًا منهم، ولكن دهقان دسكرة6 اتهم بغش المسلمين فقتله هاشم، ثم توجه نحو بندنيجين7، فصالحه سكانها على أداء الجزية مقابل الأمان، ولم يبق من سواد دجلة ناحية إلا غلب عليها المسلمون، وأقبل أمراء الثغور عليهم لطلب الأمام مقابل دفع الجزية8.

_ 1 الطبري: ج4 ص28. 2 الري: مدينة مشهورة، وهي محط الحاج على طريق السابلة، وقصبة بلاد الجبال، وهي طهران الحالية، الحموي: ج3 ص116. 3 الطبري: ج4 ص34. 4 الدينور: مدينة من أعمال الجبل قرب قرميسين، الحموي: ج5 ص545. 5 قرميسين: بلد معروف بينه، وبين همذان ثلاثون فرسخًا قرب الدينور، وهي بين همذان، وحلوان على جادة الحاج، المصدر نفسه: ج4 ص330، الطبري: ج3 ص34، 35. 6 دسكرة: قرية كبيرة بنواحي نهر الملك من غربي بغداد الحموي: المصدر نفسه: ج2 ص455. 7 بندنيجين: بلدة مشهورة في طرف النهروان من ناحية الجبل من أعمال بغداد، المصدر نفسه: ج1 ص499. 8 البلاذري: ص264.

كان لهذه الانتصارات الإسلامية أثرها الإيجابي على الوضع العام للسكان، فأقبل مزيد من الفرس على اعتناق الإسلام دين الفاتحين الجدد، وأرسل سعد هاشمًا بن عتبة، ومعه الأشعث بن قيس إلى الشمال، فمر بالراذانات1، وأتى دقوقاء2، وخانيجار3، فغلب عليها، وفتح كورباجرمي، ثم نفذ إلى سن بارما4، والبوازيج5 حتى حدود شهرزور6. وهكذا سيطر المسلمون على جنوبي العراق، ووسطه وتطلعوا لاستئناف التوسع باتجاه الشرق والشمال، وبخاصة أن القوة الميدانية للفرس قد انهارت، وأضحت كافة الطرق مفتوحة أمامهم للتوغل داخل الأراضي الفارسية بأمان، وهذه فرصة لا يجب أن يفوتها، وطلب سعد موافقة المدينة، لكن عمر رفض التقدم شرقًا، والتوغل في أرض مجهولة، والانسياج وراء الفرس خشية على جند المسلمين، وجعل سلسلة جبال فارس الحدود التي تفصل بين المسلمين والفرس7. والواقع أن موقف عمر يدل على بعد نظر وتفكير سليم، إنه حرص على سلامة المسلمين، وفضلها على الأنفال، وبخاصة أنهم لم يكونوا قد أمنوا العراق، واطمأنوا إلى حياة الاستقرار فيه، فقد كان شماله لا يزال على الحرب، والوضع في الجنوب لا يزال غير مستقر، فليس من سداد الرأي في هذه الظروف، أن يندفع المسلمون إلى جبال إيران، ويتوغلوا شرقًا وراءهم جبهة غير صلبة، ومن الخير أن يتخذوا جبال إيران حدًا فاصلًا بينهم وبين الفرس، وأن يفرغوا من القضاء على حركات التمرد بالعراق، يضاف إلى ذلك، فقد تطلع عمر إلى ضم الجنس العربي، وصهره في بوتقة الإسلام، وفي وحدة يكون السلطان فيها للمدينة، ويكون بين المسلمين وبين الفرس، والروم من حسن الجوار ما يذهب عن العرب والمسلمين الروع8.

_ 1 الراذانات: راذان الأسفل وراذان الأعلى، كورتان بسواد بغداد تشتمل على قرى كثيرة، الحموي: ج3 ص12. 2 دقوقاء: مدينة بين إربل وبغداد، المصدر نفسه: ج2 ص459. 3 خانيجار: بليدة بين بغداد، وإربل قرب دقوقاء، المصدر نفسه: ص341. 4 سن بارما: بارما: جبل بين تكريت والموصل، يشقه دجلة عند السن، والسن في شرقي دجلة، المصدر نفسه: ج1 ص320. 5 البوازيج: بلد قرب تكريت على فم الزاب الأسفل حيث يصب في دجلة. وهي الآن من أعمال الموصل: المصدر نفسه: ص503. 6 شهرزور: كورة واسعة في الجبال بين إربل وهمذان، المصدر نفسه: ج3 ص375، البلاذري: ص265. 7 الطبري: ج4 ص28. 8 هيكل، محمد حسين: الفاروق عمر ج1 ص209، 210.

فتح تكريت: احتشدت جموع من البيزنطيين من أهل الموصل بقيادة الأنطاق، وانضمت إليهم بعض قبائل العرب المتنصرة، مثل إياد وتغلب، والنمر والشهارجة، وعسكروا في تكريت على نهر دجلة شمالي المدائن، وتحصنوا بها، وحفروا حولها خندقًا واستعدوا لصد هجوم إسلامي مرتقب1، والواضح أن المسلمين تطلعوا إلى فتح شمالي العراق بعد أن سيطروا على جنوبه ووسطه. أرسل سعد إلى عمر يخبره بأمر هذه الحشود، فجاءت تعليماته بأن يرسل فرقة عسكرية بقيادة عبد الله بن المعتم، ويجعل على مقدمته ربعيًا بن الأفكل العنزي، وعلى ميمنته الحارث بن حسان الذهلي، وعلى ميسرته فراتًا بن حسان العجلي وعلى ساقته هانئًا بن قيس، وعلى الخيل عرفجة بن هرثمة، فإن هزموا عدوهم يسرح عبد الله بن المعتم، وابن الأفكل إلى الحصنين2. نفذ سعد تعليمات عمر، فأرسل هؤلاء النفر في خمسة آلاف مقاتل، فخرجوا من المدائن، ووصلوا إلى تكريت بعد أربعة أيام، وضربوا عليها حصارًا مركزًا استمر مدة أربعين يومًا، تخلله مناوشات متبادلة، ولجأ عبد الله بن المعتم إلى السياسة لإضعاف قوة خصمه، فاستقطب العرب المتنصرة، ودعاهم إلى الدخول في الإسلام، وحدث ما شجع هؤلاء على قبول الدعوة، وذلك أن البيزنطيين الذين نفذوا عدة عمليات عسكرية ضد المسلمين، خسروها جميعًا، فتخاذلوا وراحوا ينسحبون من المدينة، عندئذ قبل العرب دعوة عبد الله مقابل الأمان، وطلب منهم القائد المسلم أن يهاجموا البيزنطيين من ناحيتهم عندما يسمعون صيحات التكبير، في محاولة لاختيبار صدقهم، وجرى قتال بين الطرفين الإسلامي، والبيزنطي أمام الخندق، ووفت القبائل العربية بوعدها، فهاجمت البيزنطيين من الخلف، وفوجئ هؤلاء بالهجوم يشن عليهم من أمامهم ومن خلفهم، فأسقط في أيديهم، ولم ينج أحد منهم غير أولئك الذين أسلموا. وسقطت تكريت بيد المسلمين في "جمادى الأول 16هـ/ حزيران 637م"3. فتح نينوى والموصل: وعملًا بتعليمات عمر، أرسل عبد الله بن المعتم ربعيًا بن الأفكل العنوي إلى نينوى، والموصل على رأس أربعة آلاف مقاتل، بالإضافة إلى من انضم إليه من العرب الذين أسلموا حديثًا4.

_ 1 الطبري: ج4 ص35. 2 المصدر نفسه: ص35، 36. 3 المصدر نفسه: ص36. 4 المصدر نفسه.

اتبع عبد الله أسلوب السرعة، والسبق حتى يفاجئ حامية الحصنين، وفعلًا فوجئت حاميتا الحصنين بوصول المسلمين الذين بدأوا فورًا عملية اقتحام منظمة، فاضطرتا إلى الاستسلام وطلب الصلح، فأجابهما عبد الله، وذلك في "أواخر عام 16هـ/ أواخر 637م"1. فتح قرقيسياء 2 وهيت 3: بلغت أنباء انتصار المسلمين في تكريت، والموصل مسامع البيزنطيين في بلاد الشام، وكانوا في قتال مع جيوش المسملين هناك، فخشوا أن يصل المسلمون في العراق إلى المناطق الحدودية مع بلاد الشام، فيقعوا بين فكي الكماشة، لذلك شجعوا سكان الجزيرة القرآنية الموالين لهم على مقاومتهم، فاحتشدت جموع منهم استعدادًا لذلك. وأرسل سعد عمر بن مالك بن عتبة على رأس فرقة عسكرية إلى هبت بناء على تعليمات عمر بن الخطاب، فلما وصل إليها حاصرها، وفصل قسمًا من جيشه لحصار قرقسياء، فاستلمت المدينتان4. فتح ماسبذان 5: احتشدت قوة عسكرية، ممن فر من الفرس من جلولاء، في ماسبذان على الحدود الفاصلة بين العراق من الغرب، وفارس من الشرق، بقيادة آذين بن الهرمزان، فأرسل إليهم سعد ضرارًا بن الخطاب على رأس قوة عسكرية بناء على أوامر عمر، وانتهى المسلمون إلى سهل ماسبذان، والتقوا بالقوة الفارسية في بهندف، وجرت بينهما معركة أسفرت عن انتصار المسلمين، وتشتت الفرس وأسر آذين فقتله ضرار، ودخل المنتصرون المدينة وفر سكانها إلى الجبال، فدعاهم ضرار إلى العودة لقاء الأمان، ودفع الجزية فعادوا6.

_ 1 الطبري: ج4 ص36. 2 قرقيسياء: بلد على نهر الخابور، قرب رحبة مالك بن طوق على ستة فراسخ، وعندها مصب الخابور في الفرات، الحموي: ج4 ص328. 3 هيت: بلدة على الفرات من نواحي بغداد فوق الأنبار، المصدر نفسه: ج5 ص421. 4 الطبري: ج4 ص37، 38. 5 ماسبذان: مدينة كبيرة عامرة كثيرة الخير، يتصل بها رستاق في الجبال عمل واسع في طريق صعب، المقدسي المعروف بالبشاري: أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ص302. 6 الطبري: ج4 ص37.

فتح الأبلة والبصرة: شكل قطاع الأبلة والبصرة، والأهواز جبهة قتالية مساندة تزامنت أحداثها مع فتح المدائن، وما تفرع عنه، لقد أراد عمر أن يفتح جبهة ثانية ضد يزدجرد الذي كان يقاتل انطلاقًا من المدائن لتخفيف الضغط عن هذه الجبهة، فأرسل عتبة بن غزوان المازني إلى البصرة في "أواخر ذي القعدة 15هـ/ أواخر كانون الول 636م"، وحدد له هدفين: الأول: حجز القوات الفارسية في هذه المنطقة، ومنعها من التحرك شمالًا لمساعدة جبهة المدائن. الثاني: فتح الأبلة؛ لأن سقوطها سوف يربك الفرس، ويزيد الوضع الفارسي سوءًا. وأمره أن يدعو القوم إلى الإسلام، فمن أجابه قبل منه، ومن أبى فالجزية عن صغار وذلة، وإلا فالسيف في غير هوادة1. وصل عتبة إلى الخريبة2 في شهر "ربيع الآخر 16هـ/ نيسان 637م" على رأس ثمانمائة مقاتل، وعسكر في أقصى البر من أرض العرب، وأدنى أرض الريف من أرض العجم على مقربة من البصرة اليوم، وبها حامية فارسية مهمتها منع غارات المسلمين على الأبلة مرفأ التجارة، وقصبة الهند3. أقام عتبة بضعة أشهر لا يغزو، ولا يقاتل ولا يخرج إليه أحد، والواقع أن الفرس رصدوا تحركات المسلمين على هذه الجبهة الجنوية لكن لم يكونوا يملكون القوى الكافية للتصدي لهم، فقبعوا في أماكنهم بانتظار تطورات القتال في الشمال، فأرسل من أبلغ قائد الحامية: "إن ها هنا قومًا معهم راية، وهم يريدونك"4. وهكذا اضطرت الحامية إلى الخروج من أماكن تمركزها، واصطدمت بالقوة الإسلامية، ولم يمض مقدار "جزر جزور" إلا وانتصر المسلمون، وولى الفرس منهزمين إلى داخل المدينة، واحتموا وراء أسوارها، وعاد عتبة إلى معسكره5. ويبدو أن الحامية شعرت بضغط القتال، وأدركت عدم جدوى الاستمرار في المقاومة، وبخاصة أن الاتصالات مقطوعة مع الشمال مما يحرمها من طلب

_ 1 الطبري: ج3 ص590-592. 2 الخريبة: موضع بالبصرة، الحموي: ج2 ص363. 3 الطبري: ج3 ص591-594. 4 المصدر نفسه: ص594. 5 المصدر نفسه.

الإمدادات، فانسحبت شمالًا نحو الفرات وعبرته دون قتال، ودخل عنه الأبلة وكتب إلى عمر يخبره بالفتح، وكان ذلك في شهر "رجب 16هـ/ آب 637م"1. آثار سقوط الأبلة بيد المسلمين قادة النواحي، ومنهم مرزبان دست ميسان2، فحشد قوة صغيرة، واصطدم بهم، إلا أنه هزم وولى الأدبار، واستغل عتبة الوضع السيئ للحاميات الفارسية القليلة العدد بأسفل دجلة والفرات، لمهاجمتها، وطردها من المنطقة، فتقدم نحو ميسان واشتبك مع الفرس في نواحي المذار وأبرقباذ، وهزمهم، وعاد إلى البصرة3. تمصير البصرة: بالقدر الذي تحولت فيه عمليات الفتوح في العراق، وفي الأقطار الأخرى، بعد ذلك، إلى حالة دائمة ومستقرة؛ أخذت تتوضح بذات القدر ملامح تنظيم جديد يحل محل أشكال الاستقرار الطارئة، والعفوية والمحلية التي كانت سائدة في البداية، فمن البديهي أن العرب وقد غادروا الجزيرة العربية كمحاربين، فإن التجمعات السكانية في المدن، والقرى المفتوحة ظلت كالسابق مقتصرة على سكانها الأصليين دون اختلاط بين هؤلاء وبين العرب، فقد كان الخليفة حريصًا على أن يكون العنصر المقاتل في الدولة من العرب وحدهم، وهذا أمر طبيعي في وقت لم يكن فيه إسلام الشعوب الخاضعة لهم قد طرح جديًا في تلك المرحلة المبكرة، وبهدف الاحتفاظ بشدة الروح القتالية لدى العرب، عمد الخليفة إلى إبعاد هؤلاء عن المراكز الحضارية، خارج الجزيرة العربية، وتجميعهم في قواعد عسكرية يتم اختيارها عادة على شواطء الأنهار، وهي قريبة الشبه بالقواعد العسكرية من حيث المهمات المنوطة بها، ودورها في خطط الفتوح4. كانت قاعدة البصرة في جنوبي العراق من أقدم هذه الأمصار، وكان عمر، لكي يحمي البلاد من الهجمات الفارسية الارتداية، قد كلف عتبة بن غزوان بإقامة مدينة قريبة من ميناء الأبلة، حيث كانت ترسو سفن فارس والهند، وقد وصف له طبيعة الأرض وموقعها: "أجمع أصحابك في موضع واحد، ولكن قريبًا من الماء والمرعى، واكتب إلي بصفته، فاختار موضع البصرة، وكتب إلى الخليفة بصفته، فاستحسنه

_ 1 الطبري: ج3 ص594. 2 دست ميسان: كورة جليلة بين واسط والبصرة والأهواز، وهي إلى الأهواز أقرب، الحموي: ج2 ص455. 3 الطبري: ج3 ص595. 4 بيضون: ص96.

واطمأن إلى موقعه"1، والواقع أن هذا المكان كان ميدانًا قفرًا به حصى وحجارة، محاطًا بالماء والكلأ، فهو مناسب تمامًا لطبيعة العربي. وضع عتبة أساس المدينة، وبنى المسجد الجامع من القصب، وكذلك بنى الناس منازلهم، وكلف عاصمًا بن دلف لينزل القبائل في مواضعها، وتم بناء المباني الخاصة بدوائر الحكومة والإدارة، وفي عام "17هـ/ 638م" اندلعت النار في المكان، فاحترق أكثر البيوت، فأرسل سعد إلى الخليفة يستأذنه في بناء مبان من اللبن تكون أكثر ثباتًا، فوافق عمر لكنه أكد على ألا يبني الفرد أكثر من ثلاث حجرات في المنزل2، كما أمر بشق قناة تصل المدينة بدجلة، وأضحت البصرة بعد ذلك، ثغر العراق على الخليج العربي. استأذن عتبة الخليفة في أن يقدم عليه في المدينة، فأذن له، فاستخلف المغيرة بن شعبة على البصرة، وأقر عمر إمارته، فظل بها حتى شهر "ربيع الأول 17هـ/ نيسان 638م"، عندما استبدله بأبي موسى الأشعري، فاختط البصرة من جديد، وأقام البناء باللبن، والطين ووسع المسجد الجامع، وجدد دار الإمارة3. تمصير الكوفة: استقر المسلمون في المدائن بعد فتحها، ويبدو أن البنية الجغرافية لهذا الإقليم لم تتناسب مع ما ألفه العرب من جو صحراوي مفتوح، فشحب لونهم، فلما وقف الخليفة على ذلك كتب إلى سعد يأمره بأن يتخذ للمسلمين دار هجرة يقيمون فيها، وأن يختار مكانًا مناسبًا بحيث لا يكون بينهم، وبينه بحر ولا جسر4، وإنما أراد عمر بهذا أن يحقق عدة أهداف لعل أهمها: - أن يكون المكان المختار لمقام هؤلاء العرب جافًا كالبادية، وتجري فيه، مع ذلك، المياه الصالحة. - أن تكون المدينة الجديدة قاعدة متقدمة لإمداد بشري للفاتحين بحيث لا يحول بحر، ولا جسر دون إرسال المدد إلى الجند المقيمين في هذه المنطقة إذا احتاجوا يومًا إليه. - أن يشكل الموضع مركز انطلاق عسكري يساعد على تثبيت أقدام المسلمين في البلدان المفتوحة

_ 1 الطبري: ج3 ص590-595. 2 المصدر نفسه: ص590-592، البلاذري: ص341، 342. 3 الطبري: ج3 ص595-597، البلاذري: ص342. 4 الطبري: ج4 ص40، 41.

نزل سعد في الأنبار، وقرر اتخاذها مقرًا، ولكن كثرة الذباب فيها اضطره إلى النزوح إلى كويفة عمر، فلم يجدها كما يرغب، فكتب إلى الخليفة للوقوف على رأيه، فأجابه: "إن العرب لا يوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان، فابعث سلمان، وحذيفة1 رائدين، فليرتادوا منزلًا بريًا بحريًا ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر"، نفذ سعد أوامر عمر، ونجح الرائدان في اختيار مكان مناسب بين الحيرة والفرات، فنزله المسلمون في شهر "محرم 17هـ/ كانون الثاني 638م"، وضربوا خيامًا في بادئ الأمر حتى يظلوا متأهبين للجهاد، ويبدو أن هذه كانت رغبة الخليفة حتى لا يلجأ المسلمون إلى الدعة، ثم أذن لهم بعد ذلك بأن يقيموا بيوتًا من القصب والقش، ولكن حريقًا كبيرًا شب، فالتهم معظم هذه البيوت، فطلب المسلمون من عمر أن يأذن لهم بإعادة البناء باللبن، فأذن لهم بشرط ألا يتطاولوا في البنيان2. أشرف أبو الهيجاء بن مالك الأسدي على تخطيط المدينة، وأول ما شيد من أبنيتها المسجد الجامع، وبنيت أمامه ظلة واسعة المساحة أقيمت على أعمدة، وشيدت دار الإمارة بجوار المسجد، وسميت قصر سعد، وأقام الجند منازلهم حول فناء المسجد، فاختارت كل قبيلة مكانًا نزلت فيه وجعلت به خيامها. وكان من أهم مميزات المدينة الجديدة اتساع طرقها، حتى لا تحجب الأبنية هواء البادية عن سكانها. فتوح فارس "إيران":

_ 1 الطبري: ج4 ص41، 42. 2 المصدر نفسه: ص43، 44.

فتوح فارس "إيران"

فتوح فارس "إيران": تمهيد: لم يكن عمر بن الخطاب قد خطط في هذا الوقت لتفح بلاد فارس المعروفة بإيران اليوم، وكان هدف الاصطدامات التي حدثت حتى الآن داخل الأراضي الفارسية هو الحفاظ على إنجازات المسلمين، والمحافظة على الأراضي الإسلامية، إلا أن العراق الذي ضم إلى رقعة الدولة الإسلامية، يعد جزءًا من بلاد العرب؛ لأن العرب سكنوا في أنحائه قبل الإسلام، وكان عمر يقول: "وددت أن بيننا وبين فارس جبلًا من نار لا يصلون إلينا منه، ولا نصل إليهم"، ولكن الفرس لم يركنوا إلى الهدوء، فكانوا يجهزون الجيوش استعدادًا لمواصلة الحرب، كما كانوا يقومون بأعمال التمرد في البلاد المفتوحة1، ولما سأل عمر كبار الصحابة عن سبب ذلك

_ 1 المصدر نفسه: ص79.

أجابوه: "لا يمكن أن تخمد هذه الفتنة ما لم يخرج يزدجرد من حدود إيران، ولا يمكن أن تنقطع آمال الإيرانيين طالما تراودهم هذه الفكرة، وهي أن وارث عرش "كنعان" موجود على قيد الحياة"1. ومما زاد في تشجيع الفرس على التمادي في الخروج على حكم المسلمين، والاستعداد لحرب الاسترداد؛ إخفاق هؤلاء في فتح مدينة إصطخر2، والمعروف أن العلاء بن الحضرمي عامل عمر على البحرين عبر الخليخ إلى البر الفارسي دون الحصول على إذن من الخليفة، فقصد اصطخر، وتغلب على حامية السواحل، وتابع زحفه باتجاه المدينة، إلا أنه لم يؤمن على مؤخرته حيث تقضي السياسة العسكرية السليمة بتمركز قوة عسكرية في النقاط المهمة على الطريق إلى اصطخر، فقطع الفرس عليه خط الرجعة بقيادة الهربذ، ولم ينقذه سوى قرار الخليفة بإرسال مدد من حاميات البصرة، والكوفة وعزله عمر بعد ذلك جزاء مغامرته، ووضعه بتصرف سعد3. فتح الأهواز وتستر 4: اعتقد الفرس أن الأندفاع الإسلامي سوف يتوقف بعد أن يصل المسلمون إلى الثور، ولهذا اطمأنوا على ديمومة مملكتهم، والواقع أن سياسة عمر أن يتوقف المسلمون عن الزحف شرقًا، ولا يتعدوا العراق انسجامًا مع تطلعاته العربية حيث كانت بعض القبائل العربية تقيم فيه؛ لكن الأحداث المتسارعة دفعته خإلى تغيير هذه السياسة تجاه الفرس، وشجعته الانتصارات الإسلامية على التوغل في عمق الأراضي الفارسية. كانت الأوضاع السياسية في فارس مزعزعة، وأركان الحكم متفرقين في النواحي، فقد رحل يزدجرد إلى الري كما ذكرنا، إلا أنه تعرض لمؤامرة من قبل حاكمها آبان جاذويه، فغادرها إلى خراسان عن طريق أصفهان وكرمان، وأقام بمرو، واتخذها قاعدة جديدة يحكم منها ما تبقى من مملكته، واستقر الهرمزان في الأهواز، وتشتت جنود فارس في مختلف النواحي5.

_ 1 النعماني: شلبي: سيرة الفاروق ص139. 2 اصطخر: من أعيان حصون فارس وكورها، وبها كانت قبل الإسلام خزائن الملوك، الحموي: ج1 ص211. 3 الطبري: ج4 ص79، 80. 4 تستر: أعظم مدينة في الأهواز "خوزستان"، الحموي: ج2 ص29. 5 الطبري: ج4 ص166، 167.

وعندما علم يزدجرد، وأهل فارس بقرار الخليفة بألا يتعدى المسلمون العراق، ظنوا بأن هؤلاء أمسكوا عن تعقبهم خوفًا ورهبة، فطمعوا في استرداد ما فقدوه، ولم يزل يزدجرد يثير الفرس من قاعدته في مرو حتى تحركت قوة عسكرية ضخزة نحو تستر عاصمة الأهواز بقيادة الهرمزان، فأرسل سعد فرقة عسكرية من الكوفة إلى الأهواز بقيادة النعمان بن مقرن المزني، بناء على تعليمات عمر، كما كتب "عمر" إلى أبي موسى الأشعري عامله على البصرة بأن يرسل قوة عسكرية من جند البصرة بقيادة سهل بن عدي1. كان سكان الأهواز قد أشعلوا الثورة ضد الوجود الإسلامي بفعل قرب بلادهم من الأبلة والبصرة، وقد أثارهم التغيير السريع للولاة في البصرة، وقد أملوا أن تندلع الاضطرابات الداخلية بين المسلمين، مما يساعدهم على طردهم من المنطقة. سلك النعمان طريق السواد، وعبر دجلة عند ميسان وتابع زحفه إلى الأهواز، فاجتاز نهر تيري، ومناذر وسوق الأهواز، ثم اصطدم بالقوة الفارسية بقيادة الهرمزان بن رامهرمز في أربك2، وتغلب عليها، وانسحب الهرمزان إلى تستر وأخلى رامهرمز، فدخلها النعمان، ثم أتم فتح الأهواز بعد أن انضم إليه الجند الذين قدموا من البصرة بقيادة سهل بن عدي، كما انضم أبو موسى الأشعري إلى الجيش الإسلامي بعد ذلك، وحاصر المسلمون تستر، وقد تحصن بها الهرمزان، دام الحصار بضعة أشهر تخلله مناوشات بين الطرفين كانت سجالًا قبل أن يقتحم المسلمون المدينة بمساعدة أحد سكانها، وأسر الهرمزان، وأرسل إلى عمر في المدينة، فأعلن إسلامه أمامه3. فتح السوس 4: أحاط المسلمون بالسوس، وعليها شهريار أخو الهرمزان، وجرت بين الطرفين عدة مناوشات. وعلم المسلمون أثناء الحصار بأن الفرس يحشدون قوات كثيفة في نهاوند، فرأوا أن يسيطروا على السوس قبل الزحف نحوها، فشنوا هجومًا مركزًا على المدينة واخترقوا تحصيناتها، فاستسلم سكانها وطلبوا الأمان5.

_ 1 الطبري ج4 ص83. 2 أربك: بلد وناحية من نواحي الأهواز ذات قرى ومزارع، الحموي: ج1 ص137. 3 الطبري: ج4 ص84-89. 4 السوس: بلدة بخوزستان "الأهواز"، الحموي: ج3 ص280، 281. 5 الطبري: ج4 ص89-93.

فتح نهاوند: تراجعت هيبة الإمبراطورية الفارسية بعد خسارة العراق، وانسحاب الفرس من الأهواز إلى عمق الأراضي الفارسية، وحركت هذه الظاهرة العنصرية الفارسية، وأحدثت يقظة في طبرستان1، وجرجان2 ودنباوند3، والري وأصفهان4 وهمذان، وأثارت الفرس في خراسان والسند5، فكتب سكان تلك المناطق إلى يزدجرد، وهو يومئذ في مرو، وأثاروه لتحرك جديد، فدعا إلى التعبئة، وحشد مائة ألف مقاتل، عين عليهم مردانشاه، ذا الحاجب، وسيرهم جميعًا إلى نهاوند6. رصد قباذ بن عبد الله، الوالي على ثغر حلوان7، هذه الحشود فكتب إلى سعد بذلك، فأخبر سعد بدوره عمر، ثم حدث أن عزل سعد في هذه الظروف الحرجة بسبب وشايات أهل الكوفة ضده، وخلفه عبد الله بن عبد الله بن عتبان، وهو صحابي متقدم في العمر8. كانت سياسة عمر تقضي، حتى ذلك الوقت، بعدم السماح للمسلمين بالانسياح في الجبال، لكن حشود الفرس في نهاوند اضطرته إلى تغيير سياسته، فإذا لم يبادرهم المسلمون بالشدة ازدادوا جرأة، وربما كروا عليهم، وعقد مجلسًا للمشورة استمع فيه إلى آراء كبار الصحابة الذين أجمعوا على ضرورة الإمساك بزمام المبادرة9، وبذلك يكون عمر قد ألغى أوامره السابقة بعدم التوغل فيما وراء السواد.

_ 1 طبرستان: بلدان واسعة كثيرة يشملها هذا الاسم، والغالب على هذه النواحي الجبال، فمن أعبائها دهستان وجرجان، وأستراباذ وآمل وهي قصبتها. الحموي: ج4 ص13. 2 جرجان: مدينة عظيمة مشهورة بين طبرستان وخراسان، المصدر نفسه: ج2 ص119. 3 دنباوند: جبل من نواحي الري عال مشرف، ناهق شامخ لا يفارق أعلاه الثلخ شتاء، ولا صيفًا المصدر نفسه: ص475، 476. 4 أصفهان أو أصبهان: مدينة عظيمة مشهورة من أعلام المدن وأعيانها، وأصفهان اسم للإقليم بأسره، وهي من نواحي الجبل، المصدر نفسه: ج1 ص206، 207. 5 السند: بلاد بين الهند وكرمان، وسجستان، المصدر نفسه: ج3 ص267. 6 البلاذري: ص300، وقارن بالطبري الذي يذكر أن الفرس حشدوا مائة وخمسين ألف مقاتل، ج4 ص122. 7 حلوان: مدينة كبيرة عامرة ليست بأرض العراق، بعد الكوفة والبصرة وواسط، وبغداد وهي بقرب الجبل، الحموي: ج2 ص291. 8 الطبري: ج4 ص120-122. 9 المصدر نفسه: ص123-125.

ومن سمات عمر الفذة أنه كان لديه معرفة كاملة بجميع أحوال البلد، لدرجة أنه كان تحت نظره ميزات كل فرد من أفراد الرعية ومؤهلاته، فاختار النعمان بن مقرن المزني لقيادة الجيش الإسلامي إلى نهاوند، وكان آنذاك عامل الخراج على كسكر من قبل سعد، وموجودًا في البصرة في جموع من أهل الكوفة، كان الخليفة قد أرسلهم مددًا عندما ثار الفرس هناك، وفي رواية أن النعمان كتب إلى عمر برغبته في الجهاد، وعدم بقائه على خراج كسكر، ووصل كتابه إلى المدينة في الوقت الذي تجمعت فيه جيوش الفرس في نهاوند، فكتب إليه بإمارة جند المسلمين1، ورسم له الخطة التي يتوجب عليه تنفيذها، وأردفه بقوات من المدينة بقيادة عبد الله بن عمر، وبثلث قوات البصرة بقيادة أبي موسى الأشعري، وثلث قوات الكوفة بقيادة حذيفة بن اليمان2. وقدر عمر أن القتال سيكون ضاربًا، وربما أدى إلى استشهاد القائد، فاقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة مؤتة، فعين سبعة من الرجال خلفًا للنعمان في حال قتل، منهم حذيفة بن اليمان، جرير بن عبد الله البجلي، قيس بن مكشوح المرادي وغيرهم، فإن قتل واحد تولى الذي يليه3. وخرج النعمان من السوس على رأس جيش الكوفة الذي يقدر بثلاثين ألف جندي متوجهًا إلى نهاوند، في الوقت الذي فتحت فيه قوة إسلامية مدينة جنديسابور بقيادة زر بن عبد الله كليب4، وبث العيون أمامه لاستكشاف المنطقة حتى لا يؤخذ على غرة، وهذا ما يفعله القادة العسكريون الناجحون عادة، وحتى يحكم الطرق على الحشود الفارسية في نهاوند، أمر قادة المسلمين بين فارس، والأهواز أن يناوشوا من يحاورهم من الفرس لمنعهم من نجدة أهل نهاوند، وأن يقيموا على الحدود الفاصلة بين فارس والأهواز، كما أرسل مجاشعًا بن مسعود السلمي إلى الأهواز، وأمره أن يخرج إلى ماه5 لقطع طريق الإمدادات على العدو، حتى إذا وصل إلى غضى شجر6 أمره النعمان أن يقيم مكانه7.

_ 1 الطبري: ج4، ص114، 115. 2 البلاذري: ص300، الطبري: ج4 ص127، 128. 3 الطبري: ج4 ص93، 94. 4 البلاذري: ص300، الطبري: ج4 ص115. 5 ماه: الماء قصبة البلد، ومنه قيل: ماه البصرة وماه الكوفة وماه فارس، ويقال لتهاوند وهمذان، وقم ماه البصرة، الحموي: ج5 ص48. 6 غضى شجر: موضع بين الأهواز ومرج القلعة، المصدر نفسه: ج4 ص205. 7 الطبري: ج4 ص127.

وأخبره العيون بأن لا حشود عسكرية على طريق زحف الجيش إلى نهاوند فاطمأن النعمان، وواصل زحفه إلى أسبيهذان التي تبعد تسعة أميال عن نهاوند، وعسكر فيها بالقرب من المعسكر الفارسي، وقد خندق الفرس على أنفسهم، وألقوا حسك الحديد فيما وراءهم حتى لا يتعرضوا للهجوم من الخلف، وقد اقترن على عشرة جنود في سلسلة، وكل خمسة في سلسلة حتى لا يفروا1. ويبدو أن الفرس تهيبوا الدخول في معركة، فطلبوا من النعمان أن يرسل إليهم رسولًا للتباحث بشأن التوصل إلى تفاهم سلمي، فأرسل إليهم المغيرة بن شعبة، لكن المباحثات انتهت إلى الفشل بسبب التصلب في المواقف، فقد عرض الفرس على المسلمين اقتراحهم القديم بالجلاء عن الأراضي الفارسية مقابل منحهم الإمان والسلم، وجاء الرد الإسلامي سريعًا بالرفض المطلق، وبدأ الطرفان يتسعدان للحرب، ثم التحما في رحى معركة ضارية، ابتدأت شديدة، واستمرت يومين، ولما لاح النصر للمسلمين، تراجع الفرس إلى المدينة وتحصنوا بها، وطرحوا حسك الحديد حول مواقعهم لعرقلة تقدم خيل المسلمين، فأحاط المسلمون بهم، ومرت أيام والجبهة على ذلك، فقلق المسلمون لعدم خروج الفرس من مواقعهم، واشتد الأمر عليهم، وبخاصة أنه دخل فصل الشتاء "شهر محرم عام 21هـ/ شهر كانون الأول عام 641م"2. والواقع أن اختيار الفرس لنهاوند كموقع دفاعي كان ممتازًا، بفعل طبيعته الجبلية، وهو اختيار يتيح لقوة صغيرة متحصنة فيه أن تواجه جيشًا بكامله، وهكذا ظنوا أن تحصنهم وراء ذلك الموقع سوف يمنحهم المنعة، ويضعف بالمقابل روح المسلمين القتالية بعد أن يدب اليأس في نفوسهم، ويزعزع ثقتهم بالنصر. وعقد النعمان مجلسا عسكريًا مع أركان حربه للتشاور، فتقرر تخصيص قوة عسكرية تعمل على دفع الفرس إلى الخروج من تحصيناتهم بالتحرش بهم، وإغرائهم على الالتحام، بالكر والفر، في حين يترصد سائر الجيش في أماكن خلفية خافية عن أعين العدو، فإذا حدث الالتحام تظاهرت القوة بالخسارة، وتتراجع أمامهم إلى حيث يستطيع جيش المسلمين أن يشترك في المعركة، ويلتحم بهم بعيدًا عن تحصيناتهم3.

_ 1 الطبري: ج4 ص115-119، البلاذري: ص301. 2 الطبري: ج4 ص114، 129، 130، وقارن بالبلاذري: ص302، 303، وانظر: كمال ص219. 3 الطبري: ج4 ص129.

ونفذ القعقاع بن عمرو، ومعه سريته من الجند هذه الخطة، فناوش الفرس وأثارهم، فخرجوا من أماكنهم، ثم تظاهر وجنده بالهزيمة، والفرار إلى حيث مكان تجمع الجيش الإسلامي، فطاردوه وأضحوا بعيدين عن المدينة وتحصيناتها، فانكشفوا أمام المسلمين الذين طوقوهم وانقضوا عليهم، ودار قتال لم يسمع، ولم يشهد مثله جيش من الفرس أو المسلمين، وصمد المسلمون لضراوة القتال وشراسة هجمات الفرس بشكل مذهل، وقاتل الفرس قتال المستميت حتى كثر القتل فيهم، واستشهد كثير من المسلمين حتى كسيت أرض المعركة بالدماء يزلق فيه الناس والدواب، وأصيبت بعض خيول المسلمين في هذه الزلقة، كما أصيب النعمان حين زلقت قوائم فرسه في هذه الدماء، فسقط من فوقه، وكان قد جرح من رمية في خاصرته، كانت السبب في استشهاده، فتناول أخوه نعيم بن مقرن الراية منه قبل أن تقع، وسجى النعمان بثوب، ثم رفع الراية إلى حذيفة بن اليمان بوصفه خليفة النعمان، وتكتم المحيطون به هذا الأمر حتى لا يدب الوهن في قلوب الجند، واستمرت المعركة كالمعتاد1. وواصل حذيفة قيادة المعركة التي كانت قد بدأت في منتصف يوم الجمعة واستمرت إلى عتمة الليل، وانتهت بانهيار التماسك الفارسي، وبالتالي هزيمة الفرس وانتصار المسلمين، وتراجع من نجا من المعركة لكنهم ضلوا طريقهم في عتمة الليل، فسلكوا طريقًا خاطئًا أوصلهم إلى واد عميق يقال له: "واية خرد"، فسطقوا فيه مع خيولهم، وقتل منهم ثمانون ألفًا، وكان مردانشاه من بين القتلى2. وتمكن الفيرزان، وهو أحد قادتهم، من النجاة مع قلة من جنوده، وفروا إلى همذان فطاردهم نعيم والقعقاع، وأدرك هذا الأخير الفيرزان في ثنية همذان وقتله3. واستسلمت حامية نهاوند، وطلب سكانها الأمان وأقروا بدفع الجزية، فأجابهم حذيفة إلى ما طلبوا، ودخل المسلمون المدينة في موكب النصر، وكتب حذيفة إلى عمر يبشره بالفتح4. أصاب الفرس الهلع بهزيمة نهاوند، وتوغل المسلمين في أرضيهم، فازدادوا اضطرابًا، وتراجعت معنوياتهم، فليس إلا أن يأخذهم عمر وهم فيما هم فيه، وأن يدفع

_ 1 الطبري: ج4 ص130-132، البلاذري: ص301، 302. 2 الطبري: ج4 ص116، 132، 133، 138. 3 المصدر نفسه: ص132، 133. 4 المصدر نفسه.

بقواته لتجتاح سائر ولاياتهم حتى تذعن كلها للمسلمين، ولا يبقى فيها أي أثر لمقاومة، وفعلًا عقد عمر عدة ألوية عسكرية عهد إلى قادتها بالانسياج في أرض فارس كلها. فتح همذان: واصلت فلول الفرس المنهزمة فرارها حتى وصلت إلى همذان، واحتمت بتحصيناتها، فحاصرهم المسلمون، وأدرك حاكم المدينة، خسروشنوم، بعد انهيار جيش نهاوند، وبلوغ المسلمين مدينته؛ خسارة القضية وبخاصة أنه يفتقر إلى القوة الضرورية للمقاومة والصمود، فآثر الاستسلام مقابل الأمان لمدينته وسكانها1، واقتدى به حاكم الماهين، وذلك في "أواخر عام 21هـ/ خريف عام 642م". فتح أصفهان: إلى جانب اهتمامه بفتح الجنوب الفارسي، اهتم عمر بفتح المناطق الشمالية، فأرسل عبد الله بن عتبان على رأس مقاتلة الكوفة إلى الشمال لفتح أذربيجان والري، فسار إلى أصفهان حيث احتشدت فيها قوة عسركية فارسية، وذلك في عام "21هـ/ 642م"، وأمده عمر بأبي موسى الأشعري من قاعدة البصرة، وانضم إليه جمع من جند النعمان بن مقرن في نهاوند، فأضحى من القوى ما جعله يصطدم بالقوة الفارسية المدافعة عن المدينة بقيادة شهريار جاذويه، ويتغلب عليها، ويقتل قائدها، وجرت المعركة في ضاحية سميت بعد ذلك برستاق الشيخ، نسبة إلى القائد شهريار المسن، تولي الأسبيران مهمة الدفاع عن المدينة، ولما كان عاجزًا عن الصمود، طلب الصلح وعرض الاعتراف بفتح المسلمين رستاق الشيخ، فكان أول رستاق فتحه هؤلاء من أصفهان2، واقتدى الفاذوسفان بالأسبيران، فصالح المسلمين، وسلمهم مدينته جي3، فأقر بالجزية لمن شاء الإقامة في المدينة، وبعودة الذين فروا منها، وقد صودرت أراضيهم حتى يدفعوا الجزية، ومن رفض سمح له بالخروج إلى حيث يشاء، وصودرت أراضيه4، وحدث فتح أصفهان في عام "21هـ/ 642م".

_ 1 الطبري: ج4 ص147، 148. 2 المصدر نفسه: ص139-141. 3 جي: اسم مدينة ناحية أصفهان القديمة، وتسمى الآن عند الفرس شهرستان. الحموي: ج2 ص202. 4 الطبري: ج4 ص140.

إعادة فتح همذان: انتهز سكان همذان فرصة عودة الجيوش الإسلامية إلى الكوفة، وانهماك المسلمين في فتوح مناطق أخرى، فانتفضوا على الحكم الإسلامي، ونقضوا صلحهم مع المسلمين، فأمر عمر نعيم بن مقرن أن يخرج إليهم في اثني عشر ألف مقاتل، وأن يدخل المدينة عنوة عقابًا لأهلها1. حاصر نعيم المدينة، وأرغم سكانها على إعادة طلب الصلح، ولم يدخلها عنوة2، ولعل السبب في ذلك هو أنه سمع عن حشود فارسية أخرى بقيادة أسفنديار، كانت تتجمع للاصطدام به طمعًا في إخراجه من المنطقة، واسترداد ما كسبه هو وأخوه من قبل، فآثر أن يحتفظ بقواته سليمة ليواجه بها هذه الجموع المتزايدة. والواقع أنه في ظل غياب التنسيق الفارسي العام، أخذت حاميات المدن على عاتقها مقاومة المسلمين منفردة أو مجتمعة، فقد تبادلت حاميات الري، وأذربيجان، والديلم الرسائل، واتفقوا على التصدي للمسلمين، فخرج جيش من الديلم بقيادة موتًا، وعسكر في واج روذ، وانضم إليه جيش من الري بقيادة الزينبي أبي فرخان، وجيش آخر قدم من أذربيجان بقيادة أسفنديار الرازي3. تجاه هذه التحركات الفارسية، تحصن أمراء المسالح وراء أسوارهم، وكتبوا إلى نعيم في همذان يطلبون مساعدته، كما أخبروا عمر بذلك، خرج نعيم من همذان، ونزل بجنده في واج روذ، واشتبك مع القوى الفارسية في معركة ضاربة، حتى تذكر الناس معركة نهاوند، أسفرت عن انتصار المسملين، وقتل من الفرس عدد لا يحصى، ونجا أسفنديار الرازي مع قلة من جنوده، وكذلك الزينبي، وأخبر عمر بهذا الانتصار4. فتح الري: توجه نعيم بعد انتصاره، إلى الري، فاستسلمت له حامية قها الواقعة بين واج روذ، والري بقيادة الزينبي، وسار هذا الأخير مع نعيم نحو الري، استنفر سياوخش بن مهران بن بهرام جوبين حاكم الري حاميات المدن المجاورة، فجاءته الإمدادات من دنباوند، وطبرستان وقومس5، واشتبك مع القوات الإسلامية على سفج جبل الري.

_ 1 الطبري: ج4 ص147، 148. 2 المصدر نفسه. 3 المصدر نفسه: ص148، 149. 4 المصدر نفسه: 148-150. 5 قومس: كورة كبيرة واسعة تشتمل على مدن، وقرى ومزارع، وهي في ذيل جبال طبرستان، وقصبتها دامغان، وهي بين الري ونيسابور، الحموي: ج14 ص414.

وتمكنت قوة إسلامية من دخول المدينة بمساعدة الزينبي في الوقت الذي شن فيه الجيش الرئيسي هجومًا ليليًا عنيفًا، فانهزم القوم وكثر القتل فيهم، وخرب نعيم مدينة الري، وبنى على أنقاضها مدينة حديثة، وعين عليها الزينبي، وكتب لسكان الري، كتاب معاهدة، استتب الأمر للمسلمين في إقليم الري، ودخل مردانشاه مصمغان حاكم دنباوند في عهدة الصلح، وفتحت الري في عام "22هـ/ 643م"1. فتح قومس: كان نصر المسلمين بالري حاسمًا، لذلك أسرعت حاميات المدن، والأقاليم المجاورة في الدخول في ذمة المسلمين لقاء الأمان وتأدية الجزية، فلما سار سويد بن مقرن إلى قومس، بأمر عمر، لم يتصد له أحد، ودخلها سلمًا بلا حرب، ولا مقاومة2، وبفتح الري وقومس، ودنباوند لم يبق بين المسلمين، وشواطئ بحر قزوين من أرض فارس غير جرجان، وطبرستان وأذربيجان. فتح جرجان: عسكر سويد بعد صلح قومس ببسطام3، وكاتب ملك جرجان، وهو رزبان صول، يدعوه إلى الدخول في طاعة المسلمين، وهدده بالمسير إليه، فاستجاب لنداء الصلح، أقام سويد في جرجان حتى جبى خراجها، ووضع على مداخلها من يحرسها من أتراك دهستان4. بعد صلح جرجان نقطة تحول في مسار التعامل مع القوى المحلية، ونظرًا لأهميته نورد نصوصه كما ذكره الطبري: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من سويد بن مقرن لرزبان صول بن رزبان، وأهل دهستان وسائر أهل جرجان؛ إن لكم الذمة، وعلينا المنعة، على أن عليكم من الجزاء في كل سنة على قدر طاقتكم، على كل حالم، ومن استعنًا به منكم، فله جزاؤه في معونته عوضًا من جزائه، ولهم الأمان على أنفسهم، وأموالهم ومللهم، وشرائعهم ولا يغير شيء من ذلك هو إليهم ما أدوا وأرشدوا ابن السبيل، ونصحوا وقروا المسلمين، ولم يبد منهم سل ولا غل، ومن أقام فيهم فله مثل ما لهم، ومن خرج

_ 1 الطبري: ج4 ص150، 151. 2 المصدر نفسه: ص151، 152. 3 بسطام: بلدة كبيرة بقومس على جادة الطريق إلى نيسابور بعد دامغان بمرحلتين، الحموي: ج1 ص421. 4 الطبري: ج4 ص152، 153.

فهو آمن حتى يبلغ مأمنه، وعلى أن من سب مسلمًا بلغ جهده، ومن ضربه حل دمه"1. نلاحظ في كتاب الصلح هذا ظاهرة ملفتة، فلأول مرة ممنذ فتح جرجان بدأ المسملون يستعينون بأصحاب البلالد المفتوحة الذين ما زالوا على وثنيتهم، ولعل مرد ذلك يعود إلى سببين: الأول: إن حركة الفتوح قد امتدت، وتشعبت مع قلة عدد الفاتحين أمام كثرة أعدائهم، لقد كان جيش سويد بن مقرن اثني عشر ألفًا منذ خرج بهم من نهاوند، ففتح همذان والري، ثم فصل قسمًا من جيشه، وأرسله إلى أذربيجان بقيادة سماك بن خرشة، مددًا لبكير بن عبد الله، فنقص عدد قواته عما كان عليه بما لا يقل عن ألفين، ومع ذلك فإنه فتح قومس وجرجان، وهو مقدم على فتح المزيد مما وراء طبرستان، فكان عليه في هذه الحالة أن يستعين بالقوى المحلية ما دام ذلك ممكنًا مقابل إغراءات مادية، وهي الإعفاء من الجزية. الثاني: إن تعاون بعض الفرس مع المسلمين من شأنه أن يدمر البنية التحتية للمجتمع الفارسي؛ لأنه يقسم الفرس إلى قسمين متناحرين، وإن إسقاط الجزية عن المتعاملين مع المسلمين من شأنه أن يشجع غيرهم على التهافت على هذا التعاون للتخلص من الجزية، ومن ثم يفتح الباب واسعًا لنشر الإسلام في المجتمع الفارسي في ظروف أكثر ملاءمة2. يضاف إلى ذلك، أنه لأول مرة أضيفت إلى عهدة الصلح فقرة تتعلق بسب المسلم وضربه، وجزاء ذلك حل دمه، ويبدو أن سكان هذه المناطق كانوا يشتمون المسملين بسبب فتحهم لبلادهم، فلجأ سويد إلى هذا البند الجزائي حتى يردعهم. فتح طبرستان: بلغت أنباء انتصار المسملين، ودخولهم قومس وجرجان، مسامع فرخان حاكم خراسان، وكانت طبرستان داخلة في حكمه، فآثر السلامة، وصالح سويدًا3. فتح أذربيجان: تقع أذربيجان إلى الغرب من طبرستان وتجاورها، ويتاخم جنوبها بلاد العراق

_ 1 تاريخ الرسل والملوك: ج4 ص152. 2 كمال: ص247، 248. 3 الطبري: ج4 ص153.

العربي والجزيرة الفراتية، والغالب على أرضها الجبال، واشتهرت بكثرة معابد النار فيها، ولهذا سميت بأذربيجان، ومعناها أرض النار، أو معابد النار. عين عمر حذيفة بن اليمان على حرب أذربيجان، فسار إليها، حتى إذا وصل إلى أردبيل، وهي قصبتها، تصدى له حاكمها المرزبان، وجرى بينهما قتال ضار، ويبدو أنه "المرزبان" أدرك عدم جدوى المقاومة بعد أن مالت كفة المعركة لصالح المسلمين، فعرض الصلح على حذيفة، فأجابه إلى ذلك، وشمل الصلح جميع أهل أذربيجان على ثمانمائة ألف درهم، وزن ثمانية، مقابل عدم التعرض لأحد من السكان بالقتل، أو بالسبي مع المحافظة على بيوت النار، وللسكان أن يمارسوا شعائرهم الدينية، وإظهار ما كانوا يظهرونه1، ثم عزل عمر حذيفة، وولى عتبة بن فرقد السلمي أذربيجان، فأتاها من الموصل أو شهرزور، ولما دخل أردبيل وجد أهلها على العهد، وانتفضت عليه نواح فغزاها فظفر وغنم، وكان معه عمرو بن عتبة الزاهد2. فتح إقليم فارس: لم تشكل الأراضي التي سيطر عليها الفرس، والتي غزاها المسلمون، دولة مستقلة بالمفهوم العام للدولة، وإنما كانت داخلة ضمن إمبراطورية تضم دويلات، أو ولايات تخضع للحكم الفارسي، في حين تركزت الدولة التي أقامها الساسانيون، في إقليم فارس، ثم ضم هؤلاء إلى دولتهم ما جاورها من أقاليم، ووصل المسملون في عام "23هـ/ 644م" إلى قلب الإمبراطورية الفارسية الساسانية، إلى أرض الشعب الذي حكم الشعوب المجاورة؛ وبدأوا بفتح مدنها. أرسل عمر ثلاثة ألوية لفتح إقليم فارس، انطلقت جميعها من قاعدة البصرة، وهي على الشكل التالي: - مجاشع بن مسعود إلى أردشير خرة وسابور. - عثمان بن أبي العاص إلى اصطخر. - سارية بن زنيم الكناني إلى فسا وداربجرد. وبعد أن اجتازوا جميعًا أرجان دون مقاومة، وكانت في طريقهم، تفرقوا كل إلى وجهته المحددة، وفتحوا كامل الإقليم3، والملفت أن كافة عمليات الفتح كانت عبارة

_ 1 البلاذري: ص321. 2 المصدر نفسه: ص322، وقارن بالطبري: ج4 ص153- 155، وهو يفصل مضمون كتاب الصلح. 3 البلاذري: ص378-380، الطبري: ج4 ص174-177.

عن معارك صغيرة بالمقارنة مع معارك البويب، والقادسية وجلولاء ونهاوند، وذلك بفعل قضاء المسلمين في تلك المعارك على القوة الميدانية للإمبراطورية الفارسية المنهارة. فتح كرمان: تقع كرمان إلى الشرق من إقليم فارس، وإلى الجنوب من صحراء خراسان وسجستان، ويحدها من الجنوب بحر فارس، اختص سهيل بن عدي الأنصاري الخزرجي بفتح هذا الإقليم، فخرج من البصرة على رأس الجيش، واصطدم بحاميات الإقليم، وانتصر عليها وفتحه1. فتح سجستان: تقع سجستان إلى الشمال من مكران، وتشغل الآن أجزاء من إيران وأفغانستان، كان يزدجرد يكرمان حين هاجمها المسلمون، فخرج منها إلى خراسان، وحاول أن يعبئ أهلها، وأهل سجستان لمقاومة الزحف الإسلامي، وبخاصة أن المسافة بين هذين الإقليمين، وكل من البصرة والكوفة، قاعدتي الإمدادات الإسلامية، شاسعة جدًا. كان عاصم بن عمرو التميمي هو المكلف بفتح هذا الإقليم، فسار إليه ولحق به عبد الله بن عمير الأشجعي من غطفان، فالتقيا بقوات سجستانية في أول حدود الإقليم، فاصطدما بها وتغلبا عليها، فتراجع أفرادها إلى الداخل، وتحصنوا بعاصمتهم زرنج، فحاصرهم المسلمون، وضيقوا عليهم بما كانوا يشنونه من غارات على الضواحي، واضطر سكان زرنج إلى طلب الصلح، فصالحهم عاصم على مدينتهم، وما احتازوا من الأرض، وأن تكون مزارعهم حمى لهم لا يمسها المسلمون2. فتح مكران: تدخل مكران ضمن أراضي السند -باكستان اليوم- ولكن جزءًا منها يقع ضمن أراضي إيران، وهي ناحية واسعة، غزاها الحكم بن عمرو التغلبي، فاصطدم بحاكمها راسل، وانتصر عليه واستقر فيها، وكتب إلى عمر يبشره بالفتح مع صحار العبدي، وسأله عمر عن مكران، كما هي عادته كلما قدم عليه رسول يبشره بفتح ناحية، فأجابه: "يا أمير المؤمنين، أرض سهلها جبل، وماؤها وشل -قليل-وتمرها دقل-أردأ التمر-، ولصها بطل، وخيرها قليل، وشرها طويل، والكثير بها قليل، والقليل بها

_ 1 الطبري: ج4 ص180. 2 المصدر نفسه: ص180، 181.

ضائع، وما وراءها شر منها"، فتأثر عمر من هذا الوصف، وقال: "لا يغزوها جيش لي ما أطعت"، وكتب إلى الحكم، وسهيل بن عدي، وهو أحد مساعديه "لا يجوزن مكران أحد من جنودكما، واقتصرا على ما دون النهر"1، لذا تعد مكران آخر حدود فتوح عمر، استنادًا لرواية الطبري، في حين ذكر البلاذري2 أن الجيوش الإسلامية، وصلت إلى المنطقة المنخفضة من الديبل3 وبلدة تانة، وإذا أخذنا بهذه الرواية، فإن الإسلام قد دخل السند، والهند في عهد عمر. فتح خراسان: بعد فتح خراسان محورًا رئيسيًا في الصراع الإسلامي -الفارسي من واقع ناحيتين: الأولى: أن يزدجرد تمركز في مرو4 بخراسان بعد فراره من أمام زحف المسلمين، وسوف يخرجه هذا القرار من أرض فارس إلى بلاد الأتراك والصين، فيقيم في حماية حكامهما. الثانية: أن سقوط خراسان بيد المسلمين من شأنه أن يقضي على: - آخر أمل لدى الفرس لطرد المسلمين من المناطق الشرقية المفتوحة. - آخر ملوك بني ساسان، فتسقط بذلك الأسرة الحاكمة. عقد عمر للأحنف بن قيس لواء قيادة الجيش، فخرج من البصرة، وسلك طريق أصفهان، وتزامن اجتيازه لها مع حصار عبد الله بن عبد الله بن عتبان لمدينة جي، وهذا يعني أن الحملة خرجت من قاعدة البصرة في عام "21هـ/ 642م"، غير أنها أتمت مهمتها خلال عام "22هـ/ 643م"، ثم وصل الأحنف إلى الطبسين5، وتوغل حتى بلغ هراة6، وفتحها عنوة7.

_ 1 الطبري: ج4 ص181، 182. 2 فتوح البلدان: ص420. 3 الديبل: مدينة مشهورة على ساحل بحر الهند، الحموي: ج2 ص495. 4 مرو: هما مروان، مرو الروذ ومرو الشاهجان بينهما مسيرة خمسة أيام، الأولى صغيرة والثانية كبيرة، وهي قصبة خراسان، المصدر نفسه: ج5 ص112، 113. 5 الطبسين: هي تثنية طبس، والطبسان قصبة ناحية بين نيسابور، وأصفهان وكرمان، وتسمى قهستان قاين، وهما بلدتان: طبس العناب وطبس التمر، المصدر نفسه: ج4 ص20، 21. 6 هراة: مدينة عظيمة مشهورة من أمهات مدن خراسان، المصدر نفسه: ج5 ص396. 7 الطبري: ج4 ص167.

يعد سقوط هراة خطوة أولى على طريق سقوط خراسان كلها، فأرسل الأحنف فرقة عسكرية بقيادة مطرف بن عبد الله بن الشخير لفتح نيسابور1، وفرقة أخرى لفتح سرخس2 بقيادة الحارث بن حسان السدوسي، وسار بنفسه باتجاه مرو الشاهجان، حيث يقيم يزدجرد لله، فلما اقترب منها غادرها الملك الفارسي إلى مرو الروذ، واستقر الأحنف مكانه في مرو الشاهجان3. والواضح أن المسلمين جردوا يزدجرد من كل أرضه، واضطروه على الفرار حتى آخر حدود مملكته، ولم يبق أمامه سوى الالتجاء إلى جيرانه، وطلب مساعدتهم, وفعلًا، فقد كتب إلى ثلاثة ملوك يستمدهم، ويستنجد بهم وهم خاقان الترك، وملك الصغد4 وملك الصين، لكن الأحنف لم يمهله، وهاجمه في مرو الروذ بعد أن تلقى إمدادات من الكوفة، ومرة أخرى، يفر يزدجرد، إلى بلخ5، ودخل الأحنف مرو الروذ، وأرسل وحدات عسكرية في إثره، لم لحق بها، فحاضر المدينة وفتحها6. كان طبيعيًا أن يتابع يزدجرد فراره من أمام المسلمين، ولما لم يكن له في أرض مملكته مكان يفر إليه ويحتمي به، عبر نهر جيحون إلى خاقان الترك الذي توافقت مصلحته مع مصلحة العاهل الفارسي، وقد خشي من الامتداد الإسلامي باتجاه بلاده، وتعاون الرجلان في مقاومة فاشلة حيث جندا جيشًا، وهاجما المسلمين في خراسان، وانتهى الأمر بانسحاب خاقان الترك إلى بلاده مقتنعًا بما تناهى إلى أسماعه من أن المسلمين لن يعبروا النهر، على تعليمات عمر7. أما يزدجرد فقد نزل ضيفًا على حاكم مرو، ماهويه، الذي لم يكن يتمنى غير التخلص من ضيفه الذي رفض أن يزوجه ابنته، وتحالف مع نيزك طرخان التابع لبيغو حاكم طخارستان8، فأرسل نيزك جماعة لأسره، فاشتبكوا معه وهزموه، فمضى هاربًا حتى انتهى إلى بيت طحان على شاطئ نهر المرغاب، فمكث ليلتين

_ 1 نيسابور: مدينة عظيمة مشهورة في خراسان، الحموي: ج5 ص331. 2 سرخس: مدينة قديمة من نواحي خراسان بين نيسابور ومرو، المصدر نفسه: ج3 ص208. 3 الطبري: ج4 ص167. 4 الصغد: كورة، قصبتها سمرقند، وتعد من بلاد ما وراء النهر، الحموي: ج3 ص409. 5 بلخ: مدينة مشهورة بخراسان، المصدر نفسه: ج1 ص479، 480. 6 الطبري: ج4 ص167، 168. 7 المصدر نفسه: ص168-171. 8 طخارستان: ولاية واسعة كبيرة تشتمل على عدة بلاد، وهي من نواحي خراسان، الحموي: ج4 ص23.

وماهويه يبحث عنه، فلما أصبح اليوم الثاني دخل الطحان إلى بيته، فرأى يزدجرد بهيئته الملكية وهو لا يعرفه، فبهت، وطمع به، فقتله بعد أن وشى به إلى ماهويه، وطرح جثته في النهر، وذلك في عام "31هـ/ 652م"، ولما يبلغ الثامنة والعشرين من عمره، وقد خلف ابنين هما بهرام وفيروز وثلاث بنات هن أورج، وشهربانو ومرداوند1. وبفرار يزدجرد إلى ملك الترك، ومقتله بعد ذلك تم القضاء على الإمبراطورية الفارسية.

_ 1 الطبري: ج4 ص293-298.

الفصل الثامن: استكمال فتوح بلاد الشام-فتوح الجزيرة وأرمينية والباب

الفصل الثامن: استكمال فتوح بلاد الشام-فتوح الجزيرة وأرمينية والباب مدخل ... الفصل الثامن: استكمال فتوح بلاد الشام -فتوح الجزيرة، وأرمينية والباب: عزل خالد بن الوليد عن قيادة الجيوش في بلاد الشام: تتباين روايات المصادر حول سبب عزل عمر بن الخطاب خالدًا بن الوليد عن إمارة جيوش المسلمين في بلاد الشام، والواقع أن موضوعًا كهذا لا يجب أن يكون مثيرًا للجدل؛ لأن المسألة تتعلق بحدث منفرد لا يمس على نحو مباشر سوى ثلاث شخصيات، عمر وخالد وأبي عبيدة، ويبدو أن إثارة الجدل تكمن في فشل المؤرخين في التوفيق بين الأقوال المتباينة التي اصطنعوها هم أنفسهم خلال سردهم للأحداث1، ويمكن إجمال دوافع العزل كما جاءت في المصادر في ثلاثة: الدافع الأول: ضغينة قديمة من جانب عمر تجاه خالد: إن كثيرًا من المؤرخين يقتصرون على إيماءات ملتبسة كثيرة تبلغ ذروتها في قول عمر: أنه لو صارت إليه الخلافة لعزل خالد لا محالة، فإلى جانب ما تقدمه المصادر من قضية مالك بن نويرة، تبرز تأويلات خالد في أيام خلافة أبي بكر التي عدها عمر أخطاء، بالإضافة إلى كلام صدر عن خالد بحق عمر، أنه ألحق أذى جسديًا بعمر أيام صباه، وأنه أبقى عليه عن إرادة، وقصد في معركة أحد، ورما كان هذا يمثل الخلفية المتعلقة بمطلب عمر بأن يكذب خالد نفسه2، فقد روى الطبري عن ابن إسحاق: "إنما نزع عمر خالدًا في كلام كان خالد قد تكلم به -فيما يزعمون- ولم يزل عليه ساخطًا، ولأمره كارهًا في زمان أبي بكر كله لوقعته بابن نويرة، وما كان يعمل به في حربه، فلما استخلف عمر كان أول ما تكلم به عزله، فقال: لا يلي لي عملًا أبدًا، وكتب عمر إلى أبي عبيدة يقول: إن خالد أكذب نفسه، فهو أمير على ما هو عليه، وإن هو لم يكذب نفسه، فأنت الأمير على ما هو عليه"3.

_ 1 كلير: ص294. 2 المرجع نفسه: ص309. 3 الطبري: ج3 ص436، 437.

الدافع الثاني: قلق عمر من تعلق الناس بشخص خالد: ويظهر هذا الدافع في روايات متعددة، "لما ولي عمر قال: لأعزلن خالدًا حتى يعلم أن الله ينصر دينه"1. وقال: "إني لم أعزله والمثنى عن ريبة، ولكن الناس عظموهما، فخشيت أن يوكلوا إليهما"، وفي رواية: "إنما عزلتهما ليعلم الناس أن الله نصر الدين لا بنصرهما، وأن القوة لله جميعًا"2. الدافع الثالث: العناد والتصرف بالمال، وغنائم الحرب: اعتذر عمر إلى الناس بالجابية عن عزل خالد، فقال: "أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين، فأعطاه ذا البأس والشرف واللسان، فنزعته وأمرت أبا عبيدة"3، وتجري رواية أنه قال: "ما كرهت ولاية خالد على المسلمين إلا؛ لأن خالدًا فيه تبذير المال، ويعطي الشاعر إذا مدحه، ويعطي للمجد والفارس بين يديه فوق ما يستحقه من حقه، ولا يبقي لفقراء المسلمين، ولا لضعفائهم شيئًا، وإني أريد عزله وولاية أبي عبيد مكانة4، وفي حوار جرى بين عمر، وعلي بن أبي طالب ينتقد فيه الثاني الأول بسبب عزله خالدًا، فيدافع عمر عن نفسه قائلًا: "إن خالدًا أبى أن يعده بالكف عن صنوف عناده"5، وكان عمر يدعوه إلى أن يستعمله، فيأبي إلا أن يخليه يعل ما يشاء، فيأبى عمر. تعقيب على حادثة العزل: - تبدو الأسباب المبنية على عداوة قديمة، واتهامات شخصية واهية، ولا تثبت أمام النقد البناء، ثم إن قضية عزل أقدر قادة المسلمين من منصبه بسبب أذى جسدي تبقى مدعاة للاستهزاء6، ولا يسعنا الأخذ بها نظرًا لما اشتهر به عمر من عدالة، ونزاهة وترفع عن الصغائر، وجرأة في قول الحق تنزهه عن الوقوع في حمأة الحقد والضغينة. - تتسم الروايات التي تذكر قلق عمر من تعلق الناس بشخص خالد بالأهمية، مما قد ينعكس سلبًا على إيمان المجتمع الإسلامي بفعل ما قد ينسبه الناس إليه من أسباب النصر، وفي هذه الحالة، تغدو غيرة المسلمين على عقيدتهم، وثباتهم عليها بعد وفاة النبي موضعًا للتساؤل، والمعروف أن خالدًا لم يكن قد سجل كامل انتصاراته.

_ 1 تاريخ خليفة بن خياط: ص65. 2 ابن كثير: ج7 ص115. 3 ابن عساكر: ج16 ص264. 4 البلاذري: أنساب الأشراف: ج10 ص210، الواقدي: ج1 ص96. 5 ابن منظور: ج8 ص26. 6 كلير: ص311.

- لا تتصل المآخذ التي أخذت على خالد فيما يتعلق بتوزيع الغنائم، بإثراء غير مشروع، وإنما نتيجة قراراته المتسمة بالعناد، سواء أكان ذلك عائدًا إلى إخلاله بمبدأ المساواة أو؛ لأنه خص الشخصيات المرموقة، أو المقاتلين ذوي الشجاعة أنصبة أعلى، أو؛ لأنه تفرد باتخاذ قرارات مفصلية دون العودة إلى المدينة، وتوحي الروايات أن الخليفة كان هو القائد العام للمسلمين، وهو يدير العمليات العسكرية، من المدينة، بواسطة تبادل الرسائل مع قادته في ميادين القتال، وجاءت عملية العزل كمحاولة جدية لعمر لكي ينهي المحلية السائدة في عمليات الفتوح، ولكي يحصر القرار، والقيادة الفعلية في يد الخليفة، أي في يد المركز السياسي، لكن هل كان القادة في بلاد الشام يضطرون قبل اتخاذ كل قرار إلى الحصول على موافقة الخليفة مع بعد المسافة بين الحجاز، وأقصى بلاد الشام؟ قد يبدو ذلك واقعيًا بصدد القضايا الهامة، ولكن لا يبرر ذلك عزل خالد بسبب اتخاذه قرارات قبل العودة إلى الخليفة1، ويستوقفنا هنا قرار خالد بالزحف نحو بطاح بني تميم بعد أن انتهى من معركة البزاخة دون العودة إلى الخليفة، واحتجاج الأنصار على تصرفه. - لا يمكن الركون إلى أي من هذه الدوافع المذكورة، وبخاصة إذا علمنا بأن عمر ترحم على خالد بعد وفاته، وأثنى عليه بكلمات تدل على الاعتذار، فقال: "رحم الله أبا سليمان، لقد كنا نظن به أمورًا ما كانت"2، وقال أيضًا: "رحم الله أبا سليمان ما عند الله خير له مما كان فيه، ولقد مات سعيدًا، وعاش حميدًا، ولكن رأيت الدهر ليس بقائل"3. - يبقى أن مسألة العزل قد تكون لها دوافعها الخاصة المتعلقة بـ: أ- مصلحة الأمة: فعزل قائد أو والِ أمرًا طبيعيًا آنذاك، ولم يكن تعيين أبي عبيدة إساءة إلى خالد بمقدار ما كان محاولة من الخليفة للتأثير بنفسه على مجريات الأمور. ب- تغير الظروف السياسية من واقع تغيير الحكام. ج- تغير الظروف العسكرية نتيجة توغل المسلمين في بلاد الشام، وما يمكن أن ينتج عن ذلك من نظام جديد مثل فتح المدن، وتنظيم عمليات الفتح، والعلاقة مع سكان البلدان المفتوحة، إذ إن الوضع الجديد المتوقع بحاجة إلى رجل إداري، ومسالم

_ 1 كلير: ص312. 2 ابن كثير: ج7 ص117. 3 المصدر نفسه: ص118.

كأبي عبيدة، وتنم عملية العزل عن براعة سياسية من عمر وبعد نظر، ولا يسعنا إلا الأخذ بهذا التبرير نظرًا لما اشتهر به عمر من صفات حميدة ذكرناها آنفًا، وبتقديمه مصلحة الإسلام، والمسلمين على مصالحه الشخصية، وتستوقفنا هنا عهود الصلح التي أبرمها أبو عبيدة مع سكان المدن المفتوحة، وهي مفعمة بهذا التوجه السلمي، كما أن إدارة البلاد المفتوحة قبل مؤتمر الجابية مليئة بنفحات أبي عبيدة الإدارية. - ظلت مكانة خالد محفوظة من قبل عمر وأبي عبيدة، على الرغم من حادثة العزل، ففي الرسالة التي أرسلها الأول إلى الثاني عقب توليه الخلافة، أوصاه باحتباس خالد إلى جانبه: "فإنه لا غنى بك عنه"، وكان أبو عبيدة يستشيره في كل أمر، بل كان يأخذ برأيه، ويأتمر بأمره، ويقول له: "قل ما علمك الله". معركة فحل -بيسان 1: انسحبت فلول القوات البيزنطية بعد معركة أجنادين إلى دمشق، وتحصنت فيها، في حين عاد تيودور، أخو هرقل، إلى القسطنطينية، وكان الإمبراطور يتابع تطورات الموقف العسكري، فأمر بتجميع القوات البيزنطية المنتشرة في جنوبي بلاد الشام، في فحل -بيسان الواقعة على الطريق بين الأردن ودمشق، وأرسل في الوقت نفسه جيشًا من حمص يقدر بعشرة آلاف مقاتل بقيادة درنجارين2، باتجاه دمشق، وذلك بهدف الإطباق على المسلمين من الجنوب والشمال، والقضاء عليهم، وإنقاذ دمشق المحاصرة من قبلهم، ثم غادر حمص إلى أنطاكية. وصل الدرنجاران إلى بعلبك، وعلما وهما فيها بهزيمة البيزنطيين في مرج الصفر، فتوقفا عن الزحف وأقاما في المدينة، وكتبا بذلك إلى هرقل، وانتظرا تعليماته3. نتيجة لهذه التطورات العسكرية، عقد أبو عبيدة وخالد اجتماعًا تشاورا فيه بشأن كيفية الخروج من هذا المأزق، فتقرر أن يهاجم خالد القوة البيزنطية المتمركزة في بعلبك لمنعها من التقدم، ومساعدة القوى البيزنطية في جنوبي بلاد الشام، ومن جهة أخرى، تلقت قيادة الجيش البيزنطي في بعلبك أمرًا من هرقل بالتقدم إلى الجنوب، والانضمام إلى القوة المتمركزة في فحل -بيسان، وعندما وصل خالد إلى بعلبك

_ 1 كانت فحل تعرف عند البيزنطيين باسم بلا وهي اليوم أطلال، تقع إلى الشرق من نهر الأردن بين نهر الزرقا جنوبًا، ونهر اليرموك شمالًا، وبين آبل إلى جنوبها، وبيسان إلى شمالها الغربي عبر نهر الأردن. 2 الدرنجار: قائد ألف. 3 الأزدي: ص105.

على رأس خمسة آلاف مقاتل، لم يجد فيها الجيش البيزنطي، وأخبر بأن أفراده توجهوا إلى الأردن، فأغار على نواحي المدينة، وعاد إلى أبي عبيدة أمام دمشق فأخبره الخبر، وتشاور معه في الأمر، فتقرر أن يسير أبو عبيدة بجموع المسلمين إلى فحل -بيسان لضرب القوة البيزنطية المتمركزة هناك، وأن يتقدم خالد الجيش كطليعة، على أن يبقى يزيد بن أبي سفيان حول دمشق1. وتوافد المسلمون إلى فحل -بيسان، وانحاز إليهم بعض العرب المتنصرة من لخم وجذام وغسان، وعاملة والقين وقضاعة، بعد أن أدركوا أن كفة الصراع بدأت تميل لصالح المسلمين، وتردد نصارى فحل، والواقع أن القبائل المتنصرة كانت تغير مواقفها من المسلمين كلما جمع البيزنطيون حشدًا جديدًا، وكانت أكثر القبائل التي كانت لها مصلحة بالارتباط بالبيزنطيين هم الغساسنة، ويبدو أن انتصار المسلمين في معركة أجنادين قد جعل القبائل المتنصرة تفكر جديًا في الانحياز إلى أحد الجانبين، فكان أن انقسمت في هذه المعركة إلى قسمين: الأول: سارع بالانحياز إلى المسلمين. الثاني: انتظر ما ينجلي عليه الموقف، وربما غير موقفه بعد أن وصلت إمدادات بيزنطية إلى فحل. وحشد البيزنطيون زهاء ثمانين ألفًا بقيادة سقلار بن مخراق، ودمروا سدود الأنهار الغربية لعرقلة تقدم المسلمين، وخشية من أن يفاجئوهم، فامتلأت الأرض بالماء من بيسان إلى فحل2. وعلى الرغم من ذلك، فقد تقدم المسلمون نحو البيزنطيين، ونفذوا غارات خاطفة، وسريعة على القرى والرساتيق، والزروع في وادي الأردن، ومرج ابن عامر وراء بيسان، ووادي نهر الجالود، فقطعوا بذلك مصادر التموين، والمدد عنهم، ويبدو أن عرب الأردن تضايقوا، وأرادوا أن يحموا أنفسهم، فاجتمع زعيمهم ابن الجعيد بأبي عبيدة، وصالحه على سواد الأردن3. وحاول البيزنطيون التفاهم مع المسلمين لتفادي وقوع اشتباك بينهم، فعرض القائد البيزنطي التناول عن إقليم البلقاء، وتلك المنطقة من الأردن التي تتصل بالجزيرة العربية، مقابل انسحاب المسلمين، فرفض المسلمون هذا الاقتراح، لم

_ 1 الطبري: ج3 ص434. 2 المصدر نفسه: ص434، 438، 448، ابن الأثير: ج2 ص270. 3 كمال: ص318.

ييأس سقلار من التوصل إلى تفاهم مع أبي عبيدة، فأرسل إليه رسولًا خاصًا عرض عليه منح كل جندي مسلم دينارين مقابل الرحيل، فرفض أبو عبيدة هذا العرض أيضًا؛ لأن القضية لا تتعلق ببضعة آلاف من الدنانير أو الدراهم، وإنما هي قضية مبدأ ديني اعتقادي، عندئذ كان لا بد من الاشتباك العسكري لتقرير مصير الصراع1. وعبأ الطرفان قواتهما استعدادًا للقتال، واشتبكا في رحى معركة ضارية انتهت بانتصار المسلمين، فقذفوا البيزنطيين في الوحول التي حاولوا هم قذفهم فيها، وهزم سقلار وجنوده، وقتل منهم ما يقارب العشرة آلاف مقاتل كان سقلار من بينهم، وتفرق من نجا في مدن الشام، ولحق بعضهم بهرقل في أنطاكية، وجرت المعركة في "28 ذي القعدة 13هـ/ 23 كانون الثاني 635م"2. فتحت هذه المعركة الطريق أمام المسلمين، فسيطروا على جميع مدن، وقرى إقليم الأردن بسهولة مثل بيسان وطبرية، وأضحوا في رغد من الخصب، والعيش واضطر السكان إلى طلب الأمان، وكتبت عهود الصلح في كل مكان بمنح الأمان على أرواح المغلوبين، وأموالهم وأرضهم وكنائسهم، وأماكن عبادتهم مقابل الجزية3. الواقع أن البيزنطيين تعرضوا لنكسة أخرى أمام المسلمين الذين رجحت كفاءة فرسانهم أمام فرسان هؤلاء، كما أن وعي القيادة الإسلامية أفشلت الخطة التي وضعوها على أساس إرباك المسلمين، ومفاجأتهم، وارتكب سقلار خطأ عسكريًا جسيمًا عندما أهل بث العيون في معسكر المسلمين، مما حرمه من الحصول على معلومات ضرورية مساعدة، بالإضافة إلى ذلك، فإنه فقد خط الرجعة إلى بيسان حين أسند ظهره إلى مستنقعات الوحول التي أحدثها بتدمير السدود، وعندما حاول التراجع تحت ضغط القتال وقع جنوده في الوحول، فتعذر عليهم السير فيها، فكانوا هدفًا سهلًا للمسلمين. معركة مرج الروم 4: عندما بلغت أخبار هزيمة الجيش البيزنطي في فحل -بيسان مسامع هرقل، عقد مجلسًا عسكريًا ضم معظم قادته للتشاور، ووفد عليه أثناء الاجتماع وفد من أهل قيسارية، وإيلياء -بيت المقدس- يخبرونه بتمسكهم بأمره، وبإقامتهم على طاعته

_ 1 كمال: ص318-327. 2 البلاذري: ص122. 3 المصدر نفسه: ص122، 123، الطبري: ج3 ص443، 444. 4 مرج الروم: هو سهل البقاع في لبنان.

وبخلافهم للمسلمين وكراهيتهم لهم، ويطلبون منه المدد والمساعدة، فقرر حينئذ أن يستمر في الحربق، وأرسل جيشين لوقف الزحف الإسلامي إلى دمشق، وحماية حمص، وعين عليهما اثنين من خيرة قادته هما توذر وشنس، وقد سارا في طريقين منفصلين، وصل الأول إلى مرج دمشق وغربها، وعسكر هناك، في حين عسكر الثاني في مرج الروم. وكان أبو عبيدة قد وصل إلى مرج دمشق في طريقه إليها قادمًا من فحل، فقسم جيشه إلى قسمين قاد هو القسم الأول على أن يصطدم بجيش شنس، وعين خالدًا على القسم الثاني على أن يصطدم بنوذر، وعندما وصل خالد إلى مكان جيش توذر لم يجده، إذ كان قد غادر المكان تحت جنح الظلام، ويبدو أن هذا الانسحاب كان وفق خطة عسكرية مبيتة تقتضي بأن ينهمك المسلمون بقتال جيش شنس في مرج الروم في الوقت الذي ينطلق فيه جيش توذر إلى دمشق لفك الحصار عنها1. فطن خالد لهذه الخطة، فطلب من أبي عبيدة أن يسمح له بمطاردة توذر الذي كان يتقدم مسرعًا على طريق دمشق ليباغت القوة الإسلامية، استعد للقائها، واشتبك معها، وصل خالد والمعركة دائرة، فوقع الجيش البيزنطي بين فكي الكماشة، ودارت الدائرة على أفراده، وقتل خالد توذر، وغنم المسلمون دوابهم، وركائبهم وأدواتهم، وثيابهم2. عاد يزيد بعد انتهاء المعركة إلى دمشق ليستأنف حصارها، في حين عاد خالد إلى أبي عبيدة، فألفاه قد اشتبك مع جيش شنس بمرج الروم، وانتصر عليه، وقتل شنس، وفر من نجا إلى حمص، فطاردهم أبو عبيدة3. فتح دمشق 4: استأنف المسلمون حصار دمشق بعد عودتهم من الأردن، ويذكر البلاذري أنه "لما فرغ المسلمون من قتال من اجتمع منهم بالمرج أقاموا خمس عشرة ليلة، ثم

_ 1 الطبري: ج3 ص598، 599. 2 المصدر نفسه. 3 المصدر نفسه. 4 يرى بعض المؤرخين أن فتح دمشق تم قبل اليرموك "البلاذري"، ويرى البعض الآخر أنه تم بعدها "الطبري"، ويرى البعض الثالث "معظمه من المستشرقين، والمؤرخين الأجانب" أن العرب فتحوا دمشق مرتين: الأولى قبل اليرموك والثانية بعدها، وقد اعتمدنا رواية البلاذري؛ لأنها أقرب إلى واقع الأحداث مع الملاحظة بأن دمشق فتحت مرة واحدة فقط.

مدينة دمشق

رجعوا إلى مدينة دمشق لأربع عشرة ليلة بقيت من المحرم سنة 14هـ، فأخذوا الغوطة، وكنائسها عنوة، وتحصن أهل المدينة وأغلقوا بابها"1، وقد أملوا بوصول نجدة من الشمال على وجه السرعة تفك الحصار عن المدينة، وتوزعت مهام الحصار كما يلي: - عسكر أبو عبيدة على باب الجابية غربي المدينة. - نزل خالد بن الوليد أمام الباب الشرقي تجاه دير صليبا. - أقام يزيد بن أبي سفيان على الباب الصغير إلى باب كيسان جنوبي المدينة. - نزل عمرو بن العاص على باب توما شمالًا بشرق. - عسكر شرحبيل بن حسنة على باب الفراديس2. وعمد أبو عبيدة إلى عزل المدينة عمن حولها، وقطع اتصالاتها مع العالم الخارجي حتى يجبر حاميتها، وسكانها على الاستسلام، فأرسل ثلاث فرق عسكرية تمركزت: - على سفح جبل قاسيون، على مسافة خمس كيلومترات إلى الشمال من المدينة عند قرية برزة3. - على طريق حمص، للحئول دون وصول الإمدادات من الشمال، وقطع الاتصالات بينها، وبين القيادة البيزنطية. - على الطريق بين دمشق، وفلسطين لقطع طريق الجنوب4. وطال أمد الحصار على الدمشقيين، الذي دام سبعين يومًا، وازداد التوتر بينهم، وبخاصة بعد أن انسحبت الحامية البيزنطية من مواقعها تاركة للدمشقيين تدبر أمرهم بأنفسهم، ولما يئسوا من حصول نجدة تنقذهم، وتجلي المسلمين عن مدينتهم؛ وهنت عزيمتهم، ومالوا إلى الاستسلام. تتباين روايات المصادر في وصف أيام دمشق الأخيرة قبل دخول المسلمين إليها، وفي تحديد كيفية هذا الدخول، فقد ذكر البلاذري أن أبا عبيدة دخل المدينة عنوة من باب الجابية، ولما رأى الأسقف منصور بن سرجون أنه قارب الدخول، بادر إلى خالد فصالحه، وفتح له الباب الشرقي، فدخل الأسقف معه ناشرًا كتاب الصلح

_ 1 فتوح البلدان: ص127. 2 المصدر نفسه: ص127، الواقدي: ج1 ص70. 3 البلاذري: ص127، وبرزة قرية من غوطة دمشق، الحموي: ج15 ص382. 4 الطبري: ج3 ص438.

والتقى خالد مع أبي عبيدة بالمقسلاط، وهو موضع النحاسين بدمشق1، فتحدث بعض المسلمين في ذلك، وقالوا: والله ما خالد بأمير، فكيف يجوز صلحه، فقال أبو عبيدة: إنه يجيز على المسلمين أدناهم، وأجاز صلحه، وأمضاه ولم يلتفت إلى ما فتح عنوة، فصارت دمشق صلحًا كلها"، وكتب بذلك إلى عمر وأنفذه2. وروى الطبري أن خالدًا اقتحم المدينة، فاستيقظ السكان مذعورين على جند المسلمين يلجونها، ويمعنون في جندها تقتيلًا، ففتحوا أبواب مدينتهم للفرق الإسلامية الأخرى، والتجأوا إلى أبي عبيدة يعرضون عليه الصلح، فقبل عرضهم، ودخل كل قائد من الباب الذي هو عليه صلحًا باستثناء خالد، فقد دخل عنوة، واجتمعت الفرق الإسلامية الخمس في وسط المدينة، وكان صلح دمشق على المقاسمة على الدينار، والعقار وعلى جزية دينار عن كل رأس3؛ لأن جانبًا من المدينة فتح عنوة، فكان كله حقًا للمسلمين، في حين فتح جانب منها صلحًا، فوجبت عليه الجزية دون سواها، لذلك أخذ المسلمون نصف ما في المدينة من كنائس، ومنازل وأموال بحكم الفتح عنوة، وفرضوا الجزية بحكم الفتح صلحًا4. وأخذ المسلمون سبع كنائس من أصل أربع عشرة القائمة بدمشق، كما اقتسموا الكنيسة الكبرى، كنيسة القديس يوحنا المعمدان، مع الدمشقيين، فتركوا نصفها للنصارى يقيمون فيه صلواتهم، وجعلوا النصف الآخر مسجدًا للمسلمين5. فتح بعلبك: أمضى المسلمون فصل الشتاء في دمشق، وكانت الخطوة التالية فتح حمص، فقد كان هرقل مقيمًا فيها أثناء حصار دمشق، فلما رأى أن قواته لا تستطيع الوصول إلى عاصمة الشام للدفاع عنها جلا عن حمص إلى أنطاكية6. ويربط دمشق وحمص طريقان، أحدهما شرقي خارجي لصحراء السماوة، ويمر بدومة وقطيف، والنبك وقارا وشمسين وصولًا إلى حمص، والآخر غربي ويمر في وادي البقاع إلى بعلبك، وجوسية وحمص، ويشكل أحد فروع طرق التجارة الشرقية الذي يمر بوادي العاصي، وكانت تسلكه الفرق العسكرية والبريد، وهذا يعني أنه كان الأكثر استعمالًا، ويبدو أنه كان الأكثر إيناسًا.

_ 1 فتوح البلدان: ص128. 2 المصدر نفسه. 3 تاريخ الرسل والملوك: ج3 ص440. 4 ابن كثير: البداية والنهاية ج7 ص71. 5 المصدر نفسه. 6 البلاذري: ص129.

واختار خالد، بعد مشاورات مع أبي عبيدة، أن يسلك المسلمون الطريق الثاني، بهدف السيطرة عليه نظرًا لأهميته العسكرية، والمعروف أن المسلمين كانوا يتحركون سابقًا على الطريق الأول مع توفر الطريق الثاني. استخلف أبو عبيدة، قبل أن ينطلق إلى حمص، يزيد بن أبي سفيان على دمشق، وعمرو بن العاص على فلسطين، وشرحبيلًا بن حسنة على الأردن، وسار إلى سهل البقاع يتقدمه خالد، ولما اقترب من بعلبك تصدت له قوة عسكرية لعلها كانت طليعة لجيش أكبر، فتغلب خالد عليها، وأجبر أفرادها على الارتداد، والاحتماء داخل الحصن1. وضرب المسلمون الحصار على بعلبك، ولما رأى سكانها ألا أمل لهم في الانتصار استسلموا في "25 ربيع الأول 15هـ/ 6 أيار 636م"، فأعطاهم أبو عبيدة الأمان على أنفسهم، وأموالهم وكنائسهم، وكتب لهم كتابًا بذلك ومنحهم مدة شهرين، فمن أراد المغادرة سار إلى حيث شاء، ومن أقام فعليه الجزية، وهذا نص الكتاب: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب أمان لفلان بن فلان، وأهل بعلبك رومها وفرسها وعربها، على أنفسهم وأموالهم، وكنائسهم ودورهم داخل المدينة وخارجها، وعلى أرحائهم، وللروم أن يرعوا سرحهم ما بينهم، وبين خمسة عشر ميلًا، ولا ينزلوا قرية عامرة، فإذا مضى شهر ربيع، وجمادى الأولى ساروا حيث شاءوا، ومن أسلم منهم فله ما لنا وعليه ما علينا، ولتجارهم أن يسافروا إلى حيث أرادوا من البلاد التي صالحنا عليها، وعلى ما أقام منهم الجزية والخراج، شهد الله وكفى بالله شهيدًا"2. الملفت في كتاب الصلح مع أهل بعلبك تنوع سكانها النصارى من دون تحديد معتقداتهم المذهبية، ونسبة توزعهم عليها، ولمضمون العهد دلالة جديرة بالانتباه، إذ يوضح أن العرب يشكلون العنصر السامي الغالب، فيدعو للمحافظة عليهم، ولا يأمر بإجلاء أحد منهم، أما البيزنطيون، فإنه أمر بإجلائهم في ظل شروط ميسرة، وتزداد دلالة هذا العهد أهمية من حيث صيرورته نموذجًا أمام أنظار أهل حمص، المدينة المجاورة لبعلبك3، وهذه العناصر هي: - الروم: وهم رعاة الإمبراطورية البيزنطية الحاكمة.

_ 1 البلاذري: ص136، 137. 2 المصدر نفسه: ص136. 3 تردد ذكر الفرس في مدن أخرى لا سيما حمص التي ذكر البلاذري أن معاوية نقل قومًا من فرسها إلى صور وعكا، المصدر نفسه: ص124.

- الفرس: وهم من بقايا الفرس الذين أخضعوا بلاد الشام لحكمهم أثناء صراعهم مع البيزنطيين، وقد استقر الكثير منهم، وانتشروا في عدة أماكن من بلاد العرب والشام، ثم انتقلوا إلى السواحل فيما بعد. - العرب: وكانوا يستوطنون بعلبك قبل الفتح الإسلامي، مما يدل على قدم الوجود العربي في هذه المنطقة من بلاد الشام. - النصارى: وهم السكان الوطنيون من أهل بعلبك، ومنهم النبط1. فتح حمص: كانت مدينة حمص في النصف الأول من القرن السابع الميلادي، أي قبل فتح المسلمين لها، مركزًا إداريًا هامًا، كما كانت قاعدة هرقل، يرسل منها الجيوش لمحاربة المسلمين في الجنوب، ويدبر منها العمليات العسكرية. سار أبو عبيدة بعد فتح بعلبك إلى حمص، ولما وصل إلى ضواحيها تصدت له قوة عسكرية في جوسية، على بعد ستة فراسخ منها بين جبل لبنان، وجبل سنير، فوجه إليها خالدًا، فاشتبك مع أفرادها وهزمهم، فولوا الأدبار ودخلوا المدينة2. وكما امتنعت دمشق على المسلمين، فاضطروا لحصارها، كذلك كان حالهم مع حمص التي أغلقت أبوابها في وجههم. كانت القوة المدافعة عن المدينة تأمل في تلقي دعم سريع من جيوش الإمبراطورية، والواقع أن هرقل أرسل إلى أفراد الحامية بعدهم بالمساعدة، ويشجعهم على المقاومة، لكن هذه الوعود لم تتحقق حيث كان من الصعب على الإمبراطور البيزنطي أن يجمع جيشًا على وجه السرعة، ويقذف به في المعركة نجدة لحمص، عند ذلك أمل هؤلاء أن يجبر البرد، وقساوة الطقس المسلمين على التراجع، ويبدو أنهم انقسموا إلى فئتين: مالت الأولى إلى التفاهم مع المسلمين بفعل قوتهم التي لا تقهر، وعجز البيزنطيين عن إمدادهم بالمساعدة، وأصرت الثانية على الاستمرار في المقاومة والصمود3.

_ 1 تدمري، عمر عبد السلام: لبنان من الفتح الإسلامي حتى سقوط الدولة الأموية ص30. 2 الطبري: ج3 ص599، 600. 3 البلاذري: ص136، 137، يروي الطبري أن بعض الحمصيين صالح على صلح دمشق على دينار، وطعام على كل جريب أبدًا أيسروا أو أعسروا، وصالح بعضهم على قدر طاقته إن زاد حاله زيد عليه، وإن نقص نقص، وهذا من عدل المسلمين، المصدر نفسه: ص600.

خريطة محاولة تطويق المسلمين

وطال أمد الحصار على أهل حمص، وساءت حالتهم، وخشوا على أنفسهم من السبي إن فتحت مدينتهم عنوة، ووقع، في هذه الأثناء، زلزال في المدينة أدى إلى تدمير بعض البيوت والمنشآت، وألحق أضرارًا أخرى بالسكان، في الوقت الذي تجاوز فيه المسلمون الأوضاع المناخية؛ الأمر الذي أدى إلى التوافق بين الحامية البيزنطية، والسكان إلى طلب الصلح، فنالوه حسب الشروط التي باتت معروفة، والتي تتضمن دفع الجزية، والحفاظ على حياة الناس، وأملاكهم ودورهم وأماكن عبادتهم، وساير المسلمون مشاعر الحمصيين إلى حد بعيد، فلم يدخلوا المدينة بل نصبوا خيامهم بالقرب منه على ضفاف نهر العاصي. يعد فتح حمص من بين أهم الفتوح التي حققها المسلمون في بلاد الشام، وكتب أبو عبيدة إلى عمر في المدينة بهذا المعنى: "أما بعد، فالحمد لله الذي أفاء علينا وعليك يا أمير المؤمنين أفضل كورة في الشام أهلًا وقلاعًا، وأكثرهم عددًا وجمعًا وخراجًا، وأكبثهم للمشركين كبثًا، وأيسرهم على المسلمين فتحًا"1. ولعل هذا الوصف من أبي عبيدة يعطينا صورة واضحة للمدينة من الناحية السكانية، والعسكرية والاقتصادية، ويتابع أبو عبيدة كلامه قائلًا: "أخبرك يا أمير المؤمنين أنا قدمنا بلاد حمص، وبها من المشركين عدد كبير"، ثم يصف كيف طلبوا الصلح من المسلمين: "وأذعنوا بأداء الجزية"، ويتابع "فقبلنا منهم وكففنا عنهم، وفتحوا لنا الحصون، واكتتبوا منا الأمان"2، كما أخبره بأن الجيش الإسلامي سيتوجه نحو الشمال لمطاردة هرقل. والواقع أن أبا عبيدة خطط لاستئناف التوسع نحو الشمال حيث بات الطريق مفتوحًا أمامه، وتشاور مع خالد في ذلك، فاستقر الرأي على فتح منطقة شمالي بلاد الشام بما فيها أنطاكية، وحلب ومطاردة الإمبراطور البيزنطي، فأرسل ميسرة بن مسروق العبسي إلى حلب، في حين خرج هو من حمص لاستكمال فتح قطاعها، واصطحب معه خالدًا، واستخلف عبادة بن الصامت على المدينة، فوصل إلى حماة، فصالحه أهلها على الجزية في رءوسهم، والخراج على أرضهم. ومضى نحو شيزر، فخرج أهلها وصالحوه على ما صالح به أهل حماة، وتابع تقدمه حتى بلغ معرة النعمان ففتحها، ثم أتى أفامية فأذعن له أهلها بالجزية والخراج، وبهذه الفتوح أتم المسلمون فتح بلاد الشام الوسطى3.

_ 1 الأزدي: ص146. 2 المصدر نفسه: ص152. 3 البلاذري: ص137.

كان من رأي عمر أن يستقر المسلمون في حمص حتى نهاية الحول قبل أن ينطلقوا نحو الشمال، لذلك استدعى أبو عبيدة ميسرة1، ووزع قواته على مختلف نواحي بلاد الشام لضبط أمورها بعد أن استتب الوضع الميداني للمسلمين، وليعطوا سكان البلاد طابع الدولة الجديدة، واستقر هو في حمص وأرسل خالدًا إلى دمشق ليقيم بها، وكلف عمرو بن العاص أن يقيم في فلسطين. وهكذا أمر عمر أن تتوقف حركة الفتوح في بلاد الشام ذلك العام، ولعل ذلك علاقة بالمدى الذي وصلت إليه الأوضاع العسكرية على الجبهة الفارسية، حيث كان سعد بن أبي وقاص يستعد للاصطدام بالفرس في القادسية، فرأى عمر أن يركز جهوده على هذه الجبهة، ثم يرى رأيه بعد ذلك.

_ 1 الأزدي: ص146، كمال: ص398-400.

معركة اليرموك

معركة اليرموك 1: استعدادات التجهيز من جانب البيزنطيين: لم يصمد البيزنطيون في بعلبك، ولم يدافعوا دفاعًا جادًا عن حمص، فاتسع الخرق على هرقل بعد سقوط عدد من المدن الصغرى والكبرى، فكان ذلك بمثابة التحدي للإرادة البيزنطية، غير أن الإمبراطور البيزنطي، العسكري المحترف، لم يدع الهزائم تدفعه إلى اليأس والتراجع، ولم يفقد الأمل في تحقيق انتصار على المسلمين يعيد إليه هيبته، ومكانة الإمبراطورية، ويجلي هؤلاء عن بلاد الشام، فاستجاب لهذا التحدي، وكان قد انهمك بعد أجنادين، وسقوط دمشق، وبعلبك وحمص، في إعادة تشكيل قواته، وتكثيفها على نحو يطمئن معه إلى تعديل الموقف في بلاد الشام لمصلحة البيزنطيين، فراح يتنقل بين الجزيرة، وأرمينية وأنطاكية يجند المتطوعين، وكتب إلى عماله أن يحشدوا كل من أدرك الحلم من سكان الإمبراطورية، كما دعا

_ 1 اليرموك: واد بناحية الشام في طرف الغور يصب في نهر الأردن، ثم يمضي إلى البحر الميت، واليرموك سهل يقع بين بحيرة طبرية غربًا، ووادي اليرموك جنوبًا وجبل العرب شرقًا، ومنطقة القنيطرة شمالًا، ويشكل من الناحية الجغرافية المنطقة الأكثر انفتاحًا على هذا السهل واتصالًا به، إذ إنه محاط من الجهتين الغربية، والجنوبية بمنحدرات حادة، حيث يحده من الغرب وادي الرقاد الذي يتصل بنهر اليرموك عند الواقوصة، ثم بحيرة طبرية الواقعة عبر هذا السهل، والتي تشكل حاجزًا طبيعيًا بينه، وبين غربي بلاد الشام، الحموي: ج5 ص434، سويد: ص279-289.

خريطة تعديل أوضاع الروم والمسلمين على اليرموك

سكان العاصمة، القسطنطينة بالتطوع للقتال، ولم يكتف بذلك، بل كتب إلى رومة عاصمة الإمبراطورية الرومانية الغربية يطلب نجدة عاجلة تساعده على التخلص من موقفه العصيب، إلا أنه واجه عدة صعاب في جمع فلول جيوشه، وتجنيد أعداد من المرتزقة والأرمن، وبعض نصارى العرب في الوقت الذي كان يعاني من نفاد المال، والإرهاق الشديد، بعد الجهد الذي بذله بصورة متواصلة طوال أربعة عشر عامًا منذ خروجه في عام 622م من القسطنطينية. وبعد جهد سريع، استطاع أن يجمع جيشًا يفوق تعداده مائة ألف مقاتل1، وضم: - وحدات بيزنطية نظامية، وطبيعي أنها تتألف من مقاتلين غير عرب. - فرقًا من أنطاكية وقنسرين وحلب، وأغلب الظن أنهم من السكان الوطنيين غير العرب، والذين كانوا على النصرانية. - اثني عشر ألف مقاتل من رجال القبائل العربية المنتصرة المقيمة في بلاد الشام بقيادة الأمير الغساني جبلة بن الأيهم، وبينهم مقاتلين من لخم وجذام، والقين وبلي، وعاملة بالإضافة إلى غسان، وقبائل أخرى من قضاعة، والمعروف أن المعركة وقعت في منطقة كانت تابعة للغساسنة، وأن هؤلاء لم يرضوا عن سيطرة المسلمين عليها، ومن ثم فقد كانوا مشاركين مهمين في المعركة، وعين على هذا الجيش قائدًا أرمينيًا هو باهان كان يدين بالنصرانية، وانخرط في الجيش البيزنطي. وواضح من كل ما سبق أن الرابطة التي كانت تؤلف بين أفراد هذا الجيش هي: - الهوية البيزنطية كهوية سياسية. - النصرانية كانتماء ديني2. وأحاط الحملة بهالة من الضخامة والدعاية، مما جعلها تتخذ طابعًا صليبيًا. وضع هرقل خطته العسكرية على أساس ضرب كل قائد من قادة المسلمين

_ 1 تبالغ روايات المصادر حين تجعل العدد مائتي ألف مقاتل أو يزيد؛ لأنه من الواضح أن أي قوة مقاتلة تضارع هذا الرقم سوف يصبح من العسير قيادتها، وتحريكها في مثل هذا المناخ الحار في ذلك الإقليم مع نقص في الموارد الغذائية، والماء ضمن الوسائل المحدودة المتوفرة في ذلك الوقت، كذلك، فإن مسألة الإحصاءات في التاريخ لا تبعث على الثقة في الغالب، فهي تخضع عادة لتقدير سريع وغير دقيق، انظر: البلاذري: ص140، الطبري: ج3 ص394، بيضون: ص64. 2 عاقل، نبيه: موقف سكان بلاد الشام من الفتح الإسلامي، المؤتمر الدولي الرابع لتاريخ بلاد الشام المجلد الثالث 1987 ص170.

المتفرقين في الجنوب، على حدة، فخرج الجيش البيزنطي من أنطاكية متوجهًا نحو الجنوب، حتى إذا اقترب من حمص انسحب المسلمون من أمامه، فتعقبهم حينًا، وسابقهم أحيانًا حتى استقر في أذهان أفراده أن المسلمين يريدون الانصراف عن بلاد الشام، ثم واصل تقدمه خلال وادي البقاع إلى بعلبك، ولم يتوجه بعد ذلك إلى دمشق التي تجمع فيها المسلمون، وإنما توجه نحو الحولة في حركة التفاف تستهدف تطويق هؤلاء على ما يبدو، وقطع اتصالاتهم مع الجنوب حيث سائر جيوشهم بسواد الأردن ونواحيها، ومع التفوق العددي للجيش البيزنطي يصبح هذا الوضع بالغ الخطورة. ثم حدث أن غادر الجيش البيزنطي المنطقة، وتوجه نحو فلسطين حيث تجمع المسلمون في اليرموك بعد أن أخلوا منطقة شمالي بلاد الشام، وعسكر أفراده شرق وادي علان، أو العلك ابتداء من الضفة الشمالية لليرموك، ونحو الشمال، وانتشروا في العمق غربًا باتجاه وادي الرقاد، وامتدوا من اليرموك جنوبًا مرورًا بسحم الجولان، فتسيل حتى غرب نون شمالًا بحيث استندت مؤخرتهم على الضفة الشرقية لوادي الرقاد غربًا، واستندت ميمنتهم على الضفة الشمالية لنهر اليرموك جنوبًا، أما ميسرتهم، فظلت طليقة باتجاه الشمال، وبهذا التمركز حشروا أنفسهم بين وادي الرقاد غربًا، ووادي اليرموك جنوبًا إلا أن طريق الشمال ظلت مفتوحة أمامهم، فكانت الإمدادات تصل إليهم، عبرها، ويتصلون من خلالها بقيادتهم العليا في أنطاكية، وكانت نقطة ضعفهم أنه كان من اليسير على المسلمين الالتفاف على مسيرتهم، وسد المنفذ الوحيد الذي يصلهم بداخل بلاد الشام، وبالتالي بعاصمتهم وقيادتهم1. استعدادات التجهيز من جانب المسلمين: علم أبو عبيدة بواسطة الجواسيس التي بثها بين البيزنطيين بهذا الحشد الضخم، فعقد اجتماعًا فوريًا لقادته للتشاور، فتقرر أن يغادر المسلمون حمص إلى دمشق حيث يوجند خالد؛ ولأنها أقرب إلى حدود الجزيرة العربية. كان أبو عبيدة قد استعمل حبيبًا بن مسلمة على خراج حمص، فأرسل إليه كتابًا يقول فيه: "أردد على القوم الذين صالحناهم من أهل البلد ما كنا أخذنا منهم، فإنه لا ينبغي لنا إذا لم نمنعهم أن نأخذ منهم شيئًا، وقل لهم نحن على ما كنا عليه فيما بيننا، وبينكم من الصلح لا نرجع فيه إلا أن ترجعوا عنه، وإنما ردنا عليكم أموالكم أنا

_ 1 سويد: ص292، يذكر الواقدي، أن البيزنطيين نزلوا بدير يقال له: دير الجبل، وهو بالقرب من الرمادة، والجولان: ص166.

كرهنا أن نأخذ أموالكم، ولا تمنع بلادكم، ولكنا نتنحى إلى بعض الأرض، ونبعث إلى إخواننا، فيتقدموا علينا ثم نلقي عدونا فنقاتلهم، فإن أظفرنا الله بهم وفينا لكم بعهدكم إلا أن لا تطلبوا ذلك"1. نفذ حبيب أمر أبي عبيدة ورد للقوم ما كان قد أخذه منهم من الجزية، وقد تأثر أهل حمص بهذا الموقف، وقد أشرنا إلى رد فعلهم في فصل سابق. والواقع أن هذا التدبير لم يقتصر على أهل حمص فقط، بل شمل كافة المدن والقرى المفتوحة التي وقعت عهودًا مع المسلمين، فقد كتب أبو عبيدة إلى كافة عمالة أن يردوا الجزية التي حصلوا عليها إلى أصحابها2. ومهما يكن من أمر، فقد أمر أبو عبيدة برحيل جيش المسلمين إلى دمشق وأخبر عمر بذلك، تألم الخليفة من رحيل المسلمين عن حمص خوفًا من البيزنطيين، وتركوا أرضًا فتحها الله عليهم، ولكنه اطمأن عندما علم أن هذا التدبير جاء عن إجماع القادة، وأمد أبا عبيدة بقوة عسكرية إضافية بقيادة سعيد بن عامر. أزال هذا التطور العسكري على الأرض الرعب من قلوب سكان بعض الأقاليم المفتوحة، فنقضوا عهودهم مع المسلمين، وأثاروا الاضطرابات ضدهم. وشهدت مناطق الأردن، وفلسطين ثورات عاتبة أثرت سلبًا على الوجود الإسلامي، وقد رفع عمرو بن العاص تقريرًا بذلك إلى أبي عبيدة، مما استدعى عقد اجتماع آخر للقادة قرروا فيه الخروج إلى الجابية، واستدعاء عمرو بن العاص للانضمام إليهم، ثم يتهيأون للقتال، وهكذا قرر القادة المسلمون الصمود، والمقاومة على أرض الشام3. وفوض أبو عبيدة في هذه الأثناء سلطانه إلى خالد4، إذ كان أقدر القادة في تحمل مسئوليات المهمات الصعبة، فاختار اليرموك مركزًا لتجمع القوات، ومن الواضح أن اختيار ذلك المكان إنما جاء خشية المسلمين في ذلك الدور من عملية إنزال بحري يقوم بها البيزنطيون، الأمر الذي يجبرهم على الاحتماء بداخل البلاد، هذا فضلًا على أنه يمكنهم من الانسحاب في حال الضرورة إلى داخل الصحراء العربية، والمعروف أن قوى البيزنطيين كانت تسيطر على البحر المتوسط. وصل المسلمون إلى اليرموك، فوجدوا البيزنطيين قد سبقوهم إليه، فنزلوا عليهم

_ 1 البلاذري: ص143، الأزدي: ص155. 2 الأزدي: ص138. 3 المصدر نفسه: ص164-172. 4 المصدر نفسه: ص169.

بحذائهم وعلى طريقهم، إذ ليس للبيزنطيين طريق إلا عليهم1، وقد بلغ عددهم ستة وثلاثون ألف مقاتل2، والواقع أن خالدًا تمركز بجيشه قبالة البيزنطيين. غرب وادي الهرير ابتداء من الضفة الشمالية لليرموك، ونحو الشمال، وانتشر في العمق شرقًا باتجاه وادي الهرير، وامتد عسكره من تل الأشعري عند مجرى اليرموك جنوبًا حتى غرب جلين، فشرق سحم الجولان، وتسيل ونوى شمالًا؛ بحيث استندت مؤخرته على وادي الهرير شرقًا، واستندت ميسرته على اليرموك جنوبًا، أما ميمنته، فظلت طليقة باتجاه شمال نوى3، فسد بذلك على البيزنطيين منفذهم الوحيد إلى الشمال. استعدادات القتال: عبأ باهان جيشه كعادة البيزنطيين في ذلك العهد في كراديس، كل كردوس مؤلف من ستمائة جندي، وفي فرق كل فرقة مؤلفة من عشرة كراديس، ورتب هذه الكراديس في ثلاثة خطوط، فوضع أربعة كراديس في الخط الأول، وثلاثة في كل من الخطين الثاني والثالث، ثم وضع الرماة في المقدمة، والخيالة في الجناحين، وبهذه التعبئة شكلت كراديس المشاة قلب الجيش الذي رتب ثلاثين خطًا، وأوكل إلى كل من هذه القوى مهمات قتالية محددة، ووضع القساوسة أمام كل خط يحملون الصلبان في أيديهم لبث الحماس في نفوسهم الجند، وفعلًا دفع الحماس ببعض الجند أن ثلاثين ألفًا منهم وضعوا القيود في أرجلهم، حتى لا تراودهم فكرة الانسحاب4. أما المسلمون، فإنه لم يكن لهم تنظيم عسكري حديث قبل اليرموك، بل كانوا يتبعون تنظيم الخميس، وهو الذي عرفه العرب في حروبهم السابقة كأمة دون أن يعرفوا تنظيم الكراديس، لكن خالدًا عرف بفطنته العسكرية أن جيشه بحاجة إلى تنظيم جديد يضاهي تنظيم البيزنطيين حتى يتمكن من مجابهتهم، فلم يجد أفضل من تنظيمهم لقتالهم به، وهكذا اعتمد المسلمون لأول مرة في تاريخ الحروب الإسلامية تنظيم الكراديس مع تنظيم الخميس مجتمعين، وهو ما سمي بـ"التعبئة الخالدية"5، فعبأ خالد جيشه، مشاة وخيالة في ستة وثلاثين كردوسًا، كل كردوس مؤلف من ألف مقاتل، ثم في فرق، كل فرقة مؤلفة من عدد من الكراديس يتراوح بين عشرة وعشرين كردوسًا، وذلك على أساس التجمعات القبلية، نظرًا لما يقاتل به العرب

_ 1 الطبري: ج3 ص393. 2 المصدر نفسه: ص394. 3 سويد: ص293. 4 المرجع نفسه: ص294-296. 5 المرجع نفسه: ص297.

خريطة تقدم الروم إلى المسلمين

مجتمعين من روح عصبية قبلية على الرغم من إسلامهم، ونشرها على امتداد الجبهة، وأبقى لديه احتياطًا من الخيالة المتحركة، وضعها بإمرته كان ضرار بن الأزور من بين قادتها1، كما وضع النساء في المؤخرة وراء خطوط المقاتلين للعناية بالجرحى، والمرضى وسقاية المقاتلين أثناء القتال، وتشجيعهم وإثارة حماسهم، ورد الرجال الفارين إلى المعركة، وجاء التنظيم على الشكل التالي: - القلب: ستة عشر كردوسًا بقيادة أبي عبيدة، ومعه عكرمة بن أبي جهل، والقعقاع بن عمرو. - الميمنة: عشرة كراديس بقيادة عمرو بن العاص، ومعه شرحبيل بن حسنة. - الميسرة: عشرة كراديس بقيادة يزيد بن أبي سفيان. - المقدمة: بقيادة قباث بن الأشيم، وهي عبارة عن فرقة قليلة العدد نسبيًا مهمتها مراقبة تحركات العدو، والمحافظة على التماس معه. - المؤخرة: بقيادة سعيد بن زهير ومعه خمسائة فارس، ومهمته قيادة الظعن وحمايتهن. كان خالد أبعد نظرًا فيما يجب عليه أن يفعله، وما يجب أن يتجنبه، إذ كان من الواجب عليه أن لا يبدد قواته، وينهكها في معارك جانبية صغيرة، وبذل جهدًا كبيرًا لفصل الجيش البيزنطي عن قواعده، وقطع طريق إمداداته مع الشمال في الوقت الذي نجح في استدراجه للقائه تجاه الصحراء جنوبًا، والتي كانت طريقًا مفتوحًا للمسلمين كما ذكرنا، حيث ظلت الإمدادات ترد إليهم، وحيث يستطيعون الانسحاب إذا خسروا المعركة، واعتمد على الوديان الصغيرة الضيقة، والشديدة والانحدار التي تتخلل المنطقة في حماية جيشه من الهجوم البيزنطي. من أجل ذلك قضى الجيشان الشهور الأخيرة من فصل الربيع، وأوائل الصيف وكل منهما يتربص بالآخر، ويأمل في أن يضعه في موضع تكون به عوائق يستغلها2، لقد أخر البيزنطيون الاشتباك كي يتاح لجنودهم التأقلم مع طبيعة الأرض من حولهم، والحصول على أخبار إضافية عن المسلمين، وإضعافهم عن طريق الدسائس، فيكتسبوا الثقة بأنفسهم. أحداث المعركة: وضع خالد خطته العسكرية على أساس أن يثبت المسلمون أمام هجمات

_ 1 سويد: ص298. 2 الواقدي: ج1 ص166، 167.

البيزنطيين حتى تتضعضع هذه الهجمات وتتصدع صفوفهم، وأخذ في حسبانه أيضًا إمكان عجز المسلمين عن الصمود، ولكن سوف يختل نظام صفوف البيزنطيين على أي حال، وهنا يكون الوقت مناسبًا للقيام بهجوم مضاد. ودارت في وادي اليرموك سلسلة من المعارك بين الطرفين على مدى خمسة أيام لم تكن متتالية، انتقل فيها المسلمون من نصر إلى نصر حتى توجوا هذه الانتصارات بضربة قاصمة، وجهوها إلى البيزنطيين يوم الواقوصة، وهو اليوم الخامس من القتال، وكان يوم الاثنين "5 رجب 15هـ/ 12 آب 636م"1، وقد تميز بهجوم إسلامي عام، وشامل على القوات البيزنطية في ظروف طبيعية شديدة الحرارة، وفي حال أقرب ما تكون إلى العاصفة الرملية اللافحة، وقد أثارت غبارًا ضرب وجوه القوات البيزنطية، مباشرة تجاه الشمال، مما ضايقها وشل تركيزها أثناء القتال، والراجح أن خالدًا استغل هذه الظاهرة الطبيعية، ومن المحتمل أنه قدر البيزنطيين يفضلون تجنب القتال في أشد أوقات اليوم حرًا، ومن ثم فقد قام بهجوم حاسم في ذلك الوقت، وبدأت جموع البيزنطيين تترنح تحت ضربات المسلمين، وبدا الإرهاق واضحًا عليهم، فمشاتهم وفرسانهم مثقلون بالعتاد والسلاح، مما أثر على مقدرتهم القتالية، فهم قليلو الحركة بطيئو المناورة، في حين يقاتل المسلم راجلًا، وفارسًا بخفة وسرعة. كان باهان يراقب تطور سير القتال، وحين لاحظ تراجع مقدرة رجاله القتالية.

_ 1 ينقسم الرواة في تأريخ معركة اليرموك إلى فريقين: فريق يرى أنها حدثت في سنة 13هـ في عهد أبي بكر، ويمثل الطبري هذا الفريق اعتمادًا على رواية سيف بن عمر، ويقول فريق: إنها حدثت في سنة 15هـ في عهد عمر، ويمثله جمهور المؤرخين مثل ابن إسحاق، والواقدي وخليفة بن خياط، والبلاذري وابن عساكر، وقد اشتهرت رواية سيف التي اعتمدها الطبري تبعًا لشيوع تاريخه، ويتضح لنا من خلال روايات الفريق الثاني أن الجيش الإسلامي كان يسير وفق خطة منتظمة تتفق واقع الأحداث التاريخية، فكانت أجنادين، وفحل في البداية في سنة 13هـ، ثم دمشق وحمص في سنة 14هـ، ثم اليرموك في سنة 15هـ لتكون معركة فاصلة في محاولة يائسة من البيزنطيين للدفاع عن بلاد الشام، واسترداد ما فتحه المسلمون، ولهذا حشدوا لها كل إمكاناتهم العسكرية والبشرية، ولا يتحقق ذلك إذا أخذنا برواية سيف من أنها كانت في سنة 13هـ؛ لأن المعركة لن تكون فاصلة، ولن يفكر البيزنطيون بحشد كل قواتهم لمواجهة الجيش الإسلامي قبل أن يشعروا بخطره الذي لا يتضح إلا بعد عدة معارك بين الطرفين، وهو ما حدث بالفعل، ومما يحملنا على تبني هذه الفكرة أن في روايات سيف ما يشير إلى توغل الجيش الإسلامي حتى حمص، انظر: أبو صفية، جاسر: معركة اليرموك دراسة تأريخية ونقدية، مقال في كتاب المؤتمر الدولي الرابع لتاريخ بلاد الشام المجلد الثالث عام 1987م، الشامي، أحمد: الخلفاء الراشدون ص221-223، كمال: ص509-511، سويد: هامش رقم "1" ص280، 281.

أدرك أن المعركة خاسرة، فالتمس له ولفرسانه طريقًا للنجاة، ولاحظ خالد ذلك، ففتح له ثغرة باتجاه الشمال نفذ منها، وانسحب من المعركة مع أربعين ألفًا من فرسانه، وحمل المسلمون على من تبقى من القوات البيزنطية، والتي كانت أشبه بكتل بشرية ضخمة تدور حول نفسها، ولا تعرف من أين تؤتى، فتراجع الجنود تحت ضغط القتال نحو وادي اليرموك دون وعي، فسقط أكثرهم في الواقوصة، ولم تكد تغرب شمس ذلك اليوم حتى كان آخر مقاتل بيزنطي قد أخلى ساحة القتال، إما هاربًا أو جثة هامدة، أو في قاع الوادي1. وأورد المؤرخ الأرميني سيبيوس، وكان معاصرًا لتلك الأحداث، معلومات مفصلة لها دلالتها، عن تلك المعركة التي قررت مصير بلاد الشام، تفيد بأن الجيش البيزنطي عبر نهر الأردن متسللًا إلى بلاد العرب تاركًا معسكره مكشوفًا على شاطئ النهر، وذهب أفراده للقاء العدو وهم مشاة، وبدا عليهم التعب، والإرهاق بسبب سيرهم مسافات طويلة، وفي المقابل، تربص قسم من الجيش الإسلامي في كمائن متفرقة استعدادًا للانقضاض على البيزنطيين، وقد أقام المسلمون خيامهم حول معسكرهم ثم أحاطوا الخيام، والمعسكر بالجمال بعد أن ربطوا أرجلها بالحبال، وعندما بدأ القتال، هاجمت القوات البيزنطية المسلمين، فانطلق هؤلاء من كمائنهم وهاجموا القوات البيزنطية التي أصابها الهلع والاضطراب، وعندما أرادت الفرار للنجاة بنفسها، فشلت بسبب غزارة الرمال لدرجة أن الجندي البيزنطي كان ينغرس فيها حتى ركبتيه، في حين راح المسلمون يطاردون فلول الهاربين، بالإضافة إلى ذلك، فإن البيزنطيين لم يتحلموا شمس الشرق المحرقة، في مثل هذا الوقت من العام، وهكذا تساقطوا بين قتيل وجريح، ولم ينج من المذبحة غير عدد قليل، وتكشف روايته أن المسلمين، كانوا أمهر من البيزنطيين في إعداد الكمائن، والخدع العسكرية، وكانوا أعلم من أعدائهم بدروب المنطقة ومسالكها، وأكثر تحملصا لجوها الذي ألفوه2، بلغت خسائر البيزنطيين سبعين ألفًا3، وقدرت خسائر المسلمين بثلاثة آلاف قتيل وجريح، كان من القتلى عكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الأزور

_ 1 انظر حول معركة اليرموك: البلاذري ص140، 141، الواقدي: ج1 ص160 وما بعدها، الطبري: ج3 ص394-401، الأزدي: ص84-87، 152-231. 2 Sebeos: Histoire d, Heraclius. Trad, F. Macler. Paris p 971. 3 البلاذري: ص141، وقارن بالطبري: ج3 ص400.

وهشام بن العاص وأبان بن سعيد وغيرهم1، وكتب أبو عبيد بالنصر إلى عمر، وأرسل إليه سفارة صغيرة فيها حذيفة بن اليمان، وكان عمر لم ينم منذ ثلاثة أيام، وهو يتسقط أخبار اليرموك، وعندما جاءه البشير خر ساجدًا، وشكر الله2. تعقيب على معركة اليرموك 3: - تعد معركة اليرموك من المعارك الحاسمة في الصراع الإسلامي -البيزنطي. وقررت هذه المعركة مصير بلاد الشام ومستقبلها، إذ إنها فتحت أمام المسلمين باب الانتصارات المتتالية في هذه البلاد، ووضعت حدًا لآمال هرقل في إنقاذها بعد أن قضى المسلمون على آخر ما تبقى لديه من جيوش، وقوات جمعها بصعوبة بالغة، وأنفق عليها كل ما استدانه من الكنيسة وغيرها. - اختار البيزنطيون موقع المعركة الذي كان فسيحًا إنما ضيق المهرب، فوادي الرقاد خلفهم، ووادي اليرموك عن يمينهم، والمسلمون أمامهم، وكان هذا الاختيار لموقعهم سيئًا، إنما هدفوا إلى الحيلولة دون فرارهم، وهذا يعني أن المعركة كانت بالنسبة إليهم، معركة حياة أو موت، لكن عندما دارت الدائرة عليهم، وجدوا أنفسهم يفرون إلى وضع عسكري وقعوا فيه، وتعذر عليهم الإفلات من الموت. - شكلت معركة اليرموك انعطافة عسكرية كبرى على الجبهة الشامية؛ لأنها حطمت جيش البيزنطيين، كجيش دولة منظم بولغ في إعداده وتجهيزه، تحطيمًا كاملًا، وشتتت شمله تمامًا، ولم يعد بمقدور البيزنطيين حشد جيش آخر يضارعه في العدد والقوة، وأنهى هذا الانتصار العسكري الكبير كل مقاومة مركزية جدية لحركة الجيوش الإسلامية في الأراضي البيزنطية، وتطورت حركة الفتوح من غزو مرحلي إلى حركة منظمة تهدف إلى السيطرة على بلاد الشام، وضمها إلى الأراضي الإسلامية، والاستقرار في ربوعها، وذلك من واقع تحول غزو الإغارة إلى غزو الفتوح. - أدار الفريقان الحرب في اليرموك بمهارة، وبالحامسة الدينية بالإضافة إلى حسابات اقتصادية وقبلية. - من الواضح أن تخطيط البيزنطيين للمعركة قام على أساس توجيه ضربة سريعة، وقاضية إلى جناحي الجيش الإسلامي، وإخراجهما من المعركة، ثم تصفية القلب، وبدأوا بالهجوم على ميمنة المسلمين، تلاء هجوم على الميسرة فالقلب، وقد دفع

_ 1 الطبري: ج3 ص401-402. 2 الأزدي: ص243. 3 انظر: كمال ص500-507، سويد: ص324-341.

باهان كامل قواته دون الاحتفاظ بأي احتياطي في الخلف استنادًا إلى الكثرة العددية الساحقة، ولم يأخذ بالحسبان أن الأمور يمكن أن تنقلب عليه، ويبدو أنه كان واثقًا من النصر، وهذا تفكير غير سليم، وخطأ في التخطيط العسكري، وكانت النتيجة عكس ما خطط له. - قدر خالد الأمور حق قدرها، وكان يتمتع ببعد نظر شامل أمام الحلول المتعددة، وتفكير صائب واختيار ناجح للحل المناسب مع سرعة تقرير هذا الحل وتنفيذه، إنه أدرك مدى الخطر الذي يواجهه، فلم يكترث للفارق العددي، ورسم خطته على أساس دفع البيزنطيين للاصطدام به، وامتصاص الضربة على الرغم من صعوبة هذا الثبات، لذلك عمم على قادته أن لا يبدأوا بالقتال بل يتركوا البيزنطيين يهاجمونهم تاركين مواقعهم الدفاعية الحصينة، كما شكل وحدات احتياطية من الفرسان، ووضعها خلف الميمنة، والميسرة بالإضافة إلى قوة احتياطية من المشاة وضعها وراء القلب، والمعروف في الخطط العسكرية أنه يجري استعمال الوحدات العادية للاشتباك العام مع العدو، وأن تستعمل الوحدات الاحتياطية في الضغط على قوى العدو تمهيدًا للفتك النهائي به، ثم وقف ينتظر ما سوف يحصل آملًا بسنوح الفرصة من واقع طروء أي خلل في صفوف البيزنطيين، إذ إن الهجوم البيزنطي سوف يؤدي إلى تشتيت كراديسهم وبعثرتها، وسوف يتعذر على القادة البيزنطيين معالجة هذا الوضع بإعادة التنظيم إذا تدخل في اللحظة المناسبة، وضرب الوحدات البيزنطية المشتتة، وهذا ما حصل، إذ عندما هاجم البيزنطيون، امتص المسلمون الهجوم، وعجز أولئك عن اختراق صفوفهم، فارتدوا على أعقابهم، وكر المسلمون عليهم بعد أن أرهقهم الهجوم، فانتزعوا النصر. - كان للفرسان عند خالد اهتمام خاص، فقد كانوا القوة الضاربة، وشكلوا قوة الصدام في جيشه، بالإضافة إلى كونهم قوة مشاغلة، ومناورة وانقضاض، لذا نراه يقسم فرسانه إلى فرق، على كل فرقة واحد من أفضل قادته، وأشجعهم أمثال قيس بن هبيرة، وميسرة بن مسروق، وعامر بن الطفيل والقعقاع بن عمرو وغيرهم، ثم وزع هذه الفرق على المقدمة، والميمنة والميسرة وصفوف القتال الثلاثة ثم المؤخرة، ففرسان الطليعة للمشاغلة، وفرسان الجناحين للمناورة، وفرسان الصفوف للتدخل والصدم، وفرسان المؤخرة للانقضاض، وكان نصيبه دائمًا فرسان الاحتياط للانقضاض على العدو في أي مكان من المعركة يظهر فيه المسلمون في حال ضعف، أو وهن. - أتاح تنظيم خالد العسكري لقواته أقصى درجات المرونة لمواجهة الموقف.

فبالإضافة إلى القوات الاحتياطية التي وضعها خلف الصفوف، ترك نظام الصف وجعل قواته كراديس، لكل كردوس رئيس، ونجح في اقتباس التنظيم العسكري البيزنطي، وهو نظام الكراديس والفرق،ومحاربتهم به، وانتصاره عليهم قبل أن يدرب جنوده عليه، كما نجح في تنفيذ الحركة الإخراجية التي اعتمدها ضد الفرسان البيزنطيين خلال المعركة، فكان ذلك تطورًا هامًا، وحاسمًا في الخطط، والتنظيم العسكريين في الجيش الإسلامي. - نجح خالد في الفصل بين فرسان البيزنطيين ومشاتهم، فصرف الفرسان من المعركة عندما فتح لهم طريقًا للهرب من الفرجة التي كانت المنفذ الوحيد لهم، وبقي المشاة وحدهم في ميدان القتال، فانقض المسلمون عليهم وهزموهم، وتعد هذا الحركة من أفضل حركات خالد، وأكثرها ذكاء. - كان لكل من الطرفين أسلوبه في إذكاء معنوياته، فالبيزنطيون يزحفون في دوي عال حيث تنصح الأبحاث العسكرية البيزنطية، التي تعود إلى القرن السادس الميلادي، باستعمال الأصوات للتمويه على العدو وإرباكه، ولتغطية أعمال الجواسيس، وقساوستهم يخطبون فيهم، ويبثون الحماس في قلوبهم، لكن داخل جنودهم الرعب، فتسلسل عشرات الألوف بالسلاسل حتى لا يفروا، والمسلمون ينشدون الشهادة، ويواجهون البيزنطيين بالصمت، وغض البصر حتى أن صمتهم أرعب هؤلاء، كذلك أدت النساء دورًا في رفع معنويات الرجال. - كانت معركة اليرموك نموذجًا رائعًا من نماذج التنسيق في الجهد العسكري، والتعاون والتفاهم بين القائد، ووحداته في المعركة، إذ كان خالد يحرك كل وحدة من وحدات جيشه بدقة متناهية، ففي الوقت الذي كان فيه القلب ينشب القتال، كانت الميمنة تتأهب لترد هجمات العدو، فينثني عليها القلب ليساندها، ثم تتراجع الميسرة أمام هجمات العدو، فتقف النسوة في طريق المنهزمين تردهم إلى ساحة القتال، فينحسر البيزنطيون عن مواقعهم، وتتقدم ميسرة المسلمين نحوهم. - أعلن جبلة بن الأيهم الغساني، زعيم العرب المتنصرة، اعتناقه الإسلام بعد المعركة مع جماعة من قومه بني غسان، وانحاز إلى المسلمين1. - لقد أصاب أبو بكر حين وضع خطته العسكرية على أساس الاصطدام بالبيزنطيين، وإرغامهم على إرسال أعداد كبيرة من المقاتلين إلى بلاد الشام حيث

_ 1 البلاذري: ص141، 142.

يتمكن المسلمون من إيقاع الهزيمة الفاصلة بهم هناك، وكان المسلمون على عكس البيزنطيين يسعون إلى تحقيق ذلك، فكان انتصارهم في اليرموك ساحقًا ماحقًا، لكن تلك النتيجة لم تكن أمرًا مؤكدًا عند بدء الحملات، والمناورات. - تعفي الروايات البيزنطية المتعلقة بمعركة اليرموك هرقل، ضمنًا، من أي مسئولية عن الكارثة، وتحمل القادة عوضًا عن ذلك هذه المسئولية، وهم الذين فشلوا في اتباع نصيحة هرقل الحكيمة، كما تلقي بالمسئولية على المناخ، وعلى الإثنيات الأجنبية كالأرمن مثلًا. - ثمة قدر من اللا تناسق بين وصف المصادر الإسلامية، والنصرانية للمعركة، فقد أكد المسلمون أنها كانت معركة حاسمة استعمل فيها الذكاء، والشجاعة والخلق القويم، وفي المقابل، فقد قللت المصادر النصرانية من شأنها، وعدتها نصرًا حربيًا عظيم الشأن للمسلمين، وعزت النصر إلى التسلل والخديعة، وليس إلى نجاح عسكري صادق، والراجح أن هذا التفسير النصراني الذي جاء مقتضبًا هو جزء من محاولة للاعتذار من الكارثة، لكن الأمر لا يخلو من السخرية، فقد كان على البيزنطيين أن يتميزوا باللجوء إلى البراعة في القتال، وهو الأمر الذي لم يتوفر بفعل افتقارهم إلى القدر الكافي من الذكاء، والإدراك السليم لرسم الخطط وتنفيذها. - لقد وسع الانهيار البيزنطي في معركة اليرموك المسافات بين مواقع الدفاع البيزنطية، ومع ذلك ظلت أغنى المدن في بلاد الشام في أيدي البيزنطيين، إلى جانب المناطق الأكثر إنتاجًا، ولكن حين، حيث لن تلبث أن تسقط هي الأخرى في أيدي المسلمين - كان على القادة والجنود البيزنطيين الذين نجوا من المعركة اختيار أحد السبل المتعددة للخلاص، وأهمها: - الاتفاق مع المسلمين الفاتحين الذين أضحوا السادة الجدد، والانضمام إليهم، واعتناق الإسلام أحيانًا، وهذا ما فعله جبلة بن الأيهم الغساني كما ذكرنا. - التوجه نحو الشمال عبر الطريق الرئيسة في اتجاه أنطاكية، والرها، وملطية. - اللجوء إلى الأديرة خشية العار. - اللجوء إلى المدن الشامية، والانضمام إلى حامياتها. - تلقى هرقل نبأ هزيمة جيشه في اليرموك بألم بالغ، وكان في أنطاكية، فلما توجه المسلمون بعد انتصارهم إلى حمص، خرج منها فعبر الفرات، ونزل في الرها وبقي فيها حتى وصل جند الكوفة مع عمر بن مالك إلى قرقيسياء، ثم فتحت

قنسرين فخرج إلى شمشاط، فلما نزل المسلمون في الرها خرج منها، وسار على الدرب نحو القسطنطينية بعد أن رفض سكان الجزيرة مؤازرته أبعد من ذلك، ولما حاذى سوريا وقف على تل مرتفع، والتفت إليها وقال: "قد كنت سلمت عليك تسليم المسافر، أما اليوم عليك السلام يا سوريا تسليم المفارق، سلام مودع لا يرى أنه يرجع إليك أبدًا، ولا يعود إليك رومي أبدًا إلا خائفًا حتى يلود المولود المشئوم وليته لا يولد، عليك يا سوريا السلام، ونعم البلد هذا للعدو"1، ويعبر هذا الوداع عن خيبة أمله الشخصية، ويشير إلى نهاية التورط العسكري البيزنطي في المنطقة، والواضح أنه فضل سلوك الطريق البري إلى القسطنطينية في محاولة منه لتأمين الأطراف الشرقية لآسيا الصغرى، حتى لا ينفذ المسلمون إلى عمق أراضيه، كما دمر التحصينات في المنحدرات الجنوبية لجبال طوروس بين الإسكندرونة، وطرسوس لخلق منطقة عازلة مهدمة فارغة لا تصلح للقتال، على أساس أنها منطقة للدفاع العمقي إزاء المسلمين، وأخذ سكانها معه إلى الداخل البيزنطي، ولا شك في أن هذه التصرفات من جانبه تدل على أنه يئس تمامًا من أمر الشام، وأدرك أنه لن يستطيع أن يفعل مع المسلمين مثلما فعله مع الفرس من قبل بإقامة التحصينات الدفاعية لتمتص غاراتهم2. سياسة هرقل في شمالي بلاد الشام بعد معركة اليرموك: الواضح أن هرقل لم يحاول أن يدافع عن المدن الشمالية إزاء هجمات المسلمين، بعد معركة اليرموك، إذ إنه لم يشأ أن يخسر مزيدًا من رجاله الأشداء المدربين في سبيل الحفاظ على بعض المدن الشامية، وفضل الاحتفاظ بهم للدفاع عن الأناضول، ولعل الشلل البيزنطي في جنوبي بلاد الشام أقنعه بالمخاطر التي تلازم وضع أعداد كبيرة من قواته للدافع عن المدن في أوضاع عسكرية مكشوفة نسبيًا، كما أنه فقد الرغبة في أن يجازف بمواجهة دموية أخرى إلى الجنوب من جبال طوروس، وفضل أن يتخلى عن الأراضي ليقلل درجة التآكل في قواته، ويمكنها من البقاء والتعافي، وأتاح هذا التوجه الانهزامي، للمسلمين أن يجتاحوا شمالي بلاد الشام، وإقليم الجزيرة الفراتية وصولًا إلى أرمينية.

_ 1 البلاذري: ص142، الطبري: ج3 ص603. 2 عاشور، سعيد عبد الفتاح: الإمبراطور هرقل، ومقاومة الفتح الإسلامي لبلاد الشام، بحث في كتاب المؤتمر الدولي الرابع لبلاد الشام ص217.

فتح قنسرين: عاد أبو عبيدة بعد الانتصار، إلى حمص، وأرسل خالدًا إلى قنسرين، وتقع على الطريق بين حلب وأنطاكية، ويتصل بها الطريق الذي يؤدي إلى شيزر، ثم حماة فحمص. كانت قبيلة تنوخ من بين القبائل العربية تسكن هناك منذ زمن، وكان أفرادها يعيشون منذ سنوات، في خيام من الوبر، ولكنهم تأثروا تدريجيًا بالحضارة، فشيدا المباني الفخمة، وأضحت قنسرين إحدى الحواضر. وعندما علم البيزنطيون، وحلفاؤهم العرب المتنصرة بقدوم خالد إليهم اختاروا الاصطدام به بقيادة ميناس، وهو أحد القادة الكبار، فخرج هذا على رأس الجيش إلى الحاضر، وهو مكان قريب من قنسرين وعسكر فيه، وفي الوقت الذي كان يعبئ قواته انقض عليه خالد فجأة، فتغلب عليه وقتله، وأباد جنده. واعتصم أهل قنسرين بحصنهم، فأنذرهم خالد، فطلبوا الأمان، وعرضوا الصلح على شروط حمص مع دفع الجزية، واشترط خالد عليهم أن يهدم حصنهم عقابًا لهم على مقاومتهم، وحتى لا يتحصنوا بداخله مرة أخرى، فهدمه، وفر سكانه إلى أنطاكية1. فتح حلب: تابع أبو عبيدة تقدمه إلى حلب، وهي من أعمال قنسرين، وعلى مقدمته عياض ابن غنم، وكان قد فصل من العراق إلى إقليم الجزيرة المجاور للعراق، فاشترك في فتوح الجزيرة والشمال، وكان يسكن في ظاهر المدينة كثير من القبائل العربية، فصالحهم على الجزية، وتصدت له حامية المدينة، وأحرزت بعض التقدم خلال المواجهة، ويبدو أن سكان حلب داخلهم الخوف من توجيه ضربات مضادة من جانب المسلمين، وبخاصة أن معظم المدن سقطت في أيديهم، ولن تكون حلب أمنع من غيرها من هذه المدن، فطلبوا الأمان والصلح وأقروا بالجزية، وتم الصلح على مثل صلح حمص، وكتبت المعاهدة للحفاظ على أرواحهم، وأموالهم وأسوارهم ومنازلهم، وقلاعهم وكنائسهم، واستثنى عليهم موضعًا للمسجد، ويبدو أن جماعة من أهل المدينة لم يتآلفوا مع الحكم الإسلامي، وفضلوا الرحيل إلى أنطاكية، وما لبث عدد كبير ممن بقي في المدينة أن دخل في الإسلام، بعد ذلك2.

_ 1 الطبري: ج3 ص601، 602، وقارن بالبلاذري ص150، 151. 2 الطبري: ج3 ص601، 602، البلاذري: ص150-152.

فتح أنطاكية: سار أبو عبيدة بعد ذلك، إلى أنطاكية، وكانت مركزًا لجيوش الإمبراطورية البيزنطية، وعاصمة الدولة البيزنطية في بلاد الشام، ومقر هرقل ومأمنه، وكان قد لجأ إليها كثير من البيزنطيين، وفتح أثناء زحفه عزاز بدون قتال، وحاولت قوة عسكرية خرجت منها وقف تقدمه إلا أنها فشلت، واضطر أفرادها للعودة، والتحصن بالمدينة، ولما وصل أبو عبيدة إليها ضرب الحصار عليها، وجرت مناوشات بين الطرفين اضطر بعدها السكان إلى طلب الصلح، وأقروا بالجزية، ووافق أبو عبيدة على طلبهم، ودخل المسلمون بعد ذلك إلى المدينة، ونظرًا لأهمية موقعها كمركز متقدم ملاصق لحدود العدو أمر عمر أبا عبيدة بشحنها بالمقاتلين1. فتوح أقصى شمالي بلاد الشام: كان من الضروري، لتأمين الفتوح الإسلامية في بلاد الشام، من التعرض لردات فعل البيزنطيين بالسيطرة على منطقة أقصى شمالي البلاد الملاصقة للحدود مع آسيا الصغرى، لذلك، نشر أبو عبيدة فرقه العسكرية في جميع أنحاء المنطقة، ففتحت المدن الصغيرة، والقرى بسهولة نظرًا لانعدام المقاومة الجدية، نذكر منها: معرة مصرين، بوقا، الجومة، سرمين، مرتحوان، تيزين، خناصرة، قورس، الساجور، منبج، مرعش، رعبان، دلوك، عراجين، بالس، قاصرين، اللاذقية أنطرطوس وغيرها، وقد صالحت هذه المدن، والقرى المسلمين على عهود الصلح التقليدية2. فتوح الجزيرة: كان إقليم الجزيرة الفراتية أحد الأقاليم الأكثر إزعاجًا من حيث الاضطراب العسكري في القرنين السادس، والسابع الميلاديين، وبسبب أهميته العسكرية الدفاعية إزاء هجوم قد يأتي من فارس، فقد شحن بحاميات عسكرية ضخمة، وبعد أن فتح المسلمون العراق وبلاد الشام، شكل هذا الإقليم نتوءًا، وقاعدة يمكن أن: - تنطلق منها وحدات عسكرية لتقوم بهجوم مضاد لاسترداد الأراضي التي فتحها المسلمون. - تؤمن حصول تنسيق بيزنطي -فارسي، للقيام بعمل مشترك ضد المسملين.

_ 1 البلاذري: ص152، 153. 2 المصدر نفسه: ص154، 155.

- تقوم جزئيًا بحماية الأراضي الأرمينية التابعة لبيزنطية من هجمات المسلمين. وكان فتحه ضرورة عسكرية، وخطوة صائبة من أجل: - تثبيت الفتوح الإسلامية في العراق، وبلاد الشام وحماية المكتسبات الإسلامية. - تثبيت السلطة على القبائل العربية التي ما زالت على نصرانيتها، وقطع صلاتها ببيزنطية، ووقف تجنيد العرب في الجيش البيزنطي، وتستوقفنا هنا حادثة فرار جبلة بن الأيهم من المدينة، وتوجهه إلى بلاد البيزنطيين عبر الرقة. - إزالة الخطر الذي تتعرض له المواصلات الإسلامية. - القضاء على أية حركة فارسية معادية ومزعجة. - منع هرقل من الوصول إلى المد الأرميني. وحدث في عام "18هـ/ 639م" أن أصيب أبو عبيدة بطاعون عمواس وتوفي، وكان قد استخلف عياضًا بن غنم على حمص، ولم يلبث عمر أن ولاه حمص، وقنسرين والجزيرة، فخرج على رأس الجيش في "منتصف شعبان/ 21آب"، وعلى مقدمته ميسرة بن مسروق العبسي، وأغار على الرقة، ثم حاصرها وفتحها صلحًا، فكانت أولى مدن الجزيرة التي فتحها المسلمون، وواصل تقدمه إلى الرها، وعسكر على أحد أبوابها، فقاومه أهلها، وبث خيله في الأماكن المجاورة، ولم تمض ستة أيام حتى طلب قائد الحامية الصلح، فأجابه عياض، وأمنه وأهل المدينة على أنفسهم وأموالهم، وأقروا بالجزية والخراج، وشيء من القمح والزيت، والخل والعسل، واشترط عياض عليهم عدم بناء كنائس أو أديرة، وأن يصلحوا الجسور للمسلمين، وأن يرشدوا من ضل الطريق منهم، ثم تقدم إلى حران فصالحه أهلها على صلح الرها، وأرسل فرقة عسكرية فتحت سميساط، ولم يلبث أهل المدن الأخرى مثل تل موزون، وقرقيسياء وآمد وماردين أن طلبوا الصلح بشروط صلح الرها، فأجابهم عياض، ثم واصل فتوحه في عام "19هـ/ 640م"، ففتح ميافارقين، وكفرتوثا ونصيبين، وأرزن. وأرسل عمر بن سعد الأنصاري، ففتح رأس العين ودارا، ودخل درب الروم، وأطل على أرمينية، وكانت بغراس إحدى ضواحي أنطاكية، وتلتقي عندها حدود آسيا الصغرى، وقد سكنتها قبائل عربية مثل غسان، وتنوخ وإياد الذين كانوا يساندون البيزنطيين، فهاجمهم حبيب بن مسلمة1. أدى فتح الجزيرة الفراتية إلى فصل بيزنطية عن القبائل العربية الموالية لها، وقوتها البشرية، وأسهمت في الحاجة إلى البحث عن مصادر بشرية جديدة، وتبديل أساليبها

_ 1 البلاذري: ص176-185، وقارن بالطبري: ج4 ص53-56.

خريطة سواحل دمشق

القتالية ضد المسلمين، بفعل أنها لم يعد باستطاعتها أن تحارب المسلمين العرب باستئجار عرب آخرين، كما قضى هذا الفتح على إمكان قيام تحالف بين البيزنطيين، والفرس ضد المسملين، وحال دون قيام بيزنطية بإنقاذ الإمبراطورية الفارسية المتداعية. فتوح الساحل: بدأ الاحتكاك العسكري بين المسلمين، والبيزنطيين في ساحل بلاد الشام خلال حصار بعبك حيث كان للمسلمين مركزان مسلحان: الأول في برزة عليه أبو الدرداء الأنصاري، والثاني في عين ميسنون1 عليه أبو عثمان الصنعاني شراحيل بن مرثد، فأغار أحد القادة البيزنطيين، ويدعي سسناق على المركز الثاني منطلقًا من بيروت، ويبدو أنه نجح في قتل جماعة من حاميته، ولهذا دعيت هذه القرية بـ"عين الشهداء"2. شجعت هذه الغارة البيزنطية المسلمين للسيطرة على القطاع الأوسط من ساحل بلاد الشام، والذي يمتد من عرقة شمالًا إلى صيدًا جنوبًا، وطرد البيزنطيين من ثغوره، ومنعهم من استعمالها قواعد انطلاق لمهاجمة الداخل الشامي. خرج يزيد بن أبي سفيان من دمشق على رأس قوة عسكرية متوجهًا نحو الساحل، وصحبه أخوه معاوية، ولم تحدد المصادر التاريخية الطريق الذي سلكه إلى المدن الساحلية، والراجح أنه اجتاز الطريق الحالي الذي يمر بمنعطفات جبال لبنان، وهذا يعني أن هذا الطريق كان خاليًا من أي قوة بيزنطية بعد الضربة التي تلقاها البيزنطيون في اليرموك، حتى أن أرض بلاد الشام فتحت على مصاريعها أمام المسلمين الذين تعدوا الداخل إلى إقليم الساحل دون مقاومة3. لم يبين البلاذري، الذي أرخ لهذا الفتح، أي مدينة فتحت قبل الأخرى، إذ يذكرها دون مراعاة لترتيب مواقعها الجغرافية، فيذكر صيدا أولًا، وهي في الجنوب، ثم عرقة وتقع في أقصى الشمال، ويذكر بعدها جبيل، وبيروت وهما في الوسط4، فهل سارت حركة الفتح على هذا النحو، أم أن الترتيب جاء عفويًا؟

_ 1 لعل ميسنون هي التي تقع شرقي بلدة سوق الغرب في منطقة عاليه في جبل لبنان، انظر مكي، محمد علي: لبنان من الفتح العربي إلى الفتح العثماني ص23. 2 اليسوي، يعقوب بن سفيان: المعرفة والتاريخ ج3 ص298. 3 كمال: ص513. 4 تدمري: ص37.

الراجح أن البلاذري لم يذكر المدن المفتوحة على هذا النسق اعتباطًا، إذ يحتمل أن تكون القوة الإسلامية التي انطلقت من دمشق، انقسمت إلى فرقتين، توجهت إحداهما جنوبا إلى صيدا بقيادة يزيد، وتوجهت الأخرى إلى عرقة في الشمال بقيادة معاوية1، بدليل ما رواه البلاذري: "أن يزيد أتى بعد فتح مدينة دمشق، صيدا وعرقة، وجبيل وبيروت، وهي سواحل، وعلى مقدمته أخوه معاوية، ففتحها فتحًا يسيرًا وجلا كثير من أهلها، وتولى فتح عرقة معاوية نفسه في ولاية يزيد"2. غير أن البلاذري يروي رواية أخرى تفيد بأن معاوية وحده فتح مدن الساحل، فيقول: "كان يزيد بن أبي سفيان وجه معاوية إلى سواحل دمشق سوى طرابلس، فإنه لم يكن يطمع فيها، فكان يقيم على الحصن اليومين، والأيام اليسيرة، فربما قوتل قتالًا غير شديد، وربما رمى ففتحها"3، ثم إن "الروم غلبوا على بعغض هذه السواحل في آخر خلافة عمر بن الخطاب، أو أول خلافة عثمان بن عفان، فقصد لهم معاوية حتى فتحها ثم رمها، وشحنها بالمقاتلة وأعطاهم القطائع"4، وهذا يعني أن العملية لم تكلل بالنجاح التام، والمعروف أن المدن الساحلية لم تخضع للمسلمين خضوعًا تامًا إلا في المرحلة المتأخرة من حركة الفتوح، ولعل السبب في ذلك أن البيزنطيين كانوا يمدون هذه الثغور بالإمدادات، والقوات عن طريق البحر الأمر الذي ساعد سكانها على مقاومة المسلمين، أو الانقضاص عليهم كلما آنسوا منهم ضعفا، وقد أدى ذلك إلى قيام المسلمين بإقامة قواعد لهم على ساحل بلاد الشام، ومصر بعد ذلك للتصدي للحملات البيزنطية البحرية، التي كانت تشن على مدن الساحل التي كانت تخضع لهم قبل الفتح5، وظلت هذه المدن مدة غير قصيرة تتذبذب في ولائها، فمرة تخضع للمسلمين، ومرة ترفع راية العصيان عليهم. استكمال فتوح فلسطين: توجه عمرو بن العاص إلى قطاعه فلسطين، وربما كان ذلك عبر نهر الأردن، ففتح سبسطية الواقعة إلى الشمال الغربي من نابلس، ثم فتح هذه الأخيرة، وأعطى أهلها الأمان على أنفسهم، وأموالهم ومنازلهم على أداء الجزية والخراج، ثم فتح اللد ونواحيها ويبني، وعمواس وبيت جبرين، ثم هبط جنوبًا ففتح رفح، وفي رواية أنه فتح

_ 1 تدمري: ص37. 2 فتوح البلدان: ص133. 3 المصدر نفسه: ص134. 4 المصدر نفسه: ص133. 5 الطبري: ج4 ص111، 112.

عسقلان، وكان قد فتح غزة في عهد أبي بكر، وحاصر قيسارية التي تعد من أشهر المدن آنذاك1.

_ 1 الأزدي: ص234-237، البلاذري: ص144.

فتح بيت المقدس

فتح بيت المقدس 1: تمهيد: لا شك بأن استسلام بيت المقدس -إيلياء- للمسلمين له علاقة بالمدى الذي وصلت إليه التطورات السياسية، والعسكرية والاجتماعية في بلاد الشام آنذاك في ظل الصراع الفارسي -البيزنطي- الإسلامي، وعلى ضوء نجاح المسلمين في السيطرة على معظم المنطقة، والجدير بالذكر في صراع القوة الثلاثي هذا، أن البيزنطيين كانوا الطرف الأضعف، على الأقل في نظر المسلمين، والمعروف أن هؤلاء لم يهاجموا بيت المقدس في بادئ الأمر، ففي حروب الصحراء يسعى البدو عادة إلى مهاجمة الحواضر التجارية التي يترددون عليها، للسيطرة عليها أولًا2. ومهما يكن من أمر، فقد عرف العرب بيت المقدس منذ العصر الجاهلي، وقرن الإسلام نفسه، عند ظهوره، بها، إذ إن حرمتها وأهميتها البالغة عند المسلمين، أمر لا

_ 1 إن أقدم اسم للقدس هو أورشاليم الذي ينسبها إلى إله السلام الكنعاني شاليم، وقد وردت باسم روشاليموم في الكتابات المصرية، ووردت في التوراة تحت أسماء عديدة، مثل أوشليم وشاليم، ومدينة الله ومدينة القدس، ومدينة العدل، ومدينة السلام ومدينة البر، كما يذكرها التوراة أحيانًا باسم بيوس أو مدينة اليوبسيين نسبة إلى اليبوسيين سكان القدس الأصليين، وفي عام 135م أخمد الإمبراطور الروماني هدريان ثورة اليهود ضد الوجود الروماني، وخرب المدينة وأسس مكانها مستعمرة رومانية، وأطلق عليها اسم إيليا كابيتولينا، وإيليا هو اسم هادريان، وحرم على اليهود دخولها، وعندما اعترف الإمبراطور قسطنطين الأول بالديانة النصرانية في عام 323م أعاد إلى المدينة اسم أورشليم. ويبدو أن تسمية إيليا ظلت متداولة بين الناس بدليل أنها وردت في عهد الأمان الذي أعطاه عمر بن الخطاب إلى السكان، بعد الفتح، وأسماهم أهل إيلياء، وعرفت المدينة منذ العهد الإسلامي ببيت المقدس، والمعروف أن الاسم المستعمل في العصر الحديث هو القدس لدى المسلمين، وأورشليم أو جيروزاليم لدى الغربيين واليهود، انظر للمراجعة: الكتاب المقدس، العهد القديم: تكون 14: 18، قضاة 19: 10 و11، إشعيا 1: 26، 29: 1، 48: 2 مزامير 76: 2. خوند، مسعود: الموسوعة التاريخية الجغرافية ج4 ص166. 2 دانيال، ساهاس: البطريك صفر ونيوس، والخليفة عمر بن الخطاب، وفتح المقدس، ص56، 57، 59، مقال في كتاب الصراع الإسلامي -الفرنجي على فلسطين في القرون الوسطى.

يرقى إليه الشك، إنها مدينة الرسل وأولى القبلتين، والمدينة التي أسري إليها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وصعد منها إلى السماء في حادثة المعراج، فكانت مركز جذب روحي كبير، وإن فتحها كان هدفًا يحمل في طياته تحديًا لأهل الكتاب من اليهود والنصارى. شكلت بين المقدس القاعدة البيزنطية الهامة، ومركز تجمع البيزنطيين الذين فروا من الواقع التي هزمت فيها جيوشهم مثل أجنادين، وحمص وقنسرين، واليرموك وغيرها، كما كانت ملجأ للذين خرجوا من المدن التي فتحها المسلمون، ورفضوا البقاء فيها مثل دمشق، وكان الأرطبون1، وهو أحد القادة البيزنطيين، من بين الذين التجأوا إليها، وقاد عملية المقاومة ضد المسلمين. أحداث الحصار ونتائجه: قاد عمرو بن العاص عملية حصار المدينة بوصفه قائد الجبهة الفلسطينية في الوقت الذي كان فيه أبو عبيدة، وخالد بن الوليد يفتحان شمالي بلاد الشام، وقد واجه مقاومة ضارية من جانب حاميتها وسكانها، ووجد مشقة بالغة في امتصاص الهجمات البيزنطية، فأرسل إلى الأرطبون يطلب منه التسليم مثل بقية المدن، ووعده بالأمان2. واستعمل البيزنطيون المجانيق من فوق الأسوار لضرب المواقع الإسلامية، فسببت أضرارًا بالأرواح والمعدات، وعانى المسلمون من مصاعب طبيعية قاسية، فقد بدأ الحصار في شتاء عام "636- 637م"، وكان البرد قارسًا، وكثر انهمار المطر، وتساقط الثلج، فاستغل الأرطبون سوء الأحوال الطبيعية التي لم يتعود عليها المسلمون، ورفض الدخول في الصلح، وأطال أمد الحرب، وشدد ضرباته ضدهم وهو يأمل أن يلحق بهم الهزيمة، أو يضطرهم إلى فك الحصار عن بيت المقدس. اضطر عمرو بن العاص، في هذه الظروف القتالية الصعبة، أن يكتب إلى عمر في المدينة يطلب منه المساعدة، ويستعين برأيه: "إني أعالج حربًا كئودًا صدومًا، وبلادًا أدخرت لك، فرأيك"3. استجاب عمر لطلب المساعدة، وتصرف على ثلاثة محاور: الأول: فقد أمده بمدد من عنده، وأرسل إلى أبي عبيدة لينجده، وكان قد فرغ لتوه

_ 1 أرطبون: يجب قراءتها أطربون بوصفها كلمة معربة عن الكلمة اللاتينية تربيون، وهي رتبة عسكرية، ولقب للقائد الأعلى للجيش البيزنطي الذي يلي هرقل في المكانة، انظر هيكل ج1 ص246 هامش رقم1. 2 الطبري: ج3 ص606. 3 المصدر نفسه: ص607.

من تطهير شمالي بلاد الشام، فغادر المنطقة ونزل في الجابية، وقد صحبه خالد بن الوليد1. الثاني: قرر المجيء إلى بلاد الشام ليكون قريبًا من مجرى الأحداث، وهذا يعني أنه أولى فتح بيت المقدس عناية خاصة نظرًا لأهميتها الدينية، والروحية عند المسلمين2. الثالث: فقد أرسل إلى يزيد بأن يبعث أخاه معاوية قيسارية، وتبدو خطة عمر واضحة في أن يستغل البيزنطيين في أكثر من جبهة في وقت واحد لإضعافهم، وحتى لا يمدوا يد العون لأهل بيت المقدس، فنزل معاوية بجنوده على قيسارية وحاصرها3. تسلم أبو عبيدة فور وصوله قيادة القوات الإسلامية، فارتفعت معنويات الجند، وتسرب في المقابل الخوف، والقلق إلى قلوب المدافعين، وبخاصة بعد أن فشلوا في إلحاق هزيمة مؤكدة بقوات عمرو، كما أن سقوط المدن المحيطة ببيت المقدس كان له أثره السلبي على معنوياتهم؛ لأنهم حرموا من الإمدادات، ولو تأتهم نجدة من هرقل، وعلموا أن عمر في طريقه إلى المنطقة، فأدركوا عندئذ أن مدينتهم لن تستطيع الاستمرار بالمقاومة، وأن سقوطها أضحى مسألة وقت، فانسحب الأرطبون مستخفيًا في قوة من الجند إلى مصر4، وتسلم البطريك العجوز صفرونيوس مقاليد الأمور في المدينة، فأصلح استحكاماتها، وشحذ همم سكانها في محاولة أخيرة للصمود، وأجبرهم الحصار الطويل الذي استمر أربعة أشهر على البقاء داخل أسوار مدينتهم، لكن القتال بين الطرفين لم يتوقف خلال تلك المدة. وعرض أبو عبيدة على البطريك ثلاثة شروط هي: اعتناق الإسلام أو استسلام المدينة، ودفع الجزية أو تدمير المدينة5، كان اعتناق الإسلام بالنسبة إلى سكان بيت المقدس آنذاك أمرًا صعبًا بل مستحيلًا، كما أن التجربة التي مرت بها المدينة قبل نحو خمسة وعشرين عامًا حين دمرها الفرس، جعلت المقاومة للقوات الإسلامية المحاصرة، ومن ثم تعريض الأماكن المقدسية للدمار، أمرًا مرفوضًا أيضًا، لذلك اختار البطريرك استيلام المدينة على أن يسلمها إلى عمر، وكان قد علم بنزوله في

_ 1 الواقدي: ج1 ص229. 2 الطبري: ج3 ص608. 3 المصدر نفسه: ص604. 4 المصدر نفسه: ص608. 5 الواقدي: ج1 ص231.

الجابية، وقد رأى في الاستسلام حماية للمدينة، ولأماكنها المقدسة من الدمار من ناحية، ومنع سقوطها في أيدي اليهود المناوئين له من ناحية أخرى1. صلح بيت المقدس: تتباين روايات المصادر التاريخية التي تتحدث عن اتفاق، ولا بد لنا من أن نذكر شيئًا عن الأسلوب الذي يختاره المرء لكي يفسر تلك الروايات؛ لأن البحث فيها هو جزء مهم في فهم مضمون العهدة العمرية، وهي وثيقة الصلح التي أعطيت إلى سكان بيت المقدس، والعصر الذي دونت فيه، ويمكن تصنيف روايات المصادر إلى قسمين: قسم لا يذكر نصًا للمعاهدة وإنما يذكر فحواها بالأسلوب السردي، وقسم يذكر نص المعاهدة. القسم الأول: إن أسبق روايات هذا القسم ما رواه الواقدي، والبلاذري ثم ابن الأثير وأبو الفدا، فقد روى الأول روايتين بشأن الصلح، فقال في الأولى: إنه لما قدم عمر إلى بيت المقدس، ونظر إليه أهلها، وتأكدوا أنه هو "وكانوا قد ضاقت أنفسهم من الحصار، ففتحوا الباب وخرجوا إلى عمر بن الخطاب يسألونه العهد والميثاق، والذمة ويقرون له بالجزية، ثم نزل إليهم وقال: ارجعوا إلى بلادكم ولكم الذمة، والعهد إذ سألتمونا وأقررتم بالجزية"2، وروى في الثانية: "وارتحل عمر من بيت المقدس بعد أن كتب لأهلها كتابا أي عهدًا، وأقرهم في بلادهم على الجزية"3. وروى الثاني أيضًا روايتين، ذكر في الأولى: "ثم طلب أهل إيلياء من أبي عبيدة الأمان، والصلح على مثل ما صولح عليه أهل مدن الشام من أداء الجزية، والخراج والدخول فيما دخل فيه نظراؤهم على أن يكون المتولي للعقد لهم عمر بن الخطاب نفسه، فكتب أبو عبيدة إلى عمر بذلك، فقدم عمر فنزل الجابية من دمشق، ثم صار إلى إيلياء فأنفذ صلح أهلها، وكتب لهم به"4. وذكر في الرواية الثانية أن بيت المقدس سلمت إلى ابن ثابت الفهمي، وهو قائد مغمور، بشرط صريح وهو أن تكون المناطق الواقعة خارج المدينة في أيدي المسلمين، أما المدينة نفسها فلا يطالها أذى ما دام أهلوها يدفعون الجزية المفروضة عليهم، ويضيف أن عمر كان في المدينة المنورة وقت سقوط بيت المقدس، وأنه

_ 1 ساهاس: ص63. 2 الواقدي: ج1 ص242. 3 المصدر نفسه: ص244. 4 البلاذري: ص144.

زارها بعد وقت قصير من فتحها عندما جاء إلى الجابية1، وأشار كل من الثالث، والرابع إشارة عابرة إلى فحوى الصلح2. القسم الثاني: تنقسم روايات هذا القسم إلى ثلاث فئات: الفئة الأولى: روت مصادرها نصوص المعاهدة بين عمر بن الخطاب، وأهل بيت المقدس لكنها جاءت مختصرة، ولا تختلف في مضمونها عن روايات القسم الأول اختلافًا جوهريًا، وهي على مثل صلح دمشق والمدن الشامية الكبرى. ويذكر في هذه الفئة كلًا من اليعقوي، وسعيد بن البطريق. فقد ذكر الأول أن عمر كتب إلى أهل إيلياء كتابًا جاء فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب كتبه عمر بن الخطاب لأهل بيت المقدس، إنكم آمنون على دمائكم، وأموالكم وكنائسكم لا تسكن، ولا تخرب إلا أن تحدثوا حدثًا عامًا، وأشهد شهودًا"3. وروى الثاني: "بسم الله، من عمر بن الخطاب لأهل مدينة إيلياء، أنهم آمنون على دمائهم، وأولادهم وأموالهم، وكنائسهم ألا تهدم ولا تسكن، وأشهد شهودًا"4. الفئة الثانية: إن روايات هذه الفئة طويلة، وذات قيود جديدة وتتناول الوجود اليهودي في بيت المقدس، وتمثل هذه الفئة رواية الطبري، أما النص فهو: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله بن عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها، وسائر ملتها؛ أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه، وماله حتى يبلغوا مأمنهم؛ ومن أقام منهم فهو آمن؛ وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه، وماله مع الروم، ويخلي بيعهم وصلبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم، وعلى وبيعهم وصلبهم، حتى يبلغوا مأمنهم؛ ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان، فمن شاء منهم قعدوا

_ 1 البلاذري: ص144، 145. 2 ابن الأثير: ج2 ص330، أبو الفداء: المخصتر في تاريخ البشر ج1 ص160. 3 التاريخ اليعقوبي: ج2 ص37. 4 التاريخ المجموع على التحقيق والتصديق ص16.

عليه مثل ما على أهل أيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم؛ وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء، وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذين عليهم من الجزية، يشهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان، وكتب وحضر سنة خمس عشرة"1. الواضح أن نص الطبري يتوافق مع نصوص روايات الفئة الأولى في إعطاء أهل بيت المقدس الأمان لأنفسهم، وأموالهم وكنائسهم، إلا أنه يزيد المعنى إيضاحًا وتفصيلًا بعبارات، وقيود جديدة لم ترد في النصوص السابقة، ويمكن رصد القيود الجديدة التالية: 1- اشتراط أهل بيت المقدس على عمر ألا يسكن معهم في القدس أحد من اليهود. 2- تنظيم إقامة الموجودين في بيت المقدس، أو خروجهم منها، وقد تمثل هذا في: أ- اشتراط المسلمين على أهل بيت المقدس الأصليين أن يخرجوا منها الروم واللصوص. ب- منح أهل بيت المقدس حرية البقاء فيها، أو الخروج منها مع الروم. ج- منح بقية الموجودين في بيت المقدس من سائر الأجناس حرية البقاء فيها بحيث يطبق عليهم ما يطبق على غيرهم من شروط الصلح، أو الخروج منها. 3- جاء نص الصلح عند الطبري مؤرخًا بسنة خمس عشرة2. إن قراءة متأنية لهذه الزيادات، والقيود تطلعنا على المعلومات التالية: - إن اشتراط أهل بيت المقدس ألا يسكن معهم بها أحد من اليهود لم يتأيد بروايات أخرى، ويبدو أنه مناف للواقع، إذ لم يؤثر عن عمر بن الخطاب أنه أخرج اليهود من بيت المقدس، أو منعهم من السكن فيها، وأن الإشارة الواضحة إلى إقصاء اليهود عنها في الاتفاق تدل على أن النصارى أرادوا أن تظل بيت المقدس مدينة نصرانية، وتذكر معظم المصادر أن أهالي بيت المقدس، والمفهوم أنهم نصارى لعدم وجود حضور يهودي فاعل آنذاك في بيت المقدس، قد عقدوا اتفاقًا مع المسلمين.

_ 1 تاريخ الرسل والملوك: ج3 ص609. 2 القضاة، زكريا: معاهدة فتح بيت المقدس -العهدة العمرية- مقال في كتاب بلاد الشام في صدر الإسلام، المؤتمر الدولي الرابع لتاريخ بلاد الشام، ص275، 276.

ويذكر اليعقوبي في هذا الصدد: "واختلف القوم في صلح بيت المقدس، فقالوا: صالح اليهود، وقالوا: صالح النصارى، والمجمع عليه النصارى"1، والراجح أن روايات يهودية دخلت في أخبار التاريخ الإسلامي قادها كعب الأحبار لإثبات الحضور اليهودي ليس في فتح بيت المقدس فحسب، بل وفي فتوح بلاد الشام أيضًا، ويفهم من مواقف الطرفين أن كلًا منهما نظر إلى المسلمين على أنهم وسطاء بينهما، فحاول استغلال الفتح الإسلامي، ونظر إليه، وكأنه خير وفرصة يستغلها، ويستخدمها لحماية نفسه ولخلاصه، فخلاص النصارى الوطنيين من الروم البيزنطيين، واليهود من النصارى بعامة، الشرقيين منهم والغربيين، والمعروف أن اليهود في بلاد الشام يكنون البغضاء للبيزنطيين، وقد بلغت ذروة التباغض بينهما في عهد هرقل الذي حرم على اليهود السكن في بيت المقدس، وثار هؤلاء ضد الحكم البيزنطي في عدة أماكن، منها أنطاكية وصور لذلك تعاون اليهود مع الفرس في الماضي، واتفقوا مع الأرمن، والنساطرة القائلين بالطبيعة الواحدة للمسيح، على التعاون معهم أيضًا وتسليم المنطقة للفرس، وقد حققوا هذا الأمر، لقد كان رد الفعل اليهودي تجاه الفتح الإسلامي إيجابيًا من حيث أنه قضى على حكم البيزنطيين في فلسطين، وأن ما ورد في بعض نصوص النبوءات اليهودية يكشف عن ذلك بجلاء2. - إن اشتراط عمر على أهل بيت المقدس أن يخرجوا منها الروم، واللصوص، جاء بعبارة يكاد ينفي آخرها أولها، إذ إن أول الرواية يفيد بوجود إخراج الروم، إلا أنها تخيرهم، بعد ذلك، بين الخروج، أو الإقامة مع أداء الجزية3. - إن إعطاء الأجناس الأخرى حرية البقاء، ودفع الجزية أو مغادرة المدينة، جاء بعبارة لا يمكن معها التنفيذ إذ قال: "ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان"، هكذا بصيغة المجهول دون ذكر اسم فلان هذا، أو ما يدل عليه أو تاريخ مقتله، ولما لا يمكن تحديد من ينطبق عليهم هذا الوصف، فلا يمكن التنفيذ، ويستحيل أن يكون هذا نصًا في معاهدة ملزمة4.

_ 1 تاريخ اليعقوبي: ج2 ص37. 2 انظر: Lewies, Bernard: An Apocalyptic Vision of Islamic History -in Bulletin of the School of Oriental and African Stuies 1950 يناقش برنارد لويس: النبوءة المسماة "أسرار الحاخام سمعان بن يوحاي، وانظر للمؤرخ نفسه: On that day: A Jewish Apocalyptic poem on the Arab Conquest -Ledien 1974، حيث يناقش نبوءة يهودية باسم "في ذلك اليوم"، والمعروف أن هذا المؤرخ هو يهودي، وعرف بدفاعه الشديد عن اليهودية. 3 القضاة: ص276. 4 المرجع نفسه.

- إن تحديد تاريخ الصلح بسنة خمس عشرة أمر لو صح لقطع الخلاف في تاريخ فتح بيت المقدس، والمعروف أن الخلاف في تاريخ الفتح كان قبل الطبري واستمر بعده، والمعروف أيضًا أن المسلميم لم يبدأوا التاريخ الهجري إلا سنة ست عشرة، وبناء عليه فلا يمكن أن تؤرخ وثيقة قبل هذه السنة بالتاريخ الهجري مما يدل على أن هذا التاريخ ملحق بالوثيقة، وليس أصليًا فيها1. والجدير بالذكر أن جميع روايات المصادر السابقة تتفق على تحديد طرفي العقد بـ عمر بن الخطاب، وأهالي بيت المقدس، وأن العهد بين الطرفين عقد في الجانبية مكان نزول عمر. الفئة الثالثة: رواية المصادر اليونانية التي نشرتها البطريركية الأرثوذكسية في القدس في عام 1952م، وهي مؤرخة في العشرين من شهر ربيع الأول عام 15هـ، تعد هذه الوثيقة من أبرز النصوص التي تناولها التغيير والزيادة، وهي على طولها تعكس الأسلوب الكنسي في الكتابة الذي يبدو واضحًا، وتركز على الصلة الشخصية بين عمر بن الخطاب، والبطريرك صفرونيوس، وكلاهما رجل تقوى وصلاح، وأن لهذه الصلة ارتباطًا كبيرًا باستسلام المدينة، وتسليمها والمسلك الذي رافق التسليم، إذ عندما قرر البطريرك الاستسلام، وتسليم المدينة إلى عمر نفسه، أرسل إليه رسالة بهذا المعنى، وكان في الجابية، ودعاه للقدوم، وعندما تسلم عمر الرسالة توجه من فوره إلى بيت المقدس، وخيم عند جبل الزيتون، وهناك اجتمع بالبطريرك حيث وقعت وثيقة استسلام بيت المقدس، وتقدم عمر بعدها لدخول المدينة. سأكتفي بعض أهم نقاط الصلح كما وردت في النص، مستشهدًا بالكثير من عباراته2: - أعطى عمر بن الخطاب عهدًا للبطريرك صفرونيوس بالأمان "للرعايا والقسوس، والرهبان والراهبات حيث كانوا، وأين وجدوا"، والواقع أن هذا ما جرى عليه المسلمون في معاملتهم لأهل الذمة. - أعطى عمر بن الخطاب الأمان "عليهم وعلى كنائسهم، ودياراتهم وكافة زياراتهم التي بيدهم داخلًا وخارجًا، وهي القمامة وبيت لحم، ومولد عيسى عليه السلام كنيسة الكبرا، والمغارة ذات الثلاثة أبواب، قبلي وشمالي وغربي"، وهذا أيضًا ما جرى عليه المسلمون في معاملتهم لأهل الذمة.

_ 1 القضاة: ص276. 2 انظر النص الكامل للوثيقة عند ساهاس ص73-76، والمرجع نفسه: ص277 هامش رقم 23.

- يكون "بقية أجناس النصارى الموجودين هناك، وهم الكرج والحبش، والذين يأتون للزيارة من الإفرنج والقبط، والسريان والأرمن والنساطرة، واليعاقبة والموارنة، تابعين للبطريرك المذكور، ويكون هو متقدمًا عليهم". يعد هذا النص بالغ الإيجابية، والقوة في يد صفرونيوس ومن يأتي بعده؛ لأنه أعطى بطريرك بيت المقدس الرسولي اليد العليا على سائر النصارى من مقيمين وزوار، وجعل له السلطان عليهم، وقد يلقي ذلك ضوءًا على أنه وضع لاحقًا لوضع حد للخلافات المذهبية على الرئاسة الروحية لكنيسة القيامة، ثم نسب إلى عمر بن الخطاب لإكسابه أهمية، واستعماله حجة على أن الرئاسة للطائفة الأرثوذكسية على مر الأيام. - إعفاء نصارى بيت المقدس من دفع "الجزية والغفر1، والواجب من كافة البلايا في البر والبحور، وفي دخلوهم للقمامة وبقية زياراتهم لا يؤخذ منهم شيء"، ويعد هذا النص وثيقة مهمة في يد سكان بيت المقدس الأصليين، لقد استثناهم من دفع الجزية، ذلك الحكم الذي جرى عليه عمل المسلمين في سائر فتوحهم، والملاحظ أننا لم نجد أي رواية تاريخية تستثني نصارى فلسطين بعامة، وبيت المقدس بخاصة من دفع الجزية، مما يفسر على أنه وضع لاحقًا لتمييز سكان بيت المقدس عن النصارى بعامة. - "وأما الذين يقبلون إلى الزيارة إلى القمامة، يؤدي النصراني إلى البطرك درهم وثلث من الفضة"، لقد أعطي هذا النصر البطريرك، ومن خلاله نصارى بيت المقدس، الملكية المطلقة للأماكن المقدسة في المدينة وما يجاورها، وأذن لهم بجبابة درهم، وثلث من الفضة من كل نصراني يزور كنيسة القيامة، والراجح أن هذا النص وضع لاحقًا أيضًَا لقطع الخلافات المذهبية على الرئاسة الروحية لكنيسة القيامة. ويذكر بأن هذه الرواية خالية من أي إشارة إلى اليهود، أما تاريخ توقيع العهدة العمرية، فهو شهر "محرم 17هـ/ شباط 638م"2. هل تدل هذه الامتيازات على أن عمر بن الخطاب ائتمن النصارى للحفاظ على حرمة الأماكن المقدسة؛ لأنهم كانوا الأكثر عددًا بين سكان المدينة، والأكثر تجانسًا؟ لا شك بأن العهدة العمرية أظهرت كرمًا بالغًا مع النصارى لم يتهيأ لهم في التاريخ، ولم يكن لهم رجاء في مثله، وهي في حد ذاتها ظاهرة ملفتة، ومميزة في العلاقات المتبادلة بين الأديان، وتكشف لنا جوانب مهمة عن طبيعة التفاهم بين

_ 1 وردت في المصادر اليونانية Kafar. 2 البلاذري: ص114، 145.

المسلمين والنصارى، ونوع العلاقات بينهما في تلك الحقبة من الزمن1. وأيًا كان أمر العهدة العمرية، وعلى الرغم من التباين في نصوص روايات المصادر وألفاظها، فمن المؤكد أن لها صلبًا تاريخيًا، وأن فحوى الروايات تتفق على سماحة المسلمين، ورعايتهم للحرمات الدينية بما يتفق مع السياق العام للمعاهدات الإسلامية مع أهل الذمة2. دخول عمر إلى بيت المقدس: دخل عمر بن الخطاب، وأصحابه إلى بيت المقدس بعد عقد الصلح، ورافقهم البطريرك صفرونيوس يدلهم على آثارها، وأماكن الحج فيها، ثم دخلوا كنيسة القيامة، وجلسوا في رواقها، وهو ردهة مسقوفة أمام مدخلها الرئيسي، وأدرك عمر وقت الصلاة، فطلب البطريرك منه أن يصلي بها فهي من مساجد الله. والواضح أن البطريرك فهم حاجة عمر إلى الصلاة، ورأى، وهو المتزهد، أن أي مكان يصلح للصلاة، لذلك عرض عليه أن يصلي في رواق الكنيسة حيث كانا يجلسان، أو في داخل الكنيسة نفسها، لكن عمر اعتذر بأنه إن يفعل سوف يتبعه المسلمون على تعاقب القرون إذ يرون عمله سنة مستحبة، فإذا فعلوا فإنهم سوف يضعون يدهم عليها، ويحرمون النصارى منها، ويخالفون عهد الأمان. واعتذر عن الصلاة في كنيسة قسطنطين المجاورة للسبب نفسه، ثم خرج إلى درجات بوابة الجهة الشرقية من هذه الكنيسة الثانية، إلى جانب طريق "كاردو مكسيموس" المزدحم وصلى منفردًا، ثم أعطى عهدًا للنصارى ألا يصلي المسلمون على عتاب الكنائس جماعة، ولكن فرادى وألا يجتمعوا هنا لصلاة جماعية، وألا يدعوهم إلى صلاة الجماعة مؤذن، كانت هذه البادرة تعبر عن رغبة كريمة، وجدت في ظروف خاصة، ومهما يكن من أمر، فقد بنى المسلمون لاحقًا مسجدًا في المكان الذي صلى فيه عمر، وسموه باسمه، فهو مسجد عمر أو جامع عمر، ولما كانت ظروف الاستسلام قط أعطت النصارى عهد أمان في أداء صلواتهم في كنائسهم، فإنه من المحتمل أن منطقة الهيكل كانت تستعمل كمكان يؤدي فيه المسلمون صلواتهم عند البداية، وشيد المسلمون في هذا المكان، من بعد، مسجدًا هو المسجد الأقصى3. وتذكر بعض المصادر أن عمر اصطحب معه اليهود الذين دلوه على المكان

_ 1 ساهاس: ص76. 2 القضاة: ص283. 3 الطبري: ج3 ص611، دائرة المعارف الإسلامية: ج26 ص8099.

الحقيقي للهيكل الذي كان النصارى قد طمسوه عن قصد، فأمر بإزارة ما عليه، واقترح كعب الأخبار، وكان يهوديًا فأسلم، على عمر أن يصلي خلف الصخرة المقدسة، حتى يكون بوضعه هذا مستقبلًا القبلتين، فرفض عمر ما أشار عليه حتى يتجه المسلمون في صلاتهم نحو الكعبة فقط؛ لأنها قبلة المسلمين في كتاب الله، ولعل إبراز دور اليهود هنا جرى من واقع محاولاتهم التدخل في روايات التاريخ الإسلامي بعامة، وروايات فتوح بلاد الشام بخاصة، وإعادة إحياء معالمهم الدينية في بيت المقدس بعد أن طمسها النصارى1. وزار عمر بعد ذلك كنيسة المهد في بيت لحم، ولما أدركه وقت الصلاة صلى بها، ثم إنه خشي أن يتخذ المسلمون من صلاته سنة، فيخرجوا أصحابها منها، فكتب للبطريرك عهدًا خاصًا يجعل هذه الكنيسة للنصارى، ويحدد دخول المسلمين إليها بشخص واحد في كل مرة. وبعد أن مكث في بيت المقدس عشر أيام2، عاد عمر مع قادة جيشه إلى الجابية لاستكمال مناقشاته، ومشاوراته في شئون المسملين، وتنظيم ما تم فتحه من بلاد الشام. صلح اللد: انتشر صلح بيت المقدس في المناطق المجاورة، وبفعل ما حصل عليه النصارى بموجبه من امتيازات، تسابقت قرى المناطق في الحصول على صلح مماثل في شروطه، وقد ظفر أهل اللد من عمر بكتاب جرى عليهم، وعلى البلاد التي دخلت من بعد معهم فيه، فأعطاهم أمانًا على أنفسهم، وأموالهم وكنائسهم وصلبهم سقيمهم، وبريئهم وسائر ملتهم، وألا يكرهوا على دينهم، ولا يضار أحد منهم على أن يعطوا من الجزية ما يعطي أهل مدائن الشام3. فتح قيسارية: الواقع أن عمليات فتح قيسارية، بدأت حين حاصرها عمرو بن العاص في "جمادى الأولى 13هـ/ تموز 634م"، لكنه لم يتمكن من فتحها؛ لأن الحصار كان متقطعًا، فكان عمرو يقيم عليها ما أقام، فإذا كان المسلمين اجتماع في أمر عدوهم

_ 1 الطبري: ج3 ص608، 611، الواقدي: ج1 ص242. 2 الواقدي: المصدر نفسه. 3 الطبري: ج3 ص609، 610.

سار إليهم، فشهد أجنادين وفحل -بيسان، ومرج الصفر ودمشق واليرموك، ثم عاد إلى فلسطين واشترك في فتح بيت المقدس، ثم ذهب إلى مصر بعد ذلك. وأرسل عمر بن الخطاب إلى يزيد بن أبي سفيان بأن يبعث أخاه معاوية لفتحها بهدف إضعاف الجبهة البيزنطية، ومنع البيزنطيين من مساعدة سكان بيت المقدس المحاضرين آنذاك، وتولى يزيد حصار المدينة بعد فتح بيت المقدس لكنه مرض أثناء الحصار، فاستخلف عليها أخاه معاوية، وعاد إلى دمشق حيث توفي بها في عام "18هـ/ 639م" متأثرًا بإصابته بطاعون عمواس1. وشدد معاوية الحصار عليها، وجرت مناوشات بين الجيش الإسلامي، وحاميتها لم تسفر عن أي تغيير في الوضع الميداني، ويبدو أن البيزنطيين أرادوا الاحتفاظ بهذه المدينة موطئ قدم لهم على ساحل بلاد الشام الجنوبي، لذلك استماتوا في الدفاع عنها، ولم يتمكن معاوية من فتحها إلا بمساعدة اليهود، ففي إحدى ثوراتهم على الحكم البيزنطي، ثار اليهود في قيسارية، فأرسل هرقل أخاه ثاودووس، فأخضع الثورة وقتل معظم من فيها من اليهود وفر من نجا، كان لهذه الحادثة أثرها الإيجابي على عملية الفتح، فبفعل العداء التقليدي بين اليهود والبيزنطيين، جاء رجل يهودي يدعى يوسف إلى معسكر معاوية، ودله على نفق يصل إلى بوابة القلعة داخل المدينة، فتسللت مجموعة من المقاتلين عبر ذلك النفق، وفتحوا البوابة فدخل منها الجيش الإسلامي، فوجئ البيزنطيون عندما رأوا الجنود المسلمين داخل المدينة، وتولاهم الذعر، ولما أرادوا الفرار عبر النفق، وجدوا جنود المسلمين عليه، فقتل معظمهم، وكان فتحها في شهر "شوال 19هـ/ تشرين الأول 640م"2. استكمال فتح الأردن: استكمل شرحبيل بن حسنة فتح الأردن، وكان قد دخل أكثره في طاعة المسلمين إثر معركة فحل -بيسان، ففتح سوسية وأنيق وجرش، وبيت رأس والجولان وغلب على سواده، وجميع أرضه. محاولة فتح أرمينية: يرتبط فتح أرمينية بالفتح الإسلامي لشمالي بلاد الشام وإقليم الجزيرة، والواقع أن أرمينية البيزنطية لم تكن هدفًا للمسلمين عندما خرجوا من جزيرتهم، ولكنها أضحت

_ 1 البلاذري: ص146. 2 المصدر نفسه: ص146، 147.

خريطة فتوح المسلمين نهاوند.. وما وراء النهر

مهمة في سياستهم التوسعية بعد وصولهم إلى أطرافها، وذلك من أجل حماية مكتسباتهم المنجزة، ومنع وقوع هجمات قد تنطلق منها، ومن جهة أخرى، لم يكن بوسع بيزنطية أن تفرط بهذه البلاد بعد أن خسرت ممتلكاتها في الجنوب، وذلك لعدة أسباب لعل أهمها: - إن أرمينية غنية بمواردها المعدنية، والأخشاب والقوة البشرية التي تغذي الإمبراطورية. - جعلت الفتوح الإسلامية، الأرمن، أكثر أهمية للبيزنطيين عن ذي قبل. - تسيطر أرمينية على بعض الطرق التجارية الرئيسة التي تربط القسطنطينية بالتجارة الشرقية، ويمكن إدراك هذه الأهمية التجارية بالنسبة لبيزنطية بعد خسارتها بلاد الشام، وإقليم الجزيرة. - كان الأرمن حلفاء طبيعيين لهرقل ولأسرته، وقد منحهم دورا مهمًا في حملاته ضد المسلمين. - لقد جمعت البيزنطيين والأرمن مصلحة سياسية مشتركة، وهي الدفاع عن مواقع عسكرية "استراتيجية" في أطراف شمالي بلاد الشام، بالإضافة إلى إقليم الجزيرة، وهو المجال الحيوي لأرمينية، هذا على الرغم من الاختلاف الديني بين الكنيستين البيزنطية، والأرمينية الذي أثر بشكل، أو بآخر على العلاقات بين الطرفين. ومهما يكن من أمر، فقد أطل المسلمون على الربوع الأرمينية بعد أن دان لهم إقليم الجزيرة الفراتية، وحفلت خلافة عمر بن الخطاب بحملتين كبيرتين قام بهما المسلمون ضد بلاد الأرمن، لفتحها. قاد الحملة الأولى عياض بن غنم بن عامي "19-20هـ/ 640-641م"، فدخل أرمينية من الجنوب الغربي حتى بلغ بدليس، وأغار على مقاطعتي جولتين الواقعة في منطقة جولقا التابعة لولاية سيونيك، وناختشيفان، فعبر نهر الرس عند مخاضة جولقا، ومر بالأرتاز عند قاسبوراكان، ووصل إلى كوجوفيت حيث كان يعسكر القائدان البيزنطي، بروكوبيوس والأرميني تيودور الرشتوني الذي برز في خدمة الدولة البيزنطية، فاصطدم بهما كل على حدة، مستغلًا اختلافهما حول كيفية التصدي له، فكمن تيودور الرشتوني للمسلمين بالقرب من مضيق ساراتكين، غير أنه تعرض للهزيمة، وانسحب إلى مدينة جارني على الرغم من أنه سلبهم بعض الغنائم، ولما حاول بروكوبيوس بدوره مهاجمتهم تعرض لهزيمة قاسية1.

_ 1.Grousset. R: Histoire de L'Armenie p296

وقاد الحملة الثانية في عام "21هـ/ 642م" اثنان من خبرة قادة المسلمين هما حبيب بن مسلمة، وسليمان بن ربيعة الباهلي، فهاجما حدود أرمينية من الشمال الشرقي، لكن الجيش الإسلامي الذي كان مكونًا من أربع فرق حيث يقود كل قائد فرقتين، واجه مقاومة عنيفة، ومع ذلك فقد دخل المسلمون إلى مدينة دوين عاصمة بلاد الأرمن في "7 ذي القعدة 21هـ/ 6 تشرين الأول 642م"، إلا أنهم لم يستقروا فيها بسبب الضغط الأرميني، وغادروها بعد أن غنموا مقادير هائلة من الغنائم، وحملوا معهم كثيرًا من الأسرى، وطارد تيودور الرشتوني الجيش الإسلامي أثناء خروجه من المنطقة في محاولة لاستعادة الغنائم والأسرى، وكمن له عند نهر كوجوفيت، إلا أنه فشل في مهمته1. كان من الطبيعي، تجاه المقاومة العنيفة التي واجهها المسلمون، أن تنتهي هاتان الحملتان دون نتيجة إيجابية من واقع الفشل في فتح البلاد، والاستقرار في الربوع الأرمينية. فتح الباب: كان طبيعيًا أن يتابع المسلمون زحفهم باتجاه شمال فارس حتى يقضوا على كل مقاومة، وكان على بحر قزوين، إلى جانب أذربيجان، فرصة يقال لها: الباب أو باب الأبواب، إنها دربندشروان، وتقع على الساحل الغربي للبحر المذكور، وقد بنيت وسط طرق جبلية ملتوية ومحصنة، وأصاب ماء البحر حائطها، وفي وسطها مرسى السفن، وقد بني على حافتي البحر سدان، وجعل المدخل ملتويًا، وعلى هذا الفم سلسلة ممدودة، فلا مخرج للسفن، ولا مدخل إلا بإذن2. كان يحكم الباب شهربراز، وهو مجوسي وتابع لحكومة فارس، فأرسل عمر بن الخطاب سراقة بن عمرو الأنصاري إلى الباب، وأمره بفتح المنطقة والتوغل فيها، فأرسل هذا عبد الرحمن بن ربيعة كطليعة، ثم خرج في أثره، وانضم إليه بكير بن عبد الله الليثي، وأمد عمر المسملين بحبيب بن مسلمة من الجزيرة. وعندما اقترب عبد الرحمن من المدينة، شعر شهربراز بالخطر، وحتى يتجنب كارثة مؤكدة طلب الصلح، فأجابه عبد الرحمن وارسله إلى سراقة، وعرض أن يساعد المسلمين في صد الحملات الخارجية التي يقوم سكان المنطقة الأتراك مقابل إسقاط الجزية عنه وعن شعبه، فقبل سراقة منه ذلك، وأضحت هذه الظاهرة سنة

_ 1.Grousset: pp297, 298 2 الحموي: ج1 ص303-306.

فيمن يحارب مع المسلمين، وكتب سراقة بذلك إلى عمر فأجازه1. توجه سراقة بعد أن فرغ من الباب إلى الجبال المحيطة بها، فرضي سكانها بدفع الجزية دون قتال باستثناء موقان التي قاومت في بادائ الأمر قبل أن تستسلم. وتوفي سراقة في هذه الأثناء، وخلفه عبد الرحمن بن ربيعة، فأمره عمر بغزو الترك2، فسار بجيشه حتى اجتاز منطقة الباب، وغزا بلنجر3، لكن المسلمين لم يتمكنوا من فتح هذه البلاد الشمالية في هذا الوقت4.

_ 1 الطبري: ج4 ص155-157. 2 المصدر نفسه: ص157، 158. 3 بلنجر: مدينة ببلاد الخزر خلف باب الأبواب، الحموي: ج1 ص489. 4 الطبري: ج4 ص157، 158.

الفصل التاسع: فتوح مصر

الفصل التاسع: فتوح مصر مدخل ... الفصل التاسع: فتوح مصر أوضاع مصر قبل الفتح الإسلامي: تمهيد: يرتبط فتح مصر بأهميتها السياسية والاقتصادية، وذلك بما لديها من خصائص، وما توفره من إمكانات على جانب كبير من الأهمية، ويروي ابن عبد الحكم أن عمرو بن العاص أشار على عمر بن الخطاب بفتحها، وقال: "إنك إن فتحتها كانت قوة للمسلمين وعونًا لهم، وهي أكثر الأرض أموالًا، وأعجزها عن القتال والحرب"1، والمعروف أن عمرًا كان قد سافر إلى مصر في الجاهلية للتجارة، فوقف على معالمها وعلى أوضاعها الداخلية، وبخاصة النزاع الديني بين البيزنطيين الحاكمين، وبين الشعب المصري الذي يخالفهم في المذهب، وظن أن المصريين سوف يمتنعون عن مساعدة الحاميات العسكرية البيزنطية المنتشرة في مصر إذا هاجمها المسلمون، ومما زاده اقتناعًا بما يظنه ما تناهى إلى أسماع المصريين عن سياسة المسلمين المتسامحة في بلاد الشام. اجتمع عمرو بن العاص بعمر بن الخطاب في الجابية حين جاء إلى بلاد الشام بعد طاعون عمواس، وعرض عليه فتح مصر وطلب السماح له بالمسير إليها2 وهنا تظهر لأول مرة في المصادر العربية فكرة فتح مصر، وكأنها فكرة طارئة عنت لعمرو بن العاص الذي كان يسعى للحصول على ميدان جديد يظهر فيه نشاطه، وحسنها للخليفة عمر، وتجري بعض المصادر أن فكرة فتح مصر تعود إلى عمر بن الخطاب نفسه الذي أمر عمرو بن العاص بالمسير إليها3. والواقع أن فتح مصر أضحى ضرورة بعد فتح بلاد الشام، وقد أثارت هذه البلاد

_ 1 فتوح مصر وأخبارها: ص131. 2 المصدر نفسه. 3 الواقدي: ج2 ص36-38.

اهتمام المسلمين الجدي بعد أن وقفوا على أوضاعها السياسية، والاقتصادية والدينية المتردية، ذلك أن تطلعات عمرو بن العاص، ومن خلالها عمر بن الخطاب تكمن في فتح مصر، وضمها إلى الدولة الإسلامية من خلال هذا الواقع. الوضع السياسي: كانت مصر ولاية رومانية تابعة مباشرة لرومة منذ عام 31 ق. م، حين استولى الرومان عليها، وقضوا على حكم البطالسة1 فيها، واتخذها الإمبراطور أغسطس قيصر مخزنًا يمد رومة بحاجتها من الغلال، واتصف الحكم الروماني بالتعسف، فقد برع الرومان في ابتكار الوسائل التي تتيح لهم استغلال موارد البلاد، ففرضوا على المصريين نظمًا ضريبية متعسفة شملت الأشخاص، والأشياء والصناعات، والماشية والأراضي، فضاق المصريون ذرعًا بها، وقاموا بعدة ثورات ضد الحكم الروماني لعل أشهرها تلك التي قامت في عهد الإمبراطور ماركوس أورليوس "161-180م"، وتعرف بحرب الزراع، أو الحرب البوكولية2، ولكن الرومان كانوا يقضون على هذه الثورات في كل مرة3. ظلت مصر تحت الحكم الروماني ما يزيد على أربعة قرون، ففي عام 395م انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين شرقي وغربي، وعلى الرغم من استمرار فكرة وحدة الإمبراطورية، فقد حكم أمبراطوران معًا، واحد في الشرق وآخر في الغرب، وفي عام 476م سقط القسم الغربي في أيدي البرابرة الجرمان في حين نجا القسم الشرقي الذي عرف بالإمبراطورية البيزنطية، وعاصمته القسطنطينية. وكانت شمالي إفريقية ومن ضمنها مصر تابعة لهذه الإمبراطورية من خلال ما كان يعرف بأرخونية إفريقية، إلا أنها بظروفها السياسية والدينية، تعد امتدادًا طبيعيًا لبلاد الشام مع بضع الاختلاف في المدى الذي ترتبط به بالحكم المركزي في القسطنطينية، فقد وحدت بينهما العقيدة النصرانية، ولكن وفقًا لمفهوم لا يتفق كثيرًا مع المذهب الإمبراطوري الملكاني مما سنشرحه فيما بعد، ومن ناحية أخرى، كان الحكم البيزنطي، مباشرًا ومستبدًا يدار بواسطة حاكم يعينه الإمبراطور لكن الحضور السياسي كان ضعيفًا، مما أدى إلى انعدام التوازن في العلاقة بين الحكم المركزي

_ 1 البطالسة: نسبة إلى بطليموس بن لاغوس 323-285 ق. م، أحد أقدر قادة الإسكندري المقدوني وأعظمهم حكمة، وكانت مصر من نصيبه بعد تقسيم تركة القائد المقدوني بين قادته. 2 البوكولية: نسبة إلى المنطقة المعروفة باسم بوكوليا الواقعة في شمالي الدلتا. 3.Jourguet: p: L'Egypt Greco-Romain. I p 369

والشعب المصري، وكان المظهر الوحيد للسيادة المركزية، والإدارة التي تؤمن مصالح الدولة الحاكمة، هو وجود مراكز عسكرية في المدن الكبرى، وبعض الحاميات المنتشرة في الداخل1. وكانت مصر، بوصفها مرتبطة مباشرة بالحكم المركزي، تتأثر بما كان يحدث في البلاط البيزنطي من صراعات، ومؤامرات من أجل السلطة، فتعرض المصريون لأشد أنواع المضايقات في عهد الإمبراطور فوقاس "602-610م"، فما اشتهر به عهده من المؤامرات والاغتيالات، إنما حدد الإطار الخارجي الذي جرى في نطاقه من العوامل ما أدى إلى انتشار الفوضى، والتفكك البطيء في الحكومة والمجتمع، وقد تأثرت مصر بذلك، فامتلأت أرض الصعيد بعصابات اللصوص، وقطاع الطرق، وغزاها البدو وأهل النوبة، واضطربت أوضاع مصر السفلى أيضًا، وأضحت ميدانًا للشغب والفتن، والثورات بين الطوائف، وقد توشك أن تكون حربًا أهلية، وانصرف الحكام إلى جمع المال لخزينة الإمبراطورية بغض النظر عن مشروعية الوسائل، أو عدم مشروعيتها، فاضطرمت مصر بنار الثورة. وتعرضت الإمبراطورية في هذه الأثناء إلى كارثة خطيرة، إذا هزمت عسكريًا في البلقان، وآسيا الصغرى، وبلاد الشام، واجتاحتها الجيوش الفارسية، ثم شرع الفرس بغزو مصر، فسقطت الإسكندرية في أيديهم في عام 619م، ولم تلبث مصر كلها أن أضحت تحت حكمهم. شعر المصريون بحرية لم يعهدوها من قبل في ظل حكم فوقاس، ذلك أن الفرس تركوا لهم أمر الحكم على نحو من اللامركزية المألوفة في بلادهم، وأسقطوا عنهم كثيرًا من الأعباء التي كانت ترهقهم، وإن ظلوا متعالين عليهم بوصفهم الطبقة الحاكمة. وهكذا استهل القرن السابع الميلادي، والدولة البيزنطية تسير في طريق الانحدار، ولم ينقذ الموقف إلا ثورة حاكم أرخونية إفريقية، على حكم فوقاس، وانحازت إليه مصر، ونجح هرقل في خلع فوقاس، وتولى الحكم. وبفضل ما اتخذه من تدابير إصلاحية، عسكرية وإدارية، نهض لقتال الفرس، واسترد ما فقدته الإمبراطورية البيزنطية على أيديهم، فاستعاد بلاد الشام ومصر، وكان الأقباط سكان مصر يأملون أن يجدوا في الحكم الجديد سيرًا أرفق بهم مما كانوا يعانونه من عسف فوقاس، وبأن يكافئهم هرقل على مساندتهم له، وألا يرهقهم حكمه.

_ 1 بيضون: ص67، 68.

والواقع أنهم لم يشعروا بخيبة أمل بالغة في بادئ الأمر، إذ ليس ثمة ما يدعو إلى الشك في أن هرقل كان حريصًا على أن يستقطب المصريين، وكان واليه على مصر نيقتاس يرى لزامًا عليه أن يجزيهم على ما قدموه من خدمة للإمبراطورية. لكن سرعان ما خاب أملهم، فقد عاد الحكيم البيزنطي إلى سيرته الأولى من التعسف، مما أدى إلى التباعد بين الشعب وحكامه، كانت تغذيه باستمرار المحاباة القمعية، التي ارتبطت بآخر الحكام البيزنطيين قيرس1، الذي سعى إلى تنفيذ برنامج هرقل الهادف إلى تدعيم مركزية النظام بضرب المذاهب المتعارضة مع المذهب الرسمي للدولة. وكانت مصر تمثل امتدادًا طبيعيًا لبلاد الشام من وجهة النظر الجغرافية والعسكرية والاقتصادية، وللبيزنطيين فيها جيش كبير قوامه ثلاثون ألفًا، فإذا ظلت تحت الحكم البيزنطي، فإن من شأن ذلك أن يحاصر البيزنطيون بلاد الشام من الجنوب، بالإضافة إلى سهولة إرسال حملة بيزنطية عن طريق البحر الأحمر لتهديد بلاد الحجاز، يضاف إلى ذلك إدراك كل من عمر بن الخطاب، وعمرو بن العاص أهمية وضع المسلمين يدهم على مصر، والمزايا التي تعود عليهم بامتلاكها، وبخاصة فيما يتعلق بمواصلة نشر الدين الإسلامي على أساس توحيد القوى الحاكمة في كل من البلدين الشام، ومصر تحت زعامة حاكم مسلم، وإن من شأن ذلك أن يقطع على البيزنطيين جهودهم في مضايقة المسلمين، واستعادة بلاد الشام. وكان من البديهي أن يتأثر المسلمون بعد فتحهم لبلاد الشام، بهذه الحقيقة للأسباب نفسها، فكانت مصر في الإطار العام ذات ارتباط عضوي، وهو ما ناقشه مؤتمر الجابية2. الوضع الاقتصادي: عرف العرب مصر منذ حقب بعيدة، وذلك بفعل ما كان بينها، وبين الجزيرة العربية من صلات أبرزها الصلة التجارية، ذلك أن مصر كانت منذ أيام الفراعنة دولة بحرية تجوب أساطيلها التجارية البحرين الأبيض المتوسط والأحمر، وهيمنت على

_ 1 سمي المؤرخون المسلمون قبرس باسم المقوقس، وسنستعمل هذا الاسم كما ورد في المصادر الإسلامية، وتجدر الإشارة إلى أن قبرس هو قورش، وكان أسقف فاسيس بالقوقاز، جاء إلى مصر بعد أن عينته الدولة البيزنطية بطريركًا عليها، وقد لقبه الأقباط الذين يكرهونه بالقوقازي، ومنه اسم المقوقس الذي تطلقه عليه المصادر العربية، انظر: تروبو، جيرار: المسيحية في العقود الإسلامية الأولى ص451-457، بحث في كتاب: المسيحية عبر تاريخها في المشرق. 2 بيضون: ص68، 69.

التجارة الشرقية، والمعروف أن الفراعنة شقوا طرقًا ملاحية تصل البحر الأحمر بفروع النيل لتسهيل الحركة التجارية. لم تكن الطرق البحرية الأداة الوحيدة التي تصل مصر بالجزيرة العربية، بل كان مضيق السويس أداة اتصال بينهما، فئقد كان في شبه جزيرة سيناء طريق عبده المصريون القدماء، يؤدي إلى مناجم النحاس فيها، وكان هذا الطريق يتصل بشمالي الحجاز، ويتقاطع عند تيماء مع الطريق الذاهب إلى العراق، ويتصل بطريق القوافل المنحدر إلى مكة واليمن، إنه الطريق التهامي الموازي تقريبًا لساحل البحر الأحمر من عدن إلى أيلة -العقبة- ومنها إلى مصر. كان المصريون يحملون البضائع التجارية إلى بلاد العرب، ويقيمون فيها ريثما يعودون بتجارة الشرق، وكذلك فعل العرب، فكانوا يحلمون تجارة الشرق إلى مصر، ويقيمون فيها ريثما يعودون إلى بلادهم، ولقد أدت هذه الحركة التجارية إلى استقرار جالية مصرية في بلاد العرب، وإقامة جالية عربية في مصر. استمرت الصلة التجارية بين مصر، والجزيرة العربية قائمة بعد قضاء الرومان على حكم البطالسة في مصر، تقوى حينًا وتضعف أحيانًا، ثم حدث أن ورثت بيزنطية المناطق الشرقية للإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس الميلادي على أثر انقسام هذه الأخيرة إلى قسمين شرقي وغربي، وسقوط القسم الغربي في أيدي البرابرة الجرمان كما ذكرنا، في الوقت الذي استأنف فيه العرب رحلاتهم التجارية، وبخاصة رحلة الصيف إلى بلاد الشام حيث كانت بعض القوافل تنحدر عند أيلة إلى مصر، ويدل ذلك على أن جزءًا مهمًا من البضائع الشرقية كان معدًا للتصدير بحرًا إلى موانئ البحر الأبيض المتوسط عبر ميناء الإسكندرية. كون العرب، بحكم هذا الواقع التجاري، صورة عن أوضاع مصر، زادها القرآن الكريم وضوحًا حين تحدث عن غنى هذا البلد الزراعي، يقول القرآن الكريم تعقيبًا على ما حدث من غرق فرعون وقومه: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ، وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان: 25- 27] ، ويقول أيضًا: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الزخرف: 51] ، ويقول على لسان بني إسرائيل بعد أن أخرجهم موسى من مصر: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61] .

وفي عصر الرسالة، ومن خلال عالمية الدعوة الإسلامية، أرسل النبي محمد صلى الله عليه وسلم مبعوثين إلى ملوك، وأمراء الشرق الأدنى، إلى كسرى، وقيصر وملوك الحيرة، وغسان وأمراء الجنوب، وإلى المقوقس حاكم مصر، يدعوهم إلى الإسلام، والملفت أن رد المقوقس كان لطيفًا، بل أكثر الأجوبة مجاملة، وقد بعث مع حاطب بن أبي بلتعة، الذي حمل الرسالة إليه، هدية، هي عبارة عن كسوة، وبغلة بسرجيها وجاريتين، ومقدارًا من المال، وبعض خيرات مصر1. وقد اصطفى النبي لنفسه إحدى الجاريتين، وهي مارية القبطية، فولدت له إبراهيم، فرفعها إلى مقام زوجاته، وكان يقول: "استوصوا بالقبط خيرًا، فإن لكم منهم صهرًا" 2. والواضح أن اختيار حاطب بن أبي بلتعة مبعوثًا إلى المقوقس يدل على أمرين: الأول: أنه كان كثير التردد على مصر للتجارة. الثاني: أنه كان يعرف لغة المصريين. ولا شك بأن المسلمين ازدادوا معرفة بأوضاع مصر بعد فتوح بلاد الشام، إذ إنهم أضحوا على تخومها، والمعروف أن الصلة بين البلدين كانت وثيقة، فكلاهما يقعان تحت الحكم البيزنطي، وكان سكان بلاد الشام يذهبون إلى مصر للتجارة، كما أن العرب لم يجهلوا ثروة مصر آنذاك، وبخاصة أن كثيرًا منهم كان يذهب إليه للتجارة منذ أيام الجاهلية أمثال عمرو بن العاص، وعثمان بن عفان، والمغيرة بن شعبة، فكان خصب مصر، ووفرة إنتاجها مغريًا، وإن امتلاكها سوف يتيح للمسلمين الاستفادة من مواردها، وتسخيرها في خدمة الجهاد الديني، وإن النجاح في تحقيق هذه الهدف هو خطوة حاسمة في طموح المسلمين مع ازدياد الضغط الاقتصادي على المجتمع الإسلامي في بلاد العرب، لذلك كان فتح مصر ضرورة اقتصادية ملحة. الوضع الديني: كانت مصر في طليعة البلدان الشرقية التي تسربت إليها النصرانية في القرن الأول الميلادي، وانتشرت تدريجيًا، في جميع أنحاء البلاد في القرن الثاني، وقد تعارضت التعاليم النصرانية مع المفاهيم الرومانية المتعلقة بتأليه الإمبراطور وعبادته، ورفض النصارى الخدمة في الجيش الروماني، واتخذوا الأحد أول أيام الأسبوع ليكون فرصة لمباشرة طقوسهم الدينية، لذلك رأت الحكومة الرومانية أن اعتناق النصرانية هو جرم في حق الدولة، وعدت النصارى فئة هدامة، تهدد أوضاع

_ 1 ابن عبد الحكيم: ص118-120. 2 المصدر نفسه: ص120، 121، 124.

الإمبراطورية وسلامتها، فمنعت اجتماعات النصارى، ونظمت حملات الاضطهاد ضدهم. بدأت هذه الحملات ضد نصارى مصر أثناء حكم الإمبراطور سبتيموس سفيروس "193-211م"، وظل هؤلاء يتعرضون لاضطهاد كبير، وتسامح قليل إلى أن تولى دقلديانوس "284-305م" عرش الإمبراطورية، حيث بلغ اضطهاد النصارى حده الأقصى. قاوم النصارى في مصر هذا الاضطهاد بقوة وعناد، وقد انبثقت عن هذه المقاومة حركة قومية أخذت تنمو تدريجيًا، وليس أدل على ذلك من أن الكنيسة القبطية بدأت تقويمها، الذي سمته تقويم الشهداء، بالسنة الأولى من حكم دقلديانوس، وذلك نتيجة لما خلف الاضطهاد من أثر كبير في نفوس القبط1. ولم تلبث النصرانية أن أحرزت تقدمًا حين خرجت ظافرة من جميع معاركها ضد الوثنية، لا سيما بعد أن اعترف الإمبراطور قسطنطين الأول بها دينًا مسموحًا به ضمن الدينات الأخرى في الدولة الرومانية، بموجب مرسوم ميلان الشهير في عام 343م2، ثم أصبحت النصرانية الدين الرسمي الوحيد للدولة في عهد الإمبراطور ثيودوسيوس الأول "379-395م"، الذي أصدر مرسومًا بذلك في عام 380م، كما أصدر مرسومين في عامي 392 و 394م حرم بموجبهما العبادات الوثنية3. لم تنعم مصر النصرانية طويلًا بهذا النصر الذي أحرزه الدين النصراني، إذ ثار الجدل، والنزاع منذ أيام قسطنطين الأول بين النصارى حول صفات المسيح، وقد تدخل قسطنطين الأول في هذه النزاعات الدينية البحتة، وعقد مجمع نيقية في عام 325م من أجل ذلك، وناقش هذا المجمع مذهب آريوس الإسكندري4، الذي أنكر صفة الشبه بين الأب والابن، وعد أن "ابن الله"! ليس إلا مخلوقًا فأنكر بذلك ألوهية المسيح، وتقرر بطلان مذهبه، والإعلان عن أن الابن من جوهر الأب نفسه5. واتخذ معظم الأباطرة الذين جاءوا بعد قسطنطين الأول موقفًا عدائيًا من معتقدات

_ 1.Munier: L'Egypt Byzantine pp 9, 10 2 انظر نص مرسوم ميلان عند السيد الباز العريني في كتابه: تاريخ أوروبا، العصور الوسطى ص50، 51. 3.Munier: pp 38, 39 4 كان آريوس أحد قساوسة مصر، وراعي كنيسة بوكاليس بالإسكندرية. 5 العريني:ص73-76، الأب جوزف بو حجر: بلورة الفكر المسيحي، مجمعا نيقية والقسطنطينية، ص167-171، مقال في كتاب المسيحية عبر تاريخها في المشرق.

النصارى في مصر، مما أدى إلى احتدام الجدل، والنزاع الديني بين كنيستي الإسكندرية والقسطنطينية، وقد بلغ أقصاه في منتصف القرن الخامس الميلادي حينما اختلفت الكنيستان حول طبيعة المسيح، فاعتقدت الكنيسة المصرية بأن للمسيح طبيعة إلهية واحدة -مونوفيزيت- وتبنت كنيسة القسطنطينية القول بثنائية الطبيعة المحددة في مجمع حلقدونية، ورأت أن في المسيح طبيعة بشرية وطبيعة إلهية، وهو المذهب الرسمي للإمبراطور البيزنطي، وقد عقد الإمبراطور مرقيان "450-457م" مجمعًا دينيًا في خلقدونية في عام 451م من أجل وضع حد لهذا النزاع، تقرر فيه تحديد العقيدة الدينية المتعلقة بطبيعتي المسيح، وأنكر المجتمعون نحلة المونوفيزيتيين، وكفروا من قال بأن للمسيح طبيعة واحدة، وعدوهم خارجين على الدين الصحيح، كما تقرر حرمان ديسقوروس بطريرك الإسكندرية من الكنيسة1. والواضح أن ما أحرزته كنيسة القسطنطينية من انتصار على كنيسة الإسكندرية، إنما يدل على أن دعوى الكنيسة الأولى بأن لها الصدارة بين الكنائس الشرقية، ومساواتها بالكنيسة الغربية في رومة، قد أضحى واقعًا، واتخذت القضية في مصر شكلًا قوميًا، إذ لم يقبل ديسقوروس، ولا نصارى مصر ما أقره مجمع خلقدونية، وأطلقوا على أنفسهم اسم الأرثوذكس أي أتباع الديانة الصحيحة, عرفت الكنيسة النصرانية في مصر منذ ذلك الوقت باسم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وباسم الكنيسة اليعقوبية نسبة إلى يعقوب البرادعي أسقف الرها المونوفيزيتي الذي زار مصر في النصف الثاني من القرن السادس الميلادي، ونظم كنيستها، أما أتباع كنيسة القسطنطينية، فقد عرفوا بعد الفتوح الإسلامية باسم الملكانيين لأتباعهم مذهب الإمبراطور2. أضحى هذا النزاع بين الكنيستين مشكلة أقلقت المسئولين البيزنطيين، إذ إن المونوفيزيتية ليست إلا تعبيرًا عما كان بمصر، وبلاد الشام من ميول انفصالية، وكانت الأداة التي اتخذها النصارى في هذه الجهات لمناهضة الحكم البيزنطي3، فألغت كنيسة الإسكندرية استخدام اللغة اليونانية في طقوسها، وشعائرها واستخدمت بدلًا منها اللغة المصرية القبطية. وما حدث من القلاقل الدينية في الإسكندرية، وبيت المقدس وأنطاكية، وتعرض

_ 1 العريني: الدولة البيزنطية ص52، 53، الأنبا بيشوي: مجمعا أفسس وخلقيدونية ص211-213، مقال في كتاب: المسيحية عبر تاريخها في المشرق، Ostrogorsky; p55. Vasiliev: p 105 وانظر نص المذهب عند أسد رستم في كتابه: الروم ج1 ص127، 128. 2.Munier: p 45 3.Munier: p 45

السكان في مصر لأشد أنواع الاضطهاد، وحرمان ديسقوروس وطرده من الكنيسة؛ بسبب ما جرى من محاولة تنفيذ قرارات مجمع خلقدونية بالقوة؛ إنما اتخذ صفة الثورات الوطنية العنيفة، ولم تقمعها السلطات إلا بعد أن أراقت دماء كثيرة. وعندما استولى هرقل على الحكم، رأى أن ينقذ البلاد من الخلاف الديني، وأمل المصريون بانتهاء عهود الاضطهادات، وإراقة الدماء، ومن خلال البطريرك سرجيوس، الذي أدرك خطورة الموقف، لم يأل جهدًا في أن يعيد للكنيسة الهدوء والسكينة، ذلك أنه اعتقد بقدرته على التوفيق بين المذهبين الخلقدوني، والمونوفيزيتي، فتبنى مذهبًا جديدًا يقوم على أن للمسيح طبيعتين لكن له مشيئة واحدة -المونوثيلستية، إنه مذهب الفعل الواحد في المسيح، وهي وحدة تعرب عن وحدة الأقنوم1 "الشخص" لا عن وحدة الطبيعة، وأسند الرئاسة الدينية، والسياسية في مصر للمقوقس أسقف فاسيس في بلاد القوقاز، وطلب منه أن يحمل أهل مصر على اعتناق المذهب الجديد الموحد، غير أنه لم يدرك أن مذهبه هذا قد ترفضه كنيسة مصر، وهذا ما حصل، واضطر المقوقس للضغط على المصريين، وخيرهم بين أمرين: إما الدخول في مذهب هرقل الجديد، وإما الاضطهاد2. وقبل أن يصل الحاكم الجديد إلى الإسكندرية في عام 631م هرب البطريرك القبطي بنيامين، توقعًا لما سيحل به، وبطائفته من الاضطهاد من جراء فرض المذهب الجديد3، كان هذا القرار نذيرًا أزعج الأقباط، وأفزع أهل الدين منهم، وبخاصة أنه كان لهذا البطريرك مكانة محببة بين الأقباط في مصر. ولجأ المقوقس إلى البطش والتعذيب، وقاسى الأقباط جميع أنواع الشدائد فيما سمي "بالاضطهاد الأعظم"4، الذي استمر عشر سنوات، مما كان له أثر في سهولة فتح المسلمين لمصر حيث وقف السكان، بشكل عام، على الحياد في الصراع الإسلامي -البيزنطي على مصر. فتح الفرما 5: تقرر في عام "18هـ/ 639م"، تنفيذ القرار الذي اتخذ بفتح مصر في مؤتمر

_ 1 تروبو: ص451، 452. 2 بتلر، ألفر. ج: فتح العرب لمصر ص172، 173. 3 المرجع نفسه: ص209. 4 المرجع نفسه: ص202-225. 5 الفرما: مدينة على الساحل من ناحية مصر، وهي مفتاح مصر في الشرق، وتشرف على الطريق القادم من الصحراء، حولها سباخ تتوحل، فلا تكاد تنضب صيفًا ولا شتاء، وليس بها زرع، ولا ماء يشرب إلا ماء المطر، فإنه يخزن في الجانب، ويخزنون أيضًا ماء النيل يحمل إليهم في المراكب من تنيس. الحموي: ج4 ص255.

الجابية، وعهد عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص بقيادة العملية، ووضع بتصرفه ثلاثة آلاف وخمسمائة جندي، وقيل: أربعة آلاف1، وطلب منه أن يجعل ذلك سرًا، وأن يسير بجنده سيرًا هنيًا. سار عمرو بن العاص بجنده مخترقًا صحراء سيناء، ومتخذًا الطريق الساحلي حتى وصل إلى العريش2 في عيد الأضحى: "10 ذو الحجة 18هـ/ 12 كانون الأول 639م"3، فوجدها خالية من القوات البيزنطية، فدخلها، وشجعه ذلك على استئناف التقدم، فغادر العريش سالكًا الطريق الذي كان يسلكه المهاجرون، والفاتحون والتجار منذ أقدم العصور، ثم انحرف جنوبًا تاركًا طريق الساحل، واتخذ الطريق الذي سار فيه الفرس عندما استولى على مصر، حتى وصل إلى الفرما. كانت أنباء زحف المسلمين قد وصلت إلى مسامع المقوقس، فاستعد للتصدي لهم، ولكنه آثر ألا يصطدم بهم في العريش، أو الفرما وتحصن وراء حصن بابليون4، ولعل مرد ذلك يعود إلى: - أن العريش والفرما قريتان من الصحراء مع علمه بأن المسلمين أقدر الناس في حرب الصحراء، بالإضافة إلى قربهما من فلسطين مما يجعل إمداد عمرو بجنود من

_ 1 ابن عبد الحكم: ص131. 2 العريش: مدينة كانت أول عمل مصر من ناحية الشام على ساحل بحر الروم -الأبيض المتوسط- في وسط الرمل، الحموي: ج4 ص113. 3 ابن عبد الحكم: ص134. 4 بابليون أوباب إليون: هو اسم عام لديار مصر بلغة القدماء، وقيل: هو اسم لموضع الفسطاط خاصة، وموضع ذلك الحصن المتهدم، فيما يسمى مصر القديمة، كان أول من بناه الإمبراطور الروماني تراجان في عام 100م، وفي رواية أن أصل ذلك الحصن كان بناء أقامه بختنصر، وسماه باسم عاصمة ملكه بابليون، وذلك عندما غزا مصر، فأقام تراجان أسوار الحصن على أساسه وزاد في بنائه، والراجح أن ملك مصر سيزوستريس جاء بجماعة من أسرى الباليين، وأنزلهم في قصر، فأطلقوا على القصر اسم المدينة، وفي رواية أن قمبيز الفارسي بنى الحصن عندما غزا مصر، وقد سبب نابليون ارتباكًا للمؤرخين المسلمين، وبقي ذلك الاسم إلى اليوم، ولكنه لا يطلق على الحصن نفسه، فاسمه الآن قصر الشمع، بل يطلق على دبر صغير على مسافة قليلة من الحصن نحو الجنوب، وهو دير بابليون، وظل الكتاب الأوروبيون في العصور الوسطى يطلقون على ذلك الموضع اسم بابليون، وليس اسم مصر، انظر: الحموي: ج1 ص311- المقريزي، تقي الدين أبو العباس أحمد: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار: ج2 ص67-70، بتلر 268-277.

بيت المقدس وما جاورها أمرًا يسيرًا، لذلك فضل أن يدع عمرًا يمضي في زحفه، ويتوغل في أرض مصر ليبعده عن قواعده ثم يهاجمه، واعتمد على حصون الفرما القوية لعرقلة تقدمه دون أن يخاطر بالذهاب بنفسه إلى هناك، أو يرسل الأرطبون، كبير القادة، وهذا خطأ عسكري كلفه غالبًا حيث كانت الخطة العسكرية السليمة تقضي بأن يرسل قواته إلى الفرما ليوقف زحف المسلمين هناك، ولو فعل ذلك، وهو يمتلك قوة عسكرية هائلة لربما كان قد تغير وجه الصراع. - أنه لم يكن يطمئن إلى ولاء المصريين، وخشي من أن يستغلوا الفرصة، ويقوموا بثورة ضد الحكم البيزنطي. - أنه تهيب الدخول في مغامرة عسكرية مع المسلمين مع علمه بمقدرتهم القتالية، وتفوقهم في ميدان القتال، وبخاصة أنهم خارجون من انتصارات متلاحقة في بلاد الشام، ومعنوياتهم مرتفعة. افتقر عمرو إلى آلات الحصار، إذ لم يكن للمسلمين عهد بأساليب حصار المدن، واعتمدوا في فتوحهم لمدن العراق، وبلاد الشام على المواجهة، أو الصبر عليها إلى أن يضطرها الجوع إلى الاستسلام، وهكذا ضرب عمرو الحصار على الفرما، وتحصنت حاميتها البيزنطية وراء الأسوار، وجرت مناوشات بين الطرفين استمرت مدة شهر، ثم اقتحمها المسلمون في "19 محرم عام 19هـ/ 20 كانون الثاني عام 640م"1. أمن فتح الفرما للمسلمين المركز المسيطر على خطوط مواصلاتهم مع بلاد الشام، وضمن لهم وصول الإمدادات التي وعدهم بها عمر بالإضافة إلى طريق الانسحاب إذا تعرضوا للهزيمة. ولما كانت قواته قليلة العدد، ولا يمكنه ترك حامية عسكرية لحراستها، فقد هدم عمرو أسوار المدينة، وحصونها حتى لا يستفيد البيزنطيون منها فيما لو امتلكوها ثانية. فتح بلبيس 2: تابع عمرو توغله في أرض مصر بعد فتح الفرما، وانضم إليه جند من البدو المقيمين على تخوم الصحراء المصرية، طمعًا في الغنيمة، فعوضوا المسلمين عمن فقدوه حتى ذلك الوقت، وسار منحدرًا إلى الجنوب، فتخطى مدينة مجدل القديمة

_ 1 ابن عبد الحكم: ص134، البلاذري: فتوح البلدان ص241. 2 بلبيس: مدينة بينها وبين الفسطاط عشرة فراسخ على طريق الشام الحموي: ج1 ص479.

إلى موقع القنطرة اليوم، ومن ثم توجه غربًا إلى القصاصين -الصالحية- ثم انحرف جنوبًا، فاجتاز وادي الطميلات حتى بلغ بلبيس، وقد اختار هذا الطريق لخلوه من المستنقعات، ولم يلق في طريق الطويل هذا مقاومة تذكر لا من جانب السكان، ولا من جانب البيزنطيين، ولم يكن "يدافع إلا بالأمر الخفيف"1. ضرب عمرو الحصار على المدينة، وقاتل حاميتها شهرًا2، وكان المقوقس قد أرسل في غضون ذلك قوة عسكرية للاستطلاع، ولكنها لم تحاول إلا مناوشة المسلمين في تقال خفيف، إلا أنه فشل في مهمته وخسر المعركة وتمزق جيشه، فقتل منه نحو ألف جندي، وأسر نحو ثلاثة آلاف أسير، وخسر المسلمون بعض الجند، ودخلوا على إثر ذلك مدينة بلبيس3. فتح أم دنين 4: سار عمرو من بلبيس متاخمًا للصحراء، فمر بمدينة هليوبوليس -عين شمس- ثم هبط إلى قرية على النيل اسمها دنين، وتقع إلى الشمال من حصن نابليون، وعسكر قريبًا منها. اشتهرت أم دنين بحصانتها، وكان يجاورها مرفأ على النيل فيه سفن كثيرة، وما كان المقوقس ليرضى بأن تقع في أيدي المسلمين، وأدرك أخيرًا خطأ ما اتخذه من قرار الإحجام، والتصدي للمسلمين باكرًا حتى وصل خطرهم إلى قلب مصر، فغادر الإسكندرية إلى حصن بابليون ليدير العمليات العسكرية، ويشرف عليها، وحشد جيشًا استعدادًا للقتال. وجرت بين الجيش الإسلامي، وحامية المدينة بعض المناوشات على مدى عدة أسابيع لم تسفر عن نتيجة حاسمة لأي منهما، إنما بدأ المسلمون يشعرون بتناقص عددهم بمن كان يقتل منهم في الوقت الذي لم يتأثر البيزنطيون كثيرًا بفقدان بعض جندهم، فاضطر عمرو أن يرسل إلى الخليفة يستحثه في إرسال إمدادات على وجه السرعة، فوعده بذلك.

_ 1 ابن عبد الحكم: ص135. 2 المصدر نفسه: ص136. 3 المقريزي: ج1 ص340. 4 أم دنين: موضع بمصر، إنها قرية كانت بين القاهرة والنيل اختلطت بمنازل ربض القاهرة، وهي المقس على الضفة الغربية للخليج، وعلى نهر النيل وكانت ميناء مصر وقت الفتح، والمعروف أن المقس كان في الموضع الذي فيه اليوم حديفة الأزبكية، وهو أحد أحياء القاهرة، انظر: الحموي: ج1 ص251. المقريزي: ج1 ص135.

والواقع أن موقف عمرو كان حرجًا، فقد علم من خلال العيون التي بثها في المنطقة أنه لن يستطيع أن يحاصر حصن بابليون، أو يفتحه بمن بقي معه من الجند، وبالتالي فتح مدينة مصر المتصلة به، كما أنه يتعذر عليه التراجع حتى لايفت في معنويات جنوده، فيقوي عليهم عدوهم، بالإضافة إلى أنه كان مصرًا على فتح مصر، غير أنه كان لديه بصيص أمل من واقع وعد الخليفة بإمداده بالمساعدة. ودار في غضون ذلك قتال شديد تحت أسوار أم دنين، وكانت كفة الصراع متأرجحة بين النصر، والهزيمة من واقع توازن القوى، لكن الإمدادات تأخرت في الوصول، وتضايق المحاصرون، وكاد اليأس يدب في نفوسهم، فرأى عمرو أن يشغل جنوده بنصر آخر كسبًا للوقت حتى تصل الإمدادات، لكنه كان عليه أن يفتح أم دنين أولًا حتى يستفيد من السفن الراسية في المرفأ لإجتياز النهر، ووصلت في غضون ذلك طلائع الإمدادات، فقويت عزيمة المسلمين، وأسقط في يد حامية أم دنين، فقل خروجهم للقاء المسلمين، فاستغل عمرو هذا الإحجام، وشدد حصاره على المدينة حتى سقطت في يده1. تنفيذ غارات على الفيوم 2: سار عمرو ومن معه من المسلمين إلى الجنوب بعد أن عبروا النهر سالمين، وتوجهوا نحو الفيوم، وعندما وصل إلى تخومها وجد الحاميات البيزنطية متأهبة للتصدي له بقيادة دومنتيانوس حاكم الفيوم، فاصطدم بقوة الطليعة بقيادة حنا، وتغلب عليها وقتل قائدها إلا أنه لم يتمكن من فتح الفيوم. وعلم في هذه الأثناء بوصول الإمدادات الإسلامية، فعاد أدراجه إلى الشمال منحدرًا مع النهر، واتصل بالمدد العسكري في عين شمس على مقربة من حصن بابليون، ولم يحاول تيودور القائد العام للجيش البيزنطي أن يخرج من الحصن ليحول دون التقاء الجيشين الإسلاميين مضيعًا فرصة بيزنطية أخرى3. حققت غارات عمرو على الفيوم عدة فوائد للمسلمين لعل أهمها: - فقد أخرج جيشه من المأزق الذي وجد فيه نفسه عند أم دنين، وانتقل به إلى مكان أكثر أمنًا بانتظار وصول الإمدادات الإسلامية.

_ 1 ابن عبد الحكم: ص136، 137. 2 الفيوم: ولاية غربية بينها وبين الفسطاط أربعة أيام، بينهما مفازة لا ماء بها، ولا مرعى مسيرة يومين، وهي في منخفض الأرض كالدارة، الحموي: ج4 ص286. 3 بتلر: ص252، 253.

خريطة فتوح مصر والنوبة

- أنجز بعض الانتصارات مما رفع معنويات المسلمين، وفت في عضد البيزنطيين الذين أظهروا حزنًا بالغًا لمقتل القائد حنا. - بث الرعب في قلوب الحاميات البيزنطية المنتشرة في النواحي. - قدم الدليل للمصريين على أن الوجود البيزنطي في مصر بدأ يتعرض لخطر حقيقي. - شغل جنده خلال مدة الانتظار حتى مجيء الإمدادات1. معركة عين شمس 2: بلغ عدد الجنود الذين أرسلهم عمر بن الخطاب اثني عشر ألف مقاتل من بينهم عدد من كبار الصحابة، أمثال الزبير بن العوام، وعبادة بن الصامت، والمقداد بن الأسود، ومسلمة بن مخلد وغيرهم3، فاغتبط المسلمون بمقدمهم، وكان الهدف التالي لعمرو فتح حصن بابليون، فعكسر في عين شمس واتخذها مقرا له، وراح يستعد لمهاجمة الحصن، والمعروف أن موقع عين شمس يصلح لأن يكون قاعدة عسكرية، فهو مرتفع من الأرض يحيط به سور غليظ، ويسهل الدفاع عنه، وتتوفر فيه الماء والمؤن. وضع عمرو خطة تقضي باستفزاز الجنود البيزنطيين، وحملهم على الخروج من حصن بابليون، ليقاتلهم في السهل خارج الأسوار، ويبدو أن تيودور قائد الجيش البيزنطي شعر بالقوة بما كان تحت إمرته من المقاتلين، فخرج من الحصن على رأس عشرين ألفًا، وسار بهم باتجاه عين شمس، وكانت على مسافة ستة أميان أو سبعة من المعسكر الإسلامي؛ للاصطدام بالمسلمين، تلقى عمرو أنباء هذا الخروج بسرور بالغ، فعبأ قواته استعدادًا للقاء المرتقب، ونفذ خطة ذكية للإطباق على القوات البيزنطية، ففصل فرقتين من جيشه يبلغ عدد أفراد كل فرقة خمسمائة مقاتل، وأرسل إحداهما إلى أم دنين، والأخرى إلى مغار بني وائل عند قلعة الجبل شرقي العباسية، وكانت بقيادة خارجة بن حذافة السهمي. وسار هو من عين شمس باتجاه القوات البيزنطية المتقدمة، وتوقف في موضع العباسية الحالي ينتظر وصول جموع البيزنطيين

_ 1 بتلر: 253-256. 2 عين شمس: اسم مدينة فرعون موسى بمصر بينها، وبين الفسطاط ثلاثة فراسخ، بينها وبين بلبيس من ناحية الشام قرب المطرية، وليست على شاطئ النيل، وكانت مدينة كبيرة وهي قصبة كورة أثريب، إنها هيكل الشمس، الحموي: ج4 ص178-188. 3 ابن عبد الحكم: ص139، بتلر: ص262، البلاذري: إنه يذكر رقمين عشرة آلاف، واثني عشر ألفًا فتوح البلدان: ص214.

ليصطدم بهم، انتشرت القوات البيزنطية في السهل إلى الشمال الشرقي من الحصن، وإذ بلغهم خروج المسلمين من عين شمس، سروا بذلك، وظنوا بأنهم ضمنوا النصر عليهم، فتعاهدوا على القتال حتى الموت، ولم يعلموا بخطة عمرو العسكرية، ثم حدث البلقاء ولعله كان في مكان وسط بين المعسكرين الإسلامي، والبيزنطي عند العباسية اليوم، وأثناء احتدام القتال، خرج أفراد الكمين الذي أعده عمرو، فاجتاحت فرقة خارجة مؤخرة الجيش البيزنطي التي فوجئت، وأخذت على حين غرة، فتولى أفرادها الفزع، ودبت الفوضى في صفوفهم، وتقهقروا نحو أم دنين، فقابلتهم الفرقة الأخرى، وأضحوا بين ثلاثة جيوش، فانحل نظامهم، وإذا أدركوا أن لا أمل لهم في المقاومة، والصمود لاذوا بالفرار لا يلون على شيء، ونجحت فئة قليلة منهم بلوغ الحصن، وهلكت فئة كبيرة، ودخل المسلمون إلى أم دنين مرة أخرى، ووطدوا أقدامهم على ضفاف النيل، وجرت المعركة في "شهر شعبان 19هـ/ شهر تموز 640م"1. عندما بلغت أنباء الهزيمة من بحصن بابليون من الجند خافوا على أنفسهم، ففر بعضهم عبر النهر إلى نقيوس إلى الشمال من منف2، وبقي بعضهم الآخر في الحصن للدفاع عنه، استغل عمرو انتصاره الحاسم هذا، فنقل معسكره من عين شمس، وضربه في شمالي الحصن، وشرقه بين البساتين والكنائس، وهو المكان الذي عرف فيما بعد بالفسطاط، ثم سار إلى مدينة مصر -منف- واستولى عليها بدون قتال، ولم يستطع الجيش البيزنطي الموجود في الحصن أن يمد لها يد المساعدة3. فتح الفيوم: عندما بلغت أنباء انتصار المسلمين دومنتيانوس حاكم الفيوم، خشي أن يهاجمه هؤلاء، وهو لا قبل له بمقاومتهم، وفضل الفرار، فخرج في الليل مع جنوده، وتوجه إلى نقيوس، ولما علم عمرو بذلك أرسل فرقة عسكرية فتحت إقليم الفيوم، وتوغلت في جنوبي الدلتا، فاستولت على أثريب، ومنوف في إقليم المنوفية4.

_ 1 بتلر: ص260-263، 265. 2 منف: اسم مدينة فرعون بمصر، بينها وبين الفسطاط ثلاثة فراسخ، وبينها وبين عين شمس ستة فراسخ، إنها عاصمة مصر، وكان اسم مصر يطلق على مدينة منف، الحموي: ج5 ص213، 214، هيكل: ج2 ص101. 3 المرجع نفسه: ج2، ص109. 4 ابن عبد الحكم: ص292، 293، بتلر: ص263، 264، 266.

فتح حصن بابليون: لم يبق بأيدي البيزنطيين سوى حصن بابليون، فكان هدف عمرو التالي قبل أن يتوجه إلى الإسكندرية لفتحها، إذ لم يشأ أن يشتت قواته، ويضعفها ليذر قسمًا منها على حصار الحصن، وليسير بالقسم الآخر إلى الشمال حتى يبلغ الإسكندرية، مما يشكل خطرًا على إنجازاته التي حققها حتى ذلك الحين من واقع رد فعل البيزنطيين الذي سوف يستغلون هذه الفرصة؛ ليقوموا بحركات ارتدادية يستعيدون بواسطتها ما فقدوه من أراضي، ويطردون المسلمين من مصر، لذلك ركز جهوده العسكرية على فتح الحصن، فسار إليه في شهر "شوال 19هـ/ أيلول 640م" وحاصره1. أدرك سكان الحصن، وأفراد حاميته أن الحصار سوف يطول لسببين: الأول: أنه بدأ في وقت فيضان النيل وارتفاع مياهه، فيتعذر على المسلمين أن يجتازوه أن يهاجموا الحصن، ولا بد لهم من الانتظار حتى هبوط الفيضان. الثاني: أن مناعة الحصن ومتانة أسواره، وما يحيط به من الماء وضعف وسائل الحصار؛ سوف يشكل عائقًا أمام المحاصرين من الصعب أن يجتازوه بسرعة، وما غنموه من بعض آلات القتال أثناء فتح الفيوم لم يكن لهم خبرة باستعمالها أو بطرق إصلاحها إذا تعطلت، لذلك استعد الطرفان لحصار طويل، والواقع أن الحصار لم يكن محكمًا، فقد ظلت طريق الإمدادات بين الحصن والجزيرة -الروضة- مفتوحة؛ لأن عمرًا لم يكن قد أحكم سيطرته على الطرق المائية بعد. كان المقوقس داخل الحصن عندما بدأ الحصار، أما قيادة الجيش فكانت للأعيرج2، هو قائد بيزنطي، وتراشق الطرفان بالمجانيق من جانب البيزنطيين والسهام والحجارة من جانب المسلمين، مدة شهر، حيث بدأ فيضان النيل بالانحسار، وأدرك المقوقس أن المسلمين صابرون على القتال، وأنهم سوف يقتحمون الحصن بصبرهم، وشجاعتهم كما يئس من وصول إمدادات من الخارج، والحقيقة أن شدة بأس المسلمين في القتال، وصبرهم أدى إلى هبوط معنويات المقوقس، فاضطر إلى عقد اجتماع مع أركان حربه للتشاور في الأمر، وتقرر بذل المال لهم ليرحلوا عنهم، وأن يذهب المقوقس بنفسه للتفاوض مع عمرو في هذا الشأن بشكل سري حتى لا يعلم أحد من المدافعين عن الحصن، فتهن عزائمهم، فخرج من الحصن تحت جنح الظلام مع جماعة من أعوانه، وركب سفينة إلى جزيرة

_ 1 البلاذري: ص214، الطبري: ج4 ص102. 2 لعله تحريف جورج.

الروضة، فلما وصل إليها أرسل رسالة إلى عمرو مع وفد ترأسه أسقف بابليون، يعرض عليه أن يرسل وفدًا لإجراء مفاوضات بشأن التفاهم على حل معين، وانتظر أن يعود أعضاء الوفد في اليوم نفسه يرد عمرو، لكن هذا الأخير تعمد الإبطاء في الرد مدة يومين، وأبقى أعضاء الوفد عنده حتى خاف المقوقس وقال لأعوانه: "أترون القوم يحبسون الرسل، أو يقتلونهم ويستحلون ذلك في دينهم! "، وإنما أراد عمرو بحبسهم أن يطلع المقوقس، وأهل مصر على بأس المسلمين وحالهم. ومهما يكن من أمر، فقد عاد أعضاء الوفد بعد يومين يحملون رد عمرو يخير المقوقس إحدى ثلاث خصال: إما الدخول في الإسلام، أو الجزية أو القتال. كان من الصعب على المقوقس وجماعته، وأهل مصر التخلي عن دينهم، واعتناق الإسلام، ذلك الدين الذي لا يعرفون عنه شيئًا، وبذلك رفضوا الشرط الأول، وخشوا إن هم قبلوا بدفع الجزية أن يستضعفهم المسلمون، ويذلوهم في الوقت الذي استبعدوا فيه فكرة الحرب خشية الهزيمة، وبخاصة بعد أن وصف أعضاء الوفد وضع المسلمين الجيد، وتضامنهم وجهوزيتهم القتالية، ومع ذلك فقد قبل المقوقس الدخول في الصلح، وطلب من عمرو أن يرسل إليه جماعة من ذوي الرأي للتباحث بشروطه، فأرسل إليه وفدًا برئاسة عبادة بن الصامت، فطمأنه بأنهم سيكونون آمنين على أنفسهم، وأموالهم وكنائسهم، وذراريهم إن هم قبلوا دفع الجزية مما شجعه على المضي في طريق الإذعان. ويبدو أن القبول بقرار الاستسلام لم يكن عامًا، فقد وجدت فئة من الجند رفضت الصلح مع المسلمين، وكانت بقيادة الأعيرج، وأصرت على المقاومة المسلحة، عند ذلك طلب المقوقس من عمرو المهادنة مدة شهر للتفكير في الأمر، فمنحه ثلاثة أيام. ولم تلبث أنباء المفاوضات أن انتشرت بين عامة الجند، فثارت ثائرتهم ضد المقوقس، ولما انتهت أيام الهدنة، استعد الطرفان لاستئناف القتال، وأحرز المسلمون بعض الانتصارات مما دفع المقوقس إلى تجديد الدعوة لأركان حربه للاستسلام، فقبلوا مكرهين، واختار المقوقس خصلة دفع الجزية، واشترط: - موافقة الإمبراطور. - تجميد العمليات العسكرية حتى يأتي الرد من القسطنطينية، وتبقى الجيوش في أماكنها خلال ذلك، وتعهد أن يبعث بعهد الصلح إلى القسطنطينية لأخذ موافقة الإمبراطور1.

_ 1 البلاذري: ص220، ابن عبد الحكم: ص154، بتلر: ص290.

غادر المقوقس حصن بابليون، وتوجه إلى الإسكندرية حيث أرسل عهد الصلح إلى القسطنطينية، وطلب موافقة هرقل عليه, ويبدو أن بنود الصلح التبست على الإمبراطور، أهي عامة تطبق على البلاد كلها، أم خاصة يحصن بابليون؟ وهل يبقى المسلمون في البلاد بعد أخذ الجزية، أو يرحلون عنها؟ وهل معنى ذلك التناول عن مصر للمسلمين؟ واحتاج إلى بعض الإيضاحات، لذلك استدعى المقوقس إلى القسطنطينية1. والواقع أن المقوقس فشل في إنقاع هرقل بوجهة نظره بشأن الصلح مع المسلمين، ورأى الإمبراطور أن العوامل القومية، والجغرافية التي ساعدت هؤلاء على فتح بلاد الشام غير متوفرة في مصر، وأن بحوزته -المقوقس- قوة عسكرية كبيرة تفوق في العدد قوة المسلمين، كما أن الحصن كان محصنًا، ومتينًا يصعب على المسلمين اقتحامه، فلا يعقل والحالة هذه أن ينتصر المسلمون، ولا بد من وجود سر في الأمر أدى إلى هذه النكبة، واتهمه بالتقصير والخيانة، والتخلي للمسلمين عن مصر2، ونفاه بعد أن شهر به3، ورفض عرض الصلح مع المسلمين، إلا أنه وقف عند هذا الحد، فلم يرسل مددًا إلى مصر، ولم يفعل شيئًا من تنظيم الدفاع عن هذا البلد لرفع معنويات جنوده القتالية، ولعل مرد ذلك يعود إلى شعوره بالاضطراب في التفكير، إذ إن الدولة البيزنطية ترزح تحت عبء ثقيل من عار الهزيمة على أيدي المسلمين في بلاد الشام الذين طردوا البيزنطيين منها، وانتشر هؤلاء في أرجاء مصر يفتحون المدن، ويبثون الرعب في نفوس السكان4. علم المسلمون برفض هرقل لعهد الصلح في شهر "ذي الحجة 19هـ/ كانون الأول 640م"، فانتهت بذلك الهدنة، واستأنف الطرفان القتال، كان المدافعون عن الحصن قد قل عددهم بسبب قرار كثير منهم إلى الإسكندرية، ولم تأتهم نجدة من الخارج، وبدأ المرض ينتشر بينهم، وانتهى فيضان النيل، وغاض الماء عن الخندق

_ 1 لا يشير المؤرخون المسلمون إلى سفر المقوقس إلى القسطنطينية، ولا إلى نبأ نفيه ثم عودته، بل يذكرون أن هرقل كتب إليه يقبح رأيه، ويوبخه ويرد عليه ما فعل، ويأمره أن يقاتل المسلمين، وألا يكون له رأي غير ذلك، وأنه أرسل إليه الجيوش، فأعلقوا أبواب الإسكندرية، وحاربوا المسلمين، انظر ابن عبد الحكم: ص152. 2 المرجع نفسه: بتلر: ص292. 3 المرجع نفسه: Ostrogorsky: p101. 4 يشير المؤرخون المسلمون بأن هرقل بعث الجيوش إلى الإسكندرية وأغلقها، ويبدو أنهم وقعوا في الخلط بين أحداث فتح حصن بابليون، وأحداث فتح الإسكندرية؛ لأن الإمبراطور البيزنطي هرقل توفي، والمسلمون يحاصرون الحصن كما سيمر معنا، انظر: البلاذري: ص220، ابن عبد الحكم ص154.

حول الحصن، فأضحى بمقدور المسلمين الآن أن يهاجموه، غير أن المدافعين صمدوا بضعة أشهر اقتصر الأمر أثناءها على التراشق بالمجانيق والسهام, وألقوا حسك الحديد في الخندق بدل الماء مما أعاق عمليات المسلمين العسكرية. وجاءهم وهم على هذا الحال نبأ وفاة الإمبراطور هرقل في شهر "ربيع الأول 20هـ/ شباط 641م"1، ففت ذلك في عضدهم، واضطربوا لموته، وتراجعت قدرتهم القتالية، مما أعطى الفرصة للمسلمين لتشديد الحصار قبل أن يقتحموا الحصن في "21 ربيع الآخر 20هـ/ 9نيسان 641م"، وقد اعتلى الزبير بن العوام مع نفر من المسلمين، السور، وكبروا، فظن أهل الحصن أن المسلمين اقتحموا، فهربوا تاركين مواقعهم، فنزل الزبير، وفتح باب الحصن لأفراد الجيش الإسلامي فدخلوه في رواية أن الزبير ارتقى السور، فشعرت حامية الحصن بذلك، ففتحوا الباب لعمرو، وخرجوا إليه مصالحين، فقبل منهم، "ونزل الزبير عليهم عنوة حتى خرج على عمرو من الباب معهم، فاعتقدوا بعدما أشرفوا على الهلكة، فأجروا ما أخذ عنوة مجرى ما صالح عليه، فصاروا ذمة، وكان صلحهم: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم، وملتهم وأموالهم، وكنائسهم وصلبهم، وبرهم وبحرهم؛ لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقص، ولا يساكنهم النوب، وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح، فإن أبى أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزاء بقدرهم، وذمتنا ممن أبى بريئة، وإن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك، ومن دخل في صلحهم من الروم، والنوب فله مثل ما لهم، وعليه مثل ما عليهم، ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن يبلغ مأمنه، أو يخرج من سلطاننا، عليهم ما عليهم أثاثا في كل ثلث جباية ثلث ما عليهم، على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمته، وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير الؤمنين، وذمم المؤمنين، وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسًا، وكذا فرسًا، على ألا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة، ولا واردة، شهد الزبير وعبد الله ومحمد، ابناه، وكتب وردان وحضر"2.

_ 1 العريني: ص137، بتلر: ص297، وانظر هامش رقم1. 2 الطبري: ج4 ص108، 109، وردان هو مولى عمرو بن العاص.

تعقيب على صلح بابليون: - يتوافق مضمون هذا الصلح مع التوجهات الإسلامية العامة من واقع معاملة أهل البلاد المفتوحة، مثل منح السكان الأمام وحرية العبادة مقابل دفع الجزية. - حدد الصلح نوعين من الضرائب: الأول: الجزية، إلا أنه لم يحدد مقدارها ولا توزيعها بين السكان، وقد حددتها مصادر أخرى1 بدينارين دينارين على الرجال القادرين دون سواهم، فلا جزية على الأطفال، والنساء والشيوخ الفانين، والعجزة والرقيق. الثاني: الخراج على الأرض، وقد حدد مقداره لكن جعله متحركًا يتغير بتغير الوضع الاقتصادي الناتج عن نقصان ماء النيل، وهذا من عدل المسلمين في معاملة أبناء البلاد المفتوحة، كما أنه يدفع على ثلاثة أقساط في السنة، روى البلاذري أن عمرًا: "وضع على كل حالم دينارين جزية إلا أن يكون فقيرًا، وألزم كل ذي أرض مع الدينارين ثلاثة أرادب حنطة، وقسطي زيت وقسطي عسل وقسطي خل، رزقًا للمسلمين تجمع في دار الرزق، وتقسم فيهم"2، وكان رؤساء القرى يجتمعون لينظروا في الوضع الزراعي، ويحددون مقدار الخراج، فإذا كان المال فوق ما فرض على قريتهم، أنفق في إصلاح أحوالها. وكانت كل قرية تخصص قطعة من الأرض يعود ريعها لإصلاح الأبنية العامة مثل الكنائس والحمامات، وكانوا كذلك يقدرون ما يفرض على الناس من المال لضيافة المسلمين، وكان هذا حقًا من حقوق المسلمين عليهم، وكذلك ما كان يفرض من المال لضيافة الحاكم، وإكرامه إذا وفد عليهم3. - الملفت في هذا الصلح تنوع السكان العنصري وهم: - أهل مصر الوطنيين من الأقباط، وقد اختص الصلح بهم. - الروم، من رعايا وجنود الإمبراطورية البيزنطية الحاكمة، وكان وضعهم معلقًا على موافقة الإمبراطور، ولذلك ترك لهم حرية الاختيار بين المغادرة والدخول في الصلح، فإذا اختاروا الدخول في الصلح يصبح لهم ما للأقباط من حقوق وواجبات. - النوب، من رعايا بلاد النوبة الواقعة في جنوب مصر، والمعروف أن هذه البلاد شكلت آنذاك مملكة قوية، وكان رعايها يتاجرون مع الشمال، وقد اختلف وضعهم عن وضع البيزنطيين بوصفهم تجارًا، ففرض عليهم أن يعطوا المسلمين عددًا من

_ 1 البلاذري: ص218، ابن عبد الحكم: ص141، 151، 170، 266. 2 فتوح البلدان: ص216، 217. 3 ابن عبد الحكم: ص268، 269.

رءوس الماشية، والخليل مقابل السماح لهم بالتجارة، وإذا اختاروا الدخول في الصلح يصبح لهم ما للأقباط من حقوق وواجبات. - حمل الصلح أهل الحصن مسئولية تضامنية عما يقوم به لصوصهم من تعديات. أوضاع الإمبراطورية البيزنطية بعد وفاة هرقل: ساد الاضطراب عاصمة الإمبراطورية البيزنطية بعد وفاة هرقل بسبب النزاع الأسري على العرش، فقد عين هرقل قبل وفاته، ولديه الكبيرين لخلافته، وهما قنسطنطين الثالث ابن فابيا إيدوسيا البالغ من العمر ثمانية وعشرين عامًا، وهرقلوناس ابن مارتينا البالغ من العمر خمسة عشر عامًا، وحاول أن يجعل لزوجته مارتينا نصيبًا في الحكم، وأشار في وصيته إلى أنه ينبغي أن يشترك الأخوان معًا في الحكم، وأن يتساويا في المكانة والحقوق، ولحرصه على أن يجعل لمارتينا قدرًا من النفوذ المباشر في إدارة الدولة، أعلن في وصيته بأنه ينبغي أن تشترك الإمبراطورة الأم في الحكم1. عندما أعلنت مارتينا وصية زوجها لقيت معارضة شديدة من جانب أركان الحكم والشعب، فأثيرت نتيجة ذلك مسائل تتعلق بالوضع الدستوري العام، إذ أقر أفراد الشعب تولية الأخوين العرش غير أنهم لم يقروا باشتراك مارتينا في إدارة الشئون العامة، وأعلنوا أنها بوصفها امرأة لا تمثل الإمبراطورية، وليس لها أن تستقبل السفراء، وزعمت مارتينا لنفسها هذا الحق، ووقع الشقاق داخل شطري الأسرة الحاكمة2، وهكذا ساد الصراع الحياة العامة في العاصمة البيزنطية في وقت تعرضت فيه الإمبراطورية لخطر سياسي بالغ الشدة في الخارج. كان قنسطنطين الثالث أكثر أتباعًا، وأنصارًا من أخيه غير أنه كان مريضًا، وتوفي في "8 جمادى الآخرة 20هـ/ 25 أيار 641م" بعد أن حكم ثلاثة أشهر، وأضحى هرقلوناس متفردًا في الحكم، والواقع أن مارتينا هي التي كانت تسير شئون الدولة، فنفت أنصار قنسطنطين وقربت أنصارها، كان من بينهم البطريرك بيروس المونوثليستي3. كانت مصر في رأس اهتمامات مارتينا، إذ إن ضياع هذا البلد من شأنه أن يعرض الإمبراطورية لنقص في الأقوات، لذلك أسرعت باستدعاء المقوقوس من المنفي، ووضعت ثقتها فيه، وأعادته إلى منصبه السابق في مصر4.

_ 1 العريني: ص137. Ostrogorsky: p 100. 2 المرجع نفسه: ص138. 3. Ostrogorsky: p 100 4 Ibid

كان المقوقس لا يزال على رأيه أن لا جدوى من مقاومة المسلمين، ولكنه تظاهر بالاقتناع بحجج الذين يرون ألا يدخل البيزنطيون في صلح مع المسلمين، ووعدته مارتينا بمساعدته بالإمدادات الكبيرة، وجهزت السفن من أجل ذلك. أسرع المقوقس بالسفر إلى مصر على رأس جيش أعد لهذه الغاية، ورافقه عدد من القساوسة، ثم حدث أن تدهورت أوضاع مارتينا، وابنها هرقلوناس بعد أن انقلب أصحاب السلطة، والنفوذ في الإمبراطروية على حكومتهما، أمثال أعضاء الناتو، والقادة العسكريون، ورجال الدين الأرثوذكس، وظل الناس على كراهيتهم للإمبراطورة والبطريرك بيروس، وجرى اتهامهما بأنهما تآمرًا ضد قنسطنطين بدس السم له، وطالبوا بأن يكون العرش لابن قنسطنطين الثالث، ولم يكن يتجاوز الحادية عشرة من عمره، واتخذ اسم هرقل عند تعميده، غير أنه عند تتويجه اتخذ اسم قنسطنطين، وأطلق الناس عليه اسم قنسطانز، وهو مصغر قنسطنطين، وثارت القوات المسلحة المرابطة في آسيا الصغرى ضدهما، وزحفت نحو العاصمة حتى بلغت خلقدونية، فاضطر هرقلوناس للإذعان للثائرين، وتوج قنسطانز قسيمًا له في الحكم، غير أن هذا الإجراء لم يمنع سقوطه في شهر "شوال/ أيلول"، كما تقرر عزل مارتينا1، وتفرد قنسطانز بالحكم. الزحف نحو الإسكندرية: كان لسقوط حصن بابليون، ذلك الموقع العسكري الحصين الذي حدشت فيه أعظم طاقات البيزنطيين العسكرية في مصر، التأثير الجذري على مسار المعركة، فلم يعد هناك مجال للشك، بأن المبادرة قد أصبحت في أيدي المسلمين، وأن أبواب السيطرة قد فتحت أمامهم على هذه البلاد الواسعة، ويعد هذا السقوط بمثابة انهيار خط الدفاع الأول عن مصر، حيث إن الطريق بات مفتوحًا إلى الإسكندرية2. بعد الانتهاء من فتح حصن بابليون، طلب عمرو من الخليفة أن يأذن له بالزحف نحو الإسكندرية لفتحها، وضمها إلى الأراضي الإسلامية، وهو خطوة لا بد منها لاستكمال فتح مصر، ثم أخذ ينظم إدارة البلاد المفتوحة. والحقيقة أن الخليفة لم يتأخر في منح الإذن لقائده بالسير إلى الإسكندرية، وبخاصة أنه علم أن النيل سيعود بعد ثلاثة أشهر إلى مده وفيضانه، وأنه من الأفضل أن يسير جيش مصر إلى الإسكندرية قبل ذلك، وما لبث عمرو حين تسلم الإذن أن

_ 1 العريني: ص138، 139. 2 سالم، عبد العزيز: تاريخ الدولة العربية ص488.

زحف نحو الإسكندرية، وترك حامية عسكرية في حصن بابليون بقيادة خارجة بن حذافة السهمي1. كانت الإسكندرية في ذلك الوقت قصبة الديار المصرية، وثانية حواضر الإمبراطورية بعد القسطنطينية، وأول مدينة تجارية في العالم، وقد أدرك البيزنطيرون أن سقوطها في أيدي المسلمين من شأنه أن يؤدي إلى زوال سلطانهم من مصر، وقد عبر الإمبراطور البيزنطي عن ذلك بقوله: "لئن ظفر العرب بالإسكندرية لقد هلك الروم وانقطع ملكهم، فليس للروم كنائس أعظم من كنائس الإسكندرية"2، فأسرعوا بإرسال المقوقس على رأس قوة عسكرية، كما ذكرنا. وصل المقوقس إلى الإسكندرية في شهر "شوال 20هـ/ أيلول 641م"، وفي نيته الدخول في صلح مع المسلمين بسبب عجزه عن مواجهتهم، وبخاصة أنه بدت في الأفق السياسي ملامح انهيار الإمبراطورية البيزنطية، لكن يبدو أن أركان حربه رفضوا توجهه هذا، وأصروا على المقاومة. وكان عمرو قد غادر حصن بابليون في شهر "جمادى الأولى 20هـ/ أوائل أيار 641م"، وقد آثر السير على الضفة اليسرى للنيل حيث مديرية البحيرة اليوم، حتى لا تشكل الترع الكثيرة المنتشرة في جنوبي الدلتا عائقًا يؤخر زحفه، وقد ساعده بعض الأقباط في إصلاح الطرق وإقامة الجسور، كما اصطحب معه عددًا من زعمائهم ليكونوا أداة اتصال بينه، وبين من يلقاهم في طريقه، وهذا يعني أن سكان مصر الوطنيين كانوا على عداء مع البيزنطيين المحتلين لأرضهم، واستوعبوا أهمية الوجود الإسلامي الذي من شأنه أن يطرد هؤلاء من بلادهم. صادف عمرو والمسلمون أثناء سيرهم عدة عقبات عسكرية من جانب البيزنطيين، كان أولها في ترنوط3 حيث تصدت لهم قوة عسكرية إلا أنهم تغلبوا عليها، وتابعوا تقدمهم حتى وصلوا إلى نقيوس الواقعة على بعد عدة فراسخ من منوف، فأسرع سكانها إلى التسليم والإذعان، لكن حامية الحصن أصرت على المقاومة، وهذا يعني أن لم يكن هناك تنسيق بين السكان الوطنيين، والحاميات البيزنطية، ولعل مرد ذلك يعود إلى فقدان الثقة بين الجانبين بسبب العداء المستحكم

_ 1 البلاذري: ص231، 232. 2 ابن عبد الحكم: ص158. 3 المصدر نفسه: ص155، وترنوط: قرية بين مصر والإسكندرية، وهي كبيرة جامعة على النيل، الحموي: ج2 ص27.

بينهما، فاصطدم عمرو بأفراد الحامية وانتصر عليهم، ودخل نقيوس، وفرت فلول المنهزمين إلى الإسكندرية1. تابع عمرو تقدمه، واصطدم بقوة عسكرية بيزنطية أخرى عند سلطيس2، وتغلب عليها، وكان حصن كريون3 آخر سلسلة الحصون قبل الإسكندرية، وقصد اعتصم به تيودور قائد الجيش البيزنطي مع حامية قوية، كما تدفقت عليه الإمدادات من المناطق المجاورة، واشتبك الطرفان في عدة معارك على مدى بضعة عشر يومًا، كان بعضها شديدًا حتى إن عمرًا صلى يومًا صلاة الخوف4. وتمكن المسلمون أخيرًا من اقتحام الحصن، وتغلبوا على الحامية العسكرية، فقتلوا بعض أفرادها، وفر البعض الآخر إلى الإسكندرية للاحتماء بها، وكان تودور من بين هؤلاء، وطاردهم المسلمون حتى بلغوا الإسكندرية في "منتصف رجب 20هـ/ أواخر حزيران 641م"5. فتح الإسكندرية: أدرك عمرو، فور وصوله إلى الإسكندرية ودراسته للوضع الميداني، أن المدينة حصينة إذ يحيط بها سوران محكمان، ولها عدة أبراج ويحيط بها خندق يملأ من ماء البحر عند الضرورة للدفاع، وتتألف أبوابها من ثلاث طبقات من الحديد، ويوجد مجانيق فوق الأبراج، ومكاحل، وقد بلغ عدد جنود حاميتها بعد الإمدادات التي أرسلها الإمبراطور البيزنطي خمسين ألف جندي، ويحيمها البحر من الناحية الشمالية، وهو تحت سيطرة الأسطور البيزنطي، الذي كان يمدها بالمؤن والرجال والعتاد، وتحميها قريوط من الجنوب، ومن المعتذر اجتيازها، وتلفها ترعة الثعبان من الغرب، وبذلك لم يكن للمسلمين طريق إليها إلا من ناحية الشرق، وهو الطريق الذي يصلها بكريون، وكانت المدينة حصينة من هذه الناحية، ومع ذلك لم ييأس،

_ 1 بتلر: ص310، 311. 2 ابن عبد الحكم: ص156، وسلطيس: من قرى مصر القديمة، الحموي: ج3 ص236. 3 كربون: اسم موضع قرب الإسكندرية، الحموي: المصدر نفسه ج4 ص458. 4 ابن عبد الحكم: ص156، 157. 5 المصدر نفسه: ص157، بتلر: ص320، يذكر البلاذري أن عمرو بن العاص سار إلى الإسكندرية في سنة إحدى وعشرين، وهذا لا يتوافق مع التواريخ التي اعتمدناها منذ دخول المسلمين إلى مصر، انظر فتوح البلدان: ص221، والواقع أن الصعاب التي تواجه المؤرخ المعاصر في معالجته لتأريخ الفتوح كثيرة، حتى ليخيل إليه أن الوصول إلى الحقيقة فيها يكاد يكون مستحيلًا، وذلك من واقع الخلط، والتناقض في روايات المصادر الإسلامية بخاصة، مما ضلل المؤرخين المحدثين وحيرهم.

ووضع خطة عسكرية ضمنت له النصر في النهاية؛ قضت بتشديد الحصار على المدينة حتى يتضايق المدافعون عنها، ويدب اليأس في نفوسهم، فيضطروا للخروج للاصطدام بالمسلمين لتخفيف وطأة الحصار، وهكذا يستدرجهم ويحملهم على الخروج من تحصيناتهم ثم ينقض عليهم، لذلك نقل معسكره إلى مكان بعيد عن مرمى المجانيق، بين الحلوة وقصر فارس، استمر الوضع على ذلك مدة شهرين لم يخرج البيزنطيون من تحصيناتهم للقتال1، سوى مرة واحدة حيث خرجت قوة عسكرية بيزنطية من ناحية البحيرة، واشتبكت مع قوة إسلامية، ثم ارتدت إلى الحصن، ولعلها كانت بمثابة قوة استطلاع أو جس نبض. ورأى عمرو أن يقوم بعمل عسكري يشغل به جنوده، إذ إن الانتظار قد يؤثر على معنوياتهم القتالية، ويدفعهم إلى الخمول، فشغلهم بالغارات على الدلتا، وأبقى معظم جنوده على حصار الإسكندرية. ونتيجة لاشتداد الصراع في القسطنطينية بين أركان الحكم، انقطعت الإمدادات البيزنطية عن الإسكندرية، إذ لم يعد أحد منهم يفكر في الدفاع عنها، مما أثر سلبًا على معنويات المدافعين عنها، فرأوا أنفسهم معزولين ولا سند لهم، ومما زاد من مخاوفهم ما كان يقوم به المسلمون من غارات على قرى الدلتا والساحل، فإذا سيطروا عليه فسوف يقطعون الميرة عنهم. كان عمر بن الخطاب في المدينة ينتظر أنباء مصر، وهو أشد ما يكون استعجالًا لنبأ سقوط الإسكندرية في أيدي المسلمين، ولكن هذا النبأ أبطأ عنه أشهرًا، فراح يبحث عن السبب، وهو لم يقصر عن إمداد عمرو بما يحتاج إليه من المساندة التي تكفل له النصر، وخشي أن تكون خيرات مصر قد أغرت المسلمين، فتخاذلوا، وقال لأصحابه: "ما أبطأوا بفتحها إلا لما أحدثوا"2، ثم كتب إلى عمرو يقول له: "أما بعد، فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر، إنكم تقاتلونهم منذ سنتين، وما ذلك إلا لما أحدثتم، وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله تبارك وتعالى لا ينصر قومًا إلا بصدق نياتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر، وأعلمتك أن الرجل منهم مقاوم ألف رجل على ما كنت أعرف، إلا أن يكونوا غيرهم غيرهم، فإذا أتاك كتابي هذا، فاخطب الناس وحضهم على قتال عدوهم، ورغبهم في الصبر والنية، وقدم أولئك الأربعة في صدور الناس، ومر الناس جميعًا أن يكون لهم صدمة كصدمة رجل

_ 1 ابن عبد الحكم: ص157، 158. 2 المصدر نفسه: ص162.

واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة، فإنها ساعة تنزل فيها الرحمة، ووقت الإجابة وليعج الناس إلى الله، ويسألوه النصر على عدوهم"1. شكل كتاب عمر عامل دفع للمسلمين، فاقتحموا حصون الإسكندرية2، ففتحوها بحد السيف في "28 ذو القعدة 20هـ/ 8 تشرين الثاني 641م" بعد حصار دام أربعة أشهر ونصف3، وفر البيزنطيون منها بكل اتجاه للنجاة بأنفسهم، وأذعن سكانها من الأقباط، واستبقى عمرو أهلها، ولم يقتل ولم يسب، وجعلهم ذمة كأهل حصن بابليون4. تتباين روايات المصادر حول كيفية فتح الإسكندرية، أكان عنوة أو صلحًا؟. ويذكر البلاذري أن المسلمين قاتلوا الحامية البيزنطية قتالًا شديدًا، وحاصروهم مدة ثلاثة أشهر، ثم إن عمرًا فتحها بالسيف، وغنم ما فيها واستبقى أهلها، ولم يقتل ولم يسب، وجعلهم ذمة كأهل بابليون، ويخالف ابن إسحاق البلاذري، في روايته حول فتح الإسكندرية، فيذكر أنها فتحت صلحًا، وليس عنوة على الرغم من أن كلا الطرفين، الإسلامي والبيزنطي في مصر، استعدا للقتال الذي أمكن تجنبه في اللحظة الأخيرة، وتشير هذه الرواية إلى أن المسلمين فتحوا الكثير من القرى حتى وصلوا إلى الإسكندرية، وكانت سباياهم من فتوح هذه القرى عظيمة جدًا، وقد بلغت المدينة ومكة واليمن، حتى إذا وصل إلى بلهيب راسله صاحب الإسكندرية، وعرض عليه الجزيرة مقابل رد السبايا، فأرسل عمرو كتابًا إلى عمر يستشيره، فجاءه الجواب بالموافقة على أن يخير السبايا بين البقاء على دينهم وعليه الجزية، وبين الدخول في الإسلام، فترفع الجزية عنهم، أما من تفرق في الجزيرة العربية، "فإنا لا نقدر على ردهم، ولا نحب أن نصالحه على أمر لا نفي له به"5. وتشير الرواية النصرانية أن الإسكندرية فتحت صلحًا، فيذكر حنا النقيوسي أن

_ 1 ابن عبد الحكم: ص162، 163. 2 كانت الإسكندرية تتألف من عدة حصون متداخلة حصن دون حصن. المصدر نفسه: ص157. 3 تتباين روايات المصادر والمراجع حول تاريخ فتح الإسكندرية، والراجح أن التوارخ التي اعتمدنا عليها هي أقرب إلى الصحة من واقع حصول الأحداث. انظر: ابن عبد الحكم: ص163، 164، البلاذري: ص221، 222، الطبري: ج4 ص105، المقريزني: ج1 ص303-310، بتلر: ص343، هيكل: ج2 ص142، 143. 4 البلاذري: ص222. 5 المصدر نفسه: ص222، 223، ابن عبد الحكم: ص157، 159-170. وقارن بالطبري: ج4 ص105، 106.

قيرس -المقوقس- لم يكن وحده الذي رغب في السلام، وإنما رغب فيه السكان والحكام، ودومنتيانوس الذي كان مواليًا للإمبراطورة مارتينا، ولذا اجتمعوا واتفقوا مع قيرس على إنهاء الحرب يعقد الصلح مع المسلمين، وذهب قيرس إلى بابليون حيث كان عمرو بن العاص هناك بعد غاراته على الدلتا، وعقد معه معاهدة يصح أن نطلق عليها معاهدة بابليون الثانية، تمييزًا لها عن المعاهدة الأولى، أو أن نسميها معاهدة الإسكندرية؛ لأنها كانت خاصة بأهل الإسكندرية وحاميتها، وأهم ما جاء في هذه المعاهدة: - أن يدفع الجزية كل من دخل في العقد. - أن تعقد هدنة مدتها أحد عشر شهرًا تنتهي في أول شهر بابه القبطي، الموافق للثامن والعشرين من شهر أيلول عام 642م. - أن يبقى المسلمون في مواضعهم خلال مدة هذه الهدنة على أن يعتزلوا وحدهم، ولا يسعوا أي يسعى لقتال الإسكندرية، وأن يكف الروم عن القتال. - أن ترحل مسلحة الإسكندرية في البحر، يحمل جنودها معهم متاعهم وأموالهم جميعًا، على أن من أراد الرحيل من جانب البر فله أن يفعل، على أن يدفع كل شهر جزءًا معلومًا ما بقي في أرض مصر في رحلته. - أن لا يعود جيش من الروم إلى مصر، أو يسعى لردها. - أن يكف المسلمون عنأخذ كنائس المسيحيين، ولا يتدخلوا في أمورهم أي تدخل. - أن يباح لليهود الإقامة في الإسكندرية. - أن يبعث الروم رهائن من قبلهم، مائة وخمسين من جنودهم وخمسين من غير الجند، ضمانًا لإنقاد العقد1. والراجح أن الإسكندرية فتحت عنوة، غير أن عمرو بن العاص عامل أهلها كأهل ذمة لأسباب سياسة تتعلق بالمحافظة على مكتسبات الفتح من جهة، والتفرغ لتنظيم إدارة البلاد من جهة أخرى، بالإضافة إلى الانطلاق لتحقيق فتوح جديدة على ساحل شمالي إفريقية. ذيول فتح الإسكندرية: زال السلطان البيزنطي عن مصر كلها بعد فتح الإسكندرية، باستثناء بعض

_ 1 انظر: بلتر ص334-343.

الجيوب المنتشرة في أماكن متفرقة من الدنيا، إلا أنها كانت محصورة ومعزولة لا فاعلية لها، وحتى يحافظ المسلمون على مكتسبات الفتح كان عليهم إحكام سيطرتهم على قرى الساحل، وطرد الحاميات البيزنطية من هذه الجيوب. والواقع أن هذه المسالح البيزنطية لم تقاوم المسلمين باستثناء بعض القرى الساحلية، أو القريبة من الساحل أمثال: إخنا القريبة من الإسكندرية، وبلهيب الواقعة في جنوبي رشيد، والبرلس، ودمياط، وتنيس، ولكن سرعان ما أخضعها المسلمون، فأمنوا بذلك الساحل من العريش إلى الإسكندرية، وتحطمت مقاومة البيزنطيين1.

_ 1 ابن عبد الحكم: ص170، 171.

أثر الفتح الإسلامي على أوضاع الأقباط

أثر الفتح الإسلامي على أوضاع الأقباط: الأثر الديني: تعرض الأقباط في مصر قبل الفتح الإسلامي لاضطهاد قاس على أيدي البيزنطيين، ومن ثم رأوا في القوة الإسلامية الداخلة، الأمل بالخلاص مما هم فيه، فساندوها، ورحبوا بدخول المسلمين أرض مصر، لكن هذه المساندة كانت صامتة في بادئ الأمر، أي حيادية. وشكلت انتصارات المسلمين وإخضاعهم البلاد، نصرًا دينيا للأقباط حيث غادر البلاد عدد كبير من البيزنطيين، ولما استقرت الأوضاع، وكانت أخبار العهدة العمرية الخاصة ببيت المقدس قد تسربت إلى مصر، لقي الأقباط من الحكم الجديد ما شعروا معه بكثير من الحرية. ولعل أول عمل قام به عمرو بن العاص بعد استقرار الأوضاع الداخلية؛ الإعلان بين الناس جميعًا أن لا إكراه في الدين، وأن حرية العقيدة أمر مقدس، فلن يتعرض لأحد في حريته، أو في ماله بسبب دينه أو مذهبه، وخيرهم بين الدخول في الإسلام والبقاء على دينهم، فمن يدخل في الإسلام يكون له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم. والواقع أن عمرًا انتهج سياسة المساواة الدينية بين المذهبين النصرانيين اللذين استمرا في مصر، وتذكر روايات المصادر أن كثيرًا من كنائس الملكانيين بقيت موجودة، واستمرت في إقامة الشعائر الدينية، وأن عددًا كبيرًا من الملكانيين فضلوا البقاء في مصر؛ وأن أسقفًا ملكانيًا بقي على مذهبه حتى مات لم يمسه أحد بأذى، وأن البطريرك القبطي بنيامين الذي عاد إلى الإسكندرية بعد أن قضى ثلاثة عشر عامًا

لاجئًا متخفيًا خشية أن يقبض عليه، أعيد إلى مركزه، وأضحى بإمكانه أن يقوم بواجباته الدينية وهو مطمئن، وكان يستقطب الناس إلى مذهبه بالحجة والإقناع، واستطاع ان يحصل على بعض الكنائس التي تركها الملكانيون بعد خروجهم، وضمها إلى كنائس البطريركية، ولما عاد إلى الإسكندرية قال لأتباعه: "عدت إلى بلدي الإسكندرية، فوجدت بها أمنًا من الخوف، واطمئنانًا بعد البلاء، وقد صرف الله عنا اضطهاد الكفرة وبأسهم"1. كان من أثر الحرية الدينية، والمعاملة السمحة أن أقبل كثير من الأقباط على النظر في المذاهب المختلفة، ثم انتهى أكثر هؤلاء إلى قبول الإسلام، والدخول فيه. الأثر الإداري: خلت بخروج البيزنطيين بعض الوظائف الحكومية التي كان يشغلها هؤلاء؛ ولأن المسلمين لم يكن لهم عهد بعد بالشئون الإدارية، وكان يهمهم أن تستمر الإدارة في العمل، وأن تجمعل الضرائب، بغض النظر عما يختص بالعاملين في الحقل الوظيفي؛ فقد فتحوا أبواب العمل أمام القادرين، والراغبين من الأقباط، والمعروف أن الإدارة الإسلامية الجديدة احتفظت بثلاثة موظفين بيزنطيين في مراكز إدارية كبيرة هي: حاكمية مصر السفلى وتولاها ميناس، وحاكمية منطقة الفيوم، وتولاها فيلوخينوس، وحاكمية الريف الغربي، وتولاها سنيوتيوس2. وبفعل هيمنة الموظفين الأقباط على العمل الإداري، أضحت اللغة القبطية اللغة الرئيسة في الإدارة، ولغة الدواوين، فحلت بذلك محل اللغة اليونانية، وحافظ المسلمون على الأساليب البيزنطية في تدوين الدواوين وجمع الضرائب، فانتعشت الثقافة القبطية مجددًا، وأخذت تملأ الفراغ الذي نتج عن الخروج البيزنطي، واعتنى الأقباط بتعلم اللغة العربية؛ لأنها كانت لغة الفاتحين، واحتفظ المسلمون بقيادة الجند والقضاء. الأثر الاقتصادي: كانت مصر تتعرض بين سنة، وأخرى لضائقة اقتصادية ناتجة عن انخفاض ماء النيل مما يسبب خلًا في المعادلة الاقتصادية، وقد عانى المصريون كثيرًا من هذه

_ 1 المقريزي: ج4 ص407، 408، بتلر: ص456-460. 2 بتلر: ص384.

الظاهرة، وقد أدرك عمروبن العاص ذلك، فخفف عن المصريين كثيرًا من الضرائب التي فرضها البيزنطيون عليهم، والمعروف أن الضرائب البيزنطية، كانت كثيرة ومتنوعة، وتناولت معظم النشاط الاقتصادي والاجتماعي، وسوى بينهم في أدائها، كما أعفى بعضهم منها. ويذكر في هذا المقام أن الخليفة كتب إلى عمرو أن يسأل المقوقس في خير وسيلة لحكم البلاد وجباية أموالها، فأشار عليه المقوقس بالشروط التالية: - أن يستخرج خراج مصر في وقت واحد، عند فراغ الناس من زروعهم. - أن يرفع خراجها في وقت واحد، عند فراغ أهلها من عصر كرومهم. - أن تحفر خلجانها كل عام. - أن تصلح جسورها وتسد ترعها. - ألا يختار عامل ظالم ليلي أمورها1. ونتيجة لهذه التوصيات رسم المسلمون خطة جباية الخراج، واعتنوا بهندسة الري، من حفر الخلجان وإصلاح الجسور، وسد الترع، وبناء مقاييس للنيل، وإنشاء الأحواض والقناطر، ولعل من أشهر ما قام به عمرو، هو حفر خليج تراجان الذي يصل النيل بالبحر الأحمر، ويسهل الاتصال بالجزيرة العربية، ويؤمن طريقًا أفضل للتجارة الشرقية، يبتدئ هذا الخليج من شمالي بابليون، ويتجه شمالًا بشرق إلى بلبيس، ثم ينحرف شرقًا إلى بحيرة التمساح ليخرج من جنوبي هذه البحيرة إلى البحيرات المرة، ويبلغ البحر الأحمر عند السويس. وكان من أثر هذه الإصلاحات أن تحسنت حالة الأقباط، وزادت ثرواتهم، واطمأنوا على أرواحهم، وممتلكاتهم ومستقبلهم، ونعموا بالهدوء والاستقرار، وازدادت إلفتهم بالمسلمين مع مرور الوقت، ودخل كثير منهم في الإسلام. ويبقى أن نذكر أن الرأي السائد آنذاك، كان أن يبقى المسلمون على رباطهم لا يشتغلون بالزراعة، ولا يحلون بالبلاد كأهلها، فلما اطمأنوا في البلاد أخذ ذلك الحظر يرفع عنهم، وأبيح لهم أن يمتلكوا الأراضي. بناء الفسطاط 2: بعد أن فرغ عمرو بن العاص من فتح الإسكندرية، وأجلى البيزنطيين عنها

_ 1 ابن عبد الحكم: ص280. 2 الفسطاط: للعرب ست لغات في الفسطاط، يقال: فُسطاط وفِسطاط وفُساط وفِسّاط وفُستاط، وفَستاط =

وطردهم من مصر، هم أن يستقر بها لما فيها من عمران، وكتب بذلك إلى عمرو في المدينة، فسأل عمر رسول عمرو "هل يحول بيني وبين المسلمين ماء؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين إذا جرى النيل، فكتب إلى عمرو: إني لا أحب أن تنزل بالمسلمين منزلًا يحول الماء بيني وبينهم في شتاء ولا صيف"، لا تجعلوا بيني وبينكم ماء، متى أردت أن أركب إليكم راحلتي حتى أقدم عليكم، قدمت"1. الواقع أن مدينة الإسكندرية لم تكن صالحة، لأن تكون حاضرة مصر الإسلامية إذ إن انتقال السيادة عليها من البيزنطيين إلى المسلمين المنطلقين من الجزيرة العربية، يحتم على هؤلاء أن يختاروا مكانًا لإقامتهم يقع إما على ساحل البحر الأحمر، وإما في مكان يسهل معه الاتصال ببلاد العرب، ولما لم يكن للمسلمين عهد بالبحر بعد، لذلك كان الاختيار الثاني هو الحل المناسب. كان عمرو قد أقام قبة إلى جوار حصن بابليون أثناء حصاره، وسمى المسلمون الذين معه هذه القبة الفسطاط، فلما فتحوا الحصن وقرر عمرو الزحف نحو الإسكندرية أمر بنزع الفسطاط، فإذا به يمام قد أفرخ، فقال: "لقد تحرم منها بمحترم، فأمر به فأقر كما هو" حتى يطير الفراخ، وأوصى به حاكم القصر. فلما عاد من الإسكندرية بعد فتحها أمر جنوده أن ينزلوا عند الفسطاط، وأن يختطوا دورهم فيها2. والواقع أن عمرًا أراد أن يبني مدينة جديدة للمسلمين في السهل الذي يلي حصن بابليون، وبينه وبين جبل المقطم، وكان هذا المكان هو موضع معسكره، وذلك لعدة أسباب لعل أهمها: - تجنب السكن داخل الحصن، إذ ليس من العدل أن يخرج المسلمون أهله منه ليحلوا محلهم. - عدم الإقدام على تصرف من شأنه أن يشير التذمر، أو الشكوى من جانب المصريين.

_ = وبجمع فساطيط، وأما معناه فإن الفسطاط الذي كان لعمرو بن العاص هو بيت من أدم أو شعر، وقال صاحب العين: الفسطاط ضرب من الأبنية، قال: والفسطاط أيضًا مجتمع أهل الكورة حوالي مسجد جماعتهم، يقال: هؤلاء أهل الفسطاط، وفي الحديث: عليكم بالجماعة فإن يد الله على الفسطاط، يريد المدينة التي يجتمع فيها الناس، وكل مدينة فسطاط، قال: ومنه قيل لمدينة مصر التي بناها عمرو بن العاص الفسطاط، الحموي: ج4 ص263، 264، ويذكر بعض العلماء أن كلمة الفسطاط مأخوذة من كلمة Fossatum البيزنطية الأصل، ومعناها العسكر أو المدينة المحصنة، وأن العرب سموها في الشام، وفي مصر، فأدخلوها لغتهم، بتلر: ص361. 1 ابن عبد الحكم: ص179، 180. 2 المصدر نفسه: ص181.

- خلق بيئة مناسبة لسكن المسلمين يعيشون فيها على نحو مألوف، وتقيم فيها أسرهم. يقع الفسطاط على ملتقى فروع النيل المنتشرة في الدلتا مع المجرى الرئيسي للنهر، تحيط به البساتين والأشجار والنخيل، وهو على حافة الصحراء، لا يفصل بينه وبين الحجاز ماء، وفي استطاعة الخليفة أن يركب إليه راحلته حتى يبلغه دون أن يعبر ماء في طريقه، كما يؤمن المركز المشرف على قسمي الديار المصرية الشمالي والجنوبي. روى البلاذري أن الزبير هو الذي اختط المدينة، واتخذ لنفسه دارًا فيها وجعل فيها السلم الذي صعد عليه إلى سور الحصن، وبقي ذلك السلم فيها حتى احترق في السلم الذي صعد عليه إلى سور الحصن، وبقي ذلك السلم فيها حتى احترق في حريق1، وذكر الحموي أن عمرو بن العاص ولى على الخطط، معاوية بن حديج، وشريك بن سمي، وعمرو بن قحزم، وجبريل بن ناشرة المعافري، فكانوا هم الذين نزلوا القبائل، وفصلوا بينهم2. من المستبعد أن تكون مدينة الفسطاط قد جعلت عند اختطاطها مدينة كبيرة، أو أنه كان يقصد منها أن تكون عاصمة للمسلمين، لكنها وإن ابتدأت صغيرة، قد نمت نموًا سريعًا بعد سنة من تأسيسها، فقد رأى المسلمون أنهم يستطيعون البناء خارج أسوار الحصن، ويتوسعون لا يخافون شيئًا بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وأمنوا الغدر من أن يأتيهم من جانب المصريين. بناء المسجد الجامع: كان أول عمل يقوم به المسلمون عادة بعد أن يؤسسوا مدينة، بناء المسجد الجامع ودارًا للحكومة، ثم يختطون حولهما، وهكذا بنى عمرو بن العاص المسجد الجامع في محلة الراية3 وسط البساتين والكروم، وهو أول مجسد أسس في الديار المصرية. وكان قد نزل في هذا المكان أبو عبد الرحمن قيسبة بن كلثوم التجيبي، أحد بني سوم، سار من الشام إلى مصر مع عمرو بن العاص، ولما اختط عمرو داره مقابل تلك الجنان التي نزل بها قيسية، وتشاور المسلمون أين يكون المسجد الجامع، رأوا أن يكون منزل قيسبة، فلما طلبه عمرو منه تنازل عنه صدقة للمسلمين4.

_ 1 فتوح البلدان: ص215. 2 معجم البلدان: ج4 ص263. 3 نسبة إلى الراية التي أقامها عمرو بن العاص لبعض البطون، إذ لم يكن لكل بطن منهم من العدد ما ينفرد بدعوة من الديوان، فكره كل بطن منهم أن يدعي باسم قبيلة غير قبيلته، فجعل لهم عمرو راية ولم ينسبها إلى أحد، يكون موقفهم تحتها، فسميت المحلة بمحلة الراية. 4 المقريزي: ج4 ص6.

كان هذا المسجد في الأصل بسيطًا من حيث البناء والمظهر، ولم يكن له صحن، ثم ظهر ضيقه بالمسلمين، فكان هؤلاء يصطفون للصلاة في الفضاء أمامه، لذلك زيدت فيه عدة زيادات على مر الأيام كان أولها ما زاده مسلمة بن مخلد الأنصاري في عام "53هـ/ 673م"، فإنه مده إلى جهة الشمال، وفرشه بالحصر بدل الحصباء1. ودعي هذا المسجد بـ الجامع العتيق، وجامع عمرو بن العاص، وتاج الجوامع2.

_ 1 الحموي: ج4 ص265، المقريزي: ج4 ص8. 2 المصدر نفسه: ص5.

التوسع نحو الغرب

التوسع نحو الغرب: فتح برقة 1: من الصعب استنباط دوافع عمرو بن العاص التوسعية باتجاه الغرب في أعقاب فتح الإسكندرية، فقد تكون: - جزءًا من الخطة التي استهدفت مصر. - أو نتيجة لظروف طارئة واجهت القيادة العسكرية، فارتأت ضرورة تأمين الغطاء الدفاعي للحدود الغربية، بفتح مواقع أخرى تشغلها حاميات عسكرية، ومراكز مراقبة. - أو نتيجة غريزة التوسع لدى القائد الإسلامي. الواضح أن الحملة التي قام بها عمرو بن العاص في هذا الاتجاه، والتي أثمرت عن فتح برقة وطرابلس2، لم تكن عملًا مخططًا له، إذ لم تكن هناك خطة مسبقة للفتح المنظم في ذلك الوقت، تتعدى مصر، وربما قدر عمرو أن تكون للبيزنطيين قوات في برقة، وطرابلس قد تغريهم بالتحصن هناك، والتربص حتى تحين الفرصة للثأر، والعودة إلى مصر لاستعادتها، فكان عليه فتح هذه المنطقة، وتأمين مركز المسلمين في مصر. لذلك خرج بقواته من الإسكندرية في عام "22هـ/ 643م"، بعد أن اطمأن على استقرار الأوضاع في مصر، وتوجه نحو برقة التابعة للإمبراطورية البيزنطية، وتسكنها قبيلة لواتة البربرية3، لم يكن الطريق إلى برقة آنذاك صحراويًا، بل كانت عليه

_ 1 برقة: اسم صقع كبير يشتمل على مدن، وقرى بين الإسكندرية وإفريقية، واسم مدينتها أنطابلس، وتفسيره الخمس مدن، بينها وبين الإسكندرية مسيرة شهر، الحموي: ج1 ص388، 389. 2 طرابلس: مدينة في شمالي إفريقية على شاطئ البحر، ومعناها بالرومية والإغريقية ثلاث مدن، الحموي: ج4 ص25. 3 ابن عبد الحكم: ص294، ابن الأثير: ج2 ص408، وقارن بالحموي: ج1 ص389.

سلسلة من المدائن والمنازل متصلة، وأكثره أرض خصبة ذات زرع، كانت الرحلة بمثابة نزهة للمسلمين، فلم يصادفوا مقاومة تذكر، فاستسلمت المدينة، ورضي أهلها بدفع الجزية، ومقدارها ثلاثة عشر ألف دينار سنويًا، وتضمن الصلح شرطين ملفتين: الأول: أنه أبيح لسكان برقة أن يبيعوا من أحبوا من أبنائهم ليؤمنوا الجزية المفروضة عليهم، ويبدو أن عادة بيع الأبناء كانت شائعة في أوساط هذه القبيلة، فلم يحرمه المسلمون إلا على من أسلم. الثاني: أنه كان على سكان برقة أن يحملوا الجزية إلى مصر، حتى لا يسمح بدخول الجباة إلى بلادهم1، وأرسل عمرو عقبة بن نافع حتى بلغ زويلة2، وأضحى ما بين برقة إلى زويلة خاضعًا للمسلمين3. فتح طرابلس الغرب: وسار عمرو بن العاص من برقة إلى طرابلس، وكانت مرفأ حصينًا فيه حامية بيزنطية قوية، فأقفلت أبوابها، واستعد السكان للحصار الذي ضربه المسملون عليهم، وأملوا في تلقي إمدادات عن طريق البحر تساعدهم على الصمود، والمعروف أن الجبهة البحرية كانت مفتوحة وغير محصنة، وذلك بفعل اعتمادها على قوة البحرية البيزنطية، وانقضت عدة أسابيع دون أن يلوح في الأفق ما يشير إلى إمكان وصول المساعدة، المنتظرة، وتعرض المدافعون عنها إلى الهلكة نتيجة الجهد في القتال وشدة الجوع، وعلم المسلمون آنذاك أن الجهة البحرية خالية من الدفاعات وغير محصنة، وأنهم يستطيعون النفاذ إليها من هناك، فدخلت جماعة منهم بين أسوار المدينة، والبحر وقاتلت الحامية المولجة بالدفاع عن هذه الجهة، وصاح أفرادها "الله أكبر"، فترددت أصداء التكبير في طرقات المدينة وأزقتها، ولمعت سيوف المسلمين بفعل انعكاس أشعة الشمس، فذعر المدافعون عن المدينة، ودبت الفوضى في صفوفهم، فحملوا ما استطاعوا من متاعهم، وأسرعوا إلى السفن، وأبحروا عليها هاربين، ولما رأى الحراس فرار الحامية تركوا مراكزهم، فدخل عمرو وجيشه إلى المدينة4.

_ 1 ابن عبد الحكم: ص293-295، البلاذري: ص225-227. 2 زويلة: بلدان أحدهما زويلة السودان مقابل أجدابية في البر بين بلاد السودان وإفريقية، وزويلة مدينة غير مسورة في وسط الصحراء، وهي أول حدود بلاد السودان، الحموي: ج3 ص159، 160. 3 ابن عبد الحكم: ص295. 4 المصدر نفسه: ص296، البلاذري: ص227.

وأرسل عمرو فرقًا عسكرية جابت المناطق المجاورة، وسار هو على وجه السرعة إلى مدينة سبرت1، وهاجمها صباحًا على حين غرة، وذعر السكان، وقد ظنوا أن المسلمين، لا يزالون يحاصرون طرابلس، واضطروا إلى فتح أبواب المدينة عند أول هجمة إسلامية، واحتوى المسلمون على ما فيها؛ لأنها فتحت عنوة2. وكتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في الزحف إلى تونس، وما وراءها من شمالي إفريقية، فلم يأذن له، وربما خشي عمر من تفرق المسلمين في بلاد واسعة، ولما تثبت أقدامهم فيها3. تأمين حدود مصر الجنوبية: تطلع عمرو بن العاص، بعد عودته من الغرب؛ إلى الجنوب لإخضاع بلاد النوبة وتأمين حدود مصر الجنوبية، فأرسل عقبة بن نافع إلى هذه البلاد، فقاتله أهلها قتالًا شديدًا ارتد عقبة على أثره، ولم يعقد صلحًا ولا هدنة4، والمعروف أن أهل النوبة اشتهروا برمي النبل، فلا يخطئون، وكانوا يتحرون الأعين فيرمونها فيفقأونها، فسماهم المسلمون رماة الحدق، وظل المسلمون يناوشون النوبيين من وراء الحدود5.

_ 1 سبرت: اسم مدينة بإفريقية، وهي نبارة، وسبرت السوق القديم، ونبارة هي قصبة لكورة طرابلس. انظر ابن عبد الحكم: ص296. 2 المصدر نفسه. 3 المصدر نفسه: ص297. 4 اليعقوبي: ج2 ص49. 5 البلاذري: ص238، بلتر: ص448.

الفصل العاشر: الدولة الإسلامية في عهد عمر-مقتل عمر

الفصل العاشر: الدولة الإسلامية في عهد عمر-مقتل عمر مدخل ... الفصل العاشر: تنظيم الدولة الإسلامية في عهد عمر-مقتل عمر نظام الحكم: كان عهد عمر بن الخطاب عهد فتوح، كما رأينا، حالف النصر فيه المسلمين، فامتدت رقعة دولتهم حتى جاورت أفغانستان، والصين شرقًا والأناضول، وبحر قزوين شمالًا وتونس غربًا، وبلاد النوبة جنوبًا، وكان لا بد لهذه الدولة المترامية الأطراف من تنظيم حتى تستمر، وقدر لعمر بن الخطاب أن يكون رائد هذا التنظيم بما استوحى من نهج من سبقه، النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر الصديق، وربما طرأ على أوضاع المسلمين السياسية، والاجتماعية والاقتصادية بفعل احتكاكهم الحضاري بشعوب البلاد المفتوحة، ونمو الدولة بسرعة مذهلة، فكان على حاكمها أن يتابع هذا التطور في النمو. التفت عمر، في بادئ الأمر، إلى تنظيم مركز القوة الدافعة في بلاد العرب، ثم عمل على توثيق الروابط بين أجزاء الدولة، وتأكيد تضامنها، فإن التطور الذي طرأ على أجهزة الحكم في عهده يعد نقلة نوعية في إطار بناء الدولة بما يتجاوز مفهوم العرب لها. كانت الدلالة المباشرة للخلافة، أن الخليفة هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينتهج نهجه، ويسلك مسلكه، ولعل الماوردي كان الأكثر دقة في تحديد المفهوم الإسلامي لهذا الاصطلاح الذي تم التداول به بين المسلمين بشكل عفوي: "الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حرساة الدين، وسياسة الدنيا وعقدها لمن يقوم في الأمة واجب الإجماع"1. لم يحدد النبي محمد صلى الله عليه وسلم قبل وفاته ماهية الخلافة لا في الشكل، ولا في

_ 1 الأحكام السلطانية: ص5.

المضمون، وهو الذي تولى هذا المنصب كرجل دولة بالإضافة إلى سلطته كنبي. وهذا التغيير العملي الذي طبقه، والذي يختلف عن الأطر الجاهلية المعروفة عبر الانسجام المطلق في الصلاحيات؛ هو الذي حدد الإطار العام لمؤسسة الدولة الإسلامية، وتعد هذه الممارسة المزدوجة من جانبه أول ظاهرة في التاريخ1. وحافظ أبو بكر الصديق على روحية هذا الإطار العام، إلا أنه أعطى الخلافة دورًا محددًا، ومضمونًا خاصًا اتضح في العهود اللاحقة، على الرغم من أنه لم يتمكن من أن يعطي منصب الخلافة شخصية، أكثر تفصيلًا، وذلك بفعل ولايته القصيرة، وانهماكه في إخضاع المرتدين بالإضافة إلى الفتوح التي ابتدأت في عهده، وقد وقع عبء هذه المهمة بالضرورة على عاتق عمر بن الخطاب الذي وجد نفسه أمام ظروف مستجدة لا يمكن تجاوزها، لا سيما في مجال حالات خاصة ليست لها سابقة لا في عصر الرسالة، ولا في عهد سلفه، وقد دفعته إلى أن يتخذ صفة تشريعية، كذلك، لمعالجة المواقف الطارئة التي واجهت الحكم. شكلت هذه الازدواجية، بين فكرة الخلافة بمفهومها الروحي، وبين مؤسسة الدولة كنظام سياسي، الخطوة الأولى في مسيرة الدولة الإسلامية منذ عهد عمر بن الخطاب2، والمعروف أن النظام السياسي يشمل: الفكر السياسي، والنظم السياسية بما فيها الدستور والحكومة المركزية، والحكومات الإقليمية، والمحلية والإدارة العامة، والوظائف الاقتصادية، والاجتماعية للحكومة، والنظم السياسية المقارنة، والأحزاب والجماعات والهيئات، ودور الفرد في الحكومة والرأي العام3. وبعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وظهور نواة الدولة الإسلامية، تمثلت المبادئ الخاصة بها بمضمون الوثيقة التي حددت قواعد السلوك الداخلي، والتعايش بين فئات المجتمع المدني، ووضعت الأسس للعلاقات الخارجية، وعالجت شئون الحرب. لكن هذا النظام على الرغم من أنه لبى حاجة ماسة إليه في ذلك الوقت، وأحدث انقلابًا في قوانين التعامل الاجتماعي، والعلاقات السياسية، فإنه ظل لمدة في النطاق الحجازي دونما حاجة إلى تطوير، وذلك في عصر الرسالة، وعهد أبي بكر الذي لم يكن بوسعه أن ينصرف عن إخضاع المرتدين، ومواجهة الفرس والبيزنطيين، إلى

_ 1 بيضون: ص86. 2 المرجع نفسه: ص87. 3 عيسى، محمد خيري؛ وغالي، بطرس بطرس: المدخل في علم السياسة ص4- 8.

تفصيل النظام الملائم للوضع لاجديد في ظل عدم تجانس المجتمع الإسلامي الجديد، حيث لم تكن وحدة الدولة قد استقرت بعد. وبعد الانتشار الإسلامي السريع في عهد عمر، والاحتكاك بشعوب البلاد المفتوحة التي تمتلك تجربة في شئون الحكم والعلاقات السياسية؛ أضحى هذا النظام بحاجة إلى تطوير ليتماشى مع الظروف البيئية، والاجتماعية والسياسية الجديدة، وهي في مضمونها استجابة حتمية لتحديات ما أفرزته الفتوح. والواقع أن نظام الحكم في عهد عمر هو استمرار للأساس الذي قام عليه في عهد النبي، وعهد أبي بكر من بعده، وهو أن الخليفة يجمع في يده، من حيث المبدأ، السلطة المطلقة وفقًا لشروط، وأعراف غير مكتوبة، غير أن القرارات لم تأخذ طابعها الفردي المحض، بل كان هناك ثلاثة أنواع من المجالس الاستشارية غير الرسمية، ولم تكن هذه المجالس يومئذ نطاقًا غايته الحد من سلطان الخليفة، كما لم يكن لأصحاب الرأي الذين يستشارون حقوق يفرضونها عليه، بل كان الخليفة مطلق الصلاحية، وهو الذي يختار من يستشيرهم، ثم كان يفاضل بين آرائهم، فيأخذ منها ما يشاء، ويدع ما يشاء. كان المهاجرون والأنصار هم أهل الرأي، والمشورة في عهد النبي يلتفون من حوله، ويستمعون منه ويشيرون عليه، ويسيرون معه، فلما كان عهد أبي بكر انساح كثير منهم في العراق، وفي بلاد الشام، وبقي بعض كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار إلى جانبه، واستمروا في عهد عمر. أما المجالس الاستشارية الثلاثة، فهي: 1- مجلس المهاجرين والأنصار: يتشكل هذا المجلس من كبار الصحابة من المهاجرين، والأنصار من ذوي الخبرة والتجربة، فكانوا يزودون الخليفة بالنصيحة، ويتناقشون معه في القضايا الهامة، فإذا طرأ أمر يحتاج إلى التدبير كان أعضاء هذا المجلس يجتمعون، والمعروف أن عامة المسلمين اعترفوا بتقدم المهاجرين والأنصار وأسبقيتهم، فكان اشتراك أعضاء من كلا الجماعتين أمرًا حتميًا، ومن أعضاء هذا المجلس: العباس بن عبد المطلب، عثمان بن عفان، علي بن أبي طالب، عبد الرحمن بن عوف، معاذ بن جبل، أبي بن كعب وزيد بن ثابت، وتعد أحكام هذا المجالس كافية في شئون الحياة اليومية العادية. 2- مجلس العامة: يتألف هذا المجلس من عامة المسلمين، المهاجرين والأنصار، وزعماء البدو

الوافدين على المدينة، فتعرض عليهم القضايا الهامة على مستوى الأمة الإسلامية، ويناقشونها، أما طريقة انعقاد المجلس، فكان ينادي الصلاة جامعة، وعندما يجتمع الناس يذهب عمر إلى المسجد النبوي، وهو المكان المخصص لانعقاد المجلس، فيصلي ركعتين، ويصعد بعد الصلاة على المنبر، ويلقي خطبة، ثم يقدم القضية التي تحتاج إلى النقاش والبحث. نذكر من بين القضايا التي ناقشها هذاا لمجلس، قضية توزيع أراضي البلاد المفتوحة كإقطاع على أفراد الجيش، وقد افتتح عم الجلسة بقوله: "إني لم أزعجكم إلا، لأن تشتركوا في أمانتي فيما حملت من أموركم، فإني واحد كأحدكم، ولست أريد أن تتبعوا هذا الذي هواي"، استمرت جلسات المناقشة عدة أيام كان الناس يدلون برأيهم بحرية وجرأة1، وناقش هذا المجلس كذلك، الوضع على الجبهة العراقية بعد مقتل أبي عبيد الثقفي، إذ هم الخليفة أن يذهب بنفسه2، فقال العامة: "سر وسر بنا معك"، وأجمع الخاصة على أن يبعث رجلًا من أصحاب رسول الله على رأس الجيش إلى العراق، ويبقى هو في المدينة يمد هذا الرجل، عند ذلك جمع الناس، وقال لهم: "يحق للمسلمين أن يكونوا وأمرهم شورى بينهم، وإني إنما كنت كرجل منكم حتى صرفني ذوو الرأي منكم على الخروج، فقد رأيت أن أقيم، وأن أبعث رجلًا". وعندما أراد عمر أن يذهب إلى بلاد الشام مع اشتداد وباء طاعون عمواس خرج من المدينة حتى إذا نزل بسرغ2 لقيه أمراء الجند، فأخبروه بأن الأرض سقيمة، وأن فتك الطاعون شديد، فجمع المهاجرين الأولين، واستشارهم في ما يفعل، أيتابع طريقه أم يعود أدراجه؟. فاختلفوا عليه فمنهم من أشار بالخروج، ومنهم من نصحه بالعودة، فجمع عند ذلك الأنصار واستشارهم، فسلكوا طريق المهاجرين، ثم جمع مهاجرة الفتح من قريش فنصحوه بالعودة، وقالوا له: "ارجع بالناس، فإنه بلاء وفناء"، فقرر عندئذ العودة، وأمر عبد الله بن عباس أن يجمع الناس ليعرض عليهم قراره3. وهكذا كان الأمر في ما يتعلق بمرتبات الجند، وترتيب الدواوين وتعيين العمال وحرية التجارة للأجانب، وتحديد الضرائب عليها، وكثير من القضايا من هذا النوع، عرضت على

_ 1 أبو يوسف: كتاب الخراج ص21-26. 2 الطبري: ج4 ص123، 124. 3 المصدر نفسه: ص58، 59، وسرغ هو أول الحجاز، وآخر الشام بين المغيثة، وتبوك من منازل حاج الشام، الحموي: ج3 ص211-212.

مجلس الشورى للاستئناس برأي أعضائه، ومن ثم يتخذ الخليفة القرار المناسب1. روى أبو يوسف أنه "لما قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه جيش العراق من قبل سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، شاور أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في تدوين الدواوين، وكان قد اتبع رأي أبي بكر في التسوية بين الناس، فلما جاء فتح العراق شاور الناس في التفضيل، ورأي أنه الرأي، فأشار بذلك عليه من رآه"2. 3- مجلس المهاجرين: ووجد في عهد عمر مجلس آخر مخصص لمناقشة الشئون الإدارية، والمتطلبات اليومية الخاصة الناتجة عن الفتوح، ولا يشترك فيه إلا المهاجرين من الصحابة. إنه مجلس خاص كان عمر يعرض فيه الأخبار اليومية التي كانت تصل إليه من الأقاليم والمراكز، وقد عرضت على هذا المجلس مسألة فرض الجزية على المجوس3. والواقع أن دولة لها ذلك الاتساع وتلك الطاقات، من الصعوبة أن تدار من قهبل شخص واحد مهما كان نشيطًا، وملمًا بمرافق الحياة، وعلى الرغم من أن مفهوم عمر لنظام الحكم المستمد من النظرية الدينية، وعدم السماح بنشوء مراكز قوى داخلية؛ فإن هذا الخليفة كان يميل إلى مناقشة القضايا الهامة مع كبار الصحابة، وقد اختار بعضهم ليكونوا لصيقين به حاضرين أمامه، وجاهزين كلما احتاج إليهم للمناقشة. تلك كانت صورة النظام السياسي في عهد عمر، حيث تمتع هذا الخليفة بنفوذ رئيسي نابع من خصوصية مركزه الجامع لكافة الوظائف الدينية، والدنيوية التي فرضها القرآن الكريم، ولما كان الخليفة هو صاحب الرأي الأخير، والقول الفصل في كل أمر؛ فقد كان عليه لقاء ذلك على التبعية عن سياسة الدولة.

_ 1 البلاذري: ص435، 436. 2 كتاب الخراج: ص24. 3 المصدر نفسه: ص130.

الإدارة في عهد عمر

الإدارة في عهد عمر: تعريف الإدارة: الإدارة لغة من أدرت فلانًا على الأمر إذا حاولت إلزامه إياه، وأدرته عن الأمر إذا طلبت منه تركه1، أما اصطلاحًا فالإدارة فن يعتمد على الصفات الذاتية، والمواهب الشخصية للمدير، ولكنها من حيث الاعتماد على الصفات العلمية فهي علم، ولم يتبلور ذلك إلا مؤخرًا حين أضحت الدولة تقوم على أساس الخدمة العامة لا

_ 1 ابن منظور: لسان العرب ج4 ص229.

السلطة، وبعد أن شمل نشاطها الأحوال الشخصية للأفراد، فبدأت الدراسات الحديثة بالظهور، المتعلقة بكيفية تنظيم أجهزة الدولة، واختيار الحكام، واكتشاف مبادئ الإدارة العامة التي تكفل أداء الوظائف الحكومية في أقصر وقت، وأقل كلفة وبأقصى فاعلية، لكن الإدارة موجودة منذ وجود الدول والمجتمعات الإنسانية، فكل تجمع إنساني يقيم على أرض واحدة، له مصالح مشتركة، لا بد له من قيادة ترعاه وتسوس أمره، بالقدر الذي تتمتع به من الكفاءة، والمقدرة الشخصية. والإدارة العامة هو فن تنظيم، وإدارة القوى البشرية، والمادية لتحقيق الأهداف الحكومية، وهي جزء لا ينفصل عن نشاط كل جماعة منظمة، وتكون جانبًا من عمل الحاكم، وتشمل كافة الواجبات، والوظائف التي تختص أو تتعلق بإدارة المشروع، من حيث تمويله ووضع سياسته الرئيسة، وتوفير ما يلزمه من معدات وإعداد الإطار الذي يعمل فيه، واختيار الرؤساء والأفراد القياديين، وذلك للوصول إلى الهدف بأحسن الوسائل وأقل التكاليف، في حدود الموارد المتاحة ويحسن استخدامها، فالإدارة إذن، تتكون من جميع العمليات التي تستهدف تنفيذ السياسة العامة1. تطور الإدارة العامة: ظهرت الإدارة الإسلامية بعد تأسيس الدولة في المدينة، حيث اكتملت أركانها بتوفر الأرض ووجود الشعب، وقيام السلطة بأنواعها التشريعية والقضائية والتنفيذية، متمثلة بشخص النبي محمد صلى الله عليه وسلم القائد، والمؤسس الأول لدولة الإسلام، فكان يقضي بين الناس ويفتيهم، وينظم شئون الدولة من واقع هيكل تنظيمي للوظائف المختلفة. وبرزت في عهد أبي بكر الذي تسلم الحكم بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، مشكلات سياسية، وإدارية بما واجهه من ارتداد العرب، واهتمامه بالقضاء على مظاهر تلك الردة، بل إنه أنفذ جيش أسامة، وبدأ بتنظيم الجيوش لمحاربة المرتدين، وبعد أن قضى على كل مظهر للردة، ورأب الصدع، وثبت دعائم الدولة، ووطد الأمن في أرجائها؛ وجه جيوش الفتوح إلى العراق، وبلاد الشام. واستلم عمر إدارة الدولة بعد وفاة أبي بكر، وقد أحاط بها الأعداء من كل جانب، وبخاصة الدولتان الفارسية والبيزنطية، فانتدب الناس لمحاربتهما، وانتصر المسلمون عليهما، وفتحوا العراق وفارس وبلاد الشام ومصر، فاتسعت بذلك رقعة الدولة، واختلط العنصر العربي بالعنصر الأعجمي من سكان البلاد المفتوحة، وتدفقت

_ 1 القريشي، غالب بن عبد الكافي: أوليات الفاروق في الإدارة والقضاء ج1 ص53، 45.

الأموال على المدينة من الغنائم وغيرها؛ مما أدى إلى بروز مشكلات كثيرة تطلبت حلا، لعل أهمها: إدارة الولايات خارج الجزيرة العربية، استمرار الفتوح أو توقفها ريثما يتم استيعاب ما أنجز منها، توزيع الغنائم على المقاتلين بعد تدفق الأموال الكثيرة، إدارة أراضي الفتح، وغيرها من المشكلات، كتأسيس المدن في بعض الجهات على شكل معسكرات كالكوفة، والبصرة في العراق والفسطاط في مصر، أما اختلاط العنصر العربي بالعنصر الأعجمي، فلم يشكل مشكلة حقيقية، بخاصة بعد إسلام هؤلاء، إلا من حيث اللغة، فرأى عمر أن يقطن العنصر العربي في المعسكرات المنشأة ليحافظ على لغته وعاداته، وكان تدفق الأموال الكثيرة من الغنائم وغيرها قضية جتديدة تطلبت حلًا مرنًا لتصريفها، فأنشأ عمر بيتًا خاصًا للمال الوارد، واختص هو بمسئولية القيام عليه، وتصريفه في وجوهه، ودون الدواوين لذلك، وأمر بإنشاء دواوين في عواصم الولايات، وفرض الأعطيات، فشمل العطاء كل فرد في الدولة ابتداء بقرابة النبي، وأزواجه وانتهاء بكل مسلم، وفرض لكل مولود ولد في الإسلام عطاء، وجعل ذلك كله في ديوان منظم، وحل قضية الأراضي المفتوحة من واقع إبقائها بيد أصحابها المحليين لكنه وضع الخراج عليها ليكون ذلك موردًا ماليًا دائمًا لبيت مال المسلمين، ولما رأى عمر سرعة انتشار الفتوح، قرر التوقف عند حدود معينة ريثما يتم استيعاب ما فتح1. التقسيم الإداري للدولة: اتسعت الأراضي الإسلامية في عهد عمر اتساعًا كبيرًا مما اقتضى وضع تنظيم محكم حتى تسهل إدارتها، والإشراف على مواردها، والمعروف أن الخطوة الأولى لنظام الحكم، والتي يتفرع منها جميع التنظيمات هي تقسيم الدولة إلى ولايات أو أقاليم، وعين عمر أميرًا حاكمًا على كل ولاية يتحمل تبعات الحكم، ويكون نائبًا عنه، ويمضي الوقت، أدرك أن الولاة لا يستطيعون القيام بكل الأعباء التي تتطلبها الولاية، ففصل القضاء عن اختصاص الولاة، وعين قاضيًا على تلك الولايات، وكان يمدهم بتوجيهاته، وخصصهم بالأرزاق، وقد تنقسم الولاية أحيانًا إلى وحدات محلية تتبع الوالي أو الأمير، كما كان يطلق عليه، وكان نظام الولاية صورة مصغرة في هيكليته لنظام المدينة المنورة المركزي، فإلى جانب الوالي كان القاضي يتمتع بسلطة واسعة، وغالبًا ما كانت له صفة استقلالية، ثم صاحب بيت المال، وصاحب الديوان المسئول.

_ 1 انظر القريشي: ج1 ص79-84.

المباشر عن مرتبات الجند، ولا بد من الإشارة إلى أن حاكم الولاية هو في الوقت نفسه قائد الجيش فيها، وكان يختار أعوانه القادة، ويشارك في الحملات العسكرية أو ينتدب ممثلًا عنه، وذلك بالتنسيق مع الحكومة المركزية في المدينة المنورة1. أقر عمر النظم الفارسية في ما يختص بالتقسيمات الإدارية في العراق وفارس، فأبقى عليها، وكانت هذه التقسيمات تعرف بالرساتيق2، والواقع أن الأراضي الفارسية كانت تنقسم إلى ثلاثة أقاليم كبيرة باستثناء العراق هي: خراسان وأذربيجان وفارس، ثم قسم العراق إلى مصرين أي ولايتين كبيرتين هما الكوفة، والبصرة بعد تأسيسهما، كما أبقى على التقسيمات البيزنطية في بلاد الشام، وكانت تسمى نظام البنود3، وطبقه في بعض النواحي التي لم يكن موجودًا فيها من قبل، وعرف هذا النظام باسم الأجناد، كما أبقى على ما كان في مصر من نظام الكور4، أما الجزيرة العربية وبخاصة الحجاز ونجد، فقد بقيت على ما كانت عليه، ولم يدخل عليها أي تقسيم جديد، ولعل مرد ذلك يعود إلى قربها من عاصمة الدولة. ويبدو أن عمر تصرف أحيانًا في التقسيم القديم، فكانت فلسطين تعد منذ العهد البيزنطي إقليمًا واحدًا، وتضم عشر محافظات، وفي عام "15هـ/ 636م"، قسمها عمر إلى نصفين، وجعل عاصمة إحداهما إيلياء والثاني الرملة، وولى علقمة بن محرز على الأولى، وعلقمة بن حكيم على الثانية5، أما مصر فلا نعلم يقينًا كيف كان تقسيمها قبل الفتح، لكن عمر قسمها إلى ولايتين المنطقة العليا، وهي الصعيد وتضم ثماني وعشرين محافظة، واستعمل عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، والمنطقة السفلى، وتضم خمس عشرة محافظة، وولى عليها حاكمًا آخر، وكان عمرو بن العاص الحاكم العام على مصر، ويذكر ابن عبد الحكم أنه عندما توفي عمر كان على مصر أميران: عمرو بن العاص بأسفل الأرض، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح على الصعيد6. ولنأخذ التقسيم الإداري لبلاد الشام كنموذج يمكن تطبيقه على سائر الولايات مع

_ 1 بيضون: 96. 2 الرساتيق جمع رستاق، وهي مشتقة من اللفظ الفارسي روستا بمعنى حي أو قرية. 3 نظام البنود البيزنطية، أو ما يسمى Them، وتعني فرقة من الجيش تعسكر في إقليم، ولم يتسع معناها للدلالة على الأقاليم نفسها إلا في وقت متأخر، انظر: رنسيمان، ستيفن: الحضارة البيزنطية ص97. ترجمة عبد العزيز جاويد مكتبة النهضة المصرية 1961. 4 نظام الكور، مفردها كورة، وهي لفظة يونانية. curia ومعناها المركز. 5 الطبري: ج3 ص610. 6 فتوح مصر وأخبارها ص298.

شيء من التعديل يتعلق بخصوصية كل إقليم, وذلك؛ لأن الجبهة البيزنطية استمرت ناشطة برا وبحرا في حين قضى المسلمون بشكل نهائي على الإمبراطورية الفارسية، ولم تعد لها بعد ذلك قائمة، فبالمقارنة مع نظام البنود البيزنطي، فإن هذه كانت أوسع من الأجناد1، وهذا النظام ليس إلا تطبيقًا لما أقامه هرقل في آسيا الصغرى، حيث قسم الأراضي التي لم تحتلها قوى أجنبية إلى مناطق عسكرية كبيرة، وضعت تحت إدارة قادة عسكريين يتمتعون بصلاحيات الحكام الإداريين، وقد استوحى عمر ما كان البيزنطيون قد بدأوا بتطبيقه في عهد هرقل من نظام البنود في آسيا الصغرى، إلا أن الضرورات العسكرية هي التي اوجبت عليه هذا التقسيم، فالساحل الشامي طويل، وبلاد الشام كانت لا تزال مهددة برًا، وبحرًا من قبل البيزنطيين، فكان لا بد من إيجاد مراكز عسكرية متعددة لكي يتمكن كل جند من الدفاع عن المدن الساحلية التابعة له، فقد كانت عرقة وجبيل وصيدا، وبيروت وطرابلس، تابعة لجند دمشق2، أما اللاذقية وجبلة وبانياس وأنطرطوس، فكانت تابعة لجند حمص3، وتبعت صور وعكا جند الأردن4، وقيسارية ويافا وعسقلان وغزة، جند فلسطين5، ويضم كل جند منطقة ساحلية وأخرى داخلية، بشكل تستطيع معه كل منطقة أن تعتمد على الأخرى عسكريًا واقتصاديًا، وبما أنه لم يكن للمسلمين في ذلك الوقت قوة بحرية قادرة على حماية السواحل؛ فإن مراكز الأجناد كلها كانت مدنًا داخلية، مثل حمص، دمشق، اللد، طبرية6.

_ 1 المسعودي، أبو الحسن علي بن الحسين: التنبيه والإشراف ص150. 2 الهمذاني المعروف بابن الفقيه: كاتب صورة الأرض ص156. 3 المصدر نفسه: ص161. 4 البلاذري: ص124. 5 المصدر نفسه: ص146-148. 6 خماش، نجدة: الإدارة ونظام الضرائب في الشام في عصر الراشدين ص415. مقال في كتاب بلاد الشام في صدر الإسلام، المؤتمر الدولي الرابع لتاريخ بلاد الشام 1987.

الموظفون الإداريون

الموظفون الإداريون: الهيكل التنظيمي للموظفين: كان الوالي، أي حاكم الولاية أو الإقليم، يأتي في المقام الأول، ثم يأتي بعده على غير التراتبية الكاتب، أي كاتب في ديوان الجيش، وصاحب الخراج، وصاحب الأحداث "الشرطة"، وصاحب بيت المال، والقاضي، وهم جميعًا تحت إمرة الوالي ويعملون تحت إدارته، نذكر مثالًا على ذلك، أن عمارًا بن ياسر كان واليًا على الكوفة، وعثمان بن حنيف صاحب الخراج، وعبد الله بن مسعود صاحب بيت المال، وشريحًا قاضيًا، وعبد الله بن خلف الخواعي كاتبًا للديوان1، ووجد أحيانًا قائد للجيش في كل ولاية على الرغم من أن الوالي كان مكلفًا بهذه المهمة في معظم الأوقات، ولم تكن إدارة الأحداث مستقلة في جميع الولايات، فكثيرًا ما كان صاحب الخراج، أو الوالي يقوم بهذه الخدمة، ففي الوقت الذي كان فيه عمار بن ياسر واليًا للكوفة أسندت إليه إدارة الأحداث، وكان قدامة بن مظعون، وهو صاحب الخراج في البحرين يتولى هذه المهمة، أما إدارة الوالي فقد كانت مستقلة، وتشمل عددًا من الموظفين يعينهم الخليفة عادة، فعندما ولى عمر عمارًا على الكوفة أمده بعشرة من الإداريين من أكفاء الرجال كان من بينهم قرظ الخزرجي، أما الكاتب فكان جديرًا في الإنشاء والخطابة، فعندما كان أبو موسى الأشعري واليًا على البصرة، كان عمر يعجب لبلاغة كاتبه زياد بن سمية، ويتعجب لفصاحته. ويتم اختيار الموظفين ضمن الإطار الديني، بالإضافة إلى الصفات الحميدة مثل الصدق، والإمانة، والكفاءة، واليقظة، وكان عمر على معرفة بكنه الرجال الذين تتوفر فيهم شروط التعيين، وكان هناك أربعة رجال عرفوا بدهاة العرب، وهم معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة وزياد بن سمية، وقد عهد عمر إلى الثلاثة الأوائل بأكبر مناصب الدولة، وعين عبد الله بن الأرقم كاتبًا، وكان النبي قد استحسن كتابته. وعندما عقد عمر مجلس الشورى للنظر في أمر نهاوند طلب الرأي من الحاضرين في اختيار الرجل الذي يرسل ليقود المعركة، قال الحاضرون: "إن المعرفة التي لديك لا تتوفئر لأحد فينا، وأنت قدرت مؤهلاتنا وقدراتنا، ولم يستطع أحد أن يقدرها"، عندئذ سمى عمر النعمان بن مقرن، واعترف الجميع بحسن الاختيار. وعمل عمر بمبدأ الإنابة، إنابة رجال لبعض الولاة بحضورهم، وهذه ظاهرة هامة في ميدان السياسة والإدارة، فقد عين السائب بن يزيد بن سعيد بن ثمامة الكندي نائبًا لعبد الله بن عتبة على سوق المدينة2، وكان عبد الله بن عبد الله بن عتبان نائبًا لسعد بن أبي وقاص على الكوفة3.

_ 1 الطبري: ج4 ص145، ابن خلكان: ج2 ص83، 84. 2 الإمام الشافعي: الأم ج4 ص125. 3 ابن كثير: ج7 ص112.

الوالي

الوالي: شروط تعيين الوالي: إن أولى بوادر التنظيم الإداري من حيث تعيين الموظفين تعيين أبي بكر القادة الذين أرسلهم لفتح بلاد الشام؛ ولاة على المناطق التي كلفوا بفتحها، فقد ولى عمرو بن العاص على فلسطين، وشرحبيل بن حسنة على الأردن، ويزيد بن أبي سفيان على دمشق، وأبا عبيدة بن الجراح على حمص، وأنه إذا حدث قتال فأميرهم هو الذي يكونون في عمله1، وأمر عمرًا مشافهة أن يصلي بالناس إذا اجتمعوا، وإذا تفرقوا صلى كل أمير بأصحابه، وأمر الأمراء أن يعقدوا لكل قبيلة لواء يكون فيهم2، لكن نلاحظ توحيدًا للقيادات بعد ذلك عندما جاء خالد بن الوليد إلى بلادا لشام مددًا للمسلمين هناك، واستمر هذا التوحيد في خلافة عمر الذي جمع الشام كله في السلم، والحرب لأبي عبيدة بن الجراح نظرًا لمكانته، وعظيم ثقته به3، وعمد أبو عبيدة أثناء عملية الفتوح إلى تعيين وال على كل مدينة صالحه أهلها، وضم جماعة من المسلمين إليه، ويتمتع الوالي بصلاحات عسكرية، ومدنية واسعة بوصفه رأس الهرم التنظيمي في ولايته، فهو الذي يوجه القادة، ويعين العمال على الكور، ويوافق على عقود الصلح التي يبرمها قادئه4. يعتمد أسلوب عمر في اختيار الولاة على توفر عدة صفات في المرشح في ما سمي بالشروط العمرية، لعل أهمها5: - القوة والقدرة المؤهلة للنهوض بالعمل المسند إلى المكلف به، ويقول في ذلك: "إني لأتحرج أن أستعمل الرجل، وأنا أجد أقوى منه"، فعندما عزل شرحبيل بن حسنة عن ولاية الشام، وأسندها إلى معاوية، قال له الأول: "أعن سخطة يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، إنك لكما أحب، ولكني أريد رجلًا أقوى من رجل"6. - الرحمة والرأفة بالناس، فكان لا يوالي الرجل الذي يخشى من شدته على الرعية لفقدان الرحمة.

_ 1 البلاذري: ص116، 117، وقارن بالطبري: ج3 ص390. 2 البلاذري: ص117. 3 المصدر نفسه: ص123. 4 المصدر نفسه: ص152. 5 انظر: القريشي: ج1 ص294-302. 6 الطبري: ج4 ص64، 65.

- أن لا يكون من آل النبي، ولا من أكابر الصحابة، وذلك؛ لأن رسول الله كان لا يوليهم شيئًا من ذلك، إنه لا يريد أن يدنسهم بالعمل، فقد يرتكبون أخطاء لا يمكن السكوت عليها، فيقع الخليفة في الحرج من واقع إنزال العقاب المناسب بهم، وذلك لا يريده، أما السكوت عن تجاوزاتهم، وأخطائهم فهو أشد على عمر، ثم هناك الحاجة إلى مشورتهم وفقههم، لذلك فإنه لم يول عثمان بن عفان، أو عليًا بن أبي طالب، أو عبد الرحمن بن عوف، أو العباس بن عبد المطلب وغيرهم1. - أن لا يكون المرشح حريصًا على الولاية، فقد أثر عن عمر أنه أراد تولية رجل على ولاية، فجاء الرجل يطلبها، فتوقف عمر عن ذلك ولم يوله؛ مقتديًا بذلك بالنبي، فإنه كان لا يولي أمرًا من طلبه ولو كان قادرًا، فطالب الولاية لا يولى2. - كان عمر يستشير إذا أراد أن يولي قائدًا أو أميرًا، من ذلك عندما ولى سعدًا بن أبي وقاص قيادة جيش المسلمين في العراق، استشار الناس، فأشاروا عليه بسعد3، وكذلك حين أراد أن يولي قائدًا على أول جيش يبعث به إلى العراق مددًا للمقاتلين هناك، وبعد الاطلاع على مختلف الآراء، اختار أبا عبيد الثقفي، وهكذا نجد أن عمر كان قدوة في اختيار الولاة، فيوليهم ويعزل من يستحق العزل، ويثبت من يستحق ذلك. - حرص عمر على اختيار ولاته، فإذا حدث أن اختار أحد الأشخاص يعطيه عهد التعيين الذي يتضمن شروطًا سلوكية مشهودًا عليها لينفذها خلال ولايته، وأهمها تطبيق حكم الله، وإحلال العدل ونشر الأمن، والطمأنينة بين الناس، وأن لا يركب برذونًا، ولعل هذا المنع يعود إلى الصفات الخلقية لهذه الدابة التي تبعث على الخيلاء، والكبر التي خشيها عمر على نفسه، فكيف على ولاته، وذلك خشية عليهم من الوصول إلى الخيلاء، والكبر التي قد تصبح صفة خلقية للوالي، وبخاصة أن له تجربة سابقة عندما قدم إلى بلاد الشام4، ومنعهم من لبس الرقيق، وذلك بفعل حرصه على محافظة العمال على الأخلاق الإسلامية الرفيعة في المظهر، والمعروف أن لبس الرقيق من الثياب له دلالة على الإسراف والتمييز على الناس، وإذا حصل ذلك فإنه يؤدي إلى تعالي الحكام على غيرهم، وحقد الرعية عليهم، ومنعهم أيضًا من أكل النقي من الدقيق، وذلك لحرص عمر على مساواة الحكام بالمحكومين في

_ 1 المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر: ج2 ص321، 322. 2 انظر صحيح مسلم بشرح النووي: ج2 ص207، 208. 3 الطبري: ج3 ص480-482. 4 ابن الأثير: ج2 ص330، 331.

المأكل والمشرب، ومنعهم أيضًا من إغلاق بابهم دون حوائج الناس، واتخاذ حاجب يكون حاجزًا بينهم، وبين الرعية بحجبهم متى شاء، ويدخلهم متى شاء، وقد يميل الوالي إلى الدعة ويعتاد على حجب الناس مما قد يؤدي إلى حرمان هؤلاء من الاستفادة من الوقت، والشعور بقرب الحاكم، وتفهمه لقضاياهم1. - نهى عماله عن ممارسة أي عمل آخر، والتفرغ فقط لشئون الحكم، وذلك حتى لا يشغله العمل الخاص عن عمله العام مما يعد خسارة على الوالي والمجتمع، وكان حريصًا على إغنائهم عن العمل الخاص. تعيين مراقب على عمل الولاة: نتيجة لاتساع رقعة الدولة الإسلامية في عهد عمر وازدياد عدد ولاياتها، أضحى من الصعب الإحاطة بكل ما يجري في كل ولاية، ولما كان عمر حريصًا على أن يقف على دقائق الأمور في تصرف ولاته، وما كان يجري في كل ولاية؛ اختار رجلًا من خيرة رجاله تقوى وقوى، وأمانة وسنا وتجربة، هو محمد بن مسلمة الأنصاري ليكون مراقبه الخاص على العمال، وأعمالهم والنظر في الشكاوي المرفوعة لهم، ويذكر أبو يوسف: "فدعا، أي عمر، محمدًا بن مسلمة، وكان رسوله إلى العمال، فبعثه وقال: إئتيني به، أي بوالي الذي خالف الشروط، وهو عياض بن غنم، على الحال الذي تجده عليها، قال: فأتاه فوجد على بابه حاجبًا، فإذا عليه قميص رقيق، قال: أجب أمير المؤمنين، قال: دعني أطرح على قبائي، قال: لا إلا على حالك هذه فقدم به عليه، أي على عمر في المدينة"2. محاسبة الوالي: كان عمر يحاسب عماله عن أخطائهم، وبخاصة تلك التصرفات التي تدل على الفخر، والتميز والتعالي وهدر الأموال العامة، وهذا الموقف، نابع من واقع موقفه من الأمة الإسلامية حيث كانت الأمة في نظره، أي جماعة المسلمين، متساوين في الحقوق والواجبات، فإذا برزت مؤشرات تدل على سوء تصرف الوالي، يستدعيه إلى المدينة مثلما حدث مع أبي موسى الأشعري حاكم البصرة عندما رفعت شكوى ضده، فاستدعاه عمر وحقق معه بنفسه3، وكان يحصي وضع العامل المالي وقت إرساله، ثم يشاطره ماله وقت عزله إذا زاد رأس ماله بشكل يثير الشبهة، وكان يقول لعماله: "نحن

_ 1 أبو يوسف: ص116. 2 المصدر نفسه. 3 الطبري: ج4 ص184، 185.

إنما بعثناكم ولاة ولم نبعثكم تجارًا"، على أن هذه الشدة في محاسبة الولاة لم يكن يقصد منها إضعاف سلطتهم، فقد كانت لهم الحرية المطلقة في إصدار الأحكام وتنفيذها، وسلطاتهم مساوية لسلطات عمر ما لزموا العدل، فإذا اعتدى عليهم معتد، أو استهان أحد بهم عوقب بشدة، ثم إنه كان يسمع لحجة عاملة، فإذا أقنعته لم يخف اقتناعه بها، ويثني عليه بعدها، لقد قدم إلى الشام راكبًا حمارًا، فاستقبله معاوية بن أبي سفيان في موكب فخم مهيب، ونزل معاوية وسلم على عمر بالخلافة، فمضى في سبيله ولم يرد عليه السلام، فقال له عبد الرحمن بن عوف: "أتعبت الرجل يا أمير المؤمنين؛ فلو كلمته! فالتفت عمر إلى معاوية، وسأله: إنك لصاحب الموكب الذي أرى؟ قال معاوية: نعم! قال عمر: مع شدة احتجاجك، ووقوفك ذوي الحاجات ببابك؟ قال معاوية: ولم! ويحك؟ وأجابه معاوية: لأننا ببلاد كثر فيها جواسيس العدو، فإن لم نتخذ العدة، والعدد استخف بنا وهجم علينا، وأما الحجاب فإننا نخاف من البذلة جرأة الرعية، وأنا بعد عاملك، فإناستنقصتني نقصت، وإن استزدتني زدت، وإن استوقفتني وقفت"، قال عمر: يا معاوية ما سألتك إلا تركتني في مثل رواجب الضرس، لئن كان ما قلت حقًا إنه لرأي أريت، ولن كان باطلًا إنه لخديعة أديت، قال: فمرني يا أمير المؤمنين بما شئت، قال: لا آمرك ولا أنهاك"1. وكان عمر يجمع عماله بمكة في موسم الحج من كل عام، يسألهم عن أعمالهم، ويسأل الناس عنهم ليرى مدى دقتهم في الاضطلاع بواجبهم، وتنزههم حين أدائه لأنفسهم أو لذويهم، وكان يغتبط حين يرى عماله يتجردون لخير الرعية، ويثني عليهم لذلك ثناء عظيمًا. وفق رؤية كهذه كانت السلطة الفعلية تتطابق عمليًا مع الإدارة الجماعية، والمصالح الجماعية للأمة، ولم تكن الإمارة إلا وسيلة لتحقيق هذه الإرادة وتدبير تلك المصالح الجماعية2، وهكذا فالإمارة ليست بنظر عمر وفي سلوكه سيادة وملكًا، وإنما تفويض وتوكيل من الجماعة التي تبقى صاحبة الأمر، لذلك كان يعزل الوالي إذا أخل بشروط التفويض الخاص به من واقع تغليب المصلحة العامة، ولنا في عزل سعد بن أبي وقاص عن ولاية العراق مثل على ذلك، وإن كان يشوب التهم الموجهة إليه عدم الوضوح3.

_ 1 ابن كثير: ج8 ص124، 125. 2 إبراهيم: ص220. 3 الطبري: ج4 ص121.

الدواوين

الدواوين: تمهيد: تعد المؤسسة الإدارية أو النظام الإداري الذي أسسه عمر، النواة الأساسية لكيان الأمة الإسلامية الاجتماعية، والسياسي في عهده، وأول أشكال الإدارة العربية الجديدة المتأثرة بالتجربة المتقدمة لشعوب البلدان المفتوحة أو المجاورة لها، وقد كان ذلك أحد أبرز الدوافع التي ساهمت في خلق إدارة مالية تعمل على تنظيم عائدات الخلافة، وتوزيعها وفق جداول ثابتة على نحخو تخرج معه هذه المؤسسة من دائرتها الضيقة في الإطار العام الشامل1، وذلك في ما يعرف بالديوان. وكلمة ديوان فارسية معربة معناها السجل أو الجدول، على أن للكلمة مضمونًا أوسع في اللغة العربية، غذ يصبح الديوان مترادفًا مع الجهاز الإداري المنوط به تنفيذ أعمال الدولة الإدارية، والمالية والعسكرية، كما تطلق هذه الكلمة على المكان التي تحفظ فيه سجلات الدولة، ثم صارت تطلق على الأمكنة التي يجلس فيها أفراد الجهاز الإداري، ولم تتعد في عهد عمر معناها الأول، فالديوان هو سجل أحصي فيه من فرض لهم العطاء من رجال الجيش ومن غيرهم، وذكر فيه أمام كل اسم عطاء صاحبه2، وعرف الماوردي الديوان بأنه موضع لحفظ ما يتعلق بحقوق السلطنة من الأعمال، والأموال ومن يقوم بها من الجيوش والعمال3. يقدم لنا الماوردي عرضًا مكثفًا لجملة الروايات الأساسية المتعلقة بديوان عمر، موضحًا الفروق والتباين فيما بينها، لذلك فإن عرضه يعطينا لمحة عامة عن تاريخ الديوان وتكريبه4. ديوان العطاء: تتباين روايات المصادر في توضيح أسباب، وظروف وضع ديوان العطاء على يد عمر، وكذلك يتم تقديم عدة تواريخ لوضعه، ولكن بما أن وظيفة الديوان وبنيته، وطابعه ترتبط بظروف نشأته وتأسيسه، فلا بد لنا من البحث عن السنة الفعلية التي اتخذ فيها الخليفة قراره بوضع الديوان، وتذكر المصادر تاريخين يمكن أخذها على محمل الجد، والاهتمام والبحث في ملابساتهما.

_ 1 بيضون: ص88. 2 دائرة المعارف الإسلامية: ج9 ص378. 3 الأحكام السلطانية: ص249. 4 المصدر نفسه: ص249-252.

فقد حدد الطبري سنة "15هـ/ 636م" كتاريخ لوضع الديوان على يد عمر، فقال: "وفي هذه السنة فرض عمر للمسلمين، ودون الدواوين، وأعطى العطايا على السابقة1، في حين حدد البلاذري سنة "20هـ/ 641م"، فقد ذكر "لما أجمع عمر على تدوين الديوان، وذلك في المحرم سنة عشرين"2، ولكن جميع الروايات تتفق حول نقطة جوهرية، وهي أن كثرة تدفق الأموال على المدينة المنورة من فتوح الأمصار، كانت السبب الذي دعا عمر إلى وضع الديوان. المعروف أن السنوات الثلاث الأولى من خلافة عمر أي ببين سنة "14-16هـ/ 635-637م"، اتسمت بطابع الغزوات التقليدية، حيث كانت الغنائم توزع بالتساوي على القوى المقاتلة بعد رفع الخمس للخليفة، ولهذا لم تكن هناك حاجة إلى القيام بتأسيس نظام لتوزيع، وإدارة الفيء المكتسب، والأموال المغنومة3. وتنامت مع المدة منذ بدايات الغزو المنسق للفتوح والاستقرار، أي منذ عام "17هـ/ 638م"، كميلة الأموال المخموسة المتدفقة على المدينة، تناميًا شديدًا، نتيجة فتوح أراضي الفرس والبيزنطيين، وكانت مقدارًا عظيمًا. وتتكرر في المصادر رواية عن خمس البحرين الذي كان سببًا لتأسيس الديوان، يقول الماوردي: "واختلف الناس في سبب وضعه له، فقال قوم: سببه أن أبا هريرة قدم عليه بمال من البحرين، فقال له عمر: ماذا جئت به؟ فقال: خمسمائة ألف درهم، فاستكثره عمر، فقال: أتدري ما تقول؟ قال: نعم مائة ألف خمس مرات، فقال عمر: أطيب هو؟ فقال: لا أدري، فصعد عمر المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس قد جاءنا مال كثير، فإن شئتم كلنا لكم كيلًا، وإن شئتم عددنا لكم عدًا، فقام إليه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين قد رأيت الأعاجم يدونون ديوانًا لهم، فدون أنت لنا ديوانًا"4، الواضح أن توزيع الأموال في المدينة كان يزداد صعوبة مع تنامي حجم هذه الأموال المتدفقة. ذكر الجاحظ أنه لما وضع عمر الديوان قام إليه أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، فقالا: "يا أمير المؤمنين، أديوان كديوان بني الأصفر، إنك إن فعلت ذلك اتكل الناس على الديوان، وتركوا التجارات، والمعاش، فقال عمر: قد كثر الفيء والمسلمون"5.

_ 1 تاريخ الرسل والملوك: ج3 ص613. 2 فتوح البلدان: ص436. 3 إبراهيم: ص207. 4 الأحكام السلطانية: ص249. 5 العثمانية: ص211.

هذه نظرة سليمة للأمور، إذ عندما توقف اندفاع الفتوح، واشتراك غير العرب فيه، وذلك بعد أن انتقلت العاصمة من المدينة المنورة إلى دمشق ثم إلى بغداد، تراجع العطاء الذي كان مفروضًا لأهل الجزيرة العربية، فنشأ جيل على البطالة لم يستسغ العمل في التجارة والسعي إلى الرزق، فتراجعت بالتالي مقدرة الحجاز الاقتصادية، والواقع أن عمر أدرك هذه الظاهرة، ولم تغب عن تفكيره، وربما توقع حدوثها في المستقبل، لذلك نراه يحث الناس على العمل، والسعي والاستكثار من الرزق، كما كان شديد الحساسية ضد أولئك الذين يظهرون الأعراض عن الدنيا تعبدًا وزهدًا. يمدنا ابن الطقطقي بمعلومات مفيدة أثناء شرحه لكيفية تدوين الدواوين في الإسلام: "وكان المسلمون هم الجنود، وكان قتالهم لأجل الدين لا لأجل الدنيا، لكنهم كانوا إذا غزوا، وغنموا أخذوا نصيبًا من الغنائم قررته الشريعة لهم، وإذا ورد إلى المدينة مال من بعض البلدان أحضر إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرق فيهم حسب ما يراه صلى الله عليه وسلم، وجرى الأمر على ذلك مدى خلافة أبي بكر، فلما كانت سنة خمس عشرة للهجرة، وهي خلافة عمر رأى أن الفتوح قد توالت، وأن كنوز الأكاسرة قد ملكت، وأن الأحمال من الذهب والفضة، والجواهر النفيسة والثياب الفاخرة قد تتابعت، فرأى التوسيع على المسلمين، وتفريق تلك الأموال فيهم، ولم يكن يعرف كيف يصنع، وكيف يضبط ذلك، وكان بالمدينة بعض مرارزبة الفرس، فلما رأى حيرة عمر قال له: يا أمير المؤمنين إن للأكاسرة شيئًا يسمونه ديوانًا، جميع دخلهم وخرجهم مضبوط فيه لا يشذ منه شيء، وأهل العطاء مرتبون فيه مراتب لا يتطرق عليها خلل، فتنبه عمر، وقال: صفه لي، فوصفه المرزبان، ففطن عمر لذلك ودون الدواوين، وفرض العطاء، فجعل لكل واحد من المسلمين نوعًا مكررًا"1، فإذا كانت ضرورة توزيع، وضبط الغنائم الواردة على المدينة السبب في وضع الديوان، فهذا يستتبع تحديد سنة وضعه بالخامسة عشرة للهجرة. وتصور الروايات أنه وضع دفعة واحدة، لكن الواضح أنه تطور مع تنامي الفتوح، واستقرار المسلمين في الأمصار، وهذا يعني أن بدايته في السنة الخامسة عشرة للهجرة كانت تخص المدينة وحدها دون المسلمين في البلاد المفتوحة، لكن فتوح القادسية، والمدائن بدلت الأوضاع التي انعكست على بناء الديوان ووظيفته2، إذ إن إعادة

_ 1 ابن الطقطقي، محمد بن علي بن طباطبا: الفخري في الآداب السلطانية، والدول الإسلامية ص68، 69. 2 إبراهيم: ص208، 209.

تعريف الناس التي تضمنت تحديًا لعطاءات المقاتلة حسب طبقاتهم قد حدثت في السنة السابعة عشرة للهجرة، فيمكننا أن نستنتج أن تحويل الديوان من إجراء تنظيمي خاص بتويع الخمس القادم على المدينة إلى وسيلة تنظيمية مركزية؛ لضبط عملية توزيع غنائم الأمصار المفتوحة على المقاتلة، قد حدثت عمليًا في السنة السادسة عشرة للهجرة، بدليل أن التبدل النوعي من الغارة التقليدية إلى الفتح المنظم قد حدث في هذه السنة، كنتيجة لفتوح القادسية، والمدائن. والمعروف أن تدوين الديوان لا يمكن أن يعتمد على الفيء الذي يرد من الغزو؛ لأنه مورد غير ثابت، والديوان مصروف سنوي ثابت، لا بد إذًا أنه اعتمد على الجزوية والخراج، ولم تبلغ الجزية، ولم يبلغ الخراج الذي يسمع عطاء المسلمين جميعًا في عام 15هـ1، وهذا ما تشير إليه رواية الطبري التالية: "قالوا: فرض عمر العطاء حين فرض لأهل الفيء الذين أفاء الله عليهم، وهم أهل المدائن، فصاروا بعد إلى الكوفة، انتقلوا عن المدائن إلى الكوفة والبصرة، ودمشق وحمص والأردن، وفلسطين ومصر، وقال: الفيء لأهل هؤلاء الأمصار، ولمن لحق بهم وأعانهم، وأقام معهم ولم يفرض لغيرهم، ألا فيهم سكنت المدائن والقرى، وعليهم جرى الصلح، وإليهم أدى الجزاء، وبهم سدت الفروج ودوخ العدو، ثم كتب في إعطاء أهل العطاء أعطياتهم إعطاء واحدًا سنة خمس عشرة"2. الواضح أن الطبري ومن نقل عنه، لم يراعوا الفارق الزمني البسيط بين وضع الديوان، وبين فرض العطاء على المقاتلة في البلاد المفتوحة، مهملين التطورات النوعية الهامة التي حدثت في السنتين الخامسة عشرة والسادسة عشرة للهجرة. فالطبري يرجع تأسيس الديوان إلى السنة الخامسة عشرة للهجرة، ويؤرخ للفتوح التي تلت القادسية، وفتوح المدائن في أوائل السنة السادسة عشرة للهجرة، ويبدو واضحًا أنه يؤرخ لجملة هذه التطورات على أنها تغير واحد رمزه، وعلاقته ديوان عمر3. ويربط البلاذري فرض العطاء باستقرار فتوح العراق، والشام "كما افتتح عمر العراق والشام، وجبى الخراج جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني قد رأيت أن أفرض العطاء لأهله، فقالوا: نعم رأيت الرأي يا أمير المؤمنين"4، فعلى خليفته كثرة الفيء، وكثرة عدد المسلمين المشاركين في الفتوح جاء ديوان عمر ليعطي كل

_ 1 إبراهيم: ص208، 209. 2 تاريخ الرسل والملوك: ج3 ص615. 3 المصدر نفسه: ص619-623، ج4 ص5-39، إبراهيم: ص209. 4 فتوح البلدان: ص435.

فرد مقاتل نصيبه منه، فكان إحصاء الناس، وتصنيفهم إلى فئات متعددة طبقًا لقدمهم في الإسلام، وفضلهم في الفتوح، المحتوى الاجتماعي الأساسي لديوان عمر. وهكذا فإن القاعدة التي اتخذت مقياسًا لتوزيع العطاء كانت لها خلفيات متصلة بمبدأ العقيدة التي هي جوهر المجتمع، وتبدو واضحة في قوله: "ما من الناس أحد إلا له في هذا المال حق، أعطية أو منعة، وما من أحد أحق به من أحد إلا عبد مملوك، وما أنا فيه إلا كأحدهم، ولكنا على منازلنا من كتاب الله، وقسمنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقدمه في الإسلام، والرجل وغناؤه في الإسلام، والرجل وحاجته، والله لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو مكانه"1، وقد قرر الخليفة تقدم بني هاشم أسرة النبي على غيرهم في العطاء، ثم أخذ بمبدأ الأسبقية في الإسلام، والمشاركة في أحداثه التاريخية البارزة لا سيما المعارك الولى كبدر وأحد، وبقية المعارك الكبرى في العراق، وبلاد الشام. وعندما استشار عمر المسلمين في تدوين الديوان قال له علي بن أبي طالب: "تقسم كل سنة ما اجتمع إليك من المال، ولا تمسك منه شيئًا، وقال عثمان بن عفان: أرى مالًا كثيرًا يتبع الناس، فإن لم يحصوا حتى يعرف من أخذ ممن لم يأخذ خشيت أن ينتشر الأول، فقال له الوليد بن هشام بن المغيرة: يا أمير المؤمنين قد جئت الشام، فرأيت ملوكها قد دونوا ديوانًا، وجندوا جندًا، فدون ديوانًا، وجند جندًا، فأخذ بقوله، فدعا عقيلًا بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل وجبيرًا بن مطعم، وكانوا من نساب قريش، فقال: اكتبوا الناس على منازلهم، فكتبوا، فبدأوا ببني هاشم، ثم اتبعوهم أبا بكر وقومه، ثم عمر وقومه على الخلافة، فلما نظر فيه عمر قال: لوددت والله أنه هكذا، ولكن ابدأوا بقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الأقرب فالأقرب، حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله"2. روى الطبري: "ولما أراد عمر وضع الديوان، قال له علي، وعبد الرحمن بن عوف: ابدأ بنفسك، قال: لا، بل أبدأ بعم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الأقرب فالأقرب، ففرض للعباس وبدأ به، ثم فرض لأهل بدر خمسة آلاف خمسة آلاف، ثم فرض لمن بعد بدر إلى الحديبية أربعة آلاف أربعة آلاف، ثم فرض لمن بعد الحديبية إلى أن أقلع أبو بكر عن أهل الردة ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف، في ذلك من شهد الفتح، وقاتل عن أبي بكر، ومن ولى الأيام قبل القادسية، كل هؤلاء ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف، ثم

_ 1 الطبري: ج4 ص211. 2 المصدر نفسه: ص209، 210، البلاذري: ص435، 436.

فرض لأهل القادسية، وأهل الشام ألفين ألفين، وفرض لأهل البلاد البارع منهم ألفين وخمسمائة ألفين وخمسمائة، فقيل له: لو ألحقت أهل القادسية بأهل الأيام! فقال: لم أكن لألحقهم بدرجة من لم يدركوا، وقيل له: قد سويت من بعدت داره بمن قربت داره وقاتلهم عن فنائه، فقال: من قربت داره أحق بالزيادة؛ لأنهم كانوا ردءًا للحوق وشجى للعدو، فهلًا قال المهاجرون مثل قولكم حين سوينا بين السابقين منهم والأنصار! فقد كانت نصرة الأنصار بفنائهم، وهاجر إليهم المهاجرون من بعد، وفرض لمن بعد القادسية، واليرموك ألفًا ألفًا، ثم فرض للروادف: المثنى خمسائة خمسمائة، ثم للروادف الثليث بعدهم، ثلثمائة ثلثمائة، سوى كل طبقة في العطاء قويهم وضعيفهم، عربهم وعجمهم، وفرض للروادف الربيع على مائتين وخمسين، وفرض لمن بعدهم وهم أهل هجر والعباد على مائتين، وألحق بأهل بدر أربعة غير أهلها: الحسن والحسين وأبا ذر وسلمان، وكان فرض للعباس خمسة وعشرين ألفًا، وقيل: اثنا عشر ألفًا، وأعطى نساء النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف عشرة آلاف، إلا من جرى عليها الملك، وفضل عائشة بألفين لمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها فلم تأخذ، وجعل نساء أهل بدر في خمسمائة خمسمائة، ونساء من بعدهم إلى الحديبية على أربعمائة أربعمائة، ونساء من بعد ذلك إلى الأيام ثلثمائة ثلثمائة، ونساء أهل القادسية مائتين مائتين، ثم سوى بين النساء بعد ذلك، وجعل الصبيان سواء على مائة مائة، ثم جمع ستين مسكينًا، وأطعمهم الخبز، فأحصوا ما أكلوا، فوجوده يخرج من جريبتين، ففرض لكل إنسان منهم، ولعياله جريبتين في الشهر"1. تعقيب على ديوان العطاء: - كان أبو بكر يرى أن السابقة والقدم في الإسلام ثوابه على الله، وأن المعاش "فالأسوة فيه خير من الأثرة"، لهذا قام بتوزيع الأموال القليلة التي كانت تصل إليه من أخماس الغنائم بالتساوي بين جميع المسلمين، وكان عمر أول من رفع هذه المساواة في الرزق، وقد جاءت هذه الخطوة انسجامًا مع التطورات الجذرية، والعميقة التي نتجت عن الفتوح، لهذا لبى حاجة جدية لمستجدات الظروف الحياتية الجديدة للمسلمين في البلاد المفتوحة2. - لقد تضمنت جيوش الفتوح البدريين، وأهل الردة على حد سواء، لهذا كان من الضروري مراعاة هذه الفوارق لدى قسمة الفيء عليهم.

_ 1 تاريخ الرسل والملوك: ج3 ص614، 615. 2 إبراهيم: ص211.

- لاقت هذه السلوكية العمرية الرضى، والقبول من عامة المسلمين، وبخاصة أنها لم تتعارض مع الأعراف، والقيم السلوكية للقبائل الإسلامية المختلفة، ولا مع البنية القبلية للفاتحين، وتحقق العدالة من واقع نصيب القبيلة في الجهاد، وتنسجم مع الأخلاقية الدينية؛ لأن إحصاء عمر للناس صنفهم وفق معيار ديني، وهو الفضل والأسبقية في الإسلام ونصرته1. - تداخل نظام العراقة تداخلًا عضويًا مع ديوان عمر من واقع السيادة القبلية التي كانت الأساس الاجتماعي للفتوح، كما وضح لنا هذا النظام هيكلية الديوان من واقع المحافظة على الوضع الاجتماعي للقبائل، والعشائر والبطون. ويروي الماوردي في هذا الصدد: "وكان الديوان موضوعًا على دعوة العرب في ترتيب الناس فيه معتبرًا بالسابقة في الإسلام، وحسن الأثر في الدين، ثم روعي في التفضيل عند انقراض أهل السوابق بالتقدم في الشجاعة، والبلاء في الجهد"2. - إن الفصل في ترتيب الناس حسب النسب، وبين تفصيل العطاء استنادًا إلى السابقة، هام جدًا لاستيعاب الطابع التاريخي، والاجتماعي للديوان3، فعلى الرغم من التصنيف الذي جعل بني هاشم في رأس الأفضلية، إلا أنه أوجد الفرصة المتكافئة للذين صنعوا الأحداث الكبيرة بمعزل عن أي معايير فئوية أو اجتماعية. - استمر التقسيم القبلي للناس الأساس الاجتماعي لهذه المؤسسة الإدارية الجديدة بتحقيق فيء الناس من خلال توزيع مردوده عليهم فردًا فردًا4. - بقيت الوحدة القبلية الشخص الحقوقي، والمعنوي الذي تعاطى معه الديوان، إذ حينما تم تدوين ديوان الأنصار سأل المدونون عمر بمن يبدأون، فقال لهم: "ابدأوا برهط سعد بن معاذ الأشهلي من الأوس، ثم الأقرب فالأقرب لسعد"5. - يعد ديوان عمر إجراء تنظيمًيا فنيًا يضبط علاقات المسلمين فيما بينهم بالنسبة لقسمة الفيء، وتخصيص توزيعه، وهو بالمقارنة مع ظروف تلك المرحلة حدث غير عادي، تحول نحو مصالح الفئات الشعبية التي أخذت تتحسس عمليًا حجمها المعنوي في مجتمع تتكافأ فيه الفرص، والتضحيات بصورة نسبية6. - الواضح أن عمر دون الديوان، وفرض العطاء ليتفرغ المسلمون للجهاد، ولهذا منع قسمة الأراضي المفتوحة بين المقاتلين حتى لا يعملوا بالزراعة، فتشغلهم عن

_ 1 إبراهيم، ص212. 2 الأحكام السلطانية: ص252. 3 إبراهيم: ص212. 4 المرجع نفسه. 5 البلاذري: ص437. 6 بيضون: ص91، 92.

الجهاد، وتجذبهم الأرض إليها فتنسيهم الرسالة الكبرى التي ألقى القدر عليهم أن ينهضوا بها، وقد ساعد تدوين الديوان، وفرض العطاء أولئك المسلمين على أداء الرسالة. - لم تكن الدواوين التي هي سجلات العطاء موجودة كلها في المدينة، بل كان كل ديوان على حدة عند والي البلد، أو القبيلة التي فرض فيها لأهل العطاء. فكان ديوان حمير عند والي اليمن، وديوان البصرة عند واليها، وديوان كل إمارة عند أميرها، بحيث أضحى كل مسلم يقبض عطاءه من البلد الذي هو فيه، كما أضحى كل والٍ مسئولًا عن إيصال العطاء إلى أصحابه في ولايته، وكان عمر يوصل العطاء لأصحابه في المدينة، وما حولها1. ديوان الجباية: يميز الماوردي بين ديوان العطاء الذي أنشأه عمر وبين ديوان الجباية، ويحذر من الخلط بينهما "وأما ديوان الاستيفاء، وجباية الأموال فجرى هذا المر فيه بعد ظهور الإسلام، بالشام والعراق، على ما كان عليه من قبل، فكان ديوان الشام بالرومية؛ لأنه كان من ممالك الروم، وكان ديوان العراق بالفارسية؛ لأنه كان من ممالك الفرس، فلم يزل أمرهما جاريًا على ذلك إلى زمن عبد الملك بن مروان، فنقل ديوان الشام إلى العربية سنة إحدى وثمانين هجرية"2. ويشير ابن خلدون إلى ضرورة التمييز بين الدواوين، مؤكدًا أن ديوان عمر كان ديوانًا داخليًا عربيًا لا علاقة له بمسائل تنظيم، وجمع الضرائب من السكان والفلاحين، وهو كان مبدأ ديوان الجيش، فإنه كان ديوانًا للقبائل من أجل إيصال حقوقها إليها، وأما ديوان الجباية، فبقي بعد الإسلام على ما كان عليه من قبل، ديوان العراق بالفارسية وديوان الشام بالرومية، وكتاب الدواوين من أهل العهد من الفريقين3. والمعروف أن هذا الديوان بقي لا علاقة له مطلقًا بديوان عمر "العطاء" الذي دخل لاحقًا في ديوان الجيش، ويذكر بأن ديوان مصر كان يكتب بالقبطية، ويتولى هذا الديوان موظفون أقباط. أما شئون ضبط الخراج وجمعه، وتنظيمه فبقيت من صلاحيات الدواوين الفارسية والبيزنطية المحلية، ويبدو أن العرفاء وأمراء الأجناد كانوا الوسطاء الشخصيين بين

_ 1 البلاذري: ص438. 2 الأحكام السلطانية: ص252، 253. 3 المقدمة: ص202، 203.

هذه الدواوين المحلية، وبين المسلمين الفاتحين، وهم الذين كانوا يأخذون سنويًا الأموال المجموعة من قبل هذه الدواوين المحلية، ويقومون بتوزيعها ضمن إطار العرافة، وعلى أرضية ديوان عمر على الناس والقبائل1. بيت المال: وأنشأ عمر بيت المال، ولم يكن موجودًا في عهد النبي، ولا في عهد أبي بكر، حيث قضت سياستهما بتوزيع ما يأتي من الأخماس، وأموال الزكاة إلى المدينة على من فيها، وقد رفض عمر في بادئ الأمر الخروج على هذه السياسة. فعندما قال له أحد المسلمين: "يا أمير المؤمنين لو تركت في بيوت الأموال عدة لكون إن كان! فقال: كلمة ألقاها الشيطان على فيك وقاني الله شرها، وهي فتنة لمن بعدي، بل أعد لهم ما أمرنا الله ورسوله: طاعة الله ورسوله، فهما عدتنا التي بها أفضينا إلى ما ترون، فإذا كان هذا المال ثمن دين أحدكم هلكتم2. ويبدو أن كثرة موارد الدولة المالية بعد استقرار الفتوح، دفعت عمر إلى تغيير سياسته، ووافق على تأسيس بيت للمال يحفظ فيه الأموال الفائضة عن أعطيات الجند، والإنفاق الضروري على مصالح المسلمين. وتعددت موارد بيت المال من الزكاة، والصدقات والجزية، والعشور والخراج، وكانت هذه الأخيرة على جانب كبير من الأهمية، وبخاصة بعد قرار الخليفة بإبقاء الأراضي الزراعية في أيدي أصحابها المحليين، مما ساهم في توفير مناخ مشجع للاستقرار في البلاد المفتوحة من جهة، ودعم عائدات الدولة المالية من جهة أخرى، وكان هذا القرار معبرًا عن نظرة الخليفة البعيدة للوصول إلى تحقيق الانصهار، والتلاحم بين مجتمعات هذه البلدان، وبين المسلمين الفاتحين، لا سيما وأن هؤلاء لم تكن لديهم التجربة الزراعية الكافية للقيام بهذا الدور3. وكان يجري تسجيل هذه المصادر المالية في بيت المال تحت إشراف جهاز ينتدبه الخليفة لهذه المهمة، وفي مقدمته المسئول الأول الذي صار يعرف بـ"صاحب بيت المال"، وكانت عملية التوزيع تأخذ شكلها المنظم الذي يتعدى الهبة أو المكافأة، إلى الرواتب المستقرة أو إلى إعطاء، فضلًا عن الأموال المحمولة بأمر الخليفة في مشاريع ذات خصائص عامة4.

_ 1 إبراهيم: ص202، 203. 2 الطبري: ج3 ص615. 3 بيضون: ص89، 90. 4 بيضون: ص91.

القضاء

القضاء: تطور القضاء حتى عهد عمر: للقضاء في اللغة عدة معان، لكن أهل اللغة متفقون بأن كلمة قضى تأتي بمعنى حكم، والقضاء هو الحكم1، أما المعنى الاصطلاحي، فهو "إظهار لحكم الله تعالى وإخبار عنه"، وهو أيضًا "إلزام من له الإلزام بحكم الشرع"، وهو "الحكم بين الناس بالحق، والحكم بما أنزل الله عز وجل"2. ارتبط القضاء بالحاكم الأعلى للدولة، أو نائبة في الولايات في عصر الرسالة، وفي عهد أبي بكر، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول قاض في الإسلام، فكان يحكم بين الناس بما أنزل الله إليه، سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين، ما داموا يعيشون ضمن إطار الدولة الإسلامية، وما جاءه من أمر ليس فيه حكم واضح يشاور فيه ويجتهد، أما خارج المدينة، فإن الأمر كان يختلف، فالقبائل القريبة من المدينة كانت تتبع المدينة مباشرة، فيأتي المتقاضون إليها ليقضي النبي بينهم، وإن كان الأمر يقتضي الذهاب إلى مكان حصول الخلاف، فيبعث النبي أحد أصحابه نيابة عنه ليستكمل التحقيق في القضية، وأما المناطق البعيدة عن المدينة، فقد كان الأمراء الذين يعينهم النبي يقومون بأمر القضاء، واشتهر علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل كولاة يتولون القضاء في عهد النبي. وكان عهد أبي بكر شبيهًا بعهد النبي من حيث وضع القضاء والقضاة، وبخاصة في الأمصار البعيدة، فالوالي هو القاضي، أما في المدينة فقد ابتكر أسلوبًا جديدًا حين أسند مهمة القضاء إلى عمر بن الخطاب، فيما يمكن أن نطلق عليه "فصل القضاء جزئيًا"؛ لأن أبا بكر كان يقضي بنفسه، ولم يترك القضاء بالكلية، كما أنه لم ير حاجة لفصل القضاء عن الولاية في الولايات الأخرى خارج المدينة.

_ 1 ابن منظور: ج15 ص186-189. 2 القريشي: ج1 ص86-88.

القضاء في عهد عمر

القضاء في عهد عمر: تمهيد: كانت اختصاصات العمال في ولاياتهم ما يليه عمر في المدينة، فيجمعون بين القضاء والتنفيذ، وإمارة الجند، على أن الخليفة ألفى نفسه بعد قليل من ولايته قد شغلته شئون الدولة العامة، وسياستها العليان وكانت أنباء جنده في العراق، وبلاد الشام تستغرق منه الكثير من الوقت والجهد، كما كانت تصرفات عماله موضع عنايته وتفكيره، وازدادت مصالح الناس في المدينة تعقيدًا، وتشابكًا بازدياد عدد سكانها، وكثرة المال الذي يرد عليها، وكان تقدم الفتوح وما تقتضيه من تنظيم لشئون البلاد المفتوحة، يدعوه إلى أن يكتب إلى أمراء جنده بآرائه في هذا التنظيم، لذلك كان لا بد من أن يولي أعوانًا له يقضون مصالح الأفراد، فيما لا تتأثر به مصلحة الدولة. وكان أول ما فعله أن فصل القضاء عن الولاية، فجعل بجانب الوالي قاضيًا ينظر في أمور القضاء لا عمل له غيره، وقد يجمع لبعض القضاة التعليم، أو القيام بشئون بيت المال إلى جانب عمل القضاء، وقد نفذ هذه الخطة في الولايات الجديدة التي فتحت في عهده، في العراق، وبلاد الشام ومصر، ولعل سبب ذلك ما تمتاز به تلك الأمصار من كثافة السكان من أهل تلك البلدان، بالإضافة إلى المسلمين الفاتحين، وما ينتج عن ذلك من كثرة القضايا والمشكلات، وثقل القيام بأعباء الولاية على الوالي، لكن عمل عمر لم يكن فصلًا كاملًا للقضاء عن سلطة الخليفة، ونوابه في الولايات بحيث أضحى القضاء سلطة مستقلة، وإنما كان علمه بداية لذلك، وكان هو الذي يعين القضاة، ويعزلهم ويحاكمهم، ويكتب لنوابه باختيار الصالحين للقضاء فيولوهم، ويكتب لقضاته بالتعليمات والآداب1. أشهر قضاة عمر: لعل أبرز من اشتهر في أيامه من القضاة: زيد بن ثابت الأنصاري، زيد بن سعيد بن ثمامة المعروف بابن أخت النمر، علي بن أبي طالب، لكن لم يعينه قاضيًا متفرغًا، وإنما كان يكلفه النظر ببعض القضايا، ويستشيره في الأمور الهامة، فإنه كان لا يستغني عنه، ولذلك لم يوله قيادة ولا إمارة بعيدة، عامر بن مالك بن قيس المعروف بأبي الدرداء، وقد ولاه القضاء في المدينة، إياس بن صبيح بن محرش الحنفي المعروف بأبي مريم، أول قاض على البصرة، كعب بن سور الكندي من أشهر ولاة الكوفة، عبد الله بن مسعود أحد قضاة الكوفة المشهورين، عبادة بن الصامت في بلاد الشام، ويذكر بأن التاريخ لم يحفظ لنا أسماء قضاة مشهورين في عهد عمر في بلاد الشام، أما في مصر فقد كلف عامله عمرو بن العاص باختيار القضاة، نذكر من بين قضاة مصر قيس بن أبي العاص السهمي، وكعب بن يسار بن ضبة العبسي. حكم هؤلاء القضاء مستقلين برأيهم في حدود كتاب الله وسنة نبيه، وتعد توليتهم أول خطوة في تنظيم، وفصل السلطات بعضها عن بعض، على أنها كانت خطوة أدت إليها الحاجة، وقضت بها ضرورات التطور في أوضاع الدولة.

_ 1 القريشي: ج2 ص575.

تعاليم عمر في نظام القضاء: كان عمر يختبر قضائه قبل أن يوليهم مهمة القضاء، ويحدد لهم النهج الذي يسيرون عليه، وذلك بما أرساه من تعاليم في نظام القضاء، وآداب القضاة، ولا تزال كتبه، وأقواله تشهد بسعة علمه في القضاء، وأصوله، وأحكامه، وأهم ما كتبه في ذلك كتابه الشهير إلى أبي موسى الأشعري حين ولاه القضاء، الذي يعد قطعة من أدب القضاة لا تزال خالدة، وقد اهتم به العلماء اهتمامًا عظيمًا بالشرح، فهو يقول: "بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس، سلام عليك! أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فأفهم إذا أدلي إليك، وأنفذ إذا تبين لك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له. وآس بين الناس في وجهك، وعدلك ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف في عدلك، البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا، ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس، فراجعت اليوم فيه عقلك، وهديت فيه إلى رشدك، أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم أعرف نفسك الأشباه والأمثال، وقس الأمور عند ذلك بنظائرها، واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق، واجعل لمن أدعى حقًا غائبًا، أو بينة أمدًا ينتهي إليه، فإن أحضر بينه أخذت له بحقه، وإلا وجهت القضاء عليه؛ فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى، المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلودًا في حد، أو مجربًا عليه شهادة زور، أو طنينًا في ولاء أو نسب؛ فإن الله سبحانه تولى منكم السرائر ودرأ بالبينات والإيمان، وإياكم والقلق، والضجر والتأذي بالخصوم، والتنكير عند الخصومات؛ فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر، ويحسن به الذكر، فمن صحت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شأنه الله، فما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه، وخزائن رحمته! والسلام1. إن قراءة متأنية لمضمون الكتاب توضح لنا أهم المبادئ القضائية التالية2: - على القاضي أن يعلم أن ما يحكم به نوعان: أحدهما فرض محكم غير منسوخ،

_ 1 انظر النص عند: الماوردي ص91، سنن الدارقطني: ج4 ص206، 207. 2 القريشي: ج2 ص630، 631.

مثل الأحكام الكلية التي أحكمها الله في كتابه، والآخر أحكام سنها النبي. - إن صحة الفهم والفقه في القضية من أهم ما يساعد على القضاء. - لا يكفي أن ينطق القاضي بالحكم العادل، بل عليه أن ينفذه، وذلك بإعلان الحكم والإلزام، به، ثم أخذ الحق لصاحبه إذا رفض المدعى عليه تسليمه. - المساواة بين الخصوم في المجلس، وفي نظر القاضي وفي القضاء، فإذا اختل أحدها تسرب الطمع إلى القوى بحيف القاضي، واليأس إلى الضعيف من العدل. - على القاضي أن يسمع الدعوى، والرد من المدعى عليه، ثم يطلب من المدعي البينة على دعوه، وعند فقدان البينة عليه أن يحلف اليمين. - إذا رأى القاضي محاولة الصلح بين الخصوم، فذلك جائز على أن يتوافق مع الكتاب والسنة، أما الصلح الذي يحل الحرام ويحرم الحلال، فغير جائز. - من ادعى حقًا غائبًا، وكانت له بينة ولكنها غائبة، فيؤجل وقتًا كافيًا لإحضار بينته ما لم يكن متهربًا من الحق، وإذا أحضر البينة في حدود الأجل المضروب أعطي حقه؛ لأنه قد أظهر حقه ببينته، وإن عجز المدعي عن إحضار البينة التي زعمها في الأجل المحدد له، فلا حق له في دعواه، هذا ما لم يكن قد حصل له عذر منعه من إحضار بينته، فإن اتبع القاضي هذه الطرق في سماع الدعوى والبينة، وأجل ما يستحق التأجيل يكون قد أبلغ في العذر، وجلى العمى في القضية، فلا يبقى إشكال، ولا عذر لمعتذر. - إذا قضى القاضي في قضية، ونفذ الحكم فيها فلا رجوع فيما قضى فيه، وإذا قضى في قضية وجاءته بعدها قضية مماثلة فبان له أنه أخطأ في القضاء في الأولى، وبان له الحق، فإنه يقضي بما ظهر له، ولا يتابع الخطأ، فيقضي كما قضى بالأمس، وهذا لا يعني الرجوع عن القضاء في القضية الأولى. - الحق أقدم من اجتهاد القاضي فيه، فإنه قضى عليه ثم ظهر، فعليه الرجوع، واجتهاده الخاطئ لا يبطل الحق. - الأصل في جميع المسلمين العدالة، ما لم يثبت ما يخدش تلك العدالة. - الأخذ بما ورد في الكتاب أو السنة، وتحري الحق على ضوئهما، وذلك في القضايا التي فيها حكم ظاهر، أما القضايا التي ترد على القاضي، وليس فيها حكم ظاهر في الكتاب أو السنة، فإنها تحتاج إلى فهم وعلم ونظر دقيق، ثم إن العمل في مثل هذه القضايا النظر في أشباهها من القضايا القريبة منها التي لها مستند من الدليل، فينظر القاضي ويحمل الجديد على أقرب، وأشبه قضية بها، ولا يكون ذلك إلا بعد

النظر الموصل إلى قناعته بأن ما توصل إليه أحب الطرق إلى الله، فيما يعلم القاضي. - لا بد أن يبتعد القاضي عما يثير غضبه وقلقه، وضجره أثناء القضاء، ولا ينبغي له أن يضيق بالناس وقت الخصومة، ويتنكر للخصوم عند ذلك، ثم إن الصبر على القضاء، والعدل يكسبه الأجر وحسن الذكر. - إن النية الخالصة في مهنة القضاء التي تؤدي إلى قول الحق، ولو على النفس والأقربين، تحمي القضاء مما يضمره له الناس من عداء، وشر بسبب قول الحق وإظهاره، بكفاية الله. - إخلاص النية في جميع الأعمال، وتحذير للقضاة بخاصة، وللناس بعامة من التزين بما ليس في النفس من قول أو فضل. تعيين راتب للقاضي: من الأمور التي لا يمكن لقاض أن ينهض بعمله دونها الراتب المنتظم الذي يعينه، وعياله على استمرار الحياة، وأن النفقة عليه من بيت مال المسلمين تضمن استمرار مصلحته للأمة، وتفرغه لعمله، إذ لو تعاطى القاضي عملًا آخر ليؤمن رزقه، ورزق عياله لما استطاع أن يقوم بواجب وظيفة القضاء، فلا بد للقاضي إذن من التفرغ من الحاجة، وقد فرض عمر رواتب للقضاة الذين فرغهم للعمل في ميدان القضاء، نذكر منهم زيد بن ثابت، شريح الكندي، سلمان بن ربيعة الباهلي قاضي الكوفة، وعبد الله بن مسعود. علاقة الخليفة بالمجتمع الإسلامي: لا يمكن استيعاب الطابع التاريخي للخلافة أثناء الفتوح الأولى إلا من واقع ارتباطها، وعلاقاتها المتبادلة مع الهيكلية الاجتماعية السائدة؛ لأن القيادة السياسية المركزية كانت جزءًا لا يتجزأ من النظام الاجتماعي السائد. لقد قدم عمر نموذجًا سياسيًا وأخلاقيًا، ربط من خلاله بين القيم الإسلامية المستمدة من القرآن والسنة، وبين حركة النظام الاجتماعي القبلي في مرحلة توسعه، وانتشاره نحو الخارج، من خلال تنظيمه المركزي للغزوات، وتقسيم فيئها، بحيث نشأت مساواة تامة بين وحدة القبائل، ووحدة الدين الجديد واستقرار الفتوح1. رأى عمر في وظيفة إمارة المسلمين على أنها تفويض من الجماعة الإسلامية لا

_ 1 إبراهيم: ص216.

يستقيم حالها إلا برقابة الأمة عليها، لقد وصف مهمته في قوله: "إني حريص على ألا أدع حاجة إلا سددتها ما اتسع بعضنا لبعض، فإذا عجز ذلك عنا تآسينا في عيشنا حتى نستوي في الكفاف، ولوددت أنكم علمتم من نفسي مثل الذي وقع فيها لكم، ولست معلمكم إلا بالعمل، وإني والله ما أنا بملك فأستعبدكم، وإنما أنا عبد الله عرض علي الأمانة، فإن أبيتها ورددتها عليكم، وأتبعتكم حتى تشبعوا في بيوتكم، وترووا سعدت، وإن أنا حملتها واستتبعتكم إلى بيتي شقيت، ففرحت قليلًا، وحزنت طويلًا، وبقيت لا أقال، ولا أرد فأستعتب"1. انسجامًا مع هذا الموقف رفض عمر أن يتخذ حاجبًا؛ لأن الحجابة تقيم حاجزًا بينه وبين الناس فينفصل عنهم2، والواقع أن عمر لم يبتغ من الخلافة شيئًا لنفسه، بل كان يعد نفسه الحارس الأمين على مال المسلمين، وأرواحهم وحريتهم ووحدتهم، ويرى أن الخلافة أبوة تلقي على الخليفة، واجبات نحو المسلمين هي واجبات الأب نحو أبنائه، لذلك كان اشد الناس قربًا بالناس والتصاقًا بهم، خطب يومًا في الناس، فقال: "إني امرؤ مسلم وعبد ضعيف، إلا كما أعان الله عز وجل، ولن يغير الذي وليت من خلافتكم من خلقي شيئًا إن شاء الله، إنما العظمة لله عز وجل، وليس للعباد منها شيء، فلا يقولن أحد منكم: إن عمر تغير منذ ولي، أعقل الحق من نفسي وأتقدم، وأبين لكم أمري، فأيما رجل كانت له حاجة، أو ظلم مظلمة، أو عتب علينا في خلق، فليؤذني، فإنما أنا رجل منكم، فعليكم بتقوى الله في سركم وعلانتيكم، وحرماتكم وأعراضكم، وأعطوا الحق من أنفسكم، ولا يحمل بعضكم بعضًا على أن تحاكموا إلي، فإنه ليس بيني وبين أحد من الناس هوادة"3. لعل أجلي تجسيد لهذه السياسة نجده في تعامل عمر مع عماله على الأمصار. قال يومًا مخاطبًا الناس: "إني والله ما أرسل إليكم عمالًا ليضربوا أبشاكرم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكني أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنتكم، فمن فعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إلي، فوالذي نفس عمر بيده لأقصنه منه، فوثب عمرو بن العاص، فقال: يا أمير المؤمنين أرأيتك إن كان رجل من أمراء المسلمين على رعية، فأدب بعض رعيته، إنك لتقصه منه! قال: إي والذي نفس عمر بيده إذًا لأقصنه منه، وكيف لا أقصنه منه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه! "4. وكتب إلى أمراء الأجناد: "ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تجمروهم

_ 1 الطبري: ج3 ص584. 2 المصدر نفسه: ج4 ص202. 3 المصدر نفسه: ص215. 4 الطبري: ج4 ص204.

فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم، ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم1. الواضح أن عمر جهد كي لا تنشأ مراكز قوى في الأمصار تؤدي بدورها إلى إنشاء علاقة حكم، وسيادة بين الأمراء وعامة الناس، لهذا كان حريصًا على ألا يستغل الوالي وظيفته أو يستقل بها، وأن يبقى على صلة حقيقية مع أصحاب الشأن، أي مع جمهور المسلمين2. انسجامًا مع هذه الرؤية للإدارة السياسية انتهج عمر نحو عماله اللامركزية السياسية، حارب من خلالها اتجاهات تركيز السلطة، والثورة في أيديهم، وحافظ على هذا النهج طوال حياته، وقد افتتح هذه السياسة بعزل خالد بن الوليد عن إمارة جيوش المسلمين في بلاد الشام، وتعيين أبي عبيدة بن الجراح مكانه كما ذكرنا سابقًا. وتروي روايات المصادر أنه أثناء تأسيس الكوفة اقترح دهقان من أهل همذان على سعد بن أبي وقاص أن يبني له قصرًا على غرار قصر كسرى، وغلق بابه، وكثر حديث الناس عن قصر سعد، وبلغ ذلك عمر في المدينة، فأرسل محمدًا بن مسلمة ليحرق باب القصر، وأرسل معه الكتاب التالي لسعد "بلغني أنك بنيت قصرًا اتخذته حصنًا، ويسمى قصر سعد، وجعلت بينك وبين الناس بابًا، فليس بقصرك، ولكنه قصر الخبال، انزل منزلًا مما يلي بيوت الأموال وأغلقه، ولا تجعل على القصر بابًا تمنع الناس من دخوله، وتنفيهم به عن حقوقهم ليوافقوا مجلسك، ومخرجك من دارك إذا خرجت"3.

_ 1 المصدر نفسه. 2 إبراهيم: ص218. 3 الطبري: ج4 ص46، 47.

إدارة البلاد المفتوحة من خلال عقود الصلح

إدارة البلاد المفتوحة من خلال عقود الصلح: الطابع العام لعقود الصلح: تميز روايات المصادر بين الفتح صلحًا، والفتح عنوة لدى استعراضها لفتوح البلدان، وهذا يعني أن شروط الصلح كانت تتعلق مباشرة بالشكل الذي تم فيه الفتح، فإذا تم الفتح صلحًا دون قتال من جانب السكان، فقد أقر المسلمون لهؤلاء حريتهم، وأموالهم وأمانهم مقابل دفع جزية سنوية، أما إذا كان الفتح قد تم عنوة، وحدث قتال مع السكان، وأخذت الأراضي بالقوة، فقد يتم سبي الناس ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم، وهذا يعني الاختلاف في الوضعية الحقوقية للسكان، يضاف

إلى ذلك، فقد راعى المسلمون شكل الفتح لدى فرضهم للجزية على الناس حيث كانت جزية من صالح أقل من جزية من قاتل، لكنها تترك مجالًا واسعًا لعقود فتح خاصة، ثم من خلالها تعديل هذا القانون العام، أو حتى إلغائه في بعض الأحيان وفقًا للظروف الملموسة للفتح1. فبعد تحطيم القوة الميدانية للجيوش المركزية الفارسية، والبيزنطية في المعارك الفاصلة كالقادسية واليرموك، غادرت الأجهزة الحكومية المركزية أماكن تواجدها في المدن والقرى المفتوحة، فبرز الأمراء المحليون ليملأوا الفراغ، وأضحوا الممثلين المباشرين أمام الفاتحين، وقد أخذوا على عاتقهم توقيع عقود الصلح التي تباينت أشكالها وفقًا لشكل الفتح، ففي حين عرضت بعض المدن، والقرى على المسلمين دفع الجزية مقابل الأمان، حاولت مدن وقرى أخرى مقاومة الفاتحين في بادئ الأمر، ثم ما لبثت أن بادرت إلى القبول بدفع الجزية مقابل وقف القتال بعد أن أدركت عدم جدوى الاستمرار فيه، وأقدم المسلمون أحيانًا على فرض عقود الصلح بغض النظر عما إذا كان قد جرى قتال أم لا، كما كان الحال في فتوح الجزيرة، إذ تضمنت عقود الصلح لهذه المنطقة الشروط نفسها على الرغم من أن روايات المصادر تشير إلى أن هذه القرية قد فتحت صلحًا، وتلك قد فتحت عنوة، فرأس العين مثلًا، قاومت المسلمين بشدة، لكن هؤلاء ألحقوها بعد أن استسلمت بغيرها من نواحي الجزيرة التي فتحت صلحًا، وبالشروط نفسها2. ولا يخلو استعراض البلاذري لفتح مصر من هذا التداخل في شروط الفتح صلحًا، وعنوة من خلال وضعه لمسار الفتوح لمختلف أرجاء الديار المصرية، على الرغم من أن رواياته تشير إلى تشابه، وتطابق عقود الصلح التي عقدها المسلمون مع جميع المدن، والقرى المصرية3، وكذلك تشير روايات الطبري بأن أهل مصر كلهم دخلوا في صلح بابليون وقبلوا بمضمونه، والمعروف أن بعض القرى المصرية قاومت المسلمين وقاتلتهم، وأن حصن بابليون نفسه قد فتح عنوة في قسم منه، لكن المسلمين أجروا ما أخذه عنوه مجرى ما صالحوا عليه، فصار أهل مصر كلهم ذمة4. وما حصل في بلاد فارس من المقاومة الشديدة بالمقارنة مع ما حصل في بلاد

_ 1 إبراهيم: ص162، 163. 2 البلاذري: ص181. 3 فتوح البلدان: ص214-218. 4 تاريخ الرسل والملوك: ج4 ص108، 109.

الشام حيث كانت معظم الفتوح سلمية؛ لا تميز روايات المصادر بشكل لافت بين عقود الصلح التي عقدها المسلمون في فارس، وبين عقودهم في بلاد الشام، فالقتال الشديد الذي جرى في نهاوند لم يمنع، بعد خسارة الفرس، من إلحاقهم بشروط الصلح للمدن المفتوحكة قبلها على الرغم من أن كثيرًا منها قد تم صلحًا، وبمبادرة من السكان1، وفتح همذان لم يختلف عن فتح نهاوند2، ولو تأملنا مليًا روايات المصادر الخاصة بفتح أذربيجان حيث المرزبان، ملك هذه البلاد، قاتل المسلمين قتالًا ضاربًا وعنيفًا، ثم صالحهم على الجزية3. الواضح من استعراض روايات الطبري أن مسألة الفتح صلحًا، وعنوة تحولت إلى مسائل فقهية متنازع عليها، وأن المسلمين الفاتحين ساووا في المعاملة بين جميع الأمم والناس، حتى المجوس، أثناء الفتوح على الرغم من طرق مواجهتها، والمعروف أن مؤرخنا كان صاحب مدرسة فقهية، إلا أن مذهبه الفقهي لم يقدر له النجاح والاستمرار4. لذلك نرى معظم رواياته تصب في هذا الاتجاه على الرغم من الإشارات لمسألة الفتح صلحًا، أو عنوة لدى وصفها لأحداث الفتوح، ففي مسألة السواد، يذكر الطبري أنه فتح عنوة، ولكن مع ذلك عومل أهل السواد كأصحاب عقد، وذمة مثلهم مثل غيرهم من الناس5، ولم ينكر إمكان الربط بين شكل الفتح وشروط الصلح، ولكنه كان يرى أن الصحابة لم يستخدموا هذه الإمكانية، وأنهم صالحوا كل الناس بذات الشروط، لهذا يؤكد تساوي الوضعية الحقوقية لجميع الناس، والأمم والبلدان في دار الإسلام6. اعتمد المسلمون نموذجًا واحدًا لعقود الصلح، والأمان مع المدن، والقرى المفتوحة، فرضوه على الجميع بغض النظر عما إذا كان قد حدث قتال، وبغض النظر عن سهولته أو عنفه، وتشير روايات البلاذري أن بعض المدن في بلاد الشام مثل عرقة، وصيدا وبيروت وجبيل، فتحت بشكل يسير، وعقدت الصلح مع المسلمين بعد أن رأيت سرعة زحفهم وشدته، وانعدام المقاومة لوقفهم، ومع ذلك

_ 1 البلاذري: ص300-306. 2 المصدر نفسه: ص306، 307. 3 المصدر نفسه: ص321-324، الطبري: ج4 ص153-155. 4 الدوري، عبد العزيز: بحيث في نشأة علم التاريخ عند العرب ص55. 5 تاريخ الرسل والملوك: ج3 ص586، 587. 6 إبراهيم: ص167.

لا تشير هذه الروايات أي إشارة إلى اختلاف شروط الصلح بين هذه المدن، وبين سائر مدن بلاد الشام التي قاتلت قبل التوقيع على هذه الصورة أو تلك1. الواضح أن مسألة الفتح صلحًا، وعنوة إنما نشأت تاريخية في بادئ الأمر نتيجة الوضعية الفعلية لشكل الفتح، ثم اتخذت بعد ذلك منحى فقهيًا2، وأن النقاش الفقهي ارتبط مع قضية التعديل في نظام الجزية والخراج، وفي نظام الضرائب عمومًا، في العصرين الأموي والعباسي، والتي كانت تطرح باستمرار كلما اشتدت حاجة بيت المال للأموال، والمعروف أن الكثير من عقود الصلح حددت آنذاك كمية الجزية، والخراج تحديدًا عدديًا، وأن تغيير هذا كان يتطلب تبريرًا شرعيًا، وكان تحديد هذه البلاد، أو تلك قد فتحت عنوة يساعد على إطلاق البدء في تعديل، وتغيير الشروط كما يشاء، وأما تحديد الفتح صلحًا، فكان يعني الإقرار بأن أهل البلاد المعنيين أصحاب عقد لا يجوز لمسلم أن يخل به3، يروي الطبري بشأن فتح الإسكندرية " ... أن ملوك بني أمية كانوا يكتبون إلى أمرءا مصر أن مصر إنما دخلت عنوة، وإنما هم عبيدنا نزيد عليهم كيف شئنا، ونضع ما شئنا"4. ويؤكد الماوردي ظاهرة تحول شكل الفتح إلى مسألة فقهية، عندما أدخلها في صلب المعالجات الفقهية، من واقع استعراضه بالتفصيل للمواقف الفقهية المختلفة في تحديد الأشكال التاريخية لفتوح البلدان، وبالتالي ما يترتب على تقسيم كهذا من تنوع في مسائل تحديد الجزية والخراج5، ويخصص فصلًا كاملًا حول حكم أرض السواد6، ويبرر أهمية هذه البلاد؛ لأنها "أصل حكم الفقهاء بما يعتبر به نظائرها"7، ويشير إلى أن الفقهاء اختلفوا في حكم السواد وفتحه، فذهب أهل العراق إلى أنه فتح عنوة، ولكن لم يقسمه عمير بين الغانمين، وأقره على سكانه، وضرب الخارج على أرضه، ويقر الشافعي بأن السواد فتح عنوة، واقتسمه الغانمون ملكًا ثم استنزلهم عمر، فنزلوا إلا طائفة استطاب نفوسهم بمال عاوضهم به عن حقوقهم منه، فلما خلص للمسلمين، ضرب عمر عليه خراجًا، فاختلف أصحاب الشافعي، فذهب أكثرهم إلى

_ 1 فتوح البلدان: ص133. 2 قارن بإبراهيم الذي يرى أن قضية الفتح عنوة، وصلحًا إنما نشأت لاحقًا في سياق تأسيس النظام الضريبي للدولة الإسلامية الأموية ثم العباسية، وهي قد نشأت كمشكلة فقهية، ص168. 3 المرجع نفسه: ص167. 4 تاريخ الرسل والملوك: ج4 ص106. 5 الأحكام السلطانية: ص174-176، 181-198. 6 المصدر نفسه: ص217-222. 7 المصدر نفسه: ص217.

أن عمر وقفه على كافة المسلمين، وأقره في أيدي أربابه بخراج ضربه على رقاب الأرضين1. نستنتج مما قدمنا أن مقولة الارتباط بين أشكال الفتح، وشروطه مقولة تاريخية، وهي منتشرة في كل المصادر، ثم تحولت بعد ذلك إلى مسألة فقهية بفعل تطور النظام الضريبي2، وقد ارتبطت عقود الصلح بعاملين: الأول: حال الفتح؛ لأن المسلمين كانوا غرباء في بلاد شاسعة لها لغاتها، وأديانها وعاداتها، وكانوا أيضًا غير مستقرين يفتحون ليصالحوا، ثم يتابعون المسير للتوسع. الثاني: الحالة الاجتماعية للفاتحين، وهذا يعني أن نموذج الصلح مع سكان البلاد المفتوحة كانت تفرضه عقلية الفاتحين أنفسهم، وأعرافهم، وعلاقاتهم فيما بينهم، أي أن الفتح كان الشكل الاجتماعي لحياة القبائل، وعيشها ورزقها، في هذه المرحلة3. علاقة الفاتحين بسكان البلاد المفتوحة: بعد القضاء على الإمبراطورية الفارسية، وإخراج البيزنطيين من بلاد الشام ومصر، انتهى عمليًا في هذه البلاد وجود مؤسسة الدولة، وأضحى الولاة المحليون، وأعيان المدن والمقاطعات هم الذين يمثلون الهيئات العامة، والتفاوض مع المسلمين، لهذا حافظت التقسيمات الإدارية لدولتي الفرس، والبيزنطيين على وجودها ووظيفتها سواء من الناحية الشخصية، حيث استقرت طبقة الحكام المحليين في عملها، أو من الناحية الإدارية حيث استمرت الدواوين في أداء وظائفها، وحددت طبيعة مرحلة الفتوح شكل العلاقة بين المسلمين الفاتحين، وأصحاب البلاد المحليين التي بقيت علاقة خارجية، وذلك بفعل تفرغ المسلمين للفتوح، والسكن في معسكرات خاصة، مما لا يسمح بالاندماج، والاختلاط اللذين يتطلبان استقرار الفاتحين، وارتبطت هذه العلاقة الخارجية بثلاثة أمور: الجزية والذمة، والاستقلال الإداري والثقافي4. شكلت الجزية الأرضية الحقوقية للممارسة السيادة من خلال عقود الصلح، وهي عبارة عن جملة القيم المادية، العينية، والنقدية التي يتوجب على المغلوبين دفعها سنويًا إلى المسلمين الفاتحين، إنها علاقة عقدية بين طرفين لكل منهما حقوق وواجبات، ففي مقابل ضمان الأمان الشامل للسكان، وصونهم والدفاع عنهم تجاه أي عدوان خارجي، كانت الجزية المتوجبة على هؤلاء للمسلمين الذين أدخلوهم في

_ 1 الأحكام السلطانية: ص219. 2 قارن بإبراهيم: ص170. 3 المرجع نفسه. 4 المرجع نفسه: ص197.

ذمتهم، وهذه الحقوق والواجبات تكمل بعضها البعض، وتشترط بعضها البعض، فإذا عجز المسلمون عن تنفيذ وعودهم، لم تعد الجزية حقًا لهم، وإذا امتنع السكان عن دفعها، أو نقضوا العهود وقاتلوا المسلمين مجددًا، سقطت عنهم الذمة، وأضحوا أهل حرب لا أهل صلح1. أما كل ما تعدى هذه العلاقة، فقد تم النظر إليه على أنه يدخل في الشئون الداخلية للسكان لا علاقة للمسلمين به، وهذا يعني إقرار المسلمين للسكان المحليين بالإدارة الذاتية في المدن، والمقاطعات بما تحويه من دواوين، والإقرار بالاستقلالية الثقافية لهؤلاء، وبالتالي تركهم على أوضاعهم، وعاداتهم وثقافاتهم وأديانهم، وطبقاتهم دون التدخل فيها. تذكر روايات المصادر أنه بعد توقيع صلح الإسكندرية تقدم أعيانها لعمرو بن العاص، وقالوا له: "نريد أن تولوا علينا رجلًا من أصحابك حتى يجمع المال الذي طلبت منا"، فكان جوابه: "إنا لا نعلم بأمور أصحابكم، ولا نعرف القادر منكم ولا الضعيف، فانظروا في أكابركم ممن تختارونه عليكم لجمع المال، فولوه عليكم، ويكون معه رجل من أصحابنا مساعدًا له على ذلك"2. لقد تم فتح مدينة بعلبك بعد حصار وقتال، وقيل حاكم المدينة بعقد الصلح شرط ألا يدخل المسلمون إلى المدينة، وأن يبقوا خارجها، تأتيهم الجزية إليهم في وقتها المحدد، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل. اتفق أبو عبيدة مع أعيان حلب أثناء عقد الصلح معهم، على أن تخلي المدينة نصف دورها3، وتعهدت الرها بموجب عقد الصلح مع عياض بن غنم بأن تقوم بصورة دورية بإصلاح الطرق والجسور4، ونصت الكثير من عقود الصلح على حق المسلمين المحتاجين بالنزول ضويفًا على السكان المحليين لمدة ثلاثة أيام، ولما فتح عمرو بن العاص برقة، صالح أهلها على الجزية التي بلغت قيمتها ثلاثة عشر ألف دينار، وسمح لهم أن يبيعوا من أبنائهم من أحبوا بيعه لقاء تأمين هذا المبلغ، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل، ومن بين عقود الصلح التي عقدها المسلمون مع أمراء الولايات الشرقية من بلاد فارس، كان العقد الذي أبرمه سويد بن مقرن مع حاكم

_ 1 إبراهيم: ص178. 2 الأموي، ابن إسحاق: كتاب فتوح مصر وأعمالها ص77. 3 البلاذري: ص152. 4 المصدر نفسه: ص179.

خراسان على منطقة طبرستان: "هذا كتاب من سويد بن مقرن للفرخان اصبهذ خراسان على طبرستان، وجيل جيلان من أهل العدو، إنك آمن بأمان الله عز وجل على أن تكف لصوتك، وأهل حواشي أرضك، ولا تؤوي لنا بغية، وتتقي من ولي خرج أرضك بخمسمائة ألف درهم من دراهم أرضك، فإذا فعلت ذلك فليس لأحد منا أن يغير عليك، ولا يتطرق إلى أرضك، ولا يدخل عليك إلا بإذنك، سبيلنا عليكم بالإذن آمنة، وكذلك سبيلكم، ولا تؤوون لنا بغية ولا تسلون لنا إلى عدو، ولا تغلون، فإن فعلتم فلا عهد بيننا وبينكم، شهد سواد بن قطبة التميمي، وهند بن عمرو المرادي، وسماك بن مخرمة الأسدي، وسماك بن عبيد العبسي، وعتيبة بن النهاس البكري، وكتب سنة ثمان عشرة"1. اضطر المسلمون بعد انتهاء عمليات الفتوح إلى الحفاظ على الأوضاع العامة السائدة في المناطق المفتوحة، حيث تركوا الناس تحت رحمة الحكام المحليين الذين أضحوا الطرف الوسيط، وكان من مصلحة الفاتحين الحفاظ على استقرار أوضاع هؤلاء الوسطاء حيث أوكلت إليهم مهمات الحفاظ على الأمن، والنظام وتنفيذ شروط عقود الصلح، وكان التشاور معهم ضروريًا لحسن سير الأعمال2. بعد أن استتب الفتح على أراضي السواد، تشاور سعد بن أبي وقاص مع دهاقنتها بشأن كيفية التعامل مع الفلاحين، فأشاروا أن يترك الناس على أرضهم يزرعونها؛ لأنه من سيزرع أو يحصد إذا سبي الفلاحون، وأبعدوا عن أرضهم؟ وكان عمر يأمر عماله على العراق أن سمعوا لنصائح الدهاقنة إذا ما اعترضتهم صعاب ومشكلات؛ لأن هؤلاء أعلم ببلادهم وناسهم من غيرهم. لذلك، لم تكن للمسلمين الفاتحين أي علاقة مباشرة مع السكان، وانحصرت معاملاتهم مع دهاقنة الأهواز، وأمرائها الذين قبلوا منذ البدء على أنهم أسياد هذه البلاد وساسة سكانها، وبالتالي ممثلوها أمام الفاتحين. هكذا كان أسلوب التعامل مع البلاد المفتوحة عامًا يتعلق بأوضاع الفاتحين أنفسهم، وعلاقاتهم الداخلية، أما الأوضاع الداخلية للسكان، فكانت هامشية لم تؤد دورًا يذكر في تحديد شكل هذا التعامل. مقتل عمر: قتل عمر فجأة بيد شخص مغمور لا يعرف الناس من أمره إلا أنه خادم للمغيرة

_ 1 الطبري: ج4 ص153. 2 إبراهيم: ص176.

ابن شعبة، وهو من زعماء ثقيف بالطائف، أما اسمه فهو فيروز أبو لؤلؤة المجوسي، وهو فارسي الأصل من سبي نهاوند، وكان قد شكا إلى الخليفة ثقل خراجه. ففي فجر يوم الأربعاء "لأربع بقين من شهر ذي الحجة عام 23هـ/ 23 تشرين الثاني عام 644م"1، خرج عمر من منزلة ليؤم الناس لصلاة الفجر، حتى إذا انتظم جمع المصلين، بدأ ينوي للصلاة ليكبر، ودخل في تلك اللحظة رجل ظهر فجأة بجانبيه، وطعنه بخنجر له نصلان حادان، ثلاث طعنان أو ست إحداها تحت سرته، وشعر عمر بحر السلاح، فالتفت إلى المصلين باسطًا يديه يقول: "أدركوا الكلب فقد قتلني"2، وحاول القاتل الفرار، فتصدى له المصلون، فراح يطعنهم يمينًا وشمالًا فأصاب ثلاثة عشر منهم، ثم إن عبد الله بن عوف أتاه من ورائه، وألقى عليه رداءه وطرحه أرضًا، وعندما أيقن فيروز أنه مقتول لا محالة، انتحر بخنجره3 مسدلًا الستار على دوافع أهم، وأخطر قضية واجهت المسلمين حتى ذلك الوقت؛ لأنها كانت فاتحة لحوادث مماثلة سوف تواجه المسلمين في المستقبل. كانت الطعنة التي أصابت عمر تحت سرته قاتلة، فلم يستطع الوقوف من أثرها وسقط طريحًا، فاستخلف عبد الرحمن بن عوف على الصلاة بالناس، ونقل إلى منزله وهو ينزف دمًا، ولما علم أن أبا لؤلؤة هو الذي طعنه، حمد الله الذي لم يجعل قاتله يحاجه عند الله بسجدة سجدها له، وتوفي بعد ثلاث ليال، ودفن يوم الأحد مستهل محرم من عام 24هـ بالحجرة النبوية إلى جانب أبي بكر بعد أن استأذن عائشة4. كان لمقتل عمر مقدمات تكشف عن إنذار وجهه إليه أبو لؤلؤة، وتحذير من كعب الأحبرا، أحد كبار أحبار اليهود في المدينة، فقد خرج عمر يومًا بعد عودته من الحج يطوف في السوق، فلقيه أبو لؤلؤة، فقال له: "يا أمير المؤمنين أعدني -انصرني- على المغيرة بن شعبة، فإن علي خراجًا كثيرًا، وقال عمر: كم خراجك؟ قال: درهمان في كل يوم، قال عمر: وما صناعتك؟ قال: نجار، نقاش، حداد، قال عمر: فما أرى خراجك بكثير على ما تصنع من الأعمال. قد بلغني أنك تقول: لو أردت أن أعمل رحى تطحن بالريح فعلت، قال: نعم. قال عمر: فأعمل لي رحى، قال: لئن سلمت لأعملن لك رحى يتحدث بها من بالمشرق والمغرب، ثم انصرف عنه، قال عمر:

_ 1 الطبري: ج4 ص193، 194، اليعقوبي: ج2 ص52. 2 ابن قتيبة، ج1 ص23. 3 ابن كثير: ج7 ص137. 4 الطبري: ج4 ص192، 193.

لقد توعدني العبد آنفًا"1، ودخل عمر منزله دون أن يكترث جديًا بهذا التهديد، فلما كان من الغد جاءه كعب الأحبار، فقال له: "يا أمير المؤمنين، فإنك ميت في ثلاثة أيام"، وأعاد عليه القول في اليوم الثاني، وفي الغداة من ذلك اليوم قال له: "ذهب يومان وبقي يوم وليلة، وهي لك إلى صبيحتها"2. وقد شهد عبد الرحمن بن أبي بكر أنه رأى الخنجر الذي طعن به عمر مع الهرمزان الأمير الفارسي، وجفينة أحد نصارى الحيرة وأبي لؤلؤة، أثناء اجتماع لهم، مما دفع عبيد الله بن عمر، وهو في ثورة غضب إلى قتل الهرمزان وجفينة3. إن حادثة على هذا المستوى تحتاج إلى إثباتات مقنعة قبل الحكم الموضوعي على دوافعها، وقد اندثرت مع قتل الأشخاص الثلاثة، إذ إن إقدام أبي لؤلؤة على قتل الرجل الأول في الدولة، لأمر يخرج عن القواعد المألوفة إلا إذا كان به مس من الجنون، وهذا لم تشر إليه الرواية التاريخية4، وفي هذه الحالة لا يستطيع الباحث أن يتجاهل ربط هذه القضية بعوامل خارجية بعد رفض الأسباب الهزيلة التي تناقلها المؤرخون التقليديون حول ثقل خراج حول ثقل خراج أبي لؤلؤة، ولا أستبعد أن يكون كعب الأحبار مشتركًا فيها، أو مطلعًا على خيوطها، إذ إن تحذيره لعمر، وتحديده ليوم القتل وساعته، له دلالته، والمعروف أن اليهود أخذوا يتآمرون ضد الإسلام في كل بلد وصل إليه، ويدبرون الاغتيالات لحكام هذه البلاد المسلمة، وبدأت مؤامرتهم الدنيئة باغتيار عمر مستعينين بالفرس الموجودين في المدينة، لقد قضى عمر على الإمبراطورية الفارسية، وأخرج البيزنطيين من بلاد الشام ومصر، كما أخرج اليهود من جزيرة العرب، فأضمروا الحقد للإسلام والمسلمين بعامة، ولعمر بخاصة، فحاكوا هذه المؤامرة التي كان أبو لؤلؤة أداتها التنفيذية، وروي عن عمر قوله حين علم بأن أبا لؤلؤة هو الذي طعنه: "قد كنت نهيتكم عن أن تجلبوا علينا من علوجهم أحد، فعصيتموني" قد تكون حادثة الاغتيال تصب في مصلحة بعض المتذمرين من بقايا التجار، وأصحاب الثروات الذين وجدوا في نظام عمر الصارم ضربة لمصالحهم الحيوية، والمعروف أن عمر فرض رقابة مشددة على انتقال الشخصيات الحجازية إلى المدن

_ 1 الطبري: ج4 ص191. 2 المصدر نفسه. 3 المصدر نفسه: ص240. 4 بيضون: ص101.

والقرى في البلدان المفتوحة، وكان يرى أن كثرة الأموال والثروات، وانتشار قريش في الأمصار المفتوحة يمكن أن يفتح آفاقًا جديدة في تطور المسلمين، تبعدهم عن الأجواء الأولى لظهور الإسلام، واسنجامًا مع هذه الرؤية ضيق على المهاجرين بخاصة، وعلى قريش بعامة، وحصرهم في المدينة1، فمنعهم عمليًا من التنعم بثمار الفتوح، مما أثار صدمة لدى هؤلاء الذين شعروا بأن فرض الثراء تضيع من أمامهم دون أن ينجحوا في حمل الخليفة المتشدد على تعديل قراره، ولهذا تعارضت أهدافهم ومواقفهم مع أهداف عمر ومواقفه، وهو الملتزم بفكرة الدولة وقوانينها، ولعل أبرز مؤشرات الانفصال هي اندماج الخليفة بصورة عضوية مع الفئات المتسوطة، والشعبية المستفيدة عمليًا من تنظيم العطاء2، لكني استبعد اشتراك هؤلاء في المؤامرة، بدليل قول عمر: "ما كانت العرب لتقتلني"، هذا على الرغم من أن هذه الفئة سوف تؤدي دورًا بارزًا في اختيار شخصية البديل بما يتوافق، وحوافزها المتحركة.

_ 1 الطبري: ج3 ص396، 397. 2 بيضون: ص101، 102.

الباب الثالث: عثمان بن عفان 23-25هـ/644-656م

الباب الثالث: عثمان بن عفان 23-35هـ/ 644-656م الفصل الحادي عشر: الفتوح في عهد عثمان التعريف بعثمان: هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، الأموي القرشي، أمير المؤمنين، ولد بعد مولد النبي بخمس سنين، أمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وأمها البيضاء بنت عبد المطلب، عمة النبي، وكانت توأمة لوالده عبد الله1. اشتهر عثمان بالعفة والحياء والكرم2، لين العريكة، كثير الإحسان والحلم، لا يوقظ نائمًا من أهل بيته إلا أن يجده يقظان فيدعوه، فيناوله وضوءه، وكان يصوم الدهر عدا الأيام المكروهة، وهي أيام العيدين، والشك في أول رمضان3. زوجه النبي ابنته رقية، فأنجب منها ابنه عبد الله وبه كان يكنى، والمعروف أنه مات صغيرًا له من العمر ست سنوات4، ولما تعرض المسلمون الأوائل للاضطهاد، والعذاب من جانب قريش، وأذن لهم النبي بالهجرة إلى الحبشة، هاجر عثمان مع زوجته إليها5، ولما علم برضاء قريش عن النبي، عاد إلى مكة6، ثم هاجر إلى المدينة ونزل على أوس بن ثابت أخي حسان بن ثابت في دار بني النجار7. اشترك عثمان في الغزوات باستثناء غزوة بدر، لاشتغاله بتمريض زوجته التي ماتت، ودفنت في اليوم الذي انتصر فيه المسلمون، فعده النبي من البدريين، وزوجه

_ 1 البلاذري: ج6 ص99، الطبري: ج4 ص420. 2 البلاذري: المصدر نفسه ص104، 112. 3 العسقلاني: الإصابة في تمييز الصحابة ج4 ص223. 4 الطبري: ج4 ص419، 420، العسقلاني: فتح الباري ج8 ص54. 5 ابن هشام: ج2 ص70. 6 المصدر نفسه: ص119. 7 المصدر نفسه: ص221، البلاذري: ج6 ص100، 101.

ابنته الثانية أم كلثوم1، ولهذا لقب بذي النورين، لزواجه بابنتي النبي، رقية وأم كلثوم التي توفيت في السنة التاسعة للهجرة2. استعان النبي بعثمان في كثير من المناسبات، فكان سفيره إلى قريش في السنة السادسة للهجرة حين منعت دخول المسلمين إلى مكة لأداء العمرة، فاحتبسته قريش عندها، فبلغ النبي والمسلمين أن عثمان قد قتل، فبايع المسلمون النبي بيعة الرضوان في المكان المعروف بالحديبية على مقربة من مكة3. بذل عثمان كثيرًا من ماله في سبيل الإسلام، كان له نصيب وافر في تجهيز جيش العسرة الذي أعده النبي لغزوة تبوك في "شهر رجب عام 9هـ/ شهر تشرين الأول 630م"، إنه أمد المسلمين بتسعمائة وخمسين فرسًا وألف دينار، وقد قال النبي: "من جهز جيش العسرة فله الجنة، فجهزه عثمان"4، كما اشترى بئر معونة من يهودي بعشرين ألف درهم، وتصدق بها على المسلمين، وقد قال النبي: "من يحفر بئر رومة فله الجنة، فحفرها عثمان" 5، وبشره النبي بالجنة وعده من أهلها، فقال: "لكل نبي رفيق في الجنة، ورفيق في الجنة عثمان" 6. كان عثمان من رواة الحديث، فقد روى عن النبي وعن أبي بكر وعمر، كما روى عنه أولاده، عمر وأبان وسعيد، وابن عمه مروان بن الحكم، ومن الصحابة عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر وعبد الله بن العباس، وعبد الله بن الزبير، وزيد بن ثابت وأبو هريرة وغيرهم، ومن التابعين: الأحنف بن قيس ومحمد بن الحنفية بن علي، وسعيد بن المسيب7، واتخذه أبو بكر أمينًا، وكاتبًا له يستشيره في أمور الدولة. قضية الشورى -اختيار عثمان خليفة: وجد المسلمون أنفسهم بعد طعن عمر بن الخطاب أمام مهمة اختيار خليفة يدير شئونهم، فقد رفض عمر أن يعين خليفة له، مع أن توليه الخلافة كان نتيجة عهد أبي بكر الصديق له، وتخلى بكل تبصر عن تعيين أحد من أفراد عائلته خشية تحويل

_ 1 الطبري: ج4 ص420. 2 ابن هشام: ج3 ص85، السهيلي: ج3 ص127. 3 ابن هشام: ج4 ص27-29. 4 الطبري: ج4 ص174 العسقلاني، ابن حجر: فتح الباري بشرح البخاري ج8 ص54. 5 العسقلاني: المصدر نفسه، البلاذري: ج6 ص105. 6 البلاذري: ج6 ص102، العسقلاني: ج8 ص54. 7 العسقلاني: الإصابة في تمييز الصحابة ج4 ص223.

الحكم إلى وراثة، كما أنه امتنع عن تعيين عثمان بن عفان الذي كان مساعده تقريبًا، وحجته في ذلك أنه لا يريد أن يتحمل تبعات الخلافة حيًا وميتًا1. ويبدو أنه لم يكن هناك مرشح واضح، كما أن عمر أراد العودة إلى نظام الشورى، وتشير بعض روايات المصادر أنه كان يعمد إلى بلورة وجهة نظر جديدة تجاه مسألة الحكم تنطلق من إحياء الشورى التي تأسست عليها بيعة السقيفة، تاركًا لنخبة المسلمين قرار اختيار الخليفة المناسب، والتي طرح شكلها النهائي بعد أن طعنه أبو لؤلؤة2. والواضح أن ظروف المسلمين آنذاك فرضت أن تكون مبايعة خليفة مسألة اختيار بين شخصيات قرشية، بالإضافة إلى السابقة والقدم في الإسلام، وكانت الآراء السائدة في المجتمع القرشي بعامة، وبين كبار الصحابة، وأهل الفضل والسابقة بخاصة، وبين صفوف المهاجرين الذين كانت لهم في نهاية المطاف الكلمة النهائية؛ هي العامل الحاسم في الاختيار3. وهكذا اختيار عمر قبل وفاته مجلسًا للشورى مؤلفًا من: عثمان بن عفان من بني أمية، علي بن أبي طالب من بني عبد المطلب، الزبير بن العوام، من بني عبد العزة، وينتسب إلى عبد المطلب من جهة النساء إذا إن والدته عمة النبي، عبد الرحمن بن عوف من بني زهرة عشيرة والدة النبي وصهر عثمان، سعد بن أبي وقاص من بني زهرة أيضًا، وطلحة بن عبيد الله من بني تيم عشيرة أبي بكر4. إن قراءة متأنية في اختيار هؤلاء الصحابة تطلعنا على الحقائق التالية: - جميعهم من المهاجرين، أي قرشيين، من أوائل الصحابة، وتوفي النبي وهو راض عنهم، وهم من بين العشرة المبشرين بالجنة. - يمثلون مراكز القوى في المدينة من حيث النفوذ، والقدرة والشهرة بدليل وصف عمر لهم بأنهم: "رؤساء الناس وقادتهم"، وقوله: "لا يكون هذا الأمر إلا فيكم"، "إني لا أخاف عليكم إن استقمتم، لكني أخاف عليكم اختلافكم فيما بينكم، فيختلف الناس"5. - المفاضلة بينهم تبعًا لدورهم في الإسلام أمر شاق، وعسير؛ لأنهم كانوا جميعًا من أمضى سيوفه، وأرسخ أعمدته طوال تاريخه6.

_ 1 الطبري: ج4 ص228. 2 البلاذري: أنساب الأشراف ج6 ص119. 3 إبراهيم: ص230. 4 البلاذري: ج6 ص123، الطبري: ج4 ص228. 5 الطبري: المصدر نفسه. 6 إبراهيم: ص231.

- كانت قضية اختيار خليفة منذ بدايتها قرشية محضة، لقد كان النبي من قريش، وما كان يمكن استخلافه إلا من قريش أيضًا، لقد اختصرت قريش قضية الحكم، وحصرتها برجالها، وهذه القضية هي استمرار العمل بمقولة: "الأئمة من قريش" التي طرحت يوم مبايعة أبي بكر على الرغم من تغير الظروف العامة، لكن يبدو أنها أضحت عرفًا لم يطعن به أحد من ذلك العصر؛ لأنه ينسجم مع روحه انسجامًا تامًا، لذلك استبعد الأنصار على الرغم من مآثرهم واستحقاقهم. ونظم عمر طريقة عمل المجلس قبل وفاته، فحدد مدة الاختيار بثلاثة أيام، فإذا انقسم مجلس الشوى إلى ثلاث مجموعات من شخصين، فلا بد من استئناف التشاور، وإذا كان هناك أكثرية، فلا بد لهم من اتباعها، أما إذا انقسم المجتمعون إلى مجموعتين متساويتين من ثلاثة أشخاص، تكون الأولوية للمجموعة التي يكون فيها عبد الرحمن بن عوف، وهذا يعني إعطاء هذا الصحابي دورًا مفصليًا وبارزًا، إلا أن التطورات التي رافقت انعقاد مجلس الشورى في بدايته، على الأقل، لا تعطيه هذا الدور، إذ بدأ كأحد أعضاء المجلس الآخرين، ولم يبرز إلا عندما انسحب من ميدان التنافس كما سنرى، الأمر الذي يرجح أن الروايات الخاصة بذلك شيعية الهوى تحمله مسئولية تقديم عثمان1، وأمر بقتل كل من يتخلف عن مبايعة من يتم اختياره للخلافة خشية الفتنة، وحث المؤتمرين على سرعة إنجاز اختيارهم، وأمر أيضًا أن يتولى صهيب الرومي إمامة الصلاة طيلة ثلاثة أيام، وشكل فصيلة من الأنصار للمحافظة على الأمن، وحماية أعضاء المجلس2. توقع عمر أن يتجه الاختيار في مجلس الشورى لصالح عثمان أو علي، وكلاهما من سلالة عبد مناف وختن النبي، بل إنه وجه المسلمين في المدينة نحوهما بصورة غير مباشرة، إذ بدا للوهلة الأولى أن التنافس سيجري بينهما، وأن باقي أعضاء مجلس الشورى ناخبين فحسب. فقد انتقد عثمان لحبه أهله وقومه، وخشي إن هو تولى الخلافة أن يحمل بني أبي معيط على رقاب الناس "ولو فعلها لقتلوه"، وهو تأكيد هدف إلى إيجاد غطاء شرعي لعملية قتل عثمان التي تمت فيما بعد، ووصف عليًا بالرجل الذي فيه دعابة، وبطانة

_ 1 البلاذري: ج6 ص119، الطبري: ج4 ص229، ملحم: عدنان محمد: المؤرخون العرب والفتنة الكبرى ص88. 2 البلاذري: ج6 ص120، الطبري: المصدر نفسه.

وفكاهة، وخشي إن هو تولى الخلافة أن يحمل بني عبد المطلب على رقاب الناس، إلا أنه أكد في الوقت نفسه على ثقته بمقدرته، ونزاهته في الحكم "إن ولوها الأجلح سلك بهم الطريق"1. يبدو أنه من الصعب الأخذ بهذه الروايات؛ لأن عمر نفسه هوالذي اختار أعضاء مجلس الشورى لكونهم من أبرز الشخصيات العامة، الأمر الذي يثير التساؤل بشأن ما نسب إليه من انتقادات وجهها إليهم، والواقع أنها مهمة تؤكد التزام عمر بما تم إنجازه في حصر الخلافة في قريش بين المهاجرين الأولين. عقد مجلس الشورى اجتماعه الأول بناء على رغبة عمر قبل وفاته، إلا أن أعضاءه اختلفوا فيما بينهم؛ لأنهم كلهم كانوا يطمحون للسلطة، ولم يتوصلوا إلى نتيجة2، وعقد الاجتماع الثاني بعد وفاة عمر، وقد أشارت روايات المصادر إلى عدم اتفاق أعضاء مجلس الشورى على رجل منهم، ووقعوا في مأزق حقيقي، لم يخرجوا مه إلا بمبادرة عبد الرحمن بن عوف الذي أخرج نفسه من إطار المنافسة، ومجال الاختيار، إلا أنه اشترط أن يتركوا له حرية الاختيار، وأخذ عليهم يمين المبايعة لمن يختار، وأعطاهم عهدًا "أن لا يميل إلى هوى، وأن يؤثر الحق، وأن يجتهد للأمة، وأن لا يحابي ذا قرابة"3، ولهذا السبب فقدت الشورى طابعها كمجمع، وفقد المجلس طابعه كجهاز انتخاب مباشر، إذا فوض لعبد الرحمن أن يختار عنه وباسمه، وتحول الانتخاب إلى تعيين من قبل شخص واحد من أعضاء مجلس الشورى، وأضحى محصورًا، وفي المقابل غدًا واسعًا بما سيقدم عليه عبد الرحمن من مشاورات، فقد لجأ هذا الصحابي إلى مشاورة المسلمين، واستطلع رأي أهل المدينة، وقادة الجند الذين توافدوا على المدينة، وأشراف الناس، لكي يعرف من تود الأمة أن تجتمع عليه بعد عمر. وبما أن القضية قرشية منذ بدايتها، فقد كان واضحًا أن مشاورة الناس تعني في نهاية المطاف مشاورة قريش، ولا يمكننا أن نتجاهل في هذا المقام، الحقيقة التي تحدثت عنها روايات المصادر، والتي لا يمكن استيعاب مآل مجلس الشورى، واختيار عثمان إلا على ضوئها، ألا وهي أن قريشًا ملت شدة عمر، وطالبت باستبدال هذه الشدة باللين، وبفك الحصار، والقيود عنها4.

_ 1 البلاذري: ج6 ص120-122. 2 الطبري: ج4 ص229. 3 المصدر نفسه: ص231. 4 إبراهيم: ص231.

كان علي يرى أنه الأجدر بتولي منصب الخلافة نظرا لقرابته من النبي، والتصاقه به، ولكنه كان يشعر أنه محكوم بمجرى الأحداث لا سيما بالدور الموكل إلى عبد الرحمن بن عوف زوج شقيقة عثمان من أمه، والذي كان له تأثير على سعد بن أبي وقاص المنتمي إلى العشيرة نفسها، ويذكر أن العباس عم النبي، وعم علي كان متخوفًا من أن تخرج الخلافة مرة أخرى من يد عشيرته، فنصح عليًا بعدم الاشتراك في الشورى، لكن عليًا الذي كان يكره الخلاف1 آثر القيام بمسعى لدى سعد بن أبي وقاص، ويبدو أنه نجح في ذلك2، فهل كان هذا الأمر هو الذي بدل طابع الشورى أم بدل خوف عبد الرحمن بن عوف من أن يرى استمرار الفراغ دون التوصل إلى نتيجة طالما كانت المطامع كبيرة؟ 3. استشار عبد الرحمن بن عوف صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد، وأشراف الناس كما ذكرنا، ثم دار متنكرًا لا يعرفه أحد، واستشار عامة المهاجرين، والأنصار وغيرهم من ضعاف الناس4، فأشار عليه الجميع بعثمان، فاقتنع عندئذ بأن وجوه قريش وعامتها، وقادة الجند يريدون عثمان خليفة عليهم. والواقع أن بني أمية أدوا دورا نشطًا في توجيه "الرأي العام" نحو عثمان، ونظموا دعاية واسعة له، بهدف تعزيز نفوذهم الذي فقدوه بعد فتح مكة، ونجحوا في استعادته جزئيًا في عهد أبي بكر وعمر، فقد تنافسوا مع بني هاشم في تعاقب خطبائهم على منبر مسجد النبي5. كان هناك إذن تياران متنافسان مرتبطان بالسابقة في الإسلام، وبروابط الدم: الأول: عشيرة النبي الأقربون الذين كان علي مرشحهم. الثاني: قرشي متصل بالقابلية على التمثيل الأفضل لقريش، وبالتالي مقرب من الأمويين، وكان عثمان مرشحهم. ثم إن مفهوم البيت الذي جرى طرحه لتمييز عثمان، وعلي كان يفسر بالمعنى الواسع، معنى بيت عبد مناف، وليس بالمعنى الضيق بيت بني هاشم، وكان هذا يناسب أغلبية الصحابة الذين خشوا من تفسير ضيق لمفهوم البيت أن تؤسس ملكية وراثية على حسابهم لصالح البيت الهاشمي6.

_ 1 الطبري: ج4 ص228. 2 البلاذري: ج6 ص126. 3 جعيط: ص57، 58. 4 ابن قتيبة: ج1 ص27. 5 الطبري: ج4 ص233. 6 جعيط: ص58، 59.

تروي المصادر أنه في اليوم الثالث، وفي ظل بوادر انقسام بين المسلمين خيف أن يتفاقم، قرر عبد الرحمن بن عوف حسم الأمر، وفي المسجد النبوي، وأمام جمع من المهاجرين والأنصار، وقادة الجند وممثلي الأمصار؛ نادى عثمان وعليًا وسألهما على التوالي إن كانا بعد انتخابهما سيتبعان سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر، وتجنب حمل أقاربهما على رقاب الناس، فأجاب علي بتحفظ متعللًا بأنه سوف يبذل جهده، وطاقته مستيعنًا بالأمناء، والأقوياء من بني هاشم وغيره، وأضاف أن عليه الاجتهاد قدر الإمكان: "لا أحمل عهد الله وميثاقه على ما لا أدركه، ولا يدركه أحد، من ذا يطيق سيرة رسول الله، ولكني أسير من سيرته بما يبلغه الاجتهاد مني، وبما يمكنني وبقدر علمي"1، أما عثمان فقد أعلن موافقته على شرط عبد الرحمن بن عوف قائلًا: "اللهم نعم"، "علي عهد الله وميثاقه، وأشد ما أخذ على أنبيائه، ألا أخالف سيرة رسول الله وأبي بكر وعمر في شيء، ولا أقصر عنها"2؛ مما دفع عبد الرحمن بن عوف، وأصحاب الشورى، وعامة الناس إلى مبايعته3. قد تدعو روايات المصادر هذه للتساؤل: فهي تعطي عبد الرحمن بن عوف ذريعة صالحة لإعلان عثمان بدلًا من علي خليفة على المسلمين، وتبرز اختيارًا يبدو أنه قد تم قبل ذلك، وتقدم عليًا كأنه مجدد له نهجه الخاص، وفهمه لسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما قد يختلف عن نهج الخليفتين السابقين، وهو أمر ربما نسب إلى علي في وقت لاحق، كما أن شرط عبد الرحمن للترجيح بين المتنافسين قد يكون تصريحًا طلب من عثمان وحده بعد اختيار الأغلبية له4، ويبرزه، وكأنه أكثر الأعضاء، توافقًا مع التحولات المنشودة، فهو إلى جانب كونه واحدًا من النخبة في الإسلام، كان ينفرد عن الآخرين بانتمائه إلى البيت الذي كاننت له الزعامة الفعلية إبان ظهور الإسلام، ذلك البيت الذي بات يمثل، بعد اغتيار عمر، أحد أقوى مراكز النفوذ في الدولة الإسلامية5. والواقع أن ما جرى من مشاورات مكثفة داخل مجلس الشورى وخارجه، وما أحاط بهيئة المجلس من اتصالات خارجية، كانت بعيدة عن الشورى في الشكل والمضمون.

_ 1 البلاذري: ج6 ص127، البلخي: ج2 ص212. 2 البلاذري: المصدر نفسه ص128، الطبري: ج4 ص238. 3 المصدران نفساهما. 4 جعيط: ص59، ملحم: 90. 5 بيضون: الإمام علي ص40، 41.

ردود الفعل على اختيار عثمان: أثار اختيار عثمان خليفة ردود فعل متباينة بين أعضاء مجلس الشورى وخارجه، يمكن ربطها بالأدوار التي قام بها أصحابها في مجمل تطورات الفتنة بعد ذلك، وتوضحت الصورة السياسية للمجتمع الإسلامي الذي انقسم إلى أربع فئات على النحو التالي: 1- الفئة الموالية لآل البيت بعامة ولعلي بخاصة، وقد عارض أفرادها قرار مجلس الشورى، فقد أظهر على منذ البداية عدم اطمئنانه إلى تركيبة هذا المجلس الذي كانت آراء معظم أعضائه تميل لغير صالحه، وشكا ذلك إلى بني هشام "إن أطيع فيكم قومكم لم تؤمروا أبدًا"1، وأضاف أن عبد الرحمن بن عوف، وسعدًا بن أبي وقاص لا يخالف أحدهما الآخر، وعبد الرحمن صهر عثمان، فأحدهما لا يخالف صاحبه، فيوليها عبد الرحمن عثمان، أو يوليها عثمان عبد الرحمن. وخشي إن ولي عثمان "ليتداولنها، ولئن فعلوا ليجدني حيث يكرهون"، بالإضافة إلى ذلك، فإنه شك في مواقف طلحة والزبير، وبفعل عدم ثقته بعبد الرحمن بن عوف رفض إعطاءه مهمة الاختيار إلا بعد أن حلف له بألا يتبع الهوى، وألا يؤثر إلا الحق، ولا يخص ذا رحم، ولا يأل الأمة2، كما اجتمع بسعد بن أبي وقاص وناشده، بعدم هضم حقه بالخلافة3، واتهم قريشًا بالممالأة على هضم حقوق آل البيت، وإبعاده عن الحكم4، وهو اتهام يعكس وجهة نظر عمر بن الخطاب في فرص كل عضو من أعضاء مجلس الشورى في تسلم الحكم5: "إن عليًا لأحق الناس بها، ولكن قريشًا لا تحتمله، ولئن وليهم ليأخذنهم بمر الحق، لا يجدون عنده رخصة، ولئن فعل لينكثن بيعته ثم ليتحاربن"6، ومع ذلك فإن عليًا بايع عثمان فورًا، أو بعد تردد7. نذكر من بين شخصيات هذه الفئة: العباس بن عبد المطلب، والمقداد بن عمرو وأبا ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، وقد حفلت الروايات التي استعرضت مواقفهم بالميول الشيعية، والعباسية الواضحة، ويلاحظ بأن هذه الشخصيات ستؤدي دورًا.

_ 1 الطبري: ج4 ص229. 2 المصدر نفسه: ص231. 3 البلاذري: ج6 ص123. 4 الطبري: ج4 ص233. 5 البلاذري: ج6 ص120، 121. ابن قتيبة: ج1 ص26. 6 اليعقوبي: ج2 ص51، 52. 7 البلاذري: ج6 ص128، 129. الطبري: ج4 ص238.

بارزًا في الفتنة من خلال معارضتها الصارمة لسياسة عثمان. 2- الفئة الموالية لعثمان، وتألفت من أعضاء مجلس الشورى، وعامة بني أمية، فقد بايع الزبير بن العوام عثمان فورًا، وكذلك فعل سعيد بن أبي وقاص، وبايع عبد الله بن عمر عثمان محترمًا قرار أعضاء المجلس، أما طلحة بن عبيد الله، فقد بايع عثمان فورًا، أو بعد تردد احتجاجًا على إسراع مجلس الشورى في انتخاب خليفة للمسلمين، وكن قد عاد إلى المدينة، واعتكف في منزله. 3- الفئة التي أيد أفرادها قرار مجلس الشورى باختيار عثمان، ومع أن الروايات تباينت في توضيح أسباب هذا التأييد، إلا أنها حصرتهم في أصحاب المصالح الخاصة، نذكر منهم: المغيرة بني شعبة، وبعض أقارب عثمان مثل عبد الله بن أبي ربيعة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعبد الله بن مسعود أبرز زعماء القراء. 4- عامة المسلمين الذين تماشوا مع قرار مجلس الشورى بهدف استمرار الحياة العامة. لقد توضحت إذن، الأجواء الاجتاعية، والقوى الاجتماعية -السياسية التي أعاقت تسلم علي الخلافة بعد عمر، وبدا واضحًا أن شدة علي ستضاهي شدة عمر، لكن قريشًا كانت تسعى إلى تحول في التعامل معها، وقد دفع هذا المزاج السائد عثمان إلى الخلافة حيث علقت عليه قريش آمالها في تصفية نهج عمر نحوها، وبالتالي في فتح الباب أمامها للانطلاق نحو الأمصار، كما دلت عليه التطورات اللاحقة، فشخصية عثمان كانت أقرب إلى تفكير، وطباع قريش من عمر وعلي، وهكذا كان اختيار عثمان خليفة، قرارًا اجتماعيًا، ولم يكن مفاضلة بين صحابيين، وشكل هذا النزوع القرشي نحو انفراج حياتي ومعاشي، واجتماعي شامل، على قاعدة البيئة الجديدة التي أفرزتها الفتوح؛ الأرضية المادية الواقعية التي أوصلت عثمان إلى الخلافة، ولهذا كان نهج عثمان منذ بدايته متعلقًا بهذه الأرضية، ومشروطًا بها ومقرونًا معها، ويتناغم مع التطور الاجتماعي داخل الأمة1. الثورات ضد الحكم الإسلامي: اتسعت رقعة الدولة الإسلامية في عهد عمر بفتح أراضي الإمبراطورية الفارسية، والأراضي البيزنطية في بلاد الشام، ومصر وجزء من شمالي إفريقية، واضحت هذه المناطق تحت الحكم الإسلامي، ولم تتوقف سلسلة هذه الفتوح في عهد عثمان،

_ 1 إبراهيم: ص233.

وعمل المسلمون على توطيد نفوذهم من جديد من بعض المدن الفارسية التي ثارت ضد الحكم الإسلامي، ذلك أن المسلمين لم يستقروا تمامًا في مناطق الأطراف، ولم يوطدوا حكمهم فيها، فكانوا ينطلقون من الكوفة أو البصرة للفتح، ثم يعودون إليها بعد أن يعقدوا الصلح مع السكان المحليين، ثم إن هؤلاء ظلوا مخلصين لقوميتهم مما أتاح لهم القيام بثورات للتخلص من الحكم الإسلامي كلما سنحت لهم الفرصة، وكان التغيير في مركز القيادة فرصة سانحة لهؤلاء لتحقيق أمانيهم. تصدى المسلمون لهذه الثورات على حكمهم، وتمكنوا من إخمادها، وثبتوا أقدامهم في المناطق الثائرة، نذكر منها: ثورة همذان وأذربيجان، والري واصطخر وطبرستان، وجرجان وخراسان، وكرمان، وأعاد المسلمون فتح مدينة الإسكندرية في عام "25هـ/ 645م" في عهد ولاية عبد الله بن سعد بن أبي سرح، بعد أن هاجمها البيزنطيون انطلاقًا من جزيرة رودس بهدف استعادتها، وقد فاجأ هؤلاء الحامية الإسلامية، ونزلوا على البر واستولوا عليها، توغلوا في أرض مصر حتى كادوا يصلون إلى بابليون، ولم ينقذ الموقف سوى عمرو بن العاص الذي عينه الخليفة واليًا على الإسكندرية، وأمره بطرد البيزنطيين منها، ودمر عمرو أسوار الإسكندرية حتى لا يتحصن البيزنطيون فيها مرة أخرى إذا نجحوا في استعادتها1. فتح أرمينية: توغل المسلمون في الربوع الأرمينية في عهد عثمان، إذ إن الحملات الإسلامية المتواترة ضد بلاد الأرمن كانت تسير وفق خطة عسكرية محكمة، وموضوعة مسبقًا، بهدف فتح هذه البلاد، وضمها إلى الأملاك الإسلامية، ونشر الإسلام في ربوعها، ونجح المسلمون بقيادة مسلمة بن حبيب الفهري، في بسط سلطانهم على أودية نهر الرس، ونهر الفرات، وصادفوا مقاومة في تفليس، والمناطق الجبلية المرتفعة2. وخاب أمل الأرمن في بيزنطية التي عجزت عن الدفاع عنهم وحمايتهم، واضطر القائد الأرميني تيودور الرشتوني، الذي تخلت بيزنطية عنه بسبب ميوله المذهبية المعادية، وموقفه السابق من القائد الإمبراطوري بروكوبيوس في معركة ساراكين؛ إلى إجراء مفاوضات منفردة مع المسلمين انتهت إلى التسوية التالية:

_ 1 البلاذري: ج6 ص306، 315، 323، ابن عبد الحكم: ص300-303. الطبري: ج4 ص246، 247، 265، 266، 269، 270، 300-303. 2 البلاذري: المصدر نفسه: ص200-204، الطبري: المصدر نفسه ص 248. Grousset: p219

- يعترف المسلمون باستقلال الأقاليم الأرمينية. - يعترف الأرمن بسيادة المسلمين عليهم بالشروط نفسها التي سبق للفرس أن مارسوا بها سيادتهم على أرمينية. - يعين المسلمون حاكمًا أرمينيًا عامًا على أرمينية. - يضع الأرمن فرقة عسكرية تعدادها خمسة عشر ألف جندي بتصرف المسلمين1. الواضح أن المعاهدة كانت مناسبة للأرمن من واقع وضعهم الحرج بعد إحجام بيزنطية عن مساعدتهم، في حين سببت لبيزنطية خيبة أمل كبيرة؛ لأن البيزنطيين كانوا يأملون في استمرار سخونة الجبهة الأرمينية، لتخفيف الضغط عن الجهات الأخرى مع المسلمين، كما أن الأرمن لم يكونوا راغبين في التضحية بأنفسهم من أجل إمبراطورية هرمة، أضحت عاجزة عن الدفاع عن حدودها، وولاياتها. ثم حدت أن تطورت العلاقات الإسلامية -الأرمينية نحو الأفضل، وأبدى الأرمن استعدادهم للتحالف مع المسلمين، وانفصالهم نهائيًا عن الدولة البيزنطية، مقابل منحهم نوعًا من الاستقلال المحلي، وجرت مفاوضات بين الطرفين من أجل ذلك أسفسرت عن اتفاق آخر يعد متممًا للاتفاق السابق، وتضمن البنود التالية: - عدم فرض جزية على أرمينية لمدة سبع سنوات. - يقدم الأرمن فدية خلال مدة الاتفاق التي تركت مفتوحة تتناسب مع قدرتهم الاقتصادية، وذلك ضمانًا لبقاء استقلالهم، وفعلًا دفعوا للدولة الإسلامية مبلغًا رمزيًا مقداره خمسمائة دينار2. - يقدم الأرمن قوة عسكرية قوامها خمسة عشر ألف مقاتل تساعد القوات الإسلامية في حروبها مع أعدائها باستثناء جبهة بلاد الشام. - يعين المسلمون على بلاد الأرمن حاكمًا أرمينيًا. - لا يأوي الأرمن عدوًا للمسلمين، ولا يساعدونه. - يتعهد المسلمون بمساعدة الأرمن إذا تعرضوا لغزو بيزنطي3. لم ترحب بيزنطية بهذا الاتفاق الذي سلخ أرمينية عن التبعية البيزنطية، لذلك قاد الإمبراطور البيزنطي قنسطانز الثاني في عام "34هـ/ 654م" جيشًا بيزنطيًا كثيفًا بلغ تعداده مائة ألف مقاتل، إلى الأراضي الأرمينية، بهدف إعادة البلاد إلى الحظيرة.

_ 1 Grousset: pp 300. 301. Passder madjjen: Histoire de L, Amenic p127. 2.Grousset Ibid: p 301 3 حسين، صابر محمد دياب: أرمينية من الفتح الإسلامي إلى مستهل القرن الخامس الهجري، ص34، 35.

البيزنطية، ولما وصل إلى ترجان، تلقي إنذارًا إسلاميًا بعدم دخول الأراضي الأرمينية، لكن الإمبراطور لم يعر الإنذار التفاتة جدية، واستمر في زحفه حتى وصل إلى ثيودوبوليس "أرضروم"، وعسكر فيها واستقبل عددًا كبيرًا من الإقطاعيين، وحكام المناطق الأرمينية الذين ساءهم الانسلاخ عن البيزنطيين وتخلوا عما تعهدوا به لتيودور الرشتوني، وكذلك فعل البطريرك الذي تنصل أمام الإمبراطور من الاتفاق مع المسلمين، وتبرأ مما فعله القائد الأرميني المذكور. تشجع الإمبراطور بهذا التغيير الولاني من جانب قادة الأرمن، فدخل الأراضي الأرمينية، وعزل تيودور الرشتوني، وعين هامازسب ماميكونيان مكانه، وراح يعمل على توحيد أرمينية تحت قيادته وسلطته1. وما أحرزه المسلمون من انتصار في معركة ذات الصواري، لم يترتب عليه نتائج مباشرة، وحاسمة في الصراع بينهم وبين البيزنطيين، بالإضافة إلى ما تعرضت له الدولة الإسلامية من مشكلات تفاقمت عقب مقتل الخليفة عثمان في عام "35هـ/ 656م"، مما دفع معاوية بن أبي سفيان إلى عقد صلح مع البيزنطيين في عام "38هـ/ 659م"، وقد تأثر وضع أرمينية بهذا الاتفاق من واقع استئناف الأسر الأرمينية الإقطاعية صلاتها بالبيزنطيين، وانحسار النفوذ الإسلامي عن هذه البلاد، وعودة النفوذ البيزنطي، وسحب معاوية القوات الإسلامية المرابطة في أرمينية، ليدعم موقفه في الصراع مع علي بن أبي طالب. فتح طرابلس الشام: تمهيد: استطاع البيزنطيون في عام "23هـ/ 644م" أن يستعيدوا بعض مدن بلاد الشام الساحلية، وأن يتمسكوا بها مدة عامين، منها بيروت وجبيل، وقد ساعدهم في ذلك كثرة عدد أفراد الجالية البيزنطية الموجودة في طرابلس، وهي المدينة التي بقيت تحت السيطرة البيزنطية حتى ذلك الوقت، وقد تحصن بها البيزنطيون الذين فروا من المدن الساحلية الأخرى التي فتحها المسلمون. والواقع أنه تضافرت ثلاثة عوامل دفعت المسلمين إلى فتح طرابلس، سياسية واقتصادية، وعسكرية.

_ 1.Grousset: p 302

فمن الناحية السياسية، كان لا بد من إحكام السيطرة الإسلامية على مدن الساحل الشامي، ولا يتم ذلك إلا بفتح طرابلس آخر المعاقل البيزنطية على هذا الساحل. ومن الناحية الاقتصادية، تشكل طرابلس منفذًا بحريًا هامًا لبلاد الشام، وثغرًا لدمشق وحمص. ومن الناحية العسكرية، كانت طرابلس قاعدة بيزنطية مهمة، راحت تهدد مكتسبات المسلمين من واقع مهاجمة الثغور البحرية الإسلامية، والمعروف أن البيزنطيين كانوا لا يزالون متفوقين بحرًا على المسلمين، ولهم أساطيلهم البحرية التي تجوب عباب البحر المتوسط، وبقي الساحل الشامي عرضة لهجماتهم، كما أن المدينة كانت محاطة بالمدن الإسلامية من ثلاث جهات، عرقة في الشمال، وجبيل في الجنوب، وبعلبك في الشرق. أحداث الحصار والفتح: بعد أن حصل معاوية على موافقة الخليفة عثمان بغزو الجزر البحرية، أرسل سفيان بن مجيب الأزدي، والي بعلبك، إلى طرابلس على رأس جيش كبير لفتحها في خطوة ضرورية لتحقيق الهدف الأساس، وكانت المدينة تتكون من ثلاث مدن مجتمعة من اللسان الرومي الداخل في البحر، وبها ثلاثة حصون، وعسكر في مشارفها في مرج السلسلة عند سفح جبل تربل شمالي شرقي المدينة على بعد خمسة أميال، منها، وراح يهاجم البيزنطيين، إلا أنه فشل في تحقيق أي تقدم، وذلك لسببين: الأول: إن المدينة كانت منيعة بتحصيناتها، وإنه من الصعب محاصرتها، وفتحها دون الاستناد إلى قاعدة قريبة ثابتة ينطلق منها. الثاني: كان سكان طرابلس يتلقون إمدادات تموينية من بيزنطية عن طريق البحر، مما يجعل أمر الحصار طويلًا، وشاقًا ودون حسم1. ويبدو أن سفيان أدرك هذه الصعاب، فكتب إلى معاوية يطلب منه الرأي والمشورة، فأجابه "أن ابن لك ولعسكرك حصنًا يأوون إليه ليلا، ويغزونهم نهارًا"2. نفذ سفيان ما أشار عليه معاوية فانتقل من المرج، وعبر النهر إلى ضفته الغربية، واختار مكانًا ملائمًا يبعد عن المدينة مسافة ميلين، وبنى فيه حصنًا عرف باسمه، وراح يشدد ضغطه على المدينة، ووضع حراسًا على الشواطئ المحيطة بها لمراقبة

_ 1 تدمري: تاريخ طرابلس ص90. 2 ابن عساكر: ج16 ص76.

البيزنطيين، بذلك الإمدادت عنها1، فاضطر سكانها إلى الانتقال إلى الحصن الغربي عند رأس الميناء وتحصنوا به، وراحوا يفكرون جديًا بالنجاة بأنفسهم، وقد يئسوا من طول مدة الحصار التي امتدت أشهرًا، وبخاصة أن المؤن قد نفذت منهم، كما عجزوا عن الخروج للتصدي للقوات الإسلامية، ولم ينقذهم من هذا الوضع الحرج سوى وصول بواخر بيزنطية نقلتهم ليلًا، وخفية إلى الجزر القريبة الواقعة تحت السيطرة البيزنطية2، وهكذا أضحت المدينة خالية ممن يحميها أو يدافع عنها، فدخلها المسلمون وسيطروا عليها3. تعمير طرابلس: اهتم معاوية بن أبي سفيان بتعمير طرابلس بعد فرار سكانها، فأرسل إليها جماعة من يهود الأردن4، وأسكنهم في حصنها، ولم يسكنها غيرهم ليضع سنوات5. ويبدو أنه أدرك أن اليهوم قوم لا هم لهم إلا تأمين مصالحهم الخاصة، وأن كثيرًا منهم خانوا البيزنطيين وعملوا عيونًا للمسلمين مقابل إعفائهم من الجزية، ومنحهم الأراضي6، كما أنهم اشتهروا بالأعمال التجارية، التي كان معاوية يعمل على تنشيطها مع بلدان البحر المتوسط، لذلك أسكنهم في مدينة طرابلس، ثم استقدم الفرس من الداخل، وأنزلهم فيها أيضًا. وكان عثمان قد أمر معاوية "بتحصين السواحل وشحنها، وإقطاع من ينزله إياها قطائع ففعل"7، والمعروف أن المسلمين كانوا يخشون الإقامة في الثغور الساحلية المعرضة دائمًا لغارات البيزنطيين، لذلك واجه معاوية صعابًا في إغراء المسلمين على الرغم من أنه وزع الأراضي عليهم، واضطر أخيرًا إلى إسكانها بخليط غير مسلم، كما أذن لبعض البيزنطيين بالإقامة فيها بعد أن استأمنهم8. وكان يشحنها في كل عام، بفرق من الجند المسلمين ليدافعوا عنها ضد غارات البيزنطيين، وولى عليها عاملًا من قبله. فتح جزيرة قبرص: كانت قبرص ولاية بيزنطية عاصمتها قنسطنطيا "سلاميس القديمة"، ويدين سكانها

_ 1 البلاذري: ص133. 2 المصدر نفسه. 3 المصدر نفسه. 4 المصدر نفسه: ابن عساكر: ج16 ص77. 5 المصدران نفساهما. 6 سالم، سيد عبد العزيز: طرابلس الشام في التاريخ الإسلامي ص36. 7 البلاذري: ص134. 8 تدمري: تاريخ طرابلس ص96.

بالعقيدة النصرانية الأرثوذكسية منذ عام 431م، وقد صهرت الكنيسة شعب الجزيرة، وجعلت منه وحدة اجتماعية ودينية وثقافية، كما أن الروابط القديمة القوية بين رجال الدين، والسكان خلقت نوعًا من الشعور بالتضامن الاجتماعي في ظل سمة قائمة على مدار العصور المتتالية، التي خضعت فيها الجزيرة للسيادة الأجنبية1. وعندما فتح المسلمون الثغور البحرية، أضحت هذه عرضة لهجمات البيزنطيين المنطلقين من الجزر القريبة، ونظرًا؛ لأن الصراع العسكري بين المسلمين، والبيزنطيين كان بأحد وجهيه بحريًا، أدرك معاوية أهمية بناء أسطور إسلامي بهدف: - الدفاع عن السواحل. - غزو الجزر البحرية المواجهة لساحل بلاد الشام. - الدفاع عن المناطق الداخلية المفتوحة. - استمرار العلاقات التجارية الخارجية مع دول البحر المتوسط، وبخاصة أن هذا البحر كان لا يزال تحت قبضة البيزنطيين2. وتنفيذًا لهذا المخطط كتب إلى عمر بن الخطاب يطلب منه السماح بركوب البحر، وغزو الجزر القريبة من ساحل بلاد الشام، لكن الخليفة لم يأذن له إذ "كان يكره أن يحمل المسلمين غزاة فيه"، وكتب إليه بترميم حصون الثغور البحرية، وترتيب المقاتلة فيها، وإقامة الحرس على مناظرها، واتخاذ المواقيد لها، لحمايتها من غارات البيزنطيين3. وحدث في أواخر أيام عمر وأوائل عهد عثمان أن استعاد البيزنطيون بعض المدن الساحلية، كما استردوا مدينة الإسكندرية، فأدرك معاوية أنه لا بد من إنشاء أسطول إسلامي للتصدي للخطر البيزنطي، وفتح الجزر البحرية التي ينطلق منها العدو، واتخاذها قواعد انطلاق لغزو القسطنطينية، وهو الهدف الأسمى للمسلمين، ونجح في إقناع عثمان بركوب البحر، وسمح له بغزو قبرص على أن يحمل معه امرأته فاختة بنت قرظة وولده، حتى يعلم أن البحر هين كما صوره، له، وأمره بعدم إجبار الناس على الركوب معه إلا من اختار الغزو طائعًا4. وفور الحصول على موافقة الخليفة، قرر معاوية إصلاح المراكب التي استولى

_ 1 دائرة المعارف الإسلامية: ج26 ص8068، مركز الشارقة للإبداع الفكري 1998. 2 أرشيبالد، لويس: القوى البحرية والتجارية في حوض البحر المتوسط ص89. 3 البلاذري: ص134. 4 المصدر نفسه: ص157، 158، الطبري: ج4 ص260.

عليها المسلمون من البيزنطيين، وتقريبها إلى ساحل حصن عكا الذي أمر بترميمه، كما رمم ثغر صور1، وكتب إلى أهل السواحل بالاستعداد لغزو قبرص التي اختارها هدفًا عسكريًا لنشاط الأسطول الإسلامي، بفضل وضعها الجغرافي المتميز آنذاك، كقاعدة لغزو القسطنطينية. وخرج معاوية على رأس حملته الأولى على الجزيرة في عام "28هـ/ 649م"2، وتألف الأسطول الإسلامي من مائة وعشرين مركبًا بقيادة عبد الله بن قيس3، وخرج معه جمع من الصحابة منهم أبو ذر الغفاري، وعبادة بن الصامت، وزوجته أم حرام، والمقداد بن الأسود وغيرهم4. وصادف الأسطول الإسلامي، وهو في طريقه إلى قبرص، بعض المراكب البيزنطية المحملة بالهدايا، وقد بعث بها ملك قبرص إلى الإمبراطور قنسطانز الثاني، فاستولى المسلمون عليها، وعندما وصل الأسطول الإسلامي إلى قبرص رسا على ساحلها، وأغار الجنود المسلمون على نواحيها، وغنموا الكثير من أهلها، واضطر ملك قبرص في ظل عجزه عن المقاومة إلى طلب الصلح، فصالحه معاوية على أن: - يؤدي أهل الجزيرة جزية سنوية مقدارها سبعة آلاف دينار، كما يؤدون للبيزنطيين مثلها، وليس للمسلمين أن يحولوا بينهم، وبين ذلك. - يمتنع المسلمون عن غزو الجزيرة، ولا يقاتلون عن أهلها من أرادهم من ورائهم. - يعلم أهل الجزويرة المسلمين بتحركات البيزنطيين المعادية لهم. - يعين المسلمون على أهل الجزيرة بطريقًا منهم5. الواقع أن هذه الشروط التي فرضها معاوية على مالك قبرص، متواضعة، ويبدو أنه رأى أن الظروف الضرورية للاستقرار في الجزيرة لم تتوفر بعد، وأن الحملة لم تكن أكثر من حملة استكشافية، واختبار قوة البحرية الإسلامية، لكن الدواعي العسكرية دفعته إلى تغيير تفكيره، وذلك في عام "32هـ/ 653م"، حين ساعد أهل الجزيرة البيزنطيين، في حربهم ضد المسلمين، وأعطوهم بعض المراكب من أجل ذلك، فنقضوا الصلح المبرم بينهم وبين المسلمين، مما حمل معاوية على غزو الجزيرة

_ 1 البلاذري: ص157، 158. 2 الطبري: ج4 ص258. 3 المصدر نفسه: ص260. 4 المصدر نفسه: ص258. 5 المصدر نفسه: ص262، البلاذري: ص158، 159، اليعقوبي: ج2 ص166.

للمرة الثانية في عام "33هـ/ 654م" ففتحها عنوة، وأخذ السبي منها وأقر أهلها على صلحهم، وعمد إلى تمصيرها، واستقرار المسلمين فيها، فبعث إليها اثني عشر ألفًا من أهل الديوان المكتتبين، فبنوا بها المساجد، كما نقل إليها جماعة من أهل بعلبك، وبنى بها مدينة، وأقاموا يعطون الأعطيات إلى أن توفي1. غزو الجزر البحرية: تتابعت الغارات الإسلامية على جزر البحر المتوسط، مثل أرواد وكوس ورودس، وهي التي تتحكم في المضائق البحرية، وبدأ المسلمون بجزيرة أرواد قرب ساحل بلاد الشام بين طرابلس وجبلة، أمام مدينة أنطرطوس، وقد هاجمتها الحملة الأولى العائدة من قبرص، ونزل الجنود المسلمون على أرض الجزيرة، لكن أهلها اعتصموا بالقلعة، فلم تفتح إلا في عام "29هـ/ 650م" في الوقت نفسه التي فتحت فيه جزيرة كوس2، غير أن البلاذري يذكر أن جزيرة أرواد فتحت في عام "54هـ/ 674م" على على يد جنادة بن أبي أمية، وأسكنها معاوية المسلمين3، والواقع أن الحملات البحرية كانت تتوالى على هذه الجزر، ولم يتسن للمسلمين إخضاعها في حملة واحدة، أو عام واحد. غزوة إفريقية: كان عمرو بن العاص قد أمن حدود مصر الغربية بفتح برقة صلحًا في عام "22هـ/ 643م"، وفتح طرابلس الغرب عنوة في العام التالي، وفي عام "27هـ/ 648م"، ولي مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فاستأنف عمليات الفتوح، وكان البيزنطيون يسيطرون على إفريقية، فأرسل سراياه إلى أطراف هذه البلاد، ثم استأذن عثمان بغزوها، فأذن له، وأرسل إليه مددًا بقيادة الحارث بن الحكم4، وخرج عبد الله بن سعد بن أبي سرح على رأس جيش كثيف قاصدًا قرطاجنة5، وهي مركز تجمعات الجيوش البيزنطية بقيادة جرجيوس، فلما علم القائد البيزنطي بزحف المسلمين حشد جيشًا مؤلفًا من مائة وعشرين ألف مقاتل6، واصطدم بهم في مكان يبعد عن سبيطلة7 يومًا وليلة، وتبادل الطرفان النصر والهزيمة، ولم يحقق أي منهما انتصارًا واضحًا، ولم يتغير الموقف العسكري لصالح المسلمين إلا عندما أرسل الخليفة عثمان مددًا بقيادة عبد الله بن الزبير، وقتل القائد البيزنطي في المعركة، وفر من نجا من

_ 1 البلاذري: ص158. 2 ابن أعثم: ج2 ص145، 146. 3 فتوح البلدان: ص237. 4 الطبري: ج4 ص253، 254. 5 قرطاجنة: تقع بالقرب من تونس الحالية. 6 ابن كثير: ج7 ص152. 7 سبيطلة: مدينة من مدن إفريقية، بينها وبين القيروان سبعون ميلًا، الحموي: ج3 ص187.

جنوده في كل اتجاه، ودخل عبد الله بن سعد بن أبي سرح مدينة سبيطلة، وبث جنوده في البلاد، وبلغ قفصة1، وفتح حصن الأجم جنوبي القيروان، ويبدو أنه اكتفى بهذه الفتوح القليلة، فعقد صلحًا مع زعماء البلاد من البربر، وعاد إلى مصر دون أن يترك أثرًا يذكر، إلا أن غزواته التي تمت على هذا النحو كانت تجربة مفيدة للمسلمين إذ أوقفتهم على حال هذه البلاد، وعلى مدى أهميتها إليهم. غزو بلاد النوبة: بعد عودة عبد الله بن سعد بن أبي سرح من إفريقية قام بغزو بلاد النوبة، فبلغ عاصمتها دنقلة، وذلك في عام "31هـ/ 652م"، واصطدم بأهلها في قتال شديد إلا أنه لم يتمكن من فتحها، فهادنهم وعقد صلحًا معهم، وهو أشبه بمعاهدة اقتصادية بين مصر وبلاد النوبة، فتمد مصر هذه البلاد بالحبوب والعدس، ويرسل النوبيون الدقيق إلى مصر2. معركة ذات الصواري 3: نتيجة لانتصارات المسلمين في البحر المتوسط خشي الإمبراطور البيزنطي من تعاظم القوة البحرية الإسلامية، والتي سوف تشكل خطرًا مباشرًا على الوجود البيزنطي في الحوض الشرقي لهذا البحر، بالإضافة إلى تهديد القسطنطينية، كما ترامت إلى مسامعه أخبار الاستعدادات الضخمة، البرية والبحرية، التي يقوم بها معاوية لغزو القسطنطينية، لذلك كان لا بد من مواجهة الموقف بتحطيم هذه القوة الإسلامية النامية في مهدها، وعندما علم عثمان بنوايا البيزنطيين المعادية، أمر معاوية بن أبي سفيان بإعداد أسطول ضخم من السفن، ويحشد الجنود، والعتاد إلى جانب حشد بري ضخم، تمهيدًا لتسيير حملة برية -بحرية، لمهاجمتهم، وتشير روايات المصادر إلى أن معاوية خرج من دمشق مع أهل الشام في عام "34هـ/ 654م" على رأس الحملة البرية، وأبحرت في الوقت نفسه السفن من ميناء طرابلس بقيادة بسر بن أبي أرطأة، وانضمت إلى الأسطول القادم من مصر بقيادة عبد الله بن سعد بن أبي سرح، واجتمع الأسطولان بساحل مدينة عكا، وانطلقا باتجاه الشمال، وبلغ تعداد الأسطول الإسلامي مائتي سفينة ونيف4.

_ 1 قفصة: بلدة صغيرة في طرف إفريقية من ناحية المغرب من عمل الزاب الكبير، بينها وبين القيروان ثلاثة أيام، المصدر نفسه: ج4 ص382. 2 البلاذري: ص239، حسن، إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام ج1 ص262. 3 الصواري: جمع صارية، وهي الخشبة المعترضة وسط السفينة. 4 ابن عبد الحكم: ص321. الطبري: ج4 ص290.

وصل معاوية بقواته إلى قيصرية في كبادوكيا بآسيا الصغرى، في حين كانت السفن الإسلامية تقترب من مياه الدولة البيزنطية، عند الساحل الجنوبي لآسيا الصغرى، ومن جهته خرج الإمبراطور البيزنطي من عاصمته على رأس أسطوله الذي تراوح عدد سفنه بين خمسمائة وألف، بحيث "لم يجتمع للروم مثله قط منذ كان الإسلام"1. والتقى الأسطولان قرب شاطئ ليكيا عند ميناء فوينكس في "شهر محرم عام 34هـ/ شهر تموز عام 654م"، وخشي المسلمون من أن تكون الغلبة لعدوهم، إذا هالهم الأسطول البيزنطي، ولم يكن قد سبق لهم أن خاضوا معركة بحرية ضد أسطول ضخم كهذا، وقد عبر أحد المقاتلين المسلمين، وهو مالك بن أوس بن الحدثان، عندما شاهد ضخامة الأسطول البيزنطي بقوله: "فالتقينا في البحر، فنظرنا إلى مراكب ما رأينا مثلها قط"2. أجرى المسلمون اتصالًا مع البيزنطيين قبل بدء القتال، وعرضوا عليهم أن يكون القتال على الساحل، وإن شاءوا فالبحر، ففضلوا القتال في الماء لثقتهم بقدرتهم القتالية في البحر من جهة، ونظرتهم إلى المسلمين على أنهم بدو يجيدون ركوب الجمال، والقتال في البر، من جهة أخرى3. ونفذ الإمبراطور البيزنطي الذي قاد المعركة بنفسه خطة ذكية، لإنهاك المسملين بأن دفعهم لرمي البيزنطيين بالسهام، والقسي حتى نفدت ذخيرتهم، ولم يحاول الاقتراب بسفنه من السفن الإسلامية، فاضطر المسلمون بقذفهم بالرماح والحجارة، عند هذه المرحلة من أحداث المعركة اطمأن الإمبراطور البيزنطي على سلامة وضعه العسكري، وظن أن الانتصار بات من نصيبه، وأن البيزنطيين لن يحتاجوا إلا إلى هجمة واحدة حتى يحطموا الأسطول الإسلامي، وردد قوله: "غلبت الروم"، لكن المسلمين غيروا خطة القتال عندما نفدت ذخيرتهم، فربطوا سفنهم إلى بعضها، واصطفوا على ظهورها متسلحين بالسيوف والخناجر، وقذفوا السفن البيزنطية بالخطاطيف، والكلاليب وجذبوها إليهم، وبذلك تحولت ظهور السفن إلى ميدان قتال، فحولوا بذلك المعركة البحرية إلى معركة أقرب ما تكون إلى المعارك البرية، وأمام هذا التغيير السريع والمفاجئ في سير المعركة، ارتبكت القيادة البيزنطية، وفقدت السيطرة على عوامل الانتصار، بل أيقن الإمبراطور حينئذ

_ 1 الطبري: المصدر نفسه. 2 المصدر نفسه: ص291. 3 المصدر نفسه: ص290.

بأن الهزيمة ستحل بقواته من واقع أن المسلمين أكثر ثباتًا في قتال من هذا النوع، استغل المسلمون تضعضع القوة الميدانية للبحرية البيزنطية، والفوضى التي بدت في صفوف البيزنطيين حيث كانوا "يقاتلون على غير صفوف"، فوثبوا إلى السفن البيزنطية، وقاتلوا البيزنطيين قتالًا شديدًا، وانتصروا عليهم، وأصيب الإمبراطور بجراح، وفر من مكان المعركة1. أما تسمية المعركة بذات الصواري، فتعود على الأرجح إلى كثرة عدد صواري السفن التي اشتركت في المعركة، على الرغم مما يستدل من رواية الطبري بأن ذات الصواري اسم للمكان الذي جرت فيه المعركة2. نتائج معركة ذات الصواري: - أكد هذا الانتصار قوة المسلمين البحرية النامية، وقارن المؤرخون بينها وبين معركة اليرموك البرية. - تعد هذه المعركة من المعارك الحاسمة في التاريخ الوسيط؛ لأنها حولت العلاقات الإسلامية -البيزنطية نحو اتجاه جديد في الحوض الشرقي للبحر المتوسط، إذ إنها عدت المدخل الذي أطل منه المسلمون على العالم الوسيط كقوة بحرية منافسة في المنطقة. - تخلي الإمبراطور البيزنطي قنسطانز، ومن جاء بعده من الأباطرة، عن فكرة طرد المسلمين من الأراضي التي فتحوها في شرقي البحر المتوسط، والاكتفاء بتأمين الدفاع عن الأراضي البيزنطية في الجبهة الجنوبية من آسيا الصغرى. - أفاد هذا التغيير في الخطط العسكرية البيزنطية الدولة الإسلامية في وقت دخلت فيه في دور من القلق، والنزاع الداخلي بسبب مقتل عثمان، والحرب الأهلية بين علي ومعاوية، حيث ساد الهدوء العلاقات العسكرية بين الجانبين. - أضاعت هذه المعركة آخر فرص البيزنطيين لاستعادة مواقعهم في بلاد الشام، ومصر حيث كان اعتمادهم على التفوق البحري.

_ 1 الطبري: ج4 ص291، 292. 2 تدمري: تاريخ لبنان ص69.

الفصل الثاني عشر: الفتنة الكبرى ومقتل عثمان تمهيد: أدى استقرار الموجة الأولى من الفاتحين المسلمين في الأقطار المفتوحة، إلى نشوء بيئة اجتماعية جديدة تعيش فيها مختلف شرائح المجتمع الفاتح، وجسد تخطيط المدن الإسلامية، وبخاصة الكوفة والبصرة، استقرار القبائل التي حملت عبء الفتوح، في الأراضي المفتوحة، وترسيخ سيطرتها بشكل مثير للانتباه، وساهم تدفق الأموال، وتكديس الثروات في المدينة، والأمصار نتيجة الفتوح؛ في خلق طبقة اجتماعية جديدة أخذت في النمو بحيث أضحى من الضروري إعادة تنظيم هيكل الحياة الاجتماعية، فهناك الأمصار بما تحويه من المقاتلين المتفرغين للجهاد، وهناك أيضًا السلطة المركزية في المدينة مع بيت مالها، وولاتها وعمالها، تتابع دورها الرئيس كمشرفة على نشاط المقاتلين، وعلاقتهم بالأرض التي يفتحونها، والشعوب التي ينتصرون عليها. والواقع أن تدفق الأموال على بيت المال، وتكديس الثروات في أيدي الطبقات الاجتماعية، ترك آثارًا على مختلف نواحي الحياة، فقد تدفقت الأموال على المدينة، وتركزت فيها حيث كانت تنقل إلى هناك في ظل قلة النفقات، فالعطاء لا يطال سوى بضع مئات، أو آلاف من الناس لا يمكن مقارنتهم مع التجمعات الضخمة في العراق وبلاد الشام، كما أن المدينة لم تكن تشارك في النفقات الإدارية، والعسكرية التي كانت تجبى محليًا في الأمصار، كما وجدت الثروات طرائقها إلى المقاتلين، والقادة والتجار وحتى المواطنين العاديين، فتركزت القوة المالية والعسكرية في الأمصار، فأغرت أصحابها بالاستمتاع بها، ودفعت بعضهم إلى حياة البذخ والترف. كان من الطبيعي أن تفرز هذه الحياة الجديدة علاقات أخرى أكثر ملاءمة بين الحكم في المدينة، وجمهور القبائل تتناسب مع التوجهات المفرزة، وتفتح آفاقًا جديدة للتطور الاجتماعي والسياسي، كان لا بد أن يصطدم مع سيادة المدينة

وهيمنتها على القرار السياسي من واقع إعادة هيكلية، وتحديد وظيفة الخلافة وصلاحيات الخليفة على حساب دور القبائل ومنزلتها. ويبدو أن أول ما وقع الاختلاف بين المعارضة، وعثمان حين خطأ بعضهم بعضًا في أشياء نقموها عليه، وكان المسلمون بعامة، قبل ذلك يختلفون في الفقه ولا يخطئ بعضهم بعضًا1. والواضح أن هذه الظاهرة تعكس النوعية السياسية الجديدة التي حاول عثمان إحداثها في تاريخ الأمة الإسلامية، إذ إن الخلافات والمناقشات قبل أن يتسلم الخلافة، كانت تحدث في إطار واحد مشترك، وضمن هيكل اجتماعي متفق عليه من قبل جميع الأطراف، تمثل في الفقه فقط، أي في القضايا التنفيذية الإجرائية2. أما سياسة عثمان الإدارية والمالية، فعلى الرغم من أنها حافظت على النبي الاجتماعية التوزيعية، والتراتبية المنبثقة عن الفتوح3، إلا أنها مست أمورًا رئيسية في النظام السياسي، وإن حافظت على القضايا الجوهرية مثل الفتوح، والموقف من المشروع الأساسي للمجتمع الإسلامي، وطرحت قضايا جديدة كانت موضوعًا للمناقشة، وخالفت سياسة عمر بن الخطاب في طريقة ترتيب الأمور، كما تبلورت في سياق استقرار الموجة الأولى للفتوح فارضة قضايا جوهرية، مثل الموقف من بيت المال، وتعيين الولاة واختيار قادة الأمة وغيرها، الأمر الذي أثار نفاشًا حادًا، وعلنيًا بين كبار الصحابة. كانت النتيجة الحتمية لهذا التطور نشوء معارضة سياسية ضد الخليفة في ظاهرة لم تشهدها الأمة الإسلامية من قبل، وانزلق المسلمون في متاهة الفتنة، التي أدت إلى مقتل الخليفة. والواقع أن قسمًا من الانتقادات التي ستوجه إلى عثمان، والتي سيجري التذكير بها لتعبئة الرأي العام، رد فعل لهيمنة الأمويين على مقدرات الخلافة، واستثارهم بالنفوذ، والسلطان مع تباطؤ الخليفة في العمل على الحد من اندفاعهم، أو محاسبتهم، وقد ظهرت الانتقادات في وسط الصحابة مبدئيًا، وهم الذين شعروا بأنهم المعنيون سياسيًا، ودينيًا أكثر من غيرهم بمصير الأمة الإسلامية، إلا أنهم تكتموا في البداية تجاه تجاوزات الأسرة الأموية، وسكوت الخليفة عنها، أما الذين

_ 1 السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن: تاريخ الخلفاء ص127. 2 إبراهيم: ص238. 3 جعيط: ص60.

إله إلا الله"1، كما أن هذا القرار يعد خطوة خطيرة، وتجاوزًا لمبادئ الإسلام، وتشجيعًا للقاتل على جريمته، ومخالفة لرغبة عمر بمعاقبة ابنه، مع الإشارة إلى أن اليعقوبي انفرد بقوله: "إن عمر أوصى أن يقاد عبيد الله بالهرمزان"2 إلا أن هؤلاء لم يتسرعوا في الحكم على عثمان بسبب هذه القضية نظرا لانقسامهم تجاهها، ثم لمكانة عمر بن الخطاب في نفوسهم، ولما كانوا يرونه من رعاية حقه في أهل بيته، إلا أن ذلك أعطى جمهور الصحابة، وعامة المسلمين مؤشرًا واضحًا على أنهم أمام سياسة جديدة لخليفة جديد، على الرغم من تأكيداته المتكررة بأنه يسير على النهج نفسه الذي سار عليه من سبقه من الخلفاء3. والواقع أن حجج المعارضين واهية لا تثبت أمام النقد البناء، إذ إن حقيقة إسلام الهرمزان مشكوك فيها "لما عضه السيف قال: لا إله إلا الله"، الأمر الذي يعني دفاعًا غير مباشر عن عبيد الله بن عمر الذي قتل رجلًا أسلم بعد أن طعنه وليس قبل ذلك، والفارق بين الأمرين كبيرًا جدًا4، ثم إن قرار الخليفة بدفع دية القتلى من ماله الخاص، بوصفه ولي القتلى، ثم بعد مشاورة الصحابة، وجمهور المسلمين الذين رفضوا قتل عبيد الله بن عمر5. السماح للقرشيين الانسياح في الأمصار: الواضح أن الظروف السياسية، والاجتماعية التي ترك عليها عمر بن الخطاب المسلمين بعامة وقريشًا بخاصة، من واقع شدته وقسوته، فرضت اتجاهًا قرشيًا يطالب باستبدال هذه القسوة باللين، وبفك القيود والحصار عنها، وإنهاء التقليد الذي فرضه، وذلك لحرص القرشيين على جمع الأموال، والوصول إلى السلطة، وهو ما أثبتته التطورات اللاحقة. ويبدو أن هذه العلاقة الحذرة بين عمر، وقريش ليست جديدة، بل كانت موجودة من قبل، فقد خشي أهل الشام، وأعني وجوه الناس من قريش الذين استقروا في هذا البلد، حين سمعوا بمرض أبي بكر، أن يستخلف عمر؛ لأن عمر ليس لهم بصاحب وهو يرون خلعه، فأرسلوا رسولًا لاستطلاع الأمر6. والواقع أن عمر كان له رأي خاص في انتشار قريش في الأمصار، وتكديس

_ 1 البلاذري: ج10 ص432. 2 تاريخ اليعقوبي: ج2 ص54. 3 ملحم: ص108. 4 المرجع نفسه. 5 البلاذري: ج10 ص433. 6 ابن قتيبة: ج1 ص23.

القرشيين للأموال، وذلك من خلال أن هذا التطور سوف يبعد هؤلاء عن الأجواء الأولى لظهور الإسلام1، لذلك ضيق على المهاجرين بخاصة، وعلى قريش بعامة وحصرهم في المدينة، ومنعهم من التنعم بثمار الفتوح، مما دفع القرشيين إلى بذل جهود حثيثة بعد وفاته كي يصل إلى منصب الخلافة شخص مغاير لتفكير عمر، وقد نجحوا في ذلك، فكان اختيار عثمان الذي انتهج سياسة حياتية، واجتماعية استهدفت النزوع نحو الانفراج من واقع البيئة الجديدة التي أفرزتها الفتوح، ولهذا كان نهجه المرن، والمتحرر متوافقًا مع تطلعات القرشيين، ومقرونًا بها2. إذن لم تكن القضية تعديلًا جزئيًا ناتجًا عن اجتهاد عثمان، بل كانت قضية نموذج سياسي وقيادي، قدمه الخليفة لإعادة صياغة وظيفة الخلافة، ومحاولة فك ارتهانها بسلوك القبائل، وذلك بالارتباط الوثيق مع اتجاهات التطور الاجتماعي داخل الأمة الإسلامية التي أوصلته عمليًا للخلافة3. فلما ولي عثمان أذن لكبار الصحابة بالخروج إلى أي مكان يريدون، فانتشروا في الأمصار، واتصلوا بالقوى العسكرية، وبأهل البلاد الوطنيين، وجمعوا الثروات، وكدسوا الأموال من خلال امتلاكهم الضياع، وأشادوا القصور، وشكلوا طبقة غنية مترفهة، والتف المسلمون حولهم بوصفهم زعامات دينية ساعدت النبي ونصرته، وأنشأوا لأنفسهم عصابات بما كانوا يضفونه على أتباعهم من هبات وأعطيات، فعظمت مراكزهم، وكثر أتباعهم والموالون لهم حتى أضحى كل فريق منهم يتمنى أن تصير الخلافة في يد صاحبه لتكون لهم الحظوة عنده4. واتخذ عثمان قرارًا في عام "30هـ/ 650م" يتوافق مع توجهاته سمح بموجبه بحرية تبادل، وبيع الأراضي بصورة شخصية5، والواضح أنه رأى أن أهل المدينة الذين شاركوا في المعارك الكبرى كالقادسية كان لهم الحق بنصيب من تلك الأراضي المفتوحة، وبما أنهم كانوا يقيمون في الحجاز، فقد أجاز لهؤلاء ممن كانت لهم أرض في الجزيرة العربية، أي في الحجاز، واليمن وحضرموت، بمقايضتها بنصيب أهل المدينة من أراضي الفيء في العراق كما أجاز بيع الأسهم من الفتوح. وهكذا سيكون لهؤلاء مقابل اشتراكهم في حروب الفتوح أراض تقع في الجزيرة العربية، وبالمقابل سيحصل آخرون على أرض في سواد العراق بدلًا من ممتلكاتهم

_ 1 إبراهيم: ص232. 2 المرجع نفسه: ص233. 3 المرجع نفسه: ص233، 234. 4 الطبري: ج4 ص398. 5 المصدر نفسه: ص280، 281.

في الجزيرة العربية التي يريدون مقايضتها، مع فارق قيمة الأرض الزراعية بين المنطقتين. وقد هدف عثمان إلى تعزيز مواقع المهاجرين، والأنصار في الأمصار حيث كانت الكلمة العليا للقبائل أي للمتأخرين في الإسلام، وطمح في تثبيت أملاك، وتحسين أوضاع أهل الفضل، والقدم والسابقة في الفتوح. وهكذا جرت حركة واسعة من البيع، والتبادل أدت عمليًا إلى تركيز أراضٍ واسعة في الأمصار في أيدي الأغنياء من القرشيين، وبعض زعماء القبائل الذين كانوا يملكون شيئًا في الجزيرة العربية، أو حتى أولئك الذين كانوا يملكون المال، وتمت هذه الاستفادة على حساب الكثير من العامة من الجمهور القبلي الذي حمل عبء الفتوح بسيوفه1. والواقع أن قرار عثمان لاقى قبل تنفيذه تأييد الصحابة، وموافقتهم؛ لأنه خفف أعباء إدارة أملاكهم، كما شجع الناس على الإقامة في أمصارهم، وحال دون انتقالهم منها، لذلك فإن أي نتائج سلبية نتيجة تطبيق هذا القرار يجب أن لا توجه إلى الخليفة وحده، ومن جانب آخر إن حجم ممتلكات الصحابة الكبير نما باطراد خلال الأعوام التي سبقت عهد عثمان، ومع ذلك، فإن ما قام به الخليفة أثار نتائج خطيرة، أبرزها أنه خلق فجوات اقتصادية كبيرة في الأمصار بخاصة، وتحديدًا في الكوفة بين المهاجرين القدامى من أله الأيام والقادسية، وبين المهاجرين الجدد "الروادف" مما أدى إلى تنكر القبائل لاحقًا لهذا القرار مشيرة إلى دوافعه وعواقبه، وقد خلق تمييزًا بين وضعية أراضي الخراج، وأراضي الصوافي من الفيء، كما كرهه المستفيدون منه؛ لأنه يخرج الأمور من التباس تمكن الإفادة منه، وكرهه أهل الأيام أيضًا الذين رأوا أن تبادل الأراضي أدى إلى تقلص أراضي الصوافي، واتهموا القرشيين برغبة الاستيلاء على أراضيهم، وكان أحد أسباب تمرد أهل الكوفة على ولاتهم في عام "33هـ/ 653- 654م"2. نذكر من بين الشخصيات التي أثرت، واغتنت نتيجة تطبيق هذا القرار، الزبير بن العوام الذي بنى دارًا له في كل من البصرة، والكوفة والإسكندرية، كما امتلك الدور والضياع3، والواضح أن هذا الصحابي لم يكن حالة فردية، بل مثل القسم الأكبر

_ 1 إبراهيم: ص248. 2 جعيط: ص65. 3 المسعودي: ج4 ص253.

من نخبة قريش الذين أخذوا يجمعون الثروات بشكل ملفت، بالاستناد إلى مراكزهم، ومواقعهم المميزة في المجتمع من خلال تدبر شئون الأمة الإسلامية، وتنظيم حياتها في الأمصار المفتوحة، وكان كل من طلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن العاص، وزيد بن ثابت على هذا النمط. دعم عثمان سياسته هذا بإقطاع الصوافي، وهو أول من تصرف بها، وأقطع الأراضي في الإسلام، ويشير البلاذري إلى هذا التوجه بقوله: "أول من أقطع العراق عثمان بن عفان، أقطع القطائع من صوافي كسرى، وما كان من أرض الجالية"، وسمى الذين أقطعهم1. والمعروف أن سواد العراق اشتهر بخصوبته، وهو ينقسم إلى قسمين: أراضي الخراج التي كانت تضم القسم الأكبر، وتستخدم في تمويل العطاء العراقي، وربما عطاء المدينة، وأراضي الصوافي أو الفيء العائدة لمقاتلة القادسية وجلولاء، والتي كان يديرها ممثلوهم من أهل الأيام، ويزودونهم بالمكاسب والأرباح الإضافية2، وتعد هذه أراضٍ يمكن التصرف بها. جاءت خطوة عثمان هذه كنتيجة لتقديره الصائب لتطورات أوضاع المسلمين في الأمصار، لقد أدت الفتوح إلى نزوح أعداد سكانية هائلة من الجزيرة العربية إلى الأمصار المفتوحة، وبالتحديد إلى الكوفة والبصرة، وطغت على نواة الأمة الإسلامية من المهاجرين والأنصار، وأهل الفضل والسابقة التي أضحت تشكل أقلية عددية، وقد أدرك عثمان ذلك، وكان يرفض أن يميل ميزان القوى السياسي لصالح القبائل على حساب هؤلاء، لذلك أراد دعمهم، وتقوية سيطرتهم على المراكز القيادية بنقل الفيء إلى أيديهم مباشرة حتى تترسخ أموالهم وأملاكهم، من هنا جاءت دوافع الأقطاع العثماني، والتصرف بأراضي الصوافي، ونقل ملكيتها إلى قدماء المسلمين، كان فحوى هذا النظام، التكريس المالي، والأخلاقي لرئاسة قريش على القبائل، ومن الواضح أن سياسة كهذه ما كان لها أن تمر دون معارضة جدية من قبل القبائل في مواقعها الأساسية في الكوفة، والبصرة، ومصر3. والواضح أن توقف الفتوحن، وزوال وأردت الغنائم دفع أهل الأمصار إلى الاعتراض على إعطاء أهل المدينة من فيئهم، ودعوا إلى توزيع وارد كل مصر على

_ 1 فتوح البلدان: ص273. 2 جعيط: ص64، وانظر هامش رقم "1". 3 إبراهيم: ص249.

من فيه من المقاتلة بوصفه مال المسلمين، في حين الخليفة يعده مال الله، أي مال الدولة، فضجوا بالشكوى من عثمان وعماله1، ولعل في مطالبة وفود مصر التي استقرت في المدينة دليلًا واضحًا على ذلك "نريد ألا يأخذ أهل المدينة عطاء، فإنما هذا المال لمن قاتل عليه، ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم2". موقف عثمان من بيت المال: تتباين روايات المصادر حول تصرف عثمان في أموال بيت مال المسلمين، وذلك من خلال ميول أصحابها المذهبية والسياسية، وتقييمهم لنهج عثمان على ضوء ذلك، فقد انتقد اليعقوبي أعمال عثمان ونهجه، في حين أبرز البلاذري الانتقادات التي وجهت إلى عثمان، ونحا الطبري منحى آخر دافع فيه أحيانًا عن أعمال عثمان. والراجح أن عثمان بوصفه خليفة للمسلمين، وإمامًا لهم، كانت له وجهة نظر خاصة، من واقع وظيفته القيادية، تعطيه الحق في حرية التصرف في بيت المال ضمن حدود المصلحة العامة. يروي البلاذري أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح، أخا عثمان في الرضاعة وعامله على المغرب، غزا إفريقية في عام "27هـ/ 648م"، ففتحها وأصاب فيها غنائم كثيرة، وكان معه مروان بن الحكم، فكتب إليه يأمره بتقديم خمس غنائم إفريقية إلى مروان، وكانت قيمتها مائة إلى مائتي ألف دينار، فوهبها له فأنكر الناس ذلك على عثمان3. ويستنتج من رواية الطبري لهذا الحدث أن والي مصر عمرو بن العاص هو الذي منح أمير جيشه عبد الله بن سعد بن أبي سرح خمس خمس غنائم إفريقية تنفيذًا لوعد قطعه، الأمر الذي أثار سخط المسلمين، فأرسلوا إلى عمرو بن العاص وفدًا طالبه بعزل أميرهم، واسترجاع ما استولى عليه من أموال، فوافق على ذلك4. وأثار الطبري الشك في صحة رواية الواقدي التي تحدثت عن تقديم عثمان إلى مروان بن الحكم ثلاثمائة قنطار ذهب، كان قد صالح عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح زعماء إفريقية، "فأمر بها عثمان لآل الحكم، قلت: أو لمروان؟ قال: لا أدري"5.

_ 1 الدوري: ص55. 2 الطبري: ج4 ص355، ابن قتيبة: ج1 ص34. 3 أنساب الأشراف: ج6 ص133، لقد صالح حاكم إفريقية عبد الله بن سعد بن أبي سرح على ألفي ألف دينار، وخمسمائة ألف دينار وعشرين ألف دينار. الطبري: ج4 ص256. 4 تاريخ الرسل والملوك: المصدر نفسه: ص253، 254. 5 المصدر نفسه: ص256.

وتحدث الطبري عن إعادة عثمان إلى بيت مال المسلمين مبلغ خمسة عشر ألف دينار كان قد وهبها إلى مروان بن الحكم، تلبية لمطالب الصحابة له باستعادتها1. وفي عام "30هـ/ 651م" زوج عثمان ابنته من عبد الله بن خالد بن أسيد، وأمر له بستمائة ألف درهم، وكتب إلى عبد الله بن عامر أن يدفعهما إليه من بيت مال البصرة2، ويشير الطبري إلى أنه أعادها إلى بيت المال3، والحقيقة أن عثمان الذي اشتهر بالثراء، قسم ماله وأرضه في بني أمية4، وكان يمنح أقاربه هبات مالية إضافية من بيت مال المسلمين لقضاء حاجة طارئة، أو ضرورية، ثم يستردها، على الرغم من أن بعض رواة المصادر يسكتون عن عملية الاسترداد لإثارة الرأي العام ضده. لم يركن عثمان إلى السكوت، بل دافع عن نفسه في وجه الانتقادات المالية التي وجهت إليه، واعترض صراحة بأن ما يمنحه لأقاربه من هبات هي من ماله الخاص، فقال: "إني أحب أهل بيتي وأعطيهم، فأما حبي فإنه لم يمل معهم على جور، بل أحمل الحقوق علهيم، وأما إعطاؤهم فإن ما أعطيهم من مالي، ولا أستحل أموال المسلمين لنفسي، ولا لأحد من الناس"5. ومهما يكن من أمر، فإنه لا بد من تقدير هذه الأحداث المتعلقة بخاصية التطورات التاريخية التي عاشتها الأمة الإسلامية في عهد عثمان، وتكمن أهميتها في أنها غيرت قاعدة السلوك المتبعة منذ عهد الخليفة عمر بن الخطاب، ففي حين كان ديوان الخليفة الثاني يقوم على مبدأ ثابت، وهو أن الفيء مال المسلمين لا يحق لأحد أن يتصرف به، نشأت في عهد عثمان مصطلحات فقهية جديدة من واقع رؤية هذه الخليفة لماهية، ووظيفة الخلافة، وربط بشكل طبيعي بين تحمل المسئولية السياسية، والقيادية للمسلمين، وبين حرية التصرف في بيت مال المسلمين، إنما ضمن حدود المصلحة العامة لتسيير شئون الحكم، وعلى أن لا ينفق مال المسملين في مصاريف خاصة، وقد أثارت هذه القضية مناقشات علنية بين الصحابة، من واقع تباطؤ بعض المدينين بإعادة الدين إلى بيت مال المسلمين، أو تعمدهم بعدم تسديد ما استلفوه. ولعل لأبي ذر دورًا محوريًا في تلك المناقشات من خلال رؤيته لماهية المال العام. إذ عندما اجتمع بمعاوية في دمشق سأله: "ما يدعوك أن تسمي مال المسلمين

_ 1 تاريخ الرسل والملوك: ج4 ص345. 2 اليعقوبي: ج2 ص64. 3 تاريخ الرسل والملوك: ج4 ص345. 4 المصدر نفسه: ص348. 5 المصدر نفسه: ص347، 348.

مال الله؟ قال: يرحمك الله أبا ذر، ألسنا عباد الله والمال ماله، والخلق خلقه، والأمر أمره؟ قال: فلا تقله، قال: فإني لا أقول: إنه ليس مال الله، ولكن سأقول: مال المسلمين"1. وحين أعاد معاوية أبا ذر إلى عثمان قال له: "يا أبا ذر ما لأهل الشام يشكون ذربك؟! فأخبره أنه لا ينبغي أن يقال: مال الله، ولا ينبغي للأغنياء أن يقتنوا مالًا، فقال: يا أباذر؛ علي أن أقضي ما علي، وآخذ ما على الرعية، ولا أجبرهم على الزهد، وأن أدعوهم إلى الاجتهاد والاقتصاد"2. لقد كان لأبي ذر مفهومه الخاص في ماهية المال العام من واقع تغيير المصطلحات المتداولة في عهد عمر، فقد أجاز هذا الخليفة تلقيبه بـ"خليفة الله"، وأكد أنه خليفة المسلمين، كما أكد أن المال مال المسلمين، الأمر الذي لم يكن له إلا تفسير اجتماعي واحد، وهو أنه مال القبائل التي قامت الفتوح الأولى على أكتافها. والواضح أنه تتباين تفسيرات هذين المصلحين من حيث الممارسة بين ما كان مفهومًا، ومطبقًا في عهد عمر، وبين المفهوم الجديد، والتطبيق العملي في عهد عثمان، وما كان يمارسه هو وعماله، وهو الذي أدى إلى الخلط، فإذا كان المال مال الله، فسيكون للخليفة حق حرية التصرف به، ولا علاقة مباشرة للمسلمين في هذا الأمر؛ لأن الخليفة هو إمام المسلمين أمام الله، وهذه كانت عمليًا الفلسفة السياسية الكامنة وراء تصرفات عثمان، وقراراته بهذا الشأن3، لتسيير شئون الحكم. والمعروف أن تصرفات عثمان في بيت مال المسلمين لم تكن على حساب عطاءات المقاتلة وأرزاق القبائل، إذ إن الظروف السياسية والاقتصادية، والعسكرية التي رافقت تسلم عثمان لمنصب الخلافة أدت إلى تكديس الثروات، وجرى تداولها، وإنفاقها وتخزينها على مختلف المستويات، فكان لا يأتي يوم على الناس إلا وهم ينالون خيرًا، والواقع أنه كان يسود عهد عثمان بحبوحة مالية بحيث أن كل مسلم كان يأخذ حقه وفق نظام الديوان دونما حاجة إلى المس ببيت المال4. تغيير العمال: ينسجم هذا النهج مع السلوك السياسي للخليفة الخاص بيت المال، لكن الإثارة

_ 1 الطبري: ج4 ص283. 2 المصدر نفسه: ص284. 3 إبراهيم: ص236، 237. 4 انظر وصف الحسن البصري لأوضاع المسلمين المادية في عهد عثمان في: ابن قتيبة ج2 ص28.

التي أحدثتها القرارات التي أصدرها عثمان بشأن تغيير العمال، بين الصحابة، فيها شيء من المبالغة، والحقيقة أن الخليفة انتهج سياسة منسقة، وبشكل تدريجي في تولية أقربائه متجاوزًا شخصيات صحابية كبرى، مثل علي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام وغيرهم من أهل الفضل، والسابقة من المهاجرين والأنصار، متخليًا بذلك عن أسس مجلس الشورى، ونظامه على عهد عمر بن الخطاب الذي كان يفاضل بين المسلمين، وفقًا لمعيار القدم والسابقة، وكان بعضهم حديثي السن، ليس لهم تجربة في الأمور، وليس لهم صحبة برسول الله، وقد تسببت هذه السياسة في انقسام المجتمع الإسلامي في الأمصار، وألبت المصاعب على عثمان، وذلك من واقع سيرة هؤلاء. ويبدو أن عثمان، بحكم رؤيته الجديدة لصلاحيات الخليفة، وممارسة السيادة، وجد نفسه أنه لا يستطيع التعاون مع الشخصيات القيادية التي أدارت نظام عمر، وساهمت في بنائه، فكان استبدال الأشخاص نقلة نوعية طبيعية لاستبدال المواقف، وارتكب بعض هؤلاء مخالفات مسلكية، وأحيانًا شرعية نفر منها المسلمون، وظنوا أنهم فوق المساءلة، والمحاسبة لقرابتهم من الخليفة. لقد ثبت عثمان في بداية حياته السياسية عمال عمر سنة أخرى تلبية لطلبه1، إلا أنه عزل المغيرة بن شعبة عن الكوفة في عام "24هـ/ 645م"، وعين سعدًا بن أبي وقاص بدلًا منه، تلبية لوصية عمر لمن يلي بعده بأن يستعمله خشية أن يلحق به أذى من جراء قرار سابق بعزله عن الكوفة2، إلا أن عثمان أصدر قرارًا بعزله بعد عام من تعيينه بسبب خلافات نشبت بينه، وبين عبد الله بن مسعود، عامل بيت مال المسلمين في الكوفة لإبطاء سعد في رد أموال اقترضها من بيت المال، فارتفع الكلام بينهما، وأدى ذلك إلى انقسام أهل الكوفة، فقد استعان عبد الله بأناس على استخراج المال، واستعان سعد بأناس على استنظاره، فافترقوا وبعضهم يلوم بعض3، الأمر الذي أثار الخليفة عليهما، فعزل سعدًا من منصبه، وعين الوليد بن عقبة بن أبي معيط على الكوفة بدلًا منه، وهو شقيقه لأمه4، والمعروف أن الوليد هذا كان مؤمنًا متأخرًا، وأحد الطلقاء، ويشير البلاذري، من خلال نقده لسياسة عثمان، إلى أن الوليد هو أحد الطلقاء الذين غلبوا، وعفي عنهم بعد فتح مكة، وقد وصفه القرآن شخصيًا بصفة.

_ 1 الطبري: ج4 ص244. 2 المصدر نفسه. 3 المصدر نفسه: ص251. 4 البلاذري: ج6 ص138.

الفاسق أي الرجل الذي لا يوثق بكلامه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] إذ كان النبي قد وجهه على صدقات بني المصطلق، فعاد إليه قائلًا: "إنهم منعوا الصدقة"، ويضيف البلاذري بأن هذا التعيين كان له وقع سيئ1، وهذا التأكيد يضعف إيمان الوليد، وهو في حقيقة الأمر إدانة للدور الأموي، وموقف الأمويين بعامة من الدين الجديد أكثر من وصفه انتقادًا لعثمان لاستعماله له2، وذلك بسبب ما أورده البلاذري نفسه، والطبري، من أن عمر بن الخطاب استعمله على صدقات بني تغلب في الجزيرة الفراتية3. ظل الوليد عاملًا على الكوفة حتى عام "30هـ/ 650-651م"، حينما عزله عثمان وولى مكانه سعيدًا بن العاص4، ويبدو أن حدثًا جرميًا كان وراء هذا العزل، فقد حصلت عملية سرقة، تلاها قتل، واعتقل القتلة وحاكمهم الوالي وأعدمهم، لكن ذويهم لم يتقبلوا الأمر، ويبدو لنا تفسير ذلك كأنه مؤشر للصعوبة القصوى التي يواجهها العرب المستحضرون ذووو الأصل البدوي في التسليم، والقبول بتدخل السلطة العامة في شئون الدم، وبدور الدولة العدلي5، والمعروف أن المقتولين كانوا من بني الأزد وأسد، وأضحى آباء الذين قتلوا أعداء شخصين للوليد، فترصدوه واقتفوا أثره وكانوا رجالًا معروفين من أهل الأيام، ثم ركزوا على نقاط ضعفه، وأوقعوا به أمام الخليفة الذي اضطر إلى عزله6. والواضح أن العداوة الشخصية التي ينسبها الطبري في رواية سيف لا تكفي، إذا صح وجودها للإحاطة بكل القضية، فمن المرجح أن أعداء الوليد كانوا ينتمون إلى تلك الفئة الإسلامية، وليس القبلية التي تكن العداوة للدولة بسبب آرائه التحررية والانفتاحية، فقد ذكر الطبري أن الوليد "كان أحب الناس في وأرفقهم بهم، فكان كذلك خمس سنين، وليس على داره باب"7، ويبدو أن الاستنكار الذي أحاط به دينيًا بسبب أخلاقه، وماضيه، واجتماعيا بسبب سياسة التقرب من الفئات الشعبية المنضوية تحت المهاجرين الجدد؛ قامت به فئة اجتماعية نخبوية شعرت

_ 1 أنساب الأشراف: ج6 ص138، 139، وانظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير: ج4 ص208، 209. 2 ملحم: ص111. 3 أنساب الأشراف: ج6 ص140. تاريخ الرسل والملوك: ج4 ص252. 4 الطبري: المصدر نفسه: ص271 وما بعدها. 5 المصدر نفسه: جعيط: ص80، 81. 6 المصدر نفسه: ص271-277. 7 المصدر نفسه: ص271.

بأنها متضررة من جراء سياسة كهذه على الصعيد المعنوي، نظرًا؛ لأن الوليد أدخل هؤلاء المهاجرين الجدد، والعبيد والفقراء إلى لائحة المستحقين من العطاء، على الرغم من أنه لم ينقص عطاءات الأسياد والزعماء، وقد شعرت هذه الطبقة بأنها لا تحظى بالمكانة التي كانت لها لدى الوالي في جهاز الدولة1. ويشار إلى أن هناك أسبابًا اجتماعية أخرى كانت وراء عدم رضا الخاصة عن الوليد بن عقبة، وهي أن أشراف الكوفة كانوا يتنافسون في الضيافة، فجاء الوليد، واتخذ منزلًا ينزلون فيه2، وقد شكلت هذه الخطوة تحديًا للكوفيين، وخسارة اقتصادية كبرى، حيث ترتبط الضيافة بالميار، وهم الذين يأتون الكوفة ليشتروا الطعام -الميرة- ويبيعون ويربحون، مما يعني أن موضوع الضيافة كان يحمل في ضياته كسبًا ماديًا لمن يستقبلهم3. وصل سعيد بن العاص إلى الكوفة المضطربة، وبعد دراسة الوضع الميداني، أرسل تقريرًا إلى الإدارة المركزية في المدينة يصف الجو السياسي، والاجتماعي العام وموقف الفئات الاجتماعية فيها: "إن أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم، وغلب أهل الشرف منهم، والبيوتات والسابقة والقدمة، والغالب على تلك البلاد، روادف ردفت، وأعراب لحقت؛ حتى ما ينظر إلى ذي شرف، ولا بلاء من نازلتها ولا نابتتها"4. الواضح أن المجتمع الكوفي كان يعيش، حين غادر الوليد مركز عمله، حالة مضطربة، ويخضع لضغط المهاجرين الجدد من الإعراب غير المندمجين في منظومة العطاء الذين سيطروا على مقدرات الأمور، وربما كانت سياسة الوليد وراء ذلك، وتراجع نفوذ الأشراف القبليين وأهل السابقة في القتال، وشكلوا أقلية عددية بالمقارنة مع الأعراب الوافدين. كانت الكوفة تشكو من كثرة المهاجرين دون مراعاة وضعها الاجتماعي، بمعنى الهجرة غير المنضبطة، وحدت رد فعل من جانب أهل الأيام، والقادسية للعودة إلى سياسة عمر بن الخطاب، وتأكيد الهرمية وإعادة بناء الحجم الاجتماعي، وإبراز قيمة امتياز المبدأ الإسلامي بدلًا من الشرف القبلي، وأحاط القراء5 بالوالي، فقد جعل

_ 1 جعيط: ص80، 81. 2 الطبري: ج4 ص273. 3 ملحم: ص133. 4 الطبري: ج4، ص279. 5 القراء: هم حملة القرآن وحفظته، إنهم قارئوه ومعلموه، وكانوا يشكلون في مجموعهم جزءًا من المقاتلة الذين كانوا يتلقون العطاء، دون أن يبرزوا كطبقة متخصصة في التلاوة، راجع: جعيط: ص97.

سعيد بطانته من المهاجرين الأوائل في الكوفة، ووجوه أهل الأيام، والقادسية قراء أهل الكوفة والمتسمتين1، وكان الحل بالنسبة للخليفة هو المحافظة على التراتبية الاجتماعية. وهكذا أضحت السياسة الجديدة في الكوفة تقوم على إعادة بناء الهيكل الاجتماعي، وإبراز قيمة الامتياز الإسلامي بدلًا من الشرف القبلي، واتفق الخليفة مع عامله على تفضيل أهل الأيام، والقادسية والسابقة على سواهم، وكانوا يمثلون النخبة الإسلامية، بحث أضحى سعيد بن العاص لا يجالس إلا نازلة أهل الكوفة، ووجوه أهل الأيام والقادسية والقراء، مما يعني أن هناك انقلابًا إداريًا قد حصل في الكوفة2. واعتقد عثمان وواليه سعيد أن هذه السياسة هي الحل الأفضل لوضع حد للفوضى؛ لأن تلك الجماعات كانت الأشد نفوذًا والأكثر نشاطًا، وانتسب إليها الأشخاص الذين اتهموا الوليد، ونجحوا في عزله من منصبه، ثم جرى إدخال عدد معين من المهاجرين الجدد في عداد أهل العطاء، أو في عداد تلك النخبة، وطلب منهم أن يكونوا وسطاء بينه، وبين الناس: "أنتم وجوه من ورائكم، والوجه ينبئ عن الجسد، فأبلغونا حاجة ذي الحاجة، وخلة ذي الخلة"3، وذلك لتهدئة الخواطر، وترك الباقي على حاله، الأمر الذي أثار الاستياء، والشائعات بشأن المطاعن على عثمان. لقد ساعدت هذه الإجراءات على تهدئة الوضع في الكوفة لبعض الوقت، لكنها لم تستطع أن تواجه ضغط التطورات الاقتصادية، والاجتماعية المتلاحقة فيها بعدما أدت سياسة الخليفة تجاه أرضي الصوافي، إلى تعميق الهوة بين أهل الكوفة وبين مركز الخلافة، حيث لم يقبل المهاجرون الجدد بالتفضيل، إذا إن الأوائل المتنفذين من أهل الأيام امتلكوا، أما اللاحقون فشعروا بجفوة، كما أحدثت هذه السياسة فجوة اقتصادية بين السابقين واللاحقين، إضافة إلى الفوارق الكبيرة في الخطوة، وهي مجال العطاء والمنزلة، ويبدو ذلك واضحًا في رواية سيف بن عمر "إن الذين لا سابقة لهم، ولا قدمة لا يبلغون مبلغ أهل السابقة والقدمة في المجالس، والرياسة والحظوة، ثم كانوا يعيبون التفضيل ويجعلونه جفوة"، مما زاد في النقمة، وغلب الشر4. والواقع أنها كانت نقدًا عامًا للسلطة ضد فكرة التراتبية، وقد أضحى هؤلاء

_ 1 الطبري: ج4 ص317. 2 جعيط: ص82، 83. 3 الطبري: ج4 ص279. 4 المصدر نفسه: ص281، ملحم: ص137.

الروادف غير المندمجين كما ينبغي، كتلة تآمرية يمكن استعمالها بسهولة، ولكن آنيًا لم يكن لهم قادة، ومطالبتهم بالمساواة لم تحظ إلا بعد قليل، وبالتالي لم يكن لهم تأثير فاعل على الساحة السياسية1. وفي عام "31هـ/ 651-652م" عزل عثمان أبا موسى الأشعري عن ولاية البصرة، وولى مكانة عبد الله بن عامر وعمره خمس وعشرين سنة، وقد أثار تعيينه جدلًا بين الصحابة، وعامة المسلمين بسبب: - قرابته من الخليفة. - صغر سنه. - افتقاده إلى الخبرة والتجربة في ظل عظم، ومكانه وتجربة سلفه. دافع عثمان عن وجهة نظره، وبرز تعاونه مع ولاة أحداث بقوله: "إني لم أستعمل إلا مجتمعًا محتملًا مرضيًا، وهؤلاء أهل عملهم، فسلوهم عنه، وهؤلاء أهل بلده، ولقد ولى من قبلي أحدث منهم، وقيل في ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أشد مما قيل لي في استعمال أسامة"2. وكان على مصر عمرو بن العاص، فأقره عثمان على عمله حتى عام "27هـ/ 648م"، حينما عزل وعين بدلًا منه شقيقه بالرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح3، وقد ذكر البلاذري أنه كان يكتب بين يدي رسول الله، فيملي عليه "الكافرين"، فيجعلها "الظالمين"، ويملي عليه أيضًا "عزيز حكيم"، فيجعلها "عليم حكيم"، وادعى القدرة على الإتيان بآيات محكمات كآيات القرآن، "أنا أقول كما يقول محمد، وآتي بمثل ما يأتي به"، فأنزل الله فيه، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الأنعام: 93] ، وهرب إلى مكة مرتدًا فأمر الرسول بقتله، ثم كف عنه بعد توسط عثمان لديه4. لقد انفرد هذا المؤرخ بذكر هذه الرواية بهدف انتقاد قرارات الخليفة المتعلقة بتعيينه لأقاربه في مراكز السلطة، وذلك بتوضيحه الأدوار السلبية التي قام بها المعنيون مع الإشارة إلى أن الآية التي استشهد بها البلاذري نزلت في مسيلمة الكذاب5، وأشار الطبري إلى انتقادات محمد بن أبي حذيفة، ومحمد بن أبي بكر

_ 1 جعيط: ص82، 83. 2 الطبري: ج4 ص347. 3 المصدر نفسه: ص253، ابن قتيبة: ج1 ص35. 4 أنساب: ج1 ص454. 5 انظر تفسير ابن كثير: ج2 ص157.

لعثمان بعد استقرارهما في مصر " ... استعمل عبد الله بن سعد؛ رجلًا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أباح دمه، ونزل القرآن بكفره"1. الواضح أنهما تأثرا بما كان يسود المجتمع المصري من تذمر بسبب سياسة الوالي الجديد الذي ارتكب أخطاء، وأساء السيرة في أهل مصر، بمعاملته الجافة لهم وزيادة الخراج عليهم، والواقع أنه يتحمل شخصيًا وزر أعماله، لكن يبدو أن سياسته الاقتصادية قد حازت على رضا الخليفة الذي رفض أن يعزله عندما طلب أهل مصر منه ذلك، كما برر عزل سلفه، وهو عمرو بن العاص الذي أبدى امتعاضه، فقال له: "هل تعلم أن تلك اللقاح درت بعدك"2، يقصد بذلك خراج مصر قد زاد في عهد عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فأجابه عمرو بقوله: "إن فصالها هلكت"3، أي أن هذه الزيادة ستكون على حساب أهل مصر وإرهاقهم، وعدم الالتزام بالحدود المعقولة التي رضي بها عمر بن الخطاب من قبل، وقنع بما دخل بيت المال من خراج معقول في سبيل المحافظة على أصحاب الأرض. وانتقد الصحابة مكانة مروان بن الحكم الخاصة عند عثمان، فقد علق علي بن أبي طالب على هذا الوضع بقوله: "ما يريد عثمان أن ينصحه أحد، اتخذ بطانة أهل غش، ليس منهم أحد إلا قد تسبب بطائفة من الأرض يأكل خراجها، ويستذل أهلها"4، وأضاف معاتبًا الخليفة: "أما رضيت من مروان، ولا رضي منك إلا بتحرفك عن دينك، وعن عقلك ... والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه ... أذهبت شرفك، وغلبت على أمرك"5. أدت سياسة عثمان في تعيين الأقارب إلى حمل بني أبي معيط على رقاب الناس، وهو ما أشار إليه عمر بن الخطاب أثناء تعيين أعضاء مجلس الشورى، وهو انحياز شديد منه إلى جانب الأمويين الذين استغلوا هذه الفرصة، بالإضافة إلى تراخي الخليفة، وراحوا يعملون على استعادة مكانتهم السياسية التي فقدوها بظهور الإسلام، وقد رأى الطبري أن الأمر لا يعدو كونه ضغطًا قبليًا منظمًا من قبل الأمويين على عثمان لتحقيق أمانيهم، ويبدو ذلك متوافقًا مع ما عبر عنه مروان بن الحكم نفسه أمام وفود أهل الكوفة، والبصرة ومصر، الذين قدموا إلى المدينة في عام

_ 1 تاريخ الرسل والملوك: ج4 ص292. 2 المصدر نفسه: ص257. 3 المصدر نفسه. 4 المصدر نفسه: ص406. 5 المصدر نفسه: ص362.

"35هـ/ 655-656م" حيث قال لهم: "جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا، اخرجوا عنا، أما والله لئن رمتمونا ليمرن عليكم من أمر لا يسركم، ولا تحمدوا غب رأيكم، ارجعوا إلى منازلكم، فإنا والله ما نحن مغلوبين على ما في أيدينا"1. هذا وقد لام بنو أمية عليًا على انتقاداته لعثمان، فقالوا: "يا علي أهلكتنا وصنعت هذا الصنيع بأمير المؤمنين، أما والله لئن بلغت الذي تريد لتمرن عليك الدنيا، فقام علي مغضبًا"2. ودافع عثمان عن سياسته في تولية الأقارب وإيثارهم، فأكد أن أمر التعيين لم يكن مقصورًا عليه حيث أناط النبي، وأبو بكر وعمر بأقاربهم في أعمالهم3، والجدير بالذكر أن عثمان وضع بلاد الشام، والأردن وفلسطين تحت يد معاوية، وذلك في عام "31هـ/ 651-652م"4. جمع القرآن: لعل قرار عثمان بجمع القرآن، وتثبيت قراءة واحدة له، من أكثر الخطوات جرأة، وهي خطوة إيجابية في الحفاظ على القرآن، والمعروف أن القرآن كان مفرقًا في العسب واللخاف، والرقاع والأكتاف، والألواح والأقصاب، علاوة على حفظه في الصدور، ولم يجمع في عهد النبي، وقام أبو بكر بمحاولة جمعه في خطوة أولى بتشجيع من عمر بن الخطاب، وذلك إثر معركة اليمامة التي قتل فيها عدد كبير من القراء، وحفظة القرآن، الأمر الذي خشي أن يستمر فقدان هؤلاء، فيذهب كثير من القرآن، وقد اختار أبو بكر زيدًا بن ثابت، وأمره بجمع القرآن، فجمعه في صحف وضعت عند أبي بكر، ولم يهتم هذا الخليفة بنشرها وتعميمها، ثم نقلت بعد وفاته إلى عمر، ولما توفي تم حفظها عند ابنته حفصة5، ويبدو أن كلا من الخليفتين الأولين رأى أن القرآن كان لا يزال حيًا وحاضرًا في ذاكرة كثير من المسملين، ولم يكن من الضروري نشر قراءته، ومعرفته بقرار خاص من جانب الخلافة. ورأى عثمان، بعد أن تولى الخلافة، اختلاف الناس في قراءة القرآن إلى درجة أن كفر بعضهم بعضًا حتى أوشكت الفتنة أن تنشب بينهم6، والواقع أن القرآن حل محل الشعر في ذلك الوقت، وقام مقام ثقافة العرب المتحدرة من الجاهلية، يضاف

_ 1 الطبري: ج4 ص362. 2 المصدر نفسه: ص365. 3 المصدر نفسه: ص337، 338. 4 المصدر نفسه: ص282-285. 5 اليعقوبي: ج2 ص66، العسقلاني: فتح الباري بشرح صحيح البخاري: ج10 ص384-389. 6 العسقلاني: المصدر نفسه ص392.

إلى ذلك أن حذيفة بن اليمان رأى أثناء الحملة على جرجان، وطبرستان أن المسلمين يتجادلون بحماس شديد حول طرق القراءة المختلفة، فكان يصل بهم الأمر إلى حد لعن بعضهم بعضًا، واتهام بعضهم بالكفر1، وربما أشار حذيفة على عثمان بوضع نسخة واحدة من القرآن خوفًا من نشوب فتنة، ولتعميق الشعور الإسلامي، واجتناب العودة إلى الشعر2، ويدل ذلك على جدية الاهتمام الإسلامي العام بالقرآن، والحماس الذي أبداه المسلمون تجاه، لذلك قرر جمع القرآن، وتثبيته على قراءة واحدة من القراءات السبع التي نزل بها، وهي حرف قريش، وذلك حرصًا منه على توحيد النص، والحفاظ عليه وجمع المسلمين على مصحف واحد وقراءة واحدة، وكلف زيدًا بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيدًا بن العاص، وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام؛ القيام بهذه الخطوة3. الواضح أن هذه القضية على أهيمتها لم تأخذ حيزًا واسعًا في روايات المصادر، إذ لم تتعد الإشارة إليها ببضعة أسطر، وربما يعود ذلك إلى أن هذه الروايات انتقدت الأسلوب الذي اتبعه عثمان للوصول إلى هدفه، وهي تحمل مواقف مسبقة ضد الخليفة تمشيًا مع النزعة الإقليمية للأمصار، والتي تمثلت باستقلالية كل مصر وانحيازه لقارئه، وأبرزت انتقادات بعض الصحابة لهذه الخطوة، وفي مقدمتهم عبدا لله بن مسعود الذي رفض تسليم مصحفه إلى عبد الله بن عامر، عامل عثمان على البصرة4، وعد هذه الخطوة بدعة، وخروجًا على سنة النبي وخليفتيه الأولين، ومحاولة لمحو الكتاب، ويبدو أنه لم يدرك، أو أنه لم يشأ أن يدرك هدف عثمان، فجرى تشويهه5، كما رأى أن زيدًا بن ثابت لم يكن بالشخص الكفؤ للمشاركة في ذلك، وأعرب عن اعتزازه بقراءته ومصحفه. وكان أبو موسى الأشعري على هذا الضرب من الرأي، إذ عندما أعطى مصحفه إلى حذيفة بن اليمان، قال: "ما وجدتم في مصحفي هذا من زيادة، فلا تنقصوها، وما وجدتم من نقصان، فاكتبوه فيه"6. ويبدو أن معارضة هذين الصحابيين سببها تثبيت القراءة على حرف واحد هو

_ 1 الطبري: ج4 ص269، السجستاني: عبد الله بن سليمان الأشعث بن إسحاق: المصاحف ص30. 2 السجستاني: المصدر نفسه: ص13، جعيط: ص104. 3 العسقلاني: ج10 ص393، 394. 4 اليعقوبي: ج2 ص66. 5 السجستاني: ص15. 6 ابن شبة، أبو زيد عمر: تاريخ المدينة المنورة ج3 ص998، 999.

حرف قريش، كما أن هذه الخطوة تحد من نفوذ القراء بالاتجاه نحو المركزية، إذ لم يتهم أحد الخليفة بالتحريف، وأن الخلاف الذي نشأ حول هذه القضية هو أبرز مثال للصدام بين الاتجاه القبلي، والاتجاه الإسلامي في سياسة هذا الخليفة1. والحقيقة أن هذه الخطوة تعد ظاهرة كبرى في تاريخ الإسلام الديني، والثقافي والسياسي، ترتبط ارتباطًا شديدًا ببروز الظاهرة القرآنية2، وهكذا أرسلت ست نسخ إلى مكة، والشام واليمن، والبحرين، والبصرة والكوفة، وبقيت نسخة في المدينة، وأمر الناس باعتمادها في القراءة، وإلغاء النسخ الأخرى. وبذلك حفظ كتاب الله من أن تحرفه لهجات الأعراب، واختلاف القارئين، كما تلافى اختلاف المسلمين في قراءتهم، وقضى على هذا الاختلاف. توسيع الحمى 3: انتقد بعض الصحابة وأهل المدينة، والأمصار عثمان على توسيعه الحمى، واستعرضت روايات المصادر هذه الخطوة من خلال معلومات عامة، وغير مباشرة4، والمعروف أن الأرض تحمى في وجهين: الأول: في سبيل الله، فقد حمى النبي النقيع لخيل المسلمين وركابهم، وهو أول إحماء بالقرب من المدينة، إذ يبعد عنها نحو عشرين فرسخًا5، وحمى عمر نقيع الخضمات6، وخصصه لخيل المسلمين المعدة في سبيل الله. الثاني: أن تحمى الأرض لنعم الصدقة إلى أن توسع مواضعها، وتفرق في أهلها7، فقد حمى أبو بكر الربذة لإبل الصدقة8، وحمى عمر الشرف9. ونهج عثمان نهج النبي وخليفتيه، فأبقى حمى النقيع خاصًا لخيل المسلمين، وكان يحمل عليها في كل سنة خمسمائة فرس وألف بعير، كما كانت الإبل ترعى بناحية الربذة في حمى لها10، إلا أنه سرعان ما زاد في إبل الصدقة بسبب زيادتها، إذا بلغت في عهده نحو أربعين ألفًا، ومنح بعض عماله، وعددًا من الصحابة إذنًا بالإفادة منه، مثل مروان بن الحكم، وعبد الله بن مطيع، وعبد الرحمن بن عوف، وعد

_ 1 الدوري: ص54. 2 جعيط: ص104. 3 الحمى هو الموضع فيه كلأ يحمى من الناس أن يرعوه، أي يمنعوه، الحموي: ج2 ص243، 244. 4 ملحم: ص117. 5 الماوردي: ص185، الحموي ج5 ص301. 6 الحموي: المصدر نفسه. 7 ابن سلام: الأموال ص417. 8 الماوردي: ص185. 9 طبقات ابن سعد: ج3 ص305. 10 البلاذري: ج6 ص149.

بعض المؤرخين، ممن يحملون مواقف مسبقة من الخليفة، هذه الخطوة خروجًا على سنة النبي، وسياسة خليفتيه1. والواقع أن عثمان دافع عن خطوته هذه وبرر عمله، فقال: "وإني والله ما حميت، حمي قبلي، والله ما حموا شيئًا لأحد ما حموا إلا غلب عليه أهل المدينة، ثم لم يمنعوا من رعيه أحدًا، واقتصروا لصدقات المسلمين يحمونها؛ لئلا يكون بين من يليها وبين أحد تنازع، ثم ما منعوا، ولا نحوا منها أحدًا إلا من ساق درهمًا، ومالي من بعير غير راحلتين، ومالي ثاغية ولا راغية، وإني قد وليت، وإني أكثر العرب بعيرًا وشاءً، فمالي اليوم شاة، ولا بعير غير بعيرين لحجي،"2. وهناك إشارة إلى دفاع عثمان، وندم من اتهمه في هذه القضية، وردت في سياق المحاورة بينه، وبين الوفد المصري الذي قدم إلى المدينة في عام "35هـ/ 655-656م": "فقالوا له: ادع بالمصحف، قال: فدعا بالمصحف، قال: فقالوا له: افتح التاسعة -قال: "وكانوا يسمون سورة يونس التاسعة- قال: فقرأها حتى أتى على هذه الآية: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] ، قال: قالوا له: قف، فقالوا له: أرأيت ما حميت من الحمى؟ الله أذن لكل أم على الله تفتري! قال: فقال: امضه، نزلت في كذا وكذا، قال: وأما الحمى فإن عمر حمى الحمى قبلي لإبل الصدقة، فلما وليت زادت إبل الصدقة، فزدت في الحمى لما زاد في إبل الصدقة ... "3. الصلاة في منى أربع ركعات: أثارت صلاة عثمان في منى عام "29هـ/ 650م" الانتقادات الحادة ضده من قبل بعض الصحابة، وقد روت المصادر حيثيات هذه القضية حين صلى بالناس أربع ركعات: خلافًا لما سنه النبي وسار عليها الخليفتان من بعده الذين صلوا ركعتين اثنتين، بسبب أن صلاتهم في منى صلاة مسافر، وليست صلاة مقيم، وكان عثمان نفسه قد صلى صدرًا من خلافته ركعتين4. وقد برر عثمان إقدامه على ذلك بقوله: "إني أخبرت أن بعض من حج من أهل اليمن وجفاة الناس، قد قالوا في عامنا الماضي: إن الصلاة للمقيم ركعتان، هذا إمامكم يصلي ركعتين، وقد اتخذت بمكة أهلًا، فرأيت أن أصلي أربعًا لخوف ما

_ 1 اليعقوبي: ج2 ص70، البلاذري: ص149. 2 الطبري: ج4 ص347. 3 المصدر نفسه: ص354، ابن سلام: ص418. 4 الطبري: المصدر نفسه: ص267، 268.

أخاف على الناس، وأخرى قد اتخذت بها زوجة، ولي بالطائف مال، فربما أطلعته، فأقمت فيه بعض الصدر"1. وقد رد عبد الرحمن بن عوف على مبررات الخليفة بقوله: "أما قولك: اتخذت أهلًا، فزوجتك بالمدينة تخرج بها إذا شئت، وتقدم بها إذا شئت، إنما تسكن بسكناك، وأما قولك: ولي مال بالطائف، فإن بينك وبين الطائف مسيرة ثلاث ليال، وأنت لست من أهل الطائف، وأما قولك: يرجع من حج من أهل اليمن وغيرهم، فيقولون: هذا إمامكم عثمان يصلي ركعتين وهو مقيم، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي، والناس يومئذ الإسلام فيهم قليل، ثم أبو بكر مثل ذلك، ثم عمر، فضرب الإسلام بجرانه، فصلى بهم عمر حتى مات ركعتين"2. والواقع أن احتجاجات المنتقدين تعبر عن وجهات نظر خاصة، وقد انفرد الطبري بالإشارة إلى ذلك3، وهي لا تحمل في طياتها مظاهر خلاف، أو تمرد ضده، الأمر الذي يفسر قيام عبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف بالصلاة أربع ركعات في منى اقتداء به على الرغم من معارضتهما لهذه الخطوة، وقد هدف الطبري إلى إبراز حرص الصحابة على وحدة المسلمين4، أما البلاذري، فقد أغفل الإشارة إلى ذلك في محاولة منه لإبراز مدى الاحتجاج الذي لاقته سياسة عثمان بين الناس5. السماح للحكم بن أبي العاص الإقامة في المدينة: أثار قرار الخليفة السماح لقريبه الحكم بن أبي العاص بن أمية بالإقامة في المدينة، حفيظة عدد من الصحابة، وسخطًا واسعًا في المجتمع الإسلامي، وقد رأوا فيه تجاوزًا لإرادة النبي، والمعروف أن النبي كان قد طرده منها مع ولده إلى الطائف، وحرم عليه الإقامة فيها بفعل إيذائه له، ويبدو أن هذا القرار يعد محاولة من عثمان لإرضاء البعد العصبي؛ لأن إعادة الحكم بن أبي العاص إلى المدينة يعد دعمًا واضحًا لشخصية أموية بارزة، وانتصارًا لبني أمية بعامة، الذين حاولوا خلال عهد أبي بكر، وعمر إعادة الحكم إلى المدينة، وفشلوا في ذلك6. لكن عثمان برر قراره بأنه كلم النبي بشأنهما، ووعده بأن يأذن لهما إلا أن الموت حال دون تنفيذ وعده7، ورد على مننتقديه قائلًا: "رسول الله صلى الله عليه وسلم سيره بذنبه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم رده بعفوه"8.

_ 1 الطبري: ج4: ص268، 269، 347. 2 المصدر نفسه: ص268. 3 المصدر نفسه. 4 المصدر نفسه: ملحم: ص120. 5 أنساب الأشراف: ج6 ص150. 6 الطبري: ج4 ص398، 399. 7 المصدر نفسه. 8 المصدر نفسه.

انتقادات متفرقة: لم ينج تاريخ عثمان الشخصي من النقد، فقد عابوا عليه عدم شهوده بدرًا، وبيعة الرضوان وفراره من معركة أحد، فرد مدافعًا عن نفسه أنه لم يحضر بدرًا بسبب تخلفه على تمريض زوجته بنت النبي، فضرب له رسول الله سهمه وأجره، أما بيعة الرضوان فإنه لم يشهدها؛ لأن النبي أرسله إلى مكة، وقد صفق له النبي بيمينه على شماله، أما فراره من معركة أحد، فقد غفر الله له ذلك1. وهناك انتقادات أخرى لما وصف بتجاوزت عثمان انفرد اليعقوبي بروايتها، وتظهره بمظهر الحريص على الخروج عن سنة النبي، وسيرة خليفتيه2، وهي إشارات لا يمكن الأخذ بها لكونها وضعت بهدف المس بشخصية عثمان، والتقليل من هيبته ومكانته، ودوره في الإسلام، لصالح إبراز مكانة علي بن أبي طالب ودوره3. مقدمات الفتنة - انتفاضة الكوفة: يمكن التأكيد أن ميل عثمان إلى أسرته، وانقسام الصحابة حول سياسته العامة، هزت أسس الشرعية التاريخية للخلافة4، وفي ظل الأوضاع المضطربة في الكوفة تأكدت الريبة تجاه القيادة في المدينة. والواقع أن الكوفة احتضنت فاتحي العراق وفارس، واستوطن فيها أهل الأيام وأهل القادسية، وتعايش فيها، بشكل متناقض، المحاربون العرب الأوائل، وعناصر متعددة من مرتدين سابقين تابوا، واشتركوا في معركة القادسية، ويمثلون كبرى القبائل البدوية من اليمن، ومضر ومذحج، وكندة وتميم وأسد5، وقد أنيط بهم مراقبة المناطق المفتوحة في غرب إيران وشمالها، كما استقر بعضهم في الري وأذربيجان، وكانوا يستبدلون مرة كل أربع سنوات6. وحاول عثمان أن يوجه طموح القبائل إلى الفتوح، مع تزايد الهجرة وتجمع أعداد كبيرة من المقاتلة في الأمصار، وشهدت السنوات الأولى من حكمه، حركة واسعة في الفتوح رافقها وفرة في الغنائم، وتم استقرار المسلمين في الأماكن المفتوحة، وامتلكوا الأراضي فيها، وعلى الرغم من ذلك، فقد ظلت فتوح أهل الكوفة محدودة

_ 1 اليعقوبي: ج2 ص65، ابن شبة ج3 ص955، 956. 2 اليعقوبي: المصدر نفسه ص67-71. 3 ملحم: ص121. 4 جعيط: ص92، 93. 5 المرجع نفسه: ص78، 79. 6 الطبري: ج4 ص246.

بالمقارنة مع فتوح أهل البصرة التي شملت أقاليم فارس، وكرمان، وسجستان وخراسان1، مما أدى إلى زيادة أعداد أهل العطاء فيها، وتحسين أوضاعهم المادية، الأمر الذي نتج عنه هدوء نسبي فيها2، على عكس الكوفة التي ظلت مشكلاتها المالية قائمة؛ وفشلت الإدارة في مواجهتها خلال ولاية كل من الوليد بن عقبة، وسعيد بن العاص. وهكذا مثل عهد عثمان مرحلة حسنة للبصرة، فوضعها في منافسة حقيقية مع الكوفة التي كانت عاجزة عن كسب غنائم وفيرة، وعن توسيع رقعة نفوذها، لكن فتوحاتها السابقة، وماضيها العسكري، كانا لا يزالان يجعلان منها، خلال هذه المرحلة، المركز المتقدم في العراق، وفي الوقت الذي كانت فيه البصرة هادئة ارتفعت في الكوفة حركات الاحتجاج الأولى ضد سياسة عثمان، والتي ارتبطت بشكل خاص بالبنى الاجتماعية فيها3، ذلك أن سكانها كانوا يتمتعون بالعطاء بموجب النظام الذي أقره عمر بن الخطاب، غير أن مقداره كان يختلف من فئة إلى أخرى، فقد كان عطاء أهل الأيام، وأهل القادسية مرتفعًا لأسبقيتهم بالمشاركة في الفتوح، ودورهم الكبير فيها، في حين كان عطاء الروادف منخفضًا، وبخاصة المتأخرين منهم، وقد خلئق هذا التفاوت تباينًا اجتماعيًّا واضحًا انضاف إلى التباين القبلي الناجم عن تركيبة جيش الفتح مما جعل الوضع في هذا المصر يتوتر تدريجيًا4. تفجر الوضع في عام "33هـ/ 653-654م" في إحدى جلسات سعيد بن العاص العامة، وقد تسبب فيه أهل الأيام والقادسية، والقراء وزعماء العشائر5. فأثناء حديث بينهم عن السواد والجبل، وعن ثراء طلتحة بن عبيد الله، تمنى صاحب شرطة سعيد بن العاص، عبد الرحمن بن خنيس الأسدي، لواليه "والله لوددت أن هذا الملطاط لك -يعني ما كان لآل كسرى على جانب الفرات الذي يلي الكوفة-"6، مما أثار حفيظة الحضور، وحول النقاش إلى خلاف حاد، كاد يفضي إلى صراع بين القبائل، عندما قام الأشتر، ورد عليه "تمن للأمير أفضل منه، ولا تمن له أموالنا، فقال عبد

_ 1 الطبري: ج4 ص300-316. 2 ملحم: ص131. 3 المرجع نفسه: الدوري: ص55. 4 البكاي، لطيفة: حركة الخوراج، نشأتها وتطورها إلى نهاية العهد الأموي، ص13. 5 انظر من كان يحضر الاجتماع عند البلاذري في أنساب الأشراف: ج6 ص151، 152. 6 الطبري: ج4 ص318.

الرحمن: ما يضرك من تمني حتى تزوي ما بين عينيك، فوالله لو شاء كان له، فقال الأشتر: والله لو رام ذلك ما قدر عليه، فغضب سعيد، وقال: إنما السواد بستان لقريش، فقال الأشتر: أتجعل مراكز رماحنا، وما أفاء الله علينا بستانًا لك ولقومك؟ والله لو رامه أحد لقرع قرعًا يتصأصًا1 منه"2، وفي رواية: "أتزعم أن السواد الذي أفاءه الله علينا بأسيافنا بستان لك، ولقومك! والله ما يزيد أوفاكم فيه نصيبًا إلا أن يكون كأحدنا، وتكلم القوم معه"3، ثم اعتدوا على صاحب الشرطة4، مما دفع أشراف الكوفة، الذين عارضوا سياسة هذه الفئة، إلى أن يرسلوا إلى الخليفة يطلبون منه إخراج هؤلاء النفر الذين خلقوا الفتنة في بلدهم5، كما كتب الوالي إلى عثمان يشرح له الأوضاع الصعبة التي تمر بها الكوفة، والتطورات اللاحقة فيها، وأكد له بأن رهطًا من أهل الكوفة "يؤلبون ويجتمعون على عيبك، وعيبي والطعن في ديننا، وقد خشيت إن ثبت أمرهم أن يكثروا"6، "وإني لا أملك من الكوفة مع الأشتر، وأصحابه الذين يدعون القراء، وهم السفهاء شيئًا"7، فسيرهم الخليفة إلى بلاد الشام. لقد خلقت سياسة عثمان الإطار الملائم لتكثيف نشاط القراء في الكوفة، واتساع دائرة اهتمامهم لتشمل، بالإضافة إلى القرآن، مسائل أخرى تهم الحياة السياسية، فكون هؤلاء مجموعة متميزة ذات مضمون سياسي يختلف عن المضمون الديني، إذ إن اختراق القرآن لبني الفكر الديني للحركة السياسية هو الذي مكنهم من تجاوز الدولة على أساس امتلاكهم للمرجعية الأولى والأساسية، وهي القرآن8. ومهما يكن من أمر، فإن الأسماء التي ذكرتها روايات المصدر أثناء استعراضها لمثير الشغب في مجلس سعيد بن العاص، وأسماء المسيرين إلى بلاد الشام9 أن هؤلاء كانوا: - من أوائل المقاتلة المقيمين قديمًا في الكوفة. - من ذوي المركز القبلي الثانوي، ولم يكونوا زعماء قبائل، وعلى الأكثر كانوا زعماء عشائر، أو أفخاذًا من عشائر10.

_ 1 يتصأصأ: يخاف ويذل. 2 البلاذري: ج6 ص152. 3 الطبري: ج4 ص323. 4 المصدر نفسه. 5 المصدر نفسه. 6 المصدر نفسه، البلاذري: ج6 ص151. 7 البلاذري: المصدر نفسه. 8 البكاي: ص16. 9 البلاذري: ج6 ص151، 153، 157، الطبري: ج4 ص318-323. 10 جعيط: ص85.

- من الناقمين على قريش1. - لم يكونوا جميعهم من القراء. وتبدو رواية سيف بن عمر التي رواها الطبري2، وذكرت بأن معاوية وصف هؤلاء بالشياطين، وبالأقوام التي ليست لهم عقول ولا أديان، وقد اندسوا بين الناس يملون عليهم ما يريدون من آرائهم بهدف تفرقة المسلمين، ونشر بذور الفتنة بينهم، وقد أثقلهم الإسلام وأضجرهم؛ غير واقعية؛ لأنها تعبر عن وجهة نظر معاوية، والأمويين بشأن السلطة، والدين ودور هؤلاء القبلي بعد تسلمهم الحكم، أكثر مما تعبر عن الأفكار السائدة في مرحلة الحدث3. وفي عام "34هـ/ 654-655م" استدعى عثمان عماله إلى المدينة لبحث الأوضاع المتردية في الأمصار، وازدياد الشكوى، والتذمر بين الناس، فاستغل المعارضون في الكوفة، والمتعاطفون مع المبعدين خروج سعيد بن العاص، واستدعوا هؤلاء للعودة، وتعهدوا لهم بعدم السماح للوالي بالعودة إلى الكوفة، وأعلموهم بأنه لا طاعة لعثمان على ما ينكر منه4. الواضح أن هذه الحركة التي منعت عودة والي الكوفة إلى عمله، هي مجرد حركة احتجاج عادية، ومحدودة لا تتسم بالإجماع، احترمها الخليفة حتى لا يكون لهؤلاء عليه حجة، فعزل سعيدًا بن العاص عن ولاية الكوفة، وولى مكانه أبا موسى الأشعري تلبية لرغبة المحتجين5، محافظًا بذلك، ظاهريًا على الأقل، على مرجعية المؤسسة الحاكمة، وعلى سلطته الخاصة، والتقليل من أهمية الأمر الواقع عليه، والتسليم به، مما ألحق ضررًا بمؤسسة الخلافة من واقع أنه حمل بذور الثورة العامة التي ستندلع في عام "35هـ/ 565م"، والتي ستنتهي بمقتله6، وقد حذر القعقاع بن عمرو قائد الجيش في الكوفة، وبالتالي صاحب القوة فيها من محاولات كهذه7، إلا أنه لم يكن يملك القوة المادية التي تساعده على مواجهة هذه الحركة، كما غادر الكوفة زعماء القبائل الذين عينوا عمالًا على أعمالها، فانعدم الضغط القبلي الأساسي، والذي كان يشكو أصلًا من خلل آني؛ لأن النفوذ القبلي كان شبه مدمر في الكوفة8.

_ 1 الطبري: ج4 ص319. 2 المصدر نفسه. 3 جعيط: ص90. 4 الطبري: ج4 ص331، 332. 5 المصدر نفسه: ص376. 6 جعيط: ص95. 7 الطبري: ج4 ص331. 8 المصدر نفسه: جعيط: 96.

دوافع أهل الأمصار للثورة على عثمان: اتسمت السنوات الأخيرة من خلافة عثمان بتنامي موجة الاستياء والاحتجاج، وقد أدت المآخذ التي ذكرت دورًا واضحًا في ذلك، فنشأت حالة من الأزمة الجدية تضاربت فيها لمصالح بين طرفين؛ تمثل الأول بالخليفة وعماله وإدارته، في حين تمثل الثاني بجمهور القبائل وبعض الصحابة، وأبناء الصحابة، وذلك بفعل تطور البنية الاجتماعية، والسياسية للمسلمين بعامة، بحيث لم تعد عملية الإثراء إساءة لاستعمال السلطة كما كان الحال عليه في عهد عمر بن الخطاب، فتحولت المناصب الإدارية إلى مكون أساسي لعملية تطور الهيكل الاجتماعي للمسلمين، وبالتالي إلى منزلة اجتماعة خاصة لها حقوقها، وأعرافها وسلوكياتها المتمايزة عن جمهور المسلمين، وتداخلت اتجاهات الإثراء، والتملك مع اتجاهات استقلالية آلية القرار السياسي عن جمهور القبائل في عملية كانت تقود بالضرورة إلى إنشاء شرعية اجتماعية مستقلة ضمن الأمة الإسلامية1. وعلى هذا الأساس بنى ابن خلدون نظريته الاجتماعية التي رأى من خلالها سبب الثورة على عثمان، وتتلخص في رغبة القبائل في تعديل، وتغيير ميزان القوى لصالحها، فنفذ إلى جوهر القضية الاجتماعية، داخل الأمة الإسلامية بعامة التي قادتها إلى النزاع السياسي الخطير أيام عثمان، كانت القبائل تنظر إلى أن فضل الفتوح يعود إليها، فإذا كانت قريش قد سادتها في البداية، فهي لم تعد مستعدة الآن، بعد كل هذا الجهاد، الذي جاهدته في سبيل الإسلام، أن تقبل بهذه السيادة، وأضحت ترى ضرورة التساوي معها، وأن محاولات عثمان الحد من تنامي نفوذ القبائل بتقوية قريش، جعلت القبائل غير مستعدة للتعامل معها على أنها الأدنى والأضعف2، "كان أكثر العرب الذين نزلوا الأمصار جفاة لم يستكثروا من صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا هذبتهم سيرته وآدابه ... مع ما كان فيهم في الجاهلية من الجفاء، والعصبية والتفاخر والبعد عن سكينة الإيمان، وإذا بهم عند استفحال الدولة قد أصبحوا في ملكة المهاجرين والأنصار، من قريش وكنانة وثقيف وهذيل، وأهل الحجاز ويثرب السابقين الأولين إلى الإيمان، فاستنكفوا من ذلك وعضوا به، لما يرون لأنفسهم من التقدم بأنسابهم، وكثرتهم ومصادقة فارس والروم، مثل قبائل بكر بن وائل، وعبد القيس بن ربيعة، وقبائل كندة والأزد من اليمن، وقيس بن مضر، فصاروا إلى الغض

_ 1 إبراهيم: ص251. 2 المرجع نفسه: ص259.

من قريش والأنفة عليهم والتمريض في طاعتهم، والتعلل في ذلك بالتظلم منهم والاستعداء عليهم، والطعن بالعجز عن السرية، والعدل في القسم عن السوية، وفشت القالة بذلك، وانتهت إلى المدينة"1. إذن المشكلة واضحة، وهي سيطرة قريش من خلال سيطرة الأمويين على مقدرات الشئون العامة، وعود إلى الجاهلية، ونزاع القبائل على السيادة، وأنفة بعضها من سيادة قريش، فأظهروا الطعن في ولاة عثمان بل وفي الخليفة نفسه، واستغل بعض أبناء الصحابة هذه القوى سلبًا، وإيجابا وفقًا للمصلحة العامة، أو لمصلحتهم الشخصية. وإذا كان تعليل ابن خلدون ينطبق تمامًا على وضع الكوفة الاجتماعي، فإنه لا ينطبق بالضرورة على الوضع الاجتماعي العام في كل من البصرة ومصر، وذلك بفعل اختلاف ظروف دوافعهما للاشتراك بالثورة على عثمان، فقد تعاطف البصريون مع الكوفيين من واقع الأجواء المشحونة بالانتقادات الموجهة لسياسة عثمان في البصرة هي التي تتحدث عن تسيير أحد قرائها، وهو عامر بن عبد القيس، إلى الشام2 بالإضافة إلى بعض البصريين المنتمين إلى السوط نفسه الذي انطلقت منه أحداث الكوفة3، والواضح أنه لم يكن هناك تنسيق مسبق بين البصريين والكوفيين، ولعل وجود علاقة بين قراء المصريين، تلك التي تتحدث عن مشاركة حرقوص بن زهير السعدي البصري إلى جانب ثوار الكوفة الذين اشتركوا في طرد سعيد بن العاص، هذا في الوقت الذي انحصرت دوافع المصريين في اتهام ولاتهم بالانحراف السلوكي، وأحيانًا الشرعي مع رفض الخليفة تغييرهم، لذلك لا يمكن تفسير حماس هؤلاء بالبنى الاجتماعية وحدها، كما لا يمكن تفسيره بالدوافع الدينية ذات الإيحاء القرآني، بفعل أن مقاتليهم يملكون وعيًا سياسيًا، ودينيا أقل حدة4، فقد تأثروا بدعاية كثيفة شنها اثنان من أبناء الصحابة هما محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة، والمعروف أن الأول قبع في المدينة في حين قبع الثاني في مصر، واستولى على السلطة في الفسطاط بعد مغادرة الوالي عبد الله بن سعد بن أبي سرح أثناء حصار عثمان، مما شجع القوة المصرية المحاصرة للخليفة على أداء دور بارز في قتله5.

_ 1 مقدمة ابن خلدون: ص179. 2 الطبري: ج4 ص326-328. 3 البكاي: ص20. 4 جعيط: 115. 5 المرجع نفسه.

لكن يبدو من خلال بعض الإشارات، وتتبع أسماء الثائرين المصريين، أن نقمة المسلمين الأوائل الذين فتحوا مصر واستقروا فيها، كانت أحد أسباب هذه الثورة على سياسة عثمان التي لم تعطهم المكانة التي يستحقونها، وهم في ذلك لم يقصدوا عثمان شخصيًا، وإنما أرادوا زعزعة سيادة قريش من خلاله، إلا أن هذه النقمة قد تطورت بسرعة، وتفاعلت مع الانتقادات العديدة الموجهة ضد الخليفة، وأدت إلى تحرك المصريين في اتجاه المدينة1، وظلت بلاد الشام خارج نطاق الحركة، وحتى يتوحد الجميع تحت هدف واحد هو النيل من عثمان، لخصوا اتهامهم له بعبارة: "بدلت وغيرت". واشترك بعض الصحابة، وأبناء الصحابة في الثورة على عثمان، وأدى بعضهم الآخر دور الوسيط أو الدفاعي، وآل بهم الأمر أخيرًا إلى ترك الخليفة ليواجه مصيره منفردًا، ومن بين الذين ساندوا الثوار: عمار بن ياسر ومحمد بن أبي بكر، وطلحة بن عبيد الله، في حين نفى علي بن أبي طالب ما نسب إليه من أنه ساند الثوار، كما نفت عائشة ضلوعها في المؤامرة2. وهكذا اجتمع في عهد عثمان عاملان شكلًا الأزمة التي عرفت بالفتنة، وقادت المسلمين إلى الاقتتال، لأول مرة، فيما بينهم، وقتل خليفتهم الذي بايعوه جميعًا. الأول: هو الاتجاه الموضوعي المتعلق بالضرورة مع استقرار الحياة الجديدة في الأمصار، وتنامي "الأرستقراطية" القريشية التقليدية ماليًا وسياسيًا، وتحولها إلى شريحة اختصت بالثروة والقرار، مستقلة بنفسها، متمايزة في وجودها المادي، وبنائها المتعالي عن جمهور القبائل، وعامة المسلمين. الثاني: هو التنامي التدريجي لقوى القبائل في الأمصار، ولوعيها الذاتي، ولنزوعها إلى أن تتساوى مع قريش، على أرضية الفضل الأكبر لنصرة الإسلام في بلاد الروم والفرس3. والواقع أن العلاقة بين هذين العاملين كانت تصادمية، إذ لم يكن بالإمكان تحقيق أحدهما إلا على حساب الآخر، وأثبتت الأحداث أن القوة كانت بيد القبائل بدليل قتل الخليفة على يد محاصريه، في الوقت الذي ظل جميع الصحابة في الداخل

_ 1 البكاي: ص20. 2 البلاذري: ج6 ص202، 211، 212، 215، 216، ابن قتيبة: ج1 ص40. 3 إبراهيم: ص259، 260.

وعمال عثمان في الخارج ينتظرون نتيجة الصراع انتظارًا سلبيًا1، على الرغم من المحاولات الخجولة التي قام بها بعضهم للدفاع عن الخليفة لا سيما علي بن أبي طالب الذي أرسل ابنه الحسن من أجل ذلك2، مع الإشارة إلى أن المحاصرين لم يظهروا أي احترام للصحابة، ربما باستثناء علي. الطريق إلى المأساة: تتضمن روايات المصادر مادة غنية تصف لنا تفاصيل الثورة على عثمان التي أدت إلى مقتله، بصورة متعاطفة مع الخليفة أو مع الثائرين، لكن النظرة الموضوعية إلى تلك الروايات ومقارنتها ببعضها، على تضاربها، تعطينا صورة واقعية تقارب الحقيقة إلى حد ما. تتفق الروايات على أن قادة القوى المعارضة خططوا، وتآمروا بصورة مشتركة ومنسقة، إما عن طريق تبادل الرسائل، وإما أثناء اجتماع عقد في الحج في "نهاية 34هـ/ أواسط 655م"، لكنها تختلف بعد ذلك. يتحدث الطبري، من خلال رواية سيف بن عمر، عن مؤامرة على الأمة الإسلامية حاك خيوطها يهودي يمني، دخل حديثًا في الإسلام؛ هو عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء، لسواد أمه، وقد جال في الأمصار قبل أن يستقر في مصر، فنظم الحركة ورافق القوة المصرية إلى المدينة لحصار عثمان، وهو أول من نشر أفكارًا جديدة، ومشوشة حول رجعة النبي وحول الوصية، أي الفكرة القائلة: إن عليًا هو وريث النبي الشرعي، وطعن بعثمان الذي تولى الخلافة بغير حق، وحرض على الثورة، كما أثار قضية ألوهية علي وقداسته3. لقد صدمت حادثة الاغتيال وجدان المسلم المتتبع لتاريخه السياسي، فكان لا بد أن تلقي مسئوليتها على كاهل أحد، إذ ليس من المعقول أن يتحمل وزر ذلك صحابة كبار حاربوا مع النبي، وشاركوا في وضع أسس الإسلام، فكان ابن سبأ، فهو الذي أثار الفتنة التي أدت إلى مقتل عثمان، كما يتحمل مسئولية انشقاق المسلمين سياسيًا، وعقائديًا من واقع ظهور الحركة الشيعية، ومثل حركة باطنية لهدم العالم الإسلامي، وقد شكلت نواة لانطلاق المعارضة الخارجية والشيعية.

_ 1 إبراهيم: ص259، 260. 2 البلاذري: ج6 ص202، 211، 215، 216، ابن قتيبة: ج1 ص40. 3 الطبري: ج4 ص340، 341، البغدادي: الفرق ص226.

والواضح أن الطبري، هدف من خلال رواية سيف أن يبرز الدور الكبير الذي أداه ابن سبأ في أحداث الفتنة، ويؤكد كل مسئولية جهة خارجية، يهودية بالتحديد، عن مقتل عثمان، ويبرئ الصحابة، وأهل المدينة من تلك المسئولية، واعتمدت المصادر التي أوردت دور ابن سبأ في أحداث الفتنة على ما رواه مؤرخنا. لم يرد عند أحد من أصحاب المغازي، والإخباريين المتقدمين، وغيرهم من مؤرخي القرنين الثالث والرابع الهجريين، أي ذكر لدور ابن سبأ على الرغم من تناول العديد من المصارد الأدبية، والتاريخية وكتب الفرق والأنساب، إشارات مختلفة، ومتضاربة حول اسمه ونسبه، وعقيدته ومصيره، في حين اكتفى بعضها بإيراد لفظة السبئية دون أن تقدم تفسيرًا واضحًا لها، أو تعطي أي معلومات تذكر عن دور ابن سبأ في الفتنة، ومقتل عثمان وأحداث الجمل بعد ذلك. ومن جانب آخر لم تحفظ كتب التراجم أي معلومات عن رواة السبئية الأمر الذي أدى إلى اختلاف الدراسات الحديثة في درجة تقييمها للدور الذي تنسبه المصادر للسبئية في الفتنة1. فشكك بعض المؤرخين، ومعظمهم من الشيعة، في وجود شخصية ابن سبأ، وبالتالي في الدور المنسوب إليه من واقع أن أفكاره هي موضوعات للتشيع العقائدي الذي سيتبلور في المستقبل، ومن الصعب التصور بأنه جرى تداولها في تلك المرحلة المبكرة من عمر المجتمع الإسلامي، على الرغم من اختلاف المؤخرين حول بداية تاريخ التشيع الإسلامي، ويظهر النقد الذي أثير حول وجود هذا الشخص أنه استباق للأحداث، وأنه صورة وهمية تخيلها مؤرخو القرن الثاني للهجرة من أوضاعهم، وأفكارهم السائدة حينئذ، وأن مؤامرة مثل هذه، وبهذا التفكير وهذا التنظيم، لا يمكن أن يتصورها العالم الإسلامي المعروف آنذاك بنظامه القبلي، وأنها تعكس أحوال العصر العباسي الأول بجلاء، وأن التشيع، كعقيدة منظمة، لها آراء كلامية لا يمكن أن تصدر إلا بعد أن توالت أحداث هامة مثل مقتل علي ومأساة كربلاء، كما أن رواية سيف محاطة بكثير من المحاذير، والتساؤلات مثل إملاء ابن سبأ مواقفه على أبي ذر وتأثره به، في حين كان هذا الصحابي رجلًا شديد الاعتداد برأيه، فقيهًا عالما بقواعد الإسلام، فهل يعقل أن يأخذ عن ابن سبأ، وهو رجل حديث العهد بالإسلام لم يشتهر بعلم، أو مال أو منصب، ثم إن آراء هذا الصحابي، المتعلقة بكنز الذهب، والفضة والمال، سبقت لقاءه مع ابن سبأ كما ورد عند الطبري، وسبقت.

_ 1 ملحم: ص233-244.

ذهابه إلى دمشق أيضًا، كما أن العنصر الزمني في روايات الطبري، التي تناولت تنقلات ابن سبأ بين الأمصار، تساهم في عدم مصداقية حصول لقاء بين الرجلين في دمشق في عام 30هـ، أما نشاط ابن سبأ في البصرة، والكوفة ومصر فهو محاط بكثير من المحاذير، والتساؤلات أيضًا، مما يحول دون تصديقها، والإجابات عنها متعذرة لعدم توافر المعلومات السكانية عنها، سواء عند الطبري، المصدر الرئيسي الذي استعرض دور ابن سبأ في الفتنة، أو في المصادر الأخرى التي اعتمدت عليه1. ويختلف الأمر عند ابن إسحاق والواقدي، إذ إن الصحابة الموزعين في الأمصار هم الذين كاتبوا بعضهم بعضًا قائلين: "أن أقدموا، فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد ... "، "إنكم إنما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عز وجل، تطلبون دين محمد صلى الله عليه وسلم، فإن دين محمد قد أفسد من خلفكم وترك، فهلموا فأقيموا دين محمد صلى الله عليه وسلم2، وبالتالي هم الذين أعطوا الأمر بالانتقال إلى العمل بفعل أنهم يشكلون شبكة كثيفة من العلاقات. والواقع أنه كانت هناك مؤامرة من واقع تنسيق العمل، وتحديد الأهداف، في الأوساط النشطة لقراء الكوفة، ونظرائهم في البصرة ومصر، يضاف إلى ذلك أن المصادر المصرية تتحدث عن انقلاب في الفسطاط، واستيلاء محمد بن أبي حذيفة على السلطة، ذلك الذي ربما قد بادر إلى إرسال القوة المصرية ضد عثمان، وقد شيعهم لدى خروجهم3. والراجح أن الخليفة عثمان كان يجهل تلك الحركة في بادئ الأمر؛ لأنها كانت

_ 1 انظر: أبو الحسين الملطي: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع: ص25. زهرة، محمد: المذاهب الإسلامية: ص4، النشار، سامي: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ج1 ص18، أمين أحمد: فجر الإسلام ص110-154، معروف، نايف: الخوارج في العصر الأموي ص48، الطالبي، عمار: آراء الخوارج الكلامية ج1 ص69، 70 القاضي، وداد: الكيسانية في التاريخ والأدب ص118، 119، كاشف، سيدة إسماعيل: مصر في فجر الإسلام ص111، 112. شنقارو، عواطف العربي: فتنة السلطة ص52، 53. البكاي: ص20، 21. حسين، طه: المجموعة الكاملة ج4 ص518، 519 الهلابي، عبد العزيز صالح: عبد الله بن سبأ. دراسة للروايات التاريخية عن دوره في الفتنة، حوليات كلية الآداب جامعة الكويت الحولية الثانية 1987 ص73، بيضون إبراهيم: الإمام علي ص179-195، لويس، برنارد: أصول الإسماعيلية: تعريب خليل جلو وجاسم الرجب ص86، 87. علي، جواد: عبد الله بن سبأ، مجلة المجمع العلمي العراقي مجلد 5 ص66-100. 2 البلاذري: ج6 ص174، 175. الطبري: ج4 ص336-367. 3 الطبري: المصدر نفسه: ص357.

سرية، ويبدو أنها وصلت إلى مسامع الصحابة في المدينة، فأعلموا عثمان بها، وأشاروا عليه بأن يتحرى الأمر، فأرسل رجالًا يثق بهم إلى الأمصار المختلفة، للوقوف على الأوضاع العامة فيها، فبعث محمدًا بن مسلمة إلى الكوفة، وأسامة بن زيد إلى البصرة، وعبد الله بن عمر إلى الشام، وعمارًا بن ياسر إلى مصر، وأرسل غيرهم إلى سائر الجهات، فلما عاد الرسل أخبروه بأن الأوضاع مستتبة وأن المسلمين في الأمصار لا ينكرون شيئًا، وأن أمراءهم يعدلون بينهم، ولكن عمارًا بن ياسر تخلف، ولم يعد إلى المدينة. وبعد أن اختمرت دوافع الثورة خرجت إلى دور العمل والتنفيذ، ومثل قدوم الثائرين من مختلف الأمصار الإسلامية إلى المدينة عام "35هـ/ 655-656م" تتويجًا للتحركات السابقة، فقد خرجوا كجماعات منتظمة مع رءوس مجموعات، وقائد لكل فرقة بكاملها، وسيكون هؤلاء الفاعلين الرئيسيين الممثلين للاحتدام؛ لأن الروايات حفظت أسماءهم؛ ولأننا سوف نصادفهم لاحقًا، ويدل انتسابهم القبلي على أحوالهم الاجتماعية. خرجت الجماعة الأولى من مصر، وقد بلغ عدد -أفرادها بين أربعمائة وألف مقاتل بقيادة الغافقي بن حرب العكي، وفي عدادهم أبو عمرو بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعبد الرحمن بن عديس البلوي، وكنانية بن بشر التجيبي من كندة، وسودان بن حمران السكوني من كندة أيضًا، وعروة بن شييم الكناني وغيرهم من صغار زعماء العشائر، وادعوا بأنهم يريدون العمرة، فأرسل والي مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح كتابًا إلى الخليفة يعلمه بخروجهم1. إن الشخص الملفت بينهم هو عبد الرحمن بن عديس البلوي من قبيلة بلي، إحدى القبائل التي أقامت في مصر منذ فتحها، وهو من صحابة النبي والوحيد الحامل لهذه الصفة، وبالتالي فإنه ينتمي إلى جماعة الصحابة ذات الأصل البدوي، والذين تعاظم دورهم مع الوقت، وأدى عروة بن شييم الكناني دورصا كبيرًا في عملية القتل، فهو الفاعل الرئيسي2. وخرجت الجماعة الثانية من الكوفة، وقد بلغ عديدها مائتي مقاتل بقيادة عمرو بن الأصم، وفي عدادهم زيد بن صوحان العبدي، والأشتر النخعي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد الله بن الأصم، والصحابي عمرو بن الحمق الخزاعي، وهو من صغار

_ 1 الطبري: ج4 ص348-357. 2 جعيط: ص110.

زعماء العشائر1، والرجل البارز بينهم هو الأشتر، إذا إننا نراه في الصورة إلى الجانب عثمان ينصحه بالتنازل عن منصبه أو محاولًا قتله، لكن دون أن يتمكن من حسن الأمر، إنه الكوفي الوحيد الذي يشعر القارئ بحضوره وفاعليته2، أما عمرو بن الحمق الخزاعي، فقد تردد اسمه أكثر من مرة، وهو أحد المشتركين القلائل في القتل، وتعزى إليه أعمال رهيبة في أثناء دفن عثمان المأساوي والسري3. وخرجت الجماعة الثالثة من البصرة، وقد بلغ عدد أفرادها مائة وخمسين مقاتلًا بقيادة حرقوص بن زهير السعدي، وفي عدادهم عدد من صغار زعماء العشائر أمثال حكيم بن جبلة العبدي، وذريح بن عباد العبدي، وبشر بن شريح الخطم بن ضبيعة القيسي وغيرهم4، ويسرتعي كل من حرقوص وحكيم الانتباه، فهما أشد مهاجمي البصرة. انتسبت الأكثرية المطلقة لزعماء الثائرين إلى فئة الزعمات القبلية التقليدية التي لم تؤد دورًا مميزًا في تاريخ الإسلام، لكنها كانت جميعًا من أهل الأيام والقادسية، إذ عندما حاصر الثائرون عثمان، كتب إلى أهل الأمصار يستمدهم ليرسلوا له النجدات على وجه السرعة لمواجهتهم، ويوضح تشخيصه لهوية الثائرين ومحاصريه، أنهم أعراب وقبائل مع مقارنتهم بالأعراب الذين حاصروا المدينة في غزوة الخندق، أو الأحزاب5، "فهم كالأحزاب أيام الأحزاب، أو من غزانا بأحد إلا ما يظهرون6؛ رؤيته لهذه الحركة التي تمثل تمرد الأعراب، والقبائل عليه، وتغذي المعارضة ضده في الأمصار، إنها إذن حركة الأعراب أي حركة القبائل7. ويبدو أن المصادر التي أمدتنا بأرقام جماعات الأمصار التي توجهت إلى المدينة، وأسماء الشخصيات التي قادتها ورافقتها؛ هدفت إلى التأكيد أن حركة الاحتجاج ضد الخليفة، إنما هي حركة شعبية شاملة شاركت فيها مختلف الأمصار من أجل وضع حد لتجاوزات السلطة المركزية، ويلاحظ أن المصادر المختلفة اعتمدت على رواة

_ 1 يذكر الطبري: من خلال رواية سيف بن عمر، أن عددهم كعدد من خرج من أهل مصر، ج4 ص349، وقارن بالبلاذري ج6 ص174. 2 الطبري: المصدر نفسه ص371، 372. 3 المصدر نفسه: ص393، جعيط: ص110، 111. 4 البلاذري: ج6 ص174، الطبري: ج4 ص349، الذي يذكر، من خلال رواية سيف بن عمر أن عددهم كعدد من خرج من أهل مصر. 5 حدثت غزوة الخندق في عام 5هـ. 6 الطبري: المصدر نفسه: ص351، 352. 7 إبراهيم: ص255.

عراقيين مثل أبي مخنف، وذلك لإعطاء المصريين الحجم الأكبر، وتحميلهم المسئولية عن قتل الخليفة1، وإبراز الدور الثانوي لثوار البصرة، والكوفة بالمقارنة مع الدور الذي أداه المصريون. وقوع المأساة: يبدو أن هدف جماعات الثائرين المبدئي لم يكن قتل الخليفة ولا حتى خلعه، بل الضغط عليه من خلال وسائل استعراضية مختلفة لحمه على تعديل نهجه في الحكم، ومحاسبة المسئولين عن الأخطاء والتجاوزات، والدفاع عن مصالحهم المتمثلة بسيادة أعرافهم، وقيمها في إدارة الشئون العامة، في مقابل ما يمثله من نهج جديد يسعى للتقييد من ملكيتهم لفيء الفتوح، وإخضاعهم لإدارة سياسية مركزية مستقلة عنهم، ولعل هذا ما توحي به، على الأقل، ضآلة قوتهم العسكرية، ومن أجل ذلك قدموا مطالبهم التالية إلى الخليفة: - العمل بكتاب الله وسنة نبيه. - لا يأخذ أهل المدينة عطاء. - تخصيص مال الفيء لمن قاتل عليه بالإضافة إلى الصحابة، كما يعطي المحروم منه. - تأمين الخائف ورد المنفي. - لا تجمر البعوث. - رفع الظالم. - خلع كل والٍ لا ترضى عنه الأمصار2. تكشف هذه المطالب أن هناك إجراءات اتخذت في السابق، وتسببت في الانفجار، لا سيما تخفيض أو إلغاء العطاء، وإطالة مدة البعوث خارج الأمصار، وهو ما يعرف بالتجمير3، وهكذا تتعلق المطالب بإلغاء تدابير متخذة بحق محرضي الأمصار. استجاب عثمان لهذه المطالب؛ لأنه أراد أن يعالج الموقف باللين والسياسة، لا بالعنف والشدة، خوفًا من إراقة دماء المسلمين، واشترط عليهم ألا يشقوا عصا الطاعة، وألا يفارقوا الجماعة، وبالتالي حصل الثائرون على الحد الأدنى المقبول

_ 1 ملحم: ص150. 2 الطبري: ج4 ص331، 369، 370. 3 المصدر نفسه: ص333.

لمطالبهم، وانتهت المناقشات بوعد علني قطعه عثمان بالتخلي عن كافة التجاوزات، وهو اعتراف بالأخطاء السابقة، وكتب إلى المسلمين بعامة، وأهل الأمصار بخاصة كتابًا تضمن موافقته، وغادرت وفود الأمصار المدينة عائدة إلى أمصارها، وبدا وكأن الأزمة قد انتهت، وحافظت الأمة الإسلامية على وحدتها، ويعد هذا، إذا ما تحقق، نجاحًا بالغ الأهمية بالمقارنة مع حل أزمة بالغة الخطورة. ويبدو أن العامل السياسي سرعان ما استرجع دوافعه من واقع التجاوزات التي ذكرت من جهة، والجو المشحون من جهة أخرى، وتبيين أن التفاهم، وتوبة عثمان، كان مرحليًا وآنيًا؛ لأن واقع القضايا المطروحة كان يدفع باتجاه الصدام المسلح، وسرعان ما حدثت الانتكاسة، فمن الممكن أن عثمان أبدى تصلبًا، أو أنه تأثر بتأليب حاشيته التي تسودها شخصية مروان بن الحكم، وشعر الثائرون من جانبهم بالتنكر لهم، ومن المحتمل أن تكون الفئات الحاقدة بين القادة المصريين قد أرادت التخلص من الخليفة، وأنها وجدت لذلك الأمر ذريعة من واقع رسالة عثمان المرسلة إلى والي مصر، بعد الاتفاق مباشرة، وقد تضمنت أمرًا خطبًا منه بمعاقبة قادة المجموعة المصرية إما بالجلد والتعذيب، وإما بالصلب والإعدام، وقد وقعت الرسالة في أيدي المصريين1، ويدل ذلك، إما على تبدل موقف عثمان، أو على تغيير في موقف حاشيته الأموية القوية والفاعلة، التي رأت في موقف الخليفة تنازلًا منه عن حقوق مكتسبة لها، وهو الأرجح، بدليل أن عثمان أقسم بأنه لم يكن يعلم شيئًا، لا عن الرسالة، ولا عن مضمونها2. وتظهر روايات أخرى ترتدد عثمان في تنفيذ وعوده، وتمسكه بقرار الدولة المستقل، وعزمه على عدم إفراغ السلطة من مضمونها3، وإن تطور الأمر حتى الصدام المسلح، ويبدو من ذلك أنه كان المسيطر الفعلي على قراراته، وأنه لم يكن ألعوبة في يد مروان بن الحكم4، لذلك فإن الروايات التي تتحدث عن الرسالة التي تأمر بتعذيب، وصلب قادة المعارضة في مصر، والتي يقال: إنه أرسلها إلى واليه على مصر تستوجب الرد. والواقع أن الأمور كانت تسير بسرعة نحو الصدام المسلح، نلاحظ ذلك من عودة الثائرين، وتلاحمهم وائتلافهم ضد عثمان، على الرغم من نفيه، وإنكاره وإبداء رغبته في التهدئة.

_ 1 البلاذري: ج6 ص217، الطبري: ج4 ص373-375. 2 الطبري: المصدر نفسه: ص371. جعيط: ص114. 3 جعيط: المرجع نفسه. 4 المرجع نفسه.

وسيطر الثائرون على المدينة، إذ لم تكن هذه في وضع عسكري يحول دون ذلك بفعل توزيع القوى المسلحة في القواعد والأجناد، والثغور، ومن هنا كانت مهمة الثائرين يسيرة بحيث أنهم تنقلوا في عاصمة الخلافة دون أن يعترضهم أحد، ومنعوا الناس من الاجتماع، وابتزوهم، ووضعوا السيف في من تعرض لهم، فتفرق أهل المدينة في حيطانهم، ولزموا بيوتهم، لا يخرج أحد منهم، ولا يجلس إلا وعليه سيف يمتنع به من حصار القوم1. تجاه هذا التغير في المواقف والتطور السلبي للقضية، انقسم الصحابة الموجودون في المدينة إلى ثلاث فئات: الفئة الأولى: هي التي بدل أصحابها موقفهم كليًا، فانفضوا من حول الخليفة بعد أن كانوا قد أمدوه بنصائحهم، وتوسطوا بينه وبين الثائرين، وتركوه يواجه مصيره، ذلك أنهم اعتقدوا أنه نكث بالوعد الذي قطعه لإصلاح نفسه2، وقبعوا في بيوتهم بعيدين عن المأساة التي تدور تحت سمعهم وأبصارهم، وإنه موقف حيادي لكن متخاذل سوف يساعد الثائرين المحاصرين لدار عثمان، بصورة غير مباشرة3. الفئة الثانية: هي التي ساعد أصحابها الثائرين، وشاركوا في الحصار، فقد دفع طلحة بن عبيد الله بعشيرته تيم إلى المشاركة، وهو الطامع علنًا في الخلافة4، كما أظهر البدو وخزاعة من أسلم، وغفار عداء شديدًا تجاه عثمان، وانضموا إلى صفوف الثائرين وشجعوهم، حتى أنهم شاركوا في القتل5، هذا بلا شك بدافع الحقد الطبقي؛ ولأنهم مبعدون عن السلطة. الفئة الثالثة: وهي التي استمر أصحابها على دعمهم للخليفة، فقد أرسل علي بن أبي طالب ابنه الحسن للدفاع عن دار عثمان في وجه المهاجمين، كما ذكرنا، كما أنه سيرسل قرب الماء إليه، وأرسل الزبير بن العوام ابنه عبد الله أيضًا ليقف إلى جانب الخليفة في مواجهة المحاصرين6. في هذا الموقف الخطير والحرج استنجد عثمان بمعاوية في دمشق، وطلب منه أن يرسل إليه النجدات على وجه السرعة لمواجهة الثائرين المحاصرين لداره، لكن التعزيزات تأخرت، فقد تربص معاوية، الذي كان يراقب الموقف عن كثب، ربما

_ 1 الطبري: ج4 ص350، 351، 354، 386، 387. 2 المصدر نفسه، ص364. 3 جعيط: ص115، 116. 4 البلاذري: ج6 ص211. ابن أعثم: ج1 ص229. 5 البلاذري: ج6 ص221، 222. 6 الطبري: ج4 ص350، 351، 390.

لحسابات سياسية، في الوقت الذي أدرك فيه أن سقوط الخليفة بات وشيكًا مما يفتح الباب على مصراعيه أمامه لإعلان خلافته في دمشق باسم حق الوراثة في الأسرة الأموية، ومع ذلك لا يمكن تجريده من التفكير العاطفي الطبيعي آنذاك، ومما يملي من روابط وشعور ومساندة، فمن المستحيل أن تعزى إليه حسابات تذهب إلى حد تمني موت ابن عمه، وربما كانت العاقبة الأكثر احتمالًا هي فقدانه لمنصبه، أما التأخر في إرسال التعزيزات فمرده، إما إلى التأخر في طلب النجدة ذاتها من جانب عثمان، وإما إلى طابع الأمر غير المألوف، إذ عندما وصلت القوة الشامية إلى وادي القرى بلغ أفرادها قتل عثمان، فرجعوا1. سيدوم حصار عثمان أربعين يومًا2، ويدل ذلك على أن الثائرين لم يكونوا حتى هذه المرحلة راغبيين في قتله، بل الضغط عليه من أجل تسليمهم مروان بن الحكم، زعيم بطانته الذي حملوه مسئولية تصعيد الأمة، ووصولها إلى حد الانفجار، ولكنهم منعوه من ممارسة سلطاته مثل إمامة الصلاة، وطرد من المسجد بالحجارة3، لذلك جرى الحفاظ على حياته طيلة تلك المدة التي حفلت بالجدل حول مسألة هدر دمه، واستباحته والبحث عن مبررات شرعية تسمح بقتل الشخص الذي يسبب الفساد في الأرض4، ثم صعدوا إجراءتهم ضده فمنعوا الماء والطعام عنه5، ورجموه بالحجارة وأخذوا يعدون العدة للتخلص منه، ولم يقع مقتله إلا بعد أن يئسوا من قضيتهم مستبقين حملات الدعم التي كانت أخبارها تصل تباعًا إلى المدينة، بالإضافة إلى أنه رفض رفضًا مطلقًا أن يخلع نفسه: "فلا أنزع قميصًا قمصنيه الله عز وجل وأكرمني به، وخصني به على غيري ... "، وفي رواية: "أما الخلع، فما كنت لأخلع سربالًا سربلنيه الله ... "6، ومعنى ذلك أن الخلافة هبة من الله، ومسئولية صادرة عنه، وأن الإنسان لا يملك حق التهرب من ذلك، وبالتالي لا يمكنه أن يتقبل، ولا يجوز إسقاطه7. وفي النهاية، كان على المحاصرين أن يتناقشوا في فكرة القتل، وقد حذرهم عثمان من ذلك لمخالفتها التعاليم الإسلامية من جهة؛ ولأنه سوف يترتب عليها نتائج

_ 1 الطبري: ج4، ص368، جعيط: ص118. 2 المصدر نفسه: ص385. 3 المصدر نفسه: ص364. 4 المصدر نفسه: ص396. جعيط: ص116، 117. 5 المصدر نفسه: ص376. 6 المصدر نفسه. البلاذري: ج6 ص213. 7 جعيط: ص117.

بالغة الخطورة على الصعيدين الداخلي، والخارجي من جهة أخرى1، لقد حدث ذلك خلال يوم الدار، دار عثمان، عندما قرروا فجأة الانتقال إلى التنفيذ العملي، وقد استغلوا مقتل أحد عناصرهم نتيجة إصابته بحجر، أو بسهم من قبل أحد المدافعين عنه، فأشعلوا النار بأبواب منزله، وجرت بعض المناوشات بينهم، وبين المدافعين عنه. ثم حدث أن أحجم عثمان عن الدفاع عن نفسه، وسرح المدافعين عنه، وقدم نفسه كضحية مستعدة للموت، وهو يتلو آيات من القرآن، وفجأة تراجع المهاجمون عن الدار، لكن بعضهم ممن عزم على قتله، وقد تورعوا عن الدخول من الباب، فتسلقوا دارًا مجاورة، فقد فتح عمرو بن حزم الأنصاري، جار الخليفة، باب داره، فدخل منه القتلة، واستقروا في جوف الدار، ودخلوا غرفته وتجاسروا على طعنه عدة طعنات، ثم انكبوا عليه بضراوة، كانوا ثلاثة أو أربعة من القادة المصريين، وكوفي واحد عده بعضهم في عداد المصريين هو عمرو بن الحمق الخزاعي2، حدث ذلك في "18 ذي الحجة 35هـ/ 17 حزيران 656م"3، وجرى دفن عثمان ليلًا، وسرًا بعد ثلاثة أيام في أسوأ الظروف4. تعقيب على مقتل عثمان: وهكذا وقع حادث كبير وخطير في تاريخ الإسلام، قاتم ومأساوي لفصل مثير في تاريخ الخلافة الراشدية التي أضحت أمام منعطف خطير سيترتب عليه عواقب وخيمة على الأمة الإسلامية بعامة، من واقع الانشقاقات، والانقسامات النهائية؛ لأن الهدوء سوف لن يدوم طويلًا بعد عثمان، فانطلق داخل الأمة عنف واسع دمر الطاقة الإسلامية الذاتية، وشل نهوض الأمة بما يتماثل والمراحل السابقة في عهدي الخليفتين أبي بكر وعمر، فانقسم المسلمون إلى جماعات، وأحزاب متناحرة تفجرت في الحرب الأهلية، إنها إحدى أخطر المراحل في التاريخ الإسلامي، وقد تفوقت بنتائجها السلبية على حركة الردة التي أمكن حصرها والقضاء عليها، وبرزت قوة الأمصار على حساب قوة المدينة بخاصة والحجاز بعامة، التي سوف تتراجع، وتتوارى في الظل.

_ 1 الطبري: ج4: ص376، 377. 2 المصدر نفسه: ص394، البلاذري: ج6 ص220. 3 المصدران نفساهما: ص416، 417. ص212. 4 الطبري: المصدر نفسه: ص412.

كان مقتل عثمان العنيف تاريخيًا ومأساويًا، تاريخيًا؛ لأنه كان ضاغطًا على التاريخ السياسي طيلة قرنين أو ثلاثة، وتسبب بانشقاقات مذهبية عميقة من واقع انقسام المسلمين إلى سنة وشيعة، وأطلق نزاعات بالغة الخطورة من حروب أهلية، وعنف فتاك داخل الأمة الإسلامية، ولم تلتئم الجراح حتى يومنا هذا. وارتبطت بالمقتل مباشرة تلك المرحلة من سنوات الفتنة الخمس المتطابقة مع خلافة علي، ثم كان التطور البطيء للحدث، ويستند إلى علي، وليس إلى عثمان، أي سوف يدخل على الخط السياسي لاعبون جدد وراءهم خليفة تاريخية مثقلة بالاحتدام، بحيث أن مقتله لم يكن إلا ذريعة، ومع ذلك تدين الأسرة الأموية بقيامها إليه، ويسترعي الانتباه كل من علي وطلحة، والزبير وعائشة زوجة النبي ومعاوية، وفوق ذلك، شعرت الأمة الإسلامية كلها بأنها معنية بالصراعات، وكان الرهان هو السلطة، والمطامع والمطامح، والمحاسد ورغبة الانتقام، بغض النظر عن الوعي أو عدمه1. وكانت المأساة حاضرة بدءًا من اللحظة التي قتل فيها خليفة المسلمين الذي واجه الموت وحيدًا، مرورًا بظروف دفنه عندما رفض الثائرون أن يدفن كأحد المسلمين، ولن يتم ذلك إلا عندما هددت إحدى بنات عمه، أم حبيبة زوجة النبي أم المؤمنين، بفضح ستر رسول الله وعرضه أمام الجميع، فجرى دفنه ليلًا وفي الخفاء كما ذكرنا. وأثبتت الفتنة التي عصفت بالمسلمين، ومقتل عثمان، تضاربًا في المصالح بين بعض كبار الصحابة، والقيمين على الشئون العامة، وقد وصلت إلى مرحلة نزاعية تصادمية، وسببت انقسامًا حادًا بين المسلمين بعامة، وشكل دم عثمان الانطلاقة المباشرة، لذلك كانت خلافة علي، كما سنرى، مثقلة بظلال هذا الحدث الخطير، وبخاصة أن الذين قتلوا عثمان كانوا من أوائل المبايعين لعلي، وعلى هذا الأساس أضحى الموقف من خلافة علي مرتبطًا بشكل مباشر بتحديد الموقف من السؤال: هل قتل عثمان مظلومًا أم لا؟ واتخذت الإجابة على هذا السؤال أحد الأشكال التاريخية الملموسة، والمباشرة التي تم من خلالها التعبير عن قضايا الاختلاف، والصراع السياسي المرتبطة بطبيعة التطور التاريخي2.

_ 1 جعيط: ص125. 2 إبراهيم: ص278، 279.

الفصل الثاني عشر: الفتنة الكبرى ومقتل عثمان

الفصل الثاني عشر: الفتنة الكبرى ومقتل عثمان ... تجاوزوا حاجز التكتم هذا فهم صحابة من أصل بدوي، من أهل السابقة، وأحيانًا من موالي قريش، أتاح لهم الإسلام الارتقاء بوضعهم الاجتماعي، والوصول إلى الوظائف الكبرى في عهد عمر، وبلغوا مركزًا معنويًا متقدمًا، وكانوا يعيشون بين المدينة والأمصار، هناك ثلاثة صحابة يسترعون الانتباه بشكل خاص هم: أبو ذر الغفاري، عبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر. الانتقادات الموجهة إلى عثمان: قضية عبيد الله بن عمر: سوف أستعرض القضايا التي أثارت جدلًا في المجتمع الإسلامي، والتي اتخذها المعارضون لسياسة عثمان ذريعة للتعدي على شخصه وقتله، مبينًا وجهات النظر المختلفة فيها. كان أول ما عرض على عثمان في مستهل حياته السياسية قضية عبيد الله بن عمر الذي أثاره مقتل والده على يدي أبي لؤلؤة، فاندفع للثأر من عدد من الأشخاص الذين اعتقد أنهم اشتركوا في المؤامرة، وساعدوا القاتل في مهمته، فقتل الهرمزان، وجفينة وابنة أبي لؤلؤة1، وقبض على عبيد الله بعد ذلك، وعرض على الخليفة الذي استشار الصحابة في أمره، فأشار عليه بعضهم بقتله، كان من بينهم علي بن أبي طالب في حين عارض بعضهم ذلك، وقال بعض المهاجرين: "قتل عمر أمس، ويقتل ابنه اليوم"2، فتدخل عمرو بن العاص، واقترح على الخليفة حلًا للقضية لإخراجه من الحرج الذي يواجهه، فقال: "يا أمير المؤمنين، إن الله قد أعفاك أن يكون هذا الحدث كان، ولك على المسملين سلطان؛ إنما كان هذا الحديث ولا سلطان لك، فقال عثمان: أنا وليهم، وقد جعلتها دية، واحتملتها في مالي"3، وعفا عن عبيد الله بن عمر، إلا أنه أخرجه من المدينة إلى الكوفة، وأنزله دارًا بها4. كان يمكن لهذه القضية أن تقف عند هذا الحد لولا تمادي المعارضين ممن يحملون مواقف مسبقة ضد الخليفة، وقد حملوه مسئولية العفو عن عبيد الله بن عمر، وأكدوا أن مشاورة الصحابة كانت شكلية، وأن قتل الهرمزان جريمة ارتكبت بحق مسلم، والجدير بالذكر أن هذا الرجل عندما شعر بحر السيف أسلم، وقال: "لا

_ 1 البلاذري: ج10 ص432، 433. 2 البطري: ج4 ص239. 3 المصدر نفسه. 4 اليعقوبي: ج2 ص57.

الباب الرابع: علي بن أبي طالب 35-40هـ/ 656-661م

الباب الرابع: علي بن أبي طالب 35-40هـ/ 656-661م الفصل الثالث عشر: أوضاع المسلمين العامة في ظل خلافة علي بن أبي طالب: الصراع بين علي وأصحاب الجمل: التعريف بعلي: هو علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، ابن عم النبي: يكنى بأبي تراب، وهو أبو الحسن الهاشمي، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، اعتنقت الإسلام، وهاجرت إلى المدينة1. ولد علي في مكة قبل البعثة بعشر سنين ونشأ في حجر النبي، وذلك أن أبا طالب كان كثير العيال، فلما أصاب مكة جدب، طلب النبي من عمه العباس أن يخفف عن أبي طالب مشقة العيش بأن يعول بعض ولده، فذهبا إليه وعرضا عليه المساعدة فقبل، فضم العباس إليه جعفرا وضم النبي عليًا2، ولما بعث النبي كان علي أول من آمن به من الصبيان، وهو ابن عشر سنين3، وتجري روايات المصادر أن النبي عندما دعا قريشًا إلى دينه الجديد، أحجموا عن الاستجابة، وقرروا عدم مناصرته، فصاح علي في حماسة الصبي قائلًا: "أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه"4. عرف علي بالشجاعة والبطولة، وليس أدل على ذلك من تعرضه للخطر في الليلة التي هاجر فيها النبي، إذ لبس ثوبه وبات في فراشه، مع أنه كان يعلم عزم المشركين على قتله في تلك الليلة، ثم لحق به إلى المدينة بعد أن أدى الودائع التي كانت عند النبي لأصحابها5. وقد زوجه النبي من ابنته فاطمة في السنة الثانية للهجرة، فولدت له الحسن والحسين ومحسنًا، وقد مات صغيرًا، وزينب وأم كلثوم، ثم تزوج أم البنين بنت

_ 1 ابن كثير: ج7 ص223. 2 ابن هشام: ج1 ص285. 3 المصدر نفسه، ص282. 4 الطبري: ج2 ص321. 5 ابن هشام: ج2 ص222، 223.

حزام، بعد وفاة فاطمة، فأنجبت له العباس وجعفرا وعبد الله وعثمان، وقد قتلوا مع الحسين بكربلاء، ولا بقية لهم غير العباس، وتزوج ليلى ابنة مسعود بن خالد النهشلي، فولدت له عبيد الله وأبا بكر، وقد قتلا كذلك في كربلاء. وتوزج أسماء ابنة عميس الخثعمية، فولدت له يحيى ومحمدًا الأصغر1، وعلى عادة العرب، فقد كانت له عدة زوجات كما كان له تسع عشرة سرية، وقد بلغ عدد أولاده الذكور أربعة عشر ولدًا، والإناث سبع عشرة، وقد توفيت بعض زوجاته في حياته وطلق بعضهن، وتوفي وفي بيته أربع منهن2. اشترك علي في جميع الغزوات باستثناء تبوك؛ لأن النبي خلفه على المدينة، وقد روى كثيرًا عن النبي، كما روى عنه عدد من الصحابة مثل عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، بالإضافة إلى ابنيه الحسن والحسين. اشتهر علي بشجاعته في الحروب، وموقفه يوم خيبر معروف، ودفع إليه النبي براية القيادة، وهو ابن عشرين سنة، وكانت شجاعته تصيب أعداءه بالهلع والارتباك، ولكنه كان يفتقد إلى حزم الحاكم ودهائه، وتنقصه الحنكة السياسية، وعدم التردد في اختيار الوسائل لتثبيت مركزه، وقد سمح هذا لمنافسيه بالتغلب عليه. ولما توفي النبي انهمك علي في تجهيزه ودفنه، وكان يرى أنه أحق المسلمين بالخلافة بعد النبي لما له من السابقة في الإسلام؛ ولأنه أقرب الناس إلى النبي نسبًا وصهرًا، فلما آلت الخلافة إلى أبي بكر بايعه بغض النظر عن المدة التي بقي فيها بدون بيعة. كان علي موضع ثقة أبي بكر، يستشيره في الأمور الهامة، وكذلك كان في أيام عمر الذي لم يكن يقدم على عمل إلا بعد استشارته، وكان أحد أعضاء مجلس الشورى الستة الذين اختارهم عمر لانتخاب أحدهم لخلافته. ظروف تولي علي الخلافة: اتخذ الانقسام الذي أفرزته الثورة على عثمان طابعًا نهائيًا بفعل عمق الجرح، واتساع الهوة بين الفئات المتناقضة التوجهات في المجتمع الإسلامي، وخلق فرزًا اجتماعيًا جذريًا بين الجمهور القبلي من جانب، وبين النخبة القرشية من جانب آخر، بالإضافة إلى ولادة الفرق السياسية، ونشوء الفكر السياسي في تاريخ الإسلام3.

_ 1 الطبري: ج5 ص153، 154. 2 ابن كثير: ج7 ص322. 3 إبراهيم: ص262.

كان الخيار المطروح بعد مقتل عثمان هو إما العودة إلى نظام عمر الذي اعتمد أساسًا على المصالح القبلية وقيمها، وإما الاستمرار في السير على نهج عثمان من واقع النظام الجديد الذي يعتمد على أولوية المصالح القرشية، وقد توزعت مواقف الصحابة بخاصة، والمسلمين بعامة بين هذين الخيارين، ومثل الصراع بين علي، ومعاوية هذه الثنائية المتناقضة، وقد تبنى الأول مطالب الثائرين في حين جسد الثاني الاستمرارية الحية المباشرة لنهج عثمان. وتواجه الباحث صعوبات عديدة، وهو يرسم صورة الأحداث التي تم من خلالها اختيار الخليفة الراشدي الرابع، وذلك بفعل كثرة الروايات وتناقضها، لكن الدراسة الموضوعية تمكن من استيعاب الواقع التاريخي، إذ إن اختيار علي كان وليد الظروف التي أعقبت مقتل عثمان مباشرة، فقد خلفت حادثة القتل فراغًا سياسيًا كان لا بد من ملئه على وجه السرعة، لهذا كان ضغط الوقت شديدًا على الجميع للإسراع في الاتفاق على مرشح واحد للخلافة، تجمع عليه الأمة، وسط الذهول والانصدام، والحذر والتريث الذي خيم على أهل المدينة. كان الثائرون ما يزالون يسيطرون على المدينة، ويملكون ناصية القرار السياسي والعسكري، إلا أنهم لم يمارسوا السلطة فعليًا، وبدوا مرتبكين وغير متوحدين أمام جسامة الحدث الذي خلقته حركتهم، وافتقروا إلى الرؤية الواضحة للخروج من المأزق، وبالتالي لم يملكوا مشروعًا للحل يمس الخلافة مباشرة، هذا في الوقت الذي أخذ فيه معظم الصحابة يتوارون عن الأنظار في عاصمة الخلافة، مفضلين الابتعاد عن التطورات التي أفلتت من أيديهم، وكان الفراغ في السلطة ينذر بأسوأ النتائج، واشتدت الحاجة إلى منقذ يتمتع بتأييد الأغلبية في التوجهات السياسية، وبخاصة الممثلة لجماعة الثائرين المعنية مباشرة بالوضع القائم1. وهكذا، رشح المصريون عليًا، فاختبأ منهم، وطلب الكوفيون الزبير، فلم يجدوه، فأرسلوا إليه رسلًا، فباعدهم وتبرأ من مقالتهم، وطلب البصريون طلحة، فباعدهم أيضًا وتبرأ من مقالتهم، على الرغم من أن كلًا منهما كان طامعًا بالسلطة، محبًا لها، إلا أن الجو السياسي العام كان لا يسمح بتولي منصب الخلافة من دون الاتهام بممالأة الثائرين؛ الأمر الذي دفع الثائرين إلى التفاوض مع كل من عبد الله بن عمر، وسعد بن أبي وقاص، فرفضا وعد كل منهما نفسه قد أخرج من الأمر2، عندئذ ترك هؤلاء الأمر لأهل المدينة.

_ 1 الطبري: ج4 ص432. 2 المصدر نفسه: ص427.

توجه بعض الصحابة من المهاجرين، والأنصار نحو علي وخاطبوه قائلين: "إن هذا الرجل قد قتل، ولا بد للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحدًا أحق بهذا الأمر منك، لا أقدم سابقة، ولا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم1. والواضح أن معالم شخصيته وحياته العامة جعلته، آنذاك، رجل الإسلام المهم. والواقع أن الوضع كان استثنائيًا، إذ لا يمكن أن يكون منصب الخلافة شاغرًا،والمسلمون بلا راع، في تلك الظروف العصيبة والمضطربة التي كانوا يعيشونها، ويشير ذلك إلى خطورة الحالة، والقلق من انهاير كل شيء، ولا بد من تنصيب خليفة. كان اسم علي يفرض نفسه، فهو الأكثر نشاطًا من خلال الأزمة، والذي بدا من خلال هذ الموقع المحاور الوحيد بعد انكفاء طلحة، والزبير واعتزال سعد بن أبي وقاص2، وهم الأربعة الذين بقوا من أهل الشورى، ومثلوا النخبة السياسة في المدينة، كما أنه لم يكن موضع اتهام، غير أن الأمور لم تجر على نحو مؤسساتي، وفقًا لآلية مجلس الشورى التي وضعها عمر، ولا برضى بعض كبار الصحابة وموافقتهم، إنما جاءت كخطوة شعبية دون استشارات، فقد قال جمهور المسلمين: "علي بن أبي طالب نحن راضون به"3. والملاحظ أن الثائرين الذين كانوا يشكلون عامل ضغط، تراجعوا عن التدخل في هذه العملية معترفين بأن أهل المدينة، وحدهم هم الذين كانوا يمنحون الشرعية، ونجحوا في طي خلافاتهم من مشكلة المرشحين، وهو ما عبر عنه المصريون بقولهم: "أنتم أهل الشورى، وأنتم تعقدون الإمامة، وأمركم عابر على الأمة، فانظروا رجلًا تنصبونه، ونحن لكم تبع"4. لم يكن علي في البداية راغبًا في تولي الخلافة، وخاطب الذين رشحوه قائلًا: "لا تفعلوا، فإني أكون وزيرًا خير من أن أكون أميرًا"5، عندئذ صعد أهل الأمصار من ضغطهم، فهددوا أهل المدينة بقتل هؤلاء الثلاثة، علي وطلحة والزبير، وناس كثير، مما دفع عامة الناس بمطالبة علي بقبول البيعة وخوفوه الفتنة، فوافق كارهًا خشية منه على الدين، والمسلمين من مزيد من التمزق، وهدف إلى وأد الفتنة وإعادة تجميع جسم الأمة المتناثر، وترميم النظام القائم للسلطة، وتعزيز التواصل بين القوى

_ 1 الطبري: ج4 ص432. 2 المصدر نفسه. 3 المصدر نفسه. 4 المصدر نفسه. 5 المصدر نفسه: ص427.

الاجتماعية الجديدة الأكثر اعتدالًا، والأقل تورطًا في القتل التي يمثلها الأشتر وأصحابه1. واشترط علي على أهل المدينة أن تتم بيعتهم له عن عملية شورى يشترك فيها الصحابة من أهل الشورى، وأهل بدر وعامة الناس، وأن تكون علنية في المسجد2، وذلك حرصًا على جميع كافة المسلمين حوله، وهكذا بايعه من بايع من عامة المسلمين، وكبار الصحابة، ومن بينهم طلحة والزبير3، وذلك يوم الجمعة في "24 ذي الحجة 35هـ/ 23 حزيران 656م"4، من هنا لا يمكن القول بأن عليًا كان رجل الثائرين، والمنتخب منهم كما سيدعي خصومه، ومن جهة أخرى، فإنه قبل بالتولية في ظروف كهذه، وهذا يعني ضمنًا التسليم بالأمر الواقع، والتحول نسبيًا إلى رهين للثورة5. الواضح أنه كانت هناك رغبة للعودة إلى النظام من قبل عامة المسلمين بالإضافة إلى الثائرين، لكن المعارضة السياسية لن تصدر عن علي ومن سانده، بل تحولت إلى الذين يريدون الرد على مقتل عثمان، إذا وجدت فئة من كبار الصحابة ستتراجع عن بيعتها بحجة أنها جاءت تحت ظروف قاهرة، إما تحت تهديد السلاح من قبل أهل الأمصار، أو طوعًا انجرارًا مع العامة، أو خوفًا من بطش الغوغاء، وستنخرط في الحرب الأهلية، مثل مثل الزبير وطلحة6. ويبدو أن الذين استعدوا عليًا تحركوا من خلال دافعين: الأول: هو افتقارهم إلى دور الشريك في السلطة، وما يترتب على ذلك من تهديد لمصالحهم الحيوية. الثاني: هو الخوف على امتيازات لم يعد من السهولة التخلي عنها، والعودة إلى نهج عمر الصارم والمتشدد7. لكن عليًا أضحى الخليفة الشرعي للمسلمين؛ لأن وجوه الصحابة، والمسلمين من المهاجرين، والأنصار قد بايعوه، وهم أهل الحل والعقد، وإن لم يتوفر لبيعته إجماع كالبيعات الثلاث السابقة، فقد ظل معاوية خارج إطار المبايعة، واعتزل سعد بن أبي وقاص ولم يبايع، كما رفض عدد من الصحابة مبايعته انطلاقًا من كونهم عثمانيين،

_ 1 الطبري: ج4: ص427. 2 جعيط: ص142. 3 الطبري: ج4 ص427-430، ابن قتيبة: ج1 ص43، 44، البلاذري: ج3 ص8. 4 ابن الأثير: ج2 ص557. 5 جعيط: ص142. 6 البلاذري: ج3 ص8، 9. 7 بيضون: التيارات السياسية ص120.

مثل حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، ومسلمة بن مخلد، وأبي سعيد الخدري، ومحمد بن مسلمة، والنعمان بن بشير، وزيد بن ثابت، ورافع بن خديج وغيرهم، وتردد الأمويون في البيعة، إذ رأوا في تولي علي الخلافة انتقالًا للسلطة من بني أمية إلى بني هاشم، ثم غادروا المدينة إلى مكة، مثل مروان بن الحكم، والوليد بن عتبة وسعيد بن العاص1، إنه موقف قبلي عشائري. ويبدو أن المزاج العام السائد في الأمصار كان السبب الرئيسي في خلق هذه الأكثرية لصالح علي مما دفع أهل المدينة إلى مبايعته2، وتمت البيعة بعد خمسة أيام من مقتل عثمان، والواقع أن المفارقة المأساوية في حياة علي العامة هي أنه كان المرشح الأبرز، لكنه كان مع ذلك الخليفة الأكثر إنكارًا، والأشد محاربة3. حاول علي أن يحيى من جديد نهج عمر، على الرغم من تغير الظروف الموضوعية واختلافها كثيرًا؛ لأنه كان يرى أنه الشكل التنظيمي السليم لأوضاع الأمة، وتطورها، وأمورها المصلحية، بالإضافة إلى القيم والمبادئ الدينية، والمعروف أن الرجلين كان يحملان الرؤية نفسها للعلاقة بين الإسلام كدين، وبين تنظيم معاملات الناس بموجب تعاليمه، وأدرك أن مهمته الأولى هي تنقية، وتصفية أجواء العلاقة بين الإدارة المركزية في المدينة، وبين الأمصار. ولتحقيق ذلك، كان عليه القيام بإزالة جميع الإحداثات التي أتى بها عثمان، والتي أدت إلى نهايته، وكان تنفيذها مقرونًا بتغييرات جذرية في أجهزة الحكم، وسياسة الدولة الإدارية والاقتصادية، وتشير الكثير من روايات المصادر إلى تحفظات علي على الكثير من إجراءات عثمان السياسية، والاقتصادية الجديدة؛ لأنه كان يرى فيها ابتعادًا عن نهج النبي وخليفتيه. كان التغيير الأكثر إلحاحًا من وجهة نظر علي، هو إعادة النظر في الجهاز الإداري المسئول مباشرة، بوصفه الأداة التنفيذية للخلافة، وذلك من واقع تغيير العمال والموظفين، غير أن التصدي لرواسب النظام السابق كان يعني المواجهة مع قوى نافذة بلغت مبلغًا كبيرًا من القوة، بالإضافة إلى الاصطدام مع عدد من كبار الصحابة الذين وقفوا موقفًا سلبيًا، لذلك كان من الضروري أن يسبق هذا القرار بالتغيير اتخذا خطوات تمهد لتنفيذه من أجل تجنب إثارة المعترضين، وهذا ما أشار به عبد الله بن عباس، وهو الإبقاء على عمال عثمان، وبخاصة معاوية4، ونصحه المغيرة بن شعبة

_ 1 الطبري: ج4 ص429، 430. 2 ملحم: ص263. 3 جعيط: ص143. 4 الطبري: ج4 ص439، 440.

بالتريث في هذا المر حتى تهدأ الأوضاع وتستقر، وتتوطد له أسباب الحكم، ثم ينظر ما يكون1. والراجح أن عليًا أدرك ذلك، إلا أن موقف الثائرين في المدينة، والجو العام في الأمصار المشحون بالنقمة؛ كان ضاغطًا، بالإضافة إلى ذلك فإن مبدأ التغيير كان يعني الشمولية وعدم التجزئة2، كما كان شديدًا في الحق لا يستطيع أن "يراهن في دينه"3، ولم يكن بوسعة أن يلجأ إلى مهادنة ولاة عثمان، والمعروف أن خلع عمال عثمان كان أحد مطالب الثائرين، والمعارضين من القبائل في الكوفة، والبصرة ومصر، لهذا كانه إبعاد عمال عثمان عن الوظائف العامة مسألة مبدئية تصعب المساومة عليها، فالقضية لم تكن أساسًا قضية أشخاص، بل قضية مبدأ ونهج وتصور، بالإضافة إلى أنه كان لا يثق بهم، ولا يمكنه التعامل معهم بفعل اختلاف وجهات النظر بشأن ممارسة الخلافة4. ومن خلال هذه الرؤية السياسية التي جاءت متسرعة، وهذا الموقف المتصلب، صدر الأمر بعزل ولاة عثمان، واستبدالهم بفئة جديدة غير متورطة في السياسة، وليست لأسمائها شهرة كبيرة خارج المدينة، فبعث قثم بن العباس واليًا على مكة، وعثمان بن حنيف واليًا على البصرة، وعمارة بن شهاب واليًا على الكوفة، وعبيد الله بن العباس واليًا على اليمن، وقيسًا بن سعد واليًا على مصر، وسهلًا بن حنيف واليًا على الشام5. إن نظرة متأنية إلى أسماء هؤلاء الولاة، تطلعنا أنهم بأكثريتهم ينتمون إلى مجموعة الصحابة التي اتصفت بدرجة عالية من الزهد والتقشف، ولم ترتكز على جاه، أو شرف أو نسب أو مال؛ بمعنى أنهم ينتمون إلى الشريحة الاجتماعية المغايرة للشريحة "الأرستقراطية" الغنية. والتف حول علي كبار أعلام بني طالب وبني هاشم، مثل عبد الله بن عباس ومحمد بن جعفر، ومحمد بن الحنفية، بالإضافة إلى شخصيات صحابية كبرى مثل محمد بن أبي بكر، وسليمان بن صرد الخزاعي، وأبي قتادة بن ربعي وأبي أيوب الأنصاري، وعمار بن ياسر وغيرهم. ظهور المعارضة السياسية: لم يصادف الولاة الجدد عقبات تذكر، باستثناء ما كان منتظرًا من معاوية والي

_ 1 الطبري: ج4 ص438، 440، 441. 2 بيضون: ص121. 3 الطبري: ج4 ص440، 441. 4 إبراهيم: ص266. 5 الطبري: ج4 ص442.

الشام الذي كان يعمل بنزعة لا مركزية، ويجتهد ألا تفوته الفرصة لتحقيق منطق الاستمرارية للأسرة الأموية، وتمكن بحسن سياسته، وإغداق المال على أهل الشام، من استقطابهم، فالتفوا من حوله، وشكلوا قوة يناصرونه، ويأتمرون بأمره، والواضح أنه كان لولاية الشام مركز متفرد؛ لأن معظم العرب الذين كانوا يقطنونها لم يذهبوا إليها مهاجرين مثل باقي الأمصار، كما أنهم تأثروا بالحكم اليوناني، والروماني قبل الإسلام بوصفهم تابعين لدولة الغساسنة، ولذلك اعتادوا على النظام وطاعة الحاكم، والمعروف أن معاوية كان واليًا على هذه المنطقة منذ عهد عمر بن الخطاب، واستمر في عهد عثمان بن عفان، فارتبط مع أهل الشام برباط قوي من الولاء المتبادل، ونتيجة لذلك، لم يتمكن سهل بن حنيف من دخول الشام، واستلام منصبه كوال عينه علي، وهو مؤشر إلى فتح الصراع مع هذا الأخير تحت غطاء الدعوة إلى الاقتصاص من قتلة عثمان. كان علي يدرك خطورة ولاء أهل الشام لمعاوية، حيث القبائل الموحدة، والجيش القوي الذي تم إعداده، والإدارة التي قطعت شوطًا في التنظيم، أي أن الشام اجتمعت فيها كل عناصر الدولة الفتية، فيما الخلافة قد انهارت دولتها، وكان عليها أن تعيد بناءها من جديد1، فدعا طلحة والزبير، وقال لهما: "إن الذي كنت أحذركم قد وقع يا قوم، وإن الأمر الذي وقع لا يدرك إلا بإمامته، وإنها فتنة كالنار، كلما شعرت ازدادت واستنارت"2. تجاه هذا التطور السلبي لوالي الشام، أرسل علي كتابًا إلى معاوية دعاه فيه إلى الدخول في طاعته، وعدم تفريق كلمة المسلمين، لكن الأخير لم يجبه حتى انقضت ثلاثة أشهر، فأرسل إليه رسالة بيضاء في شهر "صفر 36هـ/ آب 656م" مع رجل من أنصاره ينتمي إلى عبس، مختومة ومكتوب عليها "من معاوية إلى علي"، وأوصاه بإبراز الرسالة عند دخوله إلى المدينة حتى يراه الناس. فلما وصل إليها، في غرة ربيع الأول، رفع الرسالة فرآها أهل المدينة، فعلموا أنه رفض البيعة، وتوقعوا حدوث أمر ما، ولما فتح علي الرسالة لم يجد فيها سوى البسملة، فطلب من الرجل أن يتكلم، فأخبره بأن خمسين ألف رجل يبكون تحت قميص عثمان، وهو معلق فوق منبر جامع دمشق، ويطالبون بدمه، وقد عاهدوا الله ألا يغمدوا سيوفهم، ولا يغمضوا جفونهم حتى يقتلوا قتلة عثمان، وحمل عليًا مسئولية هذا الدم، فقال علي عندئذ: "اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان"، ثم صرف مبعوث معاوية3.

_ 1 بيضون: الإمام علي ص57، 58. 2 الطبري: ج4 ص443. 3 المصدر نفسه: ص444.

وفي المقابل، نجح علي في الحصول على تأييد الأغلبية في الأمصار، فالبصريون كانو منقسمين حول الموقف الواجب اتخاذه من مقتل عثمان، لكنهم قبلوا الوالي الجديد الذي أرسله علي، في حين رفض الكوفيون استقبال الوالي الجديد، وتمسكوا بواليهم الخاص أبي موسى الأشعري، إلا أنهم بايعوا عليًا، وانقسم المصريون على أنفسهم، فقبلت الأغلبية استقبال والي علي، لكن تكونت نواة من المتربصين من ذوي النزعة العثمانية المطالبين بالثأر لدم عثمان، لكنهم لم يتحركوا مفضلين موقف الاعتزال1. وهكذا ساد القلق والاستياء كافة الأمصار من واقع الاستنكار لمقتل عثمان، لكن المسلمين حاولوا الحفاظ على وحدتهم من خلال الوقوف الحذر وراء الخليفة2. بيد أن موقف معاوية الرافض، على خطورته، لم يكن الشاغل الوحيد للخليفة، إذ نمت في أوساط بعض الصحابة أن عليًا يتهاون في معاقبة قتلة عثمان، فئقد ذهب كل من طلحة، والزبير مع نفر من أهل المدينة، إلى علي، بعد أربعة أشهر من مقتل عثمان، وطلبوا منه إقامة الحد على قتلته3، لكن هذه القضية لم تكن من أولويات علي الذي كان يعمل على تهدئة الجو، واستقرار الأوضاع، وتثبيت أقدامه في الحكم، أولًا، بحجة أنه لا يسيطر على الوضع العام، وأن الأمور لا تزال بأيدي الثائرين والغوغاء، وعبيد أهل المدينة وأعرابها، وخاطبهم قائلًا: "إني لست أجهل ما تعلمون، ولكني كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم"4. ويبدو أنهما لم يقتنعا بوجهة نظره، إذ إن تطبيق مبادئ الإسلام، وحدود هي من الأولويات، فاستأذناه في الخروج إلى مكة لأداء العمرة، فأذن لهما، على الرغم من وعيه لمدى ما يمكن أن يشكلاه من خطر على شرعيته5، ثم اتخذا من الأسلوب الذي تمت فيه التغييرات الأخيرة ذريعة للاحتجاج والمعارضة، فقد طلبا من الخليفة أن يشركهما في هذا الأمر، فقد كانت لطلحة رغبة في ولاية البصرة، وكانت للزبير رغبة في ولاية الكوفة، إلا أنه رفض ذلك، وقال لهما: "تكونان عندي فأتحمل بكما، فإني وحش لفراقكما"6، لكن معارضتهما بقيت ضمن الإطار الاحتجاجي، ولم تأخذ طابع العمل الفعلي إلا بعد اجتماعهما بعائشة في مكة.

_ 1 الطبري: ج4: ص442. جعيط: ص144. كاشف: ص122. 2 جعيط: المرجع نفسه. 3 الطبري: ج4 ص452. 4 المصدر نفسه: ص437. 5 المصدر نفسه: ص444، 445. 6 المصدر نفسه: ص429. ووحش معناها متألم.

وسارعت عائشة إلى تحديد موقفها من الخليفة، فقد كانت في مكة عندما قتل عثمان، وانتخب علي، وبعد انتهاء موسم الحج غادرت مكة في طريقها إلى المدينة، وتلقت أخبار ما جرى فيها من الأمويين الذين هربوا إلى مكة، فقفلت راجعة إليها، وفصلت البقاء فيها، وأطلقت منها دعوة للتنديد بعملية القتل. والواضح أنها تأثرت بالدعاية الأموية التي كانت ناشطة آنذاك، وكونت رأيًا أحادي الجانب، وساندها والي مكة المعين من قبل عثمان، والذي كان لا يزال في منصبه، وهو عبد الله بن عامر الحضرمي1، والمعروف أن المكيين لم يبايعوا عليًا، متأثرين بنفوذ عائة، وبالتالي بقيت مكة خارج إطار سلطة الخليفة. وتذرعت عائشة بأن المدينة واقعة تحت سلطة غوغاء الأمصار وبدو نهابين، وعبيد آبقين، وأنهم هم الذين ارتكبوا جريمة القتل بعد أن حصلوا من عثمان على وعد بالتراجع عن سياسته السابقة، وبالتالي لا شيء يبرر عملهم العدواني، "فسفكوا الدم الحرام، واستحلوا البلد الحارم، وأخذوا المال الحرام، واستحلوا الشهر الحرام"2، وأن الأمر لا يستقيم، ولهذه الغوغاء أمر "فاطلبوا بدم عثمان تعزوا الإسلام"3، ومن المثير أن يكون هذا النداء من جانب عائشة على الثأر لعثمان في وقت كانت بعيدة عن المدينة حين حوصر، وقتل ومن دون أن تكون من قبل علي وفاق معه4. وهكذا أبرزت عائشة فكرة أن عثمان قتل مظلومًا، والتي ستكون أساس كل المطالب لصالح قضيته سواء من جانبها، أو من جانب معاوية في وقت لاحق، أو من طرف أنصار عثمان في مصر، والواضح أنها ركيزة إسلامية شرعية أن تطالب بالقصاص لدم عثمان وفقًا لشرع الله، وهي تتوافق في هذا المقام مع موقف طلحة والزبير، إنه تعبير صادق عن طلب الحق، والعدل فيما لا يمكن التسامح به، ولا يمكن قبوله، وهو نداء إيلامي في المقام الأول، وسياسي في المقام الثاني؛ لأنه يتضمن إنكار شرعية علي التي قامت وسط هذا الجو الضاغط، ولكن هذه القضية لم تطرح صراحة، ولم يقدم توجه عائشة نفسه كمؤامرة، ولا كثورة على علي، إنما وبوصفها أما المؤمنين، فهي تمنح نفسها مسئولية تجاه أبنائها الذين يشكلون جمهور المسلمين5. وإذا كان لنا أن نحدد دور الدوافع الشخصية مثل إرادة القوة، والرغبة في التقدم

_ 1 الطبري: ج4 ص448، 449، 458، 459. 2 المصدر نفسه: ص449. 3 المصدر نفسه: ص448، 449. 4 المصدر نفسه: ص459. 5 جعيط: ص146.

إلى المقام الأول، وكراهية على المتصلة بأحداث الماضي، فقد أدت دورًا ثانويًا1، مما دفع بعض المؤرخين إلى القول بأن آثار حديث الإفك تلقي بظلالها على هذا الموقف2. والواقع أن حركة المعارضة لم تأخذ طابع العمل الجدي إلا بمجيء طلحة، والزبير إلى مكة حيث حرضا عائشة على النهوض لمحاربة الغوغاء، وأعلماها بأن عثمان قتل مظلومًا، وأن أكثر الناس لم يرض عن بيعة علي3، فاستجابت لهذا النداء دون أن تقف مجددًا على وجهة نظر الطرف الآخر، وهو علي، وشكلت معهما تحالفًا متينًا لا يقبل الانفكاك تحت شعار رفع الظلم الذي أحاق بالخليفة عثمان، ومعاقبة قتلته، وهو مطلب عامة المسلمين، ومن واقع أنها تملك سلطة تحكيمية، ووزنًا معنويصا كبيرًا، ستكون الناطقة باسم قوى التحالف، ومحور العمل، وسيقتصر دور طلحة، والزبير على قيادة الرجال وتنظيم القتال، وكان كافيًا أن يظهر هذا التحالف في مكان ما أمام المسلمين لكن يهزوا مشاعرهم، ويستقطبوهم، وأن يشكلوا قوة ضاربة4. وسرعان ما استقطبت دعوة عائشة كل الذين كانوا يعارضون مقتل عثمان، أو يحاولون إسقاط علي، وبخاصة أفراد الأسرة الأموية، مثل عبد الله بن عامر الحضرمي والي مكة، ويعلى بن منبه والى اليمن السابق، والوليد بن عقبة ومروان بن الحكم، وسائر بني أمية، وقد أدوا دورًا تحريضيًا، وهو أول ما تكلمت به بنو أمية في الحجاز، ورفعوا أصواتهم4، ومولوا عائشة، وربما استغلوها لصالح قضيتهم دون وعي منها. وهكذا فإن التحرك الذي حرضت عليه عائشة، واتخذ واجهته طلحة والزبير، فيما التمويل والتعبئة، تولى أمرهما بنو أمية5؛ تحول من مطلب عام، وهو المطالبة بدم عثمان، إلى مطلب خاص لصالح الأمويين. وبدا واضحًا أن ملامح انتفاضة قرشية بدأت تتكون ضد علي في محاولة لإسقاطه، على أن هذه المواجهة، دخل فيها أيضًا صراع المصالح، إذ وجد الأنصار

_ 1 جعيط: ص146. 2 حسين، طه: الأعمال الكاملة ص855. قلهوزن: ص47. الأناطي، سعيد: عائشة ص61، 62، 68-218. 3 جعيط: ص147. 4 الطبري: ج4 ص449، 450. 5 قدم يعلى بن منبه خراج صنعاء البالغ ستمائة بعير، أو أربعمائة ألف دينار، وقد جمعه معه بعد إقالته، ودفع عبد الله بن عامر الحضرمي مالًا كثيرًا وإبلًا، انظر الطبري: ج4 ص452، اليعقوبي: ج2 ص78، 79.

في علي الأقرب إلى تحقيق طموحهم في هذا السبيل، لا سيما المشاركة الفعلية في السلطة التي حرموا منها في العهود السابقة، فيما كانت قريش تنتقض لاستعادة موقعها المميز الذي بدأ يتكرس منذ خلافة عثمان1، والمعروف أن عليًا عين رجالًا من الأنصار في بعض مراكز الولاة الأساسية في البصرة، والمدينة ومصر. والواقع أن قريشًا، وعلى رأسها بنو أمية، التي أوصلت سابقًا عثمان للخلافة، شكلت القوة السياسية الفاعلة، وكان الجفاء واضحًا بينها وبين علي منذ وفاة عمر بن الخطاب، وقد حصرت على ألا يتسلم الخلافة بعد مقتل عثمان، لتوافق منهجه مع نهج عمر، إنها رؤية التاجر القرشي، فمصالح قريش كان قد عبر عنها بصورة أمثل في نهج عثمان لترتيب أوضاع المسلمين، وليس في نظام عمر أو علي، كان علي يدرك ذلك، لهذا كان يتوقع دائمًا معارضة قريش له في كل موقف يقفه، وفي كل قرار يتخذه، ويرى أن قريشًا تظلمه؛ لأنها تنكر فضله ومنزلته في تاريخ الإسلام2، والواضح أن في ذلك عود للصراع القديم بين بني هاشم، وبني أمية. تقدم لنا روايات المصادر ما يكفي من المعلومات التي توضح هذه الرؤية الهامة في ترتيب القوى، وتوازنها داخل المجتمع الإسلامي في نهاية مرحلة صدر الإسلام، ففي الكتاب الذي أرسله إلى أخيه عقيل بن أبي طالب ردًا على رسالته التي أخبره فيها بخروج عائشة، وطلحة، والزبير قال له: "فإن قريشًا قد اجتمعت على حرب أخيك اجتماعها على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل اليوم، وجهلوا حقي، وجحدوا فضلي، ونصبوا لي الحرب، وجدوا في إطفاء نور الله، اللهم فاجز قريشًا عني بفعالها، فقد قطعت رحمي، وظاهرت علي، وسلبتني سلطان ابن عمي، وسلمت ذلك لمن لي في قرابتي، وحقي في الإسلام، وسابقتي التي لا يدعي مثلها مدع، إلا أن يدعي ما لا أعرف"3. وخطب علي في أنصاره في ذي قار، عندما خرج لقتال أهل البصرة في موقعة الجمل، خطبة طويلة ذكر فيها، "ما لي ولقريش، والله لقد قاتلتهم كافرين، ولأقاتلنهم مفتونين، وإني لصاحبهم بالأمس كما أنا صاحبهم اليوم، والله ما تزحم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم، فأدخلناهم في حيزنا"4.

_ 1المسعودي: ج4 ص307. بيضون: افمام علي ص59. 2 إبراهيم: ص283. 3 ابن قتيبة: ج1 ص50، 51. 4 ابن أبو الحديد: نهج البلاغة ج1 ص81.

المواجهة المسلحة الأولى بين المسلمين

المواجهة المسلحة الأولى بين المسلمين: سيطرة قوى التحالف على البصرة: كان وضع المتحالفين في مكة مضطربًا، إذا لم يكن ملائمًا لحركة تحتاج إلى عناصر للصمود يمكن أن توفرها هذه المدينة؛ لأن الفتوح أفرغتها من العناصر البشرية التي استقرت في الأمصار، واحتاجوا إلى دعم أقوى لم يتوفر لهم في الحجاز، فقرروا البحث عن مكان أكثر ملاءمة، وأكثر بعدًا عن نفوذ الخليفة الذي لن يجد صعوبة في القضاء على حركتهم في هذا المكان1، وجرى نقاش حاد حول اختيار المكان الذي سيذهبون إليه، ويدل ذلك على أن المتحالفين لم يملكوا الرؤية السياسية الواضحة، وبدا عليهم الارتباك بشأن الخطوة التالية، مما أتاخ للناشطين من الأمويين توجيههم وفق مصالحهم. لقد اقترحت عائشة المسير إلى المدينة لقتال الغوغاء، فعارض أنصارها ذلك لعدم مقدرتهم على مواجهتهم بفعل الفارق العددي بين الفريقين، "فإن من معنا لا يقرنون لتلك الغوغاء التي بها"2، واقترحوا عليها الذهاب إلى بلاد الشام بهدف طلب المساعدة من أهلها، فرفضت اقتراحهم قائلة: "فقد كفاكم أهل الشام ما عندهم، لعل الله عز وجل يدرك لعثمان، وللمسلمين بثأرهم"3. وتدخل عبد الله بن عامر الحضري، فقال: "قد كفاكم الشام من يستمر في حوزته"4، وهذه إشارة إلى نجاح معاوية في إدارة بلاد الشام، وأنهم لن ينالوا ما يريدون، وهو أولى منهم بما يحاولون؛ لأنه ابن عم عثمان، وهو غيور على سلطته بحيث لا يمكنه التساهل بأي تدخل، واقترح طلحة، والزبير الذهاب إلى الكوفة، "فنسد على هؤلاء القوم المذاهب"5، إذ لطلحة فيها شيعة، وتدخل عبد الله بن عامر الحضرمي مجددًا، وأقنعهما بالمسير إلى البصرة إذ للزبير فيها من يهواه ويميل إليه، وأنها تحتفظ بود معين تجاه عثمان على الرغم من مبايعة البصريين عليًا، وأنه يحتفظ فيها بعلاقات وصنائع6، والواضح أن الأمويين أرادوا إبعاد قوى التحالف عن بلاد الشام لتجنيبها معركة كانت آتية، وطلب طلحة، والزبير من عائشة أن تشخص معهما إلى البصرة لإقناع البصريين بالانضمام إلى حركتهما "اشخصي معنا إلى البصرة، فإنا نأتي بلدًا

_ 1 الطبري: ج4 ص452. بيضون: ص60. 2 المصدر نفسه: ص450. 3 المصدر نفسه. 4 المصدر نفسه. 5 المصدر نفسه. 6 المصدر نفسه.

مضيعًا سيحتجون علينا فيه ببيعة علي بن أبي طالب، فتنهضينهم كما أنهضت أهل مكة، ثم تقعدين، فإن أصلح الله الأمر، كان الذي تريدين وإلا احتسبنا، ودفعنا عن هذا الأمر بجهدنا حتى يقضي الله ما أراد"1، وهكذا استقر الأمر على الذهاب إلى البصرة لحث أهلها على مساعدة قوى التحالف في معاقبة قتلة عثمان، والمعروف أن بعض من اشترك في قتل عثمان تفرقوا في الأمصار بعد مبايعة علي. لم تستطع قوى التحالف حشد قوة كبيرة في الحجاز، فقد اقتصر المنضمون إليهم على سبعمائة رجل من أهل المدينة ومكة، لكن انضم إليهم بعض المؤيدين حتى بلغوا ثلاثة آلاف1، ففاجأوا حذر علي، وسبقوه إلى العراق الذي اختاروه أرضصا للمواجهة، وعسكروا في المريد وهو ساحة البصرة الخارجية، حيث جرت محاورات طويلة كان على قادة التحالف تبرير تحركهم، من خلالها، فتكلم طلحة أولًا، فاسترجع موضوع العدوان على عثمان، وعلى البلد الحرام، وضخم فضيحة الإثم وطالب بدم عثمان؛ لأنه حد من حدود الله، إذ في ذلك إعزاز لدينه، وسلطانه، ولن يتم إصلاح هذه الأمة إلا بتنفيذ ذلك. فالواضح إذن أن المرجعية إسلامية؛ لأن الله أمر بقتل كل قاتل، وهذا واجب قرآني مفروض على كل مسلم، وهو أيضًا واجب سياسي؛ لأن المسلمين سيستعيدون، من خلال القصاص، وحدتهم وتماسكهم وقوتهم، وتكلم الزبير بمثل ذلك2، وكانت مسألة السلطة العليا مغيبة، فلم يعلنا خلع علي كما لم يعلنا نفسيهما خليفتين، واكتفيا بدورهما كمنصفين يهدفان إلى إصلاح الأمة، وتكلمت عائشة كذلك، فاسترجعت الموضوعات السابقة، وطلبت منهم المساعدة لمعاقبة قتلة عثمان حسب الشرع3. ويبدو أن المجابهة الكلامية كانت لغير مصلحة الوالي، إذ انسحب قسم من المقاتلة الذين كانا معه، وانضموا إلى قوات التحالف، والواقع أن المجتمع البصري كان منقسمًا آنذاك إلى قسمين: الأول: التزم القتال مع علي، وساند الوالي عثمان بن حنيف، وعلى رأسه حكيم بن جبلة من بني عبد القيس4. الثاني: تعاطف مع المتحالفين، وانضم إلى صفوفهم5.

_ 1 الطبري: ج4: 452. 2 المصدر نفسه: ص463، 464. جعيط: ص150. 3 المصدر نفسه: ص464. 4 المصدر نفسه: ص466، 470، 474، 475. 5 المصدر نفسه: ص464، 465.

لقد قرر الوالي عثمان بن حنيف التمسك بولاته لعلي، فجيش الناس وعبأهم حوله، وحاول منع دخول قوى التحالف إلى البصرة بقوة السلاح، لكن موقفه كان ضعيفًا بفعل انقسام المجتمع البصري حول نفسه، كما أن المحاورات التي دارت في المربد كانت تنتشر من خلال الاهتياج، والاضطراب والتعبئة الشعبية1، وتحولت المجابهة الكلامية إلى مواجهة عسكرية مسلحة حيث جرت اشتباكات في دار الرزق، إحدى ساحات البصرة، وقع فيها قتلى وجرحى2، ثم أعلنت هدنة، ووجدت صيغة وفاق تتعلق بإرسال رسول الله إلى المدينة للتحقق مما إذا كان طلحة، والزبير قد بايعا عليًا كما يزعمان بالإكراه والقوة، فإذا كان الأمر صحيحًا فما على الوالي إلا أن يخلي لهما الساحة، وإذا لم يكن صحيحًا، فما عليهما إلا الرحيل3. وهكذا نقلت القضية، بشكل مفاجئ، إلى مجال آخر، مجال السلطة الشرعية ووجوب طاعتها، لكن عليًا كان قدر غادر المدينة قبل أن يصل الرسول إليها. كان في ذي قار بين الكوفة، والبصرة ساعيًا إلى استقطاب مقاتلة الكوفة إلى جانبه، ولتكوين جيش لنفسه، فوبخ عامله في رسالة بعثها إليه؛ لأنه انساق إلى هذه المكيدة، ودافع الوالي عن تصرفه بأنه يريد كسب الوقت منتظرًا قدومه شخصيًا للدفاع عن سلطته، وعن وحدة المسلمين، وأنه تأخر في القدوم، ولم يكن لديه القوة الكافية لطرد المتحالفين من البصرة، ومع ذلك، فقد جرى اقتحام البصرة، وقتل الكثير من المسلمين، وهنا نجتد توسيعًا رهيبًا لمفهوم القتلة بحيث شمل كل الذين اقتحموا المدينة4، وسوف تؤدي هذه الأحداث إلى التصلب في المواقف، وإلى الحرب الأهلية، مما جعل قبائل برمتها تنفر من قضية كانت تبدو مبررة في البداية، فقد رفضت قبيلة بني سعد بن تميم، وهي عثمانية في الأصل، تسليم أحد أبنائها، وهو حرقوص بن زهير، أحد المشتركين في اقتحام المدينة ومقتل عثمان، وبتأثير من رئيسهم الأحنف بن قيس قرروا الانسحاب من المعركة، ووقفوا على الحياد في النزاع الذي كانت تلوح تباشيره، وغضبت عبد القيس التي لم تنكث بيعتها لعلي بعدما فقدت الكثير من أبنائها، وخرجت من البصرة مع كثير من البكريين لكي تنضوي تحت لواء علي5، فكانوا ستة آلاف رجل جاهزين للحرب. والواقع أن هذه الدعوة الإصلاحية المرتبطة بمقتل عثمان ما كان لها أن تخترق

_ 1 جعيط: ص150. 2 الطبري: ج4 ص466. 3 المصدر نفسه: ص466، 467. 4 جعيط: ص151. 5 الطبري: ج4 ص472، 489.

المجتمع البصري بهذه السهولة، حيث الفرز قام على أساس قبلي في توزيع القوى التي راعت مصالحها الخاصة قبل الانخراط في هذا الاتجاه أو ذاك، ومن هذه الرؤية فإن السيطرة على البصرة لم يكن بالأمر اليسير على المتحالفين. وأثبتت عائشة مقدرة التفوق حيث وضعت حدًا للجدل، ونجحت في شق صفوف الكتلة المؤيدة للوالي الذي أظهر ضعفًا عليه لومًا شديدًا من الخليفة1. وتسارعت الأحداث، وأفلت زمام الأمور من يد الوالي، وتدخلت أطراف ليس لها شأن في الصراع حيث شهر الزط2، والسيابجة3 السلاح في وجوه المتحالفين، وانتهى الأمر بسيطرة المتحالفين على البصرة، وقبض على عثمان بن حنيف، وزج في السجن قبل أن يطلق سراحه بعد تدخل عائشة، وطورد الأشخاص الذين اشتركوا في غزو المدينة وقتل عثمان، وكانت الوقعة في "24 ربيع الآخر 36هـ/ 20 تشرين الأول 656م"4. لم تكن السيطرة على البصرة نهاية المطاف بالنسبة لقوى التحالف، إذ لم يكن الهدف الأساسي الاستيلاء على مصر، بل تطبيق أحكام الدين نحو الشريف والوضيع، كما أنهم أرسلوا رسلًا إلى أهل الشام وأهل الكوفة، وأهل اليمامة وأهل المدينة يحثونهم على الإسراع في تطبيق حدود الله على القتلة، وعلى عدم مساعدة أولئك الذين يحمونهم، ويدافعون عنهم5، أي عدم مساعدة علي، وهذا خروج واضح على السلطة الشرعية، وقدموا أنفسهم كحماة للدين، وكمنفذين لأحكامه متجاوزين اختصاصات الخليفة، وبالتالي فإنهم كانوا أصحاب قضية سياسية مغلقة بإطار ديني، تستهدف الأمة كلها، قد تؤدي لو نجحت إلى اعتلاء السلطة العليا، لكنهم ظلوا محصورين ضمن نطاق البصرة التي لم يساندهم كل أهلها، حتى أن معظم الذين ساروا وراءهم واتبعوهم، بايعوهم فقط على المهمة المحددة التي كانوا قد أخذوها على عاتقهم. سيطرة علي على الكوفة: قرر علي مغادرة المدينة بصورة نهائية ممهدًا لذلك باتصالات مكثفة مع قبائل الكوفة6، لتكون الأخيرة مقرًا له، فهي في نظره مستقر أعلام، ورجال العرب7،

_ 1 بيضون: ص64. 2 الزط: اسم قوم، هم الغجر، هاجروا من الهند إلى فارس، ومنها انتشروا في آسيا وانتقلوا إلى أوروبا. 3 السيابجة: اسم قوم، انتشروا على سوالح الخليج العربي قبل ظهور الإسلام، وكثيرًا ما يذكرون مع الزط. 4 الطبري: ج4 ص474. 5 المصدر نفسه: ص472، 473. 6 تاريخ خليفة بن خياط: ص108. 7 الطبري: ج4 ص459.

وقد اتخذ هذا القرار من واقع استحالة البقاء في الحجاز الذي أفرغته الفتوح من طاقاته البشرية والاقتصادية، وانتقال محاور الصراع الأساسية إلى مناطق الأطراف البعيدة عنه، فخرج من المدينة في الأيام الأخيرة من شهر ربيع الآخر عام 36هـ، وخرج معه وجوه المهاجرين، والأنصار بالإضافة إلى بقايا البصريين، والكوفيين في المدينة، أي من قتلة عثمان، أما المصريون فقد عادوا إلى مصرهم، وكلما توغلنا في الزمان نلاحظ إلحاقًا متزايدًا على العدد الكبير من الصحابة الخارجين معه، أو المنضمين إليه لاحقًا للاشتراك في معركة الجمل، ثمانمائة من الأنصار وأربعمائة ممن شهد بيعة الرضوان1، نظرًا لما يكسبه تأييدهم من ضمانه معنوية كبيرة في مواجهة عداوة، أو ابتعاد أكثرية المهاجرين، والتباس القراء، وكراهية القرشيين المتحالفين مع الأمويين، والنفوذ الكبير لعائشة، وسيشكل خروجه نقطة تحول فاصلة في تاريخ صدر الإسلام، والدولة الإسلامية؛ لأنه يتضمن الخروج النهائي لمؤسسة الخلافة من الجزيرة العربية2. يمم علي وجهه شطر العراق وعسكر حول مكة، ثم حط رحاله في الربذة حيث بلغته تفاصيل ما جرى في البصرة، كما استقبل فيها عاملة مغلوبًا مطرودًا، فأبدى ارتياحه بأن خصومه لم يقصدوا الكوفة3، ويبدو أنه لم يكن على علم بتطورات الموقف فيها، ثم توجه إلى ذي قار بين الكوفة، والبصرة فيما وراء الفرات، واتخذها قاعدة لتجمع قواته، واستنفار الكوفيين، وأرسل رسلًا إلى الكوفة من أجل ذلك، وكتب إليهم يقول: " ... فإني اخترتكم والنزول بين أظهركم لما أعرف من مودتكم، وحبكم لله عز وجل ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن جاءني ونصرني فقد أجاب الحق، وقضى الذي عليه"، "إني أخترتكم على الأمصار، وفزعت إليكم لما حدث، فكونوا للدين أعوانًا وأنصارًا، وأيدونا وانهضوا إلينا، فالإصلاح ما نريد، لتعود الأمة إخوانًا، ومن أحب ذلك وآثره فقد أحب الحق وآثره، ومن أبغض ذلك فقد أبغض الحق وغمصه"4. كان رجل الكوفة المهم آنذاك واليها أبا موسى الأشعري، ويتمتع بنفوذ كبير فيها؛ لأن الكوفيين قد اختاروه ليحل محل الوالي الأموي، وفرضوه على هذا النحو على عثمان، واجتهد كثيرًا لتهدئة غليان الكوفة، وهكذا طرح نفسه كوسيط، وكرجل الإجماع، وتبنته الكوفة واعترفت به أميرًا عليها، وربما اكتسبت ذلك النفوذ من واقع

_ 1 تاريخ خليفة بن خياط: ص108. 2 جعيط: ص153. 3 الطبري: ج4 ص479، 480. 4 المصدر نفسه: ص477، وغمصه: تهون به.

سيرته، فقد كان المرشد الكبير الهادي إلى القرآن، وشكل ثنائيًا مع ابن مسعود. وعندما انتخب علي خليفة في خلعه كما أشرنا، لكنه لم يستطع، غير أن أبا موسى اضطر تحت ضغط قوي شديدة أن يبايع عليًا وراءه كل المدينة، إنه تناقض المجتمع الكوفة المتمسك بأميره، والمحتوي في آن علي قوى مؤيدة لعلي، وهو تناقض مقبل على الانفجار1. تحفظ أبو موسى الأشعري تجاه دعوة علي، وتبعه الكوفيون، مما اضطر عليًا إلى إرسال الرسل إليه بشكل متواصل، طالبًا منه تجهيز الرجال، لكنه كان يبدي معارضة مطلقة، ويواجه طلبه برفض قاطع ضاغطًا بكل ثقله لكي يثني الكوفيين عن الوقوع في ما كان يعده بمثابة فتنة "صماء عمياء"2، وقد مثل عقبة كأداء ومشكلة حقيقية بالنسبة لعلي الذي كان عليه تذليلها. لقد طلب أبو موسى الأشعري من الكوفيين أن يغمدوا سيوفهم، ويقبعوا في بيوتهم إلى أن تتجدد الوحدة وتزول الفتنة، كان يريد تجنيب أهل الكوفة هذا الشر الذي هو الحرب الأهلية بين المسلمين، وزرع بذور السلام3. نجح أبو موسى الأشعري أن يدخل في ضمائر الكوفيين أفكاره السلمية، بحيث لم يتمكن علي من تجنيد أكثر من تسعة آلاف مقاتل من أصل أربعين ألفًا، وتجنب زعماء القبائل الاشتراك في الحرب الأهلية، مثل الأشعث بن قيس، وجرير بن عبد الله البجلي، كذلك فإن الذين كانوا متواجدين في الكوفة لن يشتركوا فيها أيضًا، مثل سعد بن قيس زعيم همدان، وشبث بن ربعي أحد رؤساء تميم، وساند بعضهم عليًا مثل عدي بن حاتم، ومخنف بن سليم. تمكن علي، على الرغم من الانقسام الداخلي في الكوفة، من السيطرة على المدينة، وجرى تجاوز أبي موسى الأشعري بعد أن أرسل ابنه الحسن، فعزله وطرده من الكوفة، وكون لنفسه جيشًا بلغ تعداده عشرين ألفًا4، استند بشكل أساسي على عناصر كوفية، فهل ربط علي مصيره بالكوفيين عرضا أم بحكم الواقع؟ توحي روايات المصادر بنوع من اللامبالاة في علاقات علي بالكوفيين، وبخاصة أن هواهم كان من ابن الزبير، وأنهم تمسكوا بواليهم أبي موسى الأشعري، وعندما علم علي بذهاب خصومه إلى البصرة أعلن تفضيله الكوفة، وهذا يدل على أن الأمصار لم

_ 1 جعيط: ص159. 2 الطبري: ج4 ص481-484. 3 المصدر نفسه. 4 المصدر نفسه: ص505.

يكن لها مرشح محدد مسبقًا، كما لم يكن لها رأي واضح ومحدد1، وكمن سر نجاحه في موقعه الشرعي كخليفة وإمام، كما كان له في الكوفة أنصار نشطون، وأتباع أكثر رصانة انضموا إليه عن رجاحة عقل، وبوصفه أقل ضررًا2، والتفت حوله الجماعة الأولى من القراء السابقين الذين تضخم عددهم، والذين لم يتغير رؤساؤهم، الأشتر النخعي، وزيد بن صوحان وعدي بن حاتم، ويزيد بن قيس، والمسيب بن نجبة، وقد اشتركوا في غزو المدينة وحسبوا في عداد قاتلي عثمان، وبالتالي، كان يلاحقهم العقاب الانتقامي من جانب أولئك الذين كانوا يطالبون بالقصاص لدم عثمان، وفي طليعتهم عائشة وطلحة والزبير، إنهم سياسيون ربطوا مصيرهم بمصيره3.

_ 1 جعيط: ص159. 2 الطبري: ج4 ص488. 3 جعيط: ص162.

وقعة الجمل

وقعة الجمل: مرحلة المفاوضات: بذل الطرفان جهودًا حثيثة لتجنب الصدام، مع أنهما كانا قد استعدا لمواجهة عسكرية محتملة، والواقع أن جهود السلم والحرب سارت بخطين متوازيين، مع أن أيا من الطرفين لم يتحدث عن الحرب، بل عن الإصلاح على الرغم من اختلاف وجهات النظر بشأن الأسلوب الذي يؤدي إلى ذلك، فمن وجهة نظر علي، يقتصر الإصلاح، على إعادة الأمور إلى نصابها، وإعادة بناء وحدة المسلمين، والتوقف عن تلك المطاردة، والاعتراف بشرعية خلافته، وقد لا يتردد عن ضرب خصومه إذا اعتقد أنهم على ضلالة، في حين كان الإصلاح في نظر عائشة، وحليفيها يمر من خلال تنفيذ العقاب بقتلة عثمان إحياء لشرع الله، ويبدو أنه لم يكن من الوارد أن توافق عائشة على بيعة علي، ولا أن يوافق علي على تسليم القتلة الموجودين في جيشه، وهكذا فإن الطريقة التي طرحت فيها قضية الخلاف كانت عائقًا دون الوصول إلى سلام بين الجانبين، ومع ذلك فقد جرت مفاوضات بينهما بواسطة القعقاع بن عمرو التميمي الذي أرسله علي بمهمة سلمية إلى البصرة1، وقد أبدى كل من طلحة، والزبير ليونة إزاء مهمة القعقاع، والواقع أن جوًا من الترقب والحذر، وأن خشية أمام أول مواجهة عسكرية بين الإخوة، كانا سائدين، إذ لم يكن أي من الجانبين مسرورًا

_ 1 الطبري: ج4 ص488، 489.

وهو يستعد لمحاربة الجانب الآخر، وأن ما يرويه سيف عن اتفاق جاهز للانعقاد على حساب القتلة، وأن هؤلاء أفشلوه من خلال مؤامرة دبرها، وأوصى بها ابن سبأ، إنما هو بعيد الاحتمال1، وتصور روايات المصادر طلحة، والزبير وهما يتراجعان أمام المجابهة على أمل إيجاد حل ينقذ كل شيء، فخندقا في منطقة الزابوقة في البصرة، وهما يرددان "خرجنا للصلح"2، ويعلنان رفضهما الاحتكام للسلاح "إنا وهم مسلمون، وهذا أمر لم يكن قبل اليوم، فينزل فيه قرآن أو يكون فيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة، إنما هو حدث"، وأضافا: "أمير بيننا وبين إخواننا، وهو أمر ملتبس"، "نحن نرجو الصلح إن أجابوا إليه وتموا، وإلا فإن آخر الدواء الكي"3. رحب علي بالصلح الذي قبله طلحة والزبير، وأعلن عن تصميمه على إعادة الوحدة إلى المجتمع الإسلامي، وحذر من مخاطر القتال بين المسلمين، "بان لنا ولهم أن الإصلاح الكف عن هذا الأمر، فإن بايعونا فذلك، فإن أبوا وأبينا إلا القتال فصدع لا يلتئم"4، وقد دفعه ذلك إلى الارتحال حتى نزل بجوارهم5. ومن الواضح أن هذا كله ناتج عن إرادة واعية، ورؤية مستنيرة وورع وتقوى من كلا الجانبين. أحداث الوقعة: أثارت محاولات التفاهم والإصلاح غضب قيادات القوى التي شاركت في أحداث المدينة ومقتل عثمان، وعلى رأسها علباء بن الهيثم، وعدي بن حاتم وسالم بن ثعلبة العبسي وشريح بن أوفى بن ضبيعة، ومالك بن الحارث الأشتر النخعي وخالد بن ملجم من مصر، كان معهم في البصرة، وأبدى هؤلاء تخوفهم من إحلال الصلح بين المعسكرين، وتداولوا في أنجع السبل لإفشال ذلك، فاقترح الأشتر التخلص من علي وقتله، في حين أشار علباء إلى ضرورة التخلي عنه ليواجه معسكر التحالف دون مساندتهم، ودعاهم إلى الاعتزال حتى يظهر من يستحق دعمهم، وأبدى عدي استعداده لاحترام ما يقررونه، وأصر سالم على قتال القوم دفاعًا عن أنفسهم، وتقرر في النهاية دفع المعسكريين للاشتباك، وذلك بالاندساس بينهم وإثارة القتال6. وكان الطرفان المتخاصمان قد عسكرا في الخزينة، إحدى ضواحي البصرة، فانسل هؤلاء النفر دون أن يشعر بهم أحد، وأثاروا القتال بينهما، واشتبك الجميع

_ 1 جعيط: ص164. بيضون: ص67. 2 الطبري: ج4 ص492. 3 المصدر نفسه: ص495. 4 المصدر نفسه: ص497. 5 المصدر نفسه: ص499. 6 المصدر نفسه: ص494.

دون وعي منهم لما خطط لهم، وخرج من معسكر علي رجل يرفع نسخة من القرآن، في خطوة تعد آخر تذكير رمزي بالوحدة، فقتل1، وتكتسب هذه الدعوة التي صدرت عن علي لتحكيم القرآن في هذا الصراع، أهمية بالغة تلقي بظلالها اللاحقة على الفتنة، وبخاصة أثناء معركة صفين2. وواجهت القبائل المختلفة بعضها بعضًا في رحى معركة ضاربة، مضر البصرة واجهت مضر الكوفة، وربيعة البصرة واجهت ربيعة الكوفة، ويمن البصرة واجهت يمن الكوفة3، ووجدت القبائل نفسها في أتون معركة تدفع ثمنها من أرواح أبنائها. ويبدو أن البصريين لم يتحملوا صدمة القتال، فتراجعوا، وجرح طلحة في ركبته بسهم رماه به مروان بن الحكم، فانسحب من ميدان المعركة ليموت في مكان ما من البصرة4، وشعر الزبير بالخذلان، فانسحب هو أيضًا وأراد الفرار، لكنه طورد وقتل في ظروف غامضة، وفي رواية أنه جرى اغتياله على يد عمرو بن جرموز التميمي في منطقة وادي السباع على قدر مرحلة من باب المربد بالبصرة5، وانتهت على هذا الشكل الجولة الأولى من المعركة قرابة الظهر6، لتبدأ الجولة الثانية والأكثر ضراوة، فقد أعاد البصريون تنظيم صفوفهم، وكروا على الكوفيين، وتركز القتال حول جمل عائشة الجالسة في هودج مدرع بالحديد، وقد أضحى هدف الكوفيين. وكان ثمة عزيمة من الجانبين، فارتدى القتال رداء بالغ الحدة بحيث اضطرا إلى تغيير نظام صفوفهما، فانضم الجناحان إلى القلب، وكونا كتلة ضخمة، وأضحى هناك كتلتان كبيرتان تتواجهان حول الجمل الذي تكاثرت التضحيات حوله، وتدخلت عائشة، في تلك اللحظة، وهي تحض أهل الكوفة على وقف القتال "البقية البقية"7، وهو نداء ضد الإبادة، ودعتهم "أبنائي" وذكرتهم بأنها أمهم، وهذا دليل على أن المعركة بدأت تميل لغير صالحها، وعندما رأت أنهم عازمون على ضربها، دعت أهل البصرة لكي يلعنوا قتلة عثمان8، ثم راحت تشجع بصوتها الجهوري

_ 1 الطبري: ج4 ص509. 2 ملحم: ص219، 220. 3 الطبري: ج4 ص506-514. 4 المصدر نفسه: ص509، تاريخ خليفة بن خياط ص112. 5 المصدران نفساهما: ص511، 534، 535، ص112. 6 الطبري: ج4 ص514. 7 أي: أبقوا علينا ولا تستأصلونا، إنها دعوة ضد الإبادة كان العرب في الجاهلية يستعملونها إذا غلبهم العدو، ابن منظور: لسان العرب ج14 ص80. 8 الطبري: ج4 ص513-532.

المدافعين عن الجمل حتى حملت الوقعة اسم وقعة الجمل. وعندما تحول القتال إلى مجزرة حقيقة، أمر علي على أحد رجاله بعقر الدابة، فهوت على الأرض، ومن اللافت أن يتوقف القتال فور وقوع الجمل أرضًا وأعطي البصريون الأمان1، والواقع أن الوقعة لم تتوقف لتوقف المقاتلين بل؛ لأن الرمز قد هوى، وكأن القتال لم يكن دائرًا لقتل عائشة ذاتها أو دافعًا عنها، بل؛ لأن الجمل الذي كان يحملها هي وما تمثل من قداسة وقضية2، وعندما أصيب الجمل توقف كل شيء، وطرح الهودج أرضًا وسط أعداد هائلة من القتلى في عدادهم مشاهير من الكوفة، والبصرة وأشراف قرشيون، مما أدى إلى ضرب الجبهة القرشية التي شكلت توازنًا سياسيًا بين العرب، والمسلمين في ذلك الوقت3، كما تعرض الأزديون والضبيون لمجزرة حقيقية، وكانوا من أشد المدافعين عن الجمل4، وجرت المعركة في "10 جمادى الثانية 36هـ/ 4 كانون الأول 656م". ذيول الوقعة: سيطر علي على البصرة بعد انتهاء الوقعة، وبايعه البصريون طائعين بعد أن عفا عنهم، فكانت كل قبيلة تبايع وهي ترفع رايتها5، ويبدو أنهم اعتقدوا بأنهم أدوا واجبهم تجاه دم عثمان، وفي سبيل الدفاع عن عائشة أم المؤمنين، وأنه أضحى من واجبهم الآن العودة إلى النظام، وقد ساعدهم سلوك على تجاههم. وسامح علي كل الذين رفعوا السلاح في وجهه، وأظهر رغبة عميقة وصادقة في تضميد الجراح، وفي إعادة تجميع جسم الأمة الجريح، فحرص على عدم معاملتهم بمثل ما عاملوه به، ولهذا فقد أمر قواته بعدم مطاردة أي مدبر، وأن لا يجهزوا على جريح، ولا يدخلوا الدور، وأعلن أنه من أغلق بابه، فهو آمن، وندب الناس إلى موتاهم فخرجوا إليهم ودفنوهم، وطاف معهم في القتلى، وتألم لمقتلهم، وأقام الصلاة المزدوجة على الموتى من البصريين، وعلى الموتى من الكوفيين، وكذلك على القتلى من المكيين والمدنيين، ولم يرم أعداءه بالكفر، سيقول دائمًا إنهم مسلمون، وإن الله حرم سلبهم واسترقاقهم وإذلالهم، والنيل من شرفهم ومنزلتهم6، وأقام في معسكره ثلاثة أيام لا يدخل البصرة6، وترحم على الزبير، وبشر قاتله

_ 1 الطبري: ج4 ص519-531. 2 بيضون: ص68، 69. 3 تاريخ خليفة بن خياط: ص113-115، الطبري: ج4 ص522، 523. 4 الطبري: المصدر نفسه: ص541. 5 المصدر نفسه: ص538، 539، 541. 6 المصدر نفسه: ص538.

بالنار1، ودعا الله أن يجمعه بطلحة يوم القيامة في الجنة2، ثم اجتمع بعائشة في دار عبد الله بن خلف الخزاعي، حيث نقلت بعد انتهاء الوقعة، وجرى بينهما حوار هادئ هو أقرب إلى الاستعتاب، فذكرها بأنها قد نهيت عن المسير إلى هذا المصير، فطلبت منه أن يصفح عنها، وأثنت عليه بسبب موقفه المتسامح معها ومع أنصارها، وعدت خلافها معه على أنه قدر مقدر أساسه مجرد استعتاب هدفت منه العمل على إعادة وحدة المسلمين بعد مقتل عثمان، إلا أن هذا الخلاف تطور رغمًا عنها حتى وصل إلى المواجهة المسلحة، ونفت أن يكون الصراع المسلح في وقعة الجمل هو تصفية خلافات قديمة بينهما، وتمنت لو استطاعت تجنبه، واتهمت طلحة والزبير بإخراجها من بيتها، وأبدت ندمها على خروجها من منزلها3، ثم سيرها إلى المدينة يوم السبت لغرة رجب في جماعة من نساء أهل البصرة المعروفات لمؤانستها في الطريق، وجعل في صحبتها أخاها محمد بن أبي بكر، كما أرسل معها بنيه لحراستها حتى خرجت من البصرة مسيرة يوم، وزاد في تكريمها بأن خرج بنفسه مودعًا حتى خرجت من البصرة مسيرة يوم، وزاد في تكريمها بأن خرج بنفسه مودعًا، وشيعها عدة أميال، وقد أعلنت يوم انطلاقها أنه ليس بينها وبين علي فيما كان إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وأضافت: "إنه عندي على معتبتي لمن الأخيار"، فأجابها علي: "صدقت والله وبرت، وإنه ما كان بينهما إلا ذلك، وإنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة"4، واعتزلت السياسة بقية حياتها، وكرست نفسها للعبادة. هل لنا أن نصدر حكمًا ونحدد المسئولية في وقعة الجمل، حيث التقى المسلمون بسيوفهم فيها ضد بعضهم البعض؟ فقد التزم رجال الدين بالصمت، وآثروا العافية، وابتعد أهل السنة عن إبداء رأي صريح لاعتقادهم بأن الصحابة جميعًا ناجون، وليس لهم الحق في أن يحكموا على أحد الفريقين بالمسئولية أو الخطأ، وألقى الشيعة المسئولية الكاملة على عائشة وطلحة، والزبير ولكنهم لم يفندوا الأسباب التي استندوا إليها في حكمهم، وغالى الخوراج في حكمهم، فكفروا طلحة والزبير وأتباعهما، والمعروف أنه ليس لمؤمن أن يكفر مؤمنًا، ولا يحكم عليه بالكفر، وخطأ المعتزلة أحد الفريقين لدرجة تصل به إلى الفسق، ولكنهم لم يحددوا الفريق الذي تقع عليه المسئولية5.

_ 1 الطبري: ج4 ص510. 2 ابن قتيبة: ج1 ص69. 3 المصدر نفسه: ص68، 69. البلاذري: ج3 ص59، 60. الطبري: ج4 ص539، 540. 4 الطبري: المصدر نفسه: ص544. 5 الشهرستاني، أبو الفتح محمد عبد الكريم: الملل والنحل ج1 ص49-114.

وتباينت أحكام المؤرخين وفقًا لتعاطفهم مع هذا الفريق أو ذاك، فألقى بعضهم المسئولية على عائشة مبررين حكمهم في ذلك بأنها عارضت عثمان عندما اتضح لها أن سياسته لا ترضي عامة المسلمين، وعندما آلت الخلافة إلى علي، انقلبت عليه بما حملته في نفسها بسبب موقفه السلبي منها في حادثة الإفك، وقوله للنبي: "تزوج غيرها، فالنساء كثير"، وعدم دفاعه عنها، وحمل البعض الآخر طلحة والزبير المسئولية؛ لأنهما دفعًا الناس دفعًا إلى أتون هذا الحرب، وهما اللذان حرضًا عائشة على الخروج إلى البصرة، ولولا تحريضهما لما خرجت، ورأى فريق ثالث أن الزبير هو المسئول المباشر عن هذه الحرب، وقد استتر وراء الثلاثة الكبار ليحقق طموحه في اعتلاء منصب الخلافة، فاستغل خالته عائشة، ودفعها لخوض هذه الحرب ضد علي حتى تخلو له الساحة السياسية. والواضح أن قتلة عثمان يتحملون المسئولية المباشرة عن اندلاع هذه الحرب التي انخرطت فيها كافة الأطراف، عن وعي أو بدون وعي، كما أن قريشًا تتحمل مسئولية أدبية بفعل أنها انصرفت عن علي، فتركهم وذهب إلى الكوفة محاولًا أن يجد في قبائل اليمن المستقرة فيها السند البديل1، وأدت عصبية العشيرة دورًا في إذكاء روح الصراع، وقد انتعشت مجددًا في عهد عثمان من واقع ارتكاز هذا الخليفة عليها، "واستفزت عصبيات القبائل في الأمصار حين واجهت هذه طريقتها بمثلها في الاحتجاج أولًا، ثم في التطرف الذي هيأ الأجواء لقتله بصورة مألوفة من قبل هذه القبائل، وإذا كان بمقدور على ضبط هذه العصبية مرة أخرى قبل وقعة الجمل، فإنه أضحى عاجزا عن ذلك بعدها، لا سيما وأن خصومه لم يترددوا عن استخدامها كورقة أساسية لتعزيز موقعهم، واستقطاب الأنصار2، وتصبح الصورة أكثر وضوحًا في هذا السياق حين نتوقف عند أسماء القتلى الذين سقطوا في وقعة الجمل، وقد بلغ عددهم نحو عشرة آلاف، مصنفين على أساس انتماءاتهم القبلية، نصفهم من أتباع علي، ونصفهم من أنصار عائشة، من الأزد ألفان ومن سائر اليمن خمسمائة، ومن مصر ألفان، وخمسمائة من قيس، وخمسمائة من تميم، وألف من بني ضبة، وخمسمائة من بكر بن وائل ... وقتل من بني عدي يومئذ سبعون شيخًا، كلهم قد قرأ القرآن، سوى الشباب، ومن لم يقرأ القرآن3.

_ 1 الشامي: ص343-347. 2 بيضون: ص69، 70. 3 تاريخ خليفة بن خياط: ص113، 114. الطبري: ج4 ص544.

الفصل الرابع عشر: أوضاع المسلمين العامة في ظل خلافة علي بن أبي طالب2

الفصل الرابع عشر: أوضاع المسلمين العامة في ظل خلافة علي بن أبي طالب الصراع بين علي، ومعاوية، والخوارج الصراع على مصر: تجلى الصراع بين علي ومعاوية بأوضح مظاهره في مصر أولًا، ورأى معاوية أن الصراع الحاسم بينه، وبين علي سوف يدور في هذا البلد، وأن تحييده أو غزوه، والسيطرة عليه من شأنه أنه يقوي وضعه على الجبهة العراقية -الشامية، وفي المقابل كان علي منهمكًا في حشد العراقيين حوله، ولم تكن مصر من أولى اهتماماته، فهي بعيدة جدًا عن قواعده، ولم يدرك أهمية الرهان عليها، على الأقل في حينه، إلا أنه دفع دفعًا إلى الدخول في صراع عليها، وقد حرصت المصادر على إظهاره بأنه شخصية سياسية محدودة الخبرة، إلى المناورة السياسية، والدهاء والحيلة، إلا أنها تؤكد على خبرته القتالية والعسكرية. وهناك حرص شديد، في المقابل، من المصادر نفسها على وصف معاوية بالشخصية السياسية الكثيرة الخبرة، والشديدة الدهاء والمكر، وأنه رجل دنيا لا دين، يتجاهل المبادئ والتعاليم الإسلامية في سبيل الحفاظ على مصالحه الخاصة، والمتمثلة بالحفاظ على السلطة والمال. والواقع أن هذه الإشارات التي تبالغ كثيرًا، قد وضعت لاحقًا بتأثيرات أموية أو عباسية، فقد كان علي سياسيًا أكثر مما تصفه به المصادر، وكان معاوية استراتيجيًا أقل كياسة، وأقل مكرًا مما جرت العادة على وصفه1. ومهما يكن من أمر، فالمعروف أن مصر بقيادة الوالي محمد بن أبي حذيفة الأموي، كانت مركزًا للثائرين على عثمان، وكان معاوية يواجه حصارًا حقيقيًا في

_ 1 جعيط: ص186، ملحم: ص248.

دائرة نفوذ على الواسعة، ولا يمكنه المناورة طويلًا في موقفه، ولقد شعر بوطأة الخطر بعد تعيين قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري واليًا على هذا البلد، خلفًا لمحمد بن أبي حذيفة الذي قتل في الحملة التي نفذها معاوية ضده1، وهو أحد الأشخاص البارزين في إدارة علي، بل أكثرهم حماسة لقضيته، وقد عقد الخليفة آمالًا كبيرة على نجاحه في مهمته، فيما كان معاوية في المقابل، يقدر المتاعب التي سيسببها تعيين مثل هذا الرجل على مصر، فهو عدا صلابته ينتمي إلى فئة معادية للبيت الأموي، وخشي من هجوم قد يشنه علي من العراق، وآخر قد يشنه قيس من مصر2، فيقع بين فكي الكماشة، ويلحق به هزيمة محققة، بالإضافة إلى ذلك، فإن السيطرة على مصر من شأنها أن تمده بموارد اقتصادية وفيرة بفعل غني هذا البلد بالمقارنة مع غنى بلاد الشام، وتكسبه مركزًا عسكريًا ممتازًا بفعل موقع مصر الجغرافي، وتحصر الصراع بين العراق والشام، كما تعد خطوة أساسية في البناء السياسي للدولة الإسلامية، وقد دفعه ذلك إلى التصميم على السيطرة عليها، وتعاون من أجل ذلك، مع عمرو بن العاص الذي هدف إلى استعادة مجال نفوذه في مصر، وفقًا للتحالف الذي عقده الرجلان منذ بداية تعاونهما الذي أضحى وثيقًا جدًا. والواقع أن قيسًا نجح إلى حد ما في مهمته، وحصل على بيعة أهل مصر لعلي وسيطر على الوضع، غير أن نواة قوية من العثمانية تجمعت في خربتا3، وقد رفض أفرادها البيعة لعلي، كان منهم مسلمة بن مخلد، وبسر بن أرطأة ومعاوية بن حديج، وقد ارتأى قيس محاورتهم دون أن يجد في موقفهم السلبي ما يشكل خطرًا على وضعه، ووقع اتفاق هدنة بين الطرفين من واقع عدم تعرض أي طرف للطرف الآخر4، إلا أن ذلك اصطدم برأي الخليفة الذي مال إلى حسم هذا التمرد بالقوة، ومن خلال هذه الثغرة نفذ معاوية ليفسد على قيس مهمته ويسيطر على مصر، فراح يتصل بالعثمانية واعدا إياهم بمساعدة عسكرية فورية، والمعروف أن معاوية لم يقم حتى ذلك الحين بأي تحرك جدي ضد علي، ولا لأجل قضية عثمان باستثناء رفض البيعة، والهجوم الذي نفذه على مصر ضد محمد بن أبي حذيفة، الذي ربما ارتدى طابعًا أسريًا5، ولم يفتح باب الصراع الفعلي مع علي إلا بعد تصفية جماعة الجمل

_ 1 الطبري: ج4 ص546. ج56 ص105، 106. 2 المصدر نفسه: ج4 ص550. 3 خربتا: قرية تقع غربي مصر، وهي قريبة من الإسكندرية، الحموي: ج2 ص355. 4 الطبري: ج4 ص549، 550. 5 جعيط: ص185.

حيث بات مدفوعًا، أو مكرهًا على اتخاذ مواقف وقرار، كان عليه أن يعلن صراحة أنه ضد علي أو أن ينقاد له، فاختار المواجهة. تغالي المصادر كثيرًا في طريقة تمكنه من إبعاده قيس بن سعد، وإخراجه من مصر بالترغيب والتهديد1، إذ إن كل شيء يعد صالحًا للوصول إلى الهدف، وكان المقصود زرع الشكوك في نفس علي حول ولائه، مما دفعه إلى التعليق حول ما يروج عن قيس من أخبار "إني والله ما أصدق بهذا عن قيس"2. والواضح أن خطة معاوية القاضية بإبعاد قيس عن مصر، كانت تسير نحو النجاح، من واقع رفض الوالي تنفيذ ما أمره به الخليفة من القضاء على حركة التمرد في خربتا، معللًا ذلك بأنهم وجوه أهل مصر وأشرافهم، ومن الرؤية جاء قرار عزله عن ولاية مصر3. اختار الخليفة رجلًا يثق به، هو الأشتر من مالك النخعي، وأحد كبار قادته وعينه واليًا على مصر خلفًا لقيس، ويبدو أنه أدرك الآن أهمية مصر، وأنها تشكل نقطة توازن مهمة في الصراع بينه وبين معاوية، دون أن يعني ذلك فقدان ثقته بقيس، لكن حادثة العزل صبت في مصلحة معاوية؛ لأن الأشتر توفي، مسمومًا على الأغلب، في القلزم وهو في طريقه إلى مصر لاستلام منصبه مما حرم عليًا من رجل قدير4؛ لأن خلفه محمد بن أبي بكر الذي عينه علي اتصف بقصر النظر السياسي، والجهل بشئون الحكم، فارتكب أعمالًا أثارت المصريين، فتعثرت مهمته، ولم تؤد إلى سد الثغرة، بل أسهمت في توسيعها ممهدة لخروج مصر من سلطة الخلافة. وسرعان ما وجد الوالي الجديد نفسه أمام مشكلة العثمانية في مصر، وفشل في تجاوزها، وسقط ضحيتها بعد تدخل مباشر من معاوية الذي انعتق من قيود الهدنة بعد معركة صفين، وتوطد مركزه من جراء التحكيم الذي جرى في شهر "محرم 38هـ/ حزيران 658م"، فراح يكشف عن مطامعه، ومطامحه لكي يقرر الاستيلاء على مصر علنًا. والواقع أنه كان قد اتخذ قراره قبل ذلك، كما أن علاقته بالعثمانية قد باتت واضحة، إلا أن التنفيذ حصل في شهر "صفر 38هـ/ تموز 658م"، فأرسل قوة عسكرية مؤلفة من ستة آلاف مقاتل بقيادة عمرو بن العاص، توغلت في أرض مصر، وانضمت إليها العثمانية.

_ 1 الطبري: ج4 ص550، 551. 2 المصدر نفسه: ص554. 3 المصدر نفسه: ص552، 553. 4 المصدر نفسه: ص553

وعبأ محمد بن أبي بكر أتباعه لمواجهة الزحف الشامي، وطلب نجدة عاجلة من علي، إلا أنه واجه عدة صعاب لم يتمكن من تجاوزها: - فقد تعرض لعملية تهديد نفسي من جانب معاوية والعثمانية، بسبب موقفه المناوئ لعثمان، وكان مهددًا بأشد عقوبات القصاص، وتصح بإخلاء الساحة. - لقد وعده علي بإرسال الإمدادات إليه، ولكن حثه على الاعتماد على قواه الذاتية. - لقد تعرضت قواته لارتدادات، مما أدى إلى تراجع قوته القتالية، وأدى في المقابل إلى تضخم صفوف الجيش الأموي، فانقلب ميزان القوى لغير صالحه. وخاض محمد بن أبي بكر معركة المسناة، وهو في وضع مزعزع مما أدى إلى انهزامه، ودافع عن نفسه حتى الموت، ويبالغ أبو مخنف في روايته الملحمية حول نهايته: فقد وجد نفسه وحيدًا بعد المعركة، فلجأ إلى مكان خرب حيث كشف أمره فلاحون، فأخذه معاوية بن حديج وأعدمه، خوفًا منأن يعفو عمرو بن العاص عنه، ثم أدخله في جيفة حمار وأحرقه1، والواضح أن هذا التصرف القاسي، والرهيب الذي يطال رجلًا مسلمًا، مهما كانت مواقفه السياسية، وهو أمر مستهجن، وبعيد عن مبادئ الإسلام السمحة.

_ 1 الطبري: ج5 ص104، 105.

معركة صفين

معركة صفين: مرحلة المفاوضات: ظل علي يأمل في استقطاب معاوية، وتجنيب المسلمين مزيدًا من إراقة الدماء، وقدم نفسه منذ البداية على أنه طالب حق، فأرسل إليه رسولًا من الكوفة في شهر "رجب 36هـ/ كانون الثاني 657م"، هو جرير بن عبد الله البجلي، ومن فاتحي العراق الأوائل ورئيس قبيلة بجيلة، وأحد الأشراف الذين تعاون عثمان معهم، وأحد زعماء القبائل الذين تجنبوا الاشتراك في وقعة الجمل، واقتصرت مهمته على حمل معاوية على البيعة، ودعوته إلى الطاعة والجماعة1. ويبدو أن معاوية كان يواجه آنذاك موقفًا حرجًا، فهو لم يكن مطمئنًا على الوضع في مصر، ويرغب في تجييدها أو الاستيلاء عليها، كما أنه كان يتعرض لضغط بيزنطي متزايد، ولا بد له من تهيئة أهل الشام وتعبئتهم إلى جانبه، كما كان يراقب

_ 1 ابن مزاحم، نصر: كتاب وقعة صفين ص27، 28، ابن قتيبة: ج1 ص79، 80، الطبري: ج4 ص561.

تطور موازين القوى في معسكر علي، وهو بانتظار وصول عمرو بن العاص الذي استدعاه من فلسطين لمشاورته في الأمر؛ لذلك أجل رده إلى ما بعد وقعة الجمل، وأمسك الرسول1. ووجد معاوية في عمرو بن العاص، سندًا قويًا، فأشركه في مشروعه ووعده بمنحه ولاية مصر مدى الحياة في حال انتصاره، وبأنه سوف يساعده في تجاوز العقبات الداخلية والخارجية، ونصحه بتنظيم دعاية في أوساط مقاتلة الشام، وفلسطين ضد علي، وتحميله مسئولية قتل عثمان وإيواء قتلته، ثم يقاتله بهم2، فاستدعى شرحبيل بن السمط الكندي، وهو من أشراف كندة، والرجل الأكثر تأثيرًا في بلاد الشام، قبليًا، وفيما يتعدى المزعامة القبلية، وأقنعه بمسئولية علي عن تفجير الوضع، ودعاه إلى دعمه للمطالبة بدم عثمان، فجال هذا في مختلف المدن الشامية يروج لأفكاره، ونجح في استقطاب أهالي الشام باستثناء أهل حمص3، وكان ذلك كافيًا لدعم موقف معاوية ومطالبه، الأمر الذي سمح له بأن يعيد رسول علي مزودًا بشرطين: الأول: القصاص من قتله عثمان. الثاني: الشورى لانتخاب خليفة جديد4. كان ذلك الرد بمثابة إعلان حرب، إذن هناك نقطتان أساسيتان تشكلان مضمون الصراع من جانب معاوية: الأولى ذات صلة بمقتل عثمان، والثانية متعلقة بمسألة شرعية السلطة5، وشدد على النقطة الأولى أمام مقاتلة الشام الأشد تأثرًا بالدعوة للانتقام للخليفة المقتول، وهو يستند إلى كونه وليًا له بسبب قرابته منه6، وأمام القراء الأقل تحمسًا للسير معه، وعندما طلب منه هؤلاء تبرير موقفه أجابهم: "إذا كان علي لم يقتل عثمان فقد تواطأ على قتله، وحمى القتلة الذين يشكلون محيطه ونواة أتباعه"7، وعلى هذا النحو ربط بين عنصري الصراع، فكرة المطالبة بدم عثمان، والدعوة إلى الشورى8، لكنه لم يتمكن من توجيه تهمة مباشرة لعلي بالضلوع في

_ 1 ابن مزاحم: ص55. 2 الطبري: ج4 ص558، 559. 3 ابن مزاحم: ص50. 4 المصدر نفسه: ص56. 5 جعيط: ص188. 6 ابن مزاحم: ص32، 132. البلاذري: ج3 ص66، 67. ابن قتيبة: ج1 ص85، 86. 7 ابن مزاحم: ص85-87. 8 البلخي: ج2 ص224.

القتل، الأمر الذي يفسر اتهاماته المتدرجة له من التجريم المباشر إلى مجرد طلب تسليم الجناة1، وحاول استقطاب المؤيدون لفكرته، فكتب إلى عبد الله بن عمر بدعوه إلى مساندته، "فأعنا يرحمك الله على حق هذا الخليفة المظلوم، فإني لست أريد الإمارة عليك، ولكني أريدها لك، فإن أبيت كانت شورى بين المسلمين2، كما كتب إلى سعد بن أبي وقاص، ودعاه إلى نصرته في معاقبة قتلة عثمان، "فإنا نردها شورى بين المسلمين"3، وأكد خلال اتصالاته مع علي على رؤيته لحل النزاع "اعتزل أمر الناس، فيكون أمرهم شورى بينهم، يولي الناس أمرهم من أجمع عليه رأيهم"4. وفي المقابل، دافع علي عنه رأيه، فرأى أنه يمسك بزمام السلطة الشرعية، وقد جرى انتخابه في المدينة مركز منح السلطة، بالأغلبية الساحقة من المسلمين وبخاصة المهاجرين، والأنصار الذين بايعوا الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه، كما أن الشورى هي لهم، فإذا "اجتمعوا على رجل فسموه إمامًا كان ذلك لله رضى، فإن خرج منهم خارج ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين"5، وعليه واجب توحيد كلمة المسلمين، ولا علاقة لمعاوية بالمطالبة بدم عثمان؛ لأن أبناء القتل أولى منه، وأنه ادعى ما ليس أهله، ونازع هذا الأمر من ليس مثله، وجادل بالباطل ليدحض به الحق"6، وعده خارجًا. أما المقصاص من قتلة عثمان، فهي قضية ثانوية، ولا يعد نفسه متورطًا في هذا القتل، كما أنه لا يستطيع تسليم قتلته في هذه الظروف الحرجة التي يمر بها المسلمون7. وكرر علي مطالبة معاوية العودة إلى حظيرة الجماعة الإسلامية، والاعتراف به خليفة للمسلمين، ضمن كتاب أرسله إليه في شهر "رمضان 36هـ/ آذار 657م"، مع ضمرة بن يزيد، وعمرو بن زرارة النخعي، لكن معاوية لم يبدل رأيه، وكرر تنفيذ شرطيه السابقين8.

_ 1 جعيط: ص190. 2 ابن مزاحم: ص63، 64، 72. ابن قتيبة: ج1 ص84. 3 ابن قتيبة: المصدر نفسه ص84، 85. 4 المصدر نفسه: ص85، 86. الطبري: ج5 ص7. 5 ابن مزاحم: ص28-30، 58. 6 ابن قتيبة: ج1 ص80. الطبري: ج4 ص574. 7 جعيط: ص190. 8 ابن مزاحم: ص80. البلاذري: ج3 ص78.

مرحلة التجهيز والاستعداد

مرحلة التجهيز، والاستعداد: التعبئة البشرية في قوات علي: كان قتلة عثمان يتولون زمام الأمور في الكوفة، وقد ازداد عددهم كثيرًا بعد وقعة الجمل، ومارسوا مزيدًا من التأثير، والضغط في سبيل الحرب، متخطين الانقسامات القبلية، وقد وظفوا نفوذهم بين قبائلهم من أجل تجييش المؤيدين والأتباع، والراجح أنه كان يربطهم اعتاقد راسخ بأنهم كانوا على حق حين قتلوا عثمان، وحين حاربوا أصحاب الجمل، وأنهم الآن على حق وهم يستعدون لمحاربة "ظلمة الشام"1، لكن ربما علينا أن نفرق بين فئتين منهم: الفئة الأولى: هم القادة القلائل، وأتباعهم الذين يسيرون وراءهم، وقد تجمعوا حول علي وتبنوا قضيته، ودخلوا في لعبة السلطة الجديدة، وسوف يساندونها بقوة، وسيقاتلون في صفين من أجل شرعية علي، وبخاصة أنه عينهم ولاة على الأمصار2. والواقع أن الخليفة اهتم باستقطابهم بعد ضعف المشاركة الكوفية إلى جانبه في وقعة الجمل، فكان بحاجة ماسة إلى نفوذهم السياسي بقدر ما كان بحاجة إلى قدرتهم القتالية لكي يؤمن قوة ضاربة، إذ لم يكن قادرًا على فرض قيادة شخصية، ومباشرة من جمهور الكوفيين، وبالتالي كان لا بد له من أن يمر من خلال الأشراف3، وفعلًا، فقد سانده هؤلاء من واقع: - أنه الخليفة الشرعي، وقد ثبته الانتصار في وقعة الجمل في شرعيته. - لقد كان ي الكوفة اتجاه عام لصالحه. - لقد أدت الإقليمية دورًا مهمًا في دفع العراقيين بعامة إلى الوقوف خلفه، وذلك من خلال التنافس الإقليمي بين العراق والشام، بدليل قول معاوية لجنده، وهو يعبئهم لمعركة صفين " ... إنكم قد سرتم لتمنعوا الشام، وتأخذوا العراق ... "4. - إن وجود الخليفة في الكوفة كان يفرض على الكوفيين الدفاع عنه، وعن عاصمتهم أيضًا.

_ 1 جعيط: ص191. 2 لقد عين علي مالكًا بن الحارث الأشتر واليًا على الموصل ونصيبين، ويزيد بن قيس واليًا على المدائن وجوخى، انظر ابن مزاحم: ص116. 3 جعيط: ص191، 192. 4 ابن قتيبة: ج1 ص87. ابن مزاحم: ص56، 78، 79، 168.

- إن شخصية علي كانت تفرض الاحترام، وتستقطب الأتباع من خلال ماضيه الإسلامي، ومن حيث استقامته، وعدم تبديله النظام الاجتماعي القائم. الفئة الثانية: هم جماعة القراء الذين شكلوا قوة متماسكة، إنما ظلوا أقلية في الكوفة والبصرة، إنهم نواة الخوارج، وقد ركزوا على قناعاتهم الخاصة بدافع ماضي علي، وتعالي القرآن فوق كل سلطان بشري، وإدانة ما ابتدعه عثمان، والمطالبة بالتخلص منه، والعداء للمزاعم القرشية في الوصاية على الإسلام، وقد توافقت مصلحتهم مع مصلحة علي ضد الخصم المشترك، وبالتالي، فإن دعمهم له هو مصلحي بقدر ما كان على يشاطرهم آراءهم، وسوف يقاتلون من أجل فكرتهم عن العدل والعدالة، لكن الخلافات بين الطرفين سوف تغيب الآن بفعل قرب الخطر والمعركة المشتركة، وحضور علي، وبحركة قادتهم النشطة، وستنفجر بعد القتال في صفين1. وتلقى علي مساعدة محدودة من قبائل البصرة، النصف تقريبًا، وذلك بسبب مواقفها السابقة من أحداث الفتنة المتمثلة في تأييدهم لسياسة عثمان، ومعارضتهم لقتله، ووقوفهم وراء أصحاب الجمل. وساند المهاجرون والأنصار، وذوو الأصل البدوي المقيمون في المدينة، عليًا، سبعون من أهل بدر، وسبعمائة ممن بايع تحت الشجرة، وأربعمائة من سائر المهاجرين والأنصار2، إنهم نسبيًا قليلو العدد بالمقارنة مع الجماعتين الكبيرتين الكوفية والبصرية، ولكنهم كانوا مع ذلك يملكون قوة معنوية كبيرة بوصفهم كانوا صحابة، وأبناء الصحابة وأنصار رسول الله الذين ذكرهم الله في كتابه، والمعروف أنه جرى تهميشهم على أيدي الخلفاء الثلاثة السابقين، فرفعهم علي بعد أن بنى شرعيته على إجماعهم، وبفعل أنه أراد أن يمارس سياسة إسلامية بعيدة عن الشعور القبلي المحض3. وهكذا نجح علي في تشكيل تجمع من المقاتلين إلى جانبه، ويعد هذا انتصارًا بحد ذاته، غير أن التشكيل جاء غير متجانس، وغير منسجم عقائديًا، وإقليميًا وقبليًا، إذ ضم عناصر متباينة في الولاء والمفاهيم والتوجهات، فهناك المهاجرون والأنصار، وأشراف القبائل وأهل القادسية، والأيام والروادف وجماعات القراء، وهي عناصر

_ 1 جعيط: ص192. 2 ابن مزاحم: ص92-94، وقارن بابن كثير: البداية والنهاية ج7 ص253، 254. اليعقوبي: ج2 ص88. 3 جعيط: ص194.

تتفاوت في درجة تقديرها لمصالحها، وفي نظرتها لقريش، ولسلطان المدينة، وفي تقييمها لأبعاد الصراع الذي تخوضه، بدليل أنها ظلت مثار شكوى على منذ انطلاقه لمواجهة معاوية وحتى مقتله1. التعبئة البشرية في قوات معاوية: وقفت القوى في بلاد الشام بأجمعها وراء معاوية، وساندته بكل قواها، ودعمته بشكل مطلق، وذلك بدافع: - الشعور البدائي بعصبية الدم. - الكبرياء والكراهية. - عدم القبول بسيطرة أهل العراق. شكلت هذه القوى تجمعًا مؤتلفًا نسبيًا، ووحدة إقليمية مماثلة لوحدة الكوفة وحدها أو البصرة وحدها، لكنها كانت متباعدة جغرافيًا، فقد أقام القيسيون في الجزيرة حول قرقيسياء، واتخذت الجماعات اليمنية الكبرى مكانًا لها، ومجالا حول حمص، واستوطنت قضاعة، لا سيما لخم وجذام، ساحل فلسطين والأردن، مع امتداد باتجاه الصحراء الشامية2، ومن محاسن هذا التبعثر أنه يستبعد الاحتكاكات القبلية، ويسمح بتعايش منسجم، لكنه بحاجة إلى قوة توحيدية ومطاعة، وبخاصة أن بلاد الشام كانت في وضع حدودي ودفاعي دائم بسبب التهديد البيزنطي المستمر، لذلك كانت هذه القوى في حال جهوزية دائمة، ومدربة على القتال، من هنا كان الشعور بالحرص على الأرض والدفاع عنها، والاستقرار والولاء الشديد للسلطة3. كانت بلاد الشام مصونة من كل أشكال الاعتداءات الخارجية في ظل حكم معاوية، وآل الأمر بالشاميين إلى تكوين عالم خاص، ملك قائم بذاته، وليس مستغربًا أن تتوافق خصوصيتهم مع قضية الخليفة المقتول، وأن تعزز شعورًا قويًا لصالح البيت الأموي، في ميله الانتقامي لقتلة عثمان، وفي طموحه السياسي وفي رفضه القبول ببيعة علي، وكان ذلك يزداد بقدر ما كان يتراءى لهم أن عليًا أضحى رجل العراقيين4. مرحلة الصدام العسكري: بلغت معاوية أخبار استعدادات علي للمسير إليه، فجهز قواته البالغة ما بين

_ 1 جعيط: ص195. 2 ابن مزاحم: ص206. جعيط: ص196. 3 المرجع نفسه. 4 المرجع نفسه: ص197، 198.

ثمانين إلى مائة ألف مقاتل1، وانحدر بها إلى صفين على شاطئ الفرات الغربي قرب الرقة؛ لأن ذلك هو الطريق الطبيعي الذي سيسلكه جيش علي ليصل إلى بلاد الشام، ووصل إليها في "أول ذي الحجة 36هـ/ 21 أيار 657م"، واستقر فيها، وساعدته الظروف البيئية من سهولة الأرض، وملاءمة المناخ وقرب الفرات2. كان علي يعسكر في النخيلة على بعد ميلين من الكوفة استعدادًا للانطلاق إلى بلاد الشام، وطلب منه بعض قادته بإعطاء المفاوضات فرصة أكبر، كما طلب منه آخرون بالمسير مباشرة لقتال معاوية، وآثر هو الواجهة السريعة لحسم الوضع، فغادر النخيلة إلى الصراة، ثم المدائن فالأنبار فالرقة فصفين، فوصل إليها بعد بضعة أيام من وصول معاوية، وقد بلغ عدد قواته ما بين تسعين إلى مائة ألف مقاتل3. وشهد شهر ذي الحجة مبارزات فردية، ومناوشات جماعية محدودة قبل أن يتوقف القتال في شهر "محرم 37هـ/ حزيران 657م"، ربما بضغط القاعدة التي كانت ترغب في السلام، ويبدو أن حرص الطرفين على الاحتفاظ بقدر معين من التفاهم يكتسب أهمية بالغة في التطورات اللاحقة، إذ يظهر الرغبة الكامنة لدى أهل الشام، والعراق في المصالحة، وبخاصة أن كل طرف كان يتخالط مع الطرف الآخر، ويدخل معسكره وسط جو من حسن الجوار4. استمرت الهدنة شهرًا واحدًا تخللها اتصالات، ومفاوضات على أمل الوصول إلى اتفاق ينهي النزاع، ويحقن دماء المسلمين، لكن التصلب في المواقف حال دون ذلك5، والواقع أن اندفاع قيادات الطرفين للقتال قابله حرص من سواد رجالهما على أن تكون المواجهة بينهما محدودة خشية من هلاك المسلمين6. ويبدو من تفاصيل التعبئة حرص طرفي النزاع على أن تواجه كل قبيلة من قبائل الشام أختها من أهل العراق، إلا أن تكون قبيلة ليس منها بالشام أحد، فصرفها إلى قبيلة أخرى تكون بالشام ليس منها أحد في العراق، مثل بجيلة التي لم يكن منها في الشام إلا عدد قليل، فصرفهم إلى لخم7.

_ 1 ابن قتيبة: ج1 ص87. البلخي: ج2 ص224. المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر ج2 ص384. ابن مزاحم: ص157. 2 ابن قتيبة: المصدر نفسه. 3 البلاذري: ج3 ص80. 4 الطبري: ج4 ص563-575. 5 البلاذري: ج3 ص84. الطبري: ج5 ص5-10. ابن الأثير: ج2 ص641- 644. 6 جعيط: ص198. 7 البلاذري: ج3 ص86. ابن مزاحم: ص227-229، 243-246.

واشتبك الطرفان في حرى معركة طاحنة، ستتحمل الأجنحة ثقلها، تبادل المتقاتلون خلالها الكر والفر، وتأرجحت الكفة بين النصر والهزيمة من واقع ضغط الطرفين كل على الآخر، ووصلت إحدى الهجمات العراقية إلى جوار معاوية، ووصف يوم الخميس 12 صفر بأنه اليوم الأطول، وأطلق على ليله اسم الهرير، وقتل فيه ذو الكلاع، وعبيد الله بن عمر، وعمار بن ياسر وهاشم بن عتبة، وهو المرقال حامل لواء علي1، وكثر القتل بفعل اشتداد المواجهة، وأمام خامة المجزرة خشيت العرب على نفسها من القتال والهلاك، ولاح في الأفق أن نهاية الدولة الإسلامية بات وشيكًا، والواقع أن المسلمين جميعًا كانوا يتقاتلون، وتتمزق الأمة دون أي أفق في انتصار طرف على آخر، فالكفتان متوازنتان والقتال سجال2، واستفاقت قيادات الطرفين على هول الكارثة، وانطلقت نداءات سلمية من وسط القتال، "ألا تذكرون الأرحام، أفنيتم لخم الكرام، والأشعريين وآل ذي حمام، أما تذكرون أهل فارس، والروم، والأتراك"، "من لثغور الشام بعد هلاك أهل الشام؟ ومن لثغور العراق بعد هلاك أهل العراق، من للذراري والنساء"3. وأدرك مقاتلوا الشام بأنهم يسيرون نحو الإبادة المتبادلة، فنادوا بالبقية، أي وقف القتال خوفًا من زوال الجميع "لقد أكلتنا الحرب، ولا نرى أننا سنغلب أهل العراق إلا بفناء أهل الشام"، ويبدو أن معاوية لم يكن مستعدًا للتضحية بأهل الشام للوصول إلى غاية، وتبين له أنه لن يكون هناك غالب ومغلوب، ومن هذه الرؤية دعا القادة العراقيين إلى وقف القتال، فكتب إلى علي يقول: "أما بعد، فإني أظنك أن لو علمت أن الحرب تبلغ بنا، وبك ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض، وإن كنا قد غلبنا على عقولنا، فلنا منها ما نذم به ما مضى، ونصلح ما بقي، فإنك لا ترجو من البقاء إلا ما أرجو، ولا تخاف من الفناء إلا ما أخالف، وقد والله رقت الأجناد، وذهبت الرجال"4. كما كتب إلى ابن عباس يقول: "وأدالت هذه الحرب بعضنا من بعض، حتى استوينا فيها، فما أطمعكم فينا، وما أيأسكم منا أيأسنا منكم، وقد رجونا غير الذي كان، وخشينا ما وقع، ولستم ملاقينا اليوم بأحد من حدكم أمس، وقد منعنا بما كان منا الشام، وقد منعتم بما كان منكم العراق، فاتقوا الله في قريش"5، وكتب عمرو بن

_ 1 الطبري: ج5 ص17-48 حيث تفاصيل مسهبة عن سير العمليات العسكرية، البلاذري: المصدر نفسه ص85، 86، ص91-107. 2 جعيط: ص201. 3 ابن مزاحم: ص302، 481-498. 4 ابن قتيبة: ج1 ص97. 5 المصدر نفسه: ص93-94.

العاص إلى عبد الله بن عباس يقول: "فوالله ما أبقت هذه الحرب لنا ولا لكم حياة وصبرًا، وأعلم أن الشام لا تهلك إلا بهلاك العراق، وأن العراق لا تهلك إلا بهلاك الشام"1، وفي المقابل مال مقاتلو العراق إلى الموادعة، وقالوا: "إن هذه الحرب قد أكلتنا، وأذهبت الرجال، والرأي الموادعة"2. إن قراءة متأنية لمضمون نداءات المصالحة، والموادعة توضح اختلاطها بقيم الدين والشرف، والعرض والتعصب للأمصار، مع ملاحظة تراجع الأثر الديني في أداء الدور الرئيسي فيها، وفي هذه الأجواء، رفع مقاتلو الشام المصاحف، فتوقف القتال3، أما الاعتقاد بأن جيش الشام كان على وشك الهزيمة والانهيار، وأنه رفع المصاحف تخلصًا من هذا المأزق؛ فهو اعتقاد مبالغ فيه، هناك رواية واحدة مصدرها أبو مخنف توهم أن الأشتر كان يأمل النصر حيث قام بعملية اختراق في صفوف جيش الشام، وأنه كان يسير نحو النصر. والواقع أن غالبية قوات علي وافقوا على وقف القتال4، من واقع تعبير قادتهم له حين استشارهم "لم يصب منا إلا وقد أصيب مثلها منهم، وكل مقروح، ولكنا أفضل بقية منهم"5، فأدرك عندئذ أن الوضع الميداني لقواته أضحى حرجًا بسبب الإرهاق الشديد الذي أصابهم، وأنه لم يعد باستطاعتهم المضي في القتال؛ فاتخذ قرارًا بوقف الحرب، أما إبراز أنه وافق مكرهًا بفعل ضغط القراء، أو فئة منهم أو يضغط الأشعث بن قيس، وهو قد دعا قواته إلى تجاهل النداء والاستمرار في القتال بفعل أن فكرة رفع المصاحف خدعة ومكيدة6، فأمر لا يمكن القبول به، وبخاصة أنه قدم نفسه منذ البداية على أنه رجل سلام، وكان لديه شعور صادق تجاه الحل السلمي منذ ما قبل اندلاع القتال. إن إعادة قراءة أحداث معركة صفين أمر مهم جدًا لرصد وضع كل طرف، ولا شك بأن عليًا، ومعاوية أدارا المعركة بشكل ناجح، وحرصًا على الحفاظ على دماء المسلمين ما أمكن، على الرغم من كثرة عدد القتلى، وتمييز علي بالشجاعة، والصبر في حين ظهر معاوية كقائد سياسي محترف.

_ 1 ابن قتيبة: ج1 ص92، 93. البلاذري: ج3 ص87، 88. 2 ابن قتيبة: المصدر نفسه: ص97، 98. ابن مزاحم: ص485. 3 ملحم: ص270. 4 عارض الأشتر النخعي، وعدي بن حاتم وقف القتال في حين وافق سعيد بن قيس، زعيم الهمدانيين، وأغلبية زعماء ربيعة. 5 ابن مزاحم: ص482. 6 الطبري: ج5 ص48، 49.

ويبدو التأثير الشيعي واضحًا في ما تقدمه بعض روايات المصادر من صورة علي البطل الخارق ذي القوة الجسدية الهائلة، ورجل المآثر والمواقف الصعبة، والذي قابل الإساءة بالإحسان، إذ سمح لقوات الشام بالوصول إلى ماء الفرات في الوقت الذي أصر معاوية على منع أهل العراق من الوصول إليه، الحريص على دماء المسلمين، إذ حاول إقناع معاوية بوقف القتال، ولم يؤذ النساء، ولم يأخذ أموال أهل الشام بغير وجه حق، وهو الرجل المتسامح الذي يأمر بإطلاق سراح الأسرى، وتصور قادته بأنهم ذوو مهارات عسكرية خارقة، ومقاتلون متميزون مخلصون، يرفضون خيانة قائدهم ومصرهم، ومستعدون لبذل أرواحهم ثمنا لانتصاراتهم، وتصور معاوية، في المقابل، بالرجل الذي فرط بدماء المسلمين، ويرفض الاستجابة لدعوات علي المتكررة بالموادعة ووقف القتال، ويحث قواته على القتل والتنكيل، ويفتقد إلى المزايا العسكرية التي تؤهله ليكون قائدًا، فهو يخشى مبارزة علي، وسرعان ما يفكر بالفرار من ساحة المعركة عندما يشتد ضغط الجبهة العراقية على قواته، ولا يشارك معسكره في القتال بل "يجلس وعلى رأسه رجل قائم، معه ترس ذهب يستره من الشمس، وهو إنسان مخادع عديم الرحمة، يعرض الرشوة باستمرار على قيادات علي وجنده بهدف سلخهم واستقطابهم، كما أنه يرفض دفن جثث القتلى العراقيين، ويدعو إلى قتل الأسرى، وتتصف قيادات عسكره بالجبن والخداع، وفي مقدمتهم عمرو بن العاص الذي اقترح فكرة رفع المصاحف بهدف وقف القتال بعد أن مالت كفة المعركة لصالح علي، وتصف قبائل الشام بالمترددة؛ لأنها لا تقاتل عن إيمان، وإنما تقاتل عن حمية، وأبرزت أن موازين القوى في ساحة المعركة كانت لصالح علي في حين أن معسكر معاوية كان على وشك الهزيمة1. والواقع أن هذا الأمر لا يمكن قبوله، وبخاصة أن مختلف الروايات قدمت معلومات مهمة عن الأوضاع الصعبة التي كان يعانيها طرفًا القتال في المعركة. التحكيم وظهور فرقة المحكمة: كان رفع المصاحف من قبل مقاتلي أهل الشام بمثابة دعوة إلى التعقل، ووقف القتال بين المسلمين، واتخاذ القرآن حكمًا بين الطرفين المتخاصمين "كتاب الله

_ 1 ابن قتيبة: ج1 ص88، 89، 95، 103. البلاذري: ج3 ص81، 82، 110. الطبري: ج4 ص469-572، ج5 ص5-56. المسعودي: ج1 ص386، اليعقوبي: ج1 ص87-89. ابن مزاحم: ص191، 258، 259، 334.

يحكم بيننا وبينكم"، وسوف يترتب على ذلك مسألتان مترابطتان، ومتعاقبتان في الزمن الأولى وقف القتال، والثانية اللجوء إلى التحكيم، وإذا كنا قد تحدثنا عن المسألة الأولى، فسوف نبحث هنا المسألة الثانية. والواقع أن رغبة السلام كانت قوية لدى غالبية جيش علي لدرجة أن هؤلاء تقبلوا المفاوضات الأولية التي جرت بين الأشعث، ومعاوية لوضع أسس التحكيم التي آلت إلى اختيار حكمين للنظر في الخلاف بمقتضى القرآن، ويبدو أن هذه القضية هي التي أثارت عامة القراء أو بعضهم، ودفعتهم إلى رفضها. وهكذا تبدل موقفهم مباشرة بعد اتفاق الطرفين على قبول وقف الحرب، وقبل الخوض في التفاصيل الخاصة بعملية التحكيم، وقد بلغ عدد الرافضين زهاء أربعة آلاف "من ذوي بصائرهم، والعبّاد منهم"1. والراجح أن هؤلاء الرافضين لمبدأ التحكيم، اعتقدوا، حين امتثلوا لحكم القرآن، أن دورا ما سيوكل إليه لإصدار الحكم من خلال مضمونه، مع رفضهم تدخل البشر في هذا الحكم، أو أنهم كانوا يطرحون مسبقًا أن القرآن يدين معاوية؛ لأنه يمثل الفئة الباغية، ولا بد من قتاله، وأن رفعه المصاحف كان نوعًا من الاستسلام2، أو أنهم أدركوا أنهم تسعروا كثيرًا في هذا الأمر الذي حمل في طياته بشائر النصر لمعاوية، مما يهدد مصالحهم بشكل أعظم من ذي قبل، ومنذ هذه اللحظة حصل حصل الانقسام في جيش علي2. وعندما جال الأشعث بن قيس بين المقاتلين ليروج لفكرة التحكيم، تعرض للاغتيال، حيث اندفع الرافضون أمامه يصرخون أمامه يصرخون في وجهه "لا حكم إلا الله"، فعرفوا بالمحكمة، وأعلنوا توبتهم عن قبول وقف القتال، وطالبوا عليًا أن يستأنف الحرب3. ومهما يكن من أمر، فئقد جرى اختيار حكمين هما: أبو موسى الأشعري ممثلًا عن أهل العراق، وعمرو بن العاص ممثلًا عن أهل الشام، وإذا كان هذا الأخير يعد حليفًا قويًا لمعاوية، فإن الأول يجسد التوجه الحيادي الذي لازمه في الكوفة من قبل، حين دعا الكوفيين إلى عدم مبايعة علي الذي عزله، كما كان قد حذر من الفتنة، والواقع أنه فرض على علي من جانب الأشتر، وأغلبية المقاتلين الذين عارضوا رغبته في اختيار عبد الله بن عباس، ويبدو أن لذلك علاقة بمدى قرابته.

_ 1 البلاذري: ج3: ص112. 2 المصدر نفسه: جعيط: ص210. 3 الطبري: ج5 ص55.

منه، بالإضافة إلى أنه رجل تقي يثق به أهل العراق، وأهل الشام، وهو على مسافة واحدة من كلا الطرفين المتنازعين1. والواضح أن اختيار أبي موسى الأشعري أحدث نقلة نوعية سلبية في الصراع، وشكل منعطفًا حاسمًا في موقف جيش العراق، وذلك بفعل أنه تحول إلى الحياد في النزاع بين علي ومعاوية، وهو الموقف القديم للكوفيين الذين تنكروا لعلي في وقعة الجمل، ويبدو أن هذا الانقلاب جاء نتيجة خيبة أمل العراقيين من تحقيق النصر. وثيقة التحكيم: كتب الطرفان بينهما وثيقة التحكيم يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من شهر صفر عام 37هـ، كتبها عبد الله بن رافع، كاتب علي، وعمير بن عباد الكناني، كاتب معاوية، وتتضمن تسليم الطرفين المتنازعين أمرهما لحكم القرآن، وأن الحكمين المذكورين في النص2، ملزمان بالتقيد بحكم القرآن أيضًا، وحدد الأجل بثمانية أشهر ينتهي في شهر "رمضان 37هـ/ شباط 658م"، وبقي مكان اللقاء غامضًا "مكان وسط بين أهل الكوفة، وأهل الشام"، قبل أن يتأرجح بين دومة الجندل، وأذرح الأكثر توسطًا3، والملفت في هذه الوثيقة أمران: الأول: أنها تجاهلت القضية الأساسية التي ارتكز عليها صراع علي ومعاوية، وهي القصاص من قتلة عثمان، ويبدو أن معاوية نجح في تحويل المسألة إلى قضية سياسية بينه، وبين علي في الصراع على السلطة، وعلى هذا النحو سيتطور التحكيم. الثاني: رفض معاوية كتابة "أمير المؤمنين" بجانب اسم علي، لعدم اعترافه بذلك، ولم يصر علي على ذلك مما عد تنازلًا منه عن الخلافة؛ لأنه وضع نفسه على قدم المساواة مع معاوية، ولم يعد سوى رئيس العراقيين وشيعتهم، تمامًا مثلما كان معاوية زعيم أهل الشام وشيعتهم، وقد أتاحت هذه الخطوة طرح مصطلح الشورى، وعزز من إصرار معاوية على تطوير محاور صراعه مع علي، وأعطاه غطاء شرعيًا للخروج على خلافته، وعدم الاعتراف بها4. وهكذا، من خلال حلقات جاءت متعاقبة، ومتداخلة بدءًا بقبول التحكيم إلى فرض أبي موسى الأشعري ممثلًا له، إلى التخلي عن إمرة المؤمنين؛ كان علي يفقد

_ 1 الطبري: ج5 ص51. ابن قتيبة: ج1 ص105. ابن مزاحم: ص499. المسعودي: ج2 ص412. 2 انظر النص عند الطبري: ج5 ص53، 54، 56، 57. 3 المصدر نفسه: ص54-57. 4 ملحم: ص280.

أوراقه تباعًا، ويتراجع إلى أن يصبح ومعاوية ندين متنافسيين على الخلافة، بعد أن كان قبل ذلك يقاتله بوصفه خارجًا على حكمه1. ودعا علي قواته بعد يومين من إنجاز وثيقة التحكيم، للعودة إلى الكوفة، بعد أن أمر بدفن القتلى، وإطلاق سراح الأسرى، فعاد إلى الكوفة في شهر "ربيع الأول 37هـ/ تموز-آب 657م"2. محاورة المحكمة، وظهور فرقة الخوراج: لم يكن الرافضون للتحكيم قد لقبوا بعد بالخوارج، فإنهم لم يكن قد انفصلوا عن جيش علي حين غادر صفين عائدًا إلى الكوفة، غير أن عودتهم كانت مفعمة بالنقاشات العنيفة والمشادات، فقد رجعوا متباغضين، أعداء يتشاتمون ويتضاربون بالسياط، وأقبل بعضهم يتبرأ من بعض، الأخ من أخيه، والابن من أبيه3، متجاوزين روابطهم العائلية، والقبلية والإقليمية من أجل رابطة أخرى، عقدية، كاهتداء شخصي إلى الحقيقة، وخرق لرواسب الدم؛ مما يدل على عمق تأثير الحادثة في نفوسهم، وقد عبروا عن رفضهم بشعار: "لا حكم إلا لله، الذي سيصبح بدءًا من تلك اللحظة وعلى امتداد قرون، الشعار الأساسي للخوارج، والقاعدة التي ستقوم عليها عقيدتهم، وقد ورد تفسير هذا الشعار في العديد من الدراسات4، ويتفق معظم الباحثين على القول: إنه يعبر عن رفض هذه الجماعة للتحكيم بوصفه من اختصاصات الله وحده، ولا يحق للبشر أن يتدخلوا فيه، ويتوافق هذا التفسير مع المدلول اللغوي لكلمة "حكم" بمعنى القضاء وفصل النزاع، ومع ما ذكره القراء أثناء النقاش الذي دار بينهم، وبين ابن عباس، وعلي بعد صفين. والواقع أن الجماعة الرافضة للتحكيم، انفصلت عن جسم الجيش العراقي عندما وصل إلى الكوفة، وتوجهت إلى حروراء5، واستقرت فيها معلنة رفضها الإقامة في المصر مع الخليفة الذي لم يلب مطالبها حيث بدأ يتبلور مفهوم "الخروج" بمعنى مغادرة المكان الذي يقيم فيه المخالفون6، ومن هنا تسميتهم بالحرورية.

_ 1 بيضون: ص86. 2 البلاذر ي: ج3 ص111. 3 المصدر نفسه: ص114، 115. الطبري: ج5 ص63. اليعقوبي: ج2 ص91. المسعودي: ج3 ص143، 144. 4 انظر البكاي: ص28، 29. 5 حروراء: قرية من قرى الكوفة على بعد ميلين منها، الحموي: ج2 ص245. 6 البكاي: ص29.

والواضح أن هؤلاء قاموا بنشر معتقداتهم بطريقة جيدة، وبفعل حججهم المقنعة، ومن واقع إعادة قراءة كالمة لأحداث الفتنة، استقطبوا عددًا آخر من المقاتلين العراقيين من خارج دائرة القراء، كانوا في البداية مع التحكيم، فأضحى عددهم اثني عشر ألف رجل1، والمعروف أن عددهم في بداية تحركهم لم يتجاوز أربعة آلاف رجل، مما يدل على اتساع دائرة الرفض للتحكيم. واختار الحرورية عند استقرارهم في حروراء أميرًا على الصلاة هو عبد الله بن الكواء اليشكري، وآخر على الحرب هو شبث بن ربعي التميمي2، ويدل ذلك على استعدادهم للمواجهة العسكرية إذا دعت الضرورة، ويذكر أن استعمال القوة لمواجهة المخالفين أضحى أمرًا مألوفًا منذ مقتل عثمان، كما رفعوا شعارات جديدة مثل: "الأمر شورى بعد الفتح"، و"البيعة لله عز وجل" و "الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر"3، وهو ما تميزوا به على المستوى الفكري، أما على المستوى السياسي، فإن مرحلة حروراء سوف تغدو هامة لحاضرهم ومستقبلهم. قد تبدو تلك الشعارات المطروحة متقدمة على الخلافة ذاتها، لا سيما رفضهم الضمني لسيادة قريش عندما اختاروا عبد الله بن وهب الراسبي، وهو أزدي من اليمن، خليفة عليهم4، متجاوزين لأول مرة القاعدة المتداولة منذ بيعة السقيفة، فهل يمكن ربط التوجه الاقتصادي، والسياسي لهؤلاء بما جرى من أحداث سابقة حين ثارت القبائل التي انفصلوا عنها على الخلافة، مطالبين بحقوقهم التي شعروا بانتهاك الولاة لها؟ 5. الواقع أن الثورة التي اندلعت في الكوفة في عام 33هـ، تحمل في طياتها البذرة الجنينية للثورة على سلطة قريش في ظل خلافة عثمان، من خلال مشاركة الخوارج، أو بعضهم في هذه الثورة، وإذا كان علي قد نجح في استقطاب هذه القبائل الثائرة بعد تلك الفتنة، فإن ذلك كان آنيًا فقط، وتمكن من امتصاص نقمتها حين شغلها بالحروب، من هذه الرؤية التي تنطوي على شيء من الحقيقة يمكن تفسير موقف الخوراج من التحكيم، على الرغم من أنهم شكلوا حركة سياسية مختلفة اتخذت التطرف الديني منهجًا لاستقطاب الأتباع، وفرض آرائها بالقوة6.

_ 1 الطبري: ج5 ص63. 2 المصدر نفسه. 3 المصدر نفسه: البكاي: ص30، 31. 4 المصدر نفسه: ص75. 5 بيضون: ص91. 6 بيضون: ص91-93.

ومهما يكن من أمر، فقد أقلقت الحرورية عليًا، لذلك حاول إقناعهم بالحجة للعودة إلى الكوفة، فأرسل إليهم عبد الله بن عباس، ثم انتقل بنفسه إلى حروراء، وتمدنا روايات المصادر بتفاصيل مسهبة عن المناظرات، والنقاشات التي دارت بينهم، وبين مبعوث علي، ثم بينهم وبين علي نفسه1، والتي أسفرت عن اقتناعهم، فعاد معظمهم إلى الكوفة وبخاصة العناصر القيادية، منهم مثل عبد الله بن الكواء اليشكري أمير الصلاة، وشبث بن ربعي أمير الحرب، ويزيد بن قيس الأرجحي رأس الجماعة2. ويبدو واضحًا من خلال تتبع أسماء العائدين أنهم من العناصر اليمنية التي أيدت عليًا، من النخع ومذحج وهمدان وغيرها، وبذلك أضحى أبناء القبائل الأخرى، وبخاصة تميم يشكلون الأغلبية في المجموعة المتبقية، وقد افتقر هؤلاء للشرف القبلي وللزعامة السياسية، هذا بالإضافة إلى بقاء خمسة عناصر من اليمنية في حروراء من بينهم عبد الله بن وهب الراسبي الذي ستختاره المجموعة لقيادتها، مما دفع بعض الباحثين إلى وصف الحرورية بأنها حركة بدو تزعمها أعراب يرفضون، بحكم طبيعتهم البدوية، الخضوع للحكم المنظم3. ويحتمل أن يكون العائدون قد اشترطوا على علي، للعودة إلى الكوفة، إقراره بذنبه في قبول التحكيم، وإعلان توبته، وتذكر المصادر الخارجية، أنه عبر بالفعل عن توبته، كما وعدهم باستئناف الحرب ضد معاوية بعد أن يجبي المال ويسمن الكراع، وأكدت المصادر غير الخارجية ذلك، لكن ختمت الرواية بالقول: "ولسنا نأخذ بقولهم، وقد كذبوا"4. لم تدم إقامة الحرورية -المحكمة- في الكوفة طويلًا، فقد تعرض علي لضغط من قبل الأشعث والأشراف، أو أنه لم يشأ أن يتنصل من التزاماته، وتعهداته تجاه أهل الشام، فتراجع عن تعهداته تجاه الحرورية، مقدرًا أن تبقى حركتهم محصورة في نطاق نواتها المتشددة بعد أن استقطب سوادها، وكان قراره بإرسال أبي موسى الأشعري لإتمام إجراءات التحكيم، كافيًا لتفجير الوضع من جديد. وفعلًا، فقد اتخذ الخلاف في هذه المرحلة بعدًا أكثر عنفًا، حين راح الحرورية

_ 1 الطبري: ج5 ص65، 66. البلاذري: ج3 ص122، 123، 127-129. 2 الطبري: المصدر نفسه. 3 الدوري: مقدمة في تاريخ صدر الإسلام ص131. أمين: ص261. وقارن بالبكاي ص33. 4 الطبري: ج5 ص66.

يجاهرون برفضهم للتحكيم في الأماكن العامة، وفي المسجد الجامع، كما كانوا يقاطعون خطب الخليفة، ويستفزونه برفع شعاراتهم، واتهموه بالكفر والشرك، وتمادوا حين هددوه بالقتل1. واجه علي هذه التصرفات بصبر كبير، ولم يحاول، على الرغم من هذه الاستفزازات، إنزال العقاب بهم، كما لم يمنعهم الفيء، ودخول المساجد ولم يتصد لهم ما لم يفسكوا دمًا2، مبررًا تصرفه بحرصه الشديد على تجاوز الخلافات، وتجنب حصول انقسام في معسكر؛ لأن من شأن ذلك أن يضعف موقفه في مواجهة خصمه الرئيسي معاوية. وبعد أن فشلت محاولات ثنية عن قراره عقد الحرورية اجتماعات مكثفة في منازل عبد الله بن وهب الراسي، وشريح بن أوفى العبسي، وزيد بن حصين الطائي3، وقرروا الخروج من الكوفة، وظهرت أفكار جديدة عبرت عنها هذه الجماعة، فقد شبهت الخروج من الكوفة بهجرة الرسول من مكة إلى المدينة، وابتعاده عن كفار قريش4، من هنا تسمية الخوارج أنفسهم بالمهاجرين، وتسمية الكوفة بالقرية الظالم أهلها، كما كفروا المخالفين لهم وتبرأوا منهم. وهكذا، فبعد أن شمل التكفير في حروراء معاوية وأنصاره، أضحى، بعد قرار إجراء التحكيم، يشمل الخليفة وأتباعه5. والواقع أن ربط الحرورية مواقفهم السياسية بالدين، سيدفعهم إلى تبني فكرة الخطأ الديني، وتكفير من يخالفهم ومحاربتهم، وسيعدون ذلك واجبًا مقدسًا؛ لأنهم "أهل الحق"6، ولعل أوضح الأمثلة على ذلك هو إعدامهم الصحابي عبد الله بن خباب، وامرأته بعد محاكمة سريعة7. مؤتمر التحكيم ونتائجه: عقد الحكمان اجتماعًا واحدًا في أذرح في شهر "محرم 38هـ/ حزيران 658م"، وأحاط بكل واحد منهما قوة عسكرية من أعوانه، مؤلفه من أربعمائة شخص كنوع من الحراسة، رأس القوة العراقية شريح بن هانئ في حين قاد عمرو بن العاص القوة الشامية8.

_ 1 الطبري: ج5: ص72-75. 2 المصدر نفسه: ص74. 3 المصدر نفسه. 4 المصدر نفسه: ص75. 5 البلاذري: ج3 ص131. 6 البكاي: ص36. 7 الطبري: ج5 ص81، 82. 8 المصدر نفسه: ص67. البلاذري: ج3 ص117.

ودعي عدد من كبار الشخصيات الإسلامية لحضور المناظرة التي ستدور بين الرجلين، مثل: المغيرة بن شعبة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، لكن غاب عن المؤتمر سعد بن أبي وقاص، وهو أحد أعضاء الشورى مع علي، والوحيد الذي كان لا يزال حيًا، كما غاب المحايدون الآخرون من ضمنهم أصدقاء عثمان، مثل: محمد بن مسلمة، وزيد بن ثابت وأسامة بن زيد1، ورفض علي القدوم بسبب ضرورة بقائه في العراق، وربما يكون معاوية قد حضر المؤتمر. وجرت مناظرة بين الرجلين تمحورت حول مسألتين: الأولى: تتعلق بتحديد ما إذا كان عثمان قد قتل مظلومًا، وقد وافق أبو موسى ممثل علي على ذلك، واعترف بظلامة القتل، وأوضح عمرو على أحقية معاوية في المطالبة بدمه؛ لأنه وليه وقريبه، وقد وافق أبو موسى أيضًا على ذلك، واعترف أمام الجميع أن عثمان قتل مظلومًا، وأنه يجب قتل قتلته، وأكد أن معاوية هو من أوليائه، ومن حقه المطالبة بدمه ومعاقبة قتلته، وربما لم يكن يتوقع إسقاط هذا الأمر على مسألة الخلافة بعد ذلك2. الثانية: تتعلق بالشخص المرشح للخلافة، فاقترح عمرو مبايعة معاوية بالخلافة، فهو من بيت شريف، وصحابي وختن رسول الله، وقريب عثمان، والمطالب بدمه، فرفض أبو موسى الاقتراح من واقع رفضه لفكرة الوراثة الأسرية، بالإضافة إلى أن انتخاب الخليفة لا يتم وفقًا للشرف الاجتماعي، بل إن معيار ذلك هو التقوى، والفضل: "فإني لم أكن لأليه معاوية، وأدع المهاجرين الأولين"3 مبديًا استعداده للخروج عن الخطط المحدد له، وذلك بدافع كره الفتنة، وبالانسجام مع منطقه الخاص وموقفه السياسي وعلى الرغم من معارضته الضمنية لعلي، فإن ذلك لم يؤد به إلى إيثار معاوية عليه، أو اختياره بديلًا عنه، وفي ضوء هذا الموقف يمكن تفسير دعوته إلى إحياء اسم عمر بن الخطاب " ... ولكنك إن شئت أحيينا اسم عمر بن الخطاب"، ملمحًا إلى عبد الله بن عمر، الرجل الذي لم يشترك في الفتنة، فرفض عمرو ترشيح ابن عمر، وقدم ابنه عبد الله، فرد عليه أبو موسى بالرفض قائلًا: "إن ابنك رجل صدق، ولكنك قد غمسته في هذه الفتنة"4، وجدد اقتراحه بترشيح ابن عمر، ورفض عمرو مرة أخرى مثل هذا الترشيح بسبب عدم الأهلية، "إن هذا الأمر

_ 1 الطبري: ج5 ص67. البلاذري: ج3 ص117. 2 الطبري: ج5 ص68. 3 المصدر نفسه. 4 المصدر نفسه.

لا يصلحه إلا رجل له ضرس1، يأكل ويطعم، وكانت في ابن عمر غفلة"1. وهكذا، فإن الحكمين انحرفًا عن هدف المؤتمر، وهو إنهاء حالة الحرب بين المسلمين، والتوصل إلى اتفاق يضع حدًا لانقسامهم، وانتهت المناظرة عند هذا الحد، وافترق الحكمان دون التوصل إلى نتيجة إيجابية، فعاد عمرو إلى معاوية، وغضب أبو موسى، واتخذ طريقه إلى مكة حتى لا يواجه غضب علي بسبب تغييبه بشكل كامل، وتجاهله له على امتداد المناظرة مع إصراره على رفض معاوية، وهو كان يرغب في إيجاد مخرج لتجاوز الفتنة، واتهم عمر بالانحياز2. ومن المحتمل أن يكون أبو موسى قد ترك الأمر شورى بين المسلمين يختارون لأنفسهم من أحبوا3، بعدما حاول جمع المسلمين حول اسم ابن عمر، إذ إن دراسة أسباب تمرد الخريت بن راشد في عام "38هـ/ 659م" ضد علي يدعم، إلى حد ما، هذا الاحتمال، حين قال له: "لأنك حكمت في الكتاب، وضعفت عن الحق، إذ جد الجد، وركنت إلى القوم الذين ظلموا أنفسهم، فأنا عليك زارٍ، وعليهم ناقم"4. فهل الحق الذي ضعف عنه علي هو أنه لم يقبل حكم أبي موسى الذي يقضي بترك اختيار الخليفة إلى الشورى بين المسلمين؟ وبخاصة أن الخريت أكد أنه لم يرض عليًا، ولا سيرته "فرأيت أن أعتزل، وأكون مع من يدعو إلى الشورى من الناس"5. وربما أدى إصرار عمرو على ترشيح معاوية إلى وقوع الخلاف، لكن ما الذي يبرر تصرف كهذا مع خلو الوثيقة إلى ما يشير إلى ذلك، والحكمان ليسا مجلس شورى؟ والواقع أن هناك أمرًا لا يمكن تجاهله، وقد ورد في وثيقة التحكيم، وهو قبول علي بمحو لقبه كأمير للمؤمنين، مما جعله يتساوى مع معاوية، أو مع أي شخص آخر. وهكذا شغر منصب الخلافة، نظريًا على الأقل، ورأى الحكمان أن من واجبهما التدخل لملئه، لكن ذلك لم يؤد إلا إلى توسيع المسافة بين الخصمين من واقع وجود قوتين متنازعتين، قوة أهل العراق وقوة أهل الشام، وعلى رأس كل قوة رئيس معترف به، مما شكل وضعًا لا يمكن تجاوزه، لذلك كان التحكيم شأنًا شكليًا، يسوغ وقف القتال، ويبرر الوحدة الضمنية للمسلمين6.

_ 1 الطبري: ج5 ص69. 2 المصدر نفسه: ص70، 71. 3 المصدر نفسه: ص70. 4 المصدر نفسه: ص114. 5 البلاذري: ج3 ص178. 6 جعيط: ص223.

ويبدو أن الأمر كان مخططًا له منذ البداية، بدليل تجاهل حقوق علي من جانب أبي موسى، وطرح عمرو ترشيح معاوية للخلافة، وقد اكتسب هذا الأخير دفعًا معنويًا في الوقت الذي أضحى فيه موقف علي ضعيفًا، وبدا وكأنه مجرد من منصبه، وصلاحياته حيث عدت الصفعة قوية لطموحاته وآماله، على الرغم من أن موقف أبي موسى كان متوقعًا، الأمر الذي دفعه إلى محاولة الإبقاء في دائرة الضوء معترفًا به كأمير المؤمنين من جانب شيعته على الأقل، ولقد نجح في ذلك إلى حد ما، لكن سلطته تعرضت للاهتزاز حتى من جانبهم، فهو غير مطاع، وغير مسموع الكلمة في مجال نفوذه. من هنا يمكن تفسير رواية أبي مخنف، التي ربما وضعت لاحقًا لإنقاذ موقف علي ودعم قضيته، تذكر الرواية أن عمرًا خدع أبا موسى بطريق الدهاء السياسي، وبخاصة تقديمه عليه في الكلام لإعلان الاتفاق الذي تواصلا إليه، وهو خلع كل من على معاوية، وترك الأمر شورى للمسلمين، وقد جاء ذلك على صيغة بيان أذاعه أبو موسى "أيها الناس، إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة، فلم نر أصلح لأمرها، ولا ألم من شعثها من أمر قد أجمع رأيي ورأي عمرو عليه؛ وهو أن نخلع عليًا ومعاوية، وتستقبل هذه الأمة هذا الأمر، فيولوا منهم من أحبوا عليهم"، فخلع أبو موسى كلًا1 من علي ومعاوية في حين خلع عمرو عليًا وثبت معاوية1، والمعروف أن هذه الرواية ارتقت إلى مستوى الخبر الشائع المقبول2. إن استعراض المصادر لأحداث التحكيم، كما أوردتها رواية أبي مخنف، يفرغه من محتواه، ويصوره حيلة محبوكة حول الشخصية الملائمة لتولي منصب الخلافة، هل هو عبد الله بن عمر أم عبد الله بن عمرو أم معاوية، دون التطرق لاسم علي بالمطلق، فكيف يتناقش الحكمان حول اسم الخليفة فقط مع أن هذا الأمر لم تتضمنه وثيقة التحكيم؟ الراجح أن الحكمين تناولا جوانب الخلاف بين علي ومعاوية، وفقًا لما تضمنته وثيقة التحكيم، الأمر الذي يؤكد بتر المصادر بعض الأجواء من الروايات التي سجلت أحداث المؤتمر، وذلك بهدف إظهار القضية بمظهر الخداع، والتآمر على علي وحقه3. والواقع أن القول بأن عمرًا خدع أبا موسى الذي سارع إلى اتهام ابن العاص بأنه

_ 1 الطبري: ج5: ص70، 71. 2 جعيط: ص223. 3 جعيط: ص221.

أحجم عن تأكيد الاتفاق بحرفيته "غدرت وفجرت"1 لا يعكس الصورة الصحيحة في الرواية التاريخية، إذ لم يكن من السهولة على عمرو أن يخدع على هذا النحو شيخًا له تجربة طويلة في السياسة مثل أبي موسى، مهما بلغت الحنكة، والبراعة في المناورة، لكن الواضح أن أبا موسى الذي اختارته الأكثرية اليمنية في جيش علي، كان غير متحمس لخوض معركة الدفاع عن شرعية الخليفة، دون أن يكون بالمقابل مقتنعًا بأهلية معاوية للخلافة، وهنا اختلف مع عمرو بشأن نظرية الرجل الثالث، إلا أن هذا الأخير ظل وفيًا لصاحبه، وما لبث أن التحق به، وسلم عليه بالخلافة2، وظلت خديعة عمرو مشهورة في التاريخ الإسلامي بوصفها فضيحة، وعارًا لا يمكن محوه، ولكن يعترف بفعاليتها، وأثرها في مجرى التاريخ الإسلامي المقبل. رد الفعل الأولي على نتيجة التحكيم: تفاوت رد الفعل الأولي على نتيجة التحكيم بين معارض، ومؤيد وفقًا لمصلحة كل طرف، فعندما نقل شريح بن هانئ، وعبد الله بن عباس إلى علي ما جرى بين الحكمين؛ لام أشياعه لإجبارهم إياه على اختيار أبي موسى الأشعري، وأوضح أنه لا سبيل إلى قتال القوم حتى تنتهي المدة المحددة، وأضاف بأن الحكمين نبذا حكم القرآن وراء ظهريهما، وأحييا ما أمات القرآن3، وكتب إلى أبي موسى: "إنك امرؤ ضللك الهوى، واستدرجك الغرور"4. وأعلن الحسن بن علي أن الحكمين أرسلا ليحكما بالقرآن على الهوى، فحكما بالهوى على القرآن، وهاجم بشدة اقتراح أبي موسى جعل الأمر لعبد الله بن عمر، مخالفًا بذلك رغبة عمر بن الخطاب الذي لم يرض ذلك لولده، ولم يره أهلًا له5. ورحب معاوية من جهته بنتيجة التحكيم، وكتب لأبي موسى، وهو في مكة يستقطبه ويستدعيه إلى بلاد الشام، "فأكره من أهل العراق ما كرهوا منك، وأقبل إلى الشام، فإني خير لك من علي، والسلام"6. وهكذا رفض علي نتيجة التحكيم من واقع أن الحكمين أظهرا خلافهما، ولم يحكما بمقتضى القرآن، ولم يستند في رفضه إلى خدعة تمت، ولا إلى عيب شكلي،

_ 1 الطبري: ج5 ص71. 2 بيضون: ص89. 3 البلاذري: ج3 ص126. ابن قتيبة: ج1 ص111-115. 4 ابن قتيبة: المصدر نفسه: ص113. 5 المصدر نفسه: ص111. 6 المصدر نفسه: ص112.

ورأى معاوية، في المقابل، في نتيجة التحكيم الوسيلة التي تقربه خطوة أخرى نحو الوصول إلى غايته.

معركة النهروان

معركة النهروان: استعدادات التجهيز: هدأت رياح الحرب بعد فشل التحكيم، ولم يكن أمام علي سوى العودة إلى القتال، وبخاصة أن التحكيم لم يسر وفق أمانيه، ولا وفق ما يعده الطريق الصحيح، وبما أنه انتهى، فوق ذلك، إلى خلاف بين الحكمين، فإنه عد نفسه متحللًا من وثيقة صفين التي تضمنت إزالة الحرب نهائيًا من قلب الأمة، ونزل بالنخيلة1 حيث اتخذها قاعدة لتجمع قواته2، لكن اعترضته عدة صعاب، فإذا كان قرار السلم قد جاء نتيجة اختراق معاوية لجيشه، وانحياز قسم كبير منه إلى التحكيم؛ فقد وجد نفسه الآن أمام انشقاق آخر تمثل بانسحاب بضعة آلاف من جيشه متذرعين بأن الحكم لله، والواقع أن الخلفة، كان يعاني إحباطًا بسبب خروج هؤلاء، وتعذر عليه تعويض النقص الذي تعرض له، وبالتالي إعادة تنظيم جيشه على نحو يؤهله لاستئناف الحرب ضد معاوية3. لذلك، حاول استرضاء الخوراج، فطلب منهم العودة إلى الكوفة للمشاركة معه في الحرب ضد معاوية، وذكرهم بالانحياز بداية إلى التحكيم "ألم تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة، وأخبرتكم أن طلب القوم إياها منكم دهن ومكيدة؟ "4، وقال لهم بأن الحكمين لم يحكما بمقتضى القرآن، وأنه يدين حكمهما، وبالتالي ليس هناك أي سبب للخلاف. لم يرفض الخوراج طلبه بشكل مباشر، وإنما شرطوا شروطًا لعودتهم هي إلى الرفض أقرب "إنك لم تغضب لربك وإنما غضبت لنفسك، فإن شهدت على نفسك بالكفر، واستقبلت التوبة، نظرنا فيما بيننا وبينك، وإلا نابذناك على السواء، إن الله لا يجب الخائنين"5، وعندما قرأ علي هذا الرد يئس منهم، ورأى أن يدعم، ويمضي بالناس إلى الشام، فقطع بذلك التحالف معهم بكشل نهائي، وحتى يعوض بعض

_ 1 النخيلة: موضع قرب الكوفة. الحموي: ج5 ص278. 2 الطبري: ج5 ص77. 3 بيضون: ص93. 4 الطبري: ج5 ص84. 5 المصدر نفسه: ص78.

النقص في صفوف قواته، طلب من عبد الله بن عباس استنفار أهل البصرة، لكن البصريين أحجموا عن تلتبية النداء على الرغم من أن اثنين من أهم أشرافهم هما الأحنف بن قيس، وجارية بن قدامة، وكلاهما من بني تميم، قد لبيا الدعوة ونفر معهما ثلاثة آلاف، ومائتا مقاتل1، وهي أعداد ضئيلة إذا ما قورنت بحجم المسجلين في ديوان أهل البصرة الذين بلغ تعدادهم ستين ألفًا سوى الأبناء، والعبيد والموالي2، مما يدل على أن عليًا قد فقد سلطته على البصرة، على الأقل فيما يختص بالجهاد معه. أثار إحجام أهل البصرة غضب علي، فكتب إلى أهل الكوفة يستنهضهم، فالكوفة قاعدته، وأهلها شيعته، فوافاه "أربعون ألفًا، وسبعة عشر ألفًا من الأبناء ممن أدرك، وثمانية آلاف من مواليهم وعبيدهم ... "، فحشد جيشًا بلغ تعداده ثمانية وستين ألفًا ومائتي مقاتل، ومع ذلك فإن هناك شكًا في تجمع كبير كهذا في النخيلة، والمعروف أن عدد الذين خاضوا معركة النهروان بلغ أربعة عشر ألف مقاتل فقط3. كانت وجهة علي بلاد الشام، غير أن تحركات الخوراج، والأعمال التي قاموا بها في العراق غيرت وجهة سيره نحو النهروان، ذلك أنهم لم يترددوا في استعمال القوة ضد كل من اعترض سبيل خروجهم من الكوفة4، كما قاتلوا عمال الولايات الذين اعترضوا اجتيازهم أراضي ولاياتهم5. خلقت هذه الأعمال جوًا من الفوضى في الكوفة، والمناطق المحيطة بها، وأظهرت إصرار الحرورية على تنفيذ ما اعتزموا عليه من الخروج على سلطة الخليفة، ومع ذلك تؤكد روايات المصادر حرصهم على تجنب المواجهة، ورغبتهم في الالتحاق بأصحابهم المجتمعين في النهروان، معتقدين أنه لا ينبغي قتال علي ولا القتال معه، واستثنت هذه الروايات مقتل عبد الله بن خباب بن الأرت على أيديهم، والتي كانت السبب في اندلاع شرارة الحرب بين علي والخوارج6؛ لأن هؤلاء رفضوا تسليم القتلة إلى علي6. وبلغ عليًا وهو يتهيأ للخروج إلى بلاد الشام مقال أتباعه "لو سار بنا إلى هذه

_ 1 الطبري: ج5 ص78. 2 ابن قتيبة: ج1 ص117. 3 البلاذري: ج3 ص146. الطبري: ج5 ص79، 80. 4 الطبري: المصدر نفسه: ص75، 76. 5 المصدر نفسه: ص76. 6 البلاذري: ج3 ص144. البكاي: ص40، 41، 44.

الحرورية فبدأنا بهم، فإذا فرغنا منهم وجهنا من وجهنا ذلك إلى المحلين"1، وقد رفض علي في بادئ الأمر هذا الاقتراح، واعتقد أن قتال أهل الشام ضرورة ملحة. وهكذا، فإن الرغبة في قتال الخوراج، راجت في صفوف المقاتلين حتى بلغت الخليفة نفسه، على الرغم من أن هؤلاء لم يقوموا بأي عمل معاد للسلطة سوى إصرارهم على الانفصال، والتجمع مع أصحابهم في مكان واحد. ويبدو أن العراقيين خشوا مواجهة أهل الشام في معركة سافرة مرة ثانية، فأرادوا تأجيل اللقباء الذي كان علي يعد له، إذ إن آثار معركة صفين، وأهوالها ومآسيها كانت لا تزال ماثلة في أذهانهم، لذلك لا يريدون تكرارها، ويسعون إلى تجنبها بترويج فكرة البدء بمحاربة الخوارج، ووصفوا ذلك بالضرورة الملحة لإقناع علي بقبولها2، واضطر علي إلى النزول عند رغبتهم مواسيًا نفسه بأن قتال الخرواج ضرورة شرعية؛ لأنهم نكثوا البيعة، وخرجوا على الطاعة. أحداث المعركة: لم يتخذ علي قراره النهائي بقتال الخوارج، إلا بعد أن استنفد معهم كافة وسائل الاستقطاب، وأتاح لهم الفرصة للتراجع، وتغيير ما بأنفسهم والتخلي عن موقفهم التمردي، باستثناء أولئك الذين ارتكبوا أعمالًا جرمية3، وفعلًا انسحبت عدة مجموعات منهم قبل بداية المعركة، فانسحب ألف ومائتان من أصل أربعة آلاف، وقد عبر فروة بن نوفل الأشجعي عن رأي المنسحبين بوضوح حين قاله لأصحابه: "والله ما أدري على أي شيء نقاتل عليًا، لا أرى إلا أن أنصرف حتى تنفيذ بصيرتي في قتاله أو اتباعه، وانصرف في خمسمائة فارس حتى نزل البندنيجين والدسكرة، وخرجت طائفة أخرى متفرقين، فنزلت الكوفة، وخرج إلى علي منهم نحو من مائة، وخرجت طائفة أخرى متفرقين فنزلت الكوفة، وخرج إلى علي منهم نحو من مائة، وكانوا أربعة آلاف، فكان الذين بقوا مع عبد الله بن وهب منهم ألفين وثمانمائة"4. تكتسب عمليات الانسحاب هذه أهمية كبيرة؛ لأنها تبين أن المجموعات المنسحبة التي تبدو، من خلال روايات المصادر، متماسكة وملتفة حول المبادئ التي نادى بها زعماؤها، لم تكن لأفرادها الدرجة نفسها من الاقتناع، والالتزام5، ولعل في تعبير فروة بن نوفل خير دليل على ذلك.

_ 1 الطبري: ج5 ص80. 2 البكاي: ص42. 3 الطبري: ج5 ص86. 4 المصدر نفسه. 5 البكاي: ص45.

كانت المعركة التي جرت في "9 صفر 38هـ/ 17 تموز 658م" خاطفة، لم تدم سوى ساعات، بدأها الخوراج بالضغط على الجيش العراقي، وبخاصة الخيالة، وقاتلوا ببسالة وبشكل متواصل، وهم يصرخون صرختهم العسكرية التي أضحت مشهورة في نضالهم المستقبلي "الرواح" الرواح إلى الجنة"، لكن الفارق العددي أدى دورًا كبيرًا في تحديد مسار المعركة الذي سرعان ما تحول لصالح العراقيين، كانت الهزيمة ثقيلة على الخوارج الذي تكبدوا خسائر فادحة، ولم ينج منهم سوى أربعمائة شخص سقطوا جرحى، وقد أمر علي بعد انتهاء المعركة، بنقلهم إلى الكوفة ومداواتهم، كما أمر بتقسيم الدواب، والسلاح بين العراقيين، ورد الرقيق والإماء إلى أهلهم، وفي المقابل، تكبد العراقيون ألفًا وثلاثمائة قتيل1. الأحداث ما بعد النهروان: تعد معركة النهروان مرحلة حاسمة في تطور الحركة الخارجية، والصراع بين علي ومعاوية، فقد استغل بعض الخارجين تنقلاتهم، في تلك المرحلة، لنشر الفكر الخارجي، واستقطاب أنصار جدد لمواجهة علي مرة ثانية، وتزعم هذه التحركات هلال بن علفة في ماسبذان، وأبو مريم السعدي في شهر زور، الذي نجح في استقطاب أربعمائة كلهم من الموالي ليس فيهم من العرب إلا خمسة، وأبو مريم سادسهم، وبذلك دخل الموالي إلى دائرة الصراع لأول مرة؛ لأن الحركة الخارجية اقتصرت حتى ذلك الوقت على المسلمين العرب2. وانتهت سلسلة هذه التحركات مع "بداية عام 39هـ/ صيف عام 659م" بنجاح علي في القضاء عليها وذلك بسبب تشتتها، لكنها ساهمت في إضعاف قواته، وزادت في عدد الناقمين عليه، وعززت في المقابل مواقع معاوية السياسية، والعسكرية من خلال توسيع دائرة نفوذ خارج بلاد الشام، كما دفعت بعض العناصر الخارجية إلى الإقدام على قتله مما خلق وضعًا جديدًا سيؤثر على الحركة الخارجية بخاصة، وعلى الأمة الإسلامية بعامة، وسيشكل خوراج القرن الأول الهجري، العدو الرئيسي للخلافة الأموية3. والواضح أن الجبهة العراقية قد اهتزت أركانها بعد الدعوة إلى التحكيم، وانهارت

_ 1 البلاذري: ج3 ص149. الطبري: ج5 ص88. ابن مزاحم: ص559. 2 البلاذري: ج3 ص241، 247، 248. 3 البكاي: ص51-53.

بعد معركة النهروان، مما شكل بداية النهاية لحكم علي، فقد انفض عنه معظم أفراد جيشه، وانسلوا من معسكره في النخيلة التي عاد إليها، وذلك بحجة الراحة، وشحذ الأسلحة "نفدت نبالنا، وكلت سيوفنا، ونضلت أسنة رماحنا، وعاد أكثرها قصدًا1، فارجع إلى مصرنا، فلنستعد بأحسن عدتنا"2. والواقع أن النصر الذي حققه علي في النهروان كان مريرًا في نفوس الكفويين، وفجر التناقضات في صفوف جيشه؛ لأن المعركة كانت بين الكوفيين أنفسهم، فتقاتل رجال من قبيلة واحدة، وعشيرة واحدة، وأسرة واحدة، وقتل الكوفيون إخوانهم وأبناءهم، وأعمامهم وأهل عشائرهم، ودفن المنتصرون موتاهم بكل ورع، وقد ذكرنا بأن الجرحى أرسلوا إلى قبائلهم لكي يعالجوا، بأمر من علي، من هنا جاء رد الفعل السلبي على مواصلة القتال. وهكذا تخلى الكوفيون عن علي في أحرج لحظات المواجهة مع معاوية، فتركوه بكل بساطة، وهم منهكون من التعب الداخلي، ومن تأنيب الضمير، ومن الاستحياء، ولم يتذمروا منه؛ لأنهم أدركوا أنه مثلهم تمامًا، تجاوزته الأحداث3. أثارت هذه التطورات غضب علي، فحنق على أهل الكوفة لخذلانهم له، وحاول استنهاضهم وحثهم على نصرته، كما أرسل الوفود إلى أطراف بلاد الشام، وأذربيجان والسواد لحشد المقاتلين، لكن جهوده لم تثمر، فأدرك عندئذ واقعه المرير، مما دفعه إلى تأجيل قراره بمهاجمة أهل الشام، واعتكف في عاصمته، وطوى مشاريع القتال بانتظار ظروف أفضل. قابل هذا التطور السلبي في مجرى الأحداث، وفي المستوى العسكري على الجبهة العراقية، التي عجزت حينذاك عن تعويض النقص في العدد، وفي الاندفاع؛ تحول إيجابي في التخطيط العسكري على الجبهة الشامية، حيث تحول معاوية من الدفاع إلى الهجوم، وبهذه الحركة كانت النهاية الفعلية للصراع الواسع على المستوى العسكري بين العراق والشام، حيث لم يملك علي أكثر من مواجهة الغارات التي أخذت تستهدف مواقعه من جانب القوات الشامية4. والواقع أن معاوية اتبع خطة تكتيكية تهدف إلى عزل علي في العراق، وإحكام الحصار عليه، ثم إثارة جبهته الداخلية، حتى القضاء عليه، فبعد السيطرة على مصر

_ 1 قصدًا: أي قطعًا منكسرة. 2 الطبري: ج5 ص89. 3 جعيط: ص233، 234. 4 بيضون: ص94-96.

التي لم تكن سوى توسع طبيعي في مجاله، وجه حملتين إلى الحجاز: الأولى بقيادة عبد الله بن مسعدة الفزاري، فشلت في دخوله، فقد انهزم عبد الله أمام المسيب بن نجبة الفزاري1، والثانية بقيادة بسر بن أرطأة, وقد تمكن من السيطرة على الحجاز2، الأمر الذي كان له تأثير سلبي بالغ على أوضاع علي، فقد أضحت مكة والمدينة تحت سيطرة خصمه مما عزز موقعه المعنوي، حيث أضحى بإمكانه التقلب بالخلافة دون حرج، وهكذا انهارت عمليًا الخلافة الراشدية3، كما انتزع ابن أرطأة اليمن من نفوذ علي، وضمه إلى نفوذ معاوية. وفيما يتعلق بهجمات معاوية على الأراضي العراقية، فيمكن تصنيفها في مجال الضغط النفسي، فمن واقع العلاقات المتوترة القائمة بين علي والكوفيين، حاول معاوية إثارة أهل البصرة لاستقطابهم، والمعروف أن علاقة البصريين بعلي لم تكن على مستوى علاقته بالكوفيين بعد الجرح الذي تسببت به وقعة الجمل، والواقع أن معاوية كان يراهن على تفكك العراق من خلال هذه الثغرة، وإضعاف قوة علي العسكرية، فقد بعث عبد الله بن عمرو الحضرمي إلى البصرة لإقناع أهلها بالانضمام إليه4، كما أن الحملات العسكرية التي أرسلها إلى عين التمر وهيت، والأنبار والمدائن تصب في هذا الاتجاه5. كان من المتوقع أن يتمخض عن العلاقة بين علي، ومعاوية التي بلغت الذروة في التوتر؛ حل معين، مؤقت أو نهائي، وتستحضرنا هنا فكرة الاتفاق على التقسيم التي أوردتها روايات المصادر، والتي عرضها معاوية وقبلها علي، وتقضي بأن يكون العراق تحت إمرة هذا الأخير، ويحتفظ معاوية ببلاد الشام على أن تتوقف رحى الحرب6. والراجح أن هذه القسمة تتعارض مع الأفكار السائدة آنذاك، وتوجهات الرجلين، بالإضافة إلى وحدة الأمة الإسلامية، لذا كان لا بد من تجدد المواجهة الشاملة. وتشددت المواقف في ظل البحث عن حل، فحين رأى معاوية أن جهوده لنسف كيان علي لم تثمر، وأنه ما زال صامدًا في العراق على الأقل، ويبدو أنه كان شديد الحرص على عدم القيام بهجوم عام، أخذ يتهيأ لإعلان نفسه خليفة في بيت المقدس، وبايعه رجاله، وقد عد ذلك تحديًا سافرًا لعلي الذي رد بتعبئة عامة ضد ما

_ 1 الطبري: ج5 ص134، 135. 2 المصدر نفسه: ص139، 140. 3 بيضون: ص94، 95. 4 الطبري: ج5 ص110. 5 المصدر نفسه: ص133، 134. 6 المصدر نفسه: ص140.

رآه محاولة لاغتصاب السلطة، وضربة موجهة إلى شرعيته، لكنه واجه عدة صعاب، فالكوفيون فقدوا القدرة على التماشي معه والدفاع عن قضيته، كما فشل زعماء القبائل في تجييش أتباعهم، وفق القراء دورهم بعد النهروان، وزال الأشعث بن قيس، ومحمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة؛ لذلك اختار علي جيلًا جديدًا ربطه بشخصه وسلطانه1، مثل مالك بن كعب الهمذاني، ومعقل نب قيس الرياحي التميمي، والمسيب بن نجبة الفزاري، وعبد الرحمن بن شريح الهمذاني، وحجر بن عدي الكندي، وسليمان بن صرد الخزاعي، كما اعتمد على أفراد أسرته، وبخاصة الفرع العباسي، فولاهم المناصب الإدارية، مثل عبد الله بن عباس والي البصرة، وأخيه عبيد الله والي اليمن، وأخيه الآخر قثم في مكة، وسهل بن حنيف من الأنصار، والي المدينة السابق، لكن هذا الالتفاف تعرض هو الاخر إلى الانحلال، ففي عام "40هـ/ 660م" غادر عبد الله بن عباس مركزه في البصرة، والتحق بمعاوية2 مثيرًا انفعال القبائل واضطرابها، وفر عبيد الله بن عباس من أمام بسر بن أرطأة، في حين كان أهل المدينة يغادرون إلى معاوية. واعتمادًا على المقاتلين الجدد، قام علي بتعبئة عامة في العراق بعامة، وفي الكوفة بخاصة، بهدف شن هجوم واسع، وشامل ضد معاوية وأهل الشام، ووضعت الخطوط العريضة لهذا المشروع الهجومي، أي إنشاء قوة ضاربة تقودها نخبة محاربة مخلصة، فيما عرف بشرطة الخميس3، لكن المشروع توقف، ولم ينفذ بسبب مقتل علي. مقتل علي4: حصل مقتل علي إثر اتفاق بين الخوارج في مكة، يقضي بقيام ثلاثة عناصر خارجية هم عبد الرحمن بن ملجم المرادي، والحجاج بن عبد الله الصريحي، وهو البراك، وعمرو بن بكر التميمي، باغتيال الأشخاص الثلاثة الذين تسببوا في انقسام المسلمين وتشتتهم، وهم علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص.

_ 1 جعيط: ص293. 2 الطبري: ج5 ص141. 3 المصدر نفسه: ص158. 4 المصدر نفسه: ص143-148، البلاذري: ج3 ص249-266، اليعقوبي: ج2 ص118، 119، ابن قتيبة: ج1 ص129-131، جعيط: ص292- 301، بيضون: ص99-102، البكاي: ص53، 54.

وتوجه كل واحد منهم إلى المدينة التي يقيم فيها صاحبه المكلف بقتله، الأول إلى الكوفة، والثاني إلى دمشق، والثالث إلى الفسطاط، وتواعدوا على تنفيذ الخطة، فجرم يوم الجمعة "17رمضان 40هـ/ 24 كانون الثاني 661م". قدم ابن ملجم إلى الكوفة، واحتك بوسطه الطبيعي، الخوارج، الذين ينتمي إليهم متكتمًا حول مشروعه، ومنتظرً الموعد المحدد، وساقته الصدفة في تلك الأثناء إلى التعرف على امرأة تدعى قطام بنت الشجنة من تيم الرباب، فشغف بها، وأراد أن يتزوحها، كانت هذه المرأة مشحونة بميل شديد للانتقام من علي الذي قتل أباها وأخاها يوم النهروان، فاشترطت عليه عدة شروط كمهر لها كان من بينها قتل علي، لكن هذا الواقع صادف مشروعًا مخططًا له، فباح لها عندئذ بسره، وأخبرها عن سبب حضوره "فوالله ما جاء بي إلى هذا المصر إلا قتل علي، فلك ما سألت". وقامت قطام بتنظيم عملية القتل، واختارت شخصًا من قومها لمساعدة ابن ملجم يدعى وردان، واستمال ابن ملجم، من جانبه، رجلًا ثانيًا يدعى شبيب بن نجدة الأشجعي الحروري، وقام بتسميم سيفه بحيث أن عليًا لا يمكنه أن ينجو حتى، ولو أصيب بجرح. وتربص الثلاثة في اليوم المحدد لعلي في المسجد، وما إن دخل وراح يدعو الناس إلى صلاة الفجر، عاجله شبيب بضربة من سيفه، لكنه أخطأه وأصاب عضادة الباب1، فأعقبه ابن ملجم بضربة أخرى، وهو يقول: "الحكم لله يا علي لا لك ولا لأصحابك"، وأصابته في جبهته وشجتها، فسال الدم على لحيته. كانت الضربة محكمة وقاتلة، وسيقضي علي ليلتين وهو يحتضر، وقبض الحاضرون على ابن ملجم، ولاذ شبيب بالفرار وتمكن من النجاة، أما وردان فانفلت في زحام الناس، لكن أدركه رجل من حضرموت وقتله. وحمل علي إلى بيته، وهو يكبر "لا إله إلا الله"، وطلب من ابنه الحسن أن يقتل ابن ملجم إن هو مات، ثم أخذ يوصي بنيه بتقوى الله، وطلب منه المسلمون أن يبايع ابنه الحسن، فأجابهم "لا آمركم ولا أنهاكم"، ثم توفي متأثرًا بجرحه، وصلى عليه ابنه الحسن، ودفنه في دار الإمارة بالكوفة، وفي رواية فيما يلي قبلة المسجد الجامع، وأخفى قبره خشية من أن ينبشه الخوراج. تلك إذن هي صورة الحادثة كما رواها الإخباريون، وعلى الرغم من تشكيك عدد

_ 1 عضادة الباب: الخشبة المنصوبة عن يمين الداخل أو شماله.

من المؤرخين بصحة بعض فصلوها إلا أن هناك إجماعًا على أن عملية الاغتيال تمت على أيدي عناصر خارجية، انتقامًا لضحايا معركة النهروان، وإذا كان صحيحًا أن هذا الاغتيال كان وليد الفتنة، فقد كان ذلك كنتيجة للتناقضات الداخلية في معسكر علي، ذلك؛ لأن الضربة ستأتي من الخوراج، والراجح أنه كان عملًا فرديًا، إذ إن حصول اتفاق مسبق بين الخوارج، وتخطيط لعملية القتل، هو أمر مستبعد بفعل: - أن معركة النهروان فرقت الخوارج وشتتتهم، فلم يبق منهم سوى مجموعات صغيرة مبعثرة في القرى. - كراهية الخوراج أسلوب الاغتيالات في مواجهة أعدائهم. - لم يكن الجو السياسي والعسكري العام آنذاك مؤاتيًا لتجديد الاضطراب الخارجي. وإذا أمكننا الحديث عن مؤامرة، فإنها قد تمت بين عدد محدود جدًا من الخوارج ولا تعبر بالضرورة عن تطلعات الحركة، أما بقية المعلومات الخاصة بعملية القتل مثل قصة الحب بين قطام وابن ملجم، والدور المزعوم للأشعث بن قيس الكندي، الذي رواه اليعقوبي، وغيرها، فقد شكك العديد من المؤرخين في صحتها. شكل اغتيال علي الضربة القاضية للدولة الراشدية، بعد أن حالت النزاعات الداخلية دون تثبيت جذورها في الأرض، وبذلك انطوت صفحة هذه الخلافة التي استلهمت من تجربة النبي الزائدة بوصفها امتدادًا لعصر النبوة.

الخاتمة

الخاتمة: أدى مقتل علي بن أبي طالب إلى انتهاء عصر من عصور الإسلام هو العصر الراشدي، وقيام عصر جديد هو العصر الأموي، استعادت الدولة خلاله وحدتها السياسية، واستأنفت الحركة الإسلامية نشاطها بعد التعثر الذي طرأ على وضعها منذ أواخر عهد عثمان بن عفان، ذلك أن انتقال الحكم من الخلفاء الراشدين إلى الأمويين في حكم الجماعة الإسلامية، يعد ثورة شاملة في التاريخ الإسلامي، ومنعطفًا مهمًا في مسيرة التطور الإسلامي، غير بشكل جذري المجتمع الإسلامي، وترك انطباعًا عميقًا في جميع نواحي الحياة السياسية، والاجتماعية والثقافية، والاقتصادية. والواقع أن مقتل علي بن أبي طالب أزال عقبة كبيرة من أمام معاوية لتولي منصب الخلافة، وإن لم يجعل بابها مفتوحًا على مصراعيه له، فقد بايع الناس الحسن بن علي متحفظين، بفعل اختلاف الآراء حول السياسة العامة، أما معاوية فقد بويع له بالخلافة في بيت المقدس من قبل أهل الشام، ودعي بأمير المؤمنين، وإن كانت الخلافة قد أعلنت له من قبل يوم اجتماع الحكمين. وتحرك معاوية بسرعة باتجاه العراق للسيطرة عليه، وبلغ ذلك الحسن وهو بالكوفة، فخرج على رأس جيش يقدر باثني عشر ألف مقاتل بقيادة قيس بن سعد، وفيهم عبد الله بن عباس، متوجهًا إلى المدائن، فلما وصل إلى ساباط شك في ولاء أتباعه بعد محاولة معاوية رشوة قائد جيشه، ونجح في استقطاب عبد الله بن عباس، فأضحى لا قبل له بمعاوية وجنده، فأدرك عندئذ أن موازين القوى السياسية، والعسكرية بين القوتين العراقية، والشامية لم تعد متكافئة، وأشفق على المسلمين من الفتن الدامية، وفضل انتهاج سياسة المفاوضات بهدف حقن دماء المسلمين، وبخاصة أنه فقد ثقته بأهل الكوفة بعد أن انسلخت جماعة منهم، وخرجت عليه واتهمته بالكفر، ثم هاجموه وجرحوه.

نتج عن المفاوضات بين الرجلين توقيع اتفاقية، خلع بموجبها الحسن نفسه من الخلافة، وسلم معاوية أمر المسلمين على أن يكون الأمر بعده شورى، وفي رواية أن الحسن آثر الصلح مع معاوية على أن يظفر بالخلافة ما كان حيًا، فإذا مات فالأمر للحسن. ودخل معاوية الكوفة على إثر ذلك، وبايعه الحسن والحسين، وعامة المسلمين، باستثناء الخوراج، وسمي ذلك العام "41هـ" عام الجماعة لاجتماع الأمة فيه على خليفة واحد، فقدمت بذلك دولة الخلافة الأموية، وأضحى معاوية خليفة المسلمين، والواقع أن هذا الانتصار الأمور بعد انتصارًا "للأرستقراطية" العربية التي استعادت تمامًا مركزها السابق، وتبوأت زعامة المسلمين.

المصادر والمراجع

المصادر والمراجع: أولًا: المصادر والمراجع باللغة العربية: أ- المصادر. - القرآن الكريم. - ابن الأثير، أبو الحسن علي ... ابن عبد الواحد الشيباني المعروف بابن الأثير الجرزي: الكامل في التاريخ تحقيق عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي بيروت ط1 1997م. - الأزدي، لوط بن يحيى، أبو مخنف: فتوح الشام، مؤسسة سجل العرب، القاهرة 1970م. - الأصفهاني، أبو الفرج علي بن الحسين: كتاب الأغاني: ج15 مؤسسة جمال للطباعة والنشر. بيروت. - ابن أعثم، أبو محمد أحمد: كتاب الفتوح، دار الكتب العلمية بيروت ط1، 1986م. - الأموي: ابن إسحاق: كتاب فتوح مصر وأعمالها. القاهرة 1275هـ. - ابن البطريق، سعيد: التاريخ المجموع على التحقيق والتصديق: مطبعة الآباء اليسوعيين، بيروت 1905م. - البسوي، أبو يوسف يعقوب بن سفيان: المعركة والتاريخ، تحقيق أكرم ضياء العمري، بغداد 1974-1976م. - البغدادي، عبد القاهر بن طاهر بن محمد: الفرق بين الفرق، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة محمد علي صبيح القاهرة. - البلاذري، أبو العباس أحمد بن يحيى بن جابر: فتوح البلدان: تحقيق رضوان محمد رضوان. دار الكتب العلمية، بيروت 1991م. أنساب الأشراف، تحقيق سهيل زكا ورياض زركلي. دار الفكر، بيروت ط21، 1996م. - البلخي، أبو زيد أحمد بن سهل: كتاب البدء والتاريخ، تحقيق خليل عمران المنصور. دار الكتب العلمية، بيروت ط1، 1997م. - الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر: العثمانية، تحقيق محمد عبد السلام هارون، القاهرة 1955م. - ابن أبي الحديد، أبو حامد عز الدين عبد الحميد: شرح نهج البلاغة شرح محمد عبده بيروت 1986م.

- الحموي، شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت: معجم البلدان، دار صادر -دار بيروت، 1979م. - ابن خلدون، عبد الرحمن محمد: تاريخ العبر وديوان المبتدأ والخبر ... المعروف بتاريخ ابن خلدون، مؤسسة جمال للطباعة والنشر، بيروت 1979م. - ابن خلكان، أبو العباس شمس الدين أحمد: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، دار الثقافة بيروت 1986-1971. - خليفة بن خياط، أبو عمرو بن خياط بن أبي هبيرة الليثي العصفري: تاريخ خليفة بن خياط، تحقيق مصطفى فواز وحكمت فواز، دار الكتب العلمية، بيروت ط1، 1995م. - الدارقطني: سنن الدارقطني، عالم الكتب بيروت ط2، 1402هـ. - دائرة المعارف الإسلامية: دار المعرفة، بيروت-الشارقة. - السجستاني، عبد الله بن سليمان الأشعث بن إسحاق، المصاحف، القاهرة المطبعة الرحمانية ط1، 1355هـ. - ابن سلام، أبو عبيد القاسم، كتاب الأموال: تحقيق محمد حامد الفقي، القاهرة 1353هـ. - ابن سعد، محمد: الطبقات الكبرى، دار صادر بيروت. - السهيلي، أبو القاسم عبد الرحمن، الخثعمي: الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام، تقديم طه عبد الرءوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة. - السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر جمال الدين: تاريخ الخلفاء أمراء المؤمنين القائمين بأمر الأمة، تحقيق: أحمد زهوة وسعيد العبد، دار الكتاب العربي بيروت ط1، 1999م. - الإمام الشافعي: الأم، ط1، 1322هـ. - ابن شبة، أبو زيد عمر: تاريخ المدينة المنورة، تحقيق محمد شلتوت، دار التراث، والدار الإسلامية بيروت ط1، 1990م. - الشهرستاني، أبو الفتح محمد عبد الكريم: الملل والنحل، تحقيق عبد العزيز محمد الوكيل، مؤسسة الحلبي وشركاه، القاهرة. - ابن طباطبا، محمد بن علي المعروف بابن الطقطقا: الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية، مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح، القاهرة. - الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير: تاريخ الرسل والملوك، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف مصر 1960م. - ابن عساكر، أبو القاسم علي بن الحسن: تاريخ مدينة دمشق، دار الفكر بيروت 1995م. - ابن عبد الحكم، أبو القاسم عبد الرحمن: فتوح مصر وأخبارها، تحقيق محمد الحجيري، دار الفكر بيروت ط1، 1996م. - العسقلاني، الحافظ شهاب الدين أبو الفضل المعروف بابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة، القاهرة 1323هـ. فتح الباري بشرح البخاري، شركة ومكتبة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة 1959م.

- أبو الفداء، عماد الدين إسماعيل بن محمد: المختصر في أخبار البشر، المطبعة الحسينية، القاهرة. - الفردوسي، أبو القاسم: الشاهنامة، ترجمها نثرًا الفتح بن علي البنداري، حققها وعلق عليها عبد الوهاب عزام، طهران 1970م. - ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم: الإمامة والسياسة، تحقيق خليل المنصور، دار الكتب العلمية بيروت ط1، 1977. - ابن كثير، الحافظ عماد الدين أبو الفدا: تفسير القرآن العظيم، دار المعرفة، بيروت، 1980م. البداية والنهاية، دار المعارف، بيروت ط2، 1977م. - الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري: الأحكام السلطانية والولايات الدينية، دار الكتب العلمية بيروت. - ابن مزاحم، نصر "المنقري": كتاب وقعة صفين، تحقيق محمد عبد السلام هارون القاهرة 1981م. - المسعودي، أبو الحسن علي بن الحسين: مروج الذهب ومعادن الجوهر، دار الأندلس بيروت 1973م. التنبيه والإشراف، مكتبة المثنى، بغداد. - مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجاج: صحيح مسلم بشرح النووي، تحقيق خليل مأمون شيحا، بيروت، دار المعرفة. - المقدسي، محمد بن أحمد البشاري: أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، تحقيق محمد مخزوم، دار إحياء التراث العربي، بيروت 1987م. - المقريزي، تقي الدين أبو العباس أحمد بن علي: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، تحقيق خليل المنصور، دار الكتب العلمية، بيروت ط1، 1998م. - الملطي، أبو الحسين: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، تحقيق محمد زاهد الكوثري، مكتبة المثنى، بغداد -مكتبة المعارف، بيروت. - ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد: لسان العرب، دار صادر بيروت. - النوبري، شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب: نهاية الأرب في فنون الأدب ج6، الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة. - ابن هشام: عبد الملك بن هشام بن أيوب: السيرة النبوية، على هامش الروض الأنف للسهيلي، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة. - الهمذاني، الحسن بن أحمد بن يعقوب: صفة جزيرة العرب، الرياض 1974. - الواقدي، محمد بن عمر بن واقد: كتاب المغازي، تحقيق مارسدن جونس، عالم الكتب، بيروت، فتوح الشام، دار الجيل، بيروت. - اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب، بن واضح: تاريخ اليعقوبي، تحقيق عبد الأمير مهنا، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت ط1، 1993م. - أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم: كتاب الخراج، دار المعرفة، بيروت.

ب- المراجع: - إبراهيم، أيمن: الإسلام، والسلطان، والملك، دار الحصاد للنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 1998م. - أربري، أ. ج: تراث فارس، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي القاهرة 1959م. - أرشيبالد، لويس: القوى البحرية والتجارية في حوض البحر المتوسط، ترجمة أحمد محمد عيسى، مكتبة النهضة المصرية. - أمين، أحمد: فجر الإسلام، بيروت، 1969. - الأنبا بيشوي: مجمعا أفسس وخلقدونية، مقال في كتاب: المسيحية عبر تاريخها في المشرق، مجلس كنائس الشرق الأوسط، ط1، 2001. - الأفغاني، سعيد: عائشة والسياسة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1947م. - بتلر، ألفرد. ج: فتح العرب لمصر، تعريب محمد فريد أبو حديد، مكتبة مدبولي، القاهرة. - براون، إدوارد: تاريخ الأدب في إيران، ترجمة أحمد حلمي، جامعة الكويت. - البكاي، لطيفة: حركة الخوراج، نشأتها وتطورها إلى نهاية العهد الأموي، دار الطليعة، بيروت، ط1، 2001. - بيضون، إبراهيم: ملامح التيارات السياسية في القرن الأول الهجري، دار النهضة العربية، بيروت 1979. حملة مؤتة، مقاربة للمشروع السياسي الأول للدولة الإسلامية في بلاد الشام، بحث في كتاب: المؤتمر الدولة الرابع لتاريخ بلاد الشام، عمان 1987م. دولة الرسول في المدينة، بحث في كتاب: المؤتمر الدولة الرابع لتاريخ بلاد الشام، عمان 1987م. الإمام علي في رؤية النهج ورواية التاريخ، بيسان للنشر والتوزيع والإعلام، بيروت ط1، 1999م. - تدمري، عمر عبد السلام: لبنان من الفتح الإسلامي حتى سقوط الدولة الأموية، جروس برس، طرابلس، لبنان، ط1، 1990م. - تاريخ طرابلس السياسي والحضاري عبر العصور، الجزء الأول، مؤسسة الرسالة -دار الإيمان، بيروت ط2، 1984. - تروبو، جيرارد: المسيحية في العقود الإسلامية الأولى، بحث في كتاب: المسيحية عبر تاريخها في المشرق، مجلس كنائس الشرق الأوسط، ط1، 2001. - جعيط، هشام: الفتنة، دار الطليعة، بيروت ط3، 1995م. - الحديثي، نزار عبد اللطيف: أهل اليمن في صدر الإسلام، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت. - حسين، صابر محمد دياب: أرمينية من الفتح الإسلام إلى مستهل القرن الخامس الهجري، دار النهضة العربية، القاهرة، 1978م.

- حسين، طه: الأعمال الكاملة، دار العلم للملايين، بيروت. - خماش، نجدة: الإدارة ونظام الضرائب في بلاد الشام في عصر الخلفاء الراشدين، المؤتمر الدولة الرابع لتاريخ بلاد الشام، عمان، 1987م. - الدوري، عبد العزيز: مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي، بيروت 1968م. - مقدمة في تاريخ صدر الإسلام، بيروت، 1961م. - تنظيمات عمر بن الخطاب، المؤتمر الدولي الرابع لتاريخ بلاد الشام، عمان 1987م. - رستم، أسد: الروم في سياستهم وحضارتهم، ودينهم وثقافتهم وصلاتهم بالعرب، منشورات المكتبة البولسية، بيروت 1988م. - أبو زهرة، محمد: تاريخ المذاهب الإسلامية، وزارة الثقافة، مصر. - سالم، السيد عبد العزيز: تاريخ الدولة العربية، دار النهضة العربية، بيروت. - ساهاس، دانيال: طرابلس الشام في التاريخ الإسلامي، الإسكندرية، 1967م. البطريرك صفرونيوس، والخليفة عمر بن الخطاب، وفتح بيت المقدس، بحث في: كتاب الصراع الإسلامي-الفرنجي على فلسطين في القرن الوسطى، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت ط1، 1994م. - سحاب، فكتور: إيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 1992م. - سويد، ياسين: معارك خالد بن الوليد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، ط4، 1989م. - السيد، رضوان: السلطة في الإسلام، دراسة في نشوء الخلافة، بحيث في كتاب: بلاد الشام في صدر الإسلام -المؤتمر الدولي الرابع لتاريخ بلاد الشام، عمان 1987م. - شاكر، محمود: التاريخ الإسلامي، ج3، المكتب الإسلامي، بيروت. - الشامي، أحمد: الخلفاء الراشدون، المركز العربي للثقافة والعلوم، بيروت، ط1، 1982م. - شنقارو، عواطف العربي: فتنة السلطة، دار الكتاب الجديد المتحدة بيروت، ط1 2000م. - الطالبي، عمار: آراء الخوارج الكلامية، الجزائر 1970م. - عاشور، سعيد عبد الفتاح: بحوث في تاريخ الإسلام وحضارته، عالم الكتب، القاهرة، ط1، 1987م. الإمبراطور هرقل ومقاومة الفتح الإسلامي لبلاد الشام، بحث في كتاب: المؤتمر الدولي الرابع لتاريخ بلاد الشام، عمان 1987م. - عاقل، نبيه: موقف سكان بلاد الشام من الفتح الإسلامي، بحث في كتاب: المؤتمر الدولي الرابع لتاريخ بلاد الشام، عمان، 1987م. - عبد المجيد، أحمد فؤاد عبد الجواد: البيعة عند مفكري أهل السنة، دار قباء للنشر، القاهرة 1998م. - عرجون، إبراهيم صادق: خالد بن الوليد، الدار السعودية، جدة، ط3، 1981م.

- العريني، السيد الباز: الدولة البيزنطية، دار النهضة العربية، بيروت، 1982م. تاريخ أوروبا، دار النهضة العربية، بيروت، 1968م. - العقاد، عباس محمود: عبقرية خالد، دار الهلال، القاهرة. - علي، جواد: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار العلم للملايين، بيروت، ط2، 1976. عبد الله بن سبأ، مجلة المجمع العلمي العراقي، مجلد 5، 1958م. - عيسى، محمد خيري وغالي، بطرس بطرس: المدخل في علم السياسة، القاهرة ط5، 1976م. - فلهوزن، يوليوس: الدولة العربية وسقوطها، ترجمة يوسف العش، دمشق 1962م. - فنسنك: المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي الشريف، ليدن، 1936- 1969م. - القاضي، وداد: الكيسانية في التاريخ والأدب، بيروت 1973م. - القريشي، غالب عبد الكافي: أوليات الفاروق في الإدارة والقضاء، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط1، 1990م. - القضاة، زكريا: معاهدة فتح بيت المقدس، العهدة العمرية، بحث في كتاب: المؤتمر الدولة الرابع لتاريخ بلاد الشام، عمان 1987م. - كاشف، سيدة إسماعيل: مصر في فجر الإسلام، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1994م. - كلير، كلاوس: خالد وعمر، ترجمة محمد جديد، قدمس للنشر والتوزيع، دمشق ط1، 2001م. - كريستنسن، أرثر: إيران في عهد الساسانيين، دار النهضة العربية، بيروت. - كمال، أحمد عادل: الطريق إلى المدائن، دار النفائس، بيروت، ط3، 1977م. - الطريق إلى دمشق، دار النفائس، بيروت، ط2، 1982م. - لويس، برنارد: أصول الإسماعيلية، تعريب خليل جلو وجاسم الرجب، مكتبة المثنى، بغداد، 1938م. - مكي، محمد علي: لبنان من الفتح العربي إلى الفتح العثماني، دار النهار، بيروت، 1970م. - ملحم، عدنان محمد: المؤرخون العرب والفتنة الكبرى، دار الطليعة، بيروت ط1، 1998م. - مونتغمري، فيلدمارشال: الحرب عبر التاريخ، تعريب فتحي نمر، مكتبة الأنجلو مصرية، القاهرة، 1971م. - معروف، نايف: الخوارج في العهد الأموي، دار الطليعة، بيروت، 1991م. - النعماني، شبلي: سيرة الفاروق، ترجمة جلال السعيد الحفناوي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000م. - الهلابي، عبد العزيز صالح: عبد الله بن سبأ، دراسة للروايات التاريخية عن دوره في الفتنة، حوليات كلية الآداب جامعة الكويت، الحولية الثانية 1987م. - هيكل، محمد حسين: الصديق أبو بكر، القاهرة، 1958م. - الفاروق عمر، مكتبة الأنجلو مصرية، القاهرة، 1963م.

Bury, J.B:- A History of the Later Roman Empire, London 1923. Devreesse, Robert: Arabes-Perses et Arabes-Romains, Lakhmides et Ghassani-des. Revue Biblique II 1942. Grousset, Rene: Histoire de L.htm'Armenie des origines Jusque 1071-Paris. Jourguet, Pierre: L'Egypt Greco-Romain, Precis de Histoire d'Egypt. t I. Lewis, Bernard: - An Apocalyptic Vission of Islamic History, in Bulletin of the School of oriental and African Studies. 1950. - On that Day, A Jewish Apocalyptic Poem on the Arabe conquest-Leiden 1974. Miller, J.Innes: The Spice Trade of the Roman Empire. Oxford University Press, 1969. Munier, Henry: L'Egypt Byzantine, Precis de L'Histoire d'Egypt til 1932. Ostrogorsky, G: History of the Byzantine State. Trans by: Joan Hussey. Oxford, 1956. Passder, Madjien: Histoire de L'Armenie Depuis les Origines Jusqu'a Traite de Lousanne, 2ime Ed. Paris, 1963. Sebeos:- Histoire d'Heracle. Trad. F. Macher, Paris, 1904. Vasiliev, A: The Byzantine Empire, Madison 1952.

محتوى الكتاب

محتوى الكتاب: دليل الخرائط الواردة في الكتاب: خريطة الصفحة 1- مواطن القبائل في شبه الجزيرة العربية 30 2- جيوش حروب الردة 64 3- العراق 128 4- خطة أبي بكر لفتح العراق 129 5- فتح الحيرة 137 6- فتح الأنبار 140 7- منازل القبائل العربية في وسط وشمال الجزيرة العربية، وبلاد الشام في العصر النبوي 146 8- فتوح الشام 147 9- توزيع الجيوش على القطاعات 149 10- مسارات الجيوش إلى الشام 153 11- عبور السماوة 160 12- معسكرات المسلمين بالشام 164 13- أجنادين 165 14- حصار دمشق 166 15- مواقع الجيشين قبل المواجهة 192 16- معركة القادسية 199 17- فتوح العراق 228، 229 18- مدينة دمشق 242 19- محاولة تطويق المسلمين 247 20- تعديل أوضاع الروم والمسلمين على اليرموك 250 21- تقدم الروم إلى المسلمين 255 22- سواحل دمشق 267 23- فتوح المسلمين نهاوند، وما وراء النهر 282 24- فتوح مصر والنوبة 300

الصفحة الموضوع 5 المقدمة الباب الأول أبو بكر الصديق 11-13هـ-632- 634م 13 الفصل الأول: الأوضاع السياسية في الجزيرة العربية عقب وفاة النبي 13 الأوضاع السياسية في المدينة 13 التعريف بأبي بكر 14 اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة 14 دوافع الاجتماع 19 موقف الأنصار خلال المناقشة مع المهاجرين 20 موقف المهاجرين 21 بيعة أبي بكر 23 التعقيب على اجتماع السقيفة 28 النتائج السياسية لاجتماع السقيفة 29 الأوضاع السياسية خارج المدينة 39 الفصل الثاني: تفشي ظاهرة التنبؤ في المجتمع العربي 39 تمهيد 42 عيهلة بن كعب: الأسود العنسي 50 مسيلمة بن حبيب الحنفي: مسيلمة الكذاب 54 طليحة بن خويلد الأسدي 56 سجاح بنت الحارث بن سويد التميمة 59 ذو التاج لقيط 61 الفصل الثالث: حروب الردة 61 تمهيد 62 تعرض المدينة لهجوم القبائل 67 قتال طليحة الأسدي -معركة البزاخة67 71 ذيول معركة البزاخة 71 ملابسات حوادث بني تميم 71 أوضاع بني تميم 73 زحف خالد باتجاه بطاح بني تميم 74 بين خالد ومالك بن نويرة 80 القضاء على ردة بني حنيفة 80 الزحف نحو اليمامة 81 معركة عقرباء 83 ظهور اتجاه معارض للصلح 83 عودة بني حنيفة إلى الإسلام 83 زواج خالد من ابنة مجاعة 85 القضاء على الردة في البحرين 86 القضاء على ردة أهل عمان، ومهرة وعك، والأشعريين 86 القضاء على الردة في اليمن 88 القضاء على الردة في كندة وحضرموت 89 نتائج حروب الردة 91 الفصل الرابع: أوضاع الدولتين الفارسية، والبيزنطية عشية الفتوح الإسلامية 91 أوضاع الدولة الفارسية 91 الوضع السياسي 95 الوضع الاجتماعي 97 الوضع الديني 98 تركيبة الجيش الفارسي 98 العلاقة مع البيزنطيين "الروم" 110 تراجع النفوذ البيزنطي من بلاد الشام عشية الفتوح الإسلامية 110 عوامل التراجع 111 الأول: عامل المفاجأة 122 الثاني: التغيير الإداري 124 الثالث: النظام الضريبي، وأثره على الحياة العامة 126 الجيش البيزنطي 131 الفصل الخامس: الفتوح في عهد أبي بكر 131 فتوح العراق 131 تمهيد 132 معركة ذات السلاسل 133 معركة المذار 134 ذيول معركة المذار 135 معركة الولجة 136 معركة أليس 138 فتح أمغيشيا 138 فتح الحيرة 138 ذيول فتح الحيرة 141 فتح الأنبار 141 معركة عين التمر 142 فتح دومة الجندل

الصفحة الموضوع 143 معركة الحصيد 144 معركة الخنافس 144 فتح المصيخ 144 فتح الثني والزميل 144 معركة الفراض 145 فتوح بلاد الشام 145 تمهيد 148 جيوش الفتوح 154 تعقيب على خطة أبي بكر 155 رد الفعل البيزنطي 155 معركة مؤاب 156 معركة دائن 157 معركة مرج الصفر 158 الخطة البيزنطية لوقف الزحف الإسلامي 158 الخطة الإسلامية المقابلة 161 استدعاء خالد بن الوليد إلى الجبهة الشامية انتقال خالد بن الوليد من العراق 161 إلى بلاد الشام 163 فتح تدمر 163 فتح القريتين وحوارين 167 فتح بصرى 168 معركة أجنادين 169 بعد أجنادين 169 الاصطدام في مرج الصفر الباب الثاني عمر بن الخطاب 13-23هـ/ 634-644م 173 الفصل السادس: استئناف الفتوح في عهد عمر 173 فتوح العراق 173 التعريف بعمر 178 بيعة عمر 180 دعوة المسلمين إلى الجهاد 182 الوضع الداخلي في فارس 183 معركة النمارق 183 معركة السقاطية 184 معركة باقسياثا 184 معركة الجسر 186 تعقيب على معركة الجسر 187 رد فعل عمر 188 معركة البويب 191 رد فعل الفرس -تولية يزدجرد السلطة 193 معركة القادسية 193 مقدمات المعركة 198 المفاوضات التي سبقت المعركة 200 أحداث المعركة 201 رسالة الفتح إلى المدينة 202 تعقيب على معركة القادسية 205 الفصل السابع: استكمال فتوح العراق -فتوح فارس "إيران" 205 الطريق إلى المدائن 206 فتح المدائن 207 فتح جلولاء 208 فتح حلوان 209 تطهير العراق من بقايا الوجود الفارسي 211 فتح تكريت 211 فتح نينوى والموصل 212 فتح قرقيسياء وهبت 212 فتح ماسبذان 213 فتح الأبلة والبصرة 214 تمصير البصرة 215 تمصير الكوفة 216 فتوح فارس "إيران" 216 تمهيد 217 فتح الأهواز وتستر 218 فتح السوس 219 فتح نهاوند 223 فتح همذان 223 فتح أصفهان 224 إعادة فتح همذان 224 فتح الري 225 فتح قومس 225 فتح جرجان 226 فتح طبرستان 226 فتح أذربيجان 227 فتح إقليم فارس 230 فتح كرمان 230 فتح سجستان 230 فتح مكران 231 فتح خراسان 235 الفصل الثامن: استكمال فتوح بلاد الشام -فتوح الجزيرة وأرمينية والباب 235 عزل خالد بن الوليد عن قيادة الجيوش في بلاد الشام 236 تعقيب على حادثة العزل

الصفحة الموضوع 238 معركة فحل -بيسان 240 معركة مرج الروم 241 فتح دمشق 244 فتح بعلبك 246 فتح حمص 249 معركة اليرموك 249 استعدادات التجهيز 249 من جانب البيزنطيين 252 من جانب المسلمين 254 استعدادات القتال 256 أحداث المعركة 259 تعقيب على معركة اليرموك 263 سياسة هرقل في شمالي بلاد الشام بعد معركة اليرموك 264 فتح قنسرين 264 فتح حلب 265 فتح أنطاكية 265 فتوح أقصى شمالي بلاد الشام 265 فتوح الجزيرة 268 فتوح الساحل 270 فتح بيت المقدس 270 تمهيد 271 أحداث الحصار ونتائجه 273 صلح بيت المقدس 279 دخول عمر إلى بيت المقدس 280 صلح اللد 280 فتح قيسارية 281 استكمال فتح الأردن 281 محاولة فتح أرمينية 284 فتح الباب 287 الفصل التاسع: فتوح مصر 287 أوضاع مصر قبل الفتح الإسلامي 287 تمهيد 288 الوضع السياسي 290 الوضع الاقتصادي 292 الوضع الديني 295 فتح الفرما 297 فتح بلبيس 298 فتح أم دنين 299 تنفيذ غارات على الفيوم 301 معركة عين شمس 302 فتح الفيوم 303 فتح حصن بابليون 307 تعقيب على صلح بابليون 308 أوضاع الإمبراطورية البيزنطية بعد وفاة هرقل 309 الزحف نحو الإسكندرية 311 فتح الإسكندرية 314 ذيول فتح الإسكندرية 315 أثر الفتح الإسلامي على أوضاع الأقباط 315 الأثر الديني 316 الأثر الإداري 316 الأثر الاقتصادي 317 بناء الفسطاط 319 بناء المسجد الجامع 320 التوسع نحو الغرب 320 فتح برقة 321 فتح طرابلس الغرب 322 تأمين حدود مصر الجنوبية 323 الفصل العاشر: تنظيم الدولة الإسلامية في عهد عمر -مقتل عمر 323 نظام الحكم 327 الإدارة في عهد عمر 327 تعريف الإدارة 328 تطور الإدارة العامة 329 التقسيم الإداري للدولة 331 الموظفون الإداريون 331 الهيكل التنظيمي للموظفين 333 الوالي 333 شروط تعيين الوالي 335 تعيين مراقب على عمل الولاة 335 محاسبة الوالي 337 الدواوين 337 تمهيد 337 ديوان العطاء 342 تعقيب على ديوان العطاء 344 ديوان الجباية 345 بيت المال 346 القضاء 346 تطور القضاء حتى عهد عمر 346 القضاء في عهد عمر 346 تمهيد 347 أشهر قضاة عمر 348 تعاليم عمر في نظام القضاء 350 تعيين راتب للقاضي

الصفحة الموضوع 350 علاقة الخليفة بالمجتمع الإسلام 352 إدارة البلاد المفتوحة من خلال عقود الصلح 352 الطابع العام لعقود الصلح 356 علاقة الفاتحين بسكان البلاد 358 مقتل عمر الباب الثالث: عثمان بن عفان 23-35هـ/ 644-656م 365 الفصل الحادي عشر: الفتوح في عهد عثمان 365 التعريف بعثمان 366 قضية الشورى -اختيار عثمان خليفة 372 ردود الفعل على اختيار عثمان 373 الثورات ضد الحكم الإسلامي 374 فتح أرمينية 376 فتح طرابلس الشام 376 تمهيد 377 أحداث الحصار والفتح 378 تعمير طرابلس 378 فتح جزيرة قبرص 381 غزو الجزر البحرية 381 غزو إفريقية 382 معركة ذات الصواري 384 نتائج معركة ذات الصواري 385 الفصل الثاني عشر: الفتنة الكبرى ومقتل عثمان 385 تمهيد 387 الانتقادات الموجهة إلى عثمان 387 قضية عبيد الله بن عمر 388 المساح للقرشيين الانسياح في الأمصار 392 موقف عثمان من بيت المال 394 تغيير العمال 401 جمع القرآن 403 توسيع الحمى 404 الصلاة في منى أربع ركعات 405 السماح للحكم بن أبي العاص الإقامة في المدينة 406 انتقادات متفرقة 406 مقدمات الفتنة -انتفاضة الكوفة 410 دوافع أهل الأمصار للثورة على عثمان 413 الطريق إلى المأساة 418 وقوع المأساة 422 تعقيب على مقتل عثمان الباب الرابع: علي بن أبي طالب: 25-40هـ/ 656-661م 427 الفصل الثالث عشر: أوضاع المسلمين العامة في ظل خلافة علي بن أبي طالب 427 الصراع بين علي، وأصحاب الجمل 427 التعريف بعلي 428 ظروف تولي علي الخلافة 433 ظهور المعارضة السياسية 439 المواجهة المسلحة الأولى بين المسلمين 439 سيطرة قوى التحالف على البصرة 442 سيطرة علي على الكوفة 445 وقعة الجمل 445 مرحلة المفاوضات 446 أحداث الوقعة 448 ذيول الوقعة 451 الفصل الرابع عشر: أوضاع المسلمين العامة في ظل خلافة علي بن أبي طالب 451 الصراع بين علي ومعاوية والخوارج 451 الصراع على مصر 454 معركة صفين 454 مرحلة المفاوضات 457 مرحلة التجهيز والاستعداد 457 التعبئة البشرية في قوات علي 459 التعبئة البشرية في قوات معاوية 459 مرحلة الصدام العسكري 463 التحكيم وظهور فرقة المحكمة 465 وثيقة التحكيم 466 مجاورة المحكمة، وظهور فرقة الخوارج 469 مؤتمر التحكيم ونتائجه 473 رد الفعل الولى على نتيجة التحكيم 474 معركة النهروان 474 استعدادات التجهيز 476 أحداث المعركة 476 الأحداث ما بعد النهروان 480 مقتل علي 483 الخاتمة 485 المصادر والمراجع 492 دليل الخرائط الواردة في الكتاب 493 محتوى الكتاب

§1/1