تاريخ الجزائر في القديم والحديث

مبارك الميلي

ـ[مبارك بن محمد الميلي]ـ تاريخ الجزائر في القديم والحديث تقديم وتصحيح محمد الميلي الجزء الأول المؤسسة الوطنية للكتاب

ـ[تاريخ الجزائر في القديم والحديث]ـ

مبارك بن محمد الميلي ـ[تاريخ الجزائر في القديم والحديث]ـ تقديم وتصحيح محمد الميلي الجزء الأول المؤسسة الوطنية للكتاب

الرقم التسلسلي تاريخ الجزائر T1 et T2 3 è 214.89.01.09

مقدمات

إهداء الكتاب إذا كان المتقدمون يهدون لملوك أعصارهم نتائج قرائحهم فذلك لأنهم في أزمنة لا ظل فيها لإرادة الأمة. أما اليوم ونحن في عصر عمت فيه الديموقراطية كل الشعوب أو كادت وعرفت الشعوب أن إرادة الحاكم إنما تتقوى من جبنهم وجمودهم، وأن الإرادة الحقيقية التي بيدها رفع مستوى الأمم هي إرادة الشعب فقد صار الكتاب يهدون كتبهم لشعبهم أو لعظيم من عظمائه هو رمز عظمة ذلك الشعب. ونحن نهدي كتابنا هذا إلى الشعب الجزائري إلى شبابه المفكر ورجاله العاملين المخلصين. مبارك بن محمد الميلي

إسداء شكر

إسداء شكر لا أكون غير معترف بجميل يحتمه علي إخلاصي في هذا التأليف إذا ما نوهت بشأن من لم أعرف منهم غير النشاط النادر والعزم الفولاذي في مؤازرتي في هذا العمل الذي فيه بلاغ للشبيبة عن وطنيتهم. وما جئت بدعا إذا ما ذكرت بإعجاب ما شاهدت منهم أثناء قيامهم بما نيط بعهدتهم بغبطة وسرور. على أن الشقة شاقة والمرتقى صعب. أولئك هم الذين أذكر منهم- وملء فمي الفخر بهم- الشبان العاملين الأصدقاء: عيسى الزهار الترجمان بالأغواط، محمد التهامي الترجمان بميلة، عمر دهينة أحد المعلمين بالمكاتب الفرنسية وأفذاذ نبغاء الرسامين. هؤلاء هم الذين لهم من اليد في معاضدتي ما يشكرهم عليها الفن والعلم والتاريخ والوطن. مبارك بن محمد الميلي

رسالة من الأستاذ عبد الحميد بن باديس إلى المؤلف

رسالة من الأستاذ عبد الحميد بن باديس إلى المؤلف اذا كان الكثير من الكتاب مولعين بطلب تقريظ كتبهم من إخوانهم لحمل عوام القراء على استحسانها فإني في صف القليل منهم الذين يكلون إلى القارئ الحكم فيما قدموه له من غير شرط عالمية ولا إنصاف. فلكل أن يقول فيما كتبناه ما شاء. والأيام هي التي ستنخل ما يقولون، وتميز جيد القول من رديئه. وإذا كان عظماء كل أمة هم المكونين لتاريخها فالواجب أن لا نهمل نظراتهم فيما هو من نتائج حياة أمثالهم. وكتابنا هذا من نتائج حياة عظماء الأمتين العربية والبربرية فلا غرو إذ أثبتنا نظرة عظيم من عظماء جيلنا فيه مع تمسكنا بمبدأنا في التقاريظ. كتب إلينا الأستاذ الجليل عبد الجميد بن باديس أحد شيوخنا وزعيم نهضتنا بنظرة في كتابنا. وهذا نص رسالته: ــــــــــــــــــــــــــــــ ((حصن الماء)) مساء الثلاناء 15/ 1/ 1347 الحمد لله أخي مبارك! سلام ورحمة، حياك الله تحية من علم وعمل وعلم، وقفت على الجزء الأول من كتابك ـ[تاريخ الجزائر في القديم والحديث]ـ فقلت لو سميته ـ[«حياة الجزائر»]ـ لكان بذلك خليقا. فهو أول كتاب صور

الجزائر في لغة الضاد صورة تامة سوية، بعد ما كانت تلك الصورة أشلاء متفرقة هنا وهنالك. وقد نفخت في تلك الصورة من روح ايمانك الديني والوطني ما سيبقيها حية على وجه الدهر، تحفط أسمك تاجا لها في سماء العلا، وتخطه بيمينها في كتاب الخالدين. أخي مبارك! أذا كان من أحيا نفسا واحدة فكأنما أحيا الناس جميعا، فكيف من أحيا أمة كاملة؟ أحيا ماضيها وحاضرها لح وحياتهما عند أبنائها حياة مستقبلها. فليس- والله- كفاء عملك ان تشكرك الافراد، ولكن كفاءه أن تشكرك الاجيال. وإذا كان هذا في الجيل المعاصر قليلا، فسيكون في إلاجيال الغابرة كثيرا. وتلك سنة الله في عظماء الامم ونوابغها، ولن تجد لسنة الله تبديلا. وأنا- واحدا من هذا الجيل- بلسان من يشعرون شعوري، اشكرك لأقوم بما علينا من واجب، لا لأقابل ما لك من حق. جازاك الله خير ما جازى به العاملين المخلصين للدين والوطن بعلم وتحقيق وانصاف. والسلام عليك من أخيك. عبد الحميد بن باديس

الجزء الأول بين يدي الأمير شكيب أرسلان

الجزء الأول بين يدي الأمير شكيب أرسلان اتصل امير البيان ورأس الشرق المفكر الامير شكيب ارسلان بالجزء، الاول فكتب الى صديقنا الشيخ الطيب العقبي رسالة جاء فيها قوله عن ذلك الجزء: ــــــــــــــــــــــــــــــ "واما تاريخ الجزائر فوالله ما كنت أظن في الجزائر من يفري هذا الفري. ولقد اعجبت به كثيرا كما اني معجب بكتابة ابن باديس. فالميلي وابن باديس والعقبي والزاهري حملة عرش الادب الجزائري الأربعة ".

شكر واعتذار

شكر واعتذار لا شيء أشق على الكاتب العربي من كتابة التاريخ على النهج العصري. ولا تاريخ اغمض واقل مادة لدى القارئ العربي من تاريخ الجزائر. ولا كتب اكثر تحريفا من الكتب العربية المؤلفة فيه. وعلى نسبة أهمية تاريخ ابن خلدون كان حظه من التحريف حتى ذهبت ثقة لقارئ بما فيه من اعلام الناس والامكنة. وقد قاسيت افي تصحيح الاعلام وجمع المواد وايضاح الاغراض اتاريخية وتقريب الاسلوب من النهج العصري ما لا يعلمه الا من عمل عملي وكان مثلي جاهلا بغير العربية بعيدا عن العواصم العلمية منهوك الوقت بالاشغال. ولست- علم الله- أمن بهاتيك المقاساة، وانما أريد الاعتذار للقراء والادباء عن تأخر نشر هذا الجزء الثاني وعما عسى ان يكون به من نقص علمي او فني. وكلما اجملت لهم اعتذاري اجمل شكري لمن امدني منهم باعارة كتاب او دلني عليه. وأخص منهم بالذكر الشابين الاديبين المخلصين صديقي أحمد توفيق المدني وعمرو دهينة حامل شهادتي التعليم بالمكاتب الفرنسية والترجمة بالمحاكم الشرعية. فقد عربا لي فصولا من الفرنسية وبذلا في اعانتي كل ما في استطاعتهما الادبية. جازاهما الله احسن الجزاء وذكرهما الجيل المستقبل بوافر الثناء. الاغواط في 2/ 1/ 3159 مبارك بن محمد الميلي

مقدمة الطبعة

مقدمة الطبعة طُلِب الي أن أكتب مقدمة الطبعة الجديدة لكتاب (ـ[تاريخ الجزائر في القديم والحديث]ـ) الذي ألفه والدي الشيخ مبارك الميلي منذ أكثر من نصف قرن. وقد صادف أن تلقيت منذ أيام، في هذا الشهر أفريل 1986، رسالة من وزارة الشؤون الدينية طلبت فيها الي أن اكتب ترجمة لوالدي. ونفس الاقتراح سمعته منذ شهرين، من أحد تلامذة الشيخ عبد الحميد بن باديس. تساءلت: كيف لم أفكر في مثل هذا الموضوع قبل اليوم؛ أليس ذلك واجبا كان يتحتم علي أن اضطلع به قبل هذا الوقت؟ الواقع أن الفكرة راودتني قبل سنوات. لكني أحجمت عن تنفيذها لسبيين رئيسيين: الأول اني متيقن ان هناك غيري، من يستطيع ان يكتب مقدمة لكتاب "ـ[تاريخ الجزائر في القديم والحديث]ـ) أكثر موضوعية وأدق تحليلا. والثاني أن كتابات الشيخ مبارك نفسها تقدم مادة خصبة لمن يريد الكتابة عنه، قد تغنى عن اللجوء الى الذكريات الشخصية والمعلومات الخاصة. لكني أعدت النظر في هذا الموقف على ضوء الطلبات التي صدرت الي من جهات متعددة ومتباعدة وفي أوقات متقاربة. خصوصا وان هناك جوانب من شخصيته قد لايستطيع غيرى أن يعرف بها.

صحيح انه توفى، رحمه الله، ولم أكن قد تجاوزت مرحلة التعليم المتوسط. لكني استطعت ان اختزن ذكريات تلقى بعض الضوء على شخصيته، سواء بحكم معاشرتي له، أو بحكم الأوراق والرسائل الخاصة التي اطلعت عليها بعد وفاته، والتي كان يحتفظ بها في مكتب له كانت تتصدره صور جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا ومحمد نصيف. وقد أتيح لي، خلال السنوات القليلة التي عشتها جنبه بعد أن أصبحت واعيا بأهمية بعض الاحداث، ان أختزن في الذاكرة بعض تصرفاته ومواقفه وتعليقاته. وعلى الرغم من الصورة المهيبة التي كانت تفرض نفسها على من يقترب منه، وعلى الصرامة التي اشتهر بها، فقد كان يتوفر على جانب يطفح بالمحبة والمرح والفكاهة. وقد كان مشهد تحلقنا حوله، أمي، اخوتي وأنا، في ليالي الشتاء قرب مدفأة يشتعل فيها الحطب، بغرفة نومه، من بين المشاهد التي رسخت في الذاكرة، مثلها في ذلك مثل حلقات تدريسه لنا في "مدرسة حياة الشباب" أو املاآته الأدبية علي، عندما كان يتولى تدريسي في البيت بعد وقوع حادث معين، لا باس من ان اسوقه في هذا المجال لأنه يكشف عن جانب من شخصيته. كان بعد ان اشتد عليه مرض السكر، قد توقف عن القاء الدروس على تلاميذ المدرسة، وان كان قد استمر في اعطاء الدروس المسجدية ليلا، وفي إلقاء محاضرات عصرا في النادي حتى يشمل بدعوته الشباب الذي لم يكن يتردد على المسجد. وقد خطر لي ذات يوم، وقد شعرت ان مستوى التعليم في المدرسة لم يعد يلبي حاجتي، ان اطلب منه ان يعطيني دروسا في اللغة والأدب والنحو. فكان جوابه: - لا استطيع ان اخصك بدروس دون رفاقك. قلت له: فليكن. لماذا لا تعطي دروسا لكل الذين بلغوا المستوى الذي بلغته.

وكذلك كان. خصص لنا ساعة كل يوم، من السابعة صباحا الى الثامنة. كنا حوالي عشرة. وكان على مرضه يحرص على عدم التخلف عن القاء ذلك الدرس. وكان الجميع يحضرون طالما كان الوقت صيفا أو خريفا. حتى إذا دهم الشتاء راح عدد الحاضرين. على قلتهم ينقص. حتى انه لم يجد ذات يوم، في القاعة سواي. غضب. كان مرض السكر قد جعله شديد الانفعال. لم يلق ذلك اليوم درسه وقال لي: أخبر زملاءك انهم إذا لم يحضروا من الغد، فلن يسمعوا مني درسا بعدها. وأبلغتهم. ومن الغد لم يحضر أي أحد منهم. آنذاك قرر أن يخصني بالتدريس لكن في المنزل. كان تحلقنا حوله في السهرة حول المدفأة هي الفترة الوحيدة التي نجتمع فيها اليه فنحن لم نكن نأكل معه. لأن اصابته بداء السكر منذ سنوات شبابه كانت تفرض عليه نظاما خاصا للأكل، ومن هنا كان يتجنب الجلوس الى مائدتنا خشية ان تمتد يده للمحرمات عليه بسبب المرض. وهذا في الوقت الذي كنت أتصور فيه انه محظوظ بفعل نظام أكله الخاص: فقد كان منظر الخبز الخاص الذي يشتريه من قسنطينة في علب كارتون كبيرة، والمصنوع من مادة الغلوتان فقط، يسيل لعابي. أما في السهرات الشتوية فقد كان يقاسمنا أحيانا أكل البرتقال والجوز. وكانت اجراءات تكسير الجوز وتقشير البرتقال التي تتولاها أمي غالبا من بين الطقوس التي نحرص على حضورها. وكنت اتعجب كيف يفضل أبي أكل البرتقال الحامض، في الوقت الذي كنا فيه نحن الصغار نتنازع صنفا من البرتقال الحلو، لم أعد أجد له أثرا في الاسواق اليوم. وكان استهلاك الأسرة للجوز عاليا: فهو زيادة عن سهرات الشتاء يستعمل في صنع الحلويات، لأن وجود بعض أصناف الحلوى كان ضروريا على مدار السنة وليس في الاعياد فقط، فلم

يكن يصح أن يأتي زائر على حين بغتة دون ان يكون في وسع أمي ان تقدم له بعض الحلويات. لهذا كان والدي يشتري الجوز بكميات كبيرة من مصدرين أساسيين: من أحد الاسواق القريبة، التي تغذيها بعض مناطق فرجيوة، ومن الاوراس الذي كان يزود أسواق باتنة وخنشلة. أذكر أن منظر جوزة بيضاء، قشرتها ناصعة، استهواه ذات ليلة، فأصر على ان يكسرها بنفسه، وكم كانت دهشته ودهشتنا أيضا- عندما وجد بداخلها كتلة سوداء لا تشبه لب الجوز من بعيد ولا من قريب. - أعوذ بالله .. هذه الجوزة مثل المنافق. كان تعليقه. وضحكت أمي لتعليقه. وضحكت معجبا ببداهة التعليق ودقة التشبيه. وقد أتيح لي ان اكتشف جانبا من جوانب شخصيته وأنا بعد طفل، وهو جانب المربي، فهو لم يكن يستعمل الشدة معي الا حيث تكون لازمة، أي عندما يتعلق الأمر بشيء، لا يمكن التساهل فيه، مثل ترك الصلاة. آنذاك لا يتردد في انزال شديد العقاب بي، لا يشفع في ذلك حبه الشديد لابنه- كما سنرى- ولا تدخل والدتي أو جدتي. أذكر أنه كان ذات صيف يستعد للسفر الى مسقط رأسه في الجبل، وكنت شديد الشوق الى مرافقته في تلك السفرة، فطلبت منه ان يأذن لي بأن أذهب معه. قال لي ما معناه: أنت مخطئ ان كنت تتصور ان "أولاد مبارك " مثل قسنطينة أو مدينة الجزائر. قلت أريد أن أسافر مهما تكن "أولاد مبارك " كان ذلك في صيف 1939. ونزل عند رغتبي. كانت فرحتي كبيرة. فلم يكن في حياتنا بالقرية، نحن أطفال ذلك العهد ما يثير. كانت منازل القرية التي يوجد بها "راديو" لا تتجاوز ثلاثة، منها منزلنا. وكان هناك مقهى واحد له راديو بالاظافة الى النادي. وكان السفر بالنسبة للاطفال آنذاك حدثا

سعيدا يشغل حيزا كبيرا من وقتنا عندما يتقرر مشروعا، ونظل نحكي عنه بعد تحقيقه عدة أسابيع من خلال روايات يتدخل فيها الخيال غالبا. لكن حدث عشية السفر حادث غريب. كان والدي، أثناء سفره للإستشفاء من داء السكر في فرنسا حيث عالج في فيشي وباريس عام 1938، قد استصحب معه دليلا مفصلا لمدينة باريس. كانت مكتبته منظمة تنظيما دقيقا، بحيث كان يعرف موقع كل كتاب وصفه وترتيبه. وكنت مغرما بتصفح الكتب حتى ولو لم أكن أفهم ما فيها. وكنت أحرص على اعادتها الى مكانها حتى لا يعرف أني استعملتها. قبل يومين من السفر، عثرت على دليل باريس. أعجبت بما فيه من صور ومعالم، فحملته الى المدرسة حتى أريه لزملائي وأزهو عليهم. طلب مني أحد الزملاء أن أعيره اياه مقابل أن يعيرني هو مركبة خشبية تسير بـ "الرولما" كما كنا نقول، ونقصد بذلك عجلات معدنية صغيرة. وحدث ان والد زميلي عثر على الدليل عنده فسأله من أين جاءه، فأخبره بالحقيقة. فما كان من أبيه الا ان أخذه منه وأتى به الى خالي حتى يعيده الى والدي. وأعاده بالفعل عشية السفر. وصادف أني رأيت الدليل وقد احتل مكانه، صعقت. كان والدي قد أرجعه حيث كان دون ان يفاتحني في الموضوع. قلت في نفسي: لقد افتضح الأمر. ورحت أتصور صدور العقوبة الصارمة ممثلة في ضرب مبرح، كذلك الذي ينالني عند التخلف عن الصلاة، مع الغاء سفري. لكن شيئا من ذلك لم يحدث. لم يظهر على أبي أي تصرف يدل على أنه عرف بما حدث. لم تصدر عنه أية ملاحظة. كان تصرفه معي عاديا. تعجبت ولم أستفهمه.

وسافرت معه من الغد، وكانت سفرة من أحلى السفرات التي رسخت في ذاكرتي. دامت حوالي عشرة أيام. تمتعت فيها بركوب البغال، فقد كانت هي وسيلتنا الوحيدة لنقلنا في بعض أشواط الرحلة. وأتيح لي أن أشهد بعض عادات البادية مثل ذبح خروف أو كبش للضيف ولو وصل في ساعة متأخرة من الليل. بعد ان عدنا الى ميلة، ناداني من الغد. وبعد أن آذن لي بالجلوس راح يحكي لي ظروف اكتشافه لاختفاء الدليل، ثم قال لي ما معناه: - لم أرد أن ألاحظ لك شيئا حتى لا أنغص عليك السفر، ولا الغي وعدا قعطته لك. وها أنا ذا الأن أعتبرك كبيرا تتعظ بالكلام، ولم تعد بحاجة الى الضرب. فلا تعد لمثلها. وقد أتيح لي بعد ذلك أن أعيش مشهدا يدل على مدى تقديره للوعد المقطوع. كان يسافر الى قسنطينة في الصباح ويرجع في المساء، أحيانا وقد رأى ان يستصحبني في احدى هذه السفرات اليومية مع اعلامي بأننا سنرجع في نفس اليوم. قبلت رغم ان بعض يوم لم يكن ليشبع نهمي الى المدينة. الا أنه عند الوصول وجد الشيخ العربي التبسي بقسنطينة، فغير برنامجه وقرر أن يقضي بها ثلاثة أيام. ناداني أمام صديقه وقال لي ما معناه: لقد قلت لك اننا سنرجع في نفس اليوم. لكني اضطررت الى ان امكث مدة أطول. فان كنت تريد البقاء فليكن، وان كنت رتبت امرك على العودة اليوم، فاعلمني حتى أرسلك مع أحد المسافرين الى ميلة. وعلى ذكر جانب المربي فيه أذكر أني قرأت فيما قرأت من رسائله التي كان يحتفظ منها بنسخة لديه (والتي ضاع معضمها مع الأسف) رسالة كان وجهها الى الشيخ العربي الذي كان قد طلب منه ان يطلعه على أسلوبه في معاملة التلاميذ (فقد كان والدي قد شرع في التدريس بالاغواط، قبل ان يلتحق الشيخ العربي ببلدة سيق التي كانت أول بلدة تولى التدريس فيها للتلاميذ) فكتمب له والدي رسالة

حفظت منها هذا المقطع. " إذا وعدت فانجز. وإذا أوعدت فتغافل. وان ذكرك أحد التلاميذ بالوعيد فنفذه مع اظهار كراهيتك لمن ذكرك ". لقد أشرت منذ قليل الى شديد حبه لي. كنت أحس بذلك مثل كل طفل، لكن لم أكن أعرف مدى ذلك الحب الا عندما عثرت، بعد وفاته، على كراسة صغيرة كان قد سجل فيها خواطره عندما سافر للعلاج بفرنسا، كتب في احدى ورقاتها، تحت عنوان "لوعة الشوق" ما يلي حرفيا (فالكراسة ما تزال في حوزتي). "لا أعلم للشوق سلطانا على عواطفي عجزت عن تخفيف وطأته قوتي الفكرية الا مرتين. أحداهما وأنا شاب علق قلبي فتاة علقتني هي الأخرى. وكانت حرب بين عقلي وهواي، فاز فيها الهوى بالحب العذري وفاز فيها العقل بالعفة، مع وجود دواعي الفاحشة وفقد موانعها. ثانيتهما في سفرتي هاته الى فرنسا لعلاج داء السكر التي دامت من (28/ 03/ 1357هـ) الى 28/ 05/ 1938م إلى 29/ 05/ 1357هـ (الموافق 27/ 07/ 1938م) فقد كنت أريد ان انسى كل علاقاتي الشخصية والفكرية أيام علاجي. ففزت الا من ناحية ولدي البكر محمد، فقد كنت أهاج لذكراه حتى تكاد تنفلت دموعي أمام الناس. ولولاه لكان غيابي أطول. لكن الاسترسال في استعراض كل الجوانب التي أعرفها عن والدي، قد يبعد بنا عن موضوع الكتاب الذي وضعه منذ أكثر من نصف قرن. ان تحديد مكانة ـ[تاريخ الجزائر في القديم والحديث]ـ تتطلب التذكير، ولو باختصار، بالظروف الفكرية والسياسية والاجتماعية التي ظهر فيها ذلك الكتاب. ولد الشيخ مبارك الميلي في النصف الأخير من العشرية الأخيرة من القرن الماضي. نشأ في منطقة فقيرة خاضعة لنظام البلديات المختلطة. وكان هذا النظام، الى جانب "الاحواز العسكرية" هو

الركيزة الأساسية التي يعتمد عليها الاستعمار في ادارة البلاد والتحكم في المناطق التي يخشى ثورة سكانها. والبلدية المختلطة تشمل عادة منطقة شاسعة تضم عدة دواوير وقرى يسيطر عليها حاكم فرنسي يساعده عدد من الاعوان الفرنسيين أيضا، الى جانب بعض الاعوان من "الاهالي". وإذا كان الاروبيون ممثلين في هذا النظام البلدي بواسطة من ينتخبهم فان الاغلبية الساحقة من سكان الاحواز أو البلديات المختلطة، أي الجزائريون، ممثلون " نظريا " بواسطة رجال تعينهم الادارة الفرنسية. ولا يخفى ان الحاكم الفرنسي لا يعين ضمن ادارته الا من يجد لديه الاستعداد لخضوع مطلق وانقياد أعمى في تنفيذ التعليمات. وكان معروفا ان المعيار الذي تقاس به صلاحية المساعد الجزائري هو مدى تصديه ضد مطالب من يفترض فيه ان يمثلهم وتفانيه في محاربة بني جلدته، فتلك هي الطريقة التي يزكي بها "القائد" أو "الخوجة" نفسه في أعين سادته، وهي التي تمكنه في الوقت نفسه من جمع بعض الاموال الحرام على حساب اخوانه وبني عمومته. ولا حاجة الى التذكير بالصلاحيات الواسعة التي يملكها الحاكم الفرنسي في تعيين اعوانه من بين الجزائريين، وإذا صادف ان "لقائد" أو غيره من اولئك الاعوان لم يرق للمعمرين الاروبيين، فليس اسهل لديهم من أن يلفقوا ضده تهمة لا يملك ضدها أي طعن، فعزله يتم بنفس السهولة التي تم بها تعيينه. ومن ثم تجده يضطر الى مجاراة الادارة. ونادرا هم اولئك الذين ينجحون في البقاء بمنصبهم دون الاصطدام مع الشرائح الاجتماعية الاكثر تمثيلا لشعبهم. ولهذا، بقدر ما يكون " القائد" في البلدية المختلطة مجردا من أي حق في مواجهة المعمرين والفرنسيين، بقدر ما يتمتع بصلاحيات واسعة في مواجهة أبناء شعبه. أليس هو الذي يملك حق تحديد حصة الضرائب المفروضة على الجزائريين، دون ان يتحكم في ذلك

الى أية قاعدة؛ أليس هو الذي يعين عادة، وخاصة بعد 1902 قاضيا في المحاكم القمعية التي تنصبها الادارة الفرنسية ضد "الاهالي"؛ أليس هو الذي يفترض فيه ان يمثل منطقته في البلدية دون أن يحتاج الى تزكية الناخبين؛ فهو يملك كل السلطة على شعبه، دون ان يملك هؤلاء اية صلاحيات للاقتراع عليه ومحاسبته. ولاحاجة الى التذكير بأن الشروط التي تطلبها الادارة توفرها في القائد، لا تتصل من قريب ولا من بعيد بالكفاءة الفنية والمستوى الثقافي والتأهيل المعني. وإذا كان معروفا ان "ماهية" القائد محدودة، مثل سلطاته الرسمية نظريا، فقد كان معروفا ايضا انه يستطيع بوسائل عديدة ان يبني ثروة في آجال قصيرة، لانه كان يعرف كيف ينتزع المال من الناس ويسطو على ما يملكون دون ان يملك هؤلاء حق الشكوى والتظلم. على ان هذه "الخصائص" السلبية التي تختص بها البلدية المختلطة هي نفسها التي ادت عمليا، ودون ان تقصد لذلك الادارة الفرنسية، الى استمرار الهوة سحيقة بين الشعب وممثلي الاحتلال. فممثلو الادارة الفرنسية لم يكن يهمهم ان ينفذوا الى الشعب ويكسبوا وده، طالما كانوا مدينين بوجودهم وثرواتهم وجاههم لغيره. وكان من جراء ذلك ان تطور الشعب، وخاصة بالارياف، في ظل العداء للادارة الاستعمارية. أليست هي التي انتزعت منه الاراضي الخصبة واضطرته الى ان يلجأ الي المناطق القاحلة والاراضي الجدباء؟ كان عمره، عندما توفي ابوه، اربع سنوات. فنزله جده منزله حتى لا يحرم من الميراث. ويا له من ميراث. شجيرات زيتون محدودة العدد، منبته في نحو من اربع هكتارات، ينبت فيها شيء من العناب والتين، ويمكن زراعتها بالشعير. في مثل هذا المحيط، لا يحتاج المرء الى اعمال الخيال كثيرا كي يستنتج ان الافاق امامه مسدودة، وان كل الابواب في وجهه

موصودة، ان هو رضي بالبقاء في المنطقة مكتفيا بما حفظه في طفولته من قرآن. لكن الى أين يذهب وكيف؟ كانت عين عمه الاكبر، أحمد، لا تغفو، كانوا يسمونه الذئب. ومع ذلك فقد عزم الفتى مبارك على ان يغادر ارضه. وكان قد خبر يقظة عمه اكثر من مرة. هل تحدثه نفسه بأن يقطف تينة بعد ان يكون قد تأكد من خلو المكان؟ انه لا يشعر الا وقد هوت على يديه عصا عمه وكأنه طلع من غار او نزل من سماء. لذلك اعد خطة محكمة للفرار لن يتفطن لها عمه. قرر ان يكون ذلك يوم شتاء ليس مثل كل الايام. وصادف ان تساقط الثلج بكثرة. ولم نلبث ان تراكمت الثلوج بصورة تردع الحيوان والانسان ان يغامر بأنفه خارج وكره أو كوخه. لم يخطر على بال العم الاكبر مهما تخيل من حيل ان يتوقع فرار ابن اخيه في مثل ذلك اليوم. "ان الثلج يصل الى الركبة " تلك كانت عبارة الشيخ مبارك في وصف يوم الفرار من دواره ووصاية عمه. روى لي القصة في الاسبوع الاول من نوفمبر 1942. أذكر ذلك جيدا. كنت معه بمدرسة التربية والتعليم في قسنطينة حيث قضينا ليلة في طريقنا من ميلة الى خنشلة. فقد كان على أبي ان يذهب الى هناك ليعود بوالدتي التي كانت في زيارة الى شقيقتها. وكان قد استصحبها هناك قبل نحو اسبوعين مع اخوتي وتركني في ميلة وحدي حتى لا انقطع عن دراستي، ثم عاد هو بعد ثلاثة ايام. وعندما قرر ان يذهب ليعود بأمي واخوتي اليه ان يصحبني، فتغيب بيومين أو ثلاثة عن الدراسة لا يضر. قضينا الليلة الاولى في قسنطينة، لانه كان علينا ان نأخذ الحافلة الى خنشلة باكرا من صباح الغد. خلال تلك السهرة راح يحكي لي قصة فراره، وقد رسخت القصة في ذهني لانها اقترنت لدى بشعور الاعتزاز ان اصبح والدي يأتمنني على اسرار حياته.

كان فراره الى ميلة، حيث درس على الشيخ محمد الميلي ابن معنصر جدي لأمي، وكان أثمن ما تعلمه عليه هو خشية الله والزهد في المدنيا. فقد كان الشيخ الميلي معروفا بالزهد. كان يعطي من ماله بغير حساب. ذلك ما كنت اسمع عنه منذ صغري. وتروى عنه روايات كثيرة في هذا المجال. منها ان سائلا تقدم منه ذات يوم، وقد كان عائدا من المسجد الى منزله، وصادف انه لم يكن لديه ما يعطيه له، فقال له انتظرني. ثم دخل الى سقيفة المنزل، ونزع صدريته، وكانت فاخرة واعطاها له، متأكدا انه سوف يبيعها بأكثر من ثمنها الحقيقي، فهناك اكثر من شخص يرغب ولا شك في شراء صدرية الشيخ تبركا. ويروي عنه انه، وقد عرف انه ميت لا محالة بعد طعنة سكين طعنها به مواطن بحجة انه رفض ان يفتيه بما يوافق هواه، سامح من اراد قتله وطلب من ابنائه قبل ان يسلم الروح، ان لا يتتبعوا القاتل قضائيا. لست أشك في ان بعضا من هذه الروح قد ورثها الشيخ مبارك عبر سلوك شيخه اكثر مما ورثها عبر دروسه. لكن التأثير الحاسم الذي تلقاه مؤلف تاريخ الجزائر، كان هو ذلك الذي تلقاه على الشيخ ابن باديس. فقد نصحه الشيخ محمد الميلي ان يتردد على ابن باديس مؤكدا له انه سوف يستفيد بذلك اضعاف مما لو بقي في ميلة. وفعلا فقد كان لقاء مبارك الميلي مع ابن باديس يمثل نقطة تحول هامة في حياة الشيخ مبارك: فقد أخذ عنه روح النقد، وعزز لديه الجرأة على التمرد على الاوضاع. وعلى الرغم من انه لم يتح لي ان اعرف من أبي الكثير عن هذه العلاقة فقد أتيح لي ان أشهد ما يدل على عمقها. حدث ذلك بمناسبة موت الشيخ عبد الحميد. اتصل أبي بمكالمة تليفونية من قسنطينة مفادها ان الشيخ مريض. أبدى تعجبه لانه كان وشيك العودة من هناك وتركه صحيحا. فهرع مسرعا. ولم يكد يصل الى قسنطينة حتى وجده قد اسلم روحه.

وكان عليه ان يتولى تأبينه في غياب الشيخ البشير الابراهيمي الذي كان بالمنفى آنذاك. وتقدم يتلو: " {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} الآية " لكنه لم يستطع ان يواصل التأبين، فقام الشيخ العربي بالمهمة. ذلك ما سمعته فيما بعد. لكن الذي شاهدته بنفسي هو حالته حين عودته من الجنازة. كنا نستعد للاحتفال بعيد المولد النبوي. وكان من أحب الاعياد الى الاطفال: فيه نطلق الشماريخ، ونفجر المحارق ونشهد احتفالات وسهرات في النادي تلقى فيها خطب تأسرنا وتشدنا وان كنا لا نفهم الكثير مما يقال فيها. كنت أفرح بالمولد فرحا زائدا على اقراني واترابي: فقد كان من عادة أبي ان يقضي اربعة ايام من كل اسبوع في قسنطينة، ومن ثم كان يأتي لي من هناك بأصناف من الشماريخ والمحارق لا تتوفر في اسواق ميلة، فتكون لي فرصة للزهو على الاصحاب والاقران. كنت انتظر عودته بفارغ صبر. وهرعت اليه كالعادة سائلا عن المحارق، رغم اني كنت أعرف انه عائد من جنازة الشيخ، لم أكن مدركا لمدى التأثير الذي خلفه لديه موت الشيخ عبد الحميد. لم يستطع ان يرد علي. فقد القدرة على الكلام. ظل كذلك اياما لا يعبر خلالها عما في نفسه الا اشارة وايماء. وقد اطلعت فيما بعد، على رسالة وجهها الى الشيخ البشير الابراهيمي. وكان هذا الاخير قد طلب منه ان يصف له يوم الجنازة. وقد حفظت جملة وردت في رسالة الشيخ البشير وهي قوله " لقد غبت يوم الختم، وغبت يوم الاتم " وكان الشيخ البشير يشير الى تغيب والدي عن الاحتفال الذي أقيم بقسنطينة في مناسبة الاحتفال بختم الشيخ بن باديس لتفسير القرآن، اذ كان موجودا آنذاك بفرنسا للعلاج. وقد رد الشيخ مبارك على رسالة صديقه، يصف له وقع الحادث عليه ويقول له فيها ما اذكر معناه: - عندما سمعت لدى وصولي الى قسنطينة بموته شعرت ان الدورة

الدموية اصبحت تسير في عكس الاتجاه المعهود. وعرفت في الحين ان داء السكر قد عاودني وانه لن يفارقني حتى يقضي علي. وكذلك كان. فقد تضعضعت صحته بعد موت ابن باديس ولم يتمكن من متابعة القيام بدروس الجامع الاخضر التي كان يتولاها شيخه، فتحولت الدراسة الى تبسة حيث تكفل بها الشيخ العربي. اذن فقد كانت العلاقة التي تربط بين الميلي وباديس اكثر من علاقة بين رئيس ومرؤوسه، وبين أستاذ وتلميذه: لقد كان لها طابع روحي بحيث لم يستطع الشيخ مبارك ان يتصور استمراره في الحياة دون ابن باديس. وتجدر الاشارة في هذا المجال الى انه على الرغم من هذه العلاقة التي كان فيها ابن باديس يمثل الرئيس والاستاذ والنموذج الى جانب الصديق بالنسبة للشيخ مبارك، فقد كان ابن باديس هو الذي كتب أروع تقدير واشادة بمبارك الميلي عندما صدر الجزء الاول من تاريخه. فقد كتب اثر صدور ذلك الجزء رسالة الى الشيخ مبارك وجهها له من مصيف "حصن الماء" (برج الكيفان حاليا) في صيف 1978 جاء فيها قوله: الحمد لله. أخي مبارك، سلام ورحمة، حياك الله تحية من علم وعمل وعلم، وقفت على الجزء الاول من كتابك، فهو أول كتاب صور الجزائر في لغة الضاد صورة تامة سوية، بعدما كانت تلك الصورة اشلاء متفرقة هنا وهناك. وقد نفخت في تلك الصورة من روح ايمانك الديني والوطني ما سيبقيها حية على وجه الدهر، تحفظ اسمك تاجا لها في سماء العلا، وتخطه بيمينها في كتاب الخالدين. أخي مبارك، إذا كان من أحيا نفسا واحدة فكأنما أحيا الناس جميعا، فكيف من أحيا أمة كلها؛ احيا ماضيها وحاضرها، وحياتهما عند ابنائها

حياة مستقبله. فليس- والله- كفاء عملك ان تشكرك الافراد، ولكن كفاءة ان تشكرك الاجيال. وإذا كان هذا في الجيل المعاصر لخلا، فسيكون في الاجيال القادمة كثيرا. وتلك سنة الله في عظماء الامم ونوابغها ولن تجد لسنة الله تبديلا. وأنا- واحدا من هذا الجيل- بلسان من يشعرون شعوري، اشكرك لاقوم بما علينا من واجب، لا لأقابل مالك من حق. جازاك الله خير ما جازى به العاملين المخلصين للدين والوطن بعلم وتحقيق وانصاف، والسلام عليك من اخيك عبد الحميد بن باديس. وقد حرص الشيخ مبارك على اثبات هذه الرسالة في الجزء الثاني من تاريخه، لانه يعتبر ابن باديس عظميا من عظماء الجزائر، جدير بأن يثبت نظرته في كتابه في التاريخ الذي هو "من نتائج حياة عظماء الامتين العربية والبربرية" حسب تعبير الشيخ مبارك نفسه. ولا بأس ان نثبت هنا رسالة لم يسبق ان نشرت وردت الى الشيخ مبارك من شيخه وصهره الشيخ محمد الميلي مؤرخة في 24 جويلية 1928 جاء فيها ما نصه: الحمد لله. ابننا العزيز. السلام عليك ورحمة الله. أما بعد فقد وصلني من ادارة الشهاب الجزء الاول من كتاب تاريخ الجزائر. فلما سرحت فيه الطرف الفيته فوق ما يرام وقلت فيه بحق ما قاله الاستاذ باديس، وابتهجت به ابتهاجا قلبيا خصوصيا زيادة على الابتهاج العام، لأن لي ان شاء الله من الثواب عليه قسطا. بارك الله فيكم وأعانكم على اتمامه بمنه وكرمه، والسلام عليكم. من والدكم محمد الميلي ان كلا من تقييم ابن باديس للجزء الاول من التاريخ الذي تجدر الاشارة الى انه كان مخصصا لفترة ما قبل الاسلام- وتقييم مبارك الميلي لذلك التقييم، ورسالة الشيخ محمد بن معنصر الميلي، كل

ذلك يؤكد المكانة التي كان يعطيها نخبة من مثقفي العربية للتاريخ في حركة النهضة الوطنية خلال العشرينات. ذلك ان التاريخ كان أحد الاركان الثلاث التي اعتمدها الاستعمار لفرنسة الجزائر الى جنب محاربة الاسلام والقضاء على اللغة العربية. فقد اراد الاستعمار ان يخضع تاريخ الجزائر كما اخضع ارضها، واراد ان يلغي الخصائص الوطنية للتاريخ، كما حاول ان ينكر خصائصها الجغرافية عندما اعتبر ذلك ان البحر الابيض المتوسط يشق ارض فرنسا كما يشق السين مدينة باريس. وهذا ما جعل الاهتمام الفرذسي بتاريخ لجزائر يتركز على عصور ما قبل التاريخ، وعلى العهد الروماني والحقبة الفرنسية واهمال العصور الاسلامية التي اعتبرها غوتي "عصورا مظلمة". وعبر المؤرخ الفرنسي المعروف- ستيفان غزيل- الذي تخصص في دراسة التاريخ القديم لنطقة المغرب العربي- على التوجيه الذي يحرك الدراسات عندما كتب يقول: ان التاريخ يحدد لنا ايضا واجباتنا: فعلينا ان نتسلح بإرادة لا تقهر في ان نكون اسيادا والى الابد، كما ان هناك ضرورة تتمثل في اقامة استعمار يعتمد على استيطان ريفي اوروبي ضخم، وضرورة تقريب الاهالي منا على اساس الرغبة الصارمة والامل في ان يتحقق انصهارهم في مستقبل قريب أو بعيد. فالتاريخ اذن لا يعتبر في أفريقية اقل العلوم جدوى. وشيئا فشيئا، اعيد تشكيل ماضي الجزائر بما يتلاءم مع هذا الهدف، حتى اصبحت "فرنسة" الجزائر هي الاصل واعتبر عهدها الاسلامي، اقتطاعا تعسفيا لهذا "الجزء من الغرب" الذي الحق بالمشرق مع الفتح العربي، حسب تعبير مارسي. بل هناك من المؤرخين الجغرافيين الفرنسيين من لم يتردد في انكار ان يكون لهذه المنطقة تاريخ: فهذا غوتيي يقول متحدثا عن المغرب العربي: "هذه بلاد ليس لها اسم معروف عالميا، مما اضطر الى اعطائها اسما

ما: ذلك انه ليس لها وجود سياسي متميز، وبناء على ذلك لم يكتب تاريخها" وهكذا أريد ربط الجزائر (بوصفها قلب المغرب العربي، اذ يمكن عبرها التاثير على مجموع الشمال الأفريقي) بالتاريخ الفرنسي خاصة والتاريخ اللاتيني بصورة عامة. يقول لوى بيرتران في كتابه "دماء الجذور". ما ان يضعف الشرق، حتى تسقط أفريقيا الشمالية في الفوضى التي لازمتها منذ الولادة أو تخضع للهيمنة اللاتينية التي وفرت لها قرونا من الازدهار، والتي اعطتها، لأول مرة، شبه وحدة، كما زودتها بشخصية سياسية وثقافية. (يقصد فرنسية طبعا). ان العربي لم يقدم لها الا البؤس والفوضى والهمجية. ان كل شيء قد اتاها من الخارج من سوريا، من فارس من اليونان من بيزنطا، ومن البلاد اللاتينية على الخصوص. من هنا نتبين ان المعركة التي دارت منذ العشرينات حول التاريخ الوطني، كانت من اشد المعارك ضراوة. ذلك ان المنظرين الاستعماريين في مسعاهم الى فرنسة الانسان بعد الارض، وجدوا ان تزييف التاريخ وحده لا يكفي وانه لابد من اكماله بمسعى معمق على واجهتين اثنتين: تجهيل الجزائريين وحرمانهم من تعلم اللغة العربية بوصفها اداة اساسية في الاطلاع على التاريخ الاسلامي والتفاعل مع نبضه الحضاري، وفي نفس الوقت السعي الى تجريدهم من الاسلام وتمسيح من يمكن تمسيحه منهم. وفي اطار هذا المسعى المزدوج والمتكامل لا بأس بالابقاء على شكليات وطقوس دينية تفرغ من روحها، وتجعل الانسان الجزائري عاجزا عن مغالبة المشروع الثقافي الاستعماري الذي يقوم على الثالوث المشار اليه: تحريف التاريخ، التجهيل باللغة العربية، افراغ الدين من مضمونه الحضاري وقوته الروحية.

وقد مرت عملية تزييف التاريخ الوطني الجزائري من طرف المنظرين الاستعماريين بعدة مراحل يمكن اجمالها فيما يلي: اولا: محاربة اللغة العربية وتوسيع مجالات الامية. ولا يخفى ان انتشار الامية بالاضافة الى التفقير يهدد بالقضاء على انسانية الانسان فضلا عن ان تبقى لديه تعلقا بتاريخ او تعزز لديه روح البحث عن الجذور. ثانيا: بعد تجفيف منابع الثقافة الوطنية وانسداد ابواب التعلم في وجه الجزائريين يمكن ان يسمح لهم بقدر محدود من تعلم اللغة الفرنسية التي يضطر الى دخولها بعد عزوفه عنها ومعارضة لها، فيقبل بها بوصفها اهون الشرين وكونها تمثل شيئا هو خير من لا شيء. ثالثا: السعي من خلال ذلك التعليم الفرنسي المحدود الى تحقير التاريخ الوطني. فمدارس التعليم المخصصة "للأهالي" لم تكن تستنكف من اللجوء الى الاسفاف الظاهر عندما يتعلق بتدريس مادة التاريخ الجزائري، بل واستعمال الكذب المفضوح. فقد كانت تلك البرامج في بعض العهود تقدم سقوط الجزائر في 1830 امام الغزو الفرنسي في صورة مهينة خلاصتها ان سكان الجزائر العاصمة باعوا الجزائر للفرنسيين في مقابل قصعة زلابية .. وكان الكتاب الذي يهين التاريخ الوطني هذه الاهانة يشتمل على رسم توضيحي يمثل مجموعة من الجزائريين وقد شكلوا حلقة حول قصعة زلابية يتنافسون على أكل ما فيها .. فليس مثل تحقير الجدود وتشويه أعمالهم دفعا للأحفاد على التنصل من تاريخهم والبحث عن هوية جديدة. رابعاً: بعد ذلك كله تتهيأ الظروف الملائمة لوضع تاريخ جديد للجزائر يتماشى والمنظور الإستعماري. فالمسألة لا تتعلق بايجاد قراءة جديدة للتاريخ، بل صياغة جديدة تبرزه في ثوب لا علاقة له بما كان معروفا حتى ذلك العهد. وتظهر طبيعة هذه المرحلة في نوعين من المحاولات بكمل أحدهما الآخر يتلخص النوع الأول في التأكيد على أن المغرب العربي، كان

قبل ظهور الإسلام مسيحي الروح، لاتيني الثقافة. وعلى هذا الأساس ظهر المسعى الذي عرف بتحقيق "انبعاث أفريقيا اللاتينية" وهكذا ظهرت مجلة تحمل عنوان "لفريقيا اللاتينية" كانت تصدر في الجزائر وتحاول ابراز "الهوية الغربية اللاتينية المسيحية للعالم البربري" وقد امتدت هذه المحاولة الى المغرب الأقصى حيث استخلصت بعض الأوساط المسيحية أن سكانه يمكن بسهولة تحويلهم الى مسيحيين لأن بساطة أخلاقهم تقربهم من المسيحية، كما جاء في كتاب أوزج كولير الذي يحمل عنوان "بحث في فكر البربري المغربي". أما النوع الثاني من محاولات هذه المرحلة، فيتمثل بتسليط كل ما يمكن من أضواء على العهد الروماني وابرازه في صورة العهد المشرق النير، وكذلك العهد الفرنسي. أماما بينهما وهو العهد الإسلامي على الخصوص- فيتم تعتيمه ويعتبر عصورا مظلمة، كما سبقت الإشارة الى ذلك. وبهذا العمل المزدوج، عبر هذه المرحلة الرابعة، تصبح العهود الإسلامية مجرد جملة اعتراضية في أسفار تاريخ المنطقة التي تبدأ والحالة هذه بعهود روما التي تمسحت وتنتهي بفرنسا "البنت الكبرى للكنيسة". إذا نحن استحضرنا أهم دعائم وأهداف المشروع الإستعماري وخاصة ما يتصل منه بالثقافة الوطنية، أدركنا الدور الذي يؤديه تجديد العناية بالتاريخ الوطني، والمغزى العميق الذي يكتسبه ظهور كتاب باللغة العربية عن تاريخ الجزائر في عام 1928. ويؤكد هذه الأهمية، أن مؤلف ـ[تاريخ الجزائر في القديم والحديث]ـ، لم تخف عليه هذه الحقائق، فهو يؤكد في المدخل الذي جعل عنوانه "مقدمات" ما يلي: "فإن التاريخ مرآة الغابر ومرقاة الحاضر. فهو دليل وجود الأمم وديوان عزها ومبعث شعورها وسبيل اتحادها وسلم رقيها. متى درسه أبناء أمه واحاط أخيرا بأدواره شبابها، عرفوا وجودهم فلم تبتلع قوميتهم القوميات الحية النهمة المجاورة لهم، وأدركوا ما

لماضيهم من المجد وما لأسلافهم من الشرف، فلم يقبلوا تنقيص المنقصين وعبث المدلسين وقدح المغرضين، وشعروا بعز السيادة ولذة الحياة، فانفوا من سيطرة المستبدين ولم يخضعوا لذل المستعبدين .... " فالهدف الوطني المتوخى من الكتاب واضح عنده. فهو يرى أن العناية بالتاريخ تضمن اعادة ربط الشعب بمساره، وبعث اعزازه بماضيه دون تمجيد أعمى، كما يرى ضرورة اعطاء الأولوية في الدراسات التاريخية، للتاريخ الوطني على التاريخ الفرنسي. ويتعرض الشيخ مبارك في "مقدمات" كتابه لهذه الأهداف، عندما يتناول الموضوع من زاوية واجب المثقف الجزائري إزاء التاريخ. فقد كتب تحت عنوان فرعي هو "المتعلمون الجزائريون والتاريخ". يستعرض وينقد المثقفين سواء منهم الذين تعلموا الفرنسية أو الذين تخرجوا من المعاهد التقليدية للتعليم العربية- الإسلامي. فهو يقول منددا بالقطيعة بين كل اصناف المنعلمين الجزائريين وتاريخم: "إن المتعلمين اليوم من أبناء الجزائر قطعوا الصلة بينهم وبين ماضيهم فجهلوا ما فيه عن عز وذل ونعيم وبؤس ومدنية وهمجية وسيادة وعبودية. ثم يحلل المسار الذي أدى الى تجهيل المتعلم الجزائري، بتاريخه. فعن خريجي المدارس الفرنسية يقول: "ترى المتعلم بالمدارس يعرف من تاريخ بعض الأمم الأجنبية وما يجدر به أن العلم مثله من تاريخ شعبه ولا يحسن منه تقديمه عليه فكيف بالإقتصار عليه والإكتفاء به؟ إن النسبة بين التاريخين: الشعبي والأجنبي، مثل النسبة بين الضروري والكمالي، إنما يحصل له هذا المثل إذا جاء بعد الضروري فإن سبقه لم يكن كماليا وكان ضرره اكثر من نفعه. ومن مضار تقديم تاريخ الأمة الأجنبية قصر الكمال والسيادة عليها وحصر المعارف والحضارة فيها وذلك تزهيد للمتعلم في وطنه وتنفير له من بني جنسه.

ولقد بلغت الحال ببعض هؤلاء المتعلمين أن صار ينظر الي جنسه نظر المؤرخ الى ما قبل التاريخ. فإذا دار الحديث على الشعوب وقسطها من الحياة وافضى الى قومه رأيته- من جهله بتاريخهم- يستدل على حياة الماضين بحياة الموجودين ويستنتج من ذلك أن لا حضارة للأوائل إنما هم قوم عاشوا في الهمجية وسقوط الأخلاق بعيدين عن نظم الحياة وفقه طبيعة الكون وسنن العمران، ويرى انه اعتمد في هذا الحكم القاسي الجائر على أعدل شاهد: قياس الغائب على الشاهد وانه لقياس فاسد وماذا عسى أن تبلغ قيمة قياس دعامته الجهل؟ ثم قد يترقى في حكمه ويلحق المستقبل بالماضي فيقضي على مستقبل أمته بالشقاوة والتعاسة ويرى أن داءها عياء لا يوجد له دواء وربما طلب لها من الأدوية ما هو عين الداء. ومن الواضح أن في هذه الفترة تلميحا مفهوما الى بعض النتائج التي تترتب على المشروع الثقافي الإستعماري في ما يتعلق بالتجهيل بالتاريخ الوطني وتعميمه، والتي تتمثل في الميل إلى الإدماج باعتباره علاجا وحيدا في حين أنه "عين الداء". أما المعربون خريجو المعاهد العربية- الإسلامية فقد انتقدهم بلجهة تساوي في قساوتها اللهجة التي انتقد بها المفرنسين، إذ يقول فيهم ما يلي: "وهناك متعلمون تعلموا بالمساجد مبادئ بعض العلوم اللسانية والدينية واهملوا من برامج قرآتهم التاريخية فإذا فارقوا المساجد وقدر لبعضهم أن يحيا حياة علمية، الفيته يقتصر على مراجعة ما درسه من الكتب، وأن دعت الهمة احدهم الى التوسع ففي الفنون التي اخذ مبادئها بالمسجد. فرطوا بذلك في قراءة علم يعود على اخلاقهم بالتهذيب وعلى عقولهم بالتدريب على التفكير، ذلك علم التاريخ وتلك فوائده. وان منهم لقوم يخربون عقولهم بأيديهم ويطفئون نور الله- العقل- بأفواههم، ذلك باشتغالهم بقراءة كتب المناقب والخوارق وانها لكتب سيئة الأثر في النفوس.

ثم يقول: فلو اشتغل هؤلاء القوم- بدل هذه الكتب سيكتب تاريخ البشر وحياة الأمم لاناروا عقولهم واطلقوها من ذلك السجن تكتشف من خبايا الأيام وخفايا الطبيعة وما يعود على الإنسانية عامة وبني جنسهم خاصة بالفوائد الجليلة. إن النفس الوطني في كتاب ـ[تاريخ الجزائر في القديم والحديث]ـ واضح، فنحن نشمه ونعز عليه في كل ابواب الكتاب، بما فيها الباب الذي خصصه لجغرافية الجزائر الطبعية. ففي الفقرة الثامنة من هذا الباب- وهي التي تحمل عنوان "الغابات والنباتات الطبيعية" يقول على الاخص: "ليس في استطاعه احد ان يحصي نباتات الوطن الجزائري. ولكنها على كثرة اصنافها، وعظم فوائدها، لا ينتفع بها الجزائريون إلا انتفاعا بسيطا. فلو علموا خصائصها واحيوا علم الكيمياء لخدموا الطب خدمات جليلة، وكان لهم البقاء في الميدان الإقتصادي. وليس هذا بالأمر الوحيد الذي فرط فيه شعبنا. فمتى ينتبهون من هذه النومة التي كاد أمرها يجاوز أمد نومه القبر؛ فيتلافون ما فرطوا فيه ويجدون فيما تكاسلوا عنه". وإذا كان القارئ قد استخلص من هذه الفقرة نتيجة يأس مطلق، فإن الشيخ مبارك يسارع في الفقرة الموالية الى تأكيد الإيمان بالمستقبل، رغم حاضر مظلم، فيقول: "لا يمكن أي أحد أن يتكهن باليوم الذي تبعث فيه الأمة الجزائرية من مرقدها، فإن المستقبل لله وحده، ولكن لا نيأس من هذا اليوم الميمون فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. ويختم باب الجغرافية الطبيعية بجملة لا تحتاج الى تعليق، هي قوله: "بل كون وطنه (أي الجزائري) بتلك الدرجة من الحسن مما يزيد في حسرته، ويحمله على تدارك هفوته الى التفكير في غده وبناء صرح سعادته بيده".

لقد صدر الجزء الأول من هذا الكتاب، في صيف 1928، أي قبل عامين من احتفال الفرنسيين بمرور قرن على الإحتلال، ومعنى ذلك أن العمل من أجل إيقاظ الروح الوطنية قد بدأ قبل الصدمة التي أحدثتها تلك الإحتفالات الصاخبة. فالقراءة المتمعنة لهذا الكتاب تكشف عن بدايات مشروع ثقافي وطني لإحباط المشروع الإستعماري في المجال الثقافي الذي أشرنا اليه، فالشيخ مبارك، ينص في أكثر من مكان، على كل ما من شأنه أن يوحد الشعب، ويقضي على عناصر التفرقة. فهو يعتز، في الجزء الأول المخصص للفترة السابقة على دخول الإسلام، بشخصيات أمازيغية مثل ماسنيسا ويوغرطا وتاكفاريناس. بل أنه، هو العالم المسلم، يشيد بشخصية مثل "الكاهنة" مدفوعا بروح وطنية لم ينل منها حماسه للإسلام وتدينه الشديد، فهو يقول عن الكاهنة، رغم انها حاربت المسلمين. " … وكل من ينظر الى التاريخ بعين الحقيقة يراها دُرَّةَ في جيد تاريخ المرأة لما كانت عليه من حسن التدبير وشدة البأس وصدق الدفاع عن الوطن والثبات على المبدأ". لأن المسعى الذي اعتمده رجال الإصلاح الديني في مجال التاريخ لم يكن يضع تاريخ الجزائر قبل الإسلام موضع تعارض مع تاريخ الجزائر الإسلامية، بحيث ينفي احدهما الآخر. لأن هذا المسعى يعتبر ظهور الإسلام بداية تحول عميق في جميع الميادين، سياسيا وثقافيا واجتماعيا انصهرت به المجتمعات الأمازيغية، من حضر وبدو في الإسلام عقيدة وثقافة وممارسات. فالشيخ مبارك الميلى مثلا، الذي ينسب نفسه الى بني هلال لم يكن يرى أي حرج في أن يطلق على الدول التي أسستها أسر وقبائل بربرية في العهد الإسلامي، عنوان "العصر البربري" لأن الممالك والإمارات التي قامت بالمغرب العربي على سواعد قبائل بربرية، لم تقم على أساس عرقي، ولم تكن تمردا على الإسلام، بل كانت تستمد تبريرها من المذاهب الإسلامية: فالدولة الرستمية والعبيدية

والادريسية أو المرابطية كانت كلها محاولات لتجسيم مباديء حكم وفلسفة ونظام، نادت بها مذاهب اسلامية نشات بالمشرق. بل أن الدعوة الموحدية التي ظهرت على يد بربري أصيل هو "ابن تومرت" كانت محاولة للجمع بين ما جاء من القول بعصمة الإمام المفدي، مثلما كانت من بعض الوجوه محاولة لتطبيق بعض تعاليم الغزالي ضد التفريقات الفقهية الجامدة. إن تحليل تناول الشيخ مبارك للتاريخ الجزائري، يكشف عن مسعى وطني واضح من أجل توظيف التاريخ في إيقاظ الشعور القومي، وفي خدمة مفهوم للوطن ومشروع للثقافة لا يمكن إلا أن يكون متناقضا مع استمرار الإستعمار. ويمكن أن نتبين مقصد الشيخ مبارك من أول صفحة في كتابه وهي التي تتضمن كلمة الإهداء. فهو يهديه الى "الشعب الجزائري" والى "شبابه المفكر ورجاله العاملين والمخلصين" ويعلل سبب الإهداء للشعب بأن الشعوب اصبحت تعرف اليوم "أن إرادة الحاكم إنما تتقوى من جبنهم وجمودهم، وأن الإرادة الحقيقية التي بيدها رفع مستوى الأمم هي إرادة الشعوب". وهو نفسه، عندما يناقش أطروحة بعض المؤرخين الإستعماريين الذين يريدون ربط ماضي الجزائر بأوروبا تمهيدا لفرنستها، يقول عنه أنه يريد أن (يمزق الجنس البربري كل ممزق ويفرقه شذر مذر ويوزعه على أمم أوروبية بالخصوص يركي تذهب وحدته، ويسهل على البلعوم الأوروبي ابتلاعه .. وتلك امنية يحلم بها بعض مرضى العقول من السياسيين، ولكن لن يلج الجنس في جنس آخر حتى يلج الجمل في سم الخياط" (أي انه يجعل الإدماج مستحيلا استحالة دخول الجمل في ثقب الإبرة). وبعد أن العمل الذي قام به الشيخ مبارك الميلي في تأليفه لهذا الكتاب، بتلك الروح والإعزاز بكل الماضي قد أدى خدمة كبيرة الى المسعى الوطني العام من أجل اعطاء مضمون حي لفكرة الوطن

الجزائري الذي تكون عبر التاريخ. ذلك المسعى الذي انتصر في النهاية على المسعى الإستعماري الذي أراد أن يتجاهل التكامل بين عهد ما قبل الإسلام وما بعد الإسلام، وحاول أن ينكر عمق التغيير الذي أحدثه الإسلام وحضارته العربية اللسان. أن الشيخ مبارك الميلى في أخذه بالمفهوم الوطني ودفاعه عن وحدة التاريخ الجزائري كان أكثر تجاوبا مع منطق التاريخ وأنفذ إلى حقائق الأشياء من أولئك المنظرين الإستعماريين الذين كانوا يحلمون باجترار الماضي اللاتينى، وتكريس الحاضر الفرنسي، والذين كانوا يتصورون أنه في إمكانهم تذويب كيان عريق التاريخ، إسلامي الروح، عربي اللسان. محمد الميلي

الكتاب الأول في تاريخ الجزائر قبل الإستيلاء العربي

الكتاب الأول في تاريخ الجزائر قبل الإستيلاء العربي

تاريخ الجزائر قبل الإستيلاء العربي

تاريخ الجزائر قبل الإستيلاء العربي يتضمن هذا الكتاب الكلام على قدماء الجزائر أهل العصر الحجري والكلام عن البربر الذين عمروا هذا الوطن منذ دهور لا يعلم مبتدأها الا العليم الخبير واستقروا به حتى عرف بهم ونسب اليهم؛ والكلام على الدول التي سادت البربر فيه: وهي: دولة الفينيقيين ودولة الرومان ودولة الفندال ودولة الروم ويتقدم ذالك كله القول في جغرافية هذا الوطن الطبيعية. فانحصر هذا الكتاب في سبعة أبواب: ـ[الباب الأول في ذكر قدماء الجزائر أهل العصر الحجري.]ـ ـ[الباب الثاني في ذكر البربر وأصولهم وقبائلهم وما يرتبط بحياتهم.]ـ ـ[الباب الثالث في ذكر الفينيقيين وأخبارهم.]ـ ـ[الباب الرابع في ذكر البربر وملوكهم على عهد قرطاجنة ورومة الجمهورية.]ـ ـ[الباب الخامس في ذكر الرومان وأحوالهم مع البربر.]ـ ـ[الباب السادس في ذكر الفندال ومآل أمرهم.]ـ ـ[الباب السابع في ذكر الروم ومصير دولتهم.]ـ

جغرافية الجزائر الطبيعية

جغرافية الجزائر الطبيعية

1 - تمهيد

1 - تمهيد الجزائر اسم لمدينة عظيمة على البحر الرومي تعرف قبل مجيء العرب باسم اقسيوم (ICOSIUM). ولم تكن تطلق على وطن مترامي الاطراف الا منذ العصر العثماني حيث اتخذ العثمانيون هذه المدينة عاصمة لمملكة ذات حدود مقررة فاشتق اسم الوطن من اسم عاصمة دولته الجزائر. هذا المعنى الحديث جزء من وطن كبير عرف من قبل مجيء الفينيقيين باسم ليبية وهو عبارة عن طرابلس وتونس والجزائر ومراكش قال البكري: "ليبية سميت ببنت باقوه بن يونش الذي بني مدينة منفيش (¬1) بمصر وهي التي ملكت ملك أفريقية اجمع فسمى بها" (¬2) ثم انسلخت الجزائر وما والاها غربا من هذا الاسم وكان الجغرافيون اليونانيون واللاتينيون يقسمون هذا الوطن الذي عرف أخيرا باسم الجزائر الى ثلاثة أقسام: 1 - مصيصيليا (MASSESSYLIE) وهو عبارة عن سهول سطيف وبرج بوعريريج وتل عمالتي الجزائر ووهران الى وادي ملوية غربا. 2 - مصيليا (MASSILIE) وهو باقي عمالة قسنطينة وغرب عمالة تونس الى طبرقة ثم صارت مصيصيليا تعرف بموريطانيا الشرقية ومصيليا بنوميديا. 3 - جيتولية (GETULIE) وهو عبارة عن صحراء موريطانيا ونوميديا ولما جاء العرب اطلقوا اسم المغرب على ما بين برقة شرقا والمحيط الاطلانتيكي غربا، والبحر الرومي شمالا والصحراء الكبرى جنوبا. وانما سموه المغرب لوقوعه غرب وطنهم جزيرة العرب. ثم قسم العرب المغرب الى أدنى وأوسط واقصى؛ وذلك بالنسبة لشرقهم. ¬

_ (¬1) - حكم مصر قبل الميلاد (26) أسرة من لدن الالف الخامس الى المائة السادسة، وكانت منفيش قاعدة الاسر العشر الاولى منها التي عاشت ما يقرب من ثلاثة آلاف سنة. (¬2) - المغرب ص 21.

2 - الحدود

1 - المغرب الأدنى هو ما بين برقة شرقا وبجاية غربا. 2 - المغرب الاوسط هو ما بين بجاية شرقا ووادي ملوية غربا. 3 - المغرب الاقصى هو ما بين وادي ملوية شرقا والبحر المحيط غربا. واطلقوا اسم قسطيلية على ما يعرف اليوم باسم الجريد وهو جزء من جيتولية حسب اصطلاح من قبلهم. فلعل لفظ قسطيلية مأخوذ من جيتولية بضرب من التغيير وقد كان الرومان يسمون عمالة تونس أفريقية " AFRIQUE" ولما جاء العرب استعملوا هذا الاسم بازاء معان ثلاث: قال صاحب المؤنس: تطلق أفريقية على القيروان خاصة؛ وعلى ما بين وادي الطين وبلدة باجة؛ وعلى المغرب كله. ولما قسم المتأخرون الكرة الارضية الى قارات خمس اطلقوا اسم أفريقية على القارة الواقعة ما بين المحيط الاطلانتيكي غربا؛ والمحيط الهندي والبحر الأحمر شرقا؛ والبحر الابيض شمالا؛ وملتقى المحيطين جنوبا. واذ ذاك اطلقوا على المغرب اسم أفريقية الشمالية. ان المغرب بجميع اقسامه- او أفريقية الشمالية- منفصل عن بقية أفريقية بصحار يتعذر سلوك بعضها ويتعسر سلوك بعض آخر؛ لذلك ضعفت الروابط بينه وبين اقسام بقية القارة حتى كاد لا يعد منها؛ وهو يكون وحدة جغرافية وجنسية ودينية وتاريخية: فان هواه واحد وطبيعة أرضه واحدة؛ وسكانه من قديم الجنس البربري؛ وديانته- قديما- الوثنية ثم جاءت المسيحية فكادت تعم عليه ثم جاء الاسلام فلم يدع قلبا الا فتحه واستقر به الاستقرار النهائي؛ والأمم التي فتحته قبل الاسلام وبعده كان فتحها متحدا وان اختلفت جهته؛ فالرومان- مثلا- لكونهم بحريين جاءوه من الجهة الشمالية؛ والعرب لكونهم اهل صحار جاءوه من الجهة الجنوبية. 2 - الحدود قد علمت ان وطن الجزائر عبارة عن موريطانيا الشرقية ونوميديا وجيتولية فحده الشمالي البحر؛ وهو الحد الطبيعي للمغرب كله.

3 - جو الوطن الجزائري

وحده الجنوبي العرق وهو عبارة عن سلسلة جبال رملية تبتدئ من المحيط غربا وتنتهي شرقا بالنيل المنحدر من الجنوب الى مصر؛ وهذا هو الحد الطبيعي لجنوب المغرب ايضا. وحده الغربي وادي ملوية الذي هو حد موريطانية الشرقية، وحده الشرقي طبرقة التي هي حد نوميديا. تقرر هذا الوطن على هذه الحدود منذ العصر القرطاجني، وينقسم داخله انقساما اداريا الى ايالات تختلف باختلاف انظار الدول والملوك. وربما قام ببعضها امراء مستقلون ولم تزل تلك الحدود مرعية الى ان ملك آل عثمان من الترك هذا الوطن فنقصوا من حدوده الشرقية والغربية. صار الحد الشرقي للجزائر- اذ ذاك- يمر شرق تبسة وسوق اهراس ومرسى القالة. والحد الغربي يمر غرب للامغنية وجبال ندرومة. وبهذه الحدود الاخيرة صار الوطن الجزائري يشتمل على (700،00) ميل مربع تقريبا (الميل الفا ذراع). فإذا ألقيت نظرة على الحدين الغربي والشرقي الفيتهما غير طبيعين فلم تكن للوطن الجزائري وحدة جغرافية الا في ضمن المغرب. وإذا نظرت الى قدم حدوده وانها كادت تعاصر فجر التاريخ رأيتْ ان له شبه وحدة تاريخية وسياسية. وقلما تجد أرضا ميزتها الطبيعية بتلك الحدود مثل أرض المغرب. وقلما تجد وطنا ذا حدود عريقة في القدم مثل الوطن الجزائري. 3 - جو الوطن الجزائري الوطن الجزائري واقع بالمنطقة المعتدلة ولقربه من خط الاستواء كانت برودته اضعف من حرارته. وقد تأثر جوه بالبحر شمالا والصحراء جنوبا، فكانت الجهات الشمالية على غاية من الاعتدال: اذ البحر يضعف حرارة الصيف بمياهه ويخزنها فإذا كان الشتاء قاوم برودته بابخرته السخنة؛ فيعتدل الجو- تقريبا- صيفا وشتاء. أما الجهات الجنوبية فهي شديدة الحر لأن الصحراء تدفع حرارة الصيف ولا تخزنها؛ وإذا جاء البرد لم يجد ما يقاومه فيشتد ايضا.

4 - الشاطئ الجزائري

أما من حيث المطر وعدمه فان الوطن الجزائري ليس له في الحقيقة الا فصلان: فصل الامطار؛ وفصل اليبس ج والاول يبتدئ من منتصف الخريف الى مضي شهرين من الربيع. واكثر ما يكون المطر في الشهر الاخير من الخريف وشهور الشتاء الثلاثة. والثاني يبتدئ من أواخر الربيع الى منتصف الخريف. وفي بعض هذه المدة تشتد الحرارة وتقلق البشر خصوصا إذا هبت ريح السموم. 4 - الشاطئ الجزائري الشاطئ الجزائري- كشواطئ اقسام المغرب- كاد يكون خطا مستويا. ولذلك قلت رؤوسه وخلجانه وكانت مراسيه قليلة العمق. وطوله حسب الحدود الحالية (1200) ميل. والرؤوس الكبار بهذا الشاطئ هي: رأس فلكون، رأس إيفي، رأس كاكسين، رأس مطيفو، رأس كربون، رأس بوقرعون، رأس الحديد، رأس القارد. والخلجان الكبار هي: خليج وهران، خليج أرزيو، خليج الجزائر، خليج بجاية، خليج استورة، وخليج بونة. ومراسيه المشهورة هي: مرسى وهران، مرسى تنس، مرسى شرشال، مرسى الجزائر، مرصى الرجاج، (وهو مقابل لجزيرة ميورقة)، مرسى بجاية، مرسى جيجل، مرسى القل، مرسى استورة، (قرب سكيكدة)، مرسى بونة، مرسى مدينة الخرز (وهي القالة). وقد ذكر البكري (¬1) مراسي كثيرة اضربنا عن بعضها لقلة اهميتها كما اضربنا عن رؤوس كثيرة وخلجان غير قليلة لضعف فائدة تعدادها. وتوجد للجزائر جزائر ذكرها البكري (1) أيضا ولكن لم ار داعيا لسردها. واما شبه الجزائر فأهمها شبه جزيرة سيدي فرج التي نزلها الفرنسويون في ذى الحجة ويونيه (جوان) عام 1245 - 1830. ¬

_ (¬1) المغرب ص 81 - 83

5 - جبال الجزائر

5 - جبال الجزائر تتكون جبال الجزائر من سلسلتين متوازيتين آخذتين من الغرب الى الشرق. تفرق بينهما الهضاب غربا وتكادان تتلاقيان بعمالة تونس. تعرف السلسلة الشمالية منهما بالاطلس التلي؛ والجنوبية بالاطلس الصحراوي. ولا يتجاوز ارتفاع السلسلتين عن البحر الميلين الا قليلا. وجبال الاطلس التلي اكثر ارتفاعا من جبال الاطلس الصحراوي. وتفترق جبال الاطلس كليهما أما بسهول واما بمضائق. وتختلف اسماؤهما باختلاف القبائل المجاورة لهما. ففي كل مكان يطلق اسم خاص على جبال تينك السلسلتين. فمن جبال الاطلس التلي جبل تنوشفي، بجهات تلمسان ارتفاعه (2680) ذراعا. جبال الضاية، جبال سعيدة، جبال وانشريس ما بين وادي مينة ونهر واصل اعلاها جبل عين المدنيا. ارتفاعه (3070) ذراعا. في سمتها شمالا جبال الظهرة، ارتفاعها ميل وجبال زكار ارتفاعها ميل ونصف. جبل كزول (او جزول) مشرف على تاهرت وهي في سفحه. جبال تيطري (3200)، ما بين منعطف وادي شلف الى الغرب وسهل وادي الساحل، والى شمالها سهول متيجة، جبل شنوة. جبال جرجرة. منها جبل لالا خديجة ارتفاعه ميلان وستمائة وست عشرة ذراعا. جبال سور الغزلان يبلغ بعضها (3600). جبال بابور، يقرب بعضها من ميلين، جبال الرحمن. وهي ما بين مرسى الزيتونة (شرق مرسى جيجل) ومرسى القل. قال البكري "وهو كثير الثمار والانهار، يسكنه قبائل من كتامة وغيرها، وفيه مزارع كثيرة ومراع مريعة، ومنه يحمل عمود الخرط الى أفريقية وما والاها، وفيه اسواق كثيرة ومراسي" (¬1)، جبل ايدوغ ناحية بونة يبلغ ميلا. ومن جبال الاطلس الصحراوي جبل بني راشد (وهو جبل عمور) من قننه ما يبلغ (3600)، جبال الصحاري، جبل أوراس، به أعلى ¬

_ (¬1) المغرب ص 83.

6 - مياه الجزائر

جبل في الجزائر يعرف بشلية يبلغ علوه ميلين وستمائة وستا وخمسين ذراعا. وجبال أوراس لها شبه بجبال القبائل، ويجمع بين الاطلسين جبال الحضنة. 6 - مياه الجزائر ان للجبال دخلا في كثرة المياه وقلتها. فمتى ارتفعت الجبال جلبت اليها السحاب فينزل المطر وكلما ازدادت الجبال علوا ازداد المطر كثرة. وجبال الجزائر ليست متناهية في الصعود كما في بعض اوطان جنوب أروبا فكان المطر بها غير متناه في الكثرة. ولكنه واف بغرض أهل الوطن. فقد تكونت منه أودية كثيرة وبحيرات كبيرة وحمامات شهيرة. وهي مفيدة للوطن. فان من الأودية ما تقام فيه السدود وينتفع بمياهه في سقي البساتين والحقول وتجعل عليه الارحاء لطحن الحبوب، ومن البحيرات ما يستخرج منه الملح خصوصا في الصيف عند ما تيبس، ومن الحمامات ما يقصد للنزهة والخلاعة والتداوي من بعض الامراض. اما الأودية فليست من الانهار العظيمة ولا يكثر الماء بها الا شتاء بعد نزول الامطار الغزيرة، وفي الصيف بعضها يبس وبعضها تبقى به مياه قليلة. ولذلك لا تقل السفن العصرية الضخمة ولكن السفن القديمة كانت بعض الأودية تتحملها مثل وادي شلف ووادي سيبوس وقد ذكر البكري (¬1) عن وادي قسنطينة انه تجري فيه السفن، وذكر مثل ذلك عن نهر تافنا (¬2). ومن الأودية الكبرى التي تصب في البحر: نهر تافنا ونهر المقطع (ويظن بعض المؤرخين انه هو الذي كان يدعى مولوشات (MOLOCHATH) نهر سيك، (واظنه نهر سيرات). وادي شلف وهو اطول أودية الجزائر اذ يبلغ طوله (700) ميل، ومنبعه من جبال بني راشد ويذهب شمالا مع ميلان الى الشرق أو الغرب في بعض الاماكن، يمر ببوغار ثم ينعطف الى الغرب ويصب في البحر ¬

_ (¬1) المغرب ص 63 (¬2) المغرب ص 77

شرقي مستغانم. وتمده في طريقه أودية أخرى ويسمى في أوله وادي الطويل. وادي اسر. وادي سيباو. وادي الساحل يجتمع بوادي بوسلام ويسمى بعد ذلك سمام؛ ويقسم القبائل قسمين: القبائل العظيمة- لارتفاع جبالها- غربا، والقبائل الصغيرة شرقا. وادي الرمل- او الواد الكبير- (ويعرف قديما وادي مساغا) (AMSAGA) ومنبعه قال البكري: "من عيون تعرف بعيون أشقار. تفسيره سود" (1) يأتي من غرب قسنطينة ويمر بشرقها ثم يذهب شمالا وتمده أودية كثيرة في طريقه. وادي سيبوس يمر بقالة ويعظم في آخره. ومن الاودية التي لا تصب بالبحر: وادي الشعير. منبعه بشمال جبل بوكحيل ويصب في شط الحضنة. نهر سهر منبعه من نواحي برج الغدير ومصبه في شط الحضنة ايضا ويعرف اليوم بوادي القصاب. وادي مزى منبعه بجبل بني راشد وتطلع فيه عيون ثرارة قرب قرية الاغواط بمكان يعرف برأس العيون ومنها شراب الاغواطيين ويسقي بساتينهم. ويعرف في شرقه بوادي جدي. ويصب بشط ملغيغ جنوب بسكرة. وأما البحيرات فهي ملحة ولا يوجد بها الماء الا فصل الامطار. ولا نحباس مياهها قد تنشأ عنها الحمى، ولذلك غوروا مياه بعضها كبحيرة عنابة وتعرف ببحيرة فزارة، وبحيرة هلولة بسهول متيجة، وسبخة وهران. وبحيرات الجزائر منها ما هو متسع جدا ومنها ما هو قليل الاتساع. ويعبر عن المتسع منها بالشط وعن قليل الاتساع بسبخة او زاغز او ضائه. اما الشطوط فتكون بالهضاب والصحاري ومن أشهرها: الشط الغربي في حدود الجزائر غربا، الشط الشرقي فيما بين جبل بني راشد وجبال سعيدة، شط الخضنة جنوب المسيلة، شط ملغيغ جنوب بسكرة، أما البحيرات الصغيرة فمنها زاغز الغربي بالشمال الغربي من الجلفة، زاغز الشرقي بالشمال الشرقي منها، البحيرة في عمالة قسنطينة تقطعها السكة الحديدية الذاهبة من قسنطينة الى باتنة. وأما الحمامات

7 - مناظر الجزائر

الطبيعية فهي كثيرة وموجودة بجميع جهات الوطن الجزائر. منها بعمالة وهران حمام بوحجر، حمام بن حنيفية. وبعمالة الجزائر حمام ألوان، حمام ريغة. وبعمالة قسنطينة حمام أولاد زاير غرب ميلة، حمام بني هارون شمالها، حمام المسخوطين قرب قالمة. حمام بسكرة. والعجائز ومن في معناهن من ضعفة العقول ومعبدي الجهل يعتقدن ان لهذه الحمامات ميزة وفيها سرا الاهيا فيدعونها حمامات الصالحين ويقصدنها للتبرك؛ والعواقر يستحمن بها رجاء النسل. ومن سخافة عقول هؤلاء المساكين- رجالا ونساء- اعتقادهم أن الجن هم الذين يتولون تسخين تلك المياه ليستحم فيها سليمان عليه السلام لجهلهم موته. والقرآن ذكر ان الجن جهلوا موت سليمان ثم علموه عندما أكلت دابة الارض من منساته وخر على الارض. ولكن الجهال ينسبون الى الجن كل ما جهلوا اصله من الامراض وغيرها. 7 - مناظر الجزائر تنقسم الجزائر الى ثلاث مناطق طبيعية متوازنة آخذة من الغرب الى الشرق: المنطقة الاولى التل والثانية الهضاب والثالثة الصحراء. 1 - التل: هو المنطقة التي على ساحل ابحر وتأخذ في الارتفاع حتى تبلغ الاطلس التلي. وما يلي البحر منها يدعى السواحل. وبمجاورته للبحر صار جوه متوسطا بين الحرارة والبرودة. والشتاء فيه حسن جدا. وأرضه ذات سهول وجبال فكانت صالحة لضروب كثيرة من الفلاحة. اما جباله فقد تقدمت، وأما سهوله فهي خصبة مأمونة الري. منها سهل وهران مغمور شطره بسبخة وهران. سهل سيك ويسقى من واديه (1). سهل شلف وهو حار وله مواد كافية لساقيه مستطيل قليل العرض واقع بين جبال الظفرة وزكار شمالا، وجبال وانشريس جنوبا. سهل متيجة (تعرف قديما بقزرونة) وهو اخصب سهول الجزائر واقع بين ساحل الجزائر شمالا ووطن القبائل شرقا وجبال البليدة ومليانة جنوبا. سهل حمزة بوطن القبائل. سهل عنابة وهو شبيه بسهل متيجة لولا ما به من كثرة الحمى الناشئة عن بحيرة فزارة.

8 - الغابات والنباتات الطبيعية

2 - الهضاب: وهي المنطقة الوسطى ذات سهول عالية يبلغ متوسط ارتفاعها (1600) ذراعا؛ وقد تصل (1800). وبها منخفضات تتكون في بعضها بحيرات. هواؤها جاف: لأن جبال الاطلس التلي تمسك عنها السحاب وجبال الاطلس الصحراوي- لتفرقها- لا تمسك عنها الرياح السمائم. وتختلف حالها صيفا وشتاء اختلافا كبيرا وكذلك لا تجد المناسبة بين ليلها ونهارها: الشتاء بارد جدا وفي بعض الاماكن تساقط الثلوج بكثرة؛ والصيف حار ولكن لياليه معتدلة حسنة. والرياح بالهضاب كثيرة والحمى نادرة. ومن الهضاب الواسعة هضبة الحضنة تكثر بها الرمال وهي في جفاف هوائها وحرارة طقسها شبيهة بالصحراء. 3 - الصحراء: هي المنطقة الجنوبية وغالب أرضها رمال تذروها الرياح. ولكن بها واحات جميلة ذات مياه مطردة يغرس عليها النخيل وانواع من الاشجار ويسقى بها بعض الخفر وقليل من الزرع. وبها هضاب لا تنبت شيئا تدعى "الحمادة" وكثبان من الرمل تمسك الندى فينبت بها بعض الاعشاب ترعاها الجمال. وبها أودية لا تجري بالماء الا بعد نزولى المطر الغزير. ومن واحاتها قرارة بوطن توات واكبر قراها عين صالح؛ واحة فجيج شمال توات؛ واحة المنيعة؛ واحة ورجلة. 8 - الغابات والنباتات الطبيعية الجبال الجزائرية كلها ذات اشجار متنوعة ونجوم مختلفة. وليست الاشجار والنجوم مختصة بالجبال بل توجد في غيرها ايضا. ومن الغابات الشهيرة غابة ثنية الأحد، غابة عزازقة بوطن القبائل، غابة بابور، غابة سوق اهراس، غابة أوراس. ومن الاشجار البطم، والبلوط، والخروع، الخرنوب، الخلاف (وهو الصفصاف) الدردار، الدفلى، الضال، الضرو، السرو، الصنوبر، الارز، العرعر، العشرق، الطرفاء، القصب، الكافور، الكرم، النبق، النشم، الريحان، الكروش، ومن النجوم لبهار، الحرشف (والعامة تقول الخرشف) الحرمل، الحسك.

9 - الحيوانات الوحشية

الحنظل، الخبازى، السلق، شقائق النعمان، عنب الثعلب، العرفج، الكراث، الكرفس، البرجس، الصعتر، الديس، الحلفاء، الدرين، والثلاثة الاخيرة كل منها مختص بمنطقة: الديس بالتل، الحلفا بالهضاب، الدرين بالصحراء. ليس في استطاعة احد ان يحصي نباتات الوطن الجزائري. ولكنها على كثرة اصنافها وعظم فوائدها لا ينتفع بها الجزائريون الا انتفاعا بسيطا. فلو علموا خصائصها واحيوا علم الكيمياء لخدموا الطب خدمات جليلة وكان لهم السبق في الميدان الاقتصادي. وليس هذا بالأمر الوحيد الذي فرط فيه شعبنا. فمتى ينتبهون من هذه النومة التي كاد امرها يجاوز امد نومة القبر؟ فيتلافون ما فرطوا فيه ويجدون فيما تكاسلوا عنه. لا يمكن أي احد ان يتكهن باليوم الذي تبعث فيه الأمة الجزائرية من مرقدها فان المستقبل لله وحده، ولكن لا نيأس من هذا اليوم الميمون فانه لا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون. أليس الله بقادر على ان يحيي الموتى بلى انه على كل شيء قدير. 9 - الحيوانات الوحشية يعيش في غابات الجزائر وفلواتها حيوانات كثيرة لا يأتي عليها العد. ولكن اذكر بعضا من ذوات الاربع والطير والحيات. فمن ذوات الاربع الأرنب، الأسد، ابن عرس، ابن آوى، الثعلب، الخنزير، الذئب، سنور البر، الضبع، القرد، الكركند، كلب الماء، النمر، اليربوع، القنفذ، الضربوب، الغزال، الوعل. ومن الطير البازي، الببغاء، البلبل، البوم، الحبارى، الحدأة، الحمام، الحجلى، الخفاش، الرخمة، الزرزور، السماني، الصقر، العصفور، العقبا، الغراب، القنبرة، القطا، الكروان، النعامة، النسر، الهدهد.

10 - المعادن

ومن الحيات الافعى، الثعبان، العقرب، الحرباء، الضب، الورل. ان في وفور السباع العادية والحيات السامة ما يقوي الذكاء ويعين على الاختراع لأن مجاورها مضطر الى وقاية نفسه منها ومحتاج الى تدبير حيل للانتقام منها. وقديما قيل: "الحاجة أم الاختراع". وفي وفور الصيد من الطير وغيرها ما يحمل على تعلم الرماية والحذق فيها. اذن فالشعب الجزائري- بطبيعة وطنه- من انبل الشعوب واحكمها رماية. 10 - المعادن الجزائر مشهورة من قديم بالمعادن وخصوصا معادن الحديد: 1 - الذهب: من معادنها الذهب ولكنه قليل. 2 - الفضة: ومنها الفضة. 3 - الالماس: ومنها حجر الالماس. 4 - الزرنيخ: ومنها الزرنيخ. 5 - الخيلدون: ومنها الخيلدون، وهو نوع من العقيق الجيد. 6 - الرخام: ومنها الرخام، وهو موجود بجهات كثيرة ولكن نتيجته ضعيفة لأنه لا يصدر الى الخارج لغلاء مؤنة حمله. والمشهور من معادنه. معدن فليفلة قرب اسكيكدة، معدن شنوة قرب شرشال، معدن عين تاكبالت قرب وهران. ورخام هذه المعادن رفيع جدا. 7 - النحاس: ومنها النحاس، يوجد بكثرة في عين بربار قرب عنابة، وفي جبال كتامة، وفي غيرها. 8 - الرصاص: ومنها الرصاص، يوجد قرب الحد التونسي بكهف ام الطبول، وقرب الحد الغربي بغار اوبان. 9 - الزانك: ومنها الزانك يوجد بجبال وانشريس، وبو ثعلب بعمالة قسنطينة وغيرهما من النواحي. 10 - الحديد: ومنها الحديد. وهو اكثر معادنها واشهرها. والمشهور

11 - الفلاحة

من معادنه اثنان، مقطع الحديد قرب عنابة، معدن بني صاف بالشاطئ الوهراني. 11 - الجبس: ومنها حجر الجبس. وهو موجود بجهات كثيرة. اشهرها وادي تافنا، أربعاء بني موسى قرب الجزائر. 12 - الجير: ومنها حجر الجير. وهو موجود بجميع النواحي. 13 - الغاز: ومنها الغاز. يوجد بجبال الظهرة ونواحي غليزان. 14 - الملح: ومنها الملح. يوجد الملح الحجري بجهات ميلة والجلفة. ويستخرج غير الحجري من البحيرات والسباخ. 15 - الفسفاط: ومنها الفسفاط. وهو زبل طبيعي يستعمل لتطييب الارض الفلاحية والغراسية. يوجد منه كثير بنواحي تبسة وسطيف. 11 - الفلاحة أرض الجزائر كريمة البقعة طيبة التربة منبجسة العيون والانهار آخذة حقها من الشمس فكانت لذلك خصبة الجبال والبسائط صالحة لضروب كثيرة من الفلاحة. ولكن عماد ثروتها ودعامة غناها شيئان: الحبوب وهي في الدرجة الاولى معروفة بذلك من قديم. وقد كان الرومان يدعون الجزائر- وغيرها من التراب الأفريقي- "مخزن حبوب رومة" والزيتون وهو في الدرجة الثانية. وهو شجر جبال كتامة والقبائل وبلاد تلمسان. ان وطن الجزائر وطن خيرات كثيرة ليس من المستطاع احصاؤها. ولكن نذكر بعض ما يحرث به أو يغرس. فمن زروعها الحنطة وهي انواع متفاوتة في الجودة. الشعير. السلت. وقشرته قشرة الشعير وحبته حبة القمح وتدعوه العامة "شعير النبي". الحمص، الفول، الأرز، الدخن، الذرة وهي نوعان، العدس، الكتان، القطن، التبغ. وهو مما جلب اليها أخيرا بخلاف ما قبله فانها قديمة العهد. ومن اشجارها الزيتون وهو اعظمها فائدة. التين. وهو انواع كثيرة ويدخر للاقتيات ببلاد القبائل، الكرم وهو ضروب كثيرة

وجودته مشهورة. النخيل وهو بصحرائها ذو انواع يعسر عدها منها ما لا نظير له في سائر البلاد طعما ونكهة. التفاح وهو انواع مختلفة طعما وريحا. الاجاص وهو انواع مختلفة طعما وحجما. اللوز وهو نوعان صلب ولين. البورتقال (الشينة- الشين) الليمون وهو انواع. الزنبوع. الاترج، الجوز. الموزء الخوخ. وفيه اصناف. المشمش وفيه اصناف تبلغ ثمرة بعضها حجم ثمرة الخوخ. الفستق. العناب وهو كثير بناحية بونة حتى سميت من اجل ذلك عنابة. بوفريوة. السفرجل وهو موجود بجميع جهات الوطن ولكن لسفرجل تيهرت شهرة على غيره، قال البكري- اثناء الكلام على تيهرت-: "وسفرجلها يفوق سفرجل الآفاق حسنا وطعما ومشما" (1). التوت وهو انواع. حب الملوك. وتنبت الجزائر غير ما ذكر من ضروب الحبوب والاشجار ضروبا من الخضر والبقول، وكل ذلك يدل على أرض خصبة طيبة. ولكن هل ذلك مدح لها أم ذم؟ ما من أحد الا وهو يرى ان الارض الخصبة افضل من الارض الجدبة. ولكني اراني مضطرا لمخالفة الناس في ذلك والذهاب الى غير ما يذهبون اليه حاكما بعكس حكمهم. فإذا رأى القارئ حكمي هذا غريبا فليتأمل مستندي فيه وماذا أرمي اليه فعساه وافقني او يعذرني على الأقل. ذلك ان الجنس الذي يكون بالاراضي التي غضبت عليها الطبيعة فجردتها من روعة الجمال وتركتها عجوزا شمطاء يجد نفسه في حاجة الى التوسع وطلب الرزق في غير وطنه. وليس له من زاد يبلغه الى امنيته ولا معين يعينه على تنفيذ طبته الا الشجاعة والدهاء. والدهاء عضده الايمن ووزيره الايمن. … الرأي قبل شجاعة الشجعان … فيقرأ في مدرسة الحاجة دروسا من الدهاء؛ وتكسبه منازلة الاهوال من صفة الشجاعة على نسبة الخطوب التي قارعها في تحصيل

مطلوبه. أما الجنس الذي يكون بالاراضي التي منحتها الطبيعة سلطان الجمال وخلعت عليها ضروب الزينة فأضحت عروسا ترمقها الاعين من كل جانب وهي في عزتها لا تحتفل بأحد- هذا الجنس تجده راضيا عن وطنه مستغنيا بخطه الوافر عن ان يمد عينه الى غيره. فلا يضطره تحصيل رزقه الى دهاء بعيد القعر- عياذا بالله من الافراط- ولا يكتسب الشجاعة الا من مطاردة الحيوانات الوحشية ترويضا لنفسه وتتميما للذته. ولهذه النظرية شواهد عملية فليست النظرة خيالية بل واقعية. انظر الى الأمة العربية النابتة بتلك الصحاري الموحشة المقفرة لما عرفت كيف تتحد وطعمت لذة الاتحاد بجدها قد ملكت نصف المعمور او جله في أمد لا يكفي غيرها من الامم لافهامهم فائدة الاتحاد. وهذه الأمة الانكليزية الناشئة بتلك الاراضي الصخرية امتد ملكها في جميع القارات الخمس على أمم كثيرة. وليقس ما لم يقل. فالاراضي الجدبة أيأست غير سكانها من الطمع فيها ودفعت بأهلها الى مشاركة الغير في خيرات وطنه او تجريده منها. والاراضي الخصبة الفتت انظار الاجانب عنها اليها وشغلت اهلها عن النظر الى غيرها. وربما علمتهم الكرم ففسحوا لنزيلهم الذي لم يروا منه مكروها كما فسحت أفريقية للفينيقيين. وربما دعتهم الى القناعة فتركوا بعض الاماكن للهاجم عليها من غير ان يستنفدوا قوتهم في الدفاع عنها. وبديهي ان هذه المساوي للاوطان الخصبة الى جانب محاسنها تنطبق على الوطن الجزائري، فكيف تجد نفسك يا ابن الجزائر إذا انت فكرت تفكيري ووافقتني في بحثي واستنتاجي؟ أتسب وطنك ان جاد عليك بخيراته حتى انغمست في الملاذ وأهملت واجباته؟ ام ترى ذلك عذرا يفسل عنك عار الكسل ويبيح لك الخمول والازواء عن العمل؟ لا- لا تنقص وطنك الكريم فان ذلك من خلق اللئيم؛ ولا ترتد بالكسل وترتض الجمود فانك بذلك تسلم في نصيبك

من الحياة لذوي الجدود؛ ولا يحملنك ذلك النظر على الاستسلام للقدر. فان ذلك البحث إنما يصلح متكأ للأمم التي لم تزل على الفطرة لا تعرف غير وطنها ولا عرفت شيئا من أحوال غيرها ليس لها كتاب يرشدها ولا فلاسفة توسع انطاق عقلها ولا ماضي زاهرا يذكي بنفوسها جذوة الحماس ويبعثها على استعادته. أما ابن الجزائر فلا متكأ له في ذلك البحث. بل كون وطنه بتلك الدرجة من الحسن مما يزيد في حسرته ويحمله على تدارك هفوته ويوقظه الى التفكير في غده وبناء صرح سعادته بيده.

الباب الأول في ذكر قدماء الجزائر أهل العصر الحجري

الباب الأول في ذكر قدماء الجزائر أهل العصر الحجري

تمهيد

تمهيد كان الانسان في ابتداء وجوده واول عهده بهذه الحياة لا يعرف الكتابة ولا الصنائع والحرف، ولا يهتدي الى ما اودع الله في الارض من المنافع، فجهل الفلاحة والغراسة واستخراج المعادن. انما عرف الحجارة فاستخدمها لصيد الوحوش لقوته، او رد عاديتها عنه، ثم في دفاع المعتدين عليه من بني جنسه، او الهجوم عليهم. ولبث على ذلك دهورا طوالا- ولكن مع ترقٍ في صناعتها وتفنن في وجوه استخدامها- حتى اخترع الكتابة وعرف المعادن ودخل حظيرة الحياة النظامية. ويعرف ذلك الدهر الطويل بالعصر الحجري لأن مدنيته مشتقة من الحجارة. ويدعى أيضا "ما قبل التاريخ" لان الكتابة لم توجد بعد حتى يدون ما على عهده من الحوادث والوقائع وسير العمران والحضارة فالمؤرخ لا يستطيع ان يتحدث عن اهل هذا العصر حديثا مفصلا مستمدا من النقل، فكان هذا العصر جديرا بأن يدعى ما قبل التاريخ. إن المؤرخين- وان لم يكن لهم نقل عن أهل هذا العصر- لم يعدموا سبيلا للبحث عنه فقد وجدوا من الآثار العريقة في القدم التي حفظها بطن الارض اساسا للكلام عن حياة الانسان الاول. وانار امامهم مذهب النشوء والارتقاء دياجي هذا العصر الحالكة. ان مذهب النشوء والارتقاء قديم ليس من بنات افكار المتأخرين. والناس ازاءه قريقان: مثبت له مجب به، ونافٍ له نافر منه. والحق الذي تشد له الضرورة ويؤيده القرآن الكريم ان المذهب نفسه- بصرف النظر عن بعض الجزئيات- معقول مقبول.

اما الضرورة فيكفي لاستحضارها نظرة في النبات والحيوان والاجتماع والعمران: فانك ترى النبات كيف يبدو عقب ماء المطر او غيره ثم يأخذ في الرقي حتى يبلغ شبابه المقدر له، وترى الحيوان يكون نطفة ثم يترقى حتى يوضع ويأخذ في النمو حتى يبلغ أشده، وترى الرجل يؤسس البيت او الملك ثم يأخذ ذلك التأسيس في الرقي حتى ينال الشرف ويحوز السيادة وينتهي الى درجة من العظمة. ثم ينشأ غيره ويزاحمه ويترقى على حساب انحطاط الاول حتى يضمحل ويحل الثاني محله. وهكذا الشأن دواليك في كل زمان ومكان، وترى مثل ذلك في العمران أيضا. واما القرآن فقد قال تعالى- في شأن النبات-: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى}، وقال في شأن الحيوان-: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}، وقال تعالى في شأن الاجتماع- ومثله العمران-: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}. وإذا ثبت لديك ان الذهب نفسه لا مغمز فيه فلا يضيقن صدرك لبعض الجزئيات التي يقسر بعض الماديين عقلاء البشر على قبولها ويحاولون بها هدم الاديات- مثل ترقي القرد الى نوع الانسان- فان تلك الجزئيات لم تزل وهما ولن تزال خيالا فكيف يصح الحاقها بذلك المذهب الصحيح؟ وزبدة القول ان الضرورة والدين متفقان على اثبات النشوء والارتقاء في النوع الواحد: اما الارتقاء من نوع الى آخر فاقرب من تحقيقه الحمع بين النقيضين. ولا معارضة بين دعوى ان انسان العصر الحجري كان جاهلا الى

1 - أصل قدماء الجزائر

تلك الدرجة، وما اخبر به الكتاب الحاكيم من ان الله علم آدم الاسماء كلها لانه لم يخبرنا انه علم علمه لاولاده بل فيه ما يرشدنا الى ان ذلك خصوصية لآدم اذ ذكر قصة ابنى آدم- وهما لصلبه في رأي بعض المفسرين- وعدم اهتداء القاتل لدفن المقتول. وعلى تقدير ان يكون علم اولاده فان كرور الايام وانتقال البشر من وطن الى آخر مما ينسي ذلك العلم ويذهب به. بل قد تكون الأمة العالمة في مكانها لم تبرحه وتذهب الايام والليالي بعلمها حتى يظن الجاهل بتاريخها ان لا سلف لها في العلم. والشواهد على ذلك لا تحصى. 1 - أصل قدماء الجزائر دل الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه على ان البشر كلهم من نسل آدم عليه السلام، وانه هلك جميعه في الطوفان على عهد نوح عليه السلام ولم ينج الا من ركب معه في السفينة ولم يعقب منهم الا ابناؤه {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ}. واتفق المؤرخون على ان أبناء نوح الذين تفرعت عنهم جميع امم المدنيا ثلاثة: سام، حام، يافث. وقد ذكر ابن خلدون في أبناء يافث قطوبال ثم ذكر الامم المتفرعة عنه فقال: "واما قطوبال فهم أهل الصين من المشرق، واللمان من المغرب ويقال ان أهل أفريقية قبل البربر منهم، وان الافرنج ايضا منهم. ويقال أيضا أن أهل الاندلس قديما منهم" (¬1). فإذا صحت هذه الرواية- ولصحتها شواهد ستراها- كان قدماء شمال أفريقية وبلاد الفرنجة والاندلس ذوي رحم. ولهم اخوة مع الصين بالشرق. ¬

_ (¬1) ج 2 ص 10.

2 - آثار قدماء الجزائر

وعلى هذه الرواية يكون شمال أفريقية اقدم عمارة من جنوب أورربا، لان أبناء قطوبال لا شك انهم مروا بمصر- حسبما هدت اليه الآثار- ثم نزلوا أفريقية الشمالية. وقد كان البحر الرومي - اذ ذاك- قليل الماء ومتصلا باوربا من جهة صقلية ومضيق جبل طارق. (وقد ذكروا ان الذي حفر بوغار جبل طارق هو هرقول وقيل الاسكند ر) (¬1). والاول اصح فان هرقول متقدم الزمن جدا. اما الاسكندر فمن المحقق ان الفينيقيين- وهم اقدم منه- اجتازوا الى الاندلس في سفن (اواخر الالف الثاني قبل الميلاد) فانتقل بعض أبناء قطوبال من أفريقيا الى جنوب أوربا برا- اذ لا سفن لهم في ذلك الحين- سالكين تينك السبيلين. وسنقف على الآثار المؤيدة لهذا الرأي. 2 - آثار قدماء الجزائر عثر الباحثون في الوطن الجزائري على آثار لاهل العصر الحجري، وهي اما منازل لاحيائهم، واما قبور لموتاهم. واما آلات لحياتهم من مصنوعاتهم واما اشياء من مقتنياتهم. 1 - المنازل: أما المنازل فقد وجدت آثارها بالاماكن المرتفعة والكهوف على مقربة من العيون والاودية. وعلة نزول الهضاب والكهوف التمكن من حماية انفسهم من الحيوانات الضارية، والامتناع من الاعداء الهاجمين. وحكمة الاقتراب من الماء البارز على سطح الارض سهولة التزود منه، لبساطة حياتهم وقلة اختبارهم للطبيعة. ومن المنازلى المكتشفة منزل قرب معسكر ومنازل اخرى بجهات وهران، الجزائر، سعيدة، عين مليلة، سطيف، العين البيضاء، تبسة. ¬

_ (¬1) الاستقصاء ج 1 ص 32

2 - القبور: واما القبور فقد وجدت متفرقة ومجتمعة فوق الكهوف والهضاب. وهي مبنية بحجارة غير مصنوعة او بها أثر ضعيف من الصنع، وملتصقة من غير ربط بطين ونحوها. يتخذون عليها صومعة من حجر كقالب السكر. وكثيرا ما يجعلون عليها صفيا عريضة ويحوطونها بصف من الحجارة. ثم أخذ من خلف الاولين منهم يقلل من هذه الاعمال القبورية حتى صاروا يكتفون بحياطتها بدائرة حجرية ويدعون الصندوق الحجري بارزا على سطح الارض بعد ما كانوا يضعون عليه حجارة كثيرة. ولهم في الدفن طريقتان: الاولى وضع الميت بمحل وقتي حتى ينفصل لحمه عن عظمه ثم يجمعون عظام الاموات ويضعونها في قبر واحد، الثانية ان يفصلوا اللحم عن العظم ما عدا المختلط بالعظام ثم يدفنون الهالك جالسا ملتصقا بطنه بفخذيه ولحاه بركبتيه ويجعلون معه اواني ببعضها طعام ويضعون معه أيضا اسلحة واشياء من زينتهم. وقبور اهل هذا العصر كثيرة بوطن الجزائر، والبربر يدعونها قبور الجهلاء. وهي ترجع في تاريخها الى العصر الحجري الذي انقرض اصحابه منذ امد بعيد. 3 - الآلات الحيوية: واما مصنوعاتهم الآلية لحياتهم: فمنها هراوي حجرية عديمة الاتقان، مساحي، مناقير، وجدت هذه الاشياء بطلل دار قرب معسكر. ومنها آلات واسلحة مثل الاولى، عثر عليها قرب الرمشي (مونطانياك). ومنها فؤوس كثيرة حجرية متقنة الصنع، ابر من عظام متقنة أيضا ومنها أوانٍ من طين مزينة بصور. اكتشفت بجهات سطيف وعين مليلة والعين البيضاء، ووجد معها اشياء من الاسلحة والآلات ومنها محكات لدبغ الجلود واشاف واوعية من خشب. وهذه الآثار مختلفة في درجة الاتقاق حسب اختلاف ازمنتها.

4 - المقتنيات: واما الآثار التي جلبوها للاقتناء من غير ان يكون لهم فيها عمل فمنها اصداف كثيرة برية وبحرية. عثر عليها بجهات وهران والجزائر وسعيدة وعين مليلة ونواح اخرى. وهذه الاصداف يتخذونها للزينة. ومنها عظام حيوانات وحشية وانسية منها فرس الماء والكركدن ونوع من الفيلة عظيم انقطع نسله منذ قرون عديدة، عثر على عظام هذه الحيوانات قرب معسكر تحت كثيب رمل ارتفاعه ستون ذراعا. ومن تلك الحيوانات الوعل، الغزال، الخنزير، الحمار، البقر، الضان، العنز، عثر على عظامها بجهات وهران والجزائر وسعيدة وعين مليلة، ومنها بيض النعام، ءثر على شيء كثير منه بجهات متعددة. وهو مما يتزينون به. هذه الآثار منها ما هو محلي محض غير مجلوب من وطن آخر ولا مشابه لآثار الامم الاخرى. ومنها ما يشبه مصنوعات قدماء المصريين خاصة، ومنها ما له شبه بآثار قدماء مصر وأروبا الغربية. فان الآلات الحجرية متشابهة في هذه الاوطان. ووجد بمغارات في نواحي وهران اوانٍ من الفخار وحجر الصوان والعظم شبيهة بما وجد في مغارات بجبل طارق. وبناء القبور بالاحجار موجود بغرب أروبا. والطريقة الاولى في دفن الاموات موجودة بصقيلية ايضا. واكثر آثار قدماء الجزائر شبيهة بآثار قدماء مصر. ان المشابهة بين آثار أفريقية وآثار أروبا الغربية دليل لصحة رواية ابن خلدون- وان لم يجزم هو بصحتها- بأن سكان هذه الاوطان من أصل واحد. ثم في كثرة مشابهة آثار أفريقية لآثار مصر دليل على ان أبناء قطوبال دخلوا أفريقية من ناحية مصر. ثم في مشابهة آثار أفريقية بعضها لآثار صقلية وبعضها لآثار جبل طارق دليل على أن هذه الأمة دخلت أروبا من تينك الجهتين.

3 - حياة قدماء الجزائر

ومؤرخو الافرنج احاطوا علما بهذه الآثار وما بينها من المشابهات ولكنهم لم يهتدوا لرواية ابن خلدون. فأثبتوا بطريق البحث والنظر ان سكان أفريقية وصقلية وأروبا الجنوبية والغربية متفرع بعضهم عن بعض. ثم افترقوا في تعيين الاصل والفرع: فمنهم من قال: انه لا يعلم- لقدم الزمن جدا- من هي الأمة التي بقيت بوطنها والتي انتقلت عنه؟ ولا متى وقع انتقال المنتقل؟ ومنهم من جزم- من غير دليل- بأن الانتقال وقع من أروبا الى أفريقية الشمالية. وانا لا اقف موقف الطائفة الاولى، ولا أخضع لجزم الطائفة الثانية، بل أجزم بان الانتقال وقع من أفريقية الشمالية الى أروبا الحنوبية والغربية. ومستندي في ذلك الآثار السابقة فإنها متصلة من المشرق إلى المغرب. ولم تجد طريقا أخرى متصلة بالشرق من جهة أروبا مملوءة بالآثار التي لها شبه بآثار قدماء أفريقية. 3 - حياة قدماء الجزائر تختلف حياة الامم بساطة ورفاهية باختلاف درجتها في معرفة وسائلها الامدية والادبية. والاستاذ الاول لتلقين تلك المعرفة هي الضرورة والحاجة. وقديما قيل: "الحاجة ام الاختراع". وقد هدت الحاجة الانسان الاول الى اتخاذ مسكن يأوي اليه، وملبس يقيه حرارة القيظ أو زمهرير القر، ومطعم يحفظ عليه حياته ويقوي بدنه على تحمل عبء الحياة. ومكسب يقتنيه ويدخره ليستعين به في وجه من وجوه الحياة. 1 - المسكن: اما المساكن فقد دلت الآثار المكتشفة في غير ما موضع على ان قدماء الجزائر اتخذوها في الاكمات والهضاب واختاروا لها مواضع المياه. وقد قدمنا الوجه في ذلك. ومن وجوه اختيارهم

الهضاب على الوهاد الفرار من تراكم الثلوج على بيوتهم المفضي الى القضاء عليهم تحتها. ذلك بأن الرياح تنسف الثلوج عن الامكنة المرتفعة وتنقلها الى الامكنة المنخفضة، ولم يزل هذا الغرض ببعض جهات الجزائر معروفا معمولا به الى اليوم وقد اتخذوا مدنا وقرى واحاطوها باسوار من الحجارة الضخمة غير منحوتة الا قليلا. وكانت مساكنهم داخل المدينة او القرية في اول عهدهم بالعمارة متخذة من اخشاب ومركبة بكيفية وقتية ليسهل عليهم نقلها حيث ساروا. وكانت لهم عربات تحمل تلك البيوت تجرها الخيل. وهم لا يأوون الى مدنهم الا متى حز بهم أمر وداهمهم مكروه لا يستطيعون مقاومته بباديتهم. 2 - اللبس: واما لباسهم فكان من جلود الحيوانات التي يصطادونها، يدل على ذلك وجود محكات لدبغ تلك الجلود واشاف لثقبها وابر لخياطتها. واتخذوا زينتهم وحليهم من بيض النعام والاصداف. وكانت رؤوسهم غير مكشوفة. يدل على ذلك وجود تماثيل حجرية تشخص انسان ذلك العصر مكسو الرأس بالجلد أو الريش وماسك ثوبه الجلدي على كتفه بزر. 3 - المطعم: واما مطعمهم فكان من البقول وثمار بعض الاشجار الطبيعية وخشاشات الارض ولحوم الحيوانات التي يصطادونها من ظباء ووعول ونعام وخنازير وغير ذلك مما هدت اليه بقية عظامه وما ذهب ولم يبق له أثر. 4 - المكسب: واما مكسبهم فهو حيوانات يقومون بتربيتها او حفظها من عاديات السباع وينتجعون بها مواضع الكلأ ومواقع المياه. وأهل الاراضي الخصبة منهم لا يبعدون عن النجعة بل ان منهم قبائل

اختصت بجهات لزمتها ولم تخرج عنها الى غيرها. قال اغسال Gsell في قوم وجدت لهم آثار بجهات سطيف وعين مليلة والعين البيضاء: "والظن ان يوتهم كانت من خشب وكثير منها طالت عمارتها. ويظهر ان هؤلاء السكان كانوا قليلي الانتقال". وذكر في موضع آخر: ان هناك قبائل لم تبرح اوطانها. وسكان الصحراء ابعد القبائل نجعة واكثرهم انتقالا لجدب اراضيهم وقلة العشب والماء الكافيين لمواشيهم. ومن حيواناتهم الانسية الحمار والضان والعنز، وقد عرفت هذه الحيوانات لقدماء المصريين فربما نقلها هؤلاء الأفريقيون من هناك حين مروا بمصر او جلبوها من بعد. ومنها الخيل، ويحتمل ان تكون مجلوبة من الشام لتحقق وجودها به منذ احقاب عريقة في القدم. ومنها البقر، ويحتمل ان يكون اصله البقر الوحشي وراضه أهل هذا العصر حتى تأنس وتناسل. ومنها الفيل العظيم، وهذا انقطع نسله كما انقرض اهله وانما بقي أثره حسبما سبق. ومنها الكلب، وظنه بعض المؤرخين من المتأخرين متفرعا من الذئب. وهو من اغراقهم في الاندفاع خلف تيار مذهب النشوء والارتقاء وعدم تحريهم في تطبيقه ولو اتقنوا درس الطبيعة لما حملوا على هذا المذهب أكثر مما يتحمل، ولا الصقوا به جزئيات جهلوا أصلها وهو لا يتسع لها. وقد نطقت التجربة والاختبار بأن الذئب- ولو ربي- لا يصير كلبا. ولله صفاء اذهان العرب اذ تقول امرأة منهم أخذت جرو ذئب وارضعته نعجة لها فلما كبر أكلها: بقرت شويهتي وفجعت قلبي … وانت لشاتنا ولد ربيب غذيت بدورها وربيت فينا … فمن انباك ان اباك ذئب؟ إذا كان الطباع طباع سوء … فلا لبن يفيد ولا حليب ولم يوجد اي أثر يدلى على معرفة هذا الجيل للفلاحة. اما المعادن

4 - ادوار مدنية قدماء الجزائر

فكانوا يجهلونها بتاتا. وانما عرف من بعدهم النحاس فسمي عصرهم بالعصر النحاسي، ثم ترقوا الى معرفة الحديد فسمي هذا العصر بالعصر الحديدي. وما زال العالم في هذا العصر الى اليوم لوفور منافع الحديد ولذلك ذكره الله من بين سائر المعادن بأسلوب يدل على عموم حاجة البشر اليه في جميع الازمان اذ قال: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}. 4 - ادوار مدنية قدماء الجزائر مكث قدماء الجزائر- كغيرهم- احقابا لا يعلم تقديرها الا العزيز العليم ومدنيتهم محصورة في الحجارة: يستخدمونها في جميع شؤونهم الضرورية والكمالية. غير انهم كانوا يترقون- وفق ناموس النشوء والارتقاء- في احكام صنع الحجارة واتقانها، ويتفننون في نقشها ورتنميقها. وقد قسم المؤرخون ذلك العصر السحيق الطويل- حسبما هدتهم الآثار المختلفة صنعا وزمنا- الى ثلاثة ادوار: 1 - عصر الحجارة القديم. كان الانسان فيه في اول عهده بالطبيعة جاهلا بطرق الاستفادة منها مقتصرا في حياته على استعمال ما اهتدى اليه فكره الابتدائي من المواد الطبيعية التي يسهل تناولها من غير حاجة الى حذق في صناعتها. استعمل من الحجارة مع تهذيبها قليلا جهازه الحيوي. وقد عثر الباحثون على شيء من هذا الجهاز بجهات من الجزائر تقدم ذكرها. من ذلك هراوي ومناقير ومساح. وهي من اقدم ما عرف من مدنية الجزائريين في ذلك العصر. 2 - عصر الحجارة الاوسط. تقدم الانسان في هذا الدور قليلا

فرقى الصناعة الحجرية، ومد يده الى غير الحجارة أيضا: اتخذ من مغارات الكهوف اكنانا، وصنع الفؤوس الحجرية، وجعل ابرا وخناجر من العظام؛ وأواني من بيض النعام. وآثار هذا الدور متوفرة فيما بين قابس شرقا وسطيف غربا. 3 - عصر الحجارة الحديث. في هذا الدور اتقن الانسان صناعة الحجارة وتفنن فيها وتوسع في الاستفادة منها ولم يقف عندها فقط: اتخذ بعض جهازه الحربي- مثل السهام- من الحجارة، ورسم عليها الرسوم العجيبة. وقد عثروا على بعض تلك الرسوم بجبل بني راشد ووادي ايتل وجهات قالة واتخذ الاواني الطينية للطبخ (مما يدل على تعرفه الى النار). وصنع الاوعية من الخشب، والعربات تقودها الخيل لنقل الآلات الحربية والبيوت الخشبية. واتقن التصوير فرسم صور الحيوانات ومناظر الاصطياد. واشرف على المبادئ التاريخية فرسم على اواني الفخار أشكالا هندسية تمثل الكتابة. وقدر علماء الآثار قدم تلك الاواني الفخارية بنحو ستة آلاف سنة قبل المسيح عليه السلام. مدنية أية أمة من الامم مستمدة استمدادا علميا من معقولها ودرجة تفكيرها، واستمدادا عمليا من كسب ابنائها وجهودهم، ويتكون عقلها وعملها من طبيعة المكان الذي تقطنه؛ وتتأثر بما تشاهده من جيرانها او يبلغها من اخبار الامم الاخرى. ولهذا كانت مدنية قدماء الجزائر ذات اقسام ثلاثة: 1 - مدنية محلية لا مشابهة بينها وبين مدنيات الامم المجاورة لها. من ذلك مدنية اطلق عليها اسم "الصناعة الجيتولية" وآثارها تبتدئ

5 - لغة قدماء الجزائر

من قابس شرقا وتذهب جنوبا إلى جهات قفصة وتنتهي غربا بنواحي سطيف. ومدنية اطلق عليها اسم "الحضارة الصحراوية" وآثارها قائمة الى اليوم بوادي ريغ ووادي مزاب. 2 - مدنية تشبه مدنية قدماء مصر وشمال أفريقية الشرقي. 3 - مدنية تحاكي مدنية جنوب أروبا والاندلس المجاورة لها غربا. من تأمل الآثار الجزائرية- وسائر أفريقية الشمالية - وامعن النظر فيها، الفى ان مدنية هذا الوطن كانت شديدة التأثر من ناحية الشرق قليلته من جهة الغرب. بل قد تكون مدنية هذا الوطن هي التي اثرت في مدنيات جنوب أروبا وغربها حسب البحث السابق. والقضايا التاريخية ناطقة بانشراح صدور الأفريقيين عموما للحضارات الشرقية وسرعة تأثرهم بها، ومحاربة المدنيات الغربية وتقززهم منها. وقد يعثر الباحث في بطون التاريخ على جزئيات لا تؤيد هذا الحكم، ولكنها نادرة لا تقوى على مضادته او نقضه. وهكذا ترى الجزائر (وجارتيها) من حين مهدها معترفة بفضل الشرق مهبط الوحي ووطن النبوءة ومعدن الحكمة. 5 - لغة قدماء الجزائر ذكر غسال في كتابه الجزائر في القديم: "ان لغة قدماء مصر والنوبة والحبشة والبربر ترجع الى أصل واحد." وقد لخص بيروني في كتابه "المسألة الأفريقية" كلام غسال. وبيرنار Bernard في هذه المجلة: "وتشبه لغتهم (البربر) لغات الشمال الشرقي من أفريقية ولغات أروبا الجنوبية والغربية".

6 - ديانة قدماء الجزائر

وقد عبر هؤلاء المؤرخون عن قدماء أفريقية الشمالية بالبربر لاعتقاد جمهور المؤرخين أنهم اول من عمرها. والصواب انهم مسبوقون بأمة العصر الحجري وهي غير أمة البربر. افصحت عن ذلك رواية ابن خلدون، ويعضدها قول غسال نفسه أثناء الحديث عن القبور الاثرية: "والبربر ينسبون هذه القبور الى الجهلاء. وهؤلاء كانوا وثنيين وانقرضوا منذ دهر بعيد جدا". اذ لا يخفى ان البربر لم ينقرضوا، إنما انقرضت الأمة التي سبقتهم الى شمال افريقية وهي أمة العصر الحجري. وتشابه لغات هذه الامم شاهد آخر يضاف الى ما تقدم من الشواهد على صحة رواية ابن خلدون التي صدرنا بها الكلام على أصل قدماء الجزائر. ثم وقوف الشبه من جهة الغرب في جنوب أروبا وامتداده من جهة الشرق مما يؤيد رأينا السابق ان أبناء قطوبال اتوا على مصر الى أفريقية ومنها ذهبوا الى ما يليهم من أروبا. 6 - ديانة قدماء الجزائر اثبت الباحثون على الآثار ان لهؤلاء القوم ديانة: والديانات اصلها الوحي. فلا بد ان تكون هذه الأمة اخذت اصول ديانتها عن رسول من الرسل. وقد قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} ثم دخلها التحريف والتبديل والغلو في تعظيم بعض المخلوقات حتى أمست وثنية. ولا أظن أمة تنشأ على فطرتها تكون وثنية تعتقد النفع والاضرار الناشئين عن الاختيار في الشمس او القمر او أي مظهر آخر. وانما تخضع الامم ذوات الفطر التي لا عهد لها بأي نزعة، للدين الصحيح. فإذا ألفت الاذعان للدين وتمكن منها الايمان بأشياء من

المغيبات، ثم طرأ عليها الجهل- ظهر فيها من الدجاجلة من لهم اغراض شخصية يعملون لتحصيلها باسم الدين والدين هداية عامة لا آلة يستخدمها اصحاب الغايات الذميمة لبلوغ غاياتهم. لا جرم اضطر كل دجال من البشر في أي عصر الى تحريف الدين بالغلو احيانا والابتداع تارة. واذ ذاك يغرس اشجار الوثنية في تربة الجهل الثرية، تسقيها تلك الأمة الجاهلة بخيالاتها واوهامها حتى تعظم وتنتشر فتحجب شمس الدين الصحيح وتغطي بدور العقول النيرة. وفي ظلام هذه الاشجار الحالك تعيش الأمة عيشة وثنية: لا هي من الانعام عديمة الشعور بغير حاجتها الى ما يحفظ حياتها الاولى، ولا هي من البشر تحكم العقل وتتقاضى اليه فيما تأتيه من ضروب الاعمال. {أولئك كالأنعام بل هم أضل سبيلا} (*). أما الديانة التي عرفها الاثريون لقدماء الجزائر فهي عبادة الشمس والقمر (وهما من معبودات المصريين)، وعبادة بعض الحيوانات منها القرد والثور والكبش والتيس. وجد بجبل بني راشد تمثال يدعى "أتون" كانوا يتخذونه الهاً وهو صورة تيس على رأسه دائرة الشمس. وكانوا يعظمون الحيون والاشجار والجبال، ويحترمون الاموات يشيدون لهم قبورا ضخمة. وقد وقع شعبنا فيما يقرب من هذه الوثنية "والتاريخ يعيد نفسه" فمن آثار عبادتهم للشمس ان الولد حينما يثغر وتسقط سنه يرمي بها الى الشمس، ويقول لها في بعض الجهات الشمالية "أعطيتك فضة أعطني ذهب" وفي بعض الجهات الجنوبية: "أعطيتك سن حمار أعطيني سن غزال". ومن تعظيمهم لبعض العيون انهم يتبركون بمياهها ويستشفون بالشرب منها ويرجون منها النسل ويقربون لها القرابين الدجاجية. ¬

(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هكذا في المطبوع، وليست الآية الكريمة هكذا، بل: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]

ومن تعظيمهم لبعض الاشجار انهم يجتنبون قطعها واحتطاب ما سقط من عيدانها ويعلقون بها الخيوط رجاء ان تقضي حاجاتهم، كما يعلق احدنا باصبعه خيطا كي يذكر به ما يخشى نسيانه. ومن تعظيمهم للجبال تقديم النذر من الاطعمة والانعام لبعض الكهوف وزيارتها زرافات ووحدانا. وتطييب رائحتها بالبخور ومياه الرياحين. وقد يتأولون ذلك بأن احد الصلحاء مر بهذا الكهف او جلس عنده. وعلاوة على كون هذا التأويل غير مبرر لفعلهم فان الصلحاء جلسوا في غير الكهوف أيضا ومشوا في السهول والبسائط. اما تشييد القبور الضخمة للاموات واتخاذ الحرم لها فقد بالغوا فيه اكثر مما تقدم واربوا في ذلك عن كل امة حتى صاروا يشيدون القباب لا على ضريح ولا على أثر من مواقع اقدام صلحائهم. وشرح هذا المقام يوسع دائرة خروجنا عن موضوع الكلام. وكان قدماء الجزائر يعتقدون بحياة أخرى غير الحياة الاولى، ويرون ان الميت في قبره اكمل منهم علما. يدل على ذلك ما تقدم من ان منهم من يضع الميت في قبره جالسا ملتصقا بطنه بفخذيه ولحاه بركبتيه، يمثلون بهذا الوضع هيئة الجنين في بطن أمه. كأنه بموته ولد في عالم آخر، ولذلك يضعون معه أطعمة واشياء من الزينة. وإذا اهمهم أمر لم يهتدوا الى وجهه استشاروا الموتى من أسلافهم: ينام أحدهم على قبر سلفه وما رآه في منامه عمل بمقتضاه في يقظته وللجزائريين اليوم حظ وافر من هذه العقيدة المباركة على الانحطاط والتقهقر.

ـ[صورة: نقوش من تاسيلي]ـ

ـ[صورة: زرافة من تاسيلي]ـ

الباب الثاني في ذكر البربر

الباب الثاني في ذكر البربر

تمهيد

تمهيد البربر أمة من أقدم أمم العالم واشهر أجياله. عاصرت العرب والفرس واليونان والروم. معروفة بعز الجانب واباية الضيم والدفاع عن الشرف. وقد زاحمت الامم ودافعت الملوك عدة آلاف من السنين. حاربت بني اسرائيل بالشام. وهاجرت الى وطن أفريقية والمغرب فاستولت عليه في اعصار لا يعلم مبتداها الا العليم الخبير، واستوطنته يطونها وقبائلها، وكانت ذات كثرة ومنعة فعلأت وهاد المغرب ونجاده، واعفت ذكر الأمة التي سبقتها اليه، ثم كانت لها مواقف مع الدول العظمى ذات المطامع في وطنها. هاجر الفينيقيون جيرانهم بالشام الى وطن البربر ونزلوا عليهم ضيوفا كراما فاكرموهم. وعاشت الامتان في وئام قرونا، البربر يعضدون الفينيقيين في حروبهم خلف البحار، والفينيقيون يحترمون حرمة البربر- خصوصا بربر نوميديا- فلا يسومونهم بذل ولا ينالون من شرفهم ولا يمدون ايديهم الى ما تحت تصرفهم. وقد وقعت بين الامتين حروب الا انها كانت في مباديها من قبيل الثورات التي لا تخلو منها الأمة الواحدة، وفي الاخير تمشت حيل أروبا بين البربر وانطلت عليهم دسائسها فعضدوا الرومان في حروب قرطاجنة طمعا في الاستقلال بحكم وطنهم واسترداد ما أخذته منهم قرطاجنه معلمتهم الحياة والنظام. ولما انكشف لهم الحجاب عن مقاصد الرومان اخذوا يحاربونهم - والظفر طيفهم- ولم يجن الرومان من تعنتهم في محاربة البربر غير الاستيلاء على بعض المدن وما حولها من البسائط عدى طول المدة وكمال العدة.

1 - أصل البربر

ولم تزل هذه الأمة النشيطة الحربية- قبل الإسلام وبعده- تقف في وجوه الهاجمين وتثور على الظلمة المستبدين وتنهض للتخلص من وطأة الاجنبي على حريتها وازاحة كابوس المستعمرين عن مقلتي حياتها. ملأت بذلك تاريخها منذ سطوع فجر التاريخ ولكن لم تكن الحروب بما نعتها عن مجاراة الامم الاخرى في الحضارة والرقي والتخلق بالاخلاق الجليلة والخلال النبيلة، فقد عرف التاريخ لها حضارة عظمى ومدنية مثلى، وظهر منها علماء حكماء وعظماء خبراء في الدين والسياسة والعمران قبل الاسلام وبعده وسترى- ان شاء الله- في الصحائف التالية ما ينير امامك حقيقة هذه الأمة العظيمة. 1 - أصل البربر الحديث في أصل البربر من اكثر الاحاديث اضطرابا واوسعها خلافا بحث فيه المؤرخون قديما وحديثا واطالوا البحث ولكن لم يحصلوا الا على روايات متضاربة وآراء متناقضة. ولهم في البحث طريقان: طريق المتقدمين من مؤرخي اليونان والرومان والعرب تعتمد على الرواية والنقل، وطريق المتأخرين من مؤرخي الافرنج تعتمد على الدراية والنظر الى اللغة والخلقة والصناعة. ونحن لا يسعنا أن نتتبع كل ما وقفنا عليه ولكننا نحرص على افادة المطالع باقرب طريق فنلخص أقوال الطائفتين ثم نتبعها بنظرة تؤيد ما كان من هاتيك الاقوال اقرب الى الصواب ونزيف ما كان منها خرافة او خيالا. أ = الطريقة الاولى: انقسم اصحاب هذه الطريقة الى فرق: 1 - فرقة ترى ان البربر نشأوا بالمغرب وليسوا منقولين من وطن

آخر. ومن هذه الفرقة افلاطون من القدماء وفورنال Fournal من المتأخرين. 2 - وفرقة تقول انهم ايجيون من سكان ضفاف بحر ايجه Egée وهو بحر الارخبيل. ومن هذه الفرقة هيرودوتس، ديودور الصقلي، بلوتارك. 3 - وفرقة تقول انهم ساميون انساب العرب. ثم اختلفوا من بعد. فذكر بروكوبس- وهو من مؤرخي الدولة البيزنطية عاش في المائة السادسة للميلاد- انهم من العبرانيين والبونيقيين، وروى الطبراني أنهم من نسل نقشان- او نفسات- بن ابراهيم عليه السلام. وهي موافقة لقول بروكوس. وروى ابو عمر عبد البر عن بعض نسابة البربر انهم من ولد النعمان بن حمير ابن سبا. واذن فهم عرب. وقيل انهم اوزاع من اليمن: قال المسعودي من غسان وغيرهم، وقال غيره من لخم وجذام. وقيل من عملاق بن لاوذ بن إرم بن سام. هذا ملخص اقوال الفرقة الثالثة. 4 - وفرقة تقول انهم حاميون: قيل من مصراييم بن حام، وقيل من مازيغ بن كنعان بن حام. 5 - وفرقة تقول أنهم من الفرس- وفارس قيل من سام وقيل من يافث- روى المؤرخ الروماني سالوستس Salluste عن كتب فينيقية: ان الميد والارمن والفرس جاءوا الى الاندلس في جملة جنود احد ملوك اليونان فلما توفي ذلك الملك عبر هؤلاء الاقوام الى أفريقية الشمالية- وكانت عامرة بالجيتوليين والليبيين- واختلط الارمن (وهم من يافث) بالليبيين وكذلك الميد (اخوان الفرس) فغيرت كلمة الميد

بكلمة "المور" وتنقل الفرس في هذا الوطن فلقبوا انفسهم "النوماد" ومعناه الرحل. ثم استولوا على البلاد القريبة من قرطاجنة واستوطنوها فسميت "نوميديا" نسبة اليهم. واندمج من كان قبلهم بهذه الناحية فيهم وامتزج بهم وسمي باسمهم. ومثل هذه الرواية رواية من روى ان البربر من ولد جالوت، فقد نسب ابن خلدون جالوت الى فارس. 6 - وفرقة تقول انهم من الهند. منها استرابون من متقدمي المؤرخين. 7 - وفرقة تقول انهم اخلاط من أصول: ففي بعض روايات الطبري انهم من العمالقة وهم ساميون ومن كنعان بن حام، وقال مالك بن المرحل: البربر من العمالقة وحمير ومضر وقريش (قبائل سامية) والقبط وكنعان (قبيلتان حاميتان باتفاق). هذا ملخص اقوال اهل الطريقة الاولى وتركنا بعضا منها ايثارا للاختصار. ب = الطريقة الثانية: وفي تبحث عن أصل البربر من طريق الخلقة واللغة والصناعة: 1 - اما الخلقة فيوجد في كثير من البربر عرض الاكتاف وضيق الخصر وهذا الضرب قديم بأفريقية وموجود بالجزائر وتونس. وهذه الصفة معروفة بقدماء مصر والاسبان والباسك (قوم من السلتين يسكنون شمال الاندلس وجنوب فرنسا الغربي). ويوجد فيهم الشقر بالجبال مثل جرجرة واوراس بالجزائر والريف بالمغرب. ادعى بعضهم ان اصحاب هذه الصفة من بقايا الرومان والفندال ولكن غسال يقول: انه لم يبق من هاتين الامتين عدد يمكن ان يؤثر في البربر بل الظاهر انهم بالمغرب من قديم. وقال مرسى ايضا انهم سكنوا هذا الوطن قديما، ثم قال ولهم مشابهات كثيرة- خلقا وخلقا- بامم اروبية.

ومنهم اقوام سمر اللون قصار القامة سخنوا الطبع. قال غسال: وهذه الصفات توجد في سكان الاندلس وايطاليا وجنوب فرنسا وجزيرتي الكورس وسردانيا. 2 - اما الصناعة فمنها اوان طينية تصنع بوطن القبائل وينفش عليها تماثيل، قال غسال: وقد عثر على نظيرها في قبور مصرية يرجع تاريخها الى نحو اربعة او خمسة آلاف سنة قبل الميلاد. قال بيروني ويوجد نظيرها أيضا بجزر صقلية ومالطة. ومنها تماثيل للحيوانات تصنع بالجزائر ومراكش والصحراء. قال غسال: ويوجد نظيرها قديما بمصر والنوبة. ومنها بناءات للمعابد. قال بيروني: ولها شبه ببناءات معابد أروبا الغربية. 3 - واما اللغة فانه لا مشابهة بين لغات البربر واللغات السامية نحوا وتصريفا، ولها مشابهة من حيث التركيب بلغة قدماء مصر والنوبة والحبشة والصومال والهوصا، وفيها الفاط اروبية وهندية. وقد اعتنى رين بالبحث فيما بين لغة البربر وبقية اللغات من المشابهات اعتناء لم يشارك فيه غيره. وصدر بحثه في أصل البربر بقوله: "ومن الادلة للبحث عن اصل امة لغتها" ثم أخذ يذكر الفاظا بربرية ويناظر بينها وبين سائر اللغات خصوصا لغات أروبا والهند، مثل لغة السكسونيين (الالمان والانكليز) ولغة السكندينافيين اهل شمال أروبا (السويد والنروج) ولغة الاترسك (قدماء ايطاليا) قال وتوجد قبائل من قدماء ايطاليا مسماة باسماء قبائل بربرية. ومعاني تلك الاعلام متعددة عند الفريقين وذكر أيضا قبائل اروبية من امتي الغوط والسكيت (ويقال ايضا السكلوت) اعلامها متحدة باعلام قبائل بربرية. ثم سرد تلك القبائل بأسمائها عند الفريقين. وخلاصة بحث رين: ان اكثر البربر هنديون واروبيون اصلا

ولغة، وليس في الوطن البربري من الاصل السامي الا قليل، حتى ان بني هلال الذين جاءوا في العصر الاسلامي اكثرهم طورانيون وآريون!! وملخص ابحاث هذه الطائفة ان البربر ليسوا امة مستقلة وانما هي مزيج من أمم شرقية واوربية وحد بينها الوطن. ج = نظرة فيما تقدم من الروايات والابحاث. قد علمت ان ابحاث المتأخرين تعتمد على الصفات والصنائع واللغة وليس شيء من ذلك بمفيد في معرفة اصالة أمة لاخرى او تفرعها عنها وذلك ان للامكنة دخلا في الصفات. فالاقوام الذين يسكنون اماكن متحدة في الطبيعة يتحدون او يتقاربون في الصفات وان اختلفت اصولهم وقد أشار بيروني الى هذه الحقيقة بقوله: "ان مسألة الاوصاف لم تفدنا في أصول البربر شيئا". والصنائع اضعف من الصفات في ذلك لانها مما يسهل تعلمه وتنقله خصوصا بين الامم المتجاورة التي كانت بينها علاقات. وقد اثبت التاريخ ان سكان ضفاف البحر الرومي شمالا وجنوبا تعارفوا ودخل بعضهم تراب بعض: فقد كان الجند الفينيقي مركبا من عدة اجناس كانت حوالي هذا البحر وكذلك من جاء بعد الفينيقيين من الدول، وقد أقام الجند النوميدي مع رئيسه حنبعل سنين بجنوب أروبا. واللغات إنما تعتبر المشابهات بينها إذا كانت من حيث التراكيب لا من حيث وجود بعض المفردات فيها- خصوصا إذا احتيج في تقرير المشابهة الى تغيير بعض الحروف او حذفها وقد ذكر بيروني انه- وجد مشابهات بعيدة بين اللغة البربرية ولغات قدماء مصر والنوبة والحبشة والصومال والهوصا، وقال: "وهي ترجع الى أصل حامي" ريد ان المشابهة بين هذه اللغات كالمشابهة بين اللغات السامية من عربية وفينيقية وعبرية،

ولم يعتبر بيروني مشابهة اللغة البربرية للغات الاروبية وذلك لانها مشابهة في بعض الالفاظ. قال: "واللغة ايضا لا يمكن الاعتماد عليها في اصالة امة لاخرى". ولم ار من اعتمد اللغة اصلا للبحث في جنس البربر مثل رين Rinn وقد بالغ في البحث والتنقيب مبالغة لا تجديه في الغرض الذي يقصد اليه شيئا ولكنها تدل على سعة اطلاعه على اللغات وقوة جراءته على الانساب. ناهيك انه لم يبال بوضوح أصل العرب وصراحة نسبها فجعل الهلاليين- على نصوع نسبهم العربي كسائر القبائل العربية- طورانيين وآريين. أي ثقة تبقى في كلام رين بعد اقدامه على العبث بنسب قبيلة من اصرح القبائل الحربية نسبا؟ وهل تثق النفس بما يبديه من المشابهات بين الالفاظ المختلفة الاصول؟ اما العربية- ولا اعرف غيرها- فقد رأيته عبث بكثير من معاني الالفاظ التي اوردها منها. لم يكتف رين بالمقارنه بين الفاظ البربر والامم المجاورة لها على ضفاف البحر الرومي حتى طار الى روسيا واتانا منها بمفردات اتعب نفسه في تقريبها من مفردات بربرية! أي أمة تستطيع ان تحصن وحدتها الجنسية للنجاة من تكلفات هذا الكاتب وفلسفنه اللفظية؟ إذا لم تستطع قبيلة الهلاليين ذلك فليس لاي قبيلة ولا شعب آخر طمع في النجاة من تفرقة هذه الفلسفة المتمحلة. لو كان لي شيء من جرأة هذا الكاتب لاتهمته بانه لم يكتب ما كتب بقلم علمي وانما كتبه بقلم سياسي: يريد ان يمزق الجنس البربري كل ممزق ويفرقه شذر مذر ويوزعه على أمم اروبية- بالخصوص- كي تذهب وحدته ويسهل على البلعوم الاروبي ابتلاعه. وتلك امنية يحلم بها بعض مرضى العقول من السياسيين ولكن لن يلج الجنس البربري في جنس آخر حتى يلج الجمل في سم الخياط.

وههنا اودع طائفة الاعتماد على الابحاث التي لا نتيجة لها غير الشكوك والاوهام، وارجع الى تمحيص تلك الروايات لاستخراج ما تطمئن اليه النفس منها. 1 - اما القائلون باصالة البربر في افريقية وعدم انتقالهم اليه من وطن آخر فظاهر انهم لم يذهبوا هذا المذهب الا لكونهم لم يعرفوا للبربر وطنا قبل هذا الوطن. ولكن من المعلوم ان آسيا هي مهد الاصول الاولى للبشر، وانهم لما كثروا وضاق بهم وطنهم الاول أخذوا يتوسعون فيما حولهم من الاوطان ويكتشفونها وطنا بعد آخر. فهذا غير صحيح ولا معقول الا ان يكون اصحابه لا يعترفرت بابوة آدم للبشر ولا باستقلال نوعهم وانما هم منحدرون او صاعدوت من سلالة القرود مثلا. وهو رأي أفن او حلم طائش لا يعقل الاخذ به بدلا مما تواتر في التواريخ القديمة ان الوطن الاصلي للبشر هو بعض جهات آسيا، او ايثارا له عما جاء في الكتاب الحكيم ان البشر من آدم. 2 - واما القائلون بان البربر هنديون فهم ابعد عن الصواب من الاولين اذ البربر معروفون بأفريقية من قبل التاريخ- كما ذكره غير واحد من المؤرخين- فكيف يكونون منقولين من الهند؟ واي طريق سلكوها من الهند الى أفريقية؟ ان قالوا طريق البحر قلنا انها لطولها وعظمة البحر في بعضها يتوقف سلوكها على بسطة في علمي الجغرافية والنجوم ومعرفة مهاب الرياح وتقدم في صناعة المراكب البحرية. وكل ذلك مفقود في ذلك العصر السحيق. وان قالوا طريق البر قلنا ان سلوكها يتوقف على جيوش جرارة واسلحة ممتازة ليتمكنوا من مغالبة الامم التي يمرون بها، ثم لا يصلون الى أفريقية الا بعد سنين طوال مملوءة من الحروب والاهوال. وذلك مما

تتوفر الدواعي لنقله وانتشاره ثم تدوينه في الكتب. ولم تحو كتب التاريخ شيئا عن هذه الرحلة الشعبية التي لا تتيسر حتى اليوم. 3 - اما القائلون بأن البربر ايجيون فانما نسبوهم الى وطن ولم ينسبوهم الى أصل بشري. ثم انه وطن ضيق والبربر امة من اوفر الامم عددا. على ان افلاطون اليوناني أدعى- كما سبق- انهم اصليون بوطنهم فلو كانوا منقولين من جهات بحر هيجاي لما خفي ذلك عليه. واهل مكة ادرى بشعابها. ويصعب على النفس تكذيب هذه الطائفة بتاتا فالذي يظهر أن عرقا ايجيا موجود بوطن البربر، وهو الذي اوقعهم في تلك الشبهة. ولكن البربر اقدم في هذا الوطن من الايجيين واكثر عددا وأعز نفرا. 4 - واما القائلون بان البربر ساميون قد علمت اختلاف رواياتهم وقد رد ابن خلدون رواية الطبري انهم من ولد ابراهيم عليه السلام بما محصله: ان البر كانت لهم من الكثرة في زمن داوود عليه السلام ما يبعد كونهم من نسل ابراهيم لعدم طول المدة بين ابراهيم وداوود طولا يتشعب معه البربر ذلك التشعب. ورواية بروكوبس بمعنى رواية الطبري وقد علمت ما فيها، ولو قال هؤلاء بإنه يوجد بين البربر عرق عبري لكان صحيحا فقد اثبت الباحثون وحققوا وجود طائفة من اليهود بين البربر من قديم، حتى انهم لقدمهم لا يعرفهم قدماء مؤرخي الاسرائيليين. ومعابدهم مخالفة تماما لمعابد سائر اليهود. وللعلامة شلوش اليهودي في هذا الموضوع كلام في غاية التحقيق. والفينيقيون معلوم انهم طارئون على البربر وليسوا مجتمعين معهم في الاصل قصعا. وانكر ابن خلدون ايضا القول بانهم من ولد جالوت او عملاق وقال فيه، "قول ساقط يكاد يكون من احاديث خرافة".

ورواية ابن عبد البر عن بعض نسابة البربر انكرها هو نفسه، وانكرها ابن حزم ايضا وعمم- ابن حزم- في الانكار اذ لم يقبل كونهم من اليمن قائلا: "وهذا كله باطل لا شك فيه" وقال ابن خلدون "انه منكر من القول" ولكنه نقل عن المحققين من نسابة العرب مثل الطبري والسهيلي: ان قبيلتي كتامة وصنهاجة من حمير تركهما أفريقش بالمغرب لما قفل من غزوه. قال السلاوي: "وهو قول جميع النسابين من العرب (¬1) ". 5 - واما القائلون انهم من الفرس فقد فسرت قولهم رواية سلوستس: ان ليبية (أفريقية) كانت عامرة بالبربر، وان الفرس إنما نزلوا في جوارهم بعد وفاة ملكهم اليوناني. وعليه فلا تصح دعوى ان الفرس أصل للبربر، ولا انكار وجود الفرس بأفريقية اذ لا منافاة بين الامرين. 6 - واما القول بانهم اخلاط من اصول فقول فاسد التعبير. وصواب الحديث ان يقال: ان الوطن البربري فيه أصول غير بربرية. وهذا مسلم لكن غير مفيد في معرفة أصل البربر. 7 - واما القول بانهم حاميون من مصراييم فغير صحيح ايضا ولكنا لا ننكر وجود عرق منهم في الوطن البربري. والصحيح من هذه الروايات كلها انهم حاميون من مازيغ بن كنعان ابن حام. هذا الذي صححه ابن خلدون قائلا: "والحق الذي لا ينبغي التعويل على غيره في شأنهم انهم من ولد كنعان بن حام بن نوح … وان اسم ابيهم مازيغ". واعتمد كاريت رأي ابن خلدون: ان البربر أمة مستقلة منذ أجيال ¬

_ (¬1) استقصاء ج1 ص29.

عديدة. وقال الجنرال دوماس: "ان لنا أدلة كثيرة على ان البربر من كنعان. نكتفني منها بدليل واحد: احد اعقاب حام يدعى مازيغ، والى يومنا هذا يسمى البربر انفسهم امازيغ. الا يكون هذا التواطؤ بين الاعلام مفتاحا لاصل البربر؟ ". - خلاصة البحث: يمكننا ان نستصفي من تلك الروايات ونستنتج من هاتيك الابحاث النقط الآتية: 1 - الجنس البربري جنس مستقل في أصله يرجع الى مازيغ بن كنعان ابن حام. انتقل من الشام الى أفريقية في أزمان قديمة جدا فصح ان ينسب هذا الوطن لهم. 2 - وقعت مهاجرات الى هذا الوطن في اوقات مختلفة من أمم متعددة منها ابناء مصراييم بن حام. قال دوماس: جاءوا مع البر واجتازوا الى أفريقية وتسموا "مور" ومعنى ذلك مغاربة. وتقدم عن سلوستس خلاف ما يقول دوماس في كلمة "مور". ومنها قبائل فلسطينية فرت أمام يوشع. ذكر ذلك دوماس وفي ابن خلدون ما يؤيده. ومنها الفينيفيون (وهم ساميون) وقد جاوروا البربر قرونا عديدة فقد أسسوا عوتيقة عاصمتهم الاولى سنة 1101 ق- م. ومنها عرب يمنيون جاءوا مع افريقش. ومنها قوم ايجيون ومنها قوم من الفرس. ومنها العبريون على ما حققه شلوش Schlousch. كل هذا تظافرت عليه اقوال جماهير من المؤرخين. وليس في العقل ما ينافي هذا النقل. 3 - البربر أخذوا حظا من لغات هذه الامم وطبائعهم ولكن بعد صبغها صبغة بربرية. قال مرسيي: البربر تأثروا بعدة أمم نزلت بوطنهم

2 - هجرة البربر الى ليبية

او استولت عليهم ولكنهم بقوا بربرا. وقال بيروني: ان الوطن البربري جمع امما مختلفة ولكنها أصطبغت جميعا بصبغة بربرية. واذن لا نقول في سكان أفريقية غير أنهم امة بربرية اذ لا يمكن تمييز ما عدا البربر عنهم لغلبة البربرية على غيرها. وهذا لا يخدش في أصل البربر شيئا بل انه يرشد تمسك البربر بجنسيتهم ولذلك لم يندمجوا في غيرهم، والى كثرتهم ووفور عددهم ولذلك ابتلعوا الجنسيات التي حلت بوطنهم. وهكذا اصبحت الأمة البربرية بنجوة من وصمة التهاون بجنسها وحازت الشرف على الامم التي ابتلعتها، فان أمة لا تندمج في غيرها الا وقد سجلت على نفسها الوضيعة والحطيطة ونفت عنها كل وجه من وجوه الكرم والفضيلة، وكتبت للامة المندمجة فيها أسطرا من الفخر والشرف والميزة عليها لا يمحوها الا تداركها بنفسها لجمع شتات قوميتها والعمل باسم امتها. 2 - هجرة البربر الى ليبية علمت من الفصل السابق ان البربر أمة ذات وحدة جنسية كباقي الأمم التي عرف التاريخ عصبيتها وعظمتها. وكان موطنها الشام ثم انتقلت الى ليبية. ونزح ايضا الى هذا الوطن طوائف من أمم أخرى. وحصل الاختلاط والامتزاج بين جميع سكان هذا الوطن تحت اسم البربرية. واذ ذاك صارت الأمة البربرية ذات وحدة وطنية مركبة من عناصر متعددة ومفرغة في قالب بربري. ليس العنصر البربري الاصلي اول من عمر ليبية فقد مر في الباب الاول ان أمة سبقت البربر الى هذا الوطن. وقد عبر ابن خلدون عن

البربر في ترجمة الكتاب الثالث من تاريخه الهام بقوله: "الامة الثانية من أهل المغرب". اما الروايات في تاريخ هجرتهم الى ليبية فكثيرة واحسنها ما نقله يحي ابن خلدون عن ابن قتيبة: ان خروجهم كان ايام البلبلة (¬1) والبلبلة هي اختلاف اللهجات وتعدد اللغات فكأنه يقول: قبل حدوث الخط والكتابة. وهذه الرواية متفقة مع ما يقوله متأخرو المؤرخين من ان البربر هاجروا الى ليبية قبل التاريخ. وهذا عذر من ظن انهم اصليون بهذا الوطن غير منقولين. وقد ذكر عبد الرحمن بن خلدون روايات اخرى نعرض عن بعضها لظهور سقوطه، وننقل بعضها ثم نقفي عليه بما يزيل شبه الاعتماد عليه. 1 - نقل عن المسعودي والطبري والسهيلي: "ان افريقش استجاشهم لفتح أفريقية وسماهم البربر. وينشدون من شعره: بربرت كنعان لما سقتها … من اراضي الضنك للعيش الخصيب (¬2) 2 - ونقل عن بعضهم: ان يوشع رئيس بني اسرائيل بعد موسى عليه السلام هو الذي اخرجهم من الشام. 3 - ويقول بعضهم: ان داوود عليه السلام هو الذي اخرجهم وان الله هو الذي أوحى اليه بذلك: "قيل يا داوود اخرج البربر من الشام فانهم جذام الارض (2) ". وقد ابطل ابن خلدون نفسه قول من قال: ان أفريقش هو الذي اخرجهم من الشام الى المغرب بأن هناك رواية أخرى تقول: "انه وجدهم به وانه تعحب من كثرتهم وعجمتهم وقال ما اكثر بربرتكم" ¬

_ (¬1) بغية الرواد: ج1 ص91، وقد عبر فيها بلفظ البلية وفي نسخة بلفظ البلبة. وكل ذلك تحريف البلبلة. (¬2) ج6 ص94.

وافريقش هذا من ملوك اليمن التبابعة وهو مختلف في زمنه ففي بعض المواضع من ابن خلدون ما يدل على انه قريب من عهد موسى عليه السلام، وفي بعضها ما يدل على انه بعد سليمان عليه السلام وبين هذين الرسولين نحو من سبعة قرون. وذكر ابن خلدون عن ابن حزم: ان التبابعة "في انسابهم اختلاف وتخليط وتقديم وتأخير ونقصان وزيادة" (¬1) وسواء ارتقى عهد هذا الملك الى ما يقرب من عهد موسى أم تأخر الى ما بعد سليمان فان البربر بوطنهم الثاني اقدم من ذلك كله وفاقا لرواية ابن قتيبة المؤيدة بآراء الاثريين المتأخرين. ومن قال ان يوشع هو الذي اجلاهم الى المغرب فقد اخطأ واشتبه عيه الامر. ذكر دوماس ان من القبائل التي اضيفت الى البربر قبائل فلسطينية فرت أمام يوشع وفلسطين وذكر ابن خلدون (¬2) انهم اخوان البربر. وبهذا يتبين ما في هذه الرواية الثانية حيث خلط اصحابها بين البربر وفلسطين. واما قول من قال ان داوود (ص) هو الذي اجلى البربر إلى افريقية بالوحي فقول ساقط ورواية سخيفة، لان داوود عليه السلام عاش في القرن الحادي عشر قبل الميلاد، وقد علمت ان الفينيقيين كانوا أسسوا عاصمتهم الاولى عام (1101)، وهم إنما جاءوا بعد الفلسطينيين، والفلسطينيون إنما جاءوا بعد البربر. وايضا فان البربر ليسوا جذام الارض، بل هم أمة عاملة نشيطة من اقدر الامم على تعمير الارض واستدرار خيراتها. ومن نظر الى ما كانت عليه إفريقة من المعمران المستبحر: مدن عظيمة، مياه مطردة، بساتين متصلة، حقول مزروعة، علم سخافة تلك الرواية التي لم يستح واضعها حتى جعلها وحيا. ¬

_ (¬1) ج2 ص58. (¬2) ج6 ص97.

3 - أوصاف البربر وأخلاقهم

هذا ما نقوله عن تاريخ انتقال البربر الى ليبية اما ما انضاف اليهم من الامم فقد كان في اوقات مختلفة يعسر الوقوف عليها جميعها، ومنهم من كانوا جاليات قليلة لا يهتم المؤرخ بذكر تاريح استيطانهم لأفريقية. ومن هذه الامم التي كان لهجرتها الى أفريقية ضرب من الوضوح أمة الفرس فانهم نزلوا أفريقية لما مات ملكهم اليوناني، هرقليس. ولم اعثر على تاريخ هذا الملك. ومنهم الفلسطينيون فقد علمت انهم فروا امام يوشع. والمظنون ان يوشع كان في القرن السادس عشر قبل الميلاد. لان داوود عاش في القرن الحادي عشر. وقد ذكر ابن خلدون ان بين خروج بني اسرائيل من مصر وملك داوود (ص) (600) باتفاق. ويوشع إنما رأس بني اسرائيل بعد خروجهم من التيه الذي مكثوا فيه (45) سنة. ومنهم العرب اليمنيون قبيلتا كتامة وصنهاجة اللتان تركهما افريقش بأفريقية. وقد علمت ما في زمنه من الاضطراب. 3 - أوصاف البربر وأخلاقهم اذا كان للامكنة دخل في صبغ البشر بما تشاء من الالوان فان منها اوصافا خلقية لا بد للامكنة فيها وانما ترجع الى خاصة جنسية. وهذا ما دعا بعض المتأخرين الى اضافة هذا البحث الى مواد البحث عن جنس البربر ولكنه وضع للشيء في غير محله وطلب للنتيجة من غير شكلها فان هذا المبحث إنما يفيد في قرابة الامم بعضها من بعض لا في في اصالة امة لاخرى. والاخلاق من الاشياء التي تتوارث باتفاق الفلاسفة وانما اختلفوا في انها تتوارث عن الاصل ام الوسط، وهذا الخلاف إنما تظهر ثمرته في الاشخاص دون الامم، لان الأمة اصلها هو وسطها ومجتمعها.

اما اوصاف البربر فمنها اوصاف عامة لكل بربري وهي: ان البربري وجهه معتدل، خط عينيه مستو ليس كبعض الامم التي يكون خطا عينيها عندما يتلاقيان بالانف زاوية منفرجة، عيناه غير ناتئتين، انفه متوسط الطول والعرض، اعضاؤه متناسبة، قوي البنية، مستطيع لتحمل الاتعاب وغير سريع التأثر من تغيرات الهواء، بشرته بيضاء وإنما تؤثر فيها الشمس بالسمرة. 1 - ومن الاوصاف ما يختص ببعض الفرق: ففرقة منهم طوال القامة، مستطيلو الرؤوس والوجوه حواجبهم ناتئة، انوفهم طوال رقاق. قليلوا شعر اللحية، اكتافهم عريضة، خصورهم ضيقة، ضعاف البنية. وهذه الفرقة موجودة بكثرة. 2 - ومنهم صنف قصير القامة، طويل الرأس وبه عظام ناتىة، عريض الوجه، ناتئ الوجنتين، عريض الانف، واسع الفم، غليظ الشفتين، ناتئ الذقن، كثير شعر اللحية، عريض الصدر والرفغ. 3 - ومنهم صنف ربعة الى القصر، مستدير الرأس، عريض الوجه مستدير الجبهة، غليط الحاجبين، قصير الانف، واسع الفم، مشتدير الذقن، عريض الصدر. والصنفان الاولان معروفان بالغرب من قديم الازمنة. وثلاثتها توجد بالجزائر وتونس، والثالث منها مشهور بجربة ومزاب. واما اخلاق البربري مطلقا فانه فلاح مقيم، عامل كناز، تاجر حاذق حربي شجاع، وقد يكون لصا متردا، حار ينتقم ممن اغضبه بأكثر مما يستحق. حر متطرف في الحرية الى درجة انه يكره الرآسة عليه ويتقزز منها الى ان تسنح له الفرصة لهدم تلك الرياسة وتخريب سلطانها فخور باصله وعشيرته، هائم بمسقط رأسه حتى إذا فارقه لضرورة بقي حنينه اليه لا يضعف منه طول الاغتراب بل يزيده قوة التهاب فمتى امكنه العود عاد الى وطنه.

وهذه الاخلاق ترشد الى ان البربري محب لجنسه ووطنه مستكمل لصفات العمل لسعادتهما ودفاع الاجنبي عنها او على الاقل عدم الرضى من سلطته ولو طال امدها. وقد ذكر بيروني- وعنه اخذنا مادة هذا الفصل- ان من اخلاق البربري كونه شحيحا جلفا منقادا للخرافات ومؤثرا لها. وهذا من هناته فان كونه شحيحا جلفا خلاف الواقع المشاهد والمتواتر والمسطر في كتب التاريخ، وسترى ما يقوله ابن خلدون عنهم من صفات الكمال، وهو رجل عرفهم وعاشرهم في اواخر ايام عزهم ودخل بجاية احدى عواصمهم. واما انقيادهم للخرافات وايثارهم لها فهو واقع مشاهد في زمننا هذا ولكنه ليس من طبيعتهم بل من طبيعة الجهل الذي ثار منهم وبالغ في الانتقام وامدته في ذلك عوامل من الايام. وقد كان منهم قبل اليوم عظماء في العلوم والمعارف. منهم بوغورطة الموجود قبل الميلاد، ابدى في كفاحه للرومان مقدرة فائقة في الحرب والسياسة، ومنهم يوبا الثاني الموجود قبيل الميلاد، كان من اعظم الفلاسفة وامهر المؤلفين، ومنهم القديس اوغسطين الموجود في عصر الانحطاط الروماني، كان نادرة الوجود علما وفصاحة وتقوى واخلاصا وتفانيا في خدمة دينه وجنسه وغير هؤلاء كثير قبل الاسلام منهم من قصهم علينا التاريخ ومنهم من لم يقصصهم علينا. اما بعد الاسلام فيكفي المرتاب ان يلقي نظرة على بعض عواصمهم التي كانت من عواصم العلم الكبرى مثل تيهرت وبجاية وتلمسان هذا بالقطر الجزائري فقط. ولا اطيل بذكر المدن الثانوية بله الرجال المظام. ودونك ما يقوله ابن خلدون عن اخلاق البربر باختصار وتصرف لفظي: واما تخلقهم بالفضائل الانسانية وتنافسهم في الخلال الحميدة

4 - القبائل البربرية الكبرى

وما جبلوا عليه من الخلق الكريم فلهم في ذلك آثار نقلها الخلف عن السلف. لو كانت مسطورة لحفظ منها ما يكون اسوة لمتبعيهم من الامم. فمن خلقهم عز الجوار وحماية النزيل ورعاية الذمة والوفاء بالعهد وبر الكبير وتوقير اهل العلم ورحمة المسكين وحمل الكل وكسب المعدوم وقرى الضيف والصبر على المكارم والاعانة على النوائب ومقارعة الخطوب واباية الضيم ومشاقة الدول (¬1) وقد اطال ابن خلدون في هذا الغرض ولكنا اقتصرنا على ما اليه الحاجة امس. 4 - القبائل البربرية الكبرى البربر أمة ذات قبائل وبطون وعشائر لا ينالها الاحصاء. فانهم كانوا يعمرون أفريقية من آخر ايالة مصر الى المحيط الاطلانتيقي، ويتصلون من ناحية الصحراء بأرض السودان. وذكر بعض مؤرخي الفرنجة ان البربر في منتصف القرن السادس للميلاد خسروا في حروبهم من البيزنطيين خمسمة ملايين من الانفس، هذا مع انه لم يحارب البيزنطيين جميع البربر كما هو معلوم. وعلاوة على ذلك فقد جاء العرب عقب هذه الخسارة الفادحة ونزلوا على بقية البربر فالفوهم على غاية العزة والمنعة وذاقوا من بأسهم ما يحل عزائم غير العرب اولي الاتحاد المتين في ذلك الحين. لعل هذا الضرب من الاجمال في عظمة البربر وكثرتهم يقيم لي عذرا في عدم تتبع قبائل هذا الجيل، فلنكتف بذكر القبائل الكبرى التي تعد اصولا لقبائل عديدة. ومتى سنحت لنا فرصة- اثناء مرورنا بادوار التاريخ- بزيادة تفصيل ودعا المقام الى ضرب من البسط فاننا نشرح ما يحتاج القاريء الى شرحه ونبين ما يفيد المطالع ان شاء الله. ¬

_ (¬1) ج6 ص104

اتفق النسابون من العرب والبربر وتابعهم المحققون من الافرنج- دون المتعثرين في شبه الالفاظ- على ان البربر يجمعهم جذمان عظيمان هما برنس ومادغيس (ويلقب مادغيس بالابتر)، ويقال في شعوب برنس: البرانس، وفي شعوب مادغيس الابتر؛ البتر. واختلفوا بعد هل هذان الجذمان لاب واحد: فعن بن حزم- وهو من نقدة النسابين- انهما لاب واحد، والجميع من نسل كنعان بن حام، وعن بعض نسابه البربر ان البرانس فقط من نسل كنعان، واما البتر فهم بنو بر ابن قيس بن عيلان بن مضر. وذكر رين قول من قال ان البربر كلهم من بر وأيد ذلك بأن لفط برانس كلمة مركبة من ثلاث كلمات وهي: ابير = بر، ان = اله، اس = له = بر اله له. وهذا الضرب من فلسفة رين اللفظية يذكرنا فلسفة العوام في كلمة فرعون، اذ يقولون: كان اسمه "عون" وفر عن امه فلما سئلت عنه قالت: فر عون، فعلق به هذا اللفظ وعرف به. ومنهم من يدعي ان يبارين من الامم الاروبية وانهم هم الذين يسميهم ابن خلدون البرانس. وهذا من البعد بمكان. ذكر ابن خلدون في بطون مكناسة قبيلة "ابا يرون" فلو اعملنا المشابهات اللفظية مطية لادراك حقائق الانساب لقلنا: ان يبارين هي ابايرون وكان ذلك اقرب من دعوى انها البرانس. والقائلون بأن البتر من سلالة بر بن قيس يروون في التحاق بر بالبربر روايات واشعارا لا احب ان اطيل بجلبها فليس شيء منها بمطمئنة له النفس، ومن كان له ذوق سليم أدرك اثر الصنعة في تلك الاشعار. والصحيح عند حذاق النسابين ان البرانس والبتر جميعا من ولد مازيغ ابن كنعان بن حام.

5 - برابرة وطن الجزائر ومراكزهم به

اما البرانس فيتفرعون الى فروع كثيرة تجمعها سبعة اصول كبيرة وهي: كتامة، عجيسة، اوربة، صنهاجة، ازداجة، اوريغة، مصمودة. قال ابن خلدون: وزاد سابق بن لسليم المطماطي وغيره ثلاث قبائل آخر وهي: لمطة، هسكورة، كزولة (ويقال لها ايضا جزولة). واما البتر فيجمع شعوبهم اربع قبائل كبرى وهي: ضريسة، لواتة، نفوسة، اداسة. ومن هذه القبائل او بعض بطونها من يتنصل من البربرية ويعتزى الى العرب. ولكنا اتبعنا الجمهور في عدها جميعها بربرية، ومتى دعانا المقام الى زيادة بسط في انساب بعض القبائل فاننا نفيد القارئ بمبلغ علمنا في نسب تلك القبيلة والله المسؤول في بلوغ المأمول. 5 - برابرة وطن الجزائر ومراكزهم به لم يعن المؤرخون اليونانيوت واللاتينيون بتفصيل قبائل البربر وبيان مراكزهم. وانما كانوا يميزونهم بأوطانهم: يقولون في أهل نوميديا: نوميد، وفي أهل موريطانيا: مور، وفي أهل جيتوليا: جيتول. وهكذا في أهل بقية اوطان البربر. ولعل ذلك يرشدنا الى انهم- وان كان منهم من استولى على الوطن البربري قرونا طوالا- لم يمتزجوا بالبربر امتزاجا يؤهلهم لهذا الضرب من البيان وينير امامهم سبيل هذا النحت من البحث. ولما جاء العرب امتزجوا بالبربر بسرعة تضاهي سرعة فتوحاتهم، فأخذوا عن نسابة البربر تفصيل قبائلهم، وجاسوا خلال ديارهم، فعرفوا مركز كل قبيلة منهم. كان وطن ليبية او المغرب او أفريقية الشمالية وطنا للبربر وقبائلهم،

وكان بعض القبائل مختصا بجهات من شرق هذا الوطن او غربه او وسطه، وبعضها تعددت بطونه وكثرت شعوبه، فانتشرت تلك القبيلة بشعوبها وبطونها على الوطن كله، وكان لها في كل قسم من اقسامه بطن أو شعب. ونحن نذكر الآن ما كان من تلك القبائل او البطون والشعوب مستوطنا بالوطن الجزائري مع بيان الجهات التي اختص بها كل قبيل حسبما كان في اول الاستيلاء العربي. تقدم ان البربر يجمعهم جذمان عظيمان: برنس ومادغيس، وان الجذم الاول يشتمل على عشر قبائل عظمى والثاني على اربع. وقد اختص من تلك القبائل العظمى بسكنى الوطن الجزائري دون سواه ثلاث قبائل: كتامة، عجيسة، ازداجة. وكان بهذا الوطن ايضا بطون وشعوب من بقية القبائل الاخرى ما عدا قبيلتين من فبائل البرانس وهما: هسكورة، كزولة، فانهما استوطنتا المغرب الاقصى، وما عدا قبيلتين من البتر وهما: نفوسة واداسة فانهما اقتصرتا على سكنى طرابلس. فاما كتامة فهي من اكثر قبائل البربر عددا واشدهم قوة واطولهم باعا في الملك وهي احدى قبائل البرانس عند نسابة البربر، ونسابة العرب يقولون: انها من قبائل حمير تركها بالمغرب افريقش احد ملوك التبابعة. ولهذه القبيلة بطون كثيرة المعروف منها عند ابن خلدون ثمانية عشر بطنا. ومن تلك البطون ما يتفرع الى فروع وافخاذ. وحوالي القرن العاشر الهجري اختلطت كتامة بمصمودة وامتزجت بها فعفا رسمها واندرست تلك الاسماء التي عرفها ابن خلدون. من اسماء تلك البطون التي بقيت لعهدنا هذا جميلة. ومما ذكره ابن خلدون من تلك البطون مصالة. والظاهر انها مزالة

التي صارت اليوم علما لقرية بعد اضافة كلمة فج اليها فيقال فج مزالة. وهي تبعد عن ميلة غربا بأزيد من ثلاثين ميلا. ومن الافخاذ الصغيرة التي ذكرها ابن خلدون بنو تليلان. وعين مركزهم بقوله: "أهل الجبل المطل على القل ما بينه وبين قسنطينة (¬1). ولم يزل بنو تليلان معروفين بهذا الاسم الى اليوم ومركزهم لهذا العهد بجبال بين قسنطينة والقل كما قال ابن خلدون. وكتامة بجميع بطونها وافخاذها كانت تقطن الساحل البحري من بونة الى بجاية وتتقدم في داخل الوطن الى حدود جبل اوراس. ومن مدنها بلزمة، باغاية، سطيف، قسنطينة، جيجل، القل، السكيكدة (¬2) في مدن اخرى. واما عجيسة فهي قبيلة عظيمة من قبائل البرانس. كان لها بين البربر كثرة وظهور كان موطنهم شرق صنهاجة وجنوب زواوة بجبال المسيلة وقلعة عجيسة التي صارت من بعد حاضرة آل حماد. وقد انكسرت شوكتهم في عهد آل حماد وزاحمهم الهلاليون وازاحوهم من مواطنهم فتفرقوا اوزاعا في قبائل البربر منهم من ذهب الى تونس ومنهم من ذهب الى المغرب الاقصى. وفي ارض بني تليلان اليوم قرية بدوية تدعى عجيسة فلعل اهلها من بعض افخاذ عجيسة ساكنوا بني تليلان. واما ازداجة (ويقال ايضا وزداجة) فقبيلة عظيمة من قبائل البرانس "وكثير من نسابة البربر يعدونهم في بطون زناتة. وقد يقال: ان ¬

_ (¬1) ج6 ص150. (¬2) ذكر ابن خلدون من مدن كتامة: "السيكرة" واظنها تحريف السكيكدة.

ازداجة من زناتة. وزداجة من هوارة. وانهما بطنان مفترقان. وكان لهم وفور وكثرة (¬1) " ومركزهم بالغرب الاوسط بنواحي وهران منه. وفي القرن الرابع للهجرة اضعفتهم الفتن فذهبت ريحهم وانتقل أهل الرياسة منهم الى الاندلس. واما اوربة فقد كان بعضها بالغرب الاقصى وبعضها بالغرب الاوسط - على ما يفهم من حديث ابن خلدون عنهم- فليست من القبائل المختصة بوطن الجزائر. وهي ذات بطون كثيرة عد ابن خلدون منها سبعة. وكانت لعهد الفتح العربي اكثر القبائل البربرية عددا واشدها قوة واقواها بأسا وكانوا مستوطنين شمال الزاب. وذكر البكري منهم طائفة حوالي بونة وفي اوائل الفتح العربي ايام عبد الملك ابن مروان دحر الجيش العربي هذه القبيلة الى المغرب الاقصى. واما صناهجة فقبيل عظيم من قبائل البرانس. وزعم بعضهم: انها ثلث البربر ونسابة العرب ينسبونهم الى عرب اليمن وانهم تركهم افريقش بالمغرب لما قفل من غزوه. ويقول مرسي وبيروني: انهم من المور والجيتول. وهم ذوو بطون عديدة. نقل ابن خلدون عن بعض مؤرخي البربر انها تنتهي الى سبعين بطنا. ومواطنهم بالصحراء الى السودان والمغرب الاقصى، وبالغرب الاوسط على ساحل البحر من عمالة الجزائر ووهران ويتقدمون في داخل الوطن الى سهول شلف ينتهون غربا بمصب وادي شلف في البحر ويختلطون شرقا بزواوة في سهول حمزة. وذكر البكري او زقور ¬

_ (¬1) ابن خلدون ج6 ص144.

شمال المسيلة فقال: "وهي عين عذبة باردة عليها شجرة عظيمة. وهذا آخر حد بلد صهناجة (¬1) ". ومن قبائل صنهاجة المعروفة الى اليوم بنو مزغنة اصحاب مدينة الجزائر قبلا وذكر ابن خلدون منها لمدونة ولها مدينة بهذا الاسم. ولعلها لمدية، واهلها الى اليوم ينسبون اليها بلفظ لمداني. واما مصمودة فقبيلة عظيمة ذات بطون تبلغ اربعة عشر ولبعض تلك البطون افخاذ وفروع. مواطنهم بالمغرب الاقصى منذ الاحقاب المتطاولة. وذكر البكري عند الكلام على بونة: ان حولها قبائل كثيرة منها مصمودة. واما لمطة فقبيلة كبيرة ذات شعوب كثيرة. وهم اخوة صنهاجة، مواطنهم بالسوس وما يليه من بلاد الصحراء. واكثرهم مجاورون للملثمين من صنهاجة. قال ابن خلدون: ومنهم قبيلة بين تلمسان وأفريقية. واما اوريغة فاحدى قبائل البرانس العظيمة ذات بطون كثيرة منها هوارة. وهم ولد هوارة بن اوريغ بن برنس، باتفاق نسابة العرب والبربر ويتفرعون الى سبعة فروع. ومواطن الجمهور من هوارة لاول الفتح بنواحي طرابلس وبرقة. وذكر البكري قبائل بربرية تسكن حول تاهرت، منها هوارة تسكن قبلتها وذكر منهم شعبا يسكن مدينة الغدير. وذكر ابن خلدون موطنا آخر لهوارة وهو جبل اوراس مع كتامة ولواتة. هذا آخر ما قصدنا اليه من الكلام على قبائل البرانس. وقد كان للواته وضريسة من قبائل البتر بطون استوطنت الجزائر ايضا. ولواتة قبيلة عظيمة تنتسب الى لوا الاصغر- وهو نفزاو- رن لوا الاكبر بن زحيك. ولها بطون سبعة منها مزاتة وهي أوسعها ¬

_ (¬1) المغرب ص65.

ومنها صدراتة، وت ما نفزاوة. ومواطن لواتة في القديم بنواحي برقة وطرابلس الى قابس. قال ابن خلدون: "وكان منهم بجبل اوراس أمة عظيمة .. ولم يزالوا باوراس لهذا العهد مع من به من قبائل هوارة وكتامة (¬1) ". وقال أيضا: "وكان من لواتة هؤلاء أمة عظيمة. بضواحي تيهرت الى ناحية القبلة وكانوا ظواعن هناك على وادي ميناس". وقال أيضا: " ومنهم ايضا بضواحي بجاية قبيلة يعرفون بلواتة ينز لون ببسيط تاكرارت (¬2) ". وبطن مزاته منهم كانت له مدينة بلزمه على ما ذكر البكري. وبطن صدراته ذكر البكري انهم حول بسكرة ولصدراته اليوم قرية معروفة بهم في أعالي وادي سيبوس. ونفزاوة هم بنو تطوفت بن نفزاو بن لوا الاكبر بن زحيك. وكانت لعهد الفتح العربي من القبائل ذات الكثرة والقوة، ولها تسعة بطون منتشرة في جهات من طرابلس وتونس ومركزها بالجزائر في شرق عمالة قسنطينة. ومن بطون نفزاوة ولهاصة. وهي تقطن حيث تقطن كومية. واما ضريسة فمن بطونها بوطن الجزائر: بنو فاتن، زواغة، زواوه، مكناسة، زناتة. بنو فاتن هم أبناء فاتن بن ممصيب بن ضريس، ويتشعبون الى عشرة شعوب: مطغرة، لماية، مطماطة، مديونة، كومية، مغيلة، ملزوزه، دونة، كشانة، صدينة. وبنو فاتن منتشرون في الغرب تلوله وصحرائه يلون صنهاجة غربا على الساحل الوهراني ومنتشرون في داخل العمالة. ¬

_ (¬1) ج6 ص117. (¬2) ج6 ص118.

فاما مطغرة فقد كانت ذات قوة وكثرة لعهد الفتح العربي تقطن ما بين فاس وتلسمان، وتتقدم الى جهات شلف وجبل ذي راشد. ومن مدن مطغرة قرية تدعى "جليداسن" وهي على مرحلة من تنس مطلة على فحص شلف، ومنها تابحريت قرية على البحر الرومي بساحل وجدة، وذكر ابن خلدون منهم رهطا بالصحراء يقطنون قليعة والي. وهي المعروفة اليوم بالقليعة ويقولون فيها أيضا: المنيعة. واما لماية فلها افخاذ كثيرة، كانوا ظواعن بافريقية وجمهورهم بالمغرب الاوسط. ومن مراكزهم به جبل جزول ونواحي وانشريس. وبطن لماية هو الذي نزل عليه عبد الرحمن بن رستم حينما فر من القيروان الى المغرب الاوسط، وأسس دولة فيما بعد من غرر دول الجزائر. وقد انقرضت لماية بانقراض ملك الرستميين وتفرقت اوزاعا في القبائل. قال ابن خلدون: " ومنهم جربة الذين سميت بهم الجزيرة البحرية تجاه ساحل قابس. وهم بها لهذا العهد (¬1) ". واما مطماطة فهم شعوب كثيرة ايضا وتفرقة في نواحي المغرب كله. ومركزهم بالجزائر بتلول منداس عد جبل وانشريس وجبل جزول من نواحي تيهرت. واما مديونة فانها تقطن نواحي تلمسان الى جبل مديونة غربا وجبل بني راشد شرقا. وفي جوارهم شرقا بنو يلومي وبنو يفرن، وغربا مكناسة، وشمالا على السواحل كومية وولهاصة. واما كومية- ويعرفون قديما بصطفورة- فلهم بطون ثلاث: ندرومة، مغارة، بنويلول، ومن هذه البطون تفرعت شعوب كومية ¬

_ (¬1) ج6 ص122.

وتعددت قبائلهم ومواطنهم قال ابن خلدون: على ساحل تلمسان وارسكول. ولعل ارسكول هي القرية التي ذكرها البكري بلفظ ارشقول عند مصب نهر تافنا في البحر. وذكر البكري من حصونهم حصن هنين على البحر. واما مغيلة فانها تقطن بالشاطئ الايمن من شلف عند مصبه في البحر ولهم مدينة على البحر تدعى " آسلن " بساحل تلمسان. قال البكري: "وهي مدينة قديمة عليها سور صخر .. ولها نهر يصب في البحر من شرقيها " (¬1). ويساكن مغيلة اخوتهم من ملزوزة ودونة وكشانة. ومن ساحلهم اجتاز عبد الرحمن الداخل إلى الاندلس وبذر بذور حضارة كانت من بعد المثل الاعلى. هذا آخر قول في أبناء فاتن ملتزما فيه الايجاز. واما زواغة فهم من ولد سمكان بن يحي بن ضري او (ضريس) واقرب ما اليهم من البربر زناتة، لأن ابا زناتة جانا وهو اخو سمكان ابن ابيه. ولزواغة بطون ثلاثة متفرقة في القبائل بطرابلس والجزائر والمغرب الاقصى. وذكر ابن ت خلدون منهم رهطين بالجزائر: احجهما بجبال وبسائط غرب ميلة على القرب منها، وهم معروفون حتى اليوم باسم زواغة، وهذه عبارة ابن خلدون: " وفي جهات قسنطينة ايضا رهط من زواغة " (¬2) ثانيهما بجبال شلف غرب تاهرت. وذكر البكري مدينة شلف فقال: وتعرف بشلف بني واطيل. وهي لزواغة. واما زواوه فهي قبيلة عظيمة تتشعب الى شعوب عظيمة عرف منها ¬

_ (¬1) المغرب ص79. (¬2) ج7 ص7 - 8. -106 -

قديما احد عشر بطنا. وهم اخوة زواغة من ولد سمكان بن يحي. وقال ابن حزم: انهم من قبائل كتامة. قال ابن خلدون: " والصحيح عندي ما ذكره بن حزم. ويشهد له الموطن ونحلة التشيع مع كتامة (1) ". وقال في موضع آخر: " والمحققون من النسابة مثل ابن حزم وانظاره إنما يعدونهم في بطون كتامة. وهو الاصوب والمواطن اوضح دليل عليه." (¬2) وغلط من جعلهم اخوة زواغة بأن القبيلة التي هي اخت زواغة تدعى زواوة. والقارئ صحف زاى زواوة بواو زواوة فظن زواوة اخت زواغة (¬3). وقد اشتهرت مواطن زواوة باسم القبائل وهذه اللفظة تطلق ايضا حتى اليوم على مواطن كتامة، وان لم تشتهر فيها اشتهارها في وطن زواوة. وقد يكون هذا الاطلاق عاضدا آخر لا يستصوبه ابن خلدون. ووطن زواوة بجبال القبائل الكبرى ما بين كتامة شرقا وصنهاجة غربا وعجيسة جنوبا. واما مكناسة فبطن عظيم من بطون ورسطيف. وورسطيف اخو جانا وسمكان فالثلاثة أبناء يحي بن ضري. والمعروف قديما من بطون مكناسة ثمانية. وكانت مواطنهم على وادي ملوية من لدن سجلماسة اعلاه الى مصبه في البحر. وذكر البكري ان من القبائل التي تسكن حول تاهرت مكناسة بجوفيها. واما زناتة فقبيلة عظيمة من القبائل العريقة في القدم. وبما كان لها من الكثرة تغلبت فيما بعد على بقية بطون ضريسة. ¬

_ (¬2) ج6 ص151. (¬3) المعروف بطرابلس اليوم زوارة بالراء لا بالزاي.

ويرى ديكلوس من متأخري المؤرخين: ان الجيتول أصل صنهاجه زناتة. قال ابن خلدون: " وكانت مواطن هذا الجيل من لدن جهات طرابلس الى جبل اوراس والزاب الى قبلة تلمسان ثم الى وادي ملوية. " (¬1) قال: " والاكثر منهم بالغرب الاوسط حتى انه ينسب اليهم ويعرف بهم، فيقال: وطن زناتة " (¬2). قال ابن خلدون: وشعوب هذه القبيلة اكثر من ان تحصى. وعليه فانا نقتصر على ذكر الشعوب التي كانت لها شهرة في التاريخ، وهي هذه العشرة: جراوة، اوغمرت، يفرن، مغراوة، واسين، يرنيان، ورجلة، ورنيدين، يلومي، ومانو. اما جراوة فهم ولد كراو بن الديرت بن جانا (وهو زناتة) وكانوا: قبل الاسلام أهل كثرة وقوة وفيهم رئاسة زناتة. موطنهم لعهد الفتح بجبل اوراس. ثم تفرقوا من بعد اوزاعا في قبائل البربر بالمغرب الاقصى وغيره. واما اوغمرت (ويقال غمرت ايضا) فهم من ولد ورتنيص بن جانا، وكانوا من اوفر بطون زناتة عددا. قال ابن خلدون: " ومواطنهم متفرقة، وجمهورهم بالجبال الى قبلة بلاد صنهاجة " (¬3) وذكر مرسيي من مواطنهم جبل بني راشد. واما ورجلة (ويقال ايضا وركلة) فهم من ولد وركلة بن فرني بن جانا. وموطنهم بالصحراء جنوب بسكرة. ولهم ممر اختطوه معروف باسمهم الى اليوم. ¬

_ (¬1) ج7 ص7 - 8. (¬2) ج7 ص2. (¬3) ج7 ص50.

واما يفرن فهم بنو يفرن بن يصلتين بن مسرا بن زاكيا بن ورسيك بن الديرت بن جانا. وهم من اوسع بطون زناتة. وكانت لهم الرئاسة من بعد جراوة. ومواطنهم فيما بين تلمسان وتاهرت وفي الحضنة وجنوب اوراس. وكان لهم ملك في العصر الاسلامي بالمغرب الاوسط ثم الاقصى. واما مغراوة فهم بنو يصلتين بن مسرا. فهم أخوة يفرن كانوا اوسع بطون زناتة وأهل البأس والغلب منهم. وشعوبهم كثيرة. ذكر ابن خلدون منها ثمانية (منها ديغة والاغواط) ثم قال: وغيرهم ممن لم تحضرني أسماؤهم. وكان لهم في العصر الاسلامي ملك بفاس وسجلماسة (تفيلالت) وتلمسان وطرابلس وغيرها. وموطنهم بالمغرب الاوسط من شلف الى تلمسان. ولهم مراكز ايضا من اخوانهم بني يفرن بالحضنة وجنوب اوراس. واما واسين فهم بنو واسين بن يصلتين ابي يفرن ومغراوة. ولهم افخاذ عظمت وصارت ذات كثرة وقوة. منها بنو مرين ملوك المغرب في الاسلام، وبنو عبد الواد ملوك المغرب الاوسط، وبنو وتوجين، وبنو مصاب (مزاب)، وبنو راشد، وبنو رزدال في قبائل أخرى. ومواطنهم بالزاب ووادي ريغ وجبل راشد الى ملوية. واما يرنيان فهم اخوة مغراوة. لهم بطون كثيرة وافخاذ عديدة. وهم منبثون في مواطن زناتة، واختلطوا قصورا كثيرة على وادي ملوية واما ورنيدين فهم بطن من بطون دمر. ولهم شعوب كثيرة وفضائل عديدة منهات بنو برزال. وهم بنو ورنيدين بن وانتن بن وارديرن بن دمر بن ورسيك بن الديرت. وكانت مواطنهم غرب جبل بني راشد قبلة تلمسان في البسائط

6 - الحياة البربرية

والسهول. ثم انزاحوا عندما غلبهم بنو راشد الى الجبل المطل على تلمسان، وبنو برزال منهم كانوا بجبل سالات وما اليه من نواحي المسيلة. واما ومانو فقبيلة من اوفر قبائل زناتة عددا واشدها شوكة. وكانت تقطن الجهة الشرقية من اسافل وادي شلف على نهر ميناس. واما بنو يلومي فهم أيضا من اوفر قبائل زناتة عددا واشدها بأسا كانوا يقطنون العدوة الغربية من شلف الى جبل هوارة وفحص سيرات ويذهبون جنوبا الى جبل بني راشد. هذا ما اردنا ايراده من قبائل بربر الجزائر ومواطنهم على ما عرف لهم العرب لاول استيلائهم على المغرب. ولم يزالوا بها الى القرن الخامس الهجري حينما حمل الهلاليون على هذا الوطن حملة ازاحت كثيرا من قبائل البربر عن مواطنها، وحل الهلاليون محلها. والظاهر ان المراكز التي ادركها العرب للبربر وعرفوها لهم هي مراكزهم القديمة. اذ لا يعرف التاريخ هاجما غير خريطة أفريقية وملك على البربر اوطانهم وحل محلهم بصفة دائمة غير الهلاليين ومن انضاف اليهم من عرب المائة الخامسة. وعندما يحين القول في هؤلاء العرب ونتكلم على شعوبهم ومراكزهم نذكر- ان شاء الله- المراكز الجديدة للبربر. ونزيد القول في شعوبهم وافخاذهم بيانا وشرحا. 6 - الحياة البربرية عمر البربر وطنهم الثاني ليبية (المغرب) قبل التاريخ. فلا جرم كانت حياتهم في البساطة شبيهة بحياة بقية أهل العصر الحجري في السكن والملبس والمطعم والمكسب. ولكلنهم ترقوا- وفق طبيعة النشوء والارتقاء- في ذلك. وتأثروا بمجاورة الاغريق اولا ثم بمعاشرة

الفينيقيين. وكانوا أسبق من الرومان إلى الاقتباس من حضارتي هاتين الامتين. عرف البربر- كسائر البشر- معدن النحاس فانتقلوا من مدنية الححر الحجري الى حضارة العصر النحاسي. ولكنهم لم يلجوا هذا العصر الثاني الا حين اكتشاف معدن الحديد. فاندمج هذان العصران عند البربر في عصر واحد. على أن عصر الحجارة طال امده بدواخل وطنهم. فعاصر الحديد حينا من الدهر. من الآثار النحاسية المكتشفة بالوطن الجزائري قطع بضواحي مدينة قيصرية، واخرى بضواحي مدينة اقسيوم. ووجدت ايضا صفائح نحاسية بمنزل في مغارة قرب مدينة صلداي، ومعها قطع بصدد التكوين لم يزل بها اثر الفحم. وذلك يدل على انها مصنوعة هنالك وليست منقولة من وطن آخر. 1 - المسكن: كان البربر منهم الرحل اهل البيوت التي يخف حملها مهما ارادوا الظعن لانتجاع الكلأ والعشب بمواشيهم، ومنهم المقيمون اهل القرى والمدن، يتخذون بيوتهم اما من الخشب واما من الحجارة ويغطون سقوفها بالديس او غيره من النباتات. ولهم في هندسة البيوت اشاكال وفي بنائها كيفيات. منها بناء جدارين متوازيين بالحجارة ثم صب الحصا خلالهما حتى يمتليء ما بيهما من الفضاء. وقد أسس البربر مدنا عظيمة. منها ما طوى عنا التاريخ خبره واعفى كر الغداة والعشي أثره، ومنها ما بقى ذكره مرعيا لو حوفظ على موقعه فلم يزل موضع عمارته مرئيا. وسنتكلم على ما حفظ التاريخ للبربر من المدن حسبما تدعونا المناسبات. 2 - الملبس: كان ملابس البربر من الصوف بعد ما عرفوا

الحياكة. منها البرنس. وهو ثوب أعلى يسلك في العنق او يوضع على الاكتاف ينسج قطعة واحدة ويترك من أمام مفتوحا، لا يخاط الا ما يقابل الصدر منه. وهو قديم بينهم ومعروف عند غيرهم ايضا. فقد كان لباسه شائعا بين اليونان والرومان. ووصف ابن خلدون برانس البربر بأنها كحل. والبربر معروفون بالمحافظة على العوائد العتيقة فلعل هذا الوصف قديم ايضا. ولم يزالوا حتى اليوم بوطن القبائل ينسجون برانس في غاية المتانة والاحكام. ولونها في الغالب أزرق. فاما ان يكون هذا اللون حدث بعد ابن خلدون واما ان يكون هو الذي تساهل فعبر بالكحولة مكان الزرقة. والعرب تتساهل في الالوان المقاربة. ومنها القشابية. وهي ثوب اعلى ايضا له اكمام يسلك في العنق ويخاط من أمام، لا يترك منه الا الجيب (الرقبة) ولا يلبس البرنس فوقها الا نادرا. وهي قديمة جدا. وكانت من ملابس الرومان أيضا. ومنها الكساء. وهو قطعة صوف غير مخيطة يشتمل بها الرجال والنساء اشتمال الصماء. وهو قديم أيضا، ومعروف عند قدماء المصريين. ولم يزل لباسه حتى اليوم شائعا في بعض الجهات. وفي اغلب الوطن الجزائري تفننوا في نسجه ورققوه وزينوه بالحرير فصار من ملابس الزينة يختص به أهل الهيآت ويعبر عنه عرب الجزائر بالحائك. ومنها السراويل القصيرة او الطويلة، وهي معروفة ايضا عند الغاليين قدماء الافرنج. ويلبسون غير ذلك جلود الحيوانات بعد دبغها. وهي من ملابس الغاليين ايضا ما زلنا نشاهدها اليوم عند اعقابهم المتمدنين. أما البربر فقد تركوا هذا اللباس من قديم، ولم يحافظوا عليه خلافا لعاتهم في غيره.

وقد احسنوا في رفض لباس يقرب صاحبه في المنظر من الحيوانات الوحشية، ويذكر بأخلاقها في المجتمع صباح مساء. وكانوا يضعون على رؤوسهم " القنور ". ويرجع عهده الى الالف الثالث او الثاني قبل الميلاد. وقد قدر له ان يعيش - على ثقله حسا ومعنى- هذا العمر الطويل. ولكنه اليوم ادركه الهرم ودب فيه دبيب الفناء ولا ندري متى يحين الوقت الذي يوضع فيه بدار الآثار. وعلى كل حال فلم يكن لباسه عاما. فقد قال ابن خلدون- متحدثا عن عموم البربر-: " ورؤوسهم في الغالب حاسرة وربما يتعاهدونها بالحطق" (¬1) وذكر عن زناتة- وهم من سكان جيتولية على ما سبق- انهم يلبسون العمائم " يلفون الليت والاخدع قبل لبسها ثم يتلثمون بما تحت أذقانهم من فضلها " (¬2) وكان بربر نوميديا لا يحلقون رؤوسهم ويفرقون شعرها غديرتين يرسلون مع كل جانب غديرة. واتخذوا الحلي من النحاس والفضة والذهب خواتم واساور وخلاخل وغير ذلك. ولم يغيروا الى اليوم لباسهم القديم الا يسيرا خصوصا البادين منهم. 3 - المطعم: لا شك ان البربر كانوا قبل معرفتهم للزراعة مقتاتون من لحوم الصيد والحيوانات الانسية وبعض النباتات الطبيعية التي لا تضر بمعدتهم. اما بعد ان عرفوا الزراعة فلا ريب انهم استعملوا من الحبوب ضروبا من الاطعمة، نقلوا بعضها عن غيرهم من الامم. ومن الاطعمة المنسوبة لهم "الكسكس " وهو اليوم من أهم أغذيتهم. يواظبون عليه للعشاء. وقليلا ما يستعملونه غداء. وقد أثروا على عرب الجزائر في اقتياته فصاروا سواسية في اعتماده غذاء لابدانهم. ¬

_ (¬1) ج6 ص89. (¬2) ج2 ص15.

4 - الكسب: كان البربر من قديم يكسبون الغنم والبقر والخيل الغنم والبقر لنتاجها وألبانها وغير ذلك من فوائدها، والخيل لركوبها اما للصيد واللهو واما للحرب والغزو. واشتهر في الفروسية بربر نوميديا. وخيلهم كانت قصيرة سريعة العدو. تصلح لاستطلاع احوال العدو ورد الفارين من الجيش. يلبس الفارس منهم لباسا خفيفا ويحمل سلاحا خفيفا ايضا، ويعتلي صهوة فرسه من غير سرج ولا لجام. وانما يمسك بيد. قضيبا من خشب يصرف به الفرس طوع ارادته. وهذا دليل على حذقهم في سياسة الخيل ومهارتم في تربيتها. ـ[صورة]ـ ش- 1 - (رسم فارس نوميدي)

7 - نظام المجتمع البربري

ومن مكاسبهم الابل وهي معروفة قديما بآسيا. ولكنها لم تدخل الوطن البربري الا حوالي سنة 66 (ق. م) قال ابن خلدون: وهي من مكاسب أهل النجعة منهم شان العرب. وكانت لهم معرفة بالصناعات المعدنية وزراعة الحبوب، فكانوا يزرعون الفول. قال بيروني: ويظهر ان أصله من ارض البربر. ويزرعون الشعير، وهو أكثر فلاحتهم، والقمح وحبوبا أخرى. قال بيروني: ولا نعلم أهذه الحبوب محلية ام مجلوبة؟ وكان بوطنهم العنب والزيتون، ولكنه طبيعي غير مغروس. وصنعوا من المعادن ما كانوا يصنعونه من الحجارة وبذلك سقطت الصناعة الحجرية الا بدواخل الوطن فقد عاشت وترقت حتى صارت في غاية الاتقان. واتفقت كلمة من وقفنا على كلامهم من المؤرخين ان البربر لم يتعلموا الغراسة الا من الفينيقيين. اما الفلاحة واستخراج المعادن فقد قال اغسال: ان البربر تعلموهما من قدماء المصريين وسكان جزر البحر الابيض المتوسط. كانوا اولا يقتنون مصنوعات هذه الامم ويستوردونها ثم تولوا صناعتها بانفسهم. 7 - نظام المجتمع البربري كان البربر مقتنعين- منذ نزلوا ليبية- في حياتهم بما منحتهم الطبيعة من خصب اراضيهم التي كانت - على كثرتهم ووفور عدد قبائلهم- تفي بحاجتهم وحاجة حيواناتهم. فلم يكن لهم من غرض في استعمار وطن آخر، ولا بلغ بهم الجشع ان يسفكوا دماء محترمة، ويصبغوا بلونها القاني ترابا تنبسط نفوسهم من بعد للتمتع فوقه بخيراته وجهود ابنائه المظلومين. وانما كانت تقع منهم بعضهم على بعض هجومات

اما لصيانة حرمة انتهكت واما لدالة الشرف حيث يكون منهم ذو عزة بعشيرته فيريد ان يفرض سيادته على جيرانه. وهي سيادة ادبية شرفية غير مشوبة بطمع في مغرم او انتزاع ارض. لذلك لم يكن لهم في القديم ملوك عظام ودول فخام وانما كان منهم امراء على قبائل وسادات على عشائر. وكانت السلطة المنزلية بيد الرجل ولذلك كانت انسابهم تابعة لآبائهم لا لامهاتهم، وروى هيرودوتس (¬1) - على ما ذكر الكعاك- ان نظام الامومة كان أيضا حالة من حالات المجتمع البربري. تكون السلطة فيه للام، والاب غير معترف به شرعا والابناء تابعون لخالهم في الميراث، وعى هذه الرواية يكون البربر اسبق الامم الى الاعتراف بحرية المرأة. ويؤيدها ان ابن خلدون ذكر قبائل منهم تنتسب الى امهاتها. وذكر رين قبائل عبر عنها بأولاد امهاتهم. وقد بقي أثر ذلك اليوم عند "اليقاشين"، فانهم اذا حسبوا لمريض او غيره توصلا للغيب عدوا حروف اسمه واسم امه دون أبيه. وكذلك إذا رقوا لاحد رقيتهم كتبوا بها اسمه واسم امه لا ابيه. ونحن- إذا أيدنا وجود نظام الامومة قديما- لا نريد انه عام بين البربر بل خاص ببعض الاوساط ونظام الابوة هو الغالب. قال مرسيي: " ومن غير شك ان لكل قبيلة قوانين تخضع لها. ولم يزل أثرها الى اليوم في وطن القبائل ". وقال أغسال ويؤخذ من الكتابات الحجرية الاثرية ان فراعنة مصر كانت لهم علاقات بالليبيين وكان الليبيون ينتهزون فرصة ضعف الفراعنة ليغيروا على سواحل النيل ويملؤا ايديهم من الغنائم. واحيانا يكونون ¬

_ (¬1) مؤرخ يوناني شهير يلقبونه شيخ التاريخ وأبا التاريخ عاش قبل الميلاد بنحو 450 سنة.

8 - لغة البربر وكتابتهم

جندا مرتزقين لدى الفراعنة. وفي القرن الرابع عشر والثالث عشر (ق. م) كادوا يستولون على مصر. هذا كلام أغسال. وهو- وان كان تاريخه خاصا بالجزائر- لا يصح حمل كلامه هذا على الجزائريين. وان كانت الجزائر من ليبية. وانما يصدق على البربر المجاورين لمصر. اما بربر الجزائر فان لهم من وطنهم ما يغنيهم عن مزاحمة القبط على النيل. لذلك عاشوا دهورا متمتعين بلذة البساطة في مجتمعهم اغنياء عن النظام الدولي، اذ لا تحتاج إليه الا امة اضطرها ضيق عيشها الى تعدي بعضها على بعض او التوسع على حساب أمة أخرى. عاش بربر الجزائر ما شاء الله ان يعيشوا في راحة من تحمل عبء الملوك ودالتهم، اعزاء عن الخنوع لشهوات الامراء وجبروتهم حتى الجأتهم حروب قرطاجنة مع رومة الى تجشم مرارات النظام الدولي. ايقظتهم تلك الحروب الى أن من الامم ما لها مطامع في استعباد غيرها. فضخموا ملكهم ووحدوا امارتهم كي يحفظوا وطنهم من عاديات عشاق الزعامة العامة والسيادة السامة. وكان منهم اذ ذاك ملوك سنأتي- ان شاء الله- فيما بعد على تفصيل حياتهم وبيان اعمالهم الجليلة بقدر ما تسمح به المادة التي بأيدينا. 8 - لغة البربر وكتابتهم البربر يسمون لغتهم " تماشغت " ولهم لهجات مختلفة. ففي ابن خلدون: ان زناتة منهم لها رطانة خاصة بها. ونرى اليوم فرقا بين لغة زواوه احدى بطون ضريسة، ولغة مصاب (مزاب) من زناتة وغيرهم. اما أصلها فهو تابع لاصل الناطقين بها. ويقول بيروني: انها غريبة مجهولة الاصل، كما ان البربري نفسه مجهول النسب.

والصواب خلاف ما يقول فقد قدمنا ما عليه محققو المؤرخين من ان البربر جنس حامي. ووطنهم الثاني (ليبية) ساكنهم به طوائف من أمم مختلفة. واذن فاللغة البربرية حامية الاصل مشوبة بعدة ألفاظ من الفينيقية وغيرها من لغات الامم التي جاورتهم او استولت عليهم. والبربرية تخالف اللغات السامية في انها يسوغ فيها الابتداء بالساكن واجتماع الساكنين فاكثر وتقديم المضاف اليه على المضاف. وتوجد فيها كلمات مركبة تركيبا مزجيا وليست اعلاما. وقد ينقلب فيها الفعل اسما والاسم فعلا. ولا كذلك اللغات السامية. يقول رين: ان اللغة العربية واللغة الفرنسية استعارتا الفاظا من البربرية. وسرد تلك الالفاظ التي يدعى اصالتها في البربرية. وهو ان كان يريد ذلك في العصور الاخيرة فلا منازعة، وان كان يدعي ذلك في القديم فلا انازعه في ذلك بالنسبة الى اللغة الفرنسية فقد يساعده التاريخ على ذلك لان بربر نوميديا مكثوا مع حنبعل القرطاجني سنين بالغاليا وغيرها من جنوب أروبا، واختلطوا بهم في جيش قرطاجنة أيضا واللغات اذ ذاك ضيقة تحتاج الى النقل فلا يبعد ان يكون قدماء فرنسا أخذوا من البربرية. اما العربية فبعيدة جدا عن البربرية. ولا يعلم في التاريخ وقوع اختلاط بين هاتين الامتين الا ما كان من غزو افريقش لليبية (¬1). ولكن ذلك لا يؤيد دعوى رين لان المغلوب هو الذي ينقل عن الغالب. على ان علماء العربية تكلموا في الدخيل واعتنوا بتمييزه حتى خصه بعضهم بالتأليف. ولم يذكروا منه كلمة بربرية. ¬

_ (¬1) مما يثبت غزو افريقش لليبية ما ذكره ابو يعلى في كتابه تاريخ الزواوة (ص22) انه راى في المجلة الاسيوية ان علماء الاثر اكتشفوا الخط الحميري منقوشا على حجر في بعض قرى أفريقية.

ان من الالفاظ التي ذكرها رين بربرية نقلت الى العربية ما هو عربي حقيقة. فان كان موجودا في البربرية فهو دخيل فيها بعكس دعواه وتكون تلك الالفاظ موروثة عن قبيلتي كتامة وصنهاجة العربيتين. كانت اللغة البربرية- كغيرها- ساذجة بسيطة ثم تطورت مع الزمان وتأثرت بما كان يجاورها من اللغات الراقية. وخصوصا الفينيقية. وكان لها ادبها وبلاغتها والفت بها التآليف العلمية قبل الاسلام وبعده. وكان للبربر خط خاص بهم، وحروفه تمثل شيئا من اشياء الكون مثل الشمس والهلال والبرق. وتدل على معنى موافق اما لصفة ذلك الشيء مثل السرعة للبرق واما لفائدته مثل الحرارة للشمس. كان هذا الخط في القديم يتركب من عشرة حروف يسمونها "تيفيناغ " ومعنى هذه اللفظة الحروف المنزلة من عند الاله، لانهم كانوا يعتقدون انها ليست من وضع البشر. ويتركب من خمسة اشكال يسمونها " تد باكين " ومعناه: الدليل على العمل والتوسع. ويعتقدون انها من وضع البشر. حروف تيفيناغ هي التي تفيد المعاني، وحروف تيدباكين اما لضبط تلك الحروف او توكيد معنى حرف منها. وكانت حروف الامم قديما مثل الاغريق واللطين عشرة ايضا. وذلك ان الانسان يخترع على قدر حاجته. وفي بدء عهده بالحياة كانت دائرة افكاره ضيقة، والمعاني التي يعبر عنها قليلة. فكانت هذه الحروف - على قلتها- وافية بحاجته.

وهذه صورة حروف تيفيناغ القديمة مفسرة بما يوافقها أو يقاربها من الحروف العربية: ـ[رموز]ـ ن ل م ر س ي ت ر د ج ب وهناك حروف احدث منها وهي: ـ[رموز]ـ ز مخرجه بين ز (و) س ث ش وقد يكتب هكذا وهذه صورة حروف تيد باكين: 1. هذه الشكلة حركة. والاكثر ان تكون فتحة. 2: هذه الشكلة واو مد غالبا. 3.: هذه الشكلة تؤكد معنى حرف الجيم. 4:: هذه الشكلة لا نظير لها في العربية. 5:: هذه الشكلة حرف هجائي وحركة معا. ولا نظير لها في

9 - المعتقد البربري

العربية وتوجد غير ما سبق حروف احدث من تلك تختلف باختلاف القبائل معنى ومخرجا. ومن حروف تيفيناغ ما تصرفوا فيه من بعد، كما ان تلك الاشكال صيروها من بعد كحروف هجائية. وترتيب الحروف الهجائية في الوضع مجهول لم يهتد اليه الباحثون من طريق النقل، وانما ظنوا انها كانت ترتب حسب معانيها. ويقول رين: المظنون ان اللطينيين أخذوا حروفهم عن البربر لانهم يسمون حروفهم الهجائية " المنتا " وحروف ل، م، ن،! هي الاولى في الحروف البربرية. وليس للبربر في القديم نظام في الكتابة: يكتبون من اليمين الى اليسار، ومن اليسار الى اليمين، ومن أعلى الى اسفل، ومن اسفل الى أعلى. ولما جاء العرب أثروا بنظامهم وصاروا يكتبون من اليمين الى اليسار. وبطول المدة نسي المختلطون بهم الحروف البربرية وصاروا يكتبون لغتهم بحروف عربية. ولم تعش حروفهم الا بين الملثمين في مجاهل الصحراء فانهم لم يزالوا يكتبون بها الى هذا العهد. 9 - المعتقد البربري كان قدماء البربر يعتقدون وجود اله يسمونه " عمون " ولكن يرون انه ليس له وجود مستقل، وانما هو روح تحل ببعض الكائنات مثل الشمس والقمر والرعد والبرق وغيرها. لذلك كانوا يعبدون تلك المظاهر وهي ترجع الى ثلاثة أصول: 1 - الكواكب: كانوا يعبدون منها الشمس والقمر. ويمثلون الشمس بقرني الثور. وقد يتخذون لقرصها تمثالا يضعونه على رأس صورة تيس كما دلت على ذلك الآثار. 2 - الحيوانات: كانوا يعبدون منها الثور وهو في المنزلة الاولى

من الاهمية، والكبش، وهو في الدرجة الثانية. ويعبدون سواهما الافعى والبوم والحمام والطاووس والسلحفاة والضفدع والقرد والهر. 3 - الروحانيات: كانوا يعتقدون وجود ارواح كالجن في بعض العناصر الطبيعية كالعيون والاحجار والاشجار فيعبدونها ويتوسلون بها الى نيل ما عجزت عنه قواهم البشرية. قال البكري في خاتمة كتابه المغرب: "وبنو ورسيفان من البربر إذا ارادوا الحرب تقربوا بذبح بقرة سوداء للشماريخ. وهي عندهم الشياطين- ويقولون: هذا ذبح للشماريخ. ويفتحون اوعيتهم في تلك الليلة من الطعام والعلف. فلا يكون لها وكاء ولا سداد. ويقولون: هذا طعام وعلف للشماريخ، فإذا غدوا للقتال توقفوا حتى يروا زوابع الريح. فيقولون قد جاءت الشماريخ اولياؤكم لنصرتكم. فيحملون عند ذلك. فينتصرون بزعمهم ويقولون: ان ذاك لا يخطيهم (¬1) ". ونظير ما ذكره البكري ما هو موجود اليوم من ان الناس إذا عز طيهم المطر في فصلي الربيع والخريف لم يستسقوا الاستسقاء الشرعي بل يتقربون بذبح البقر او غيره من الانعام لقبر من القبور التي يعتقدون صلاح صاحبها بالسماع من اسلافهم العوام، ويطعمون الطعام. ويسمون ذلك "زردة سيدي فلان … " فإذا اغاثم الله بالمطر نسبوا ذلك لبركة ذلك السيد وانه رضي عنهم. وكثير من عقائد الاقدمين الوثنيين لم تزل رائجة بين الجهال البسطاء وعوام المتعلمين. وانما صبغت بلون آخر. ان عبادة الكواكب والحيوانات والروحانيات امر شائع بين الامم المتقدمة، وقدر مشترك بين الوثنيين، وانما يختلفون في تفاصيل المعبودات وكيفيات العبادات. ¬

_ (¬1) المغرب ص188 - 189.

ونحن نجهل- لفقدان المصادر التاريخية- نظام ديانة البربر وشعائر عبادتهم على وجه التفصيل. ولكن من المحقق انهم كانوا- كغيرهم- يتقربون الى آلهتهم بالقاء انفسهم في النار. والوطن البربري- كما قدمنا- معمور بأمم مختلفة ولغته مزيجة من لهجات. فديانته، كذلك مركبة من عدة ديانات. ومنها ما يشبه ديانة قدماء المصريين. ومنها ما أخذوه عن الفينيقيين ومنها ما نقلوه عن الرومان وكلها ديانات وثنية. وكانت بينهم طائفة اسرائيلية غير وثنية. ولكن نظام معابدها- كما قدمنا- مخالف لنظام يهود المشرق. ومع انفعال البربر بديانات الامم المجاورة لهم فهم يحافظون على روح عقائدهم الاولى ولا يرفضون منها الا قليلا. ولا يعرف التاريخ دينا غيَّر العقائد وابتعد بها عن الوثنية واعتمد على العقل مثل الدين الاسلامي ومع ذلك لم يطهر البربر من كل ما كانوا عليه. ولكن ما دامت مصادر الدين باقية ومنابعه صافية فليس الذنب ذنب العامة، بل الوزر كل الوزر على كاهل العلماء الجبناء والمدعين للصلاح من الجهلاء.

أفريقية (لامبيز)

الحفرة (قسنطينة)

الباب الثالث في ذكر الفينيقيين

الباب الثالث في ذكر الفينيقيين

تمهيد

تمهيد الفينيقيون قوم منسوبون الى وطنهم فينيقيا، وهي قطعة من الشام ضيقة مستطيلة على سيف البحر، يفصلها عن بقية الشام جبل لبنان. وهم أمة قليلة جدا ولكنها عملت في التاريخ القديم اعمالا جليلة جدا. كانوا بطبيعة وطنهم بحريين تجاريين، فربطوا بين الامم القديمة مواصلات ونشروا بذلك حضارات. وهم أول أمة أجنبية دخلت مصر جاءوها قبل اليونان وكانت لهم حارة معروفة باسمهم في مدينة منفيس (¬1) قاعدة الأسر العشر الاولى من الفراعنة. وعقدوا مع اولئك الفراعنة اتفاقا تجاريا يسمح لهم بنقل البضائع من مصر للاتجار بها في جزر البحر الابيض المتوسط وشواطئه ليبية واسبانيا. فاصبحوا يشقون بمراكبهم هذا البحر وينقلون الى من حوله حضارات المشرق وهم أول من انقذ الامم الاوروبية من الهمجية. كانت لهم بفينيقيا مراس عظيمة أشتهرت بالبحربة والتجارة منها عراد وبيبلوس وبيروت وصيدا وصور. وأسسو باسبانيا وليبية مراكز صارت تعظم كلما نقص عمران مدن فينيقيا بمزاحمة الامم لهم هنالك ومحاربة الملوك اياهم. وجد الفينيقيون بليبية ضالتهم المنشودة من البحرية والتجارة والاشتغال بوسائل العمران في سلم وأمن. فظلوا على ذلك حتى دخلوا مع اليونان في الحرب على صقلية، ثم الرومان بصقلية وأفريقية. وانتهت تلك الحروب المشؤومة بتخريب عاصمتهم قرطاجنفوذهاب ملكهم وتلاشي أمتهم. فذابوا في غيرهم وعفا رسمهم ولم يبق منهم الا اسمهم ¬

_ (¬1) سماها البكري منفيش بالشين.

1 - أصل الفينيقيبين

وجلائل اعمالهم التي كلها حسنات للبشرية عامة وللبربر خاصة، وليس بهم من عيب سوى عفتهم عن الدماء وبعد طبيعتهم عن الحروب. 1 - أصل الفينيقيبين الفينيقيون أمة سامية من ولد كنعان بن عمليق بن لاوذ بن سام ابن نوح عليه السلام. كانوا كبقية الكنعانيين- بجزيرة العرب على الخليج الفارسي وانتقلوا إلى الشام مع اخوانهم من كنعان واختصوا بفينيقيا وصار الشام يقال له ارض كنعان. قال ابن خلدون: ومؤرخو بني اسرائيل يقولون ان الكنعانيين الذين كانوا بالشام هم من كنعان بن حام وان العمالقة من ولد العيص ابن اسحاق ابن ابراهيم (ص) وقال في سياق أبناء حام: ومنهم كنعان باتفاق. فيستفاد منه ان كنعان الذي ينسبه العرب الى عمليق غير كنعان ابن حام، وان الخلاف بين مؤرخي العرب والاسرائيليين إنما هو في نسب كنعانيي الشام: هل هم من كنعان بن عمليق ام من كنعان ابن حام؟ ويظهر من كلامه في موضع آخر انه يؤيد قول مؤرخي بني اسرائيل حيث قال في الكلام على أبناء كنعان بن حام: ان منه أمة كانت بالشام " وانتقلوا عندما غلبهم عليه يوشع الى افريقية فاقاموا بها " ومنه أمة كانت ببيت المقدس " وهربوا امام داوود عليه السلام حين غلبهم عليه الى افريقية والمغرب واقاموا بها والظاهر ان البربر من هؤلاء المنتقلين اولا وآخرا. الا ان المحققين من نسابتهم على انهم من ولد مازيغ بن كنعان، فلعل مازيغ ينتسب الى هؤلاء (¬1) ". ¬

_ (¬1) ج2 ص12.

2 - الفينيقيون بالجزائر

واذا ايد ابن خلدون قول مؤرخي بني اسرائيل في كنعانيي الشام فان الفينيقيين ليسوا منهم بل هم ساميون من غير نزاع. غير ان ما استظهره من انتساب البربر الى تينك القبيلتين ليس بظاهر وقد مر في الباب الثاني (2، 3) ما يغني عن التعرض هنا لبطلان استظهاره. والخلاصة ان الفينيقيين اخوان العرب في نسبهم وجيرانهم الاقدمون في وطنهم. 2 - الفينيقيون بالجزائر الفينيقيون أمة تجارية لا شأن لها بالحروب. وقد كانوا ايام ازدهار مدينة صيدا متوجهين في تجارهم الى المشرق، واستعمروا فيه - استعمارا تجاريا - جزيرة قبرص وجزر بحر هيجاي. وخاضوا البحر الاسود وبلغوا القفقاس. وفي القرن الثالث عشر (ق. م) سقطت مدينة صيدا بهجوم الفلستينيين (¬1) عليها لغنم ثروتها. فورثنها مدينة صور في سعة العمران وعظمة التجارة. وزاحم اليونان الفينيقيين في المشرق فالتفتوا الى البحر الابيض والمغرب بسفنهم التجارية وأسسوا بجزره مراكز تجارية بصقلية ومالطة وسردانيا والجزائر الشرقية (¬2) وبلغوا اسبانيا وأسسوا بها مدينة قادس. صار الفينيقيون يترددون ببضائعهم بين الشام والاندلس. يقطعون مضيق جبل طارق مقتربين من سواحل ليبية حتى أذا بلغوا صقلية ابعدوا عن الساحل الأفريقي. ¬

_ (¬1) غير الفلسطينيين. والظاهر انهم من فلشتين الذين ذكرهم ابن خلدون في أبناء حام. (¬2) ثلاث جزر شرق الاندلس وهن ميورقة، مينورقة، يابسة.

وكانت تجارتهم مع الليبيين مقايضة: يأخذون منهم الانعام والاصواف والجلود وريش النعام والعاج ويدفعون لهم عوض ذلك اقمشة مصبوغة بالحمرة واسلحة وخمرا واواني من الزجاج والطين. وللاتجار مع الليبيين أسسوا بسواحلهم مراكز يستريحون بها من عناء السفر ويتزودون منها ويصلحون سفنهم. وقد راعوا في موقع مراكزهم أمرين: الامتناع ممن يريدهم بسوء، والتمكن من نقل بضائعهم بسهولة. فنزلوا لذلك الجزر القريبة من الساحل الليبي، والربى الساحلية، وما قرب من مصب الاودية في البحر. ومن هذه المراكز حضرموت (سوسة)، عويتقة (بو شاطر). وهما بايالة تونس، ومنها هبون (بونة)، اجلجي (جيجل)، صلداي (بجاية)، وهذه بالوطن الجزائري. ومن المراكز المنسوبة لهم أيضا عوزية. ويقولون انها سور الغزلان وقد غلط اغسال القائلين بذلك مستندا الى انها في دواخل الوطن الجزائري، ولم يعرف في التاريخ بلوغ الفينيقيين الى تلك النواحي. وعليه فان صح ان عوزية هي سور الغزلان فهي من مؤسسات البربر. وان صحت نسبتها للفينيقيين لم تكن هي سور الغزلان بل مدينة أخرى على السواحل لا ندري مكانها. ويقال أن مؤسسات الفينيقيين بالساحل الليبي بلغت ثلاثمائة مركز. وهو احصاء قريب من المعقول لان السفن كثيرا ما تحتاج الى الاصلاح وسيرها بطئ. فاهلها مضطرون الى الاستراحة والاستعداد للسفر بعد السير الكثير والمسافة القليلة. وقد يؤسسون مركزا ثم، يبدوا لهم ما هو اوفق منه فينتقلون اليه. وبذلك تتقارب المراكز وتكثر. وقد تحول بعض هذه المراكز من بعد الى مدن ذات فحوص واسعة أو ضيقة. وكثير منها سقط وعفا رسمه.

3 - تأسيس قرطاجنة

قال اغسال: " وليس بين دفتي التاريخ ما يرشدنا الى تعيين الوقت الذي وجدت فيه تلك المؤسسات بالضبط. والظاهر انها كانت قبل انتهاء القرن الثاني عشر (ق. م) " 3 - تأسيس قرطاجنة كانت صور (العاصمة الثانية للفينيقيين) بلغت مبلغا عظيما من العمران. وكان بها على عهد داوود وسليمان عليهما السلام ملك يدعى حيرام. سالَم هذا الملك الملكين النبيين، وحسَّن علاقاته معهما. وبعد وفاته تأسس بها حزب من عملة الشعب واصبح يشاغب طبقة الاعيان حتى تغلب عليهم ففروا إلى ليبية وأسسوا بها مدينة قرطاجنة. وبعد أمد قليل من تأسيسها بلغت من العظمة والقوة ان صارت تهدد صور نفسها واصبحت هي الحامية للفينيقيين بليبية وصقلية واسبانيا. وكان اليونان قد أخذوا عن الفينيقيين التمدن فانقلبوا عليهم وقادوهم في التجارة حتى اخرجوا من بحر ايجه، وهددوا مراكزهم بالمغرب فلما نأسست قرطاجنة ثأرت منهم وطردتهم من المغرب. أسست قرطاجنة على الخليج التونسي قريبا من البحر بحيث تصيب سورها أمواجه. ولحسن موقعها حازت السيادة التجارية، فأمها الفينيقيون من الشام، والبربر جيرانها الاقربون، وغيرهم من الامم، فاستبحر عمرانها وكثرت مبانيها وسكانها، واختلف في تقدير عدد السكان من (130000) إلى (700000) وبلغت اوج عزها في القرن الرابع الى اواخر الثالث (ق. م) ومتوسط سكانها اذ ذاك نحو (300000). اصبحت قرطاجنة عاصمة الفينيقيين ومعقل عزهم وحصن سعادتهم

4 - ممتلكات قرطاجنة بالجزائر

ثم كانت مقبرة عظمتهم ومدفن مجدهم بما جرته عليها حروبها مع الجمهورية الرومانية التي انتهت بتخريبها سنة (146) ق. م. يقال: ان اسم قرطاجنة بالفينيقية " قرت حدشت " ومعنى هذا العلم: القرية الحديثة. اما تاريخ تأسيسها وتعيين مؤسسها فقضية كثر حولها الخلاف واضطربت فيها الروايات، ذكر البكري: " ان الذي بنى قرطاجنة ديدون الملك زمن داوود عليه السلام " (¬1) وعليه يكون مؤسسها رجلاً وتأسيسها في القرن الحادي عشر (ق. م) لان داوود كان بين سنتي (1055 - 1014) وفي ابن خلدون- نقلا عن المورخ الروماني هروشيوش-: ان بناءها كان على يد ديدن بن أليثا، وانه من نسل عيصو بن اسحا. ومن المؤرخين من يقول أسسها الطبقة العليا من الفينيقيين. واكثرهم على أن التأسيس كان سنة (814) وقيل سنة (813) وقيل سنة (880)، على أن المؤسس امرأة تدعى " عليسة ديدون "، وعليسة علمها الشخصي، وديدون وصف لها معناه الفارة. وسياقة خبرها: انها من بيت ملك وتزوجت بكاهن مشهور، ولها أخ. ولما توفي ابوهما ورثا ملكه. فعدا اخوها على زوجها وقتله طمعا في كنوزه النفيسة وامواله الطائلة. ولكن عليسة احتفظت باموال زوجها وفرت بها الى ليبية فاشترت من البربر مكان قرطاجنة وأسستها. 4 - ممتلكات قرطاجنة بالجزائر عرفت ان الفينيقيين امة تجارية بحرية، فلم يحملها على دخول ¬

_ (¬1) المغرب ص41.

المغرب الطمع في انتزاعه من يد أهله والاستبداد عليهم في وطنهم. ولذلك لم تملك منه غير السواحل اللازمة لحياة بحريتها. وأسست بها مدنا لترويج بضائعها بين الاهالي. واقامت حينا من الدهر جارة للبربر تستخدمهم في مدنها بأجور يرضونها. وتستألف امراءهم بالأموال خوفا من غاراتهم. ولما تأسست قرطاجنة اقتطع الفينيقيون من داخل الوطن البربري قطعة استوطنوها ودخل اهلها تحت طاعتهم. واطلق على هذا القسم اسم " ليبيا فينيقيا " وعرف الفينيقيون الذين به باسم البونيقيين. ومن مدن الفينيقين بالساحل الجزائري: هبون (بونة)، روسفاد (السكيكدة)، شولو (القل)، اجلجلي (جيجل)، صلداي (بجاية) روسوقورو (تاقصبت او دلس او تقزيزن)، رسجونيا (مطيفو)، اقسيوم (الجزائر)، تباسا، يول (شرشال)، صيعة (ارشقول على الظاهر). ولم يتجاوز البونيقيون السواحل الى دواخل الجزائر الا في الجهة الشرقية حيث كانت نوميديا الشرقية تحت حمايتهم- باشرف معنى الحماية- ومن مدن هذا القسم: تغاست- Thagaste (سوق اهراس) مدوروس- Madoure - (مداوروش)، تيفيست- Thèvesté -" تبسة". ولهذا القسم الداخل تحت أشراف قرطاجنة حدود تفصله عن ليبيا فينيقيا وتلك الحدود خنادق تعرف بالخنادق الفينيقية. وبلغت حماية قرطاجنة في الشمال الشرقي لنوميديا الى رأس بوقرعون "ناحية القل" وجهة ميلة. ومن المحقق ان قرطاجنة لم تدخل تبسة " بالجنوب الشرقي النوميدي" الا سنة 250 (ق. م) ولم تبق بها الا خمسين سنة.

5 - اللغة الفينيقية وخطها

وبما ان الحماية القرطاجنية لم تكن مصحوبة باحتلال عسكري يفرض على المحتمين طاعة الحامي، ويحمل لالحاقهم بمستعمراته- استطاع النوميديون طرد البونيقيين بعد من وطنهم والتمتع بالاستقلال والتنفس في هواء غير مشوب بجراثيم السيادة الاجنبية. ولا يعلم تاريخ زوال السيادة القرطاجنية عن نوميديا بالضبط. ولكن من المحقق ان مدوروس كانت اواخر القرن الثالث (ق. م) تحت تصرف صيفاقس البربري. ومنذ سنة (149) ق. م لم تبق لقرطاجنة يد على نوميديا وجميع السواحل والشواطئ الجزائرية. ودخلت المدن الفينيقية بتلك الجهات في حوزة ملوك البربر وبقي لها اسمها الفينيقي الى ان خربت. وهذا خلاف ما نراه في عصر المدنية الغربية من تغيير دولها لاسم بعض المدن التي استولت عليها، وابداله باسم عظيم من عظمائها قد يكون لم يدخل تلك المدينة المنسوبة اليه او لم يسمع بها فضلا عن ان يعمل بها عملا يبرر نسبتها اليه. اما تسمية الانهج والشوارع بهذا الوجه من التسمية فمن المألوف الذي ينبو الذهن عند مشاهدته عن التفكير في وجه المناسبة بين الاسم والمسمى. وهكذا يفعل الذين يحبون ان يحمدوا بما لم يفعلوا. 5 - اللغة الفينيقية وخطها سترى في الباب التالي تأثير الفينيقيين على البربر في اللغة فمن المناسب ان نقدم ههنا البحث عنها: الفينيقيون أمة سامية، فلغتهم كذلك سامية، اخت العربية والمبرانية وبما انهم تجاريون لم تكن لغتهم اهة ادب وانما كانت لغة علم.

ولما انتقل الفينيقيون الى ليبية دخلت لغتهم مفردات من اللغة الليبية فازدادت ثروة، ولكنها تغيرت-طبعا- عن أصلها فلقيت بالبونيقية. وقد اضمحل الفينيقيون وماتت من بعدهم لغتهم. وما بقي منها باللسان البربري دخلت عليه العربية من بعد فتعذر تمييزه. ولكون هذه الأمة تجارية يلزمها ان تتعلم الكتابة والحساب، فتعلمت عن السريانيين الحساب وأخذت عن المصريين حروف الهجاء واستعملتها في لغتها بعد ما هذبتها وقربتها للفهم. كانت الحروف المصرية فيها صعوبة من حيث ان منها ما يدل على كلمة، ومنها ما يدل على جزء كلمة، ومنها ما يدل على حرف واحد. وفيها حروف مختلفة المعنى متحدة المخرج. فازال الفينيقيون منها تلك الصعوبة وصيروها بسيطة سهلة التناول. اختار الفينيقيون من الحروف المصرية اثنين وعشرين حرفا لكل حرف مخرج. ثم قلدهم فيها الاغريق فمن بعدهم من الامم. وقسموها الى حروف هجائية واشكال للضبط. ولما دخل هذا الخط ليبية مع اصحابه ووجد امامه الخط الليبي تأثر به وتغير عن اصله فسمي الخط البونيقي. وقد ألف بهذا الخط وتلك اللغة تآليف في الفلاحة والملاحة والاسفار منها رحلة حنون الذي ارتحل حول افريقية وبلغ شواطىء غينيا ومنها رحلة عملقون الذي بلغ سواحل انكلترا، ومنها كتاب ماغون في الفلاحة الذي اخذه اليونان والرومان الى لغتهم واعتمدوه خصوصا في تنمية النباتات بافريقية. وللبونيقيين غير هذه الكتب بلغتهم وخطهم ضاعت بضياع ملكهم. ولم يبق منها الا نتف مترجمة ومبعثرة في كتب اللطينيين واكثرها ضاع

6 - الديانة الفينيقية

في حرقي قرطاجنة، فضاع بذلك على الباحث الخط البونيقي واللغة البونيقية معا. وتلك عاقبة ذهاب مميزات هذه الأمة ومشخصات وجودها. 6 - الديانة الفينيقية كان الفينيقيون وثنيين يعبدون الشمس والقمر. الشمس يتخذون لها تمثالا يدعى "بعلا" والقمر يتخذون له تمثالا يسمونه "استارتي" أو " بعليت" (مؤنث بعل). وكانوا يقيمون لهذين الالهين تمثالين بكل مدينة من مدنهم. والشمس عندهم اله السماء والارض، يرونه غضوبا شديد الانتقام فيتوسلون لرضاه بتقريب القرابين له. وقد تكون تلك القرابين أناسي واكثر ما تكون من أبناء الملوك وسراة الامة. يحضرون القربان البشري امام التمثال ومعهم آلات الطرب يغنون عليها، ثم يلقونه في النار المقدسة التي تجعل لذلك التمثال، وقد تكون أم هذا القربان حاضرة تنظر اليه من غير جزع يلحقها. والاله يمثلونه تارة بثور، واخرى برجل، واخرى برجل رأسه رأس ثور. والقمر لديهم اله الحب والجمال، يتصرف في كل ما يحدث وما يفنى ولذلك يعبدونه تارة بالفرح واخرى بالحزن. وكانوا يمثلون القمر بصورة امرأة بيدها حمامة وعلى رأسها من شعرها صورة هلال. ولهم غير هذين الالهين آلهة اخرى ولها شبه قوي بآلهة الكلدان. وقد أخذوا عن غيرهم في الديانة. ولما نزلوا ليبية تأثروا بعقائد البربر.

وأخذوا الههم "عمون" وسموه بعلهمون وعبدوه حسب تقاليدهم، وصنعوا له تماثيل أخرى. ____ ـ[صورة]ـ ش2 رسم الاله بعلهمون ____ وكانت لهم أعياد يحتفلون فيها بآلهتهم، ويقربون لها القرابين من البشر والبقر والغنم والديكة ومما يتقربون به أيضا الصيام. وإذا كان البربر أثروا على الفينيقيين في المعتقد فان هؤلاء أثروا عليهم في ذلك أيضا، وسترى ذلك في الباب التالي ان شاء الله. ونحن نرى للعامة اليوم عقائد لها اشبه ببعض عقائد البونيقيين ولكن يبعد ان تكون موروثة عنهم لقدم العهد جدا ووجود الدين الاسلامي. وانما الجهل باصول الدين يجر في كل عصر الى التمسك باوهام وخيالات

7 - نظام الدولة القرطاجنية

قد تتشابه مع تباعد الاعصار. وإذا كان مرجع الديانة الى الخيالات كانت من قبيل الشعر، والشعر- كما قيل- ميدان والشعراء فرسان فقد يقع الخاطر على الخاطر كما يقع الحافر على الحافر. 7 - نظام الدولة القرطاجنية الدولة بنظامها الاداري والسياسي، فقوتها وضعفها وقدرتها وعجزها على حسب ذلك النظام ودرجة احاكامه واتقانه. ولم يكن للفينيقيين بفينيقيا دولة تجمع تحتها مدنهم وتتخذ من بنيها جيشا حربيا تهاجم به الضعفة او تدافع به الاعداء. بل كانت مدنهم هنالك مستقلة بعضها عن بعض يحكم تلك المدن رؤساء يعرفون بالاشفاظ (القضاة). ولما تأسست قرطاجنة قامت بها دولة عظيمة ذات دستور، ان لم يكن احسن دساتير ذلك العصر فهو من احسنها. ناهيك ان ارسطو الفيلسوف اليوناني واضع علم المنطق اعجب به واثنى عليه. وقد ادرك هذا الفيلسوف قرطاجنة في ايام عظمتها اذ كان في القرن الرابع (ق. م). لم تكن قرطاجنة شاذة عن الدول المعاصرة لها في تقسيم الأمة الى طبقتين: السراة والسوقة. بل كانت مثلها في ذلك واشتهر بها من طبقة السراة أسرتان: الماغونيون والحنونيون، ومن طبقة السوقة البرقيون. (1) شكل الحكومة: كانت حكومة قرطاجنة جمهورية على رأسها أسرتان تدير احداهما الجندية وسائر الشئون الحربية، وتقوم الاخرى بالعمل والاقتصاد وسائر وجوه العمران. وللحكومة مجلسان: احدهما مجلس القدماء او الشيوخ به (28)

عضوا منتخبا من طرف الامة. ويشترط في عضو هذا المجلس ان يكون من الاسر الاصيلة في البونيقية. فهو متركب من الاعيان ويؤازره ارباب رؤوس الاموال واصحاب التجارة والصناعة والفلاحة. وهو مجلس ارستقراطي (¬1) يؤيد نفوذ الطبقة العليا من الأمة على الصعاليك منها ومتوسطي الحال. ثانيهما مجلس السوقة: يتألف من صغار الماليين تجارهم ومزارعيهم ومن العملة واصحاب الحرف، ونفوذه ضعيف. وقد يكون وجوده صوريا. فان الحكومات الارستوقراطية لا تنظر الى افراد الشعب الذين قعدت بهم قلة ذات اليد عن الظهور في مظهر النعمة والترف الا بعين الاستخفاف، ولا تراهم الا آلة مسخرة لقضاء مصالح المترفين وتوفير سعادتهم. فوجود العملة ومن في درجتهم- عندها- ليس وجودا مستقلا وانما هو تكميل لوجود الاعيان والمثرين. والى ذينك المجلسين مجلس القضاء يدعى " مجلس المائة والاربعة" وقضاته من الاشراف. ويعبر عنهم " الاشفاط "- وهي قريبة من الاسباط- وقوتهم التنفيذية مستمدة من ذينك المجلسين. (2) - الجيش: اتخذت قرطاجنة جيشا ولكن لم تقصد به استعباد المستضعفين وترويع الآمنين والاستحواذ على ثروة اراضي الجانين على المدنية بكونهم عزلا من الصواعق المحرقة. بل كان قصدها هو حفظ حريتها التجارية. لانها امة كان شغلها ركوب متون البحار لترويج البضائع وربط الصلات بين الامم شرقا وغربا ونقل حضارات بعضها الى بعض. وقد عارضها في سبيلها تلاميذها من اليونان والرومان. وارادوا صدها عن وجهتها بالقوة العسكرية. فاضطرت الى اتخاذ ¬

_ (¬1) يقال دولة ارستقراطية، وهي مركبة من كلمتين: قراطية معناها حكومة، وارست معناها النبلاء، فمعنى ارستقراطيه حكومة النبلاء.

جيش لحماية تجارتها. فهو جيش لحفظ الحرية لا لسلبها وجبر الضعيف على الرضا بالعبودية. لم يتجاوز جيش قرطاجنة خمسين الفا اكثرها من البربر والاسبان ويمدها زيادة على ذلك ايام الحرب بجنود كثيرة امراء البربر الذين تربطهم بها معاهدات. وينقسم هذا الجيش الى ثلاثة أقسام: 1 - الجنود القرطاجنية وهم قليلون وغير حربيين. 2 - الجنود المرتزقة: وهم من امم مختلفة. من اسبانيا مشاة، ومن الجزائر الشرقية رماة، ومن الغاليا والكورص وايطالية وصقلية. 3 - الجنود الليبية والنوميدية. والاولون مشاة مجبورون على التجنيد. لان ليبية (¬1) وطنهم كانت في قبضة قرطاجنة وتحت نفوذها الفعلي. والاخيرون فرسان متطوعون. لان وطنهم نوميديا لم يكن تحت سيطرة قرطاجنة. وكلا الجندين الليبي والنوميدي صبار على الشدائد شجاع مقدام له سلاح خفيف: نبل وخنجر وترس من جلد. وليس له سيف ولا مغفر ولا درع. وهذا القسم الثالث هو الذي كون تاريخ قرطاجنة الحربي. خصوصا الجند النوميدي. فلولاه ما ذاقت قرطاجنة لذة الفوز والانتصار، ولا هدد حنبعل رومة ورام فتحها. لذلك كان للنوميديين ميزة لم تكن لبقية الجيش القرطاجني. وكانوا لا يسمحون لها بالتقصير في حقوقهم. وقد ثاروا عليها مرارا لعجزها عن أداء واجباتهم. ¬

_ (¬1) كانت ليبية تطلق على شمال أفريقية. وبعد مجيئ الفينيقيين اختصت بما يلى نوميديا شرقا. وليس المراد ليبية المعروفة اليوم جنوب طرابلس.

كان للجيش القرطاجني روساء وقواد من أسرة البرقيين. واشتهر منهم عدة قواد باسم هملقار. ومنهم حنبعل وصدربعل وغيرهم ممن خلدت ذكرهم حروب صقلية والحروب البونيقية. 3 - الاسطول. كان لقرطاجنة أسطول لا تضاهيه أساطيل الدول الاخرى. والبحرية هي العمل الخاص للفينيقيين. وقد دامت لهم السيادة البحرية من غير منازع امدا طويلا. كانت سفنهم فلكا كبيرة. وفي كل جانب منها مقاذيف. وإذا ساعدهم الرياح استعانوا بالشراع. وسفنهم نوعان: تجارية وحربية. اما التجارية فحيزومها مستدير. ____ ـ[صورة]ـ ش- 3 رسم سفينية فينيقية تجارية ____ وقد خاضوا بها قبل قرطاجنة وبعدها عباب البحر الابيض على طوله، والبحر الاسود حتى بلغوا القفقاس، والمحيط الاطلانتيكي حتى بلغوا انكلترا من جهة وأغادير من اخرى. كانوا يبعدون السير وليس لهم بوصلة لعدم اختراعها اذ ذاك. فكانوا يهتدون في سيرهم ليلا بنجمة القطب الشمالي. واكثر مسيرهم بالنهار: ولا يبعدون قن الشاطئ. فإذا أمسى المساء استكنوا بخليج. وقد ينزلون الى البر ويسحبون مراكبهم في الرمل. فإذا أصبح الصباح استأنفوا سيرهم محاذين للشاطئ.

وكانوا يحملون في سفراتهم الى كل أمة البضائع التي تروج بها. يستبدلونها بما لتلك الأمة من البضائع. ويتنقلون على هذه الصفة من وطن الى آخر. حتى انهم احيانا لا يرجعون الى وطنهم الا بعد سنين. وقد كان البحر الابيض المتوسط تحت نفوذ قرطاجنة. أسست على شواطئه المراسي من خليج طرابلس شرقا الى المحيط الاطلانتيقي غربا. وكان لها على هذا المحيط مراس أيضا الى قرب أغادير. واما المراكب الحربية فهي معقربة الصدر. وكان لقرطاجنة قبل استفحال امرها سفن ضعيفة من نوع السفينة ذات الخمسين مقذافا. ثم أخذت تترقى في سلم العظمة حتى بلغ اسطولها مائة سفينة. فيها من العملة أربعة وعشرون الفا غير من يحمل السلاح. وقد كانت السفن الحربية على أنواع: سفن ذات ثلاثة صفوف من المقاذيف، وذات اربعة صفوف، وذات خمسة. وهذه الانواع الثلاثة كثيرة. وهناك انواع ثلاثة أخرى قليلة الاستعمال. وهي ذوات (6، 7، 9) ____ ـ[صورة]ـ ش- 4 رسم سفينة فينيقيه حربيه ____

8 - العمل القرطاجني في العمران والحضارة

وجعلت قرطاجنة لصناعة السفن دورا يعمل فيها عملة من المحتلين والمحتمين. 8 - العمل القرطاجني في العمران والحضارة علمت ان الفينيقيين أمة كثيرة الاسفار في البرور والبحار لكسب الثروة بالاتجار .. فلم تكن لها حضارة خاصة بها. ولكن اليها يرجع الفضل في نقل حضارات الامم بعضها الى بعض بما تروجه بينها من البضائع المختلفة. آثارهم تدل على تقليدهم للمصريين في بناء البيوت وحفر القبور. فان قبور الفينيقيين وجدت بالجبال مثل قبور قدماء المصريين. وبيوتهم مبنية بالحجارة، ولها سوار تتصل بالسقف من غير قوس، وخطوط أساساتها مستقيمة. واكثر اعمال الفينيقيين في التجارة والفلاحة وبعض الصناعات. وكانوا إذا نزلوا أرضا عرفوا فوائدها الخاصة فاعتنوا باستثمارها. وارض ليبية ارض فلاحة فاعتنوا فيها بالملاحة علاوة على التجارة والبحرية. وقد جعلت قرطاجنة في نظام دولتها اسرتين: احداهما للحرب والاخرى للعمل. وكانت أسرة العمل هي أسرة ماغون. ماغون مؤسس هذه الاسرة كان بين سنتي 550 - 500 (ق. م) والف كتابا حافلا في الفلاحة. تكلم فيه على الفلاحة وتربية الحيوان من خيل وبغال وبقر وحمام ودجاج ونحل وغير ذلك. ولأهمية هذا الكتاب لم تستغن عنه رومة رغم عداوتها للبونيقيين وتخريبها لقرطاجنة. فاهتم شيوخ رومة به واستدعوا له مترجمين ترجموه الى اللطينية.

ومن حكمهم الفلاحية: " يجب ان تكون الارض اضعف من الفلاح. لانه إذا اراد ان يقاومها فتغلبت عليه حطمته". وقد اتخذوا للدراس آلة وعمموا نشر الحبوب المعروفة بالوطن البربري وجلبوا له بذورا أخرى مثل الكتان لم تكن معروفة به من قبل. وكان بليبية (بالمعنى العام) أشجار ذات ثمار الا انها طبيعيه. فاعتنى البونيقيون بغراستها وجلبوا ضروبا أخرى من الاشجار منها النخيل والتين والزيتون والرمان والجوز واللوز والكرم. وزرعوا البقول والخضر حوالي المدن. وعصروا الزيتون والخمور وهم أول من روج الخمر بين البربر. واول من افادهم الغراسة. ازدهى الوطن على عهدهم بحقول الحبوب والخضر وجنات النخيل والاعناب وبساتين التين والزيتون وضروب الفواكه. وقد شارك في هذه الاعمال العمرانية كل الطبقات البونيقية: ارباب الاموال الواسعة يقتطعون الاراضي الشاسعة ويبنون بها القصور وليقضوا بها بعض فصول العام. وصغار الفلاحين يشتغلون بما حوالي المدن من الاراضي الصالحة فيعمرونها على نسبة مقدرتهم المالية. وسوى عناية القرطاجنيين بالفلاحة وتربية المواشي كانوا يعتنون باستخراج المعادن من حديد ونحاس ورصاص وغيرها. ويصنعون منها الآلات وضروب الزينة من حلي واقراط. وكانوا ينحتون الحجارة النفيسة. واخذوا عن المصريين صناعة الزجاج فاتقنوها وصنعوا منها الاواني الرفيعة ولونوها بالوان قوس قزح. وكانت لهم يد في الحياكة والصباغة ودباغة الجلود. وكان لهم من الصناعات الدقيقة النقش على الصخور والخشب، ونحت الدمي وغيرها من العاج والعظام. وقطروا العطور. وركبوا الادوية.

9 - الحروب القرطاجنية

9 - الحروب القرطاجنية جاورت قرطاجنة البربر واحسنت جوارهم بما كانت تنقل الى وطنهم من حضارات الامم. وما كانت تنشره بينهم من جهود ابنائها التجارية والفلاحية والصناعية وغيرها. وكان في استطاعتها ان تكون من شمال أفريقية دولة عظيمة ثابتة الاركان بسلاحي الترغيب والترهيب. كما فعل من بعدها الرومان. وكانت هي أقوى منهم واقرب. ولكن الجنس السامي- وخصوصا الفينيقيين أسمى من ان يكون سفاكا للدماء غدارا بالوعود. حاولت قرطاجنة ان تتوسع في وطن البربر. ولكن من غير اراقة دماء غزيرة. فتوسعت حيث لم تجد معارضة حربية قوية. واكتفت بربط الصلات حيث وجدت صلابة. وقد رأت من صلابة نوميديا انها لا تخضع الا بعد اهوال وحروب طوال. فلم تتعنت في فتحها نعنت الرومان من بعد. واكتفت باستجلاب مودة اهلها كي تستعين بهم عند الاقتضاء. فنظمت من فرسانهم جيشا كان له الاثر المحمود في حروبها. وليس لقرطاجنة حروب مذكورة مع البربر الا ما كان من ثورة الجند والانتصار لاعدائها الرومان. والمذكور من حروب قرطاجنة هي حروبها مع اليونان بصقلية، وحروبها من بعد مع الرومان. ولم يكن البربر بعداء عن هذه الحروب خصوصا النوميديين. بل كانوا يخوضون لججها لفائدة قرطاجنة. وقد ينقسمون الى مناصر لها ونصير لاعدائها. ونحن نقص خبر هذه الحروب بايجاز لانها لم يقع منها بالوطن

أ - حروب صقلية (536 - 306) ق. م

الجزائري الا القليل. فعلاقتها بتاريخ الجزائر من هذه الجهة من حيث وجود اليد النوميدية فيها ومن حيث ان عاقبتها مجيئ الرومان مكان قرطاجنة واستيلاؤهم على الجزائر. نقتصر في هذه الفصول على أهم حوادث تلك الحروب. وفي الباب التالي- ان شاء الله- نبسط ما كان منها بالوطن الجزائري. تعرف حروب قرطاجنة مع اليونان بحروب صقلية، وحروبها مع الرومان بالحروب البونيقية. أ - حروب صقلية (536 - 306) ق. م وقعت هذه الحروب بين اليونان وقرطاجنة. ودامت سنين كثيرة تتخللها هدنات قصيرة الاجل. 1 - في سنة (536) وضعت قرطاجنة قدمها بصقلية بقصد فتحها. وارسلت اليها جنودا كثيرة بقيادة عملقرض بن ماغون. فانهزم اولئك الجنود انهزاما فادحا. وذلك حوالي سنة (480). ولكن قرطاجنة لم تفشل من هذا الانهزام، ووالت حروبها. وفي آخر القرن الخامس فتحت نحو ثلث صقلية بقيادتي حنبل وحملقون من أسرة حنون. وختمت المعارك الاولى بعقد هدنة بين قرطاجنة ودونيس امير سرقوسة وذلك سنة (404). 2 - في سنة (399) هجم دونيس على بعض مستعمرات قرطاجنة بصقلية. فارسلت اليه جيشا بحريا بقيادة حملقون. فبلغ الجيش سرقوسة. وحاصرها بحرا. واغرق سفنها، وذلك عام (396) وفي العام التالي عاد حملقون الى صقلية بجنود كثيرة. واستولى على اكثر جزرها. وانتهى الى سرقوسة وحاصرها واصبح النصر منه على قاب قوسين، ولكن لم يساعده القدر، فأصاب المرض جنوده، ووجد

دونيس الفرصة متأتية. فانقض على جنود حملقوق. وهزمهم برا وبحرا. وانتهى الدور الثاني لهذه الحروب بعد اتفاق بين المتحاربين يقضي بخروج قرطاجنة من جميع جزر صقلية. اضطرت قرطاجنة الى هذا الاتفاق لما كان بوطنها من ثورات البربر التي صيرت قرطاجنة في أضيق حال. 3 - انجلت عن قرطاجنة أزمة الثورة. فعادت الى حرب صقلية. ووجهت اليها جيشا بقيادة ماغون. فطالت الحرب بين الفريقين. وتوفي ماغون. فخلفه ابنه ماغون. ثم توفي دونيس سنة (363) وخلفه ابنه وسميه ايضا. واخيرا ظن ماغون الثاني انه مغلوب ففر الى قرطاجنة وقتل نفسه اتقاء من تعذيب دولته له. ولا اعجب من حال من يفر من الموت الشريف وهو مظنون ويقتل نفسه بعد ما جر لدولته عارا لانهزام. وبعد ماغون في سنة (340) وجهت قرطاجنة جنودا اخرى لصقلية بقيادتي حنبعل وهملكار. فانهزموا ايضا على كثرتهم. وتم الدور الثالث بعد اتفاق بين المتحاربين لفائدة صقلية. وذلك سنة (338). 4 - كان رجل يدعى أغاثوقليس من بيت وضيع. ولكنه قوي الإرادة طموح الى المعالي. فانتهز فرصة وجود هملكار بصقلية. واستعان به على ان يكون ملكا بسرقوسة. فاعانه بعد ما حلف له ايمانا على مسالمته لقرطاجنة. وانتصب ملكا بسرقوسة سنة (319). وبعد وفاة هملكار رأى أغاثوكليس أنه في حل من ايمانه. فهجم على ما تحت يد قرطاجنة بصقلية. فوجهت اليه جيشا جرارا يقوده هملكار بن جسقون. وانتصرت عليه انتصارا غزيرا. وتقدم الجيش الى سرقوسة فحاصرها. ورأى أغاثوقليس موقفه حرجا. فتخلص بنقل الحرب الى أفريقية. بعد ما حرض السرقوسيين على الثبات ودبر مكيدة ابعد بها سفن قرطاجنة عن مرسى سرقوسة وركب اسطوله

ب - الحروب البونيقية

وتوجه الى أفريقية. شعر به الاسطول القرطاجني فتبعه. ولكن لم يدركه. قضى أغاثوقليس في سيره ستة ايام. ونزل بأفريقية. واحرق أسطوله لئلا يطمع جيشه في العودة الى صقلية. وذلك سنة (310) وهكذا سيفعل طارق بن زياد بعد عشرة قرون. بقي هملكار محاصرا لسرقوسة وفي سنة (309) الزمه السرقوسيون برفع الحصار عن مدينتهم. وفي العام التالي حاول الاستيلاء على سرقوسة، فلم ينجح. وأسره الاغريقيون، ومات معذبا. أما أغاثوقليس فانه نجح في افريقية وخضعت له مدن كثيرة، وبلغ ابواب قرطاجنة وشدد عليها الحصار. ولما رأى أغاثوقليس انه تمكنت قدمه بأفريقية ارتحل عنها سنة (306) الى صقلية. وترك ولده بافريقية. فتنفس القرطاجنيون وصاروا يحاصرون الاغريق في المدن التي احتلوها. فعاد أغاثوقليس. ولكن النصر لا يكون دائما حليف الفاتح. فذاق مرارة سوء الحظ في هذا العود. وعاد الى صقلية يتعثر في اذيال الخيبة. ومكن سلطته بسرقوسة. وتوفى سنة (289). وبارتحال أغاثوقايس عن أفريقية للمرة الاولى انتهت حروب صقلية. ب - الحروب البونيقية قرطاجنة دولة بحرية لها أسطول عظيم. وأبناؤها قليلو الغناء في الحرب. فكانت تعتمد في حروبها على الاجانب. ورومة دولة برية لا اسطول لها. ولكن لها من أبنائها جيش قوي الايمان بمحبة الوطن. ولذلك كان النجاح في الحروب البونيقية للثانية على الاولى. ابتدأ النزاع بين هاتين الدولتين على البحر الابيض المتوسط.

وفي سنة (348) عقدتا اتفاقا يمنع رومة من التجارة مع أفريقية، ويحدد لها في البحر حدودا لا تتجاوزها. ولما توفي أغاثوقليس بقيت صقلية في فوضى دامت عشر سنين. وطمعت قرطاجنة خلالها باعادتها اليها. فاستدعى السرقوسيون الملك بيروس ليحفظهم منها. فلبى طلبهم. ووقعت بينه وبين قرطاجنة معارك لم ينجح فيها. فماد الى ايطاليا سنة (276). وكانت رومة تخشى بيروس. فعقدت مع قرطاجنة محالفة دفاعية تسنلزم اعانة احدى الدولتين للاخرى في أي حرب دخلت فيها. وغرضهما الاتحاد ضد بيروس. وفي سنة (272) توفي هذا الملك. فتنفست رومة. ونقصت لديها أهمية المحالفة. رجعت صقلية الى الفوضى بعد خروج بيروس منها. وكان بها جنود مرتزقة بعضهم من عهد أغاثوقليس، وبعضهم خلفهم بها بيروس. فانقسموا أحزابا. وعين السرقوسيون منهم ييرو رئيسا عليهم. فحارب قرطاجنة سبع سنوات. وكان أعظم الاحزاب مقيما بمسينا. ولقب هذا الحزب نفسه " جنود المريخ " وهو إله الحرب. وبلغ من عظمته أن خشيته اليونان وصقلية والرومان والقرطاجنيون. وفي سنة (268) ساءت حالة المريخيين. ورأوا لزوم خضوعهم لرومة أو لقرطاجنة. وافترقوا لذلك فرقتين. وقدمت الطائفة المتشيعة لرومة مطلبها لمجلس الشيوخ. فقبلوه واعتمدوه سببا للدخول في محاربة قرطاجنة التي لا ترضى بتسليم صقلية. فوقعت الحرب بين الدولتين. ودامت سنين كثيرة. وهي المعروفة بالحروب البونيقية.

ج - الحرب البونيقية الاولى (264 - 241)

ج - الحرب البونيقية الاولى (264 - 241) للرومان رغبة شديدة في امتلاك صقلية لقربها منهم. وللقرطاجنيين حق البقاء بها لنفس تلك العلة. ويزيدون بانهم السابقون الى استعمارها، وبأنهم مهروها دماء غزيرة، وبانهم أمة بحرية. واستظهرت رومة بطلب بعض المريخيين لحمايتها. والقول الفصل في قضية الاستعمار للقوة. فدخلت الدولتان محكمة الحرب لفض هذا المشكل. ورأت رومة عجزها البحري. فسدت هذا الخلل قبل الشروع في الحرب. وشرعت في صناعة سفن على شكل سفن قرطاجنة. وتم لها في مدة شهرين صنع (130) سفينة. ابتدأت الحرب على مسينا فدخلها الرومان. وكان الامير ييرو أولا مع قرطاجنة ثم انضم للرومان سنة (263). ثم دحرت رومة قرطاجنة في حرب جرجنتي حتى فر القائد القرطاجني وأسر بعض جيشه وبيعوا بيع العبيد. وذلك سنة (262). وفي سنة (256) وقعت معركة بحرية بين الاسطولين انجلت بانهزام الاسطول قرطاجني. ودخل الرومان أثر ذلك أفريقية وحاصروا قرطاجنة. فاضطر القرطاجنيون الى طلب الصلح. فاشترط الرومان عليهم شروطا رأوا الموت دونها. فشمروا عن ساعد الجد وأخرجوا الرومان من أفريقية. وفي سنة (242 - أو- 241) خضع الجيش القرطاجني للجيش الروماني. وكان كل من المتحاربين قد سئم الحرب. ولكن الماليين القرطاجنيين كانوا أسبق إلى طلب الصلح حرصا منهم على الثروة التي يرون في استمرار الحرب ضررا لها.

د - الحرب البونيقية الثانية (218 - 202)

انعقد الصلح بين المتحاربين على شروط لفائدة رومة وهي: 1 - رد الاسرى من غير فداء. 2 - خروج قرطاجنة من صقلية. 3 - التزامها مسالمة ييرو. 4 - دفعها غرامة حربية عظمى. قدرها بعض المؤرخين بعشرين مليونا فرنكا. وهي بعضها معجل وبعضها مؤجل بآجال تنتهي بعشرين سنة. والقائد القرطاجني في هذه الحرب هو أملقار برقة. وهو قائد عظيم أدى لدولته خدمات جليلة. وكان رئيس حزب وطني غرضه أن تكون قرطاجنة دولة ديموقراطية (¬1) ذات جيش وطني يحميها من رومة. وكان الماليون الذين همهم في ملء الخزائن لا في نثر الكنائن يرون في هذا القائد الحربي ضررا على ماليتهم فابعدوه الى اسبانيا برسم فتحها في الظاهر. ففتحها وأسس بها دولة هو رئيسها. وسمى عاصمته قرطجنة الحديثة. وتوفي سنة (228 - أو- 220). د - الحرب البونيقية الثانية (218 - 202) لما توفي أملقار باسبانيا ترك جيشا منظما منقادا له كل الانقياد. فورثه ابنه حنبعل في الحكم والجيش. وكان ابن سبع وعشرين سنة. حنبعل هذا رجل عظيم اعترف له اعداؤه الرومان بالدهاء الخارق للعادة. وتعجب نابليون الاول من دهائه الحربي. ومجمل القول ¬

_ (¬1) ديموقراطية مركبة من كلمتين: قراطية معناهاحكومة وديمو معناها الناس. فمعنى هذا المركب حكومة الشعب.

فيه أنه عالم متبصر في الامور، ذو عزيمة ثابتة ووطنية نارية، محبوب من جيشه وكلاهما واثق بالآخر. كان يحمل حقدا حارا لرومة، وينوي تجديد عز قرطاجنة. فتوسل لاثارة الحرب بينه وبين رومة بأن هجم على مدينة باسبانيا تحت حمايتها، كما أنها هجمت قبل ذلك أثناء الصلح على جزبرتي سردانيا والكورص، واتنزعتهما من قرطاجنة. وبهجوم حنبعل انقضت أيام الصلح التي دامت اثنتين وعشرين سنة استعادت فيها كلتا الدولتين قوتها. أرسلت رومة الى قرطاجنة وفدا يطلب منها تكفير تعدي حنبعل واختيار الصلح أو الحرب. فردت اليها قرطاجنة أمر الاختيار. اختارت رومة الحرب. فكان ذلك بردا وسلاما على قلب حنبعل. فاراد أن يحاربها في عقر دارها. فاختار من جنوده خمسين ألفا بين مشاة وفرسان. وقيل مائة ألف. وتوجه الى ايطاليا وكان يريد أن يموت هو أو تموت رومة. وأكثر فرسانه نوميديون. وهم معروفون بالفروسية المبهتة. حتى أن فرسان الرومان لم يستطيعوا مقابلتهم. فترجلوا عن خيولهم. وقعت بين الفريقين معارك في ميادين كان النصر فيها لحنبعل. وهلك من الرومان آلاف مؤلفة. وطالت اقامة حنبعل بايطاليا فقل جنده وخرج عنه كثير من الامم التي أخضعها أولا لطاعته. وإذ ذاك استنجد قرطاجنة فلم تنجده جريا على عادة أعيانها من حب السلم لترويج التجارة. هنالك أرسل الى أخيه صدر بعل الذي تركه باسبانيا. فاضطر صدر بعل في طريقه الى خوض معركة قضت على أجله سنة (207).

بعد ذلك تحصن حنبعل بجبال كلابر من ايطاليا. وعجز الرومان عن مقاومته بها .. فنقلوا الحرب الى افريقية بتدبير سبيون. لما رأى سبيون (¬1) ان ينقل الحرب الى أفريقية- كما فعل من قبله أغاثوقلس- وجد نفسه في حاجة الى استمالة النوميديين. فذهب الى أفريقية. وتمكن من عقد محالفة مع صيفاقس ملك مصيصليا ضد قرطاجنة. وبذل صدر بعل ابن جسقون جهوده لابقاء صيفاقس على ولائه لقرطاجنة فلم يفلح أولا. ثم عاد سبيون الى الاندلس. وبها مصينيسا مع صدر بعل على الرومان فاستماله أيضا. وكان عدو صيفاقس. فوجد صدر بعل بذلك سبيلا الى ايغار صدر صيفاقس على الرومان. فانتزعه منم وأعاده في صف قرطاجنة. جمع سبيون لفتح افريقية جيشا يشتمل على ثلاثين ألفا. وكان مصينيسيا اقد وقعت له حروب مع صيفاقس انهزم فيها وصار متشردا بالصحراء. فلما حل سبيون بأفريقية جاءه نجدة له. وجاء صيفاقس منتصرا لصدر بعل. ووقعت بين الفريقين معركة أولى انهزم فيها سبيون مكيدة. وأظهر رغبته في الصلح. وبينما هم في المفاوضة إذ هجم سبيون على صدر بعل ومصينيسا على صيفاقس ليلا وحرقوهم بالنار وعلوهم بالسيوف. فكانت على القرطاجينيين وقيعة شنعاء وذلك سنة (203) وخضعت إذ ذاك قرطاجنة لسبيون طالبة منه الصلح. كل ذلك وحنبعل بايطاليا. ولما بلغه ما حل بدولته عاد الى وطنه سنة (202). ¬

_ (¬1) سبيون هذا هو قائد الجيش الروماني المحارب لقرطاجنة بالاندلس. وأبوه يقال له أيضا سبيون. وكان أيضا قائدا. وانتصر عليه حنبعل في طريقه إلى ايطاليا. ويعرف سبيون الابن بسبيون الأفريقي. ولعل هذه النسبة جاءته من قبل اقامته بأفريقية في هذه الحرب.

لما بلغ حنبعل قرطاجنة تقوت به القاوب بعد الضعف. ولم يقبل الصلح. وعاد إلى الحرب. فوقعت بينه وبين سبيون معركة زامة. مات فيها من الرومان عدد كبير. ولكن خيالة نوميديا كانوا مع سبيون فكان الغلب له. وعاد حنبعل الى قرطاجنة آيسا من ربح الحرب راضيا بالصلح. وكانت معركة زامة هذه خاتمة الحرب البونيقية الثانية، عقد المتحاربان بعدها هدنة الى ثلاثة أشهر. ثم اتفقوا سنة (201). على مواد الصلح الآتية: 1 - سراح الاسرى الررمان من غير فداء. 2 - تسليم قرطاجنة في جميع أفيالها للرومان. 3 - تسليمها لهم جميع سفنها إلا عشرا. 4 - يبقى لها تحت يدها من التراب ما عدا الجزر. 5 - تدفع لهم غرامة مالية. قدرها ابن خلدون بثلاثة آلاف قنطار من الفضة (¬1) وقدرها غيره من مؤرخي الافرنج بأربعة وخمسين مليونا فرنكا، وهي منجَمَة:.قال مرسيي على عشر سنوات، وقال ماليت على خمسين سنة. 6 - تعترف بسلطنة مصينيسا على مصيليا، وقاعدته قرطة، وتتعهد بأن لا تحاربه. 7 - لا تجند جندا إلا برخصة من رومة. 8 - لتنفيذ هذه المواد تأخذ رومة مائة من أبناء قرطاجنة رهنا. تم الصلح على هذا الوجه. وأخذ سبيون خمسمائة سفينة أحرقها بميناء قرطاجنة. ورد عليه أربعة آلاف أسير. وعاد الى رومة ظافرا منصورا. ¬

_ (¬1) ج2 ص189.

هـ - الحرب البونيقية الثالثة (149 - 146)

أما حنبعل فانه عاد الى قرطاجنة وهو يرجو أن يأتي يوم تقبل فيه رومة شروطا كالتي قبلتها اليوم قرطاجنة. وظهرت طلائع الفوضى بقرطاجنة. واتهم حنبعل بالتقصير في فتح رومة فحاكم عليه بالقتل. ولكنه استمال الجند وقلب النظام وأصبح هو الآمر الثاهي. وذلك سنة (195) وأخذ في رتق ما فتقته الحرب. فدرب الجنود ونشط الفلاحة. ولم يرق ذلك للرومان فبعثوا اليه بالكف عن تلك النهضة التي تعيد لقرطاجنة شبابها، وتخشى منها رومة خرابها. ولم يستمع اليهم حنبعل على كثرة الحاحهم. ولا أعياهم اعراضه عن موافقتهم عزموا على اغتياله بمساعدة أرباب الاموال التي استحوذت على قلوب أصحابها فلم تبق بها منفذا لحب الوطن. وإذ ذاك أيس حنبعل من خدمة أمته بقرطاجنة. ففر الى الشام ونزل على ملك السريان " أنطيوكيس " وأراد أن يشغل رومة ويخدم وطنه من الخارج. فطلب من ذلك الملك المدد لمحاربة رومة في المشرق. فأمده. وأخيرا أيس من أن تكون لهذه المحاولات ثمرة. فسم نفسه سنة (183). وهكذا انتهت حياة هذا البطل العظيم والقائد الكبير الذي لم يهزمه غير الخائنين من قومه عبدة المنفعة الشخصية. فمضى ولسان حاله ينشد: أنا لولا أن لي من أمتي … خاذلا ما بت أشكو النوبا هـ - الحرب البونيقية الثالثة (149 - 146) خرجت قرطاجنة من الحرب الثانية على تلك الصفة القاضية عليها بالموت. ولكنها أمة تجارية نشيطة فتحسنت حالها وانتعشت. وكان مصينيسا يقلقها بغاراته على حدودها. وقام بها ثلاثة أحزاب: حزب مالي غرضه السلم ومداراة رومة، وحزب وطني غرضه تأييد

سيادة قرطاجنة بالجيش والحرب، وحزب بربري غرضه الاحتماء من رومة بالخضوع لمصينيسا. ولو قدر لهذا الحزب الاخير النجاح ما رأى الجزائريون وجوه الرومان وفخفختهم. لم يكف مصينيسا عن ازعاج قرطاجنة. فرفعت عقيرتها مرارا بالشكوى منه الى رومة التي لم يخف عليها تعدي مصينيمسا. وأخيرا خشيت رومة أن يستولي مصينيسا على قرطاجنة، ويقطع آمالها في امتلاك أفريقية. فوجهت الى أفريقية ثلاثة من الخبراء للبحث في قضية قرطاجنة مع مصينيسا وانصافها منه. فلما بلغوها ورأوا حسن حال قرطاجنة عدلوا عن انصافها خشية أن تعود الى قوتها وتحتفظ بسيادتها على وطن همهم في امتلاكه. حتى أن أحد الخبراء المدعو قاطون CATON لما عاد الى رومة حمل معه تينات طرية من شجرتها ودخل بها مجلس الشيوخ قائلا: "ان الارض التي تنبت هذه الثمرة ليس بينها وبين رومة الا مسير ثلاثة أيام، ومن كلامه أيضا: " ان رأيي ان نهدم قرطاجنة" ولم يزل يكرر هذا المعنى في خطبه. وبعد قليل أصبحت رومة تلفق أسبابا واهية لتبرير حرب قرطاجنة. أدركت قرطاجنة جور أولئك الخبراء وعرفت أنه لا ينصفها غير قوتها. فكانت للحزب الوطني فرصة لم يضيعها. إذ قام من رجاله جسقون ونظم جيشا جعله تحت امارة أريو برزان حفيد صيفاقس عدو مصينيسا. واخرج حزب مصينيسا من قرطاجنة سنة (152) فاحتج مصينيسا على ذلك أمام قرطاجنة ورومة. وأخيرا هجم على الحدود فخرج اليه صدر بعل في جيش كثير. وانتهت المعركة بفوز مصينيسا. وذلك سنة (150). بلغ خبر هذه الحرب الى رومة فاعتمدتها سببا لحرب قرطاجنة بدعوى أنها نقضت الفصل السادس من مواد الصلح السابق. وشرعت

في تجهيز جيوشها للدخول في الحرب البونيقية الثالثة. وما أجدرها أن تسمى حرب التين! في سنة (149) وجهت رومة جيشا الى أفريقية. ولما نزل بصقلية جاءته رسل قرطاجنة معترفين بالجناية على الصلح مع أنهم كانوا مدافعين لا هاجمين. وقدم أولئك الرسل لضباط الجيش (300) من أعيان قومهم رهنا. ولكن الجيش سار لطيته وكان عدده ثمانين ألفا. ولما نزل بتراب قرطاجنة طلب منها- تكفيرا عن جناية نقض الصلح! - تسليم جميع المواد الحربية وآلات الصناعة. فلبت الطلب! وكان مما استلمه الجيش الروماني مائتا ألف درع، وثلاثة آلاف مقلاع، عدا المراكب وغيرها. وبعد استلام ما طلبه الجيش الروماني أولا طلب ثانيا منها أن تتخلى له عن خمسة عشر ميلا من ترابها. فطلبت تأجيل الجواب عن ذلك الى شهر. ووافقها الجيش على هذا الطلب لاعتقاده أنها عاجزة عن أي مقاومة. أثار هذا السلوك الممقوت والخداع الخبيث حمية القرطاجنيين. فهاجموا وثاروا في وجوه الذين مكنوا الرومان من قوتهم. وجمعوا عشرين ألف جندي تحت قيادة صدر بعل. وتهيأ السكان أجمعون للدفاع عن المدينة. وكان عددهم سبعمائة ألف. وخرج صدر بعل بجيشه من المدينة ليتمكن من تموينها. واستعد الباقون للحصار تحت رئاسة حفيد مصينيسا المسمي صدر بعل. ونهضوا أثناء ذلك الشهر للعمل بنشاط غريب حتى أنهم هدموا الديار ليأخذوا أخشابها ويصنعوا منها السفن وآلاتها وحلقت النساء شعورهن ليفتل منها الحبال. وعندما تم الامد جاء الجيش الروماني ليدخل المدينة فوجدها على غاية الحصانة. وتحرج موقفه. ثم فشا فيه المرض والعصيان. وكان القرطاجنيون بخلاف ذلك تزداد حرارتهم الوطنية بطول الحصار.

ولم يجد الرومان مساعدة من مصينيسا الذي لزم انحياد رجاء أن يستفيد من ضعف الدولتن كلتيهما. مكث القرطاجنيون في انحصار عامين. واشتد عليهم تحت رئاسة سبيون الأميلي اذ حفر خندقا أحاط بالمدينة، وأقام سدا بينها وبين المرسى، وطارد الجيش القرطاجني المقيم خارج المدينة. وبذلك انقطعت عن المحصورين مادة التموين. وذلك سنه (147). وحاول المحصورون النفوذ الى المرسى باتخاذ نفق تحت الجبل. فشعر بهم المحاصرون وردوهم إلى الحصار فاستمروا فيه متزودين بالصبر. لما حكم سبيون حصار قرطاجنة وقطع عنها المؤنة برا وبحرا عزم على فتحها. فقصد مكانا ليدخل منه على غرة من أهلها. ففطن به صدر بعل حفيد مصينيسا وصده بايقاد النيران في وجهه. وأخيرا دخل سبيون المدينة من ناحية المرسى. فشد عليه السكان شدة عنيفة. وأرسلوا عليه كل ما لديهم من مهلكات ومحرقات. ولكنه صبر لها وفتك بمن ساقه القدر اليه من شيوخ ونساء وصبية وأحرق كل ما مر به. ودامت الحال على شدتها ستة أيام بلياليها. والتجأ الممحصورون الى هضبة برسة. وهم مع ذلك لا يسلمون قدما إلا بحقها. وكثرت الأموات حتى صاروا يرمونها من طريقهم بالمذاري. وكان المحصورون بجبل برسة (¬1) ثلاثين ألفا. فلما أيسوا من النجاة ونفذ ما لديهم من وسائل الدفاع ومعدات الحصار أسلموا أنفسهم- ومعهم صدر بعل- لسبيون على أن يحفظ لهم أرواحهم. وكانت زوج صدر بعل أقوى منه جأشا فربأت بنفسها عن أن تحتمل ¬

_ (¬1) جبل برسة هضبة بمدينة قرطاجنة. شاد بها الفرنسيون اليوم كنيسة ومتحفا وضريحا للقديس لويس التاسع ملك فرنسا الذي هلك في حربه ضد المستنصر بالله الحفصي بالوباء سنة 669هـ - 1270م.

منة سبيون. فأوقدت النار بمعبدهم وألقت نفسها فيها. وفعل فعلها ألف قرطاجني. وذلك سنة (146). وانتهت الحروب البونيقية بفتح قرطاجنة التي خلد البونيقيون بدفاعهم عنها لانفسهم كل الفخر والشرف وللرومان الغادرين كل خزي وعار. وانه لفتح فتح على الجزائريين كل النوائب والمصائب وسد عليهم طريق الاحسان السامي فلم يروه إلا بعد ثمانية قرون عندما جاءهم العرب اخوان الفينيقيين يحملون لهم دينا فطريا وأحكاما عادلة وحضارة طاهرة. عندما تم فضح قرطاجنة احتفلت رومة بآلهتها وقربت لها القرابين. ثم وجهت عشرة من أعيانها لينظروا مع سبيون في مصير قرطاجنة. فحملتهم الكراهية والبغضاء لمؤسسيها رجال العمران على اختيار هدمها وتخريبها ففعلوا وبئس ما صنعوا. ولعنوا مكانها. وأخذوا من تراب حكومة قرطاجنة قطعة ضيقة أضافوها الى مستعمراتهم وأطلقوا عليها اسم " مملكة الومان في أفريقية " وجعلوا لها واليا مقره عوتيقة.

الباب الرابع في ذكر البربر على عهد قرطاجنة وجمهورية رومة

الباب الرابع في ذكر البربر على عهد قرطاجنة وجمهورية رومة

1 - علاقات البربر مع القرطاجنيين

1 - علاقات البربر مع القرطاجنيين ليس لقرطاجنة مطامع استعمارية- بالمعنى العصري- في بربر الجزائر. فلم تكن تخدعهم بالوعود الكاذبة أو تمنيهم الاماني الباطلة. فتتظاهر- وهي تسر حسوا في ارتغاء- بأنها جاءت لخيرهم، وانها تحكمهم ريثما يصيرون قادرين على ادارة شؤونهم، رشداء في تصرفهم، ثم تقلع عنهم، وتنفض يدها من التحكم عليهم متى بلغوا تلك الغاية. وقد عاب على قرطاجنة هذا الخلق السامي ستيفان اغسال ونقل كلامه بيروني. وهاك ترجمته: رومة ملكت أوطانا شاسعة ومع ذلك عرفت كيف تحفط سيادتها: فالمكان الذي تنتصر فيه تحصنه بالجنود، وتمني المحكومين بأنها تدعهم وشأنهم متى رشدوا. وقرطانجة بعكس ذلك: متى ملكت ناحية لم تحصن مركزها فيها، ولم تعد أهلها بالاقلاع عنهم يوما ما. الى أن قال: فلو شاءت قرطاجنة ان تكون من أفريقية دولة ثابتة لسهل الامر عليها. ولكنها فرطت في الاستثمار والاستغلال. وان عيب على قرطاجنة تفريطها في استغلال البربر فإنما يعيب عليها ذلك أهل المطامع الاستعمارية. اما من لم تدنس عقولهم تلك المطامع فإنهم لا يرون عيبا على قرطاجنة ان لم تكن ذات خداع سياسي. بل يعترفوق بفضل أعمالها العمرانية وما أحسنت به الى بربر الجزائر من جلب البضائع لوطنهم وتعليمهم الحرف والصنائع.

2 - الحضارة القرطاجنية بالجزائر

وقد كانت تستميل الرؤساء والامراء بالاموال وتتقرب اليهم بالمصاهرة، لا لأن تخدعهم في استقلالهم بل ليكفوا عنها هجومات قومهم ورعاياهم أو تستعين بهم في حروبها. أملقار برقة أعظم قواد قرطاجنة وعد نارفاس من رؤساء البربر بابنته لاعانته له على اخماد ثورة المرتزقة، وحنبعل الشهير كانت له ابنة أخ تزوجت من اصالساس بن نارفاس، وصفر نيسب الشهيرة بنت صدر بعل كانت تحت صيفاقس، ومصينيسا كانت له بنت تزوجت باحد سراة قرطاجنة وكان منها صدر بعل حامل راية الدفاع عن المحصورين بقرطاجنة. وكان لقرطاجنة منذ أواخر القرن الخامس (ق. م) جنود مرتزقة من نوميديا وموريطانيا. والنوميديون هم الذين أعانوا حنبعل بأوربا. وإليهم يرجع الفضل في انتصاراته الكثيرة الباهرة. وكانت بين قرطاجنة وبعض أمراء البربر بالوطن الجزائري معاهدات تقضي بإعانة أولئك الامراء لقرطاجنة أيام الحرب. فانت ترى أن بين قرطاجنة وبربر الجزائر روابط بالمصاهرة والمعاهدة، واختلاط في الجندية. 2 - الحضارة القرطاجنية بالجزائر كان البربر قد اجتازوا العصر الحجري وعرفوا الزراعة قبل تأسيس قرطانجه. ولكنهم استفادوا من القرطاجنيين فوائد كثيرة وجليلة بحيث يصدق عليهم أنهم تلاميذهم في العمران والحضارة. كان شجر الكروم والزيتون بأرض البربر من النباتات الطبيعية ولم يهتدوا الى وجه استثماره. فلما جاورهم القرطاجنيون أخذوا

عنهم صناعة عصر العنب للخمر وحب الزيتون للزيت. وكانوا قد عرفوا الفلاحة. فاستفادوا من القرطاجنيين ضروبا أخر من البذور لم تكن بوطنهم، وأخذوا عنهم أيضا آلة لدرس الحبوب. ولم تكن للبربر دراية بالغراسة. فاستفادوا من القرطاجنيين غراسة الاشجار على اختلافها. وتعلموا منهم تربية الحيوانات. وعرفوا منهم المعادن فاستخرجوها. من ذلك النحاس. استخرجوه قبل الفتح الروماني. ويظن بعض الباحثين أن ذلك كان بناحية تنس. وتعلموا منهم صنع الرصاص والحلي ونحت الحجارة النفيسة. ولم ترج صناعة الحديد بين البربر إلا على يد القرطاجنيين (¬1). وتعلموا منهم صناعة الاواني المطلية وفنهم في البناء. فكانوا يبنون القباب على شكل الاهرام. وعرفوا الفن الاغريقي أيضا في البناء. ولكن بواسطة القرطاجنيين. وقد عثر الباحثون في الوطن الجزائري على اطلال من بناءات البربر حكوا فيها الفن الفينيقي. وكثيرا ما يجدون أطلالا مركبة من الفنين الفينيقي والاغريقي. وليس لقرطاجنة من حيث أنها حكومة يد في انتشار هذه الحضارة لأنها كانت في نواح لم تكن لقرطاجنة عليها سلطة. وانما كان انتشارها ناشئا عن أسباب مرجعها الى ما كان بين الامتين من الروابط. وهاك أهمها: 1 - المدن البونيقية: ذلك أن البربر كانوا يقصدون تلك المدن ¬

_ (¬1) تأخر رواج صناعة الحديد بين البربر الى ذلك العهد لا يدل على بعدهم عن الحضارة لأن مجيئ القرطاجنيين كان لاول العصر الحديدي فيما يظهر. فقد قال تعالى في شأن داوود: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} وذلك بدل على أن عصر داوود هو بداية العصر الحديدي. وقد علمنا الخلاف في تأسيس قرطاجنة هل كان في عصر داوود او بعده، وان تأسيسها كان بعد تعرفهم بهذا الوطن على كل حال.

يشترون منها بضائع بونيقية ويشاهدون بها حضارة بونيقية. فينقلونها داخل وطنهم باختيارهم. وما أسرع البربري الى الاخذ بالجميل إذا لم يكن مبغضا لأهله. 2 - الجنود المرتزقة: ذلك أن قرطاجنة كان لها من البربر جنود مرتزقة. وهؤلاء الجنود يختلطون بالبونيقيين ويتأثرون بحضارتهم. فبعد أن يقضوا بينهم زمنا يعودون إلى أوطانهم ناشرين لتلك الحضارة. 3 - أمراء البربر: ذلك أن الكثير من أمراء البربر ولوعا بترقية وطنهم. فكانوا يقتبسون من جيرانهم البونيقيين ما يبلغون به أمنيتهم. فيأخذون من مدنيتهم وحضارتهم أمثلة صالحة ينشرونها بين رعاياهم بهمة وعناية، ويسيون بها في مساكنهم واداراتهم شوطا بعيدا. والناس- كما قيل- على دين ملوكهم. ولكون البربر هم الذين جلبوا الى وطنهم الحضارة القرطاجنية ونشروها بينهم باختيارهم لم تسقط هذه الحضارة بسقوط قرطاجنة بل عاشت في العصر الروماني، ولم يضرها جوار الحضارة الرومانية. قال بيروني: بدلا من أن يقضي الرومان على حضارة قرطاجنة نشروها ومدوا في عمرها، مع عدم المناسبة بين الفينيقيين والرومان أصلا وحضارة. ولكن طول مكث الفينيقيين بأفريقية غرس حضارتهم في نفوس البربر غرسا لا يزول بزوال ملكها. حتى أن الرومان لما صاروا يملكون وينشرون حضارتهم لم يفهم ذلك البربر إلا أنها حضارة قرطاجنية. ولم يزل ذلك من أفكارهم إلا الفتح العربي. فكان عمر هذه الحضارة (17) قرنا. هذا كلام بيروني سقناه لما فيه من الشهادات العادلة. وفيه

3 - تأثير قرطاجنة على البربر في الخط واللغة

سبب لانتشار حضارة قرطاجنة بين البربر وطول أمدها غير الاسباب التي قدمنا. ولكن ما قدمناه هي الاسباب الحقيقية أما طول المكث وحده فغير كاف. وسنرى ان طول مكث الرومان لم يتسبب عنه بقاء حضارتهم بعد ذهاب سيادتهم، ولم ينتج عنه انتشارها حتى أيام سيطرتهم. بل في كلام بيروني هذا ما يغني في رد ما جعله سببا لبقاء حضارة قرطاجنة عن انتظار ما يأتي في آخر الباب التالي. 3 - تأثير قرطاجنة على البربر في الخط واللغة كانت للبربر حروف هجائية كما كانت لهم لغة. ولكنها لم تكن لغة آداب وعلم. فلما خالطوا الفينيقيين تأثروا بلغتهم ومالوا الى خطهم. حتى صاروا بقرطبة لا يتكلمون بغير الفينيقية. وأصبحت هي اللغة الرسمية بدواوين الحكومة على عهد مصينيسا فمن بعده من الملوك. وظهر ذلك على نقودهم الدولية التي عاشت بعيش دولتهم الى أواسط القرن الاول للميلاد. وعلى أيدي الملوك والامراء انتشرت هذه اللغة بين العامه خصوصا في الجهات التي تجاور مملكة قرطاجنة. ولم تزل حية بنواحي قالمة وبونة إلى أيام القديس أغسطين. غير أنها لم تكن إذ ذاك لغة مدرسية، والبلغاء يترفعون عنها ويتظاهرون بجهلها، وانما هي لغة البوادي الذين كانوا يجهلون اللغة اللطينية الى ذلك العهد. فكان الرومان يحتاجون في ذلك الحين الى مترجم عارف بالفينيقية عندما يضطرون الى مخاطبة البداة من البربر. وقد وجدت كتابات بقالمة ونواحيها وقسنطينة وميلة على قبور بهذه اللغة. ويرجع تاريخ هذه الكتابات الى ما بعد سقوط قرطانجة.

4 - تأثير قرطاجنة على البربر في العقيدة

ومن اللغة الاعلام. وقد اتخذ البربر لبعض مدنهم أعلاما فينيقية. ومن ملوك نوميديا من سمي أبناءه باعلام فينيقية. فقد كان لمصينيسيا ابن يدعى منستبعل وابن آخر يدعى آذر بعل. واقتفت السوقة أثر الملوك في ذلك قرونا. ويوجد بجهات سطيف وجبل أوراس وسور الغزلان كتابات بحروف لطينية لاعلام فينيقية. منها نمفامو، صدر بعل، بريق بعل، بو ملكار، مع أن هذه الجهاث لم تدخلها قرطاجنة قط. فأنت ترى أن اللغه الفينيقية عاشت بالجزائر بعد قرطاجنة قرونا، ولم تقض عليها أو تذهب بأغلبيتها لغة الامم التي جاءت بعد القرطاجنيين، الى أن جاء العرب فقضت لغتهم على هذه اللغة. قال يبروني: اتفق المؤرخون على أنه لا يمكن معرفة ما بقي من آثار هذه اللغة لانها لغة سامية وقد دخلت عليها أختها العربية وحلت محلها. هذا وان انتشار الفينيقية بتلك الدرجة ودوام عمرها قرونا لا يفيدان أن اللسان البربري حفظها كما هي. بل لا بد أن تكون قد تغيرت وامتزجت بالبربرية. وهذا وجه آخر عندي لعدم امكان معرفة ما بقي من آثارها. 4 - تأثير قرطاجنة على البربر في العقيدة كانت للبربر ديانتهم التي لا تختلف عن ديانات الامم القديمة الوثنية الا من حيث تفاصيل العبادات وتماثيل المعبودات وأسماؤها التي هي من توابع اللغات. ولما جاورهم القرطاجنيون تأثروا بهم في عقيدهم وقلدوهم في

كثير من طرائق عبادتهم وغيروا بعض ما ورثوه عن أسلافهم بما شاهدوه عند جيراهم. عبد الفينيقيون إله البربر "أمون" لكن حسب تقاليدهم وبعد تسميته "بعلهمون" وبعد صنع تماتيل له غير تمثالي التيس والكبش. فقلدهم البربر في تلك التماثيل أيضا وشادوا- اجلالا لبعلهمون- تماثيل بقرطة وميلة وقالمة. وعبدوا من آلهة الفينيقيين " استارتي" و"جليست ". ومن الآلهة التي بقي اسمها الى ما بعد الاستيلاء الروماني "بليدير " ومعناه الرب العظيم. وكان معبودا بسيقوس وجوار قالمه. قال اغسال: " وثم آلهة فينيقية تحت حجاب اللغة الفينيقية ". ولم تزل ديانة الفينببقيين التي أدمجها البربر مع ديانتهم حتى جاءت وثنية الرومان فتعاشر الثلاث ثم ظهر الدين المسيحي فتدثر به جانب من البربر مستبطنا لوثنيته الملفقة من الوثنيات الثلاث وبقي أكثرهم وثنيا صريحا حتى جاء الدين الاسلامي على ايدي فاتحي أفريقية من العرب فقضى على الجميع. على أنه لم تزل الى اليوم عوائد متخذة عقائد لا تتفق مع روح الدين الاسلامي، ويبعد أن تكون من بقايا الوثنية الاولى، فان الاسلام قد تمكن من قلوب البربر حتى ان تلك العقائد الفاسدة إنما عاشت بينهم لاحتمائها بالاسلام وتسترها بجداره، فلو وجد من العلماء المخلصين لدينيهم وقومهم عدد كاف لحمل العامة على الثقة بما يقولون، وأخذوا في رفع الستار عن فساد تلك العقائد لنفض مسلموا اليوم أيديهم منها، ولكن ما لم يكن اليوم فعسى أن يوجد غدا. ان رحمة الله قريب من المحسنين. وقد اتضح لك من هذا الفصل وما قبله ان القرطاجنيين أثروا في البربر تأثيرا بعيد الاثر، لا يحوي تاريخهم نظيرا له إلا ما كان

5 - نشوء الممالك البربرية العظمى

من تأثير العرب في العصر الاسلامي. وسر ذلك ان البربر يأنفون من يعبث باستقلالهم ويتذرع الى ذلك بوسائل الخداع السياسي والنفاق الاستعماري. وإذا أنفوا من أمة هذه خلالها رفضوا مدنيتها وهجروا أخلاقها وعقائدها. والفينيقيون كالعرب من الجنس السامي جنس الصراحة الصادقة والكلمة الثابتة. فلذلك أثروا في البربر ذلك التأثير ونفذوا الى قلوبهم فغيروا من أخلاقهم وعوائدهم ولغتهم وعقائدهم. 5 - نشوء الممالك البربرية العظمى إذا ألقى المرء نظرة على خريطة الجزائر الطبيعية ألفاها ذات أقسام مختلفة: جبال وهضاب وحقول وصحار. ولاهل كل قسم من هذه الاقسام طبائع وعادات يختلف بعضها عن بعض تبعا لاختلاف الامكنة. ولكنهم لم يكونوا من الاختلاف بحيث لا يتعارفون ولا يتحاملون. فقد كان بالوطن الجزائري طرق تخترقه وتربط بين هاتيك الاقسام، وتسهل المواصلة بين السكان. ففي كل عام ينتقل أهل الصحراء بمواشيهم الى التل- كما هي الحالة اليوم- وتقع المعاملة بين الفريقين: يأخذ التلي الصوف والتمر، والصحراوي الحبوب. وبذلك تكونت علاقات بين الشعوب الجزائرية منذ أقدم العصور التاريخية، وتأسست منهم ممالك كبرى ذات نظام وعمران وحضارة. صيفاقس من ملوك البربر استطاع أن يجند (60) ألفا لمحاربة سبيون الأفريقي، ويوبا الاول جمع لحرب قيصر (30) ألفا راجلا و (20) ألفا فارسا. وفي القرن الثاني (ق. م) كان مصينيسا

ومصيبسا ويوغورطا ملوكا على ما بين طرابلس ومراكش، وقد يمتد حكم بعضهم الى المحيط الاطلانتيقي. وقد بلغ من عظمة ملوك البربر أن كانوا احدى العوامل في سقوط قرطاجنة، وغصت بهم رومة رغم اتساع بلعومها لكثير من الاوطان. وقد كان هؤلاء الملوك يحبون الاستبداد بالسلطة والاستقلال بالإرادة والادارة، لذلك أسلموا قرطاجنة للسقوط وقاوموا رومة حينا من الدهر. ولملوك البربر نواب في مختلف الجهات يسمون ملوكا أيضا. ويرسلون للمدن عمالا. ومن المدن ما منحوها الاستقلال، ونظمت حسب نظام المدن القرطاجنية، وكان لها قضاة كقضاة مدن قرطاجنة الذين يعرفون بالاشفاط SUFFETE. ومنحت تلك المدن حق ضرب النقود، فكتبت عليها باللسان الفينيقي. والحكومات البربرية وراثية محصورة في بيوت منهم سواء في ذلك الملوك ونوابهم. وقد كان بقرطة تجار وعملة من الاغريق والايطاليين. وكان نطاق العمران متسعا. ولكن شمال قرطة كان أوفر حظا. فكانت المدن بتلك الناحية كثيرة عامرة. وتوجد مدن عامرة أيضا وهي في الجنوب منها تفيست، وقد بلغ من عمرانها وكثرة سكانها أنها في سنة (250) ق. م تمكنت من اعطاء ثلاثين ألفا من رجالها رهنا على الطاعة لقائد قرطاجني. وانتشرت الفلاحة على يد مصينيسا. وكثيرا ما مون ملوك نوميديا جنود الرومان بالقمح والشعير في حروبهم بالمشرق أو باسبانيا أو بجزيرة دانيا.

6 - ذكر بعض رؤساء البربر

ولم تزل الجزائر من ذلك الحين صالحة للفلاحة وتربية الحيوانات التي تكلم عليها سالوست. والعمارة الفلاحية كانت تمتد الى حد الجزائر الغربي. وكانت مصيصيليا أغنى من مصيليا رجالا ونتائج أرض. وكان البربر يفتخرون بكثرة النسل. قال اغسال: " ويرون أفريقية أكثر من غيرها في ولادة التوأم " ومراده بأفريقية ما يشمل الجزائر. ولم يزل هذا الخلق الى اليوم بزواوة. قال أبو يعلى الزواوي: ومن عادات زواوة أنهم " يقلدون المرأة التي أَذْكَرَتْ نوعا من الحلي خاصا بالجبهة " (¬1). وبتقدم العمران تقدمت الحضارة. قال اغسال: "ولم يكن جميع من تحت هؤلاء الملوك متوحشين؛ فقد شيدت المباني العجيبة من منازل وصوامع وقصور وقباب ومعابد. كل ذلك على نمط الفن الفينيقي أو الفن الأفريقي المركب من الفنين الفينيقي والاغريقي. 6 - ذكر بعض رؤساء البربر لم تظهر بالوطن البربري دول عظام وملوك فخام إلا عندما أخذ الطمع الاشعبي يدفع رومة لامتلاك وطنهم، واصطدمت بقرطاجنة. فحينما دب الهرم في دولة قرطاجنة ونخرت أعظمها من حروب اليونان والرومان أراد البربر أن يحفظوا استقلالهم فكان منهم ملوك سنرى أخبارهم فيما يلي هذا الفصل. واستغناء البربر أولا عن تأسيس دولة ثم التجاؤهم ثانيا يظهر سره فيما أجاب به النعمان بن المنذر كسرى وقد عاب أمامه العرب ¬

_ (¬1) تاريخ الزواوة ص 34.

1 - مطوس

بعيون منها عدم انقيادهم لرجل يسوسهم. وهذا جوابه: " وأما تركهم الانقياد لرجل يسوسهم ويجمعهم فانما يفعل ذلك من يفعله من الامم إذا آنست من نفسها ضعفا وتخوفت نهوض عدوها اليها بالزحف ". حقا حفط البربر استقلالهم بتأسيس تلك الممالك مدة. وقد كانوا ينجحون في اقصاء عدوهم لولا انقسامهم على رؤساء وامراء كل يحارب الآخر. ولا أضر على الامم من الحروب الداخلية والتهالك على الرياسه. قبل ظهور الملوك العظام كان لعشائر البربر رؤساء هم نواة الملك الذي عظم من بعدهم. ونحن نذكر من أولئك الرؤساء ما اهتدينا الى خبره، ثم نقفي بذكر الملوك العظام الذين قلما تجود بهم الايام. 1 - مطوس: كان زعيم العساكر المرتزقة التي ثارت على قرطاجنة سنة 238 (ق. م). وذلك أن قرطاجنة كان لها من العساكر المرتزقة عشرون ألفا عجزت عن أداء أرزاقها بعد خروجها من الحرب البونيقية الاولى على ذلك الوجه المضر بها. فلم تعذرها تلك العساكر وثارت مطالبة بأرزاقها. فمنحت كل واحد دينارا (صرفه مجهول) فلم يرضهم ذلك. فوجهت لهم ضابطا يدعى حنون فعجز عن مقاومتهم. ثم عينت لكسر شوكتهم أملقار القائد العظيم (¬1). ¬

_ (¬1) منهم من يسميه عملكرض أو هملكار. وما أثبتناه في الاصل هو ما في ابن خلدون. غير أنه قال املقا. والظاهر ان الراء سقطت في التصنيف فقط.

2 - نارفاس

2 - نارفاس كان ملكا بمصيليا. ولما اشتدت ثورة العساكر المرتزقة وحاصروا عدة مدت منها بنزرت وعين أملقار لحربهم رأى أنه لا يقوى عليهم إلا بمساعدة نارفاس. فاستماله ووعده بابنته. فاعانه وتمكن بذلك أملقار من محاربة الثوار. أخمد أولا ثورتهم فجددوها وبلغوا أن حاصروا قرطاجنة. فتمكن لأملقار أن يدافع طائفة منهم حتى حصرها بين جبلين. ولما ضعفت استأمنت له لكنه استأصلها عن آخرها. وبقي مطوس بمن معه محاصرا لقرطاجنة. فضاعف القرطاجنيون قوتهم حتى غلبوا مطوس وجنده. 3 - غولة: هو ابن نارفاس خلف أباه على ملك مصيليا. وكانت عاصمته قرطة. فجري على سياسة والده من مصادقة قرطاجنة الى أن توفي سنة (206) ق. م. 4 - اصالساس: هو ابن نارفاس أيضا. خلف أخاه على ملكه في عاصمته. وكان معه مصينيسا بصفة أمير. وبعد قليل توفي وترك ولدين هما: قولوسا، لكومسيس. 5 - قولوسا: كان هو الاكبر سنا فانتصب مكان أبيه حسب نظامهم في ارث العرش. وثار عليه ثائر من الاسرة المالكة. لكنه - حسب القانون الوراثي- لاحق له في الولاية. ويدعى هذا الثائر مزوطيل. نشبت الحرب بين الملك والثائر وجموعهما. وانتهت بهلاك قولوسا. 6 - لكومسيس: بعد أن فاز مزوطيل تنازل عن الملك لمن له الحق فيه وهو لكومسيس. وانتصب وكيلا عنه وكافلا له. فكان تنازله اسميا. وفي الواقع هو الملك. كان من الواجب على قرطاجنة ان تتداخل في هذه الثورة لفائدة من له الحق في الولاية. لكنها وقفت موقف المتفرج. وكان مصينيسا

7 - صيفاقس

ابن غولة بالاندلس مع القرطاجنيين في حرب الرومان. فلما بلغه خبر مزوطيل واعراض قرطاجنة عن ثورته خرج من الاندلس مغاضبا للقرطاجنيين ومحالفا للرومان. قصد مصيليا ليطرد من عرشها مزوطيل ويتسلم هو مقاليد الحكم. فمر بمصيصيليا مملكة عدوه صيفاقس في شرذمة من الجند. وبلغه أن مزوطيل ذاهب لزيارة صيفاقس. فكمن له في بعض السبل وانقض عليه وعلى من معه. وتقاتلا حينا وحكمت المعركة لمصينيسا. ففر مزوطيل بمن بقي من جنده. واستقر مصينيسا بعرش آبائه ملوك مصيليا. 7 - صيفاقس (230 - 202) ق. م صيفاقس من أعظم ملوك البربر. كان ملكا على مصيصيليا. وعاصمته صيغة، كان هذا الملك معاصرا لغولة. ومن أخلاق ملوك البربر التنافس والتخاذل والاستعانة بالاجنبي. ولولا ذلك لكان الوطن البربري أمنع على مريد اغتصابه من عقاب الجو. ولهذا السبب كان هذان الملكان مختلفين: غولة حليف للقرطاجنبين، وصيفاقس حليف للرومان. وفي سنة (213) أرسل اليه الرومان ضباطا يعلمون جنوده. وسار صيفاقس ضد غولة. فوقعت الحرب بينهما. وكان رئيس جيش غولة هو ابنه مصينيسا. وعمره إذ ذاك سبع عشرة سنة. فائتمر مصينيسا وأخرج صيفاقس من عاصمته صيغة. فذهب الى موريطانيا الغربية وجمع من أهلها جيشا ساقه لحرب مصينيسا. فعادت عليه الكرة أيضا. وذلك سنة (212). بعد انتصار مصينيسا صارت مملكة غولة تمتد الى ملوشات

غربا. فكان بذلك ملكا على مصيليا ومصيصيليا. وكان صدر بعل القرطاجني بالاندلس فجاء مددا لمصينيسا على صيفاقس. وبعد الانتصار عاد اليها بجيوش كثيرة تحت قيادة مصينيسا. ولما توفي غولة واعقبته ثورة مزوطيل ولم تتداخل فيها قرطاجنة غضب مصينيسا وخالف قرطاجنة وحالف رومة. كانت قرطاجنة تخطب ود صيفاقس وهو معرض عنها. ولعل تغافلها عن ثورة مزوطيل التي فيها فائدة صيفاقس كان بقصد استمالته. ولكنها خسرت بهذه السياسة صداقة مصينيسا. وإذ كان مصينيسا مع الرومان خالفهم القرطاجنيون الى استمالة صيفاقس. فكانت عليهم هذه المرة سهلة. وكان لصدر بعل بنت شهيرة تدعى "صفو نيسب" وعد بها مصينيسا فلما أيس من مناصرته عدل عن مصاهرته وزوجها من صيفاقس عدو مصينيسا. اتخذ القائد القرطاجني هذه الوسيلة شفيعا له في صداقة صيفاقس فنجح. وكيف لا ينجح بمثل هذه الشفاعة التي يقول فيها الفرزدق: لَيْسَ الشَّفِيعُ الَّذِي يَأْتِيكَ مُتَّزِراً … مِثْلَ الشَّفِيعِ الَّذِي يَأْتِيكَ عُرْيَانَا صدق صيفاقس في صداقته لقرطاجنة. وابتدأ عمله بمحاربة مصينيسا الذي اتنصب بقرطة ملكا على مصيليا. فانتصر عليه وانتزع منه أغلب مملكته. ففر مصينيسا واعتصم ببعض الجبال. وذلك سنة (205) ومن معتصمه صار يغير على تراب قرطاجنة فأقلقها. وإذ ذاك رغبت من صيفاقس أن ينهي قضية مصينيسا انهاء حاسما. فلباها وأرسل جيشا تحت قيادة بوكار. فشد الخناق على مصينيسا وفتك

برجاله ولحقته هو جراحات عميقة أعجزته عن أي مقاومة. فرمى بنفسه في واد ونجا الى الضفة الاخرى. وذلك ناحية قليبية من التراب التونسي. بعد هذه الخيبة آوى الى مغارة بسفح جبل ريثما يلتئم جرحه، ويستعيد قواه. وذاع أنه توفي. ولكنه كان يسعى سرا في جمع الجنود. وبعد استراحته ظهر لاهل مصيليا. فسرتهم رؤيته وابتهجوا بوجوده، فانجدوه. وبعد قليل جمع (6000) من المشاة و (4100) من الفرسان. ولم يكن صيفاقس بغافل عنه فجمع جموعه الكثيرة وقسمها جيشين أحدهما برئاسته والآخر بقيادة ابنه فرمينة. وكان مصينيسا بالجبال التي بين قرطة وهبون. فقصده صيفاقس. واصطدمت الجيوش وحمي وطيس الحرب. وأسفرت عن نجاح صيفاقس وهزيمة مصينيسا. ففر الى بلاد السرت الاصغر (قابس). إذ ذاك استقل صيفاقس بملك مصيليا ومصيصيليا بعدما كان استقل بهما غولة. وهكذا المدنيا اقبال وادبار. اتسع نطاق مملكة صيفاقس فاتخذ قرطة عاصمته سنة (204) وبينما هو متمتع بملكه العريض ومصينيسا شريد في الجبال والفيافي إذ نزل سبيون الأفريقي بجموعه في أفريقية، فلاح بذلك بارق الامل لمصينيسا. وجاء بمن كان في صحبته نجدة لسبيون. هنالك أرسل صدر بعل بن جسقون الى صهره وحليفه صيفاقس فجاءه بستين ألفا مقاتلا ونزل في مركز خاص ولم يختلط بصدر بعل. نشبت الحرب بين القرطاجنيين والرومان. فأظهر سبيون الانهزام مكيدة وخاطب محاربيه في الصلح. وبينما هم يتفاوضون إذا بسبيون دخل بين الجيشين المتحالفين وحال دون اتصالهما بعضهما ببعض.

وفي الليل هجم هو مع قومه على صدر بعل، ومصينيسا في رهطه على صيفاقس. وأحرقا عساكر العدو بالنيران ومن بقي عن النار ألحقته السيوف. فكانت على القرطاجنيين وأنصارهم وقيعة كبرى وذلك سنة (203). شجع هذا الانتصار سبيون على فتح قرطاجنة. ولكن لم يرد أن يورط نفسه فيه قبل استئصال أنصارها من البربر. فجهز جيشا لحرب صيفاقس بقيادة مصينيسا. فالتقى الملكان البربريان بجموعهما. فكبا بصيفاقص جواده في المعركة فأخذه مصينيسا أسيرا. وذهب به الى قرطة واحتال لدخولها فدخلها. وأتى صفو نيسب وأراد التزوج بها. فلم يرق ذلك لسبيون خشية أن تستميله عنه الى قومها. ولكنها أنهت الخلاف بينهما بقتل نفسها! وبعث بصيفاقس الى رومة. ومات بها سجينا سنة (201) وهكذا ختمت سعادته بالسيادة (¬1) وبسطته في السلطة. فمات سجينا بعيدا عن الاهل والولد. وذلك مآل سياسته في منافسته لابن وطنه، واستعانته عليه بالرومان أولا. ويسرني- وأيم الله- أن تكون هذه عاقبة كل من سعى في جلب الاجنبي الى وطنه ليتقوى به على منافسه من أبناء جنسه. ____ ـ[صورة]ـ (ش - 5) نقود صيفاقس. وعليها رسمه وكلمة صيفاقص ملك ¬

_ (¬1) بالسيادة يتعلق بالسعادة.

8 - فرمينة

8 - فرمينة (201 - 158) فرمينة هو ابن صيفاقس. قسمت رومة مملكة والده بينه وبين مصينيسا. وأعطته هو مصيصيليا مملكة والده الاصلية. فرمينة ابن عدو الرومان ووارثه في أحقاده وضغائنه، ومع ذلك يعطونه مصيصيليا ولا يزيدونها لمصينيسا صديقهم ونصيرهم. قد يكون هذا شيئا عجابا. ولكن لا عجب مع السياسة. ولا صداقة ولا عداوة فيها. لو بسط مصينيسا نفوذه على مصيليا ومصيصيليا لكان ذلك مما يضر بنفوذ الرومان ويضعف من آمالهم في أفريقية. وليس في وجود أميرين بربريين ما يخشى منه ذلك. لانهما إذا لم يكونا جميعا تحت نفوذهم فلا أقل من واحد يخلص لهم طمعا في الانتقام من الآخر. ولم أعثر على ما ينير لي حياة هذا الملك وما قام به أيام ملكه من الاعمال. ولا عثرت على نهاية ملكه سوى أن بعض المؤرخين ذكر أن مصينيسا استقل بمصيليا ومصيصيليا سنة (158) فيظهر أن تلك السنة هي التي انقضى فيها ملك فرمينة إذ لا يعرف بعده ملك على مصيصيليا قبل مصينيسا. وهكذا بعدما عثر جد صيفاقس بعثار جواده وأخذ منه الدهر ما كان من طريف عزه وتلاده لم يكن لخلفه صيت ولا سمع له حسيس أو صوت. ____ ـ[صورة]ـ (ش-6) نقود فرمينة. وعليها رسمه وكلمة فرمينة ملك ____

9 - مصينيسميا

9 - مصينيسميا (201 - 149) مصينيسا بن غولة بن نارفاس. ربي بقرطاجنة. وكان سلفه حليفا لدولتها. فخاض مع القرطاجنيين حروبهم مع الرومان بالاندلس. وقائد الرومان بالاندلس سبيون الأفريقي. وقد شاهد ما لمصينيسيا من القدرة الحربية. فصار يخاطبه في ولاء رومة. واتفق أن وقع مصيفا ابن أخي مصينيسا أسيرا بيد سبيون سنة (207) فسرحه تقربا من عمه. كل هذا ومصينيسا محافظ على ولائه لقرطاجنة. وفي سنة (206) توفي غولة وأعقبته ثورة مزوطيل. فلم تحافط قرطاجنة على أمواله ومملكته. وذلك استخفافا بمصينيسا الذي لولا اشتغاله بخدمتها لم يقع ما وقع بمملكته. فغضب لذلك واضطر لمحالفة الرومان. رجع مصينيسا من الاندلس ومر بموريطانيا وطلب من ملكها بوكار شرذمة من الرجال لحمايته في طريقه. فأمده مصانعة. وأغذ السير حتى دخل وطنه. فهرع إليه أنصاره. وبدخوله وطنه دخل في حرب قريبه مزوطيل والملك الصوري لكومسيس. فكان النصر حليفه وفر ابن عمه لكومسيس الى صيفاقس فأمده وأعاد الحرب ثانية. فعادت عليه الهزيمة. وبعد أن رأى مصينيسا عجز ابن عمه عن الحرب رق له وقربه وأشركه في الحكم. فجمع بذلك شمل أسرته وأعرب عن دهائه وحكمته. لم يكن صيفاقس ولا القرطاجنيون ليرضوا بوجود مصينيسا على رأس حكومة مصيليا. ولم يجدوا سبيلا لاخذه من ناحية التفرقة والمشاغبة عليه برجل من عشيرته. لانه سد هذا الثلم بالتساهل مع

ابن عمه. فرأوا أن يبادروا اليه قبل استفحال أمره. فجمع له صيفاقس الجموع وحاربه مرارا حتى أخرجه من مصيليا والتجأ الى السرت الاصغر. أخرج صيفاقس مصينيسا من عاصمته كما أخرجه هو قبل ذلك بنحو ثماني سنوات. واشتغل بالسرت في طائفة من أصحابه بشن الغارات في تلك الجهات الى أن جاء سبيون الى أفريقية فانضم له وحارب معه حتى سقط صيفاقس في يده وعاد منصورا ودخل قرطة عاصمة سلفه. واعترف له الرومانا بالسيادة على مصيليا. ومنحت مصيصيليا لفرمينة. وفي سنة (158) استقل بملك مصيليا ومصيصيليا كما كان والده أستقل بهما قبل. اتسحت من ذلك الحين مملكته وصارت تشمل ما بين طرابلس ومراكش خلا ما كان من التراب النونسي تحت قرطاجنة. وبقي على محالفته لرومة. فكان يمينها في حروبها خلف البحار بالرجال والافيال والحبوب، يرسلها مع أبنائه ليتعرفوا الى الرومان ويقفوا على طبائعهم في وطنهم وسياستهم في عاصمتهم. وكان شيوخ رومة يجازونه على اعاناته المادية بهدايا شرفية من تيجان ذهبية وقضبان عاجية وكراسي عاجية، وعلائل مطرزة بالذهب وحلل. وكما كان يعينها تلك الاعانات كان يعترف بسيادتها ويقول: " ان رومة هي المملكة الحقيقية. وليس لي من مملكتي الا الاستغلال ". وكل هذا منه مصانعة وخداع اقتضته السياسة. أما غايته الحقيقية فهي الاستقلال بملك أفريقية الشمالية والقضاء على القرطاجنيين وطرد المطامع الرومانية. وقد أدرك الرومان منه هذه الغاية فاستخدموه في اضعاف قرطاجنة عدوهم القوية. ولما فتحوا

مقدونيا طلب مصينيسا من شيوخ رومة الاذن في زيارة عاصمتهم ليقدم قربانا للالهة " جوبيتر " (كوكب المشتري). فلم يرضوا ذلك الطلب- أظن لأسرار سياسية- وأجابوه بأن بوطنه آلهة فليتقرب لها ان شاء. كانت اعانة مصينيسا لرومة على ضربين: إعانات خارج أفريقية غرضه بها مخادعة رومة بابداء صداقته لها، واعانات بأفريقية غرضه بها اضعاف قرطاجنة كي يتمكن من تنفيذ برنامجه الاستقلالي. فأعانها في حرب زامة التي كانت للرومان على القرطاجنيين. ووقع بينهما ذلك الصلح الذي اشتمل على المادة السادسة لفائدة مصينيسا. ومن ذلك الحين أخذ في تنفيذ برنامجه. واستعد له بتنظيم الجيش وتنشيط الفلاحة والتجارة. وصار يتقدم نحو قرطاجنة ويختزل من أراضيها. فرفعت شكواها منه الى رومة. وكررتها مرارا. فكانت رومة تغضي عن الاجابة أحيانا، وتعد على قرطاجنة مساعدة حنبعل لامير الشام أخرى. وأخيرا وجهت ثلاثة من الخبراء لينظروا في قضية قرطاجنة ومصينيسا. فلم ينصفوها وأبقوا له ما ملك من أراضيها. وما زال مصينيسا على غاراته في تراب قرطاجنة. وهي تكرر شكواها منه لرومة حتى استمعت لها ووجهت ثلاثة خبراء أيضا. وكانوا يريدون تأدييد قرطاجنة لانهم يخشون من استفحال سلطان مصينيسا والقضاء على مطامعهم في أفريقية اذ كانوا لا تخفى عليهم غاية. وكانوا يظنون قرطاجنة في حالة بؤس وضعف بحيث لا يخشون جانبها. فلما نزلوا بها وشاهدوا حسن حالتها خلاف ما كانوا يظنون رأوا أن انصافها يعزز قوتها. وذلك مما يدفعها في المستقبل لتجديد الحرب مع دولتهم. فعدلوا عن قصدهم وتركوا ما كان على ما كان. إذ ذاك عزمت قرطاجنة على أن تنصف نفسها بنفسها. فسعت

في لم شعثها. وأخرجت من عاصمتها شيعة مصينيسا الذين كانوا يدعون الى حماية التراب القرطاجني من الرومان بالدخول في طاعته والاستظلال برايته. غضب مصينيسا من طرد حزبه. وأرسل الى قرطاجنة اثنين من أولاده احتجاجا على ذلك. فقوبلا بكل ازدراء وامتهان. إذ ذاك أرسل ولده غولوسة الى رومة مخبرا لدولتها بما صنعت قرطاحنة. فأرسلت رومة اليها تهددها بالحرب ان هي نقضت اليوم ما أبرمته بالامس. لم تحفل قرطاجنة بهذا التهديد. ولم يترقب مصينيسا ما يكون من رومة. فهجم على الحدود. وخرج اليه صدر بعل بخمسة وعشرين ألفا من المشاة وأربعة آلاف فارس. فاقتتل الفريقان. وبرق لصدر بعل بارق الانتصار أولا. ثم استحر القتال. ولم يتبين غالب من مغلوب. فاراد صدر بعل أن يخاطب- وهو قوي- عدوه في الصلح. فأجابه مصينيسا بطلب رد الاسرى. فامتنع من ذلك. وعاد الفريقان للقتال. فانجلت المعارك عن هزيمة صدر بعل. فطلب الصلح من جديد. وتم على الصفة الآتية: 1 - رد الاسرى من غير فداء. 2 - اعادة المنفيين من حزبه لقرطاجنة. 3 - غرامة حربية مقدارها خمسمائة حمل من الفضة في مدة خمسين سنة. 4 - وضع السلاح. عاد القرطاجنيون بعد ذلك الى عاصمتهم. وبينما هم سائرون اذ هجم عليهم غولوسة. ففتك بهم فتكا ذريعا. وذلك سنة (150).

بلغ خبر هذه الحرب الى رومة. فادعت على قرطاجنة اما لم تحترم مواد الصلح الواقع بعد حرب زامة. حيث تمهدت إذ ذاك أن لا تحارب مصينيسا. ووجدت بذلك وجها لفتح حرب عليها. تلك الحرب التي انتهت بتدمير قرطاجنفوذوبان القرطاجنيين في غيرهم. لزم مصينيسا في هذه الحرب البونيقية الاخيرة الحياد. فلم يعن الرومان. وهو الذي كان يعينهم في حروبهم خلف البحار. ذلك أنه كان يأمل أن يكون هو المالك لقرطاجنة تتميما لبرنامجه في الاستقلال بشمال أفريقية. فان لم يحصل ذلك عاجلا فجوار قرطاجنة السلمية الضعيفة خير له ولجنسه من جوار الرومان الحربيين الاقوياء. في سنة (149) أحس مصينيسا بدنو أجله. فأرسل الى سبيون الاميلي- الذي سيكون فاتح قرطاجنة- ليوصيه على أولاده. فتوفي قبل وصوله. كان مصينيسا ملكا عظيما ذا سياسة ودهاء وادارة ونظام وعناية بالفلاحة والتجارة، صبورا على الشدائد ثابت العزيمة، خاض غمرات الاهوال ولجج الخطوب بقوة جنان ورباطة جأش، حتى تغلب على أعدائه وأورث بنيه ملكا ثابتا ونفوذا عريضا. كان لا يفرط في حظه من الملاذ ان ابتسم له الدهر، ولكن مع يقظة وحذر، فلا يغفل عن أحوال مملكته خوفا من تدبير ثورة. وكان له أسطول وجنود منظمة وسكة مطبوعة باسمه. وتلاث آية الاستقلال. اذ لو كان تحت الرومان لكانت السكة باسمهم. تعلم الفينيقية أيام كان بقرطاجنة في صباه. فكان ولوعا بها. واتخذها لغته الرسمية ونشرها في مملكته. ومع ذلك لم يكن

أيام ملكه ميالا إلى الفينيقيين ولا متساهلا معهم في استقلاله. بل كان يراهم شامة سوداء في أديم مملكته. فلذلك حاربهم وطمع فيما تحت تصرفهم. وهكذا فليكن حب الجنس. فلا يستبدل الحر بجنسه جنسا تعلم لغته وآدابه. وانما عليه أن ينشر ما راق له من آداب تلك اللغة بين قومه مع المحافظة على جنسيته. كان هذا الملك حلو الفكاهة رقيق القلب مع الصبيان مر الجد شديدا على من يمس استقلاله، متقشفا في نفسه متأنفا في مظاهر ملكه، فقد اتخذ بدار المملكة الخدم والحشم والخيل، ليبهر العامة حتى لا تطمع في خلع طاعته. وكان قوي البنية: ولد له وهو في سن (86) وتولى رئاسة الجند والحرب وهو في سن (88) ومات بعد ما جاوز المائة. وقيل بلغ من العمر (89). وعلى رواية انه حارب صيفاقس سنة (212) وعمره آنذاك سبع عشرة سنة فتكون ولادته سنة (228) ويكون عمره (79) فقط. واختلف في سنة ولايتة أيضا: فقيل سنة (201) وقيل سنة (207). والظاهر ان صاحب الرواية الثانية اعتمد بما كان من ولايته قبل سقوط صيفاقس. ولكن من المتفق عليه بين صاحبي الروايتين أن مصينيسا لم يرجع من الاندلس إلا سنة (206). وهي السنة التي جلس فيها على عرش قرطة حتى شرده صيفاقس. والخلاصة أن جمهور المؤرخين اتفقوا على مدحه ووصفه بالعظمة واستحقاقه للملك. قال بيروني عن فرنال: " أن مصينيسا لم يعن الرومان إلا بقصد اسقاط قرطاجنة عدوته القريبة. ولو قدر له أن يعيش أكثر مما عاش خمسين سنة لحارب الرومان أيضا مثل ما فعل يوغووطة".

10 - مصيبسا

وبالخروب قبر أحد ملوك نوميديا. ويظنه مؤرخو الافرنج لهذا العهد أنه قبر مصينيسا. حدثني بذلك مرسي أحد المؤرخين وأساتذة الكلية بمدينة الجزئر. ____ ـ[صورة]ـ (ش-7) نقود الملك مصنييسا وعليه رسمه ____ 10 - مصيبسا MICIPSA (149 - 119) مصيبسا بن مصينيسا جلس على عرش المملكة بعد ابيه. وكان اعطاه خاتمه ترشيحا منه لخلافته. وأوصاه وبقية ابنائه بمسالمة الرومان لا يعلمه من قوتهم. ولما وصل سبيون الى قرطة ووجد مصينيسا قد توفي انتخب ثلاثة من أبنائه. فأجلس على كرسي المملكة مصيبسا وعين غولوسة قائدا عاما للجيش وعين منسشابعل (¬1) وزيرا للقضاء. ولم يفعل سبيون ¬

_ (¬1) سماه اغسال والكعاك مصتنا بعل.

بذلك سوى ما يتفق ورغبة مصينيمسا. حيث أنه هو الذي رشح مصيبسا للملك وكان يعطي رئاسة الجند لولده غولوسة منذ كان حيا. ولما سقطت قرطاجنة في يد الرومان بقي مصيبسا على عرشه لم يضره ذلك السقوط ولم يزعجه جوار الرومان لحدوثه. ثم مات أخواه فاستقل بالملك سنة (145). واعتاض عنهما بابنيه آذر بعل وهيمصال. وكان لاخيه منستابعل ابن تلوح عليه آيات الفطانة والشجاعة يدعى يورغوطة. فأضافه إلى ولديه ونزله منزلتهما. ووجهه مرة سفيرا عنه إلى رومة. كان مصيبسا مسالما للرومان جريا على سياسة والده ووصيته. وكان يعين رومة في حروبها. ففي سنة (133) كانت مشتغلة بحرب ضروس. فأعانها بجيش جعله تحت قيادة يوغورطة. يقول بعض المؤرخين: ولعله كان يريد من ارسال يوغووطة الى هذه الحرب هلاكه والاستراحة منه. لانه كان يخشى منه مناهضة ابنائه. كانت مملكة مصيبسا تشمل ما بين ملوشات (¬1) غربا والسرت (¬2) شرقا. فهي عبارة عن وطن الجزائر اليوم وبعض تراب مراكش غربا. ان قلنا- كما هو الصحيح- ان ملوشات هو ملوية. وتمتد شرقا الى تراب طرابلس لا ينقص منها إلا الولاية الرومانية الضيقة بعمالة تونس. وقد سار هذا الملك بهذه الدولة الواسعة سيرة محمودة. ودبرها ¬

_ (¬1) هو ملوية وقيل المقطع. (¬2) السرت أسم لخليجين احدهما خليج قابس وثانيهما خليج طرابلس. والثانى هو المراد حسبما تفيده عبارات المؤرخين في غير موضع.

تدبيرا رشيدا. فعاش البربر تحت عنايته بسعادتهم عيشا رغدا. لم يرم بهم في الحروب تلذذا بسعة النفوذ. ولا كان يعتني بشخصه ويهمل شأن أمته. فيعم الفقر ويقل الامن. ولا كان ظلوما جائرا. فيضطر الناس إلى الثورة. بل كان سياسيا حكيما وحاكما عادلا. كان محافظا على عاصمته قرطة وعاملا لترقيتها وتحصينها. فجلب اليها أهل العلم والفن من الاجانب. وأصبحت على عهده مدينة علم وجمال ورفاهية. قال بارس في كتابه قرطة: " ويذكر المؤرخ ابيان ان مصيبسا حصنها تحصينا لا يمكن معه لاحد أن يفتحها عنوة. وجلب لها طائفة من اليونان. وزاد في تحصينها وخصبها حتى صارت يمكنها أن تجند عشرة آلاف فارس وعشرين ألف راجل. وبعد وفاته وانتصاب آذر بعل بها حاصرها يوغرطة ولم يتمكن من فتحها إلا بعد أن أضرت المجاعة بأهلها ". وقد كان مصيبسا نفسه مكبا على العلم. فاشتغل بالعلوم اليونانية، والرومانية حتى برز فيها، وأصبح عالما مضطلعا بالفلسفة. وما أسعد أمة يحكمها ملك عالم غير متأثر بأمة أساتذته من الاجانب ولا مقدم لها على قومه. ولما أحس بدنو أجله جمع ابنيه وابن أخيه وأوصاهم بالاتحاد في السلم والتعاون على حفط المملكة، حتى لا ينفرط عقد عزهم وتذهب دولتهم ضحية الشقاق. وفي سنة (119) أدركه حمامه بعدما أدار دولته أحسن إدارة ثلاثين سنة. وترك مملكته الواسعة في هناء واطمئنان ذات عمران مستبحر لم تنقصه الثورات الداخلية ولا عطلته الحروب الخارجية.

11 - هيمصال الاول

11 - هيمصال الاول HIEMSAL 1 (118) لما توفي مصيبسا لم يأخذ ابناه وابن اخيه بوصيته. فاختلفوا وتنازعوا أمرهم بينهم. ثم اصطلحوا واقتسموا الاموال وفرقوا وحدة المملكة: أخذ يوغورطة القسم الغربي منها من صلداي الى ملوشات. واقتسم الاخوان الباقي بينهما وهو أوسع نطاقا وأوفر عمرانا. لم يكن هذا الصلح مرضيا للمتنازعين. وانما هو ظاهري وفي الباطن كل ينوي نقضه متى أمكنه النقض. ابنا مصيبسا يريان الحق لهما في ارث عرش ابيهما، فهما يعدان ما أخذه ابن عمهما ظلما، ويتربصان به غرة لقتله أو فرصة لحربه كي يسترجعا حقهما المغصوب؛ ويوغورطة يرى أنهما جارا عليه في القسمة، فهو لم يقبلها ظاهرا إلا بنية اكتساب قوة يسمتعملها- متى سنحت الفرصة- ضد ابني عمه. كان هيمصال أقدر من أخيه. فكان يوغورطة يخشى منه ما لا يخشى من آذر بعل. فاستعمل الحيلة للاستراحة منه: لم يكن إلا أمد قليل حتى دس يوغورطة من قتل هيمصال في مدينة ترمدة من مدن ولاية رومة الحديثة. وذلك سنة (118) فلم تطل مدته حتى نتعرف سيرته في رعيته، وأعماله في العمران والحضارة وسياسته مع الرومان. 12 - آذر بعل ADHERBAL (118 - 112) اتنصب آذر بعل ملكا بقرطة بعد وفاة والده واقتسام مملكته. وبعد أن قتل يوغورطة أخاه هجم عليه وأخرجه من عاصمته لاول معركة وقعت بينهما.

ذهب إذ ذاك آذر بعل الى الولاية الرومانية بأفريقية مستنجدا بواليها على ابن عمه فلم ينجده. فسار الى رومة. ولما بلغها وجد بها رسلا من قبل يوغورطة. وجههم بأموال ليستميلوا اليه بعض عظماء الرومان. أبدى آذر بعل فصاحة نادرة ومنطقا محكما في الاحتجاج لنفسه واظهار جور ابن عمه وخبثه. ولكن لم نجد عليه فصاحته عطف الرومان حيث ان ابن عمه اشتراهم بالاصفر الرنان. ولما ألح على رومة في طلب النظر في قضيته عين شيوخها عشرة من الخبراء تحت رئاسة لسيوس آبميوس ليفصلوا القضية. وكان هذا الرئيس يميل الى يوغورطة. نظر الخبراء القضية بمرآة الاغراض فأنتج بحثهم خلاف ما يريد آذر بعل. وذلك أنهم أعطوه نوميديا الاصلية، وأعطوا يوغورطة نوميدنا الغربية وذلك سنة (114). صار يوغورطة بهذا الفصل أقوى منه قبله. وصار آذر بعل أضعف من حاله سابقا. وهذا لم يخف على الخبراء ولكنهم تعمدوا اعزاز جانب يوغورطة الذي سد مجرى الحق بصرة من المدنانير. لم يكن يوغورطة ليقنع بشيء دون الاستقلال بمملكة عمه. ولم يكن هناك ما يقف في سبيله: البربر يحبونه، وان عمه ضعيف عن مقاومته، ورومة لا يصعب عليه استمالة رجالها. ففكر في ايجاد سبيل لبلوغ أمنيته وتحقيق برنامجه. ولم يشأ أن يقدم على حرب ابن عمه لانه لا يجهل ان رومة لا تسمح له الاستقلال دون ابن عمه حيث أن سياستها تقضي عليها بالاكثار من الملوك البربريين واذكاء نار المنافسة بينهم. رأى يوغورطة أن أحسن ما يبلغ به أمنيته التوقي من مشاغبة رومة عليه بملوك البربر. وكان يجاوره بوكوس الاول ملك موريطانيا. فسبقها اليه واستماله اليه قبل الدخول في حرب آذر بعل

وتقرب منه بالمصاهرة فتزوج ابنته. وبهذه الوسيلة أمن يوغورطة ناحية بوكوس. إذ ذاك أخذ يغير على حدود مملكة آذر بعل كي يستفزه لحربه. ويتخذ ذلك سببا لحربه يقطع به معاكسة رومة له. ولكن آذر بعل تحمل تلك الغارات واصطبر لها لعجزه عن مقاومة يوغورطة وخيبته سابقا في الاستنجاد برومة. رأى يوغورطة استكانة ابن عمه فعزم على تنفيذ برنامجه وهجم عليه. واجتاز الحدود بجنود كثيرة. هنالك رأى آذر بعل لزوم الحرب. فتهيأ لها بما لديه من الجنود وخرج لملاقاة يوغورطة. تقابل الجيشان ولم يتبارزا. وكان آذر بعل ينوي محاربة ابن عمه من الغد. ولكن يوغورطة كان أشد حزما وأمضى عزما. فأمر جنوده بالهجوم ليلا. فدارت الحرب بين الفريقين. وبعد قتال شديد انهزم آذر بعل وفر الى قرطة. فلحقه يوغورطة وحاصره بها. وكانت المدينة في غاية الحصانة بموقعها وعناية مصيبسا بتحصينها. وكان بها صناع وتجار ايطاليون. فتحزبوا لآذر بعل. بلغ خبر هذه الحرب الى رومة فلم يرق لها صنيع يوغورطة. وأرسلت اليه في رفع الحصار والكف عن محاربة ابن عمه مع ثلاثة من النواب. فقابل يوغورطة هؤلاء النواب مظهرا لهم احترامه لرومة. ولكنه لم يمتثل نهيها واستمر محاصرا لقرطة. فأرسلت اليه رومة رسلا آخرين. وتعين الاجتماع بعوتيقة. فذهب إليها. وأوعز لجنوده بتشديد الحصار. ولما اجتمع برسل رومة اكتفى بإظهار احترامها أيضا. دام حصار قرطة عامين وبلغت المجاعة بأهلها مبلغها وعلموا خيبة رسل رومة في المفاوضة مع يوغورطة. فرأى آذر بعل ان يفتح الكلام

13 - يوغورطة

مع ابن عمه. ففاوضه في رفع الحصار وأذعن لحكمه واستأمنه على نفسه. فأمنه ودخل المدينة. ولكنه خان العهد. فقتل ابن عمه ومن فيها من شيعته حتى الايطاليين. وهكذا انتهت حياة هذا الملك الذي يظهر من التجائه الى رومة في كل ما يعرض له من الصعوبات انه وقدته الحضارة. فاصبح لا يريد الا استغلال جهود آبائه. وان وطنا كالوطن البريري جعلته دولة قوية كرومة نصب عينها لاستعماره لا يصلح أن يكون على رأس حكومته إلا مثل يوغورطة شجاعة حربية ودهاء سياسيا. 13 - يوغورطة JUGURTHA (118 - 104) يوغورطة بن منستابعل، يقول مرسيي: انه لغية. كان فارسا من أشهر فرسان البربر وقائدا من أعظم قوادهم. وقد عرف له عمه مصيبسا مقدرته وغناءه فقربه اليه وأشركه مع ولديه في شؤون الدولة. ثم عرف جرأته وخشيه على ابنيه فوجهه ذات مرة قائد جيش بعثه الى رومة اعانة لها في بعض حروبها. ورجا أن يهلك في تلك الحرب ويستريح منه. خاطر يوغورطة بنفسه في هذه الحرب وأظهر شجاعة نادرة. وعرف كيف ينجو بنفسه من الهلاك مع المحافظة على عظمته. فأعجب به الناس كلهم في هذه الحرب. وأحبه البربر حبا شديدا. ورجع الى وطنه يحمل لقب بطل عظيم. فزاده ذلك تأثيرا على البربر. واكتسب شرفه وصيته من حيث أراد عمه حتفه. كان هذا البطل العظيم متقمصا روح مصينيسا وعاملا على تحقيق برنامج كان ذلك السلف يعمل له. وهو الاستقلال بالوطن البربري

في حدود مملكة أسلافه وطرد الرومان من أفريقية نظير ما كان ينويه مصينيسا من طرد قرطاجنة. فلما توفي عمه لم ير في ابنيه أهلية لتحقيق هذا البرنامج. لانهما لم يعرفا رومة كما عرفها. فهما يخشيان سطوتها. ويريدان التمتع بلذة الملك تحت ظلها. ابتدأ يوغورطة في تحقيق برنامجه الاستقلالي بمنازعة ابني عمه على الملك حتى اقتسموه بينهم. ثم اغتال هيمصال. وتخلص لحرب آذر بعل حتى قتله سنة (112) واستقل إذ ذاك بملك سلفه. وأصبح لا يد فوق يده. لم تكن مقاصد يوغورطة في الاستقلال بوطنه وطرد النفوذ الروماني منه واضحة للرومان. فانه كان يسترها أحيانا بالخداع السياسي وأخرى باشتراء ذمم رجالهم. فلما دخل قرطة واستأصل منها شيمة ابن عمه من البربر والايطاليين الذين هم في الواقع شيمة رومة اتضحت للرومان مقاصده وأدركوا أنه كان يسوسهم بالختل والمراوغة. فعزموا على المبادرة لحربه وعدم امهاله في هدم آماله. لما عزمت رومة على حربه أرسل إليها ولده واثنين من خواصه لعرض طاعته. فلم يأذن شيوخها بمقابلة رسله ولا قبلوا طاعته لعلمهم أن ذلك خداع سياسي فقط لا حقيقة له. كان بوكوس مصافيا لصهره. فلما بلغه ما آل اليه أمره مع رومة خشي أن يكون له على ولائه له حد من غضبها. فمال عنه وأظهر طاعته للرومان. أرسلت رومة جنودها تحت قيادة بستيا. فجاء هذا القائد على طريق صقلية. ودخل في الحرب مع يوغورطة. واشتبكت القوتان

بجهات باجة. وانتصر بستيا في تلك المعارك انتصارات باهرة. فازداد خوف بوكوس من غضب رومة. وأرسل إليها يؤكد طاعته لها. كان يوغورطة يعتقد- عن بصيرة- أن رجال رومة خربوا الذمم لا يمتنعون من الرشوة. فكان إذا أعجزته القوة التجأ إلى المال. فاستمال بهذا الوجه بستيا لما انتصر عليه. فتساهل معه هذا القائد في الصلح. واتفق معه على أن يأخذ منه أفيالا وخيلا وأنعاما وأموالا. وخرج يوغورطة من ورطة هذه الحرب بسلاح الرشوة. وذلك سنة (111). علمت رومة بالصلح فلم ترضه. وأرسلت الى يوغورطة بالحضور ليشرح لدى مجلس شيوخها حقيقة هذا الصلح. ووجهت لسيوس كيوس اليه ليستصحبه معه. فذهب يوغورطة الى رومة ولم يمتنع عن الحضور أمام مجلس شيوخها بعد ما كان محاربا لجنودها. ولما بلغها وجد حوله دسائس شتى. ولكنه أبرع رجل يحسن العوم في مثل هذه اللجج. فتوصل الى استمالة نائب من نواب الشعب. ولما مثل بين يدي مجلس الشيوخ لم يكتف هذا النائب بالمحاماة عنه. بل أمره باحتقار التهم الموجهة اليه وعدم الاجابة عنها. وذلك لئلا يطالب بالبينة على صحة ما يقول. وهو ما لا يجده بحال. لم يجد شيوخ رومة من استحضار يوغورطة أدنى فائدة. ولم يضره هو حضوره بل استفاد منه. وذلك أنه كان لعمه غولوسة ابن يدعى مصيفا ذهب الى رومة مطالبا بحقه في المملكة، ومشاغبا عليه. فدس له من قتله بواسطة بوملكار. ونجا من تبعته أيضا. وسهل لبوملكار طريق الفرار. بعد ذلك أمر يوغورطة بالخروج من ايطاليا. فقال عند خروجه من رومة كلمته الخالدة: "إن رومة مدينة مباعة لمن يريد

اشتراها " (¬1) وزاد بنجاته من بطش رومة بعد ما مثل بين يديها جرأة وأصبح لا حد لاقدامه. بقيت صدور الرومان وغرة على يوغورطة. فأرسلوا إلى ألوس- وكان قائدا بأفريقية- يأمرونه بالهجوم على يوغورطة، وأنهم لم يرتضوا الاتفاق الواقع بينه وبين بستيا. امتثل هذا القائد وهجم على يروغورطة. ولكن ذلك الهجوم أعقبه انهزام. فإن يروغورطة هجم بجنوده على ألوس وجيوشه على حين غفلة وقد كان ألوس طامعا في فتح ستول (قالمة) وأخذ ما فيها من أموال يروغورطة ومؤنه وذخائره. خاب أمل ألوس وخضع ليوغورطة خضوعا شائنا لشرف رومة: إذ أجله عشرة أيام للخروج من نوميديا، وأبقى جنده تحت الذمة. وذلك سنة (109). واعتذر لخيبة ذلك القائد بأنه كان ضعيف الرأي والوقت وقت شتاء. وارى ان ضعفه إنما هو بالقياس إلى يوغورطة، وإلا فكيف تعتده دولته لقيادة حرب ضد رجل لا تخفى عليها مهارته الحربية؟ ساء رومة انكسار قائدها وبقاء جنودها تحت ذمة من كانت ترجو أن يكون تحت ذمتها. فعين شيوخ دولتها مكان ألوس أخاه ألبينبوس. فلم يجد هذا القائد أيضا نفعا لعجزه أو جهله أو تقصيره. بعد هذه الخيبات التي كل واحدة منها تربو على ما قبلها جد جد الدولة. فاختارت من بين رجالها رجلا مخلصا لدولته نزيها عن الرشوة عارفا بمهمته الحربية من أهل الطبقة العليا. هذا الرجل هو ميتلوس. وكان يوغورطة يعرفه ويعرف منه تلك الصفات. وكانت ¬

_ (¬1) المباعة من اباع الشيئ عرضه للبيع. وعلى هذا المعنى حمل قول الشاعر: وَرَضِيتُ آلاَءَ الْكُمَيْتِ فَمَنْ يُبِعْ … فَرَساً فلَيْسَ جَوَادُنَا بمُبَاعِ

الدولة تريد باختيارها لهذا الرجل أن تغسل عنها عار تلك الانهزامات وتحافظ على شرف عظمتها وتؤيد سمعتها الرهيبة. نزل ميتلوس عوتيقة. فوجد الجنود قد ساءت حالتهم الأدبية وتمردوا عن الطاعة. فأخذ في تنظيمهم. وأراد يوغورطة- على معرفته به- أن يعجم عوده. فأرسل اليه يلاطفه ويداهنه. فلم يكن بضاعته هذه المرة رائجة لاخلاص ويقظة هذا الروماني. ولم يكن هو يعتقد رواجها فاستعد للحرب. جمع يوغورطة بكل نشاط جنوده وقسمهم إلى فرسان تحت قيادته ومشاة معهم الأفيال تحت قيادة بوملكار. وكان الجيش الروماني على قسمين أيضا: أحدهما برئاسة ميتلوس، والآخر برئاسه مريوس. في سنة (108) تقابل الجيشان بشمال تبسة، بعدما استولى ميتلوس على باجة، واشتد القتال من الجانبين. وأخيرا دارت الدائرة على يوغورطة. وشعر بعجزه عن مقاومة الرومان بالقوة. فجبر عجره ذلك بقوة دهائه. وأخذ يتقهقر بانتظام نحو الصحراء والقفر. وعلم البربر ضربا جديدا في القتال لئلا يجر عليه تقهقره انهزاما عاجلا: أوصاهم بعدم الكف عن اقلاق الرومان بالغارات من دون انقطاع، وان لا يصطفوا لهم بل يكونون جماعات متفرقة تكر إذا رأت في العدو غرة وتفر ان رأت الفر خيرا. ومن هذا الحين تعلم البربر حرب الكر والفر. وبهذا الاسلوب الحربي الجديد لم يتمكن لميتلوس أن يتمادى في انتصاراته على يوغورطة. جبر يوغورطة انهزامه باختراع حرب، الكر والفر. وصار يتأخر نحو الصحراء، كي يبعد عدوه في القفر ثم ينقلب عليه فيشتت شمله. ولكن ميتلوس شعر بذلك. فلم يتتبعه. وبقي جيشه بشمال تبسة

مشتغلا بتخريب عمران البربر وافساد فلاحتهم وحصار المدن التي لم تخضع لقوتهم. وقد ثبت أهل زامة في مقاومة الرومان حتى أدرهكم يوغورطة وأجلاهم عنهم وفك حصارهم. ولم تثبت المدن التي احتلها الرومان في هذه الحرب تحت نفوذهم بل خرجت من قبضتهم. ولما رأى ميتلوس ان قوته لا نجديه أمام دهاء يوغوطة، وان انتصاره عليه لم يجن منه أي فائدة عدل عن الهجوم واختار أن يقابل دهاء يوغورطة بالخداع وان يأخذه بسلاح الخيانة. وكان الشتاء قد حل وحال بينه وبين أعماله التخريبية. فعاد الى الولاية الرومانية. وتفرغ لتدبير مكيدة ليوغورطة. فأرسل الى قائده بوملكار يطمعه في دولة ملكه ان هو أعانه على خديعته. فحدثت بوملكار نفسه بخلافة يوغورطة في عظمته. وانخدع ليتلوس.: وطابت نفسه بخيانة ملكه ووطنه. فأخذ يشير على يوغورطة بترك الحرب وطلب المفاوضة في الصلح حتى أثر عليه وتفاوض مع الرومان. وتمت المفاوضة بالاتفاق على مواد الصلح. وأخذوا في تنفيذها. وكان منها تسليم عدد عظيم من الافيال والاموال والاسلحة، ورد الفارين من الجيش الروماني. ونفذت هذه المواد. ثم صار ميتلوس يلح على يوغورطة في زيارة مركزه. وإذ ذاك شعر بالمكيدة واتضحت له خيانة بوملكار. فمثل به وقتله. وهكذا فليكن سلم الخيانة: لا يبعد صاحبه فيه المرتقى حتى يسقط على أم رأسه من غير أن يفوز بأمنيته. ولما خاب ميتلوس في هذه السياسة ولم يقع بشركه قنصه عاد الى الحرب. واستأنف أعمال التخريب والتدمير. فذهب الى باجة وافتتحها من جديد ومثل بأهلها. وفي سنة (107) هجم ميتلوس على نوميديا وفر أمامه يوغورطة إلى قرطة. فلحقه وافتتحها. ففر يوغورطة الى الجنوب. ثم عاد

بأهله وأمواله إلى تالة. فتصحن بها. فذهب اليه ميتلوس وأخرجه منها. فلحق بالجيتوليين: وتحصن بهم. وأخذ قي تنظيمهم. وأرسل الى صهره بوكوس - وكان ميالا للرومان- يستميله اليه. ففتل له في الذروة والغارب. وخوفه استيلاء الرومان على مملكته ان هم جاوروه بنوميديا. فجلبه اليه. وجعلا موعدا للملاقاة. فالتقيا واتفقا على حرب الرومان. فقصدا بجنودهما قرطة. وبلغ الخبر ميتلوس. فخرج منها. ونزل مركزا يليق للدفاع عنها وعن سائر نوميديا. وفي هذا الحين بلغ ميتلوس ان مريوس رفعته الأمة الى رتبة قنصل بأفريقية. وأعطي رجالا وأموالا ليتمم حرب يوغورطة. فترك الجنود على حالها. وذهب الى رومة. ولم نزل أثناء سنة (107). جاء مريوس بطائفة من العساكر. ونزل عوتيقة. وانضافت جنوده الى الجنود التي بأفريقية من قبل. فبلغ جيشه نحو خمسين ألفا. وباشر الحرب حينا. لم يخرج ميتلوس من أفريقية حتى أفسد بوكوس على يوغورطة فصار غير واثق بنصرته. فلما برز له مريوس لم يصطف له. بل استمر على حرب الكر والفر: يهجم بفرسان جيتوليا على الرومان حتى يصل الى مراكزهم، ثم يعود الى أماكن بعيدة قبل أن يستمدوا لمقاومته. وفي هذا الوقت كان خط الصحراء جميعه تحت طاعته. ووضع أمواله وذخائره بقفصة. فعلم بها مريوس. فذهب اليها ودخلها وأخذ تلك الأموال والذخائر وأحرق المدينة. كان غرض مريوس أن يلجيء يوغورطة الى الناحية الغربية لتكون قرطة تحت يده ويتخذها مركزا عاما للجيش. فلما احتل قفصة نال غرضه. وانتقل يوغورطة الى الناحية الغربية. فسار مريوس اثره

وحاربه بالزاب والحضنة وجبالهما شمالا وغربا. حتى أنه استولى على مدينة حصينة فوق جبل عال. وهي من قلاع البربر التي يحسنون وضعها على الكهوف الصعبة المرتقى. وكان بهذه المدينة بقية أموال يوغورطة. كل هذا وبوكوس على الحياد. لما انتقلت الحرب الى الناحية الغربية أعاد يوغورطة خطابه لبوكوس في التعاون ضد الرومان. ووعده على نصرته ثلث نوميديا. فلباه والتقيا. واجتمع باتحادهما عدد عديد من الجنود بارزا بها جنود مريوس. واشتد القتال يوما كاملا. وأحاط البربر ليلا بالرومان. وأوقدوا النيران يغنون عليها ويرقصون واثقين بانتصارهم على عدوهم. وفي الغد أخذهم تعب السهر. فهجم عليهم الرومان في هذه الحال. وفتكوا بهم فتكا ذريعا. ومن نجا من الموت ركب متن الفرار. ذهب مريوس الى قرطة بعد هذا الانتصار. فاعترضه البربر في الطريق. وهم من جنود يوغورطة وبوكوس. وأنقسموا أربعة أقسام. ودامت المعركة بشدة ثلاثة أيام. وكانت غرب سطيف. وجاء صيلة لددا لمريوس. وأسفرت هذه الواقعة عن انتصار مريوس. فأتم سيره حتى دخل قرطة. كل هذا ولم تتم سنة (107). لم ير بوكوس انتصارا يشجعه وهو من رجال الاستغلال من أبطال الاستقلال. فأرسل رسله الى مريوس في طلب الصلح. ولما بلغوا قرطة وجههم مريوس الى رومة ليقدموا مطلب أميرهم الى مجلس الشيوخ. ووجه صيلة رسولا إلى بوكوس. وبعد مسير صيلة خمسة أيام التقى في الطريق بفولوكس بن بوكوس الذي وجهه والده لملاقاة رسول مريوس. لما وصل صيلة الى بوكوس وجد عنده رسولا من قبل يوغورطة. فأجس في نفسه خيفة. ولكنه فاز بدهائه وجبن بوكوس على

رسول يوغورطة. واتفق هذا الرسول الروماني وذلك الملك البربري على خديعة يوغورطة. وتجدد بذلك دور ميتلوس وبوملكار. وإذا كان يوغورطة قد نجا إذ ذاك؛ قد قدر عليه أن لا ينجو هذه المرة. ولا ينفع حذر من قدر. ابتدأ دور الخداع بمراسلة يوغورطة بطلب الاجتماع للمفاوضة في الصلح. فلم ينس دور ميتلوس وبوملكار. وأراد أن يتوثق لنفسه. فأرسل الى بوكوس يجيبه الى المفاوضة بشرط تسليم صيلة له بصفة ضمان. فتردد بوكوس أياما بين أن يسلم صيلة ليوغورطة أو يوغورطة لصيلة. وأخيرا اختار- وبئسما اختار- أن يسلم ابن جنسه وبعل ابنته للرومان ترضية لهم. فاقتطع ليوغورطة عهودا على الامان. فانخدع له. وما كان لينخدع لمن هو أدهى منه لولا المصاهرة والجنسية. اتفق الاثنان على الاجتماع بصيلة بشرط أن يكون الجميع مجردين من السلاح. ودس صيلة عساكر مسلحة. ولما اجتمعوا انهالت تلك العساكر على يوغورطة وأوثقوه! ثم ذهبوا به الى مريوس. وذلك سنة (106). وفي أول سنة (104) ذهب مريوس الى رومة في أبهة النصر وأمامه يوغورطة بلباسه الملوكي موثقا بالأغلال. فأودع السجن الى أن مات به من شدة الجوع وكلب البرد!. وهكذا ختمت حياة بطل الحرب وداهية السياسة ورجل الاستقلال. شغل رومة مدة نحو سبع سنوات بحروب تعبت فيها تعبا شديدا. ولم تر منذ نزلت بأفريفية حروبا تضاهي حروب يوغورطة التي اشتهرت في عالم التاريخ القديم حتى خصت بالتأليف. ولم تحصل من خوضها لغمرات هذه الحروب على طائل سوى أخذ شخص يوغورطة بالخديعة والخيانة.

وكما شغل هو رومة شغلته هي أيضا عن ترقية وطنه. فان ذلك الذكاء النادر لو وجد في عمره هناء مصيبسا لأربى عليه في رفع مستوى دولته من حيث العمران والحضارة ولحصن استقلالها بأكثر مما حصن به سلفه قرطة. ليس في انتصار رومة على يوغورطة أدنى شرف لها أو ضعة له. بل ما لها فيه إلا العار والشفار، وما له منه إلا المجد والفخار. وقد جلب بوكوس بمصافاته للرومان تكدير حياة البربر بالقضاء على زعيم استقلالهم وتشجيع الرومان على امتلاك وطنهم. ومن نظر خاتمة يوغورطة مع صهره وجده أحق الناس بقول الشاعر العربي: واخوان حسبتهمو دروعا … فكانوها، ولكن للاعادي وخلتهمو سهاما صائبات … فكانوها، ولكن في فؤادي ____ ـ[صورة]ـ (ش-8) نقود الملك يوغورطة. وعليها صورة بطل. ـ[صورة]ـ (ش-9) نقود الملك يوغورطة. وعليها رسمه. ____

14 - غودا

14 - غودا (104 - 102) غودا هو ابن منستابعل. وأخو يوغورطة. تولى الملك بعد اعتقاله أخيه. وذلك أن رومة لم تجسر- بعد إلقاء القبض على يوغورطة- على ابتلاع مملكته خيفة العجز عن الهضم وسوء المغبة. فأرجأت تملكها الى حين. وأخذت تمهد لذلك بتفرقة البربر على الأمراء، وأضعافهم بالفتن الداخلية التي تكثر بكثرة الأمراء. وقد نجت في هذه السياسة. فأصبح أمراء البربر مشاركين لرومة فيما يقع بها من الفتن الداخلية، ومنقسمين على زعمائها: كل يؤيد زعيما برجاله وأمواله. فما من هول يقع برومة إلا وكان صداه بالوطن البربري حتى أن الزعيم الروماني الذي يكتب له الفوز هو الذي يكون له النجاح بأفريقية الشمالية. اقتضت تلك السياسة أن لا تملك رومة مملكة يوغورطة ولا تدعها تحت أمير واحد. فقسمتها بين غودا وبوكوس صهره. وكانت نوميديا الاصلية نصيب غودا. وهي تنتهي غربا بصلداي. ولكنه لم يتمتع بها كثيرا إذ توفي بعد ذلك بقليل واقتسم ابناؤه مملكته. جلس غودا على عرش نوميديا وهو شيخ كبير السن ولم تطل مدته ولا كان له في عنفوان شبابه عمل يشتهر به. ناهيك أنه لم يكن له ذكر في حروب أخيه. وهذا ما تركنا نجهل غودا ولا نعلم شيئا عن أعماله. بل ان عصره كان فاتحة عصر مظلم. قال مرسيي: "وهذا العمر كله مظلم أمام المؤرخ لفقدان الوثائق التاريخية عنه" وغاية ما علم عن غودا أنه كان رجلا ضعيف الرأي مسالما للرومان خادما لمطامعهم. ومثل هذا هو الذي تقدمه رومة للملك اضعافا للأحرار واخفاتا لصوت الوطنية.

15 - بوكوس الأول

15 - بوكوس الأول (104 - 80) بوكوس الاول كان ملكا على موريطانيا الغربية (مراكش) حوالي سنة (116) ومسالما للرومان. ولما كان يوغورطة يعلم منه ذلك ويعلم من نفسه عداوته لهم أراد أن يجلبه اليه قبل الشروع في تنفيذ بزنامج عداوته. وقد نجح في ذلك فحارب به الرومان بعد ما حذره اياهم ونفخ فيه نسما من روحه. ولكن " ليس التكحل في العينين كالكحل"، فعاد أخيرا الى نصرة الرومان وأعانهم على القاء القبض على يوغورطة بالخديعة والخيانة. ولولاه ما أمكن الرومان أن ينالوا شيئا من يوغورطة. وقد ترك بفعلته تلك في تاريخه نقطة سوداء بل بحيرة حمئة. ويصعب على الاعتقاد بانه شارك الرومان في بشاعة هذه الخيانة. ويظهر لي أنه كان قليل التدبير فانطلت عليه حيل صيلة واغتر به فغر غيره. وحينما شاهد الخيانة أغضى عنها ضعفا وجبنا. وعلى كل حال فان رومة منحته- جزاء ذلك- جزءا كبيرا من مملكة يوغورطة، وهو ما بين صلداي وملوشات، اضافة إلى مملكته القديمة. وأطلق على هذه الولاية الجديدة اسم "نوميديا الغربية" لانها كانت تحت ملك نوميديا. وعرفت نوميديا القديمة باسم "نوميديا الاصلية". وبهذه الولاية صح ان نعد بوكوس (¬1) بين ملوك الوطن الجزائري. وباضافتها الى مملكته القديمة أصبح ذا ممكلة واسعة تشمل ما بين صلداي شرقا. والمحيط الاطلنتيقي غربا. ورغما من ¬

_ (¬1) ذكر صاحب الرحلة الناصرية انه لما نزل بمسوار الريان تلقته قبائل عدد منها يوكيس (1: 27) فيستفاد منه ان بوكيس من الأعلام البربرية التي لم تزل حتى العهد الأخير

16 - يرباص

هذا الانساع كله لم تكن له عزة نفس ونخوة ملك، فيترفع عن خدمة الرومان الذين لا يزيده جبنه معهم وخدمته لهم إلا طمعا في الوطن البربري وخيراته. بعد أن فعل فعلته الاولى عززها بثانية. وذلك أنه حدث برومة شقاق بين مريوس وصيلة ففر الاول الى يرباص الذي أعانه على منافسه. فأرسل صيلة قائده بمبيوس (¬1) الى أفريقية بجنود كثيرة. وأعانه بوكوس بفيلق عظيم من فرسان موريطانيا تحت رئاسة غودا (قيل هو ابن بوغيد بن بوكوس وقيل حفيد بوغيد) وكان يرباص قد فر من بمبيوس. فاعترضه غودا وشتت جموعه. وأخيرا قتله. وهكذا لم نر لبوكوس إلا اعانة للرومان على أبطال البربر الذين يأنفون من استعباد الاجنبي لهم ولقومهم. وبعد أن ملأ صحائف حياته بمثل هذه الأعمال توفي في حدود سنة (80) وترك ولدين اقتسما مملكته. 16 - يرباص (102 - 81) اختلف في اسم هذا الملك: فمنهم من سماه يرباص، ومنهم من سماه هرتاص. وهو من أسرة يوغورطة. قال مرسيي: " والظاهر انه ابن غودا أخي يوغورطة ". انتصب بعد وفاة غودا على نوميديا الوسطى. وكان- كبقية ¬

_ (¬1) في ابن خلدون فمقيوس. وهو تصحيف مطبعي صوابه فمفيوس على قاعدة تعريب حرف p بحرف (ف). والمعمول به اليوم تعريبه باء.

أمراء البربر- تحت سيادة رومة: يذهب اليها، ويرسل أبناءه ليتعلموا بها. وتخلق بالاخلاق الرومانية. وصار يتكلم باللغة اللطاينية. ويحافظ على الفنون الرومانية. ويشيد بالمدن البناءات الأنيقة. ويعتني بالفلاحة. ومع كونه تحت سيادة رومة وآخذا من أخلاق أهلها وحضارتهم كانت غايته تهيئة الأمة البربرية للاستقلال التام وطرد النفوذ الروماني من وطنها. وفي مدته نازع صيلة مريوس على رئاسة رومة. فراى مريوس أنه عاجز عن مقاومة خصمه، وأراد أن يستعين بأمراء البربر. فوجه ولده إلى هيمصال الثاني من ملوكهم يعرض عليه حمايته وإعانته فلم يقبله، لأنه رأى نجاح صيلة برومة. فخشي عاقبة قبوله. إذ ذاك عاد الولد الى والده مريوس، وأشار عليه بالفرار. ففر الى الولاية الرومانية بأفريقية. ولكن واليها طرده. فبقي هائما بحدود نوميديا. ثم تمكن من الفرار الى قرقنة. وأخيرا أجاره يرباص. وقضى عنده شتاء سنة (88). كانت حماية يرباص لمريوس بعد اعراض هيمصال عنها سببا في انتشاب حرب بينهما انتصر فيها يرباص وطرد هيمصال من مملكته واستولى عليها. وبذلك أصبح مريوس منتصرا بأفريقية ومنهزما برومة. وكانت أتباع صيلة تأوي إلى عوتيقة. فأرسل ستة فيالق بقيادة بمبيوس لحرب مريوس. وتقابل الجيشان فانهزة مريوس، وفر يرباص بطائفة من جنوده. وكان بوكوس قد وجه كتيبة من الخيل تحت رئاسة غودا نصرة لبمبيوس. فالتقى غودا بيرباص في الطريق وشتت جنوده. ففر إلى عاصمته بولريجيا (¬1) وهجم بمبيوس ¬

_ (¬1) هي حمام الدراجي جنوب طبرقة.

17 - هيمصال الثاني

على نوميديا فحال دون انجاد أهلها لملكهم يرباص. فاضطر الى التسليم لغودا فقتله! وذلك سنة (81). قد تدرك نباهة يرباص وحذقه وإخلاصه لأمته من حمايته لمريوس. ذلك أنه لم يكن يخفى عليه ضعف هذا الرجل برومة وتشرده بأفريقية. فكان تحزبه له لضرب من السياسة في صالح قومه: يريد أن يشاغب به على رومة، وان أتيح له الفوز وجد غرضه معه أكثر مما يجده مع صيلة. فإن الضعيف يرى الانتصار له مزية واحسانا، والقوي يحسبه تملقا وهوانا. وإذ لم ينجح يرباص في سياسته فعندي انه يكفيه ان مات ميتة شريفة بانتصاره لحزب ضعيف من حزبي أعداء قومه ووطنه. وبموته انقضت الفتن الداخلية بين أمراء البربر. ومدتها سبع سنوات. ____ ـ[صورة]ـ (ش-14) نقود الملك يرباص وعليها رسما. ____ 17 - هيمصال الثاني (103 - 50) هيمصال الثاني هو ابن غودا، وأخو يرباص علي الظاهر. انتصب ملكا بشرقي نوميديا بعد وفاة أبيه. ولعله كان يرى له الحق في الاستقلال بمملكة والده دون يرباص، ويترصد الفرص لضم مملكة أخيه الى ما تحت يده.

18 - ماصنته

فلما تنازع مريوس وصيلة انتصر للثاني لعلمه بقوته ورد طلب الأول وحبس الأول وحبس ولده فلم ينج الا بتدبير إحدى جواريه. ولعله كان يرجو من تحزبه لصيلة ان يعينه على أخيه. فلما انتصر يرباص لمريوس رأى ان الوقت قد حان للاستقلال بنوميديا. فاشهر عليه حربا انجلت عن هزيمته. وأصبح صفر الكفين من الملك، وأشبه في التدبير حنيناً صاحب الخفين. ولما قتل يرباص وسقط حزب مريوس من رومة وأفريقية معا اعادت رومة لهيمصال ملكه مضافا اليه مملكة يرباص. ثم حدث بينه وبين ماصنتة (من امراء البربر) خلاف انهياه إلى مجلس الشيوخ برومة. وكان له ولد يدعى يوبا فوجهه اليها نائبا عنه. ففاز على خصمه ومتّن الروابط بينه وبين بمبيوس. وقد تقدم انه بموت يرباص انتهت الحروب بين امراء البربر فبقي هيمصال بمملكته هادئا مطمئنا مستعينا بابنه يوبا منشطا للفلاحة ناشرا للحضارة الرومانية محافظا على فنونها حتى توفي سنة (50). ____ ـ[صورة]ـ (ش -15) نقود الملك هيمصال وعليها رسمه ____ 18 - ماصنته هو أحد ملوك البربر. كان معاصرا ليرباص وهيمصال، وعاش بعد يرباص. قال مرسيي ناقلا عن المؤرخ بول (Poulle): (ان مع

هذين الملكين (يرباص وهيمصال) ثالثا يدعى ماصنته. كان على ناحية سطيف. وكانوا كلهم تحت نظر رومة. وكانت غايتهم جميعا تهيئة الأمة لحكم نفسها بنفسها. وكان الجيتوليون مستقلين تحت سادات من عظمائهم". وعليه فان حكومة هؤلاء الثلاثة لم تتناول جهة الصحراء. فالجيتوليون الذين كانوا خضعوا ليوغورطة، وحاربوا معه الرومان لم يخضعوا لهؤلاء الملوك الذين خلفوا يوغورطة. وسر ذلك- فيما أرى- انهم لم يزالوا ممتنعين عن التداخل الروماني. فخضعوا ليوغورطة لما رأوه عدوا للرومان، وابتعدوا عن خلفه لما رأوا بهم سمة الانقياد لهم. كان ماصنتة مجاورا ليرباص ولم يبلغنا شيئ عن علاقتهما أكانت حسنة ام غير حسنة. وقد تقدم ان هذا الدور من التاريخ يعلوه قتام الخفاء. ومع ذلك يمكننا ان نحكم بانهما كانا متسالمين. وذلك يدل على ضعف نفوذ رومة لديهما. لان أثر نفوذها يظهر في التفرقة بين الملوك واشغالهم بالفتن. ويؤيد حكمنا ذلك ان التاريخ قد أعلمنا بما كان بين يرباص وهيمصال من الحروب، واعلمنا ايضا بما وقع بين هيمصال وماصنتة. وذلك انهما لا تجاورا بعد قتل يرباص وقع بينهما خلاف. فترافعا الى مجلس الشيوخ. وذهب يوبا نائبا عن ابيه. وكان يوليوس قيصر مدافعا عن ماصنته. واشتد في دفاعه وتحمس حتى قبض يوبا من لحيته. وغضب يوبا من ذلك واسرها في نفسه. هذا ما امكننا الوقوف عليه من حديث هذا الملك. ولم نعثر على تاريخ ولايته ولا وفاته. وغاية العلم انه كان ملكا

19 - بوكوس الثاني

فيما بين سنتي (88 و89) ومحقق انه عاش بعد يرباص. وتولى الملك قبل سنة (88). 19 - بوكوس الثاني (80 - 40) كان بوكوس الاول ملكا على موريطانيا الغربية. وبعد يوغورطة اضيفت اليه موريطانيا الشرقية. وقد تسمى نوميديا الغربية. وكان له ولدان احدهما بوكوس الثاني هذا والآخر بوغيد الاول الآتي ذكره ولما توفي سنة (80) اقتسم الابنان مملكته. فأخذ بوكوس الثاني موريطانيا الشرقية. وهي ما بين صلداي وملوشات. ذلك الوطن الذي اخذه ابوه بالخيانة او الجبن والبلاهة. اتخذ بوكوس الثاني عاصمة مملكته هاته يول (شرشال). وكان - كبقية ملوك عصره- غير- بعيد عن المعارك التي تقع برومة بين الزعماء. اذ قد وجد اوليك الزعماء في الوطن البربري ما يساعد كل واحد منهم. لان مرض المنافسة الذي كان يفتك بزعماء رومة كان يجري بدماء عظماء البربر أيضا. فكل حزب برومة يجد له عاضدا بأفريقية. افضت الزعامة برومة الى بمبيوس محارب يرباص. ونافسه يوليوس قيصر. وافضت المنافسة الى المحاربة. فانتصر قيصر برومة والاندلس. وكان بالوطن الجزائري ثلاثة ملوك: يوبا بن هيمصال ومصانسيس وبوكوس الثاني. وكان مصانسيس متحدا مع يوبا. ويوبا هذا يبغض قيصر منذ حامى عن خصم ابيه برومة وقبضه من لحيته. فتحزب لبمبيوس. وهذا سبب نجاج البمبيين اولا في وطن البربر. فلما رأى قيصر ان ينقل الحرب الى أفريقية وعلم ان البربر بها ضده

20 - يوبا الأول

كاتب بوكوس واخاه يدعوهما لنصرته بالهجوم على مملكة يوبا. وقيصر هذا ابن اخي زوجة مريوس الذي كان بوكوس الاول اعانه على يوغورطة. فكانت هذه القرابة داعية لتلبية بوكوس الثاني لطلب قيصر. يضاف اليها داعي المنافسة بين ملوك البربر. وسنرى فيما يلي تفصيل هجوم بوكوس على مملكة يوبا وانتصار قيصر وانتحار يوبا. ولما نجح قيصر بعد معركة طبسوس سنة (46) جازى بوكوس الثاني على اعاتنه له بأن اضاف له موريطانيا السطيفية. ومن غير شك ان هذا الملك كانت له دولة راقية. فقد كانت أوسمة له يمنحها لاهل الاعمال الكبيرة في دولته. يدل على ذلك ان الباحثين عن الآثار عثروا على وسام به صورة بوكوس الثاني راكبا فرسه، وهو مجد في عدوه، وبيمينه قضيب يسير به فرسه كيف شاء، وبشماله آلة الرمي (¬1) 0 مملكة بوكوس هذا كلها مشتراة من ملوك النوميديين بخيانة ابطال الاستقلال البربري. وكما أن أباه رزأ البربر يوغورطة رزأهم هو- ومن يشابه أبه فما ظلم- يوبا. 20 - يوبا الأول JUBA 1 (50 - 46) يوبا الاول هو ابن هيمصال الثاني. اعتنى به والده. فارسله الى رومة حيث تعرف الى الحضارة الرومانية في منبعها. وكان له ¬

_ (¬1) هذه الهيئة في ركوب الخيل معروفة لفرسان نوميديا. فاما أن يكون الموريطانيون اخذوها عنهم لما بينهم من الجوار، واما ان يكون الجميع سواء في هذه الهيئة وانما اختص النومديون بالشهرة فقط.

شغف بالحروب. فحفظ لذلك من السقوط في مضار الحضارة، وعاش- حربيا شجاعا. كان هذا الملك ينطوي على مثل ما انطوى عليه سلفه مصينيسا ويوغورطة من الاستقلال بالوطن البربري وطرد النفوذ الروماني منه. فاستعد لتحقيق أمنيته بتنظيم الجيوش وتدريبها. وكان بهذا الوطن شذاذ من امم مختلفة يؤجرون انفسهم في الحروب، ورجال من الرومان نفتهم الاحزاب المضادة لهم المتغلبة على أحزابهم. فاتخذ منهم يوبا جيشا منظما يكون مثالا للبربر في النظاء العسكري. لم يلبث هذا الملك- بعد تبوإ عرش مملكته- الا قليلا ودخل في حروب طاحنة ختمت بانتحاره. وذلك ان بمبيوس صديق والده كان رئيس الجنود الرومانية التي لنظر مجلس الشيوخ، وظهر يوليوس قيصر في مظهر السيد المستبد، وحاول ان يسقط الجمهورية الرومانية، فنشبت الحرب بينه وبين بمبيوس. وقد عرفت ان كل اضطراب يقع برومة يكون صداه بأفريقية. تغلب قيصر على بمبيوس وانتزع منه ايطاليا. ففر فاروس (احد ضباط بمبيوس) الى أفريقية ومعه جنوده. واعلن التشيع لبمبيوس واخذ في اصطناع يوبا. فلم ينس هذا الملك صداقة بمبيوس لوالده ولا عداوة قيصر له ولا اضاع عليه فرصة انشقاق الرومان لتنفيذ برنامجه الاستقلالي. ففعل فعل عمه يرباص وانتصر للحزب المغلوب بايطاليا. وفي سنة (49) وجه قيصر الى افريقية من ضباكه كريون. وكان عدوا شخصيا ليوبا. واقترح على مجلس الشيوخ ان ينتزعوا من يوبا مملكته التي ورثها من ابيه. واعلنت شيعته برومة ان يوبا عدو لجميع الرومان.

نزل كريون بالولاية الرومانية. ودارت بينه وبين فاروس مناوشات الجأت فاروس الى الفرار الى عوتيقة (بوشاطر) فحاصره كريون بها. وساءت حالة البمبيين. فجاء يوبا بجنود كثيرة نجدة لهم وعملا لفائدة الاستقلال البربري. ففك الحصار عن عوتيقه. وفر كريون الى احد المعاقل وتحصن به. ثم اشيع- لاخراج كريون من حصنه- انه ثارت ثورة بمملكة يوبا وانه ذاهب لاخمادها. وترويجا لهذه الاشاعة تأخر يوبا بجنوده وافياله. ولم يترك منهم الا قليلا تحت قيادة قائده صبورة. فتقدم هذا القائد بجنوده القليلة الى حصن كريون. فتسلل كريون من حصنه ببعض جنده. وكان عنده أسرى نوميديون. فايدوا له خبر ذهاب يوبا الى مملكته. والقى بنواحي مجردة بطلائع الجيش النوميدي. فهجم عليهم من غير احتراز بناء ظى اعتقاده ذهاب يوبا. وتأخر النوميديون امامه تأخرا نظاميا: يناوشونه الحرب ثم ينهزمون. وما زالوا معه كذلك حتى قربوا مكانا كمن به يوبا. وادرك كريون ومن معه التعب من جراء فعل النوميديين ذاك. فما هالهم الا احاطة جنود يوبا الكثيرة بهم من كل ناحية. وكان بجنود يوبا الفا فارس من الاسبان والغاليين. فلم يجد كريون - والحالة تلك- غير الاصطلاء بنار يوبا. فاشتد القتال. وانتهى باستئصال جنده واخذ رأسه الى يوبا. وذلك في العشرين من يونيه سنة (49). تعزز يوبا، بهذا الانتصار ورأى انه قد اتيح له ان يعلن بسيادة البربر الوطنيين على الرومان الغرباء. فعاد الى عوتيقه عاصمة الولاية الرومانية. واظهر عظمته على الرومان حتى البمبيين انفسهم. وصار كثيرا ما يقدم نفسه للسيادة عليهم وعلى جنودهم، يتخذ الجميع كآلة بيده. ويحتج لسيادته بانه هو الذي قتل كريون وجنوده،

ولولاه لذهب أثر البمبيين من أفريقية كما ذهب من ايطاليا. وزاد في قوة حجته وتأييد سيادته انه غني جدا وصاحب الكلمة النافذة في وطنه. وقد بلغ من استعلائه على البمبيين ان سبيون رئيسهم جاءه يوما لابسا حلة حمراء مطرزة بالذهب- وهذه الجبة من شعار الملوك اذ ذاك- ليظهر ليوبا عظتمه. فأنف منه، وأمره يانتزاعها ولبس البياض فلم يسع سبيون الا الامتثال. كان بمبيوس لما انهزم بايطاليا ذهب الى مصر. ولما بلغ الاسكندرية دس اليه بوثان (¬1) من قتله. ولكن شيعته لم يحل من عزمها موته حيث وجدت في يوبا أقوى عضد لها بأفريقية. وتلاحق اليها من عظماء هذا الحزب ميتلوس. سبيون- وهو صهر بمبيوس غير سبيون الأفريقي وسبيون الاميلي- فبلغها سنة (48) ثم قاطون سنة (47). ولما دخل قاطون عوتيقه وجد سبيون وفاروس مختلفين على رئاسة الجند، كل يريدها لنفسه. ووجد يوبا مستعليا عليهما وجالسا بينهما كما هي عادة الملوك. فلم تسمح له نفسه بمشاهدة هذا المنظر المزري بجنسه. فرفع الكرسي ووضعه الى جانب سبيون بحيث يكون وسطا ويبقى يوبا طرفا. واراد بهذا الفعل إشعار يوبا بأن السيادة للرومان. ثم وحد بينسبيون وفاروس. بعد ذلك تفرغ البمبيون لتنظيم شؤونهم. ولم يتأخر يوبا عن اعانتهم. تفاوضوا اولا فيمن يخلف بمبيوس لرئاسة حزبهم وتدبير حربهم. واتفقت كلمتهم على تقديم سبيون لهذا المنصب فتهيأ للحرب. وجمع اربعين الف جندي وخيلا كثيرة اركبهم العبيد والموالي. ¬

_ (¬1) بوثان رجل قائم بشؤون بطليموس الثاني عشر وأخته كليوباطر

وامدهم يوبا باربع فرق منظمة تنظيما رومانيا. فيها اثنا عشر الف جندني وخيل كثيرة. وامدهم أيضا برجال كثيرين من البوادي غير المنظمين و (120) فيلا. وتولى سبيون نفقات جميع جنود يوبا ودفع مرتباتهم. يوبا- وإن اعان البمبيين- لم يكن مخلصا لهم. فأخذ يشير على سبيون بما يبغض الرومان الى البربر لئلا يكون لاجنبي نفوذ بوطنه على قومه. فأشار عليه بجبر سكان الولاية الرومانية على تسليم حبوبهم لتموين الجند وجبر التجار منهم على تقديم الاموال. فنفذ اشارته بصرامة حتى انه خرب لذلك مدنا كثيرة. ثم اشار عليه بتتبع المتشيعين لقيصر حتى المتهمين بالتشيع: باستئصالهم وقتل ذريتهم ونسائهم. وكان جل من بعوتيقه قيصريين. ولكن سبيون تفطن هذه المرة للدسيسة. فدافع يوبا بأن هذا عمل يغضب الرب. ولو استرسل سبيون في غفلته وعمله باشارات يوبا لثارت عليه العاصمة (عوتيقه)، واشتغل الرومان بعضهم ببعض، وتفانوا. فتبقى الولاية الرومانية ليوبا غنيمة باردة. وذلك ما كان يأمله لتحقيق غايته الاستقلالية. بلغ الخبر الى رومة بقوة سبيون ويوبا. فدخل الرعب قلوب القيصريين. ولكن قيصر رأى ان يتمم انتصاراته بنقل الحرب الى أفريقية. واذ قد ارتأى هذا الرأي فهو مضطر للاستنصار بملوك البربر. وقد علم ان يوبا مصانسيس ضده. فكاتب بوكوس الثاني وبوغيد الاول ليشغلا له يوبا. ووعدهما اقتسام مملكته. فكانا له على يوبا. في منتصف اكتوبر سنة (47) توجه قيصر الى أفريقية على طريق صقلية. ونزل بنواحي قليبية من عمالة تونس. وعند نزوله عثر فسقط على الارض فقبضها ونادى- خشية الطيرة التي تضعف من

عزائم جنده-: " أفريقية! قد قبضتك ". ونزل معه من الجنود نحو (3000) مشاة و (150) فارس. وتأخر بقية الجند في البحر. لما نزل قيصر جد سبيون في تجنيد بربر الولاية الرومانية. فوجد قلوبهم منحرفة عنه لعسفه وجوره وتعديه على اموالهم. ورومان هذه الولاية متشيعون لقيصر لان عمته كانت تحت مريوس غالب يوغورطة. فلم تبق لسبيون ثقة في أهل الولاية الرومانية من بربر ورومان. هنالك اضطر لمفاوضة يوبا على الوجه الذي يهواه. فطلب منه النجدة على ان يترك له افريقية متى انتصر ويعود بالرومان الى ايطاليا. فلم يشك يوبا في انه قد اشىرف على تحقيق غايته. فاعانه بفرسان نوميديا الذين لهم شهرة من ايام حنبعل، وبالافيال الكثيرة. وكانت جنود يوبا هي عمدة سبيون. في نوفبر هذه السنة وقعت المعركة الاولى بين قيصر وضباط سبيون. وأحيط بقيصر فكاد يؤسر. ولكنه نجا بدهائه وسار نحو مركزه. فلحقته طائفة من فرسان نوميديا جاءت بعد المعركة. وعددها (1100) فلم يخلص منها الا بعد اللتا والتي. ورأى ان هذه المعركة على شدتها ليست من الاهمية بمكان لغيبة شخصي يوبا وسبيون عنها. فاهتم من بعدها وحصن مركزه. كان لبمبيوس ولد صغير لحق بأفريقية. فاخذ قاطون ينفخ فيه روح الغيرة، ويستثير حميته بذكر تاريخ والده وجلائل اعماله. واشار عليه بالسير الى بوكوس حليف قيصر. فتوجه الولد اليه في الفي جندي تقلهم ثلاثون سفينة برسم الكف عن مملكة يوبا وعدم أشغاله عنهم. ولما نزل بالشاطئ وأخذ يتقدم نحو العاصمة احاط به البربر واوسعوه

شتما وفتكوا بمن معه. ونجا ببعض جنوده، فركب سفنه، وعاد خائبا. وكان قيصر في حال سيئة. فاستمال رجلا ايطاليا يدعى ستيوس الى نصرته. وكاتب بوكوس واخاه بوغيد يعلمهما بأن يوبا سيذهب الى حربه ويخلو لهما وجه مملكته. ويشير عليهما بالهجوم اذ ذاك. علم يوبا بحرج موقف قيصر. وخفي عليه ما دبره مع ابني بوكوس الاول. فلم يكتم سروره بضعف عدوه. ورأى انه قد قرب اليوم الذي يتمتع فيه بوعد سبيون. فجمع جنودا كثيرة وخيلا وفيلة. واخذ يجول بها في البوادي والناس تنضاف اليه حتى كان قريبا من المنستير (بتونس). وفي هذه الاثناء ذهب ستيوس الى بوغيد مستعينا به. واتحد مع بوكوس. وهجما على مملكة يوبا. وفتحا قرطة بعد حصار لم تطل مدته. وفتحا أيضا حصنا (غير معلوم لدى المؤرخين) به مؤن يوبا وذخائره واسلحته. واستأصلا سكان مدينتين من مدنه. وصارا يهددان بقية مدن نوميديا وباديتها. ولا يشاهد بها الا النار والدم. بينما يوبا في زهوه وسكره برائحة خمرة الانتصار اذ بلغه ما حل بمملكته. فتوجه في الحين وأغذ السير لادراك أهل مملكته. واخذ معه كل ما اعان به سبيون من رجال وخيل وفيلة. ولم يترك له الا ثلاثين فيلا غير مهذبة ولا مدربة. ضعف سبيون بعد ذهاب يوبا عن مقاومة قيصر. فارسل اليه يستحثه في اللحاق به. ويؤكد له وعده السابق. فلم يجبه الى طلبه لاشتغاله بدفاع الهاجمين على مملكته. وقد يكون من غرضه ان يدع الرومان يتهالكون. ثم يرجع على الغالب منهم فيحاربه. ويطهر

الوطن البربري من الرومان. ولكن سبيون ألح عليه حتى رحمه. وترك قائده صبورة لمقابلة ستيوس وبوكوس. عاد يوبا الى سبيون بألف ماش وثمانمائة فارس وثلاثين فيلا. ونزل في العشرين من دجنبر بجيشه خلف جيش سبيون. وفي التاسع والعشرين منه وقعت معركة شديدة بين المتحاربين. وفي يناير سنة (46) فر الى قيصر كثير من جنود يوبا الجيتوليين. وبلغ عددهم الفا. وسبب ميلهم الى قيصر ان ضباط هذه الفرقة كانت لآبائهم أراض انتعزتها منهم والد يوبا هيمصال. واعادها عليهم مريوس بعل عمة قيصر. ثم تتابعت عدة وقائع كانت خاتمتها واشدها واقعة طبسوس (¬1) في هذه الوقعة تفاقمت الاهوال واشتد القتال. وانتهت بفوز قيصر وفرار اعيان حزب بمبيوس. ذهب يوبا بعدها الى مدينة زامة. وكان اتخذها عاصمته الثانية. ونقل اليها- لما عزم على حرب قيصر- نساءه وذريته وامواله وجمع ببطحانها حطبا كثيرا. واقسم ايمانا مغلظة: لئن غلبه قيصر ليحرقن بذلك الحطب اهل المدينة ثم اهله ونفسه. فلما بلغها اغلقوا في وجهه الابواب مخافة ان ينفذ فيهم ايمانه. اظلمت المدنيا في وجه يوبا. وضاقت عليه الارض بما رحبت. فصنع وليمة اكثر فيها من الاكل وشرب الخمر. ثم تحامل على سيفه ليريح نفسه من عناء الدهر. فلم يستطع الثبات على ذبابة السيف لغلبة الخمر عليه. فأمر أحد عبيده بقتله فقتله! ¬

_ (¬1) طبسوس مدينة على شاطئ البحر برأس ديماس (بتونس) يليها برا بحيرة صارت بها كجزيرة اذ لم تبق إلى المدينة الا مسلكين ضيقين وهي من تأسيس الفينيقيين. ولم تخرب الا على عهد الفتح العربي. ومكانها اليوم موضع حراثة.

21 - مصانسيس

وهكذا انتهت حياة يوبا بعد ما كاد يحقق غايته ويطرد الرومان من افريقية. وعلى قلة ايامه واشتغاله بالحروب كانت له دولة عظيمة وضرب السكة باسمه. وبلغ من عظمته ان صار لا يحفل بالرومان. على انه جاء بعد ما انهكت وطنه الحروب الداخلية، وتقاسمه امراء متعددون. قال بعض مؤرخي الافرنج: كان النوميديون أذ ذاك على غاية من الحضارة. وحالتهم أحسن من حالة أهل الجزائر على عهد الاحتلال الفرنسي". بقي صبورة يحارب ستيوس وبوكوس بعد انتحار ملكه حتى قتله ستيوس في معركة من المعارك. وشاءت الاقدار ان لا يبقى بعد ملكه للهوان والصغار. 21 - مصانسيس MASNASSES (50 - 46) مصانسيس كان ملكا على قسم سطيف من نوميديا. ولا ندري الوجه الذي ورث به الملك على هذا القسم بعد ماصنتة. لما دخل يوبا في حرب قيصر كان هذا الملك معينا له على حربه واعلاء شأن وطنه باضعاف النفوذ الاجنبي او ازالته. ولما انتصر قيصر على خصومه بأفريقية اقتسم مملكتي يوبا ومصانسيس على انصاره: القسم الشرقي من نوميديا جعله مستعمرة رومانية. واطلق عليه اسم "أفريقية الجديدة" او "نوميديا الحديثة" هذا القسم واقع شرقي قسنطينة. ويشمل قالمة وعنابة. ومملكة مصانسيس منحت لستيوس. وهي عبارة عن قرطة وروسفاد وشولو وميلوم وتوابعهن. ومن ههنا تعرف ان قول المؤرخين: مصانسيس ملك على قسم سطيف، مرادهم به ما يشمل هذه الولايات الاربع لا

22 - بوغيد الاول

خصوص موريطانيا السطيفية. ووسع في مملكة بوكوس الثاني باضافة موريطانيا السطيفية اليها. وهي ما بين مساغا وصلداي. وجازى بوغيد الاول بأن اعطاه القسم الغربي من نوميديا. هكذا وزعت مملكتا يوبا ومصانسيس على ثلاثة اقسام: قسم جعل مستعمرة رومانية وقسم اضيف لملكي موريطانيا الغريبين لانهما ليسا نوميديين ولكنهما على كل حال بربريان. وقسم جعل وسطا بينهما جغرافيا وسياسيا وهو الذي منح لستيوس. فان هذا الرجل ليس بربريا بل هو ايطالي لكنه يعمل لنفسه لا للرومان. وسياقة خبره انه كان جنديا وترقى الى أن صار واليا ثم عزل. فاغضبه العزل. واخذ يسعى في جمع اللصوص والمتشردين من ايطاليا واسبانيا. فكون جيشا تحت طاعته. وصار يؤجره لمن يحتاجه من الملوك في حروبهم. وكان منصور الراية. فاشتهر ذكره وطار في الآفاق صيته. فربحت تجارته. وجمع اموالا كثيرة اشترى منها سفنا. وصار يشتغل بالقرصنة يغزو المراسي وينهبها. ولم تخف مكانته على قيصر. فراسله طالبا منه اشغال يوبا عنه. ووعده ببعض مملكته. فاجاب الطلب، وقضى له بالغلب. ونال من ذلك الارب. فبقي اميرا بمملكة مصانسيس حتى اغتاله عرابيون كما سيأتي. 22 - بوغيد الاول (46 - 44) بوغيد الاول هو ابن بوكوس الاول. انتصب ملكا بموريطانيا الغربية بعد وفاة ابيه سنة (80) واعان قيصر على يوبا. فمنحه القسم الغربي من نوميديا. وبذلك دخل بوغيد ضمن ملوك البربر في الوطن الجزائري غير انا لم نتحقق المراد بالقسم الغربي من نوميديا. وفي مرسيي: ان يوبا كان ملكا على نوميديا الشرقية والوسطى، وان مصانسيس كان

23 - عرابيون

على قسم سطيف من نوميديا، وان القسمين الاولين جعلتا مستعمرة رومانية، وان مملكة مصانسيس منحت لستيوس، وان قسم سطيف الحق بموريطانيا الشرقية، ومراده انه اضيف لبوغيد على ما يفسره قوله في موضع آخر. واذن فقسم سطيف هو المراد من نوميديا الغربية. وفي غروت: ان بوكوس الثاني أخذ موريطانيا السطيفية. في هذه الاقوال ضرب من الاجمال لم نجد ما يفسره من الانقال. ولكن إذا استعنا بالمفسر على المبهم سهل علينا فهم بعض ما لم نفهم. ذلك ان مستعمرة الرومان قد علمت انها تشمل قالمة وعنابة. فتكون هاتان العمالتان حد نوميديا الوسطى غربا، وان مستعمرة ستيوس قد علمت حدودها ايضا. فما بقي من نوميديا غربا قسم بين الاخوين بوكوس وبوغيد. وهو ما عبر عنه غروت بموريطانيا السطيفية. وعبر عنه مرسيي مرة بقسم سطيف، واخرى بالقسم الغربي لنوميديا. ويكون قول غروت؛ بوكوس أخذ موريطانيا السطيفية لا يعني به جميعها. هذا ما امكننا فهمه من ذلك الاجمال والاضطراب بعد العجز عن ايجاد شرحه في أي كتاب .. كان قيصر يريد اسقاط الجمهورية. فكان الجمهوريون ضده. فبعد ما غلبوا بايطاليا ثم أفريقية ذهب من بقي منهم الى اسبانيا ومعهم من امراء البربر عرابيون ابن مصانسيس. فذهب قيصر الى حربهم. وبقي برغيد معينا له هنالك أيضا. ووقعت حروب بينه وبين الجمهوريين من شيعة بمبيوس. واخيرا انتصر عليهم في منده من بلاد اسبانيا سنة (45). وتوفي بوغيد سنة (44). 23 - عرابيون عرابيون هو ابن مصانسيس. لما قسم قيصر مملكتي والده ويوبا

على ما سبق بيانه ذهب هو الى الاندلس. وبها شيعة بمبيوس. فجمع هنالك جيشا من اللصوص واشتغل بالحرابه زمنا. ثم ازداد جيشه قوة وازداد هو مهابة. فقاتل قيصر هنالك. وفي سنة (44) توفي قيصر وبوغيد عدوا أبيه. فرأى أن الوقت مناسب لاسترجاع مملكتة والده. فعاد الى وطنه بمن معه من الجنود. وجمع اليه شيعته من النوميديين. وبعث منهم بطائفة الى بمبيوس الصغير ليعلهم حسب الانظمة الرومانية. ومن غير شك ان النوميديين استبشروا، بعوده اليهم لانهم صاروا تحت اجانب عنهم في الوطن او في الجنس والوطن جميعا. خلف بوغيد ابنه بوكوس الثالث. ورأى عرابيون ما له من الجنود، فعزم على حرب بوكوس لينتزع منه نوميديا السطيفية (¬1). وكان بوكوس غربيا عن محكوميه فاستنجد بوكتافيوس المستب برومة بعد قيصر. فلم ينجده لاشتغاله بتثبيت قدمه برومة. تحارب الملكان البربريان، فكانت الخيبة نصيب بوكوس. واسترد عرابيون منه نوميديا السطيفية. وبقي له ستيوس. فدبر له مكيدة نجح فيها فقضى على حياة هذا الايطالي المتملك على البربر. واسترجع بذلك جميع ما كان يملكه ابوه. ولكثرة الفتن برومة بين الجمهوريين والقيصريين ذهب دم ستيوس هدرا. ولم يتوجه على عرابيون من الرومان ادنى بحث او مسؤلية. في هذه المدة كان الوالي بأفريقية القديمة كورنفسيوس. واعطيت نوميديا الحديثة لوكتافيوس. فوجه اليها عامله سيكتيوس. وطمع في الاستيلاء على أفريقية القديمة أيضا. فوقعت الحرب بين الوالي ¬

_ (¬1) نوميديا السطيفية هي المعبر عنها أحيانا بموريطانيا السطيفية.

والعامل. وخاطب كلاهما عرابيون مستنجدا به. فتريث في الاجابة مفكرا في أي الرجلين أوفق بسياسته. ثم رأى ان الاصلح له اجابة وكتافيوس فانضم له. وبينما كورنفسيوس محاصر لقرطة اذ بلغه ان عرابيون انتصر لوكتافيوس. ففشل وغادر قرطة فارا الى ولايته. ولحقه عرابيون. وتلقاه سيكستيوس شرقا. فانحصر بين عدوين. وأمعن عرابيون في جنوده قتلا. فلم ينج منهم الا القليل. دخل بعد هذا الانتصار سيكستيوس افريقية. وعاد عرابيون الى مملكته بغنائم قيّمة. وقد يكون توسع في نوميديا الحديثة. وفي سنة (43) اصطلح وكتافيوس وانطونيوس. وتشكلت حكومة رومة من رؤساء ثلاثة. هذان الاثنان ولبيدس. وبقيت افريقية تحت وكتافيوس ولكنه عزل سيكستيوس وعوضه بفانغو. وفي سنة (42) اقتسم الرؤساء الثلاثة المملكة الرومانية من جديد. فاخذ انطونيوس افريقية الاصلية. واخذ وكتافيوس نوميديا والجهات الغربية. فكلف سيكستيوس بالنيابة عن انطونيوس في افريقية، وفانغو بالنيابة عن وكتافيوس في نوميديا الحديثة. ولسوء ادارة فانغو ثارت عليه البربر وامدهم عرابيون. ولكن فانغو انتصر عليهم ففر عرابيون الى سيكستيوس. وطلب منه فانغو تسليمه فلم يسلمه. فهجم على افريقية وعاث فيها فسادا. فدافعه سيكستيوس، واعانه عرابيون والنوميديون، فكانت الهزيمة على فانغو. وبعد هذا خدع سيكستيوس عرابيون وقتله غيلة. فمن المؤرخين من قال: قتله لانه كان قد أعان وكتافيوس على انطونيوس، ومنهم من قال: لانه كان يخشى نفوذه ويغار منه. وليس الجمع بين الامرين بمعتذر.

24 - بوكوس الثالث

غضب فرسان نوميديا لقتل عرابيون. فذهبوا الى فانغو واغروه بسيكستيوس فتحارب هذان العاملان. ولكن فانغو غلب فقتل نفسه. واصبح سيكستيوس هو الوالي الوحيد بإفريقية الاصلية ونوميديا الحديثة. قال مرسيي: "وربما ضم اليه ما كان تحت ملك عرابيون" كان عرابيون عاملا جريئا مفكرا داهية شجاعا مقداما صاحب آمال كبيرة: ينوي اخراج الرومان من نوميديا. ولكن لم يساعده القدر. وسلك سبيل غيره من عظماء البربر. فذهب ضحية الاستقلال قبل ان يحقق تلك الآمال. وهكذا اتخذ عظماء الومان قتل الاحرار سبيلا لترضية جشعهم في الاستعمار. وكان عرابيون خاتمة ملوك نوميديا الذين وقفوا في وجه الاستعمار الروماني واوقفوا سيره. 24 - بوكوس الثالث (44 - 33) بوكوس الثالث هو ابن بوغيد الاول. جلس على عرش الملك بعد وفاة ابيه. وانتزع منه عرابيون نوميديا السطيفية. وفي سنة (40) توفي بوكوس الثاني. وورثه ابنه بوغيد الثاني. وكانت الحرب بالاندلس بين وكتافيوس وانطونيوس. وكان الاول عدوا لبوكوس الثاني صديقا لبوكوس الثالث. فألح انطونيوس على بوغيد الثاني في اعانته على عدو أبيه. فذهب سنة (38) الى الاندلس بجيوش كثيرة نصرة لاطونيوس. وبغيبته اختل نظام مملكته وقامت بها الثورات. شاهد بوكوس الثالث ما حل بمملكة ابن عمه، فوثب عليها وملكها. ولما عاد بوغيد من الاندلس لم يجد سبيلا لاسترجاع ملكه، فذهب الى الاسكندرية- ومصر اذ ذاك تحت يد حليفه انطونيوس- فولاه هنالك اعمالا جليلة، وتوفي بمدينة ميطون. اصبح بوكوس ملكا على موريطانيا الشرقية والغربية. قال اغسال:

25 - يوبا الثاني

"وهذه المملكة عبارة عما بين جيجل شرقا، والمحيط الاطلانتيقي غربا" ولم تتدخل رومة فيما وسع به بوكوس مملكته لمكانة من وكتافيوس. وانتقل بعد هذه التوسعة الى يول (Yol) وجعلها عاصمة ملكه. واستقر بها الى أن توفي سنة (33) ولم يترك عقبا. قال مرسيي: وكانت مدته- بصفة اجمالية- مدة هناء، أو نقول: ان عصره غير متضح للمؤرخ. كان بوكوس هذا خاتمة أسرة بوكوس الأول الذي وسع مملكته على حساب ملوك نوميديا. كما كان عرابيون خاتمة ملوك نوميديا.: وهكذا تقارب زمن انقراض هاتين الاسرتين اللتين تولتا ملك البربر حقبا. وقضى عليها التنافس. 25 - يوبا الثاني (25ق-23م) يوبا الثاني (¬1) هو ابن يوبا الاول. أخذ الى رومة بعد انتحار والده. ونشأ بها. وفي سنة (30) ق. م توفي انطونيوس. وكان متزوجا بكلابطرة أخت بطليموس الثاني عشر. وله منها بنت تدعى كليوباطر سيليني. وقام وكافيوس بكفالة ابنائه فزوج هذا البنت من يوبا وولاه مصر. وفي سنة (25) ق. م أو قبلها ولاه على نوميديا بصفة امير نائب. ولا يعلم نفوذه بقرطة والمدن المحالفة لها. والمظنون انه ضعيف لان تلك المدن المتحالفة كانت لها امتيازات على باقي مستعمرات رومة. وكان نفوذه الفعلي بنوميديا الحديثة. والظاهر انه احسن ادارتها ووطد فيها دعائم السلم. يدل لذلك ان وكتافيوس نقله فما بعد الى موريطانيا. واضاف ¬

_ (¬1) سماه في تحفة الزائر 1: 14 جوبا الروماني وليس بروماني وانما هو روماني النزعة. وفي المغرب [ص:82]: " وجزيرة جوبا قبل مرسي بجاية" " فلعل هذه الجزيرة منسوبة إلى يوبا هذا.

نوميديا الحديثة الى افريقية الاصلية. ووجه الدلالة ان الرومان كانوا يخشون ثورات البربر. فلا يلحقون بمستعراتهم التي تحت تصرفهم الفعلي الا الاوطان التي ذللها الحكم وعبدها التمدن حتى صارت عاجزة عن الثورات. وكان الجيتوليون مستقلين تحت عظماء منهم، فتقرب اليهم الرومان اولا بالملاطفة. وعقدوا معهم معاهدات، وعدوهم حلفاء مستقلين. قال مرسيي: "وتلك خطوة اولى لاخضاعهم" ومع ذلك فقد كانوا كثيرا ما يهجمون على الجهات الشمالية. وفي سنتي (29) و (21) دافعهم ضابطان رومانيان. وقهقراهم الى القفار. ووقعت بينهم وبين يوبا عدة وقائع كانت جيوشه فيها منهزمة حتى استعان بالرومان. واذ ذاك اهتموا بهم وحاربوهم الى ان انتصروا عليهم وقطعوا جرثومة ثوراتهم سنة (6م). في سنة (71) ق. م نقل وكتافيوس يوبا من نوميديا الحديثة. واضافها الى ولاية افريقية. وجمعتا تحت وال واحد الى نظر مجلس الشيوخ. وعوضه عنها بالموريطانيتين وبعض المراكز الجيتولية. فأصبحت له مملكة مترامية الاطراف. حدها الشرقي جيجل او بجايه، والغربي المحيط الاطلانتيقي، والجنوبي الصحراء. نزل من مدن هذه المملكة يول، واتخذها قاعدة. وسماها قيصرية وتولى ادارتها بحسن تدبير. وكانت هذه المملكة قبل لبوكوس الثالث. فلما توفي قدم اليها وكتافيوس نفسه. واضافها الى رومة. وبقيت تحت نفوذه مباشرة حتى نقل اليها يوبا. يوبا اخذه يوليوس قيصر بعد واقعة طبسوس الى رومة وعمره خمس سنوات. وبعد قتل قيصر كفله وكتافيوس، فقضى صباه تحت رعايته، ورباه على احترام رومة، وقد علم اخلاصه لها. فلما كبر جعله قنطرة لنقل الجراد الروماني الى افريقية الشمالية: فولاه اولا على نوميديا.

حتى اذا نضجت ثمرتها وسهل على الرومان اجتناؤها نقله الى الموريطانيتين - وقد كاتنا تحت نفوذه ولكنه عجز عن تذليلهما- فاضعف فيها الروح الوطنية التي تلازم بساطة العيش: نشط الفلاحة فتقدمت خطوات، واعتنى بالعمران فاتسع نطاق المدن وكثرت عمارتها. أخذ المعارف عن كبار علماء اليونان والرومان. واشتهر بالتاريخ والجغرافيا والطبيعة والنحو. وكان ذا ذوق وانتقاد للشعر والفن. وله كتب في التاريخ. منها تاريخ رومة من يوم تأسيسها الى وفاة كافله أغسطس قيصر (وهو وكتافيوس). يذكر في تلك الكتب النظم الرومانية وجزيرة العرب والسريان وليبية. ويتكلم فيها عن التصوير والتمثيل والنباتات. وكتب رسالة في اسباب فساد اللغة الاغريقية، وألف تآليف بها. وبالغ في التشيع للاغريق حتى نسب لهم عوائد قديمة بافريقية وروما. وجازوه على ذلك بتشييد هيكل له بأثينا. ونقل الحضارة الاغريقية الى عاصمته قيصرية. فجلب لها علماء ورسامين وممثلين من الاغريق. وأنشأ بها بناءات فاخرة رسم عليها تماثيل من احسن ما تنمقه يد الاغريقي. ولم يزل يؤيد السيادة الرومانية بوطنه ويخلد ذكر كافله حيث تسمى باسمه. فدعى نفسه " كايوس يوليوس" ونسب عاصمته يول اليه فدعاها قيصرية، وشاد بها معبدا لالهه". والخلاصة انه كان متشيعا للاغريق في العلوم والحضارة، وللرومان في الحكم والسياسة، عديم الغيرة الوطنية والاحساس القومي. في سنة (6) م توفيت زوجه فدفنها شرقي قيصرية. وشاد على قبرها هيكلا ضخما. وفي سنة (22) م أو (23) م توفي ودفن مع زوجه. ولم يزل ذلك الهيكل مشاهدا الى اليوم ويعرف بقبر المسيحية. ولكنها

تسمية مخالفة للحقيقة. فان سيليني لم تدن بالمسيحية ولا كان لهذا الدين اذا ذاك ظهور في هذا الوطن. ____ ـ[صورة]ـ (ش-16) قبر المسيحية ـ[صورة]ـ (ش-17) رسم يوبا عثر عليه بشرشال. وهو محفوظ بدار الآثار هناك

26 - بطليموس

ـ[صورة]ـ (ش-18) نقود الملك يوبا وعليها رسمه ـ[صورة]ـ (ش-19) نقود الملك يوبا وعليها رسمه غلى اليسار ورسم زوجه غلى اليمين ____ 26 - بطليموس 23 م - 40 م بطليموس هو ابن يوبا الثاني. سماه بهذا الاسم الاغريقي من شغفه بالاغريق. ورث عرش ابيه بعد وفاته. وكما كان اسمه غير بربري كان هو عديم الغيرة البربرية والحماس القومي. فلم يعمل كجده يوبا الاول ومن قبله من سلفه للاستقلال البربري. بل كان كأبيه يؤيد النفوذ الاجنبي ويخدم مصلحة رومة. لم يرث بطليموس عن أبيه غير عرشه واخلاصه لرومة. ولم يرث عنه أذواقه العلمية وتدابيره الادارية. فترك أمور دولته بيد الحاشية. وانهمك في الملاهي والفجور. وبذلك وجد البربر سبيلا إلى استعادة حياتهم الحربية. كان بنوميديا ثائر بربري يدعى تقفاريناص. فاستدعته حاشية بطليموس الى موريطانيا ووعدته الاعانة. فلبى طلبها ونقل الحرب الى تلك الناحيه.

نقفار يناص هذا رجل بربري تجند بالجند الروماني وبلغ رتبة ضابط معين. ثم فر الى القبائل البربرية المقيمة بجهات اوراس. وأثارهم على الرومان سنة (17) م. فهجموا على الجنود الرومانية في مراكزها. واتسعت ميادين الثورة من خليج طرابلس الى الحضنة. برز لمحاربته كاملوس والي افريقية فلم يقو تتقفاريناص على مقابلته وفر الى الصحراء. واشتغل فيها بتنظيم الجنود على الطريقة الرومانية. فاتخذ الفرسان والمشاة. وفي ظرف عام تمم تنظيمه وتمرينه. فأعاد الكرة على الرومان. وهزمهم بوادي باجيدة (ساحة لمبس) فتركوا له حصونا. وغنم غنائم جليلة. فتشجع بهذا الانتصار. وذهب الى تالة (بعمالة تونس) وحاصرها. فضاعف الرومان قوتهم مضاعفة أعجزت تقفاريناص عن مقابلتها. ففر أيضا الى الصحراء. وذلك سنة (20) م. وبعد قليل ارسل الى الامبراطور طيبريوس وفدا يعرص عليه الصلح على ان يقتسم معه أراضي افريقية. فأبت للإمبراطور عظمته النزول لقبول هذا الشرط. وراءه وقاحة من تقفاريناص. فارسل الى الجيتوليين يعدهم بالعفو ان هم وضعوا السلاح. وجعل جعلا لمن يقتل تقفاريناص. فلم يجد من بطانة هذا الثائر خائنا. وفي سنة (12) وجه الامبراطور لحربه القائد بليسوس (BLOESUS) وكان ذا دراية بالحرب. فقسم جيشه أقساما وراء كل قسم حصن. فمكث في مطاردة تقفاريناص عاما. وكان يهزمه كلما التقيا. ولما اعجزت تقفاريناص الحيلة ويئس من الانتصار عاد الى الصحراء ملجئه من قديم سنة (22). سر الرومان بانتصار بليسوس سرورا عظيما. ولقبوه الغازي. ولكن هذا الانتصار لم يكن حاسما للثورة. فان تقفاريناص رجل

لا يأبه بمعاكسة الايام. ولا تقف أمام عزيمته العقبات. ولا يفشل للنوائب والصدمات. فمكث بعيدا عن الرومان بالصحراء حتى بلغته وفاة يوبا. فجدد عزمه. وجمع جموعه. واستثار القبائل الجيتولية من جديد. وحاصر بعض المدن. فعين الرومان لحربه دولبلة (DOLABELLA). وابتدأ هذا الروماني بقتل عظماء الجيتوليين.؛ واتخذ مراكز للجنود على حدود الصحراء. وطلب من بطليموس امداده برجال البربر فأمده. وبلغ تقفاريناص مدينه توبوسبطوس (TUBUSUPTUS) - تيكلات-، فحاصرها. وبرز اليه دولبلة بعد ذلك الاستعداد فأجلاه عنها. وفر أمامه- كعادته- الى الصحراء. فلقيته الجنود المرابطة بحدودها. هنالك توجه نحو موريطانيا اعتمادا على وعد حاشية بطليموس له بالاعانة. فأحاطت به الاعداء في الطريق. وما بلغ عوزية (سور الغزلان) حتى أدركه دولبلة. وانقض عليه ليلا فافنى جيشه وقتله! وذلك سنة (24). وهكذا انتهت حياة هذا البربري الذي يحمل بين جنبيه روحا استقلالية، وهو يعلم ما فيها من المصاعب، اذ ما كان يجهل قوة رومة ولا انتشار نفوذها بالوطن البربري. ولكنها العزائم الفولاذية تدفع باربابها الى ما وراء التأمل في العواقب. والبطولة قد تنتهي بصاحبها إلى الجنون. سر الرومان بالقضاء على شخص تقفاريناص الذي شغلهم مدة ثماني سنين. وجازى مجلس الشيوخ بطليموس على اعانته بقضيب من عاج وحلة مطرزة بالذهب. حمل هذه الجائزة أحد الشيوخ وذهب بها الى بطليموس مكلفا من قبل زملائه بمقابلته وتهنئته باسم "ملك حبيب حليف".

ما أجود بطليموس! بل بئس الجود جود بطليموس: يعين الرومان على قتل بني جنسه ليملكوا أراضيهم ونفوذهم ورقاب بقية الامة، في مقابلة القاب وتحف! وبعد كيف كانت عاقبته معهم؟ في سنة (39) ارسل اليه الامبراطور غليقلا (CALIGULA) يستدعيه الى رومة- وكانت بينهما خؤلة- فلبى الدعوة حينا. وذهب في هيئة عظيمة غار لها الامبراطور. وحضرا ذات يوم المرسح. فأعجب الحاضرون بثوب بطليموس الارجواني. فاغتاظ لذلك الامبراطور وزجه في السجن وقطع عنه الطعام ولم يترك له ماء غير ماء الميازيب. وانتهى به الغيظ الى أن قتله. يقول مرسيي: " أما غيرة من هيئته واما نهما في سفك الدماء واما طمعا في الحاق مملكته برومة رأسا" وسواء كان القتل لاحد تلك الاغراض أو لثلاثتها فإن غيرة الامبراطور من هيئة بطليموس وبهت العامة مما يدل على تفوق الازياء البربرية على الازياء الرومانية. كان لنعي بطليموس أسوأ الاثر في نفوس البربر دفع بأحد مواليه المسمى أدمون الى رفع لواء الثورة وعزره الجيتوليين. ولكن الرومان تمكنوا من اخماد ثورته. فرجع الامر الى نصابه، والحقت موريطانيا برومة. وذلك سنة (42) م تقريبا. ____ ـ[صورة]ـ (ش - 20) رسم بطليموس عثر عليه بشرشال

7 - انقراض الممالك البربرية

7 - انقراض الممالك البربرية قد رأيت كيف نشأت الممالك البربرية العظمى على عهد قرطاجنة، وكيف تعرفت اليها رومة. وقد عجمت هاتان الدولتان القويتان عود ملوك البربر. فووجدتاه صلبا لا يلين لكل غامز ورأتا هدم أستقلالهم "دونه خرط القتاد)، فاكتفت قرطاجنة منهم بأن يكونوا معها- بحق الجوار- على رومة ذات المطامع الأشعبية. اما رومة فانها بعد ما انتصرت بمن نصرها منهم لم تنفك تتداخل في شؤونهم وأذكاء جذوة التنافس بينهم والزيادة في عددهم بتجزئة ممالكهم وشغلهم عن مهماتهم الداخلية بالاستنصار بهم في حروبها أو تقسيمهم على زعمائها المتحاربين. فقد رأيت انهم- أيام تنازع مريوس وصيلة- منهم من كان مع الاول ومنهم من كان مع الثاني. وكذلك كانوا في تحارب بمبيوس وقيصر وعراك وكتافيوس وانطونيوس. مهما امعن الباحث في علل سقوط تلك الممالك وانعم النظر الفى ان علة العلل هي تداخل رومة في شؤونها بتلك الصفة التي ذكرنا. حتى اني عندما أريد من الفكر جولة في علل سقوط هاتيك الممالك يذهب الى البحث عن أسباب بقائها وطول أمدها. فيجد السبب الوحيد هر ثروة الوطن البربري وغناه بكثرة رجاله الاحرار أولى الشجاعة وحدة الافكار. فقضاء رومة على يوغورطة لا يعجز أن يظهر مثل يرباص ويوبا الاول وعرابيون. ولكن لكل بداية نهاية ولكل شيء جدة وبلاء. فانتهى عمر الممالك البربرية بانتهاء حياة عرابيون ووفاة بوكوس الثالث. وجاء يوبا الثاني وبطليموس بعدهما مجردين من الروح البربرية التواقة الى الاستقلال. فكان عصرهما عصر تثبيت لقدم السلطة الرومانية شمالا واقامة سد على الجهات

الجنوبية التي ربما تنبعت منها أشعة للحياة الاستلالية بالجهات الشمالية. حقا ان رومة كانت تعمل لاسقاط الملك البربري، وحقا ان تداخلها هو الذي اسقطه، وحقا ان استمرار حياته- مع استمرار ذلك التداخل- امدا غير قصير مما يدعو الى العجب والتنقيب عن السبب. ولكن هل نعفي البربر من تبعة ذلك السقوط؟ وهل تستطيع رومة ان تخرب ملكهم لو لم يخربوا هم أنفسهم بيوتهم بأيديهم: وأيدي أعدائهم؟ نرجع الى الصحائف السابقة نجد فيها جواب هذين السؤالين. ذلك أن تداخل رومة أخذ يتزايد في عصر يوغورطة واشتد بعده. وفي هذه المدة كانت ملوك البربر من أسرتين: أسرة نوميديا قديمة أسسها نرافاس، وأخرى موريطانية مبلغ علمنا عنها أنها حديثة أسسها بوكوس الاول. ومن الاسرة الاولى كان ابطال الاستقلال البربري. ومن وجد منها مؤيدا للرومان- مثل مستنابعل وهميصال الثاني- على الاحرار من جنسه لم نجد له ضررا كبيرا ولا أثرا عميقا في هدم الملك البربري. أما الاسرة الثانية فقد كان مؤسسها بوكوس عاملا في القضاء على يوغورطة، وحفيده قتل يرباص، وابناه اعانا قيصر وتسببا في انتحار يوبا الاول. واذن نقول: ان على البربر تبعة سقوط تلك الممالك، وهم الذين أعانوا الرومان على بلوغ غايتهم، وان زعماء هذه الطائفة المارجة هم بوكوس وعقبه. غير أنا لا نقول: أنهم تسببوا في السقوط قصدا، وأعانوا الرومان حبا فيهم وبغضا لجنسهم. ولكن نرى أن سياستهم مبنية على الجبن وخشية الرومان، والطمع في بسط

النفوذ وسعة السلطان. أما خوفهم من الرومان ففي غير محله: لان البربر بوطنهم ومعاقلهم الطبيعية أمنع من أن تأخذهم أمة بالقهر والغلبة. وأما طمعهم في التوسع على حساب غيرهم فانما يحققه ويستفيد منه من جمع بين القوة والدهاء والشجاعة. وهؤلاء الملوك لم يكونوا كذلك. ولذالك استغل الرومان أعداؤهم الحقيقيون جهودهم، وقضوا بهم وطرهم. وقد جاء يوبا الثاني بعد سقوط الملك البربري- وهو من الاسرة الاولى- فكان عليه ان يعمل لتجديده وتحقيق ما كان يأمله سلفه. خصوصا وهو يعلم أن قيصر هو الذي قضى على حياة والده، وقسم مملكته يبن أعدائه، وتربى في رومة، ودرس تاريخها. ولكنه رجل انهمك في المعارف وانقطع للعلوم ووقذته الحضارة. فلم تكن له روح مصينيسا ومصيبسا التي جمعت بين العلم والمحافظة على القومية. ولذلك صار يرى لرومة فضلا عليه ان منحته بعض ما كان يرثه من أبيه. فخدمها باخلاص. وهيأ لها الوطن البربري كي يتولى ادارته بنوها من غير واسطة. فكان عصره ومدة ابنه خاتمة لذلك الملك وتتمة لذلك السقوط. أقدم من عرفاه من ملوك بربر الجزائر نرافاس. وكان موجودا سنة (238) ق. م. وآخرهم بطليموس المقتول سنة (40) م. فكان عمر الممالك البربرية العظمى نحوا من ثلاثة قرون. لم ننسب ملوك البربر الى قبائلهم لان الباحثين في هذا الدور من مؤرخي اليونان والرومان الذين أخذ عنهم مؤرخو الافرنج لا عناية لهم بالبحث في القبائل. وانما فعل ذلك مؤرخو العرب. وهم إنما عرفوا البربر ودونوا اخبارهم وفصلوا قبائلهم بعد الفتح على عهد الاسلام.

8 - ذكر العواصم الكبرى لملوك البربر

والظاهر ان القبائل التي ذكرها ابن خلدون بأسمائها وامكنتها لم تكن قريبة العهد من الفتح العربي. بل هي كذلك من قديم. وعليه يمكننا ان نقول: ان أسرة نارفاس- ومنها أكثر الملوك- من قبيلة كتامة. اما صيفاقس وبيت بوكوس فلا يمكننا نسبتتها لقبيلة من القبائل التي ذكرها ابن خلدون: لعدم تحققنا لموضع نشأتهما. 8 - ذكر العواصم الكبرى لملوك البربر علمت مما سبق في هذا الباب ان من ملوك البربر من استولى على جميع التراب الجزائري بل على أغلب افريقية الشمالية، ومنهم من استولى على بعضه؛ ودخل الباقي في حوزة ملك آخر، وقد بلغ أحيانا أن تقاسم هذا الوطن أربعة ملوك. لا جرم تعددت عواصمهم بتعددهم. ولكن لم نعثر- بعد البحث- الا على ما يلي من تلك العواصم: 1 - قرطة (CIRTA) .. وكانت عاصمة نرفاس وأكثر الملوك من بعده. ولا نعلم تاريخ تأسيسها. ولكن من المحقق أن البربر أسسوها على عهد الفينيقيين، وأطلقوا عليها ذلك العلم الفينيقي. ومعناه المدينة (¬1) فسرها كذلك اغسال. هذه المدينة واقعة على جبل حجري مرتفع، يحيط به وادي مساغا (وادي الرمل) من أغلب جهاته … وقد وصفها سترابون المؤرخ الروماني بأنها قلعة ممتنعة على من رامها. وذكر المؤرخ ابيان: ان ¬

_ (¬1) بعض الكتاب يكتبها سرتا، تبعا للنطق الافرنجي. ونحن اخترنا ان نكتبها قرطة- وأت لم نر من كتبها كذلك- لان حرف (C) عربه العرب قافا في مثل صقلية وقيصر وقالوا أيضا: قرطاجنة. وهي مركبة من كلمتين أولاهما قرطا. ومعناها ايضا المدينة.

مصيبسا حصنها تحصينا لا يمكن معه لاحد ان يفتحها عنوة. وقال البكري: ليس يعرف أحصن منها. ويدل لذلك ان يوغورطة عكف على حصارها مدة عامين. ولولا المجاعة ما وجد سبيلا لفتحها. والوندال لم يتمكنوا من فتحها، وهم الذين فتحوا قرطاجنة ورومة. كما سيأتي. استمرت هذه المدينة على عهد الملوك الاولين من البربر في تقدم ورقي من حيث التجارة والبناءات الانيقة والمعارف. فكثر روادها واتسع عمرانها، ثم نقصت من قيمتها وعمارتها كثرة الفتن على عهد هيمصال الثاني. ولما منحها قيصر لستيوس أخذت في النمو. وازدهرت في العصر الروماني بكثرة السكان وسعة العمران وفنون العرفان. وفي أوائل القرن الرابع للميلاد وقعت حرب بين قسطنطين ومكسنتيوس فدخلها هذا الاخير وعاث فيها فسادا بقتل السكان وسبيهم واحراق المدينة. وبعد ان غلبه قسطنطين جدد بناءها، وأعاد على الناس أموالهم، ونشط الفلاحة. فعادت اليها عظمتها وعمرانها. وما زالت شمسها تبزغ وتأفل. وهي لهذا العهد كثيرة المباني واسعة العمران. كل سنة تزداد سعة. ولكن ما زالت لم تبلغ حدودها التي كانت عليها في العصر الروماني. بقي لها اسمها الفينيقي حتى جاء ستيوس فدعيت "مستعمرة ستيوس" يريدون بالمستعمرة المدينة. واطلقت عليها اعلام اخر. ولكن كلها لم تزاحم اسم قرطة ولم تبلغ شهرته. حتى جددها قسطنطين. وكانت له اخت تدعى قسسطنطان. فسمى المدينة باسمهاه وعلق من ذلك الحين هذا العلم بها. وجر ذيل النسيان على ما

2 - صيغة

قبله. وقد خفف العرب هذا العلم فقالوا: قسنطينة. والعامة اليوم تقول قسمطينه. قدر لهذه العاصمة الخلود. فلم تزل منذ تأسيسها الى اليوم عاصمة مملكة أو ولاية. وذلك لحسن موقعها وأهمية مركزها. مما يدل على حذق البربر وفضل اختيارهم في وضع عواصمهم. ولم تزل هيئتها القديمة سواء في أيام عظمتها أو في ليالي انحطاطها الى أن جاءت الدولة الفرنسية فغيرت شوارعها. ورتبت ابنيتها على غير نسقها القديم. ولم يبق الا موضع قصبتها فانه كان منذ الدور البربري القديم قصبة الملوك ودار الحكم. وبذلك ذبت قيمتها التاريخية. واحتيج في استخراج هيئتها الاولى الى جهود كبيرة. وقد رسم تلك الهيئة بارس في كتابه قرطة. 2 - صيغة. هذه المدينة كانت عاصمة صيفاقس قبل ان ينتقل الى قرطة. وهي في ساحل تلمسان على البحر الابيض عند مصب نهر تافنا فيه، من المؤرخين من قال شرقية، ومنم من قال غربية. وهي من مؤسسات الفينيقيين استولى عليها البربر فيما استولوا عليه من المدن الفينيقية بالسواحل. ولما استولى الرومان على موريطانيا اتخذوها مرسى من المراسي التي تنقل منها الحبوب الى رومة. قد خربت وعفا رسمها. وذكر البكري (¬1) مدينة سماها أرشقول غربي مصب نهر تافنا. ووصفها بما يدل على سعتها وعظمتها. غير أنه لم يذكر- كعادته في المدن القديمة- انها أولية. فعلى ان صيغة شرقي تافنا تكون مدينة أرشقول غيرها، وعلى أنها غربية لا يبعد ان ¬

_ (¬1) المغرب 77

3 - يول

تكون أرشقول مؤسسة على انقاضها. ثم وقفت في تاريخ غروت على ان أرشقول هي صيغة. 3 - يول. هذه المدينة من المراسي الفينيقية. أسسها الفينيقيوق. ثم دخلت أيدي البربر. وأول من اتخذها من ملوكهم عاصمة بوكوس الثاني. وعلى عهد يوبا الثاني بلغت مبلغا عظيما من العمران والحضارة. بني بها المباني الجميلة والقصور الانيقة. وآثارها تدل على عظمتها، وعلى أن اليد التي شاد بها يوبا هذه المدينة يد اغريقية افريقية وليست رومانية. وقد اتخذت دار لحفظ تلك الآثار، وصنعت تماثيل على نمطها نقلت الى متاحف أخرى من متاحف الآثار. ولغرام يوبا بكافله اغسطس قيصر نسب هذه المدينة اليه تخليدا لذكره. فسماها قيصرية. وهذا نظير ما يفعله الاروبيون اليوم، ويكثرون منه. فينسبون مدنا وشوارع وحارات الى عظمائهم. يفعلون ذلك بالاوطان التي استولوا عليها اعفاء لعظماء أهلها حتى يصبح المحكومون لهم وليس بين عينهم وفي آذانهم الا رجال غيرهم. وتعرف هذه المدينة اليوم باسم شرشال. ولا أدري متى حدث لها هذا العلم؟ غير ان البكري ذكرها به. وهو من أهل القرن الخامس الهجري. 4 - هبون. ذكر غروت انها عاصمة يوبا الاول. وقد اتخذها جنسريق الوندالي عاصمته قبل ان ينتقل الى قرطاجنة، ثم كانت عاصمة بعض الامراء في العصر الاسلامي. وهي من المؤسسات الاولى للفينيقيين التي يرجع تاريخا الى

اواخر الالف الثاني قبل الميلاد. وقد تصرف العرب في هذا الاسم فدعوها بونة. قال البكري: "ومدينة بونة أولية. وهي مدينة أقشتين (القديس أغسطين) العالم بدين النصرانية. وهي على ساحل البحر في نشز من الارض منيع مطل على مدينة سبوس. وتسمى اليوم مدينة زاوي. وبينها وبين المدينة الحديثة نحو ثلاتة أميال. ولها مساجد وأسواق وحمام. وهي ذات ثمر وزرع. وقد سورت بونة الحديثة بعد الخمسين واربعمائة" (¬1). ولكثرة شجر العناب بها أطلق عليها مدينة العناب حتى صارت تعرف اليوم بعنابة. هذا مما وجدنا من عواصم ملوك البربر القدماء منصوصا عليه. وهناك مدن كثيرة منها ما يحتمل ان يكون عاصمة لبعضهم مثل بجاية وسطيف. ولكنا لم نجد من صرح بأن واحدة منهما كانت عاصمة لملك من الملوك. ومما لا ريب فيه أن هناك عواصم غير تلك الأربع. فاننا نجهل عاصمة يوغورطة قبل ان يفتح قرطة، ونجهل أيضا عاصمتي ماصنتة وعرابيون. ¬

_ (¬1) المغرب ص 54 - 55

____ ـ[صورة]ـ (ش - 21) كليوباترا-سيلين ـ[صورة]ـ (ش- 22) سوما ضروب مقبرة ماسينيسيا

____ ـ[صورة]ـ (ش-23) المدرسان: قبر بربري واسع محاط والذي منه أخذ القبر شكل الهرم

الباب السادس في ذكر الرومان وحكومتهم بالجزائر

الباب السادس في ذكر الرومان وحكومتهم بالجزائر

1 - تمهيد

1 - تمهيد الرومان أمة من اللطتين، ينسبون الى عاصمة دولتهم رومة. وهي مدينة مؤسسة وسط ايطاليا. أسسها- على ما يقول الرومان- روملوس سنة (753) ق. م. وايطاليا جزيرة مستطيلة. الجهة الشرقية منها عديمة السهول والمراسي، والجهة الغربية بخلافها ذات سهول وماس. وهي التي كونت تاريخ ايطاليا. أما جنوبها فقليل العمارة، اتخذه اليونان مركزا ينزلون به في سفراتهم البحرية. وهي متوسطة في العالم القديم: واقعة بين عالم الشرق المتمدن، وعالم الغرب المتوحش. وكان سكانها أهل حراثة وقيام على المواشي. ثم تعلموا الملاحة والتجارة من بعد. وكان بها أمم مختلفة لا صلة لها بعضها ببعض. وعلى أيدي الرومان تكونت الوحدة الايطالية، حيث أسسوا حكومة ملوكية، اختلف في بدايتها. ودامت الى سنة (509) ق. م ثم خلفتها الجمهورية. وفي عهدها تمكن الرومان من حماية أنفسهم فمدوا أعينهم الى غيرهم من الامم قصدا للتوسع وسعيا وراء الثروة ولذة النفوذ.

2 - أصل الرومان

حاربوا قرطاجنة معلمتهم المدنية حروبا طوالا يشيب لهولها الولدان، وانتصروا عليها أخيرا بما إمتازوا به من نكث العهود وخيانة الشرف. وأخذوا في فتح البلدان واستعمار الاوطان، حتى ملكوا جل المعمور في القرنين الثاني والاول (ق. م). فبسطوا نفوذهم على افريقية الشمالية تدريجا، وعلى مصر والشام واليونان ومقدونيا وجرمانية والغاليا والأندلس. أصبحت دولتهم سيدة العالم القديم. واقتبسوا من الامم التي استولوا عليها أصول المدينة: أساليب الحضارة وفنون العلوم. وجروا في ذلك إلى مدى بعيد، حتى أن أروبا اليوم لم تزل تقتفي أثرهم في الاستعمار، وتستمد من نظمهم وسياستهم، وتبحث عن أسباب فوزهم وعلل خيبتهم. ولموقع وطنهم الجغرافي دخل كبير فيما بلغوه من عظمة وسعة سلطان. وبعد الجمهورية جاءت الامبراطورية. فتمكنت من حفظ سيادتها على العالم الروماني، حتى انقسمت أواخر القرن الرابع للميلاد. ومن ذلك الحين أخذت المملكة الغربية تضعف وتتلاشى حتى سقطت سنة (476) للميلاد. وذلك بما نال أهلها من بطر النعمة وسعة السلطان. فانغمسوا في الملاذ واشتغلوا بالملاهي. فضعفوا عن القيام بأعباء الملك. وقد قال كاتب روماني: "ان انتصارات رومة هي علة سقوطها". 2 - أصل الرومان كانت تقطن ايطاليا في فجر التاريخ أمم مختلفة. منها الغاليا والاتروسك والاغريق واللطين. وموطن اللطين بين الاغريق والاتروسك. وكانت هذه الامة متوحشة، وأهل الجبال منها أصحاب

3 - تأسيس دولة الرومان

مواش، وأهل السهول فلاحون. ومن هؤلاء الفلاحين ظهرت الدولة الومانية. وذكر ابن خلدون: ان اللطين من يافث بن نوح. وذكر في أبناء يافث يونان وماغوغ. ثم اختلف نقله في نسبة اللطين الى يونان أو ماغوغ: فنقل عن اهروشيوش مؤرخ الرومان: "ان القوط واللطين من ماغوغ" (1) ونقل عن الاسرائليين ان يونان "كان من الولد أربعة. وهم: داوود بن واليشا وكيتم وترشيش. وان كيتم من هؤلاء الاربعة هو ابو الروم: والباقي يونان" (2) والروم عنده هم الرومان. وليس من فرق بينهما من حيث اللصل. وذكر في موضع آخر ليونان خمسة ابناء. وسماهم هكذا: " كيتم وحجيلة وترشوش ودودانم وايشاي" (¬3). وفي النص الاول تحريفة يظهر صوابه من النص الثاني. ذلك انه قال أولا: داوود بن واليشا. وقضيته ان يكون أبناء يونان ثلاثة فقط. وقال ثانيا: دودانم وايشاي. فايشأي هو اليشا، ودودانم هو صواب كلمة داوود بن. وبذلك يتم عدد الابناء أربعة كما قال. وكلمة ترشيش او ترشوش عنده قريبة من كلمة الاتروسك عند مؤوخي الافرنج. وهم يقولون: ان الاتروسك أمة مجهولة الاصل واللغة. فان صح حمل الكلمتين على أمة واحدة- كما يظهر لنا- كان الاتروسك اخوان اللطين. ويقربه الجوار. والله أعلم. 3 - تأسيس دولة الرومان تاريخ ابتداء الدولة الرومانية غير واضح. قال ماليت ¬

_ (1و2) ج2 ص10 (¬3) ج2 ص184

والمؤرخون يعتمدون على ما كتبه تيت ليف (TITE-LIVE) الذي كان على أغسطس قيصر متصلا بآخر حياة الجمهورية. هذا المؤرخ ينسب تأسيس الدولة الرومانية الى روملوس باني رومة. وينسب روملوس- تبعا لاساطير الوثنيين- الى الآلهة. ويذكر في نشأته ونشأة أخيه ريموس خرافات، أضربنا عنها صفحا لبعدها عن الخيال المستحسن، وان لم يتفق مع الحقيقة. وعد ماليت لرومة سبعة ملوك. خامسهم هو الذي أدخل الى رومة شعار ملوك الاتروسك: الجبة الحمراء والتاج والكرسي وسيف المملكة، وسادسهم هو أول من تنبه الى طبقة الصعاليك. فادخل قسما منها في الجندية. وقد كانوا كمية مهملة. وطبقة الاشراف هي التي تقوم بحميع شؤون المملكة. وسابعهم ثارث عليه الامة. فالتجأ الى المعبد، ولكنه قتل به. وفي ابن خلدون تصريح بان رومة أسسها روملوس. ولكن الدولة مؤسسة من قبله بكثير. وعد ملوكا تقدموا روملوس. ويظهر من كلامه ان الدولة أسست أثناء الالف الثاني (ق. م). وذكر ابن كريون مؤرخ بني اسرائيل: انه جاء بعد روملوس خمسة ملوك. "أغتصب خامسهم رجلا في زوجه. فقتلت نفسها. وقتله زوجها في الهيكل" (¬1). فاتفق ماليت وابن خلدون على ان آخر ملوك رومة قتل بالمعبد. وبه انتهى الدور الملوكي. وذلك سنة 509 (ق. م). وصار نظام رومة جمهوريا من ذلك الحين. قال ابن خلدون عن ابن كريون: "واجمع أهل رومة على أن ¬

_ (¬1) ج2 ص197.

لا يولوا عليهم ملكا. وقدموا شيوخا ثلاثمائة وعشرين. يدبرون ملكهم. فاستقام أمرهم كما يجب، الى أن تغلب قيصر"، (¬1). وشكل الجمهورية يتألف من قنصلين وشيوخ. 1 - القنصل: ومعناه منفذ الاحكام. ينتخب لمدة عام. وللقنصلين رئاسة الجند ومجلسي الشيوخ والشعب. ولهما النظر في القوانين وعرضها على المجلسين. وهما اللذان يقيمان الاحتفالات الدينية. فهما رئيسان في الدين والسياسة. 2 - الشيوخ:. يختارهم القنصل من رؤساء الاسر الشريفة. ومن اختير لهذا المنصب يبقى به مدة حياته. وبيد الشيوخ السلطة على الشؤون الداخلية والسياسة الخارجية. ومن نظام الجمهورية انه في أيام الشدة يسمي القنصلان متصرفا يمنحانه النفوذ المطلق. فينفذ أحكامه من غير مراجعة مجلس الشيوخ. ويسمي لمدة ستة أشهر فقط. وقد اتسعت ممتلكات رومة على عهد الجمهورية. فبلغت ولايتها سبع عشر: عشر ولايات بأروبا، وخمس بآسيا، واثنين بأفريقية. لم تكمن تقصد الجمهورية الرومانية إلى التداخل في عوائد مستعمراتها ودياتنها. وانما تقصد منها الانقياد لدولتها واداء الضرائب لبيت مالها. ولقد كان نظام الجبايات مضرا بالمستعمرات. فقد كانت الجمهورية تسند استخلاص الضرائب الى أعيان اغنياء، يؤدون لها ماتريده. وهم يستخلصون من الأمة ما شاءوا من غير مرحمة ولا شفقة. حتى أن المعدم يقرضونه بالفائض ليأدي لهم ما يطلبونه منه. وبهذه الصفة انتزعت املاك وافتقرت أسر. ¬

_ (¬1) ج2 ص197.

فشا الجور والارتشاء في جميع ولاة الرومان. واصبحت غايتهم الوحيدة هي الحصول على الثروة بأية وسيلة. ولم تتبق الوضائف مسندة الى مستحقيها. وحدثت برومة نفسها أهوال من تنافس العظماء. وصارت القوانين ضعيفة أمام ذلك كله. ساءت من ذلك حال الامة. ولم تجد في الجمهورية ما يحسن حالها ويخفف من ويلاتها، فاجتوتها، وتواطأ على اجتوائها أهل رومة وأهالي الولايات التابعة لها. وبينما الأمة في انتظار الفرج لهذه الازمة اذ ظهر يوليوس قيصر. وحاول تغيير شكل الحكومة بجعلها امبراطورية. فقام في وجه الجمهوريون، وانتصر عليهم بايطاليا ثم أفريقية ثم الاندلس. ولما عاد من الاندلس سنة (45) ق. م سمي برومة متصرفا مستبدا مدة حياته فحارب الجمهوريين بالسياسة كما كان حاربهم بالسيف. واضعف نفوذ مجلس الشيوخ، فصار مجلس استشارة فقط. وكان عددهم سبعين في نقل ابن خلدون عن هروشيوش أو (320) في نقله عن ابن كريون أو (300) على ما ذكر ماليت، فاضاف اليهم. يوليوس قيصر شيوخا من أهل الولايات التابعة لرومة. فبلغ عددهم (900). فرحت الامة بيوليوس قيصر لحسن ادارته وكفاءة ولاته. ولكن الجمهوريين كانوا ناقمين عليه. وتمكنوا من قتله في مجلس الشيوخ نفسه سنة (44) ق. م. وكان الجمهوريون يظنون أن في ذهاب قيصر رجوع نفوذهم. ولكن الامة كرهت سياستهم، وسئمت من الفتن التي كانت على عهدهم، واستبشرت بقيصر ووجدت فيه بغيتها، فزادها قتله نفورا من الجمهوريين.

وكان من قواد قيصر رجل يدعى أنطونيوس، وله شهرة ومحبة في قلوب العامة، فقام على الجمهوريين، وهيج العامة ضدهم. وكان لقيصر ابن أخ (أو ابن أخت) متبنيه يدعى اكتافيوس، وكان بأثينا يتعاطى المعارف، وهو حدث شديد الحماس داهيه في السياسة، فتظاهر باللين للجمهوريين، حتى ظنوا انه يكون لهم عضدا على انطونيوس، فأخذوا ينصرونه في خطبهم، ويطعنون في انطونيوس وبعد أن توصل الى رئاسة جند كبير طلب الى الشيوخ أن يولوه قنصلا فامتنعوا. كان انطونيوس ينتصر لقيصر كي يحل محله، فلما ظهر اكتافيوس حسده، وكادت الحرب تقع بينهما، ولكنهما اصطلحا وضما اليهما ثالثا هو لبدوس، وكان واليا على الغاليا، اقتسم هؤلاء المملكة بينهم لمدة ثلاث سنوات، ووافقت الأمة على ذلك بالانتخاب العام، وذلك سنة (42) ق. م. ثم أن انطونيوس ذهب الى مصر التي كانت له، واستهوته كليوباطر (¬1) فشغل بها عن الملك. وصار ينوي احداث مملكة شرقية يورثها ابناء عشيقته، وبذلك زالت ثقة الرومان منه، ولبدوس جعل رئيسا دينيا، فبقي اكتافيوس يدير مملكة رومة وحده، لا ينافسه الا انطونيوس صريع تلك الغانية وفاقد ثقة الامة. نجح اكتافيوس في سياسته، وأراد انطونيوس الظهور عليه بالحرب، فحاربه ولكنه لم ينجح فقتل نفسه سنة (30) ق. م وفعلت كليوباطر فعله (¬2) فاستراح اكتافيوس من عدوه، ثم قضى على ¬

_ (¬1) يسميها ابن خلدون كلابطرة. (¬2) وبموتها انقرض ملك آل بطليموس من مصر. وقد كان تولاه بطليموس الاول سنة (323) ق. م. تولاه بطليمولر ألاول سنة (3231) ق. م.

4 - ديانة الرومان

الجمهورية التي عاشت خمسة قرون، وقال ابن خلدون: عاشت سبعة قرون. في سنة 27 ق. م لفظت الجمهورية النفس الاخير، وسمي اكتافيوس امبراطورا، وتلقب اغسطس، واستمرت الدولة الرومانية من عهده امبراطورية، ومعنى امبراطور صاحب الامر. والجزائر لم يستول عليها الرومان استيلاء عسكريا الا على عهد الامبراطورية. 4 - ديانة الرومان للرومان آلهة عظمى عامة، وآلهة صغرى خاصة بالاسر أو المنازل، فكانوا يعبدون القوى الطبيعية والنار المقدسة والموتى من أسلافهم، وعبادة الموتى هي العبادة الخاصة بالاسر، ويعتبرونهم آلهة خير ما نشطوا لعبادتهم، وقربوا لهم القرابين، وان هم قصروا في ذلك انقلبوا آلهة شر، ويمثلون أرواحهم في الديدان، فيطعمونها الفول الاسود. ومن آلهتهم العظمى جوبتير (كوكب المشتري)، وهو إله المطر، ومنها جونون، وهي الهة النور والزواج، ومنها منيرف، وهو إله الفطانة، ولهذه الثلاثة برومة معبد مشترك بينها، ويعتقدونها حامية رومة. وهناك آلهة للحرب والبحر والمعادن والفلاحة والتجارة والاخلاق وغير ذلك، ويبلغ عدد آلهة الرومان مائة وستين الها. أولئك الآلهة يستغيثون بها ويستعينونها في جميع شؤونهم. وهم أكثر الامم اعتناء بالآلهة، فقدم كان ببعض معابدهم ثلاثين الف

5 - الحياة الرومانية

ثمثال، حتى قال أحدهم: "وطننا مملوء آلهة حتى أن وجود اله أيسر علينا من وجود رجل". ولم يكن للديانة الرومانية حقائق واصول للعبادة، وانما كانت ذات أعمال مثل تقريب القرابين، وغايتهم في العبادة الاستعانة على النصر أو الاستعانة لتصريف المصائب. ولم يكن لآلهتهم أولا تماثيل، ثم تأثروا بالاغريق، فصاروا يتخذون لها تماثيل في صور بشرية. وعلى كثرة آلهتهم اضافوا اليها آلهة أخرى مما وجدوه لدى الامم التي استولوا عليها، فأخذا من آلهة المصريين وأهل آسيا الصغرى، ولم يدعوا الها من آلهة الاغريق الا عبدوه. وكان علماء الرومان يرون ان الارباب المختلفة باختلاف الامم ليست الا مظاهر لأصل رباني عام. لذلك لم يأنفوا من عبادة آلهة الامم المغلوبة لهم، ولم يلزموها بعبادة آلهتهم. وقد اشتهر الرومان بالتسامح الديني والتساهل في شأن الآلهة. 5 - الحياة الرومانية كانت الحياة الرومانية - منذ عرف الرومان الى القرن الاول للميلاد- حياة بساطة لا رفاهية فيها، حتى أن من عظمائهم من كان يحرث بيده، وأكثر أثاث عظمائهم بسيط وأوانيهم من خشب. تمكنت روح البساطة منهم فلم تتغير حالتهم حتى بعد استيلائهم على الاوطان الكثيرة الغنية بنتائجها الراقية في حضارتها. فبقوا فلاحين أو جنديين أو سياسيين لا تجارا ولا فنيين، وبقيت الصنائع والفنون بيد غيرهم من الاحرار والمماليك.

كان غرض الرومان من الحياة توسيع الثروة حبا في المال نفسه. ومن كلمات كاطون أحد عظمائهم: "ان من مات والفي بدفاتر حاصلاته انه ربح أكثر مما ورث فذلك ملهم من الآلهة " (¬1). ولكثرة اشغالهم وشدة عنايتهم بكسب الثروة صاروا اقل الامم حبا في الملاهي وابعدعا عن التظاهر بالعظمة. ملابسهم كانت خشنة: يلبس الرجل السراويل وقميصا سابغا بأكمام وبغيرها. ونساؤهم يكثرون من الحلي وضروب الزينة كصبغ الشعر وطلاء الوجه، ويخرجن سافرات، ويلبس كل من الرجل والمرأة خفافا غلاظا. وللخاصة لباس يميزهم: الشيوخ لهم قمصان ذات حواش حمراء، والقضاة لهم خفاف حمر، والاحرار لهم حلة من الملف الابيض، وهي رداء غير مربع، يبلغ طوله نحو تسعة أذرع. ولم يزل الرومان على بساطتهم في اللباس حتى ان الامبراطور قليغولة غار من لباس بطليموس ملك موريطانيا البربري وبهت منه العامة، وافضت الغيرة الى الانتقام بالسجن ثم القتل، فمات بطليموس شهيد لبسته! ومساكنهم كانت خشبية مطينة، ثم ترقو قليلا فبنوها بالحجارة، ولم تكن لها نوافذ لعدم معرفتهم لصناعة الزجاج. وعلى خلوها من النوافذ كانت ضيقة متقاربة، والانهج غير واسعة ولا منظمة، والنظافة قليلة، والضوء معدوم ليلا. وكانت لهم بناءات عمومية، وهي أرفع من بناء مساكنهم. ¬

_ (¬1) ماليت ص330

6 - الرومان في افريقية

لم يزل الرومان كذلك على بساطة حياتهم حتى فتحوا البلدان. واستولوا على الأمم، وأقاموا بين ظهرانيهم، وطالت معاشرتهم لهم. اذ ذاك تأثر الغالب بالمغلوب وجاراه في حياة النعيم والرفاهية. وفي الحقيقة ان المغلوب لا يؤثر في الغالب، وانما أثرت تلك الامم في الرومان لانهم مغلوبون لها في العلم والحضارة. أخذوا عن اليونان وأهل المشرق الملابس الرقيقة. وزينوا البيوت بالتماثيل والرخام والحجارة النفيسة، وفرشوها بالزرابي. وأكثر ما تأثروا في حياتهم بالاغريق، ومع ذلك لم يأخذوا عنهم فنهم في البناء. ولم تزل آثار البناءات الرومانية دالة على فقد الذوق اللطيف للرومان، وهي تمتاز بأنها عظيمة ذات أقواس. بسيطة ليس فيها تحسين. 6 - الرومان في افريقية انتهت الحرب البونيقية الثالثة بالقضاء على مملكة قرطاجنة وتخريب تلك العاصمة وحلول الرومان محل القرطاجنيين، فاستولوا استيلاء فعليا على التراب الاصلي لقرطاجنة، وأطلقوا عليه اسم "مملكة الرومان بافريقية" وجعلوا على هذه المملكة أو الولاية واليا مقره عوتيقية. وهذه الولاية عبارة عما بين وادي توسكا (ناحية طبرقة) شمالا، ومدينة تينة (جنوب صفاقس) جنوبا. وخطها الغربي من جهة نوميديا غير مستقيم فانه يمر من توسكا حتى يقترب من قفصة ثم ينحني حيث ينتهي في تينة قرب البحر. فهي عبارة عن جزء غير كبير من عمالة تونس. ولم تكن تطمع الجمهورية الرومانية اذ ذاك في توسيع هذه

الولاية وبسط نفوذها الفعلي على الشمال الأفريقي، لعلمها بشجاعة البربر وحماسهم في الدفاع عن وطنهم، وجهلها بدواخل هذا الوطن، فاكتفت باعتراف ملوك البربر بالسيادة الاسمية ريثما تلين قناتهم، وتضعف شوكتهم. وكانت، الجمهورية لما فتحت قرطاجنة بعثت عشرة من الاعيان لينظروا مع سبيون في مصير قرطاجنة، فاتفق رأيهم على هدم ما أبقاه الحريق منها فتركوها قاعا صفصفا كان لم تغن بالامس، ولعنوا باسم آلهتهم موضعها، ولكنهم بعد قليل اضطروا لتجديدها. وذلك ان ايطاليا ضاقت باهلها بسبب استحواذ طبقة الاغنياء على أراضيها وجلب العبيد لخدمة تلك الاراضى، ويقال: ان عدد هؤلاء العبيد بلغ ثلاثة ملايين. وأصبح عدد عديد من الايطاليين لا اراضي لهم يستغلونها ولا عمل يشتغلون به، حتى انه كان برومة أكثر من اربعمائة الف لا عمل لهم غير الجولان بالازقة. وكان كايوس انتخب للمحامات عن الشعب سنة (123) فاقترح - لرفع هذه الازمة- ارسال جاليات من أولئك الفقراء من المال والعمل الى الولايات الرومانية. وكان روبريوس من محامي الشعب ايضا فاقترح سنة (120) ق. م، تجديد قرطاجنة وارسال طائفة من فقراء الشعب لتعميرها. قبل الشيوخ اقتراحه، وعين كايوس لتنفيذه، فجاء الى قرطناجنة بستة آلاف ايطالي، ومكث في تجديدها ثلاثة أشهر، وحينما تم تجديدها اطلق عليها اسم "جونونيا" تبركا باسم جونون وجعلت هي حامية قرطاجنة. وكما ان هدهم لمدينة قرطاجنة لم يذهب بها وحييت من جديد

7 - استيلاء الرومان على الجزائر

كذلك تغييرهم لاسمها فان تسميتهم لم تزاحم الاسم الفينيقي، وابى الله الا أن يبقي الاسم الاول هو المعروف المشتهر. نهضت قرطاجنة من جديد وقصدها الرومان بالهجرة، وانضموا الى بقية العساكر الرومانية التي استوطنت أفريقية، وبما انهم نسخوا القرطاجنيين وحلوا محلهم استفادوا من علاقات القرطاجنيين مع البربر، فانبثوا في مدن الولاية الأفريقية ونوميديا، وانتصبوا فيها للتجارة والصناعة، فتمكنوا بذلك في أفريقية. 7 - استيلاء الرومان على الجزائر بعد واقعة طبسوس سنة 46 (ق. م) استعمر الرومان شرقي نوميديا واطلقوا عليها اسم أفريقية الجديدة أو نوميديا الحديثة، ومنحت نوميديا الوسطى (قرطة والمدن التابعة لها) لستيوس. واطلق عليها اسم "مستعمرة ستيوس". ولعل الرومان أرادوا أن يجعلوا حكم شتيوس لنوميديا الوسطى دور انتقال يسهل عليه اضافتها الى مستعمراتهم من بعد، ولكن عرابيون قتل ستيوس فحرم الرومان من هذه المستعمرة. واصبحت من بعد ذهاب المملكة البربرية ولاية رومانية لها أنظمتها وادارتها، متمتعة بالاستقلال حتى أن من المؤرخين من يعبر عنها بالدولة ومنهم من يعبر عنها بالجمهوربة. اما نوميديا الغربية (قسم سطيف) فقد بقيت بيد عرابيون البطل البربري. والظاهر ان رومة اضافتها الى مستعمراتها بعد قتله. وأما موريطانيا الشرقية فقد بقيت بيد امراء بربريين آخرهم

بوكوس الثالث المتوفي سنة 33 (ق. م). وبعد وفاته ألحقها الرومان بمستعمراتهم، وجعلت تحت نفوذ اكتافيوس مباشرة، وأراد ان يغرس بها الحضارة اللطينية. ولكنه خشي شدة شكيمة البربر، فلم يعجل بتنفيذ برنامجه، وتظاهر للموريطانيين باللطف والمجاملة حتى وجد رجلا من بني جنسهم ولكنه مخلص لرومة، فولاه على موريطانيا سنة 17 (ق. م). هذا الرجل البربري الروماني هو يوبا الثاني الذي مهد وطنه لسادته الرومان وشجعهم على امتلاكه بعد ما حاولوا ذلك منذ أزمان، واشرأبت أعناقهم اليه فلم يقووا على تحقيق آمالهم فيه. وهكذا لولا الخيانة الجنسية من بعض الروساء وضعف الغيرة القومية من الامراء ما حكم أجنبي وطنيا ولا ساد غريب أهليا. في سنة (42 م) بحد قتل بطليموس ألحقت موريطانية برومة نهائيا. وبذلك تم للرومان الاستيلاء على الوطن الجزائري الذي شرعوا في تحقيقه منذ سنة 46 ق. م فكانت مدة سير استيلائهم ثمانية وثمانين سنة. ومع بطء هذا السير فانه لم يكن ثابت القدم عاما على الوطن الجزائري فان الرومان لم يتقدموا لهذا العهد الى الصحراء، وخط حدودهم يقترب من البحر كلما تقدم ناحية الغرب. وتوجد داخل الحد أماكن غير خاضعة لرومة منها جمهورية المدن الخمس: قرطة، ميلوم، روسقاد، شولو، قويقلوم. ولم تدخل في فوضى الاستعمار الروماني الا منذ انحل اتحادها أواخر القرن الثالث. ومنها القبائل الخمس (القبائل) الذين كان الرومان يسمون وطنهم "جبل الحديد" (MONS FERRATUS). ولم يتمكن الرومان من اخضاعهم الا سنة (297). وأكثر البربر

8 - حدود حكومة الرومان بالجزائر

الساكنين بالجبال لم يخضعوا لرومة. ومن خضع منهم لا يضيع فرصة الثورة مهما سنحت. وخلاصة الكلام ان الرومان لم يستولوا حقيقيا على كل الوطن الجزائري رغم امتداد ايامهم به. وسترى ما ينير لك الحقيقة. 8 - حدود حكومة الرومان بالجزائر كان من عادة الرومان أن يحدوا ما يفتحون من البلدان اما بحدود طبيعية أو صناعية: فيحدون بالجبال والاودية أو ببناء جدران أو حفر خنادق وجعل كثبان من الرمل أو التراب خلفها. وذلك اتقاء لهجمات الهاجمين وحفظا لمستعمراتهم ان تروج بها بضائع أجنبية وهم لا يشعرون. وقد كان حد حكومة الرومان بالجزئر في القرن الاول للميلاد يمر شمال أوراس ويجتاز سهول سطيف ومجانة الى سور الغزلان ثم يتوسع قليلا فيمر بالبرواقية وساحل شلف ويجتاز وادي ميناس الى ناحية غليزان ووادي سيك. وفي غربي وهران يقترب جدا من البحر وينتهي بمصب نهو ملوية. وبعد حين اضطر الرومان الى تقديم الحدود جنوبا. وكانت لهم مراكز عسكرية على الحدود. وبعد سنة مائة بقليل تقدمت مراكز الحراسة إلى الجنوب، وأحاطوا جبل أوراس الممتنع عليهم بالحصون. ولم يتم لهم فتحه الا أواخر القرن الثاني. وفي بدايه القرن الثالث كان الحد الروماني مارا جنوب أوراس وشاطئ وادي جدي الايمن ثم يصعد شمالا فيمر وسط جبال الزاب ويقطع وادي الشعير حيث القاهرة، والمظنون أنه يمر بناحية بوسعادة

9 - جند الاحتلال

ويشتمل على الحضنة من جهتها الغربية، ثم يذهب الى قرب سور الغزلان جنوبا، ويمر ببوغار وتيهرت وتلمسان وللامغنية. وقد يكون للحرس الروماني نقط حربية خلف الحدود، وقد تقدموا بها في بعض الجهات الى الصحراء حتى أن منها ما كان على الاغواط بثلاثين ميلا. ولم يدخل الرومان الصحراء الا في عمالة قسنطينة دخلوها من ناحية أوراس. أما عمالتا الجزائر ووهران فليس للرومان فيهما الا الجهات التلية المعبر عنها بموويطانيا القيصرية، وبقيت الصحراء في منجاة من تسلط الرومان. ذلك لانهم أولا ليسوا بأمة صحراوية حتى يقدروا على فتح الصحراء أو تشتد رغبتهم في فتحها، وثانيا لم تكن الجهات التلية خالصة لهم فلم يكونوا مطمئنين منها حتى يغرروا بانفسهم في الصحراء. 9 - جند الاحتلال اعتمدت رومة في فتح الشمال الأفريقي على ثلاثة أشياء: 1 - السياسة الملعونة: فقد كانت تذكي نار المنافسة بين ملوك البربر، وتعمل لتفرقة المملكة الواحدة بين الامراء المتنافسين، واضعاف الغيرة القومية بمحاربة ابطالها. 2 - الاستعانة ببعض البربر ضد الآخر: فان سياستها لما راجت على بعض رجال البربر من ملوك وأمراء صاروا يخدمونها ويعينونها على اعدائها أحباء الاستقلال. وكلما أرادت رومة رجلا بربريا يخدم مصالحها لم تعدمه، لان الشعوب لا تخلو من خونة. فكان لرومة ملوك وأمراء بربريون مصافون لها أو مغترون بسياستها أو خائفون

من عظمتها. وقد استفادت رومة من سياستها تلك واعانة بعض البربر لها فوائد لا تقدر الجيوش الجرارة على تحقيقها، بيد أنها لم تفز بها الا بعد أزمان لان مطامعها في الجزائر ابتدأت منذ عصر مصينيسا ولم تستول عليها ذلك الاستيلاء المثقوب الا بعد بطليموس. 3 - الجند الروماني: فان رومة مهما اضطرت للحرب جاءت بجنودها والجندي الروماني معروف باخلاص الطاعة والصبر على الاتعاب. ولم تحتج رومة في فتح الوطن البربري الى جيوش كثيرة لانها لم تجد أمامها جيشا منظما تنظيم جيشها الا في حرب زامة وحروب يوغورطة وتقفاريناص. ولم تكن لتأمن وثورات البربر لا سيما واستيلاؤها على الوطن الجزائري غير عام ولا ثابت الاركان. فاتخذت حامية بتبسة تراقب البروقنصلية (تونس) ونوميديا (قسنطينة)، وحامية لمراقبة موريطانيا الشرقية (الجزائر ووهران) وموريطانية الغربية (مراكش). أما حامية تبسة فتدعى "الفرقة الثالثة الاغسطية" نسبة الى اغسطس قيصر. وكان بها ستة آلاف جندي وفي رواية (5500) وهذه هي الفرقة الكبرى وهناك فرق أخرى مشاة وفرسان يبلغ جميعها نحو ثلاثة عشر الفا، وهذه الفرق مدد لتلك الفرقة. وتلك الفرقة الثالثة رومانية من خيرة جنود رومة، وبها كثير من الغاليا، وبعد حين صار الرومان يعلمون البربر ويجندونهم. ومنذ الثلث الثاني من القرن الثاني استغنت رومة بجنود البربر عن جلب الجنود من الخارج الى الفرقة الثالثة، فصارت هذه الفرقة متركبة من جنود البربر وابناء قدماء الجنود الرومانية.

واما الفرق الصغيرة فكانت ايضا تجلب من الخارج، وبقي الامر كذلك حتى بعد دخول البربر في الفرقة الثالثة. وفي سنة (122) نقل الامبراطور هدريان مركز الفرقة الثالثة من تبسة الى لمبس. وفي أيام ديوقلطيانس صارت لمبس قاعدة عسكرية للجنوب النوميدي. وبطول عهد هذه الفرقة ودخول البربر فيها وكثرة الاضطرابات برومة نقصت طاعتها لرومة، وقد تعارض في امبراطورية بعض، وتؤيد بعضا. والغيت سنة (238) وعوضت بالفرقة الثانية والعسرين. وأما حامية الموريطانيين فكان عددها نحو خمسة عشر الفا. وهي من البربر المخلصين لرومة. فمجموع جيش الاحتلال بتونس والجزائر ومراكش نحو (34000) ليس به من الجنود الرومانية غير نحو (8000). الجنود الرومانية تحارب وقت الحرب وتشتغل بالفلاحة حين السلم. يسمح القانون الروماني للجندي بالزواج، وكانت لهم مرتبات حسنة. والمتقاعد يعطى كفايته ويسكن قرب المركز الذي كان به، ويمنح اراضي وحيوانات يقوم بخدمتها، ويعفى من الضرائب لكن بشرط أن يحل أحد من أبنائه محله. وبهذه الطريقة أصبحت الحدود عبارة عن مستعمرات من الجند تحول دون غارات الهاجمين. وكان خط الحدود مقسما إلى أقسام كل قسم تحت حراسة ضابط. وفي حوالي سنة (200) اذن الامبراطور سبتمس سورس للجنود

10 - النظام الروماني بالجزائر

بالبقاء مع أزواجهم خارج المراكز العسكرية بصفة مستمرة. فصارت تلك المراكز اما مواضع لتمرين الجند واما مختزنات للسلاح والمؤن. ولحسن ذلك النظام في حفظ الحدود بقي الحد الروماني الذي بلغوه في القرن الثالث بحاله رغم الثورات المتعددة داخله. واستمر غير متأثر بما يجري داخل المملكة حتى سقط الحكم الروماني من الجزائر. 10 - النظام الروماني بالجزائر علمت ان استيلاء الرومان على الجزائر كان تدريجيا وغير ثابت الاركان. لذلك لم يستقر النظام الروماني بالجزائر على حال. كان ما أخذه الرومان من نوميديا- على عهد يوليوس قيصر- تحت ولاية سالوست. وبقيت نوميديا كذلك لها واليها غير والي البروقنصلية، ومن هؤلاء الولاة سكستيوس نائب اكتافيوس، واخيرا تغلب على والي البروقنصلية واضافها الى ولايته. ثم عزل على عهد اكتافيوس نفسه وجعل مكانه فانغو على نوميديا خاصة، وولي هو على البروقنصلية، فوقعت بين هذين الواليين معارك انتهت بانتصار سكستيوس وقتل فانغو نفسه. وأصبح هذا المنتصر هو الوالي الوحيد بجميع ممتلكات رومة بأفريقية. ثم في عهد امبراطورية اكتافيوس ايضا سمي يوبا الثاني على نوميديا. ثم نقل منها الى موريطانيا سنة (17) واضيفت نوميديا الى البروقنصلية وحعلتا تحت عامل يسميه مجلس الشيوخ. وفي سنة (37م) على عهد غليقلا تركت البروقنصلية على نظامها العثيق وجعلت نوميديا ذات وحدة ادارية يرأسها ضابط عسكري في

رتبة عضو بمجلس الشيوخ. وهذا الوالي يخاطب رومة من غير واسطة. وهو تحت نظر الامبراطور ويلقب ليغاتوس. وفي سنة (42) قسم الامبراطور قلوديوس الجزائر الى قسمين: نوميديا من طبرقة شرقا إلى مساغا غربا، وموريطانيا القيصرية من مساغا شرقا الى ملوشات غربا. وجعلت موريطانيا القيصرية تحت نظر الامبراطور يسمي بها العمال ولهم تفويض في الادارة. وكان لنائب الامبراطور بموريطانيا القيصرية مرتبا يقدر بنحو اربعين الف فرنك. وقد كان بالشمال النوميدي مدن مستقلة كما كانت جبال جرجرة ممتنعة عن الرومان. وفي سنة (297) بعدما انحلت الصلة بين هذه الجمهوريات، وعمت بها الفوضى، وتغلب ديوقلطيانس على جبال جرجرة حدث تغيير في نظام الحكومة الرومانية بالجزائر فقسمت الى أربعة أقسام: 1 - نوميديا القرطية (وهي الشمال النوميدي) قاعدتها قرطة. 2 - نوميديا العسكرية (وهي الجنوب النوميدي) قاعدتها لمبس. 3 - موريطانيا السطيفية (ما بين مساغا وصلداي) قاعدتها سطيف. 4 - موريطانيا القيصرية (ما بين صلداي وملوشات) قاعدتها قيصرية. ولما ثبتت قدم قسطنطين بامبراطورية رومة أحدث سنة (323) تغييرا في الولايات الامبراطورية، فقسمها ثلا ثة أقسام كبرى: ولاية ايطاليا، ولاية الغاليا، ولاية المشرق. وجعل تونس

والجزائر تابعتين لولاية أيطاليا، وتداران من طرف واليها المقيم برومة. وهذا الوالي تحته وزراء: وزير للمالية ووزير للاملاك الدولية ووزير للحربية، وكلهم برومة ولهم نواب يمثلونهم بأفريقية: فكان للوالي يمثله قنصل افريقية، ووزير الحربية يمثله: 1 - كونت افريقية، ولم 16 قائدا على الجنود المرابطة بالحدود الجنوبية والفرق المتنقلة (الكونت: عين من الاعيان). 2 - دون موريطانيا القيصرية وله 8 قواد. وقد تكون بيد السلطة المدنية (دوق: شريف). ولم تكن هذه التقاسيم مبنية على اعتبارات جغرافية، وانما نظر فيها الى المصالح الحربية، ولذلك تغيرت حسب الظروف. وبما ان الاستيلاء الروماني لم يكن عاما فقد كانت المدن تنقسم الى قسمين: مدن تحت السلطة الفعلية للرومان، ومدن لم تتمكن منها اليد الرومانية. والاولى كانت على ثلاث درجات: 1 - مدن رومانية: هذه معتبرة كوطن روماني، أهلها يتمتعون بكل الحقوق الرومانية، ينتخبون ومعفون من الضرائب. 2 - مدن بلدية (MUNICIPES). هذه لها كل الحقوق الرومانية ما عدا الانتخاب. 3 - مدن لطينية: لها حرية التجارة والتملك، وليس لها حق الانتخاب والاعفاء من الضرائب، وانما هذان الحقان لخصوص المتقاعد من حكامها. والثانية كانت على ثلاثة أقسام أيضا: 1 - مدن معتبرة حليفة للرومان. 2 - مدن حرة. 3 - مدن معفاة من الخراج.

وهذه الاقسام للنوع الثاني من المدن تختلف ادارتها: فمنها ما هو محافط على شكل الادارة البونيقية لها حكام وقضاة ومجالس من الاعيان، ومنها ما هو تحت رؤساء بربريين يعينهم الامبراطور ويمنحهم رداء يدعى "رداء الولاية" وقد يعطيهم اعانات ويوجب عليهم حراسة ما بجوارهم من الحدود. وقد تسمح رومة لبعض هذه المدن بانتخاب مجالس بلدية. ورئاسة الرؤساء البربريين على بني جنسهم وراثية ويدعون اما عمالا أو أمراء، وقد يلقبون انفسهم بلقب ملك. اما المدن الرومانية فكانت تنتخب كل سنة حكامها. وهؤلاء الحكام يتصرفون في مالية البلدة ويقومون بإصلاح القناطر والطرق والبناءات العمومية ويقبضون المغارم ويسهرون على حفظ الامن العام ويقضون بين الناس. والى جانب الحكام مجلس بلدي يعينهم ويراقب أعمالهم ويشترط في العضو بهذا المجلس ان يبلغ ثروة محدودا أقلها قانونا، وان يدفع للميزانية البلدية من ماله قدرا من المال. ولا مرتب له. وأعضاء هذا المجلس ضامنون في مالية البلدة التي يتصرفون فيها. واذن فادارة المدن كانت بيد طبقة مثرية قليلة العدد. وكان نطاق أكثر البلديات واسعا جدا: بلدية هبون (بونة) كانت تمتد غرب المدينة ثلاثين ميلا، وشرقها خمسين ميلا. وكانت للامبراطور ورجال من أعيان الشيوخ أملاك واسعة مستقلة عن تراب البلديات. يقوم بحفظ تلك الاملاك وكلاء عن اربابها. والوكيل على أرض هو الحكم على من بها والقائم بحفظ الامن فيها. ولسكان تلك الاملاك نواب يختارونهم للدفاع عن حقوقهم.

11 - جمهورية المدن الخمس

وبهذا تعلم ان الدولة الرومانية لم تكن تتداخل في ادارة شؤون الجزائر الداخلية، ولا مكثرة من المتوظفين الذين لا فائدة فيهم غير اثقال كاهل الميزانية. بل انها تركت الدوائر البلدية وشأنها تدير أمورها بنفسها، ولم تتخذ من الموظفين الا العدد القليل للقيام بالشؤون الهامة. وكان الوالي لا يتداخل- بصفة قانونية- في شؤون المدن الرومانية الا في الخصومات المدنية الهامة والجرائم، فهو الحكم في ذلك، وله مراقبة المالية. 11 - جمهورية المدن الخمس كانت قرطة عاصمة الملوك النوميديين منذ القرن الثالث قبل الميلاد. وقد اعتنى بها بعض أولئك الملوك فرقوها ترقية عالية. ميلوم (ميلة) وروسقاد (سكيكدة) وشولو (القل) وكويكلوم (جميلة)، هذه المدن يقول عنها المؤرخ بلين: انها كانت أولا قلاعا حربية، وأخذ عمرانها يتسع حتى أصبحت في عهد طرياناس امبراطور رومة (98 - 117م) شبيهة بقرطة. وكانت هذه المدن تحت الملك النوميدي. وبعد واقعة طبسوس انفصلت تلك المدن الخمس عن بقية نوميديا حيث ان يوليوس قيصر منحها لستيوس يستعمرها بجيشه المتركب من الاسبان والايطاليان. واشترط عليه أن يقطنها الرومان. وفي أوليتهم من نصره في حرب أفريقيه من الجنود. ومن ههنا سماها بعض مؤرخي الرومان "مستعمرة ستيوس". انفصل من عهد ستيوس هذا القسم الواسع الخصب من نوميديا فلم يصر مرتبطا بها في السياسة والادارة حتى أن يوبا لما ولي على نوميديا لم يعرف له نفوذ بهذا الشمال النوميدي.

وقد كانت قرطة هي العاصمة لهذا الشمال، وتلك المدن الاربع تابعة لها وجزء منها. ومن القرى التي كانت تابعة لقرطة في النظام والحكم: ثيدي (الخنق)، ارسقال (عين الكرمة)، مستار (عين بني زياد)، وزيلي (وجل)، صدار (عين الباي)، سيلة (سيقوس). وعلى القرى رؤساء منخرطون في سلك متوظفي قرطة، وقد استقل بعضها على عهد سبتمس سويرس وخصوصا على عهد قراقلا. وبعد استعمار الرومان لهذا الشمال النوميدي بقليل ظهرت تلك المدن الاربع بفضل انتشار العمران، وأصبحت تضاهي قرطة. وأخذت نظاما داخليا مستقلا مع بقائها متعلقة بقرطة. وكانت جميلة دون بقية المدن الاربع. بل قليلا ما تضاف اليهن. وسبب امتياز هذا الوطن عن بقية نوميديا واختصاصه بنظام صار به كمملكة مستقلة انه كان تحت رئاسة ستيوس ناصر قيصر ومغلبه على اعدائه الاقوياء الكثيرين. وسبب اتحاد قرطة وميلوم وروسقاد وشولو انه حدث خلاف بين سكان هذه المدن الاربع على بعض الاراضي أيام أغسطس قيصر. وكان القرطيون قد أعانوه على عدوه ومنافسه انطونيوس، فكانت لهم بذلك عليه يد. فلما رفعت صورة الخلاف اليه لم يشأ أن ينصف أهالي المدن الثلاث من أهالي قرطة، ولكنه أصلح بينهم وعقد لهم محالفة رباعية، وجعل لكل مدينة ادارة شؤونها الداخلية على أن يكون لقرطة فضل الاشراف على الجميع. فكل مدينة تضرب الضرائب وتجبي الغرامات وتصرفها في مصالحها، ولكن رئيس قرطة هو

المراقب لاعمال سائر المدن، ويساعده في بعضها مجلس بلدي، وفي بعضها مجلس من المتوظفين حيث لم يكن لها حق الانتخاب. وتدار هذه المدن المتحالفة على ايدي رجال تنقسم وظائفهم اربعة أقسام: 1 - الرجال الثلاثة (تريومفير). لهم من النفوذ ما لقناصل رومة وينتخبون لمدة سنة فاتحتها يوليه. والمترشح يعلن قبل الانتخاب مباديه، ويرأس جلسة الانتخاب من الرجال الثلاثة المنتخبين سابقا أكبرهم سنا. وهذا الرئيس ينظر في المترشحين واستيفائهم للشروط. ويعلن بقبول اجراء انتخاب المستوفي لها. ومن انتخب لا يقبل تسليمه. والرجال الثلاثة يتولون قيادة الجيوش وفصل النوازل بأنفسهم أو بمن يقيمونه نائبا عنهم، وبيدهم نظام الادارة بأسره، وكونهم ثلاثة هو الغالب. وقد يبلغ عددهم أحيانا خمسة أو سبعة أو عشرة أو خمسة عشر أو عشرين. وهم اما من أعيان الرومان أو ممن كان قنصلا برومة. 2 - رجال الشرطة (الايديل). وظيفتهم الخاصة بهم مراقبة البناءات العمومية والحمامات الدولية ودخلها والمحافظة على نظافة الشوارع وجلب الحبوب الى المدينة وتشكيل الحفلات ومراقبة الامن بالاسواق والموازين والمكاييل وتأديب المعتدين بالجلد أو بالتغريم. ويرأس هذه الوظيفة رجلان يضع كل منهما خمسة آلاف ضمانا. 3 - وزير المالية. يقوم باستخلاص المغارم، ويقدم لرجال الشرطة المال عند عروض داع اليه. وهو الرئيس الاعلى لادارة المالية. ولا يوجد ما يدل على انه كان ملزما بوضع ضمان عند توليته.

4 - العمال. كانت وظيفتهم في بلدان الجمهورية ما عدا قرطة. وهم بمثابة الرجال الثلاثة في قرطة. والظاهر ان يكون منهم لكل مدينة واحد. وينتقل العمال في المدن الثلاث من واحدة لاخرى. وهناك متوظف غير من سبق يلقب "كورتور" (CURATUR) يسميه الامبراطور. وقوة نفوذه تابعة لقوة نفوذ الامبراطور في البلد الذي سماه فيه. ولم يكن للامبراطور قوة في هذه الجمهورية الا بعد انحلالها ومجيء البيزنطيين. فصارت وظيفته اخيرا قبض الخراج والقيام بجل الوظائف البلدية. وكما كان لسياسة هذه الجمهورية رجال كان لديانتها أيضا رجال، وهم أقسام: 1 - القائمون على الهيكل بذبح قرابينه وتقديمه لناره. واقدارهم مختلفة باختلاف عظمة الهيكل القائمين عليه. ولا يكون القائم على الهيكل الا من بيت شريف. ويعتبر هو وذريته وماله وقفا على خدمة ذلك الهيكل. 2 - المراقبون للاعمال الدينية أينما كانت ما عدا القرابين التي هي أهم تلك الاعمال. 3 - العرافون. يتولون افراخ الدجاخ لزجرها ومعرفة الحوادث الغيبية منها. ويتفرسون أيضا في الضحايا، نظير ما يوجد اليوم في بعض الافراد من خصوصية معرفة الحوادث بالنظر في عظام أكتاف الحيوانات. فهي من بقايا الوثنية. 4 - المرشدون. يقومون بارشاد العامة الى رجوه عبادتها. وكل كبير أسرة يعتبر مرشدا لاسرته. وهذا في نفسه حسن، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "فالرجل راع على أهله وهو مسؤول عنهم".

ولعنايتهم بالسياسة عنايتهم بالدين كانت دار الامارة حيث هيكل الاله العظيم "جوبتير". ومكانها بموضع القصبة اليوم. وهي بذلك الموضع من لدن الملوك النوميديين. قال بارس: "وهي معمورة بالذخائر. وقد وجدت قطع رخامية تشتمل على حصر تلك الذخائر، عثر عليها عندما أراد الأتراك بناء قشلتهم (¬1). وقيمة هذه الذخائر مناسبة لما كانت عليه قرطة من الثروة والرفاهية". ثم أخذ في تعدادها. ولكثرتها اكتفينا بالاشارة اليها محيلين محب الاطلاع على أشخاصها على كتاب قرطة (CIRTA) وقد كان السكان في هذه الجمهورية على طبقتين: أهل الحقوق وغيرهم. الاولون هم من كانت لهم حقوق أصالة أو وراثة أو منحتهم بلديتهم ذلك تشريفا لهم أو تبناهم أهل الحقوق أصالة. والاخيرون هم الاجانب الذين استقروا بوجه نهائي بمدينة من المدن. وهناك طبقة لا حقوق لها أصلا وهم الاجانب الذين يحلون بالمدينة حلولا مؤقتا من تجار وطلبة علم وعابري سبيل. وفي كل خمس سنوات يعاد تقييد أهل الحقوق وضبط أملاكهم وتجديد النظر في المغارم. وكانت الطبقتان كلتاهما تتحملان الواجبات البلدية على السواء. وتختص الطبقة الاولى بأن عليها واجبات: 1 - القيام بالبريد والطرق 2 - استخلاص الغرامات واداؤها. 3 - نفقات الوفود التي توجه الى رومة. 4 - ترميم المعابد البلدية. ¬

_ (¬1) القشلة سكن الجنود. وليست عربية.

5 - التبرع على المشاريع البلدية، مثل التمثيل. القائمون بهذه الواجبات متمتعون بالحقوق السياسية تماما. وينتخب منهم في كل عمارة عشرة. ثم يجتمع هؤلاء المنتخبون في مجلس أعلى يكون هو الممثل للامة، فيتولى جميع شؤونها من تسمية وعزل. وأصحاب هذا المجلس أنفسهم على طبقات مرتبة حسبما يلي: 1 - طبقة الديكريون. يختارهم الحكام (الرجال الثلاثة) من أماثل المنتخبين. 2 - طبقة العظماء. وهم من كان عضوا بمجلس الشيوخ أو قائد جيش بلغ درجة تسمح له بالركوب. 3 - لجنة الاعضاء الخمسة. وهم من كان له مرتبة أهل الطبقة الثانية غير انه لم يكن من العظماء السادة. 4 - العرافون. 5 - رجال الشرطة. 6 - أمناء المال البلدي. ويشترط فيمن يكون عضوا بهذا المجلس زيادة على كونه من أهل الحقوق: 1 - أن يكون نظيف السيرة. 2 - أن يكون ذا مال يختلف تقديره حسب القانون الاساسي. 3 - أن يكون عمره (30) سنة ثم خفض الى (25). وظيفة الديكريون يمنحه صاحب طول حياته ما دام حائزا على شروطها. وعددهم غالبا مائة وقد يزيد أو ينقص. ومنهم قسم يحافظون على الاعمال الدينية وعددهم اربعة عشر. ولكون هذه الطبقة أعلى طبقة بالمجلس لا يصح شيء من أعماله الا بحضور عدد منهم. وأعمال هذا المجلس هي:

1 - تسمية التوظفين على اختلاف طبقاتهم بعد انتخاب الامة. 2 - منح لقب "مولى" (السيد) لمن كانت له أعمال جليدة اشتهر بها. 3 - تهيئة أعضاء الوفود التي ترسل الى رومة للاعراب عن جور بعض الولاة. 4 - تعيين من يرأس جمعية الديانات الاجنبية. 5 - تجهيز الجيوش عند الاقتضاء. 6 - تعيين مقادير التبرعات الدينية. 7 - تحديد مقادير الضرائب البلدية. 8 - تنظيم الحالة المالية. 9 - محاسبة من كلف بشأن عام من طرف المجلس. 10 - تعيين لجنة تشتغل ببيان دخل المدينة وخرجها. 11 - النظر في البناءات هدما وتعميرا. 12 - الامر بمطالبة من هو مدين للمدينة. 13 - تعيين أيام المواسم. 14 - الامر بالالعاب العمومية مع تكليف من يتولى تنظيمها. 15 - الحكم النهائي فيما يتعلق بتحرير الارقاء وأرش التعديات. 16 - امداد أهل الوظائف الخاصة بالنفوذ. هذا نظام جمهورية المدن الخمس السياسي والديني، قال بارس (VARS) في كتاب قرطة: "وقد كانت قرطة قرار نظام كاد يكون منفردا في امبراطورية رومة" (¬1). وكانت علاقة هذه الجمهورية مع امبراطورية رومة أشبه شيء بعلاقة الحامي مع المحتمي بأشرف معنى للحماية. بل عبر عنها بعضهم بمملكة. وكان مبعوثوا الامبراطور للتجول في هذه الجمهورية واستطلاع أحوالها لا يتخذون شعارا ¬

_ (¬1) ص4.

يميزهم. ولم يكن للامبراطور يد في نظام هذه الجمهورية الداخلي مدة اتحادها. ولحسن هذا النظام عاش السكان تحته عيشة راضية وترقى الوطن ترقيا عظيما وارتفع شأنه في الحضارة والعمران. وتقدمت به العلوم والفنون والآداب. ونحن نثبت أبياتا قالها صائغ بقرطة لتنقش على قبره وهي باللطينية، وهاك تعريبها من غير تصرف: "أنا المستحيل علي الكلام الآن أقص عليك حياتي في هذه الابيات: تمتعت طويلا بالضوء النير وكنت "برسليوس" الصائغ بقرطة صفاء طويتي يضرب به المثل وكنت دائما صادق القول كان ما عندي للجميع ومن ذا الذي لم أشفق عليه دائم الابتسام تمليت دواما مع أحبائي في حياة مترفة وبعد وفاة العفيفة الصاحبة "فليريه" لم أجد مثلها واحتفلت- بكل احترام- مائة مرة بعيد ازديادي ولكن أتى اليوم الاخير الذي فيه تغادر الروح الجثمان البالي وهذه الكتابة التي أنت قارئها قد هيأتها أثناء حياتي لمماتي التي أتاحها لي الحظ. وطالما رافقتي ولم يهملني فاقف أثري واتل سبيلي على ما كانت عليه ثم ائتني فها انا ذا منتظرك هنا". بلغ الناس في هذه الجمهورية مبلغا عظيما من البذخ والرفاهية حتى حدثت قرى صغرى وطلبت نوعا من الاستقلال. فاعانها على

ذلك قياصرة رومة تفريقا للكلمة وحبا في النفوذ والاستبداد بالحكم وكان رجال الوظائف بعكس العامة ذهبت ثروتهم بسبب ما كان يثقل كاهلهم من النفقات البلدية. فوجد قياصرة رومة في بذخ العامة وفقر الموظفين سبيلا للتدخل في اشقاء هذه الجمهورية. فصاروا يفرقون كلمتها بتلبية طلبات القرى الطامحة الى الاستقلال. ويضعفون نفوذ مجلس الأمة بتعيين الموظفين القيصريين مكان من عجز من أهل الوظائف البلدية عن القيام بمأموريته لفقره حتى اضمحل المجلس ووزعت أعماله على نواب القياصرة وعمالهم. وكان انحلال الاتحاد بين المدن في القرن الثالث. فان ميلوم كانت تنازع قرطة في سيادتها وتجاريها في عظمتها حتى استقلت عنها وضمت اليها روسقاد وشولو. وآخر من تولى رئاسة هذه المدن الثلاث رجل يدعى كمودس (COMMODUS) أصله من ميلة وكان أحد الرجال الثلاثة بقرطة أيام اتحاد المدن. فلما استقلت ميلة عن قرطة وجمعت اليها تينك المدينتين تولي هذا الرجل رئاسة المدن الثلاث بميلة. بعد انحلال ذلك الاتحاد وتداخل اليد القيصرية ساءت الاحوال ونقص العمران وارتفع الامن. وما أصدق قوله تعالى: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} وبقيت قرطة لحصانتها محافظة على عظمتها حتى أن الوندال لم يقووا على فتحها. وكان بها كنيسة عظيمة للمسيحيين تخرج منها قسوس كثيرون منهم دنتوس الذي أحدث في المسيحية مذهبا نسب اليه وضاد به الكنيسة الكاثوليكية وفاز عليها في جميع التراب الجزائري.

12 - الحياة الرومانية بالجزائر

بقي لقرطة اسمها واستقلالها حتى ذهب الاثنان على يد قسطنطين سنة 312. 12 - الحياة الرومانية بالجزائر كان بالوطن الجزائري على عهد رومة طائفة من الرومان الا أنها قليلة، ويوجد به عدد من الاجانب غير الرومان الا أنه قليل جدا. قال بيروني: يوجد بأفريقية في سنة (200) نحو 200 أو 250 ألف روماني. وفي سنة (400) تقريبا بلغ عدد الرومان نحو مليونين أو مليونين ونصف الى ثلاثة ملايين. وهذا أكثر احصائية للرومان بأفريقية". واحصاء بيروني هذا يريد به رومان طرابلس وتونس والجزائر ومراكش. ومعلوم اق الاستعمار الروماني كان بطرابلس وتونس أوسع دائرة وأثبت قدما. وكلما تقدم الى الغرب ضاق نطاقه وقل تأثيره. وإذا نقول ان حظ الجزائر من ذلك الاحصاء قليل، وهو بعمالة قسنطينة أكثر منه بعمالتي الجزائر ووهران. قرطة كان بها عدد من الايطاليان من عهد مصيبسا. ولما استولى ستيوس عليها وما يتبعها من الشمال النوميدي ترك بتلك النواحي جنودا بعضها من ايطاليا وبعضها من اسبانيا. وقد علمت ان يوليوس قيصر اشترط عليه أن يفتح أبواب مملكته في وجه الرومان ومن كان معه في حروب أفريقية. ولما اعتلى عرش رومة اكتافيوس الملقب أغسطس وجه جاليات من الرومان الى موريطانيا: بعضها الى قرطنه (تنس) وبعضها الى رسقونيا (مطيفو) وبعضها الى روصازو (أزفون) وبمفها الى صلداي (بجاية) والى أجلجي (جيجل) والى زكبار (مليانة) والى تبوسكتو (تكلات). ثم أرسل الى هذه المدن عساكر أكثرهم ايطاليون.

وعلى عهد قلوديوس (41 - 54) ووسبسيان (69 - 79) أو نربا (96 - 98) تكونت جاليات أخر من قدماء الجند في "أبدوم نفوم" (المدينة الحديثة وهي وادي الدفلة) وفي مدوروس وفي سيطيفس. وقد كان أكثر الرومان بالجزائر من أبناء قدماء الجند. علمت سابقا أن الحياة الرومانية بايطاليا كانت في غاية البساطة والسذاجة: شظف في العيش وتقشف في الملبس وكد في العمل. وقد نقلنا لك- الفصل الخامس - كلمة كاطون منهم فيمن يوجد بتركته انه ربح أكثر مما ورث. وفيها ترى شدة عنايتهم بالثروة وعجز وطنهم عن الوفاء برغبتهم، حتى صار يرى هذا الرجل ان سعة الثروة المكتسبة ليس لها طريق يفضي اليها البشر بفكره، وانما ذلك الهام من الالهة خارج عن متناول العقول البشرية. ان أمة هذه حالها لجدير بها ان تترامى على الاوطان الخصبة بكل ضراوة، وخليق بها أن تجد في تلك الاوطان ليل نهار لتثأر من الثروة التي عزت عليها في وطنها. لذلك لما حل الرومان بالجزائر استولوا على كثير من الاراضي وقاموا بخدمتها أحسن قيام فمنحتهم أحسن النتائج، فراشوا بعد الفقر وبذخوا بعد الشظف وأصبحت الحياة غير الحياة. بنوا المنازل الشاهقة ووسعوا نطاق المدن التي حلوا بها. فكانت قرطة تشتمل على مدينتين: داخلية يحيط بها سور، وخارجية وهي أوسع نطاقا. ومساحتها تمتد غربا الى جنان الزيتون ومقبرة الاسلام، وجنوبا غربيا الى قشلة باردوا، وشمالا الى ضفة وادي الرمل الشمالية. قال بارس: "وذكر أبطات قديس ميلة: أنه كان ملاصقا لقرطة حارة عظيمة تدعى "موغاي". والظاهر انه المعروف اليوم بسيدي المبروك، وتمتد هذه الحارة الى ناحية المنصورة"،

الى ان قال: "بضواحيها نزلات متقطعة. وقد عثر على آثار بعضها بناحية الحامة). وقد مر أن ميلة والسكيكدة والقل وجميلة كانت قرى صغيرة، ثم أصبحت مدنا عظيمة. ومن القرى التي عظمت على عهد الرومان وصارت مدنا: باغاية، مسكولة (خنشلة) لمبس، تمغادي، فتيرانروم (ديانة قدماء الجند) لمصبة (بالشمال الغربي من أوراس) جميلي، باديي (بادس). والمدن التي كانت بالخط الصحراوي إنما رفع عمرانها الجند، لان الجندي الروماني إذا لم تثسغله الحرب فهو عامل نشيط. والغرض من تأسيس المدن قرب مراكز الجنود المرابطة على الحدود المحافظة على تلك المراكز وتأمينها من روعات الهجمات الصحراوية. والمدن الرومانية تنقسم خمسة أقسام: 1 - المدن البحرية وهي تجارية. 2 - المدن العسكرية يسكنها الجنود، ولها أزقة واسعة. 3 - المدن الفلاحية، أكثر من يسكنها البربر العملة في أراضي السادة الرومانيين. 4 - عواصم أولية وثانوية، سكنها كبار الولاة، وبناؤها أفخم وخيراتها أكثر وعمرانها أوسع. 5 - مدن النزهة، وهي لاصطياف الاسر العظيمة. ومن هذه المدن جميلة. قال بيروني: كانت المدن الرومانية على غاية من الرقي في الحياة والعمران. تيمغادي كان بها من السكان (35) الف: وأكثر المدن يبلغ عدد سكانه نحو عشرة آلاف، أو خمسة أو ستة الى ثلاثين الفا. كل ذلك على سبيل التخمين. ولكل مدينة هيكلها

الوثني أو كنيستها المسيحية. ولها أسواق وحمامات. ومنها ما فيها المراسح للتمثيل والملاعب لمصارعة الحيوانات الضارية. ____ ـ[صورة]ـ (ش-17) مسرح تيمغاد ____ والبريد سائر بين المدن. ومواقع المدن يراعى فيها وجود الماء ومناعة المكان. المباني الرومانية ممتازة بالعظمة غير أنها خالية من الدقة وجمال الفن. وفي كل مدينة ساحة عمومية للاجتماع تدعى: "الفوروم". وكان من عادة الرومان إذا أرادوا تعمير مكان خطوا به خطين أحدهما من الشرق الى الغرب والآخر من الشمال الى الجنوب، ثم يجعلون شكلا مربعا حول نقطة التقاء الخطين، ويتخذون ذلك المربع ساحة للقرية (فوروم). ويحيطون هذه الساحة بدكاكين وأقواس جميلة. والساحة هي المحل الذي تقام فيه الحفلات وتجري به الانتخابات وتقرأ به على الأمة القرارات.

13 - الحياة البربرية تحت السلطة الرومانية

ومن محال الاجتماع عندهم الحمامات. ولهم عناية بها. قال بارس: "وكان بقرطة قرب دار الامارة التي هي المعبد العظيم حمامات عظمى. عرف آثارها سائح انكليزي ووصفها وذلك سنة 1742 وماء الحمامات معدني". ومن المباني التي يعتنون بشأنها المراسح والملاعب والهياكل الدينية. قال بارس: "وكل طريق توصل الى كنيسة محفوفة بالتماثيل يمينا وشمالا، علاوة على ما في الكنيسة". وقد عبث الدهر بتلك المباني الرومانية على عظهمتها. فلم يبق منها غير خرابات أكثرها مستور بطبقات التراب. قال غروت: "ولم يزل الباحثون يستكشفون مدنا تدهش أهل القرن العشرين". 13 - الحياة البربرية تحت السلطة الرومانية مر بك في الباب الخامس ما ينير امامك الحياة البربرية قبل الاحتلال الروماني ويكفي للملم بسعادة البربر اذ ذاك ان تعلم أنهم مستقلون، ورومة تخطب ود ملوكهم وأمرائهم. اما بعد الاحتلال الروماني فان الحياة البربرية تختلف درجة سعادتها ودركة شقاوتها على نسبة النفوذ الامبراطوري: فالجهات التي يضعف فيها ذلك النفوذ أو ينعدم تكون سعيدة، والجهات التي يتمكن منها تكون حياة البربر بها حياة العبيد. قال بيروني: "ان الادارة الرومانية لم تكن متحدة في جميع المستعمرات ولا في أقسام أفريقية نفسها، وذلك لاختلاف أنظار القياصرة في التشريع وفيما يناسب نفوذهم على الطائفة التي تحت حكمهم".

انتزع الرومان من البربر جل أراضيهم وأثقلوا كاهلهم بالضرائب وأدخلوهم في الجندية ولم يحفلوا بحقوقهم الطبيعية. 1 - أما الاراضي البربرية فانها في الاصل اما مملوكة لملوك البربر واما مملوكة للشعب. فلما جاء الرومان أخذوا كل ما كان مملوكا للملوك والامراء. فاختصت الحكومة ببعضه، ووزعت بعضه على الرومان الاصليين، ومنحت بعضه قدماء الجند. وما كان مملوكا للشعب بقي لاربابه مع ضرب الخراج عليهم. ومن ثار عليهم منهم انتزعت أملاكه وتصرفت فيها الدولة بوجه من الوجوه السابقة. وبطول المدة استولى الماليون من الرومان على أراضي البربر. ومن الرومان من كانوا يكترون من البربر الى آجال، ولهم أن يجددوا عند انتهائها، وبفضل العدل الروماني كان المكتري الروماني أسعد من المالك البربري. قال بيروني: "والمالك الاهلي إنما هو عامل مجبور على العمل طبعا لا قانونا. وحالة العملة سيئة جدا لا تنصفهم الحكومة في شيء". ولكل أرض عدد من العملة يبتاعون معها. والرومان يعتبرون سادة لهم. وبطول الامد أطلق عليهم لقب "مماليك". وقال غروت: "ان الرومان ألزموا البربر بالعمل في أراضي المعمرين تحت قوانين ثقيلة". 2 - واما الضرائب فانها من أهم مقاصد الاستعمار الروماني، وهي- وان كانت مختلفة المقادير- متحدة في كونها فادحة. وتنقسم أربعة أقسام: 1 - الاداء الشخصي: وهو واجب على الرجل والمرأة. ومقداره مختلف.

2 - الاداء على العقار: وهو اما عين أو حبوب. وفي الغالب يكون العشر من حاصل الفلاحة. حتى ان الجابين يسمون العشارين. 3 - الاداء على التجارة الخارجية: وهو واجب على السلع المنقولة من عمالة الى أخرى. 4 - سخرة ادارية: منها تموين الجند واسكانهم. وقد تكون منها كسوة بعض رجال الشرطة. وكانت الدولة الرومانية لا تتولى استخلاص الضرائب، وانما تسندها الى أعيان يتولونها، هؤلاء المستخلصون كانوا يسمون "العشارين" تتفق معهم الدولة على مقدار يؤدونه لها من مالهم، ويجبون من الاهالي ما يشاؤون. ولهم جنود يستعينون بها على قبض الضرائب حتى انهم فيخروجهم للاستخلاص أشبه شيء بالخارج للغزو. ولقد كان ضرر العشارين بثروة الشعب فادحا جدا وأشهر أبطال الضرر الخراجي الامبراطور غلاريوس. فانه زاد في الضرائب على الاهالي. قال مرسيي: "فصار يقيد أسماءهم ذكرانهم وأناثهم وصغارهم وكبارهم، ويضبط أموالهم. واتخذ لذلك الجواسيس حتى صارت المرأة تسعى بزوجها والولد يسعى والده. فتغيرت لذلك قلوب البربر عليه. ولم يبق له صديق غير الجنود لكونهم معفيين من الضرائب". 3 - واما التجنيد فقد كانت رومة تجند من البربر وتنقلهم خارج وطنهم: تنقل فرسان نوميديا الى أروبا الشمالية (المجر، جرماني، بلجيكا)، وتنقل المشاة الى ضفاف النيل. ترسل جنود البربر الى الخارج وتأتي الى الوطن البربري بجنود أجنبية. ومنذ أواخر القرن الثاني استغنت بجنود البربر المقيمين في أفريقية عن

الجلب من الخارج. وعندما تدعو الضرورة الى الاستزاد في الجيثس تطلب الحكومة من رؤساء البطون البربرية مددا نظير ما يعرف اليوم "بالقوم". 4 - واما الحقوق فقد كان الرومان- سواء القادمون من إيطاليا أو من مستعمرات أخرى- لهم التفوق المطلق على جميع السكان، والبربر عندهم متساوون في فرض طاعة رومة عليهم واعتبارهم- كوطنهم- أداة لسعادتهم: يستغلون أرضهم الخصبة وابدانهم القوية. فكل ما كان للرومان من خدمة الاراضي للفلاحة وضخامة البناء للفخفخة والنزهة فهو على حساب الجهود البربرية. وكانت حالة البربر على عهد الجمهورية أتعس منها على عهد الامبراطورية. ذلك بأن الجمهورية كانت في آخر دورها، فالولاة إنما كانوا يعملون لانفسهم لا للدولة، فتضاعف جورهم وكثر تعديهم. وفي عهد الامبراطور طريانس (98 - 117) كان الولاة بأفريقية يبيعون الحق بالاثمان وفشا فيهم الجور، ذلك بأن هذا الامبراطور كان مشتغلا بحروب بعيدة عن افريقية. ضج الاهالي من سوء سيرة الولاة ورفعوا عقيرتهم بالشكوى الى رومة. وكان بها علماء أهل انصاف فأيدوهم وحكموا بأحقية مطالبهم. ولكن الحكومة لم تقض بغير عزل والي افريقية مريوس برسكوس. وفي سنة (193) تولى سبتموس سويرس أمبراطورية رومة. وهو بربري أصله من طرابلس. فاعتنى بافربقية كثيرا وترك بها آثارا لم تزل الى اليوم. وكانت حاشيته وحرسه أكثرهم أفريقيون وبالغ في الاحسان الى أبناء جنسه حتى أنهم ربما تحدثوا بلغتهم في مجلسه الامبراطوري. قال مرسيي:

"وترقى الأفريقيون على عهده وظهرت مواهبهم المدهشة برومة في الجندية والمحاماة. ولم يهمل البربر هذا الاحسان بل اعترفوا به، واحبوا الامبراطوس حبا جما بحيث لم تقع ثورة أيامه. ولما مات اتخذوه الها". وبعد سويرس جاء ابنه قراقلا وسار سيرته وقابله البربر بالمعروف وبقي اسمه منقوشا على الاحجار. قال مرسيي: "وفي سنة (216) أصدر قانونا بحرية البربر ومنحهم كل الحقوق التي للرومان. فصارت أفريقية ذات طبقتين فقط: الاحرار والعبيد. ولكن هذا القانون لم ينفذ. فلم يستفد منه البربر بل أضر بهم واستفادت منه الدولة الرومانية. بهذا القانون التحق البربر بالرومان في الواجبات الدولية من خراج وتجنيد، وبقوا كذي قبل في الحقوق السياسية". وهكذا القانون العادل إذا لم يجد ولاة عادلين ينفذونه انقلب أداة شر على الشعب. فعلى الأمة التي ساقها القدر إلى أن تكون تحت رحمة أمة أخرى- اذا رأت منها قوانين غير ملائمة لحياتها واستصدرت قوانين عادلة- ان تستصدر ولاة عادلين، ولا تكتفي بمراقبة الاحاكام عن مراقبة الحكام. وإذا كان لبعض الاباطرة احسان الى البربر فان أكثرهم أساءوا اليهم. ولم يكن لاساءتهم من مصدر سوى التخلق بالجور أو حب الانتقام من قوم نصروا مترشحا الى الامبراطورية رجاء عدله، فتغلب عليه منافسه. وإذا أجملنا لك في هذا الفصل سيآت الرومان اباطرتهم وولاتهم وملاكهم فان البربر يفصلون لك ذلك بما تقرأه عن ثوراتهم وما كانوا يقتحمونه لها من خسارة الانفس والاموال.

14 - الثورات بالوطن البربري

14 - الثورات بالوطن البربري ان التاريخ الجزائري على عهد الرومان مملوء ثورات وحروبا. وذلك لعدم ملائمة العنصرين: الحاكم والمحكوم بعضهما لبعض في العوائد والاخلاق، مع ما للعنصر الحاكم من التفوق والاستبداد على ابن البلاد الذي رضع الحرية من اسلاف أمجاد. لقد كان للامن وجود في العصر الروماني غير ان عمره قصير ولم يستمر سنين طوالا الا في شمال نوميديا بفضل نظامها الخاص على عهد الاتحاد القرطي. ومنذ انحل هذا الاتحاد صار الوطن الجزائري متشابها في قلة الامن وكثرة الفتن. ويمكننا أن نقسم الفتن بهذا الوطن إلى ثلاثة أقساء: قسم كان بيد ولاة رومانيين تطلعا الى الامبراطورية أو تحزبا لبعض الاباطرة على بعض، وقسم كان على أيدي الغائرين من البربر الذين لم تنلهم عاهة الاحتلال سواء خارج الحدود أو داخلها، وقسم كان على أيدي البربر الذين لم يرتضوا الحكم الروماني تطلعا للاستقلال أو تطلبا للعدل. 1 - اما القسم الاول فمنه ثورة قلديوس مصير. كان واليا على أفريقية وثار على نيرون، وقطع على رومة حبوب أفريقية، وبعد وفاة الامبراطور نيرون (68) خلفه غلبا فبادر بقتل هذا الوالي واستعان عليه بوالي موريطانيا ألبنوس. وبعد تسعة أشهر من امبراطوريته قتل فخلفه أتون فكانت مدته نحو ثلاثة أشهر ثم تولى الابراطورية ويتليوس، فثار عليه ألبنوس المتقدم وجمع جنوده وقصد بها الاندلس، ولكنه قتل وخضعت جنوده للامبراطور ويتليوس. ومنه ثورة كابليان والي موريطانيا. وذلك انه في سنة (235)

قتل مكسمينس الامبراطور الاكسندر سويرس وانتصب مكانه فلم يرتض ذلك رومان قرطاجنة وأعلنوا بامبراطورية واليهم غرديانوس وانضمت اليهم الفرقة الثالثة. فسار والي موريطانيا ضد غرديانوس لفائدة مكسمينس، وهجم على نوميديا بعساكر كثيرة ومنظمة غاية النظام، ودخل قرطاجنة فنهبها وعاث في أفريقية فسادا. ومنه ثورة سبيانوس والي أفريقية. وذلك انه بعد قتل مكسمينس سنة (238) نصب مجلس الشيوخ مكانه غرديانوس الثالث حفيد الاول. فثار عليه هذا الوالي سنة (240) ولقب نفسه امبراطورا. وكان والي موريطانيا من حزب غرديانوس. فتحارب هذان الواليان وامد غرديانوس تابعه. فانتصر والي موريطانيا وبلغ أن حاصر قرطاجنة، ولم تسلم منه الا بتسليم سبيانوس اليه. وقد قاست رومة أهوالا شديدة من جراء التنافس على العرش الامبراطوري وقضت قرنا في الفوضى (192 - 270). والجزائر مرتبطة بها فكان لها نصيبها من تلك الاهوال والحروب في عصر الفوضى وغيره. 2 - وأما القسم الثاني فمنه غارة برابرة المغرب على عهد انطونان (138 - 161). هجم هؤلاء المغاربة على المستعمرات الرومانية وعاثوا فيها فسادا. فأهم ذلك الرومان وضعفوا عن مقاومة الغائرين حتى قدم الامبراطور انطونان نفسه الى أفريقية وتولى رآسة الجيش. وبذلك تمكنوا من رد هذه الغارة الكبرى. ومنه غارتهم على عهد كمودس (178 - 192) اذ تجدد سنة (188) وعجز رومان أفريقية عن رد تيارهم فاستغاثوا برومة. وكان هذا الامبراطور من عشاق الملاهي. فطلب من الشيوخ أن يمدوه بالمال ليذهب هو نفسه الى أفريقية. فلما أمدوه استعان به على ملاهيه،

وارسل الى أفريقية عوضه ضباطا. وفي سنة (190) انتهت هذه الغارة. ولولا تحصين الحدود بانشاء المدن ومرابطة الجنود لم تسترح رومة ولا يوما واحدا من غارة الغربيين والصحراويين. على أن الصحراويين (الجيتوليين) كانت رومة- علاوة على تحصين حدودها منهم- تستميلهم بأساليب سياسية. وقد تستعين بهم لذلك في بعض المهام. وكانت تحيط المدن، أسوار امتناعا من أهل موريطانيا الغربية، وتتخذ الحصون بالاكمات. 3 - واما القسم الثالث فمنه ثورة لسيوس كييتوس، وهو رجل بربري تسمى باسم روماني. وتقلب في الجيش الروماني. حتى منحه الامبراطور طريانس الرئاسة على جند. ثم ولاه على يهود فلسطين. فخدم رومة خدمات جليلة. ثم عاد الى افريقية فثار بها. واهتمت رومة لثورته لما تعلمه من مقدرته الحربية. ولكن دارت عليه الدائرة فقبض وقتل. وبقيت الثورة من بعده ملتهبة نارها. ولم تستطع رومة اخمادها الا بعد عناء كثير. ومنه ثورة سكان جبال أوراس والجبال التي بين قرطة وسطيف، وجبل جرجرة. وكانت هذه الثورة في عصر الفوضى سنة (265) وامتدت في كامل الوطن الجزائري. هجم هؤلاء الثائرون على المستعمرين الرومان خصوصا بجهات ميلة. وأهلكوا الحرث والنسل. ولم يتمكن الرومان من ايقافهم عند حد لكثرة الهرج برومة، اذ كانت الجنود تبيع منصب الامبراطورية لمن أغلى لها في المرتبات وقضى لها ما تبتغي من شهوات. ومنه ثورة أرديون في سنة (270) سمي بروبس واليا عاما لجنود أفريقية فنزل قرطاجنة. وفي تلك الاثناء أثار أرديون النوميديين

15 - العمران الروماني بالجزائر

وتوجه بهم الى البروقنصلية قاصدا قرطاجنة. فقابله بروبس وتبارزا. فقتل ذلك الوالي أرديون وحفر له قبرا كبيرا عرضه مائتا قدم تفخيما له. قال مرسيي: "والظاهر أن هذه المبارزة كانت بنواحي شق بنارية". وانهزمت جموع أرديون. ولكن الثورة لم تمت بموته. وحقد البربر على بروبس حتى انه لما ارتقى امبراطورا (276 - 282) وكان له أضداد كان البربر عليه مع الاضداد. وقد اشتدت ثورة القبائل الخمس سنة (288) على عهد الامبراطور ديوقلطيانس فجعلت رومة جائزة لاورليوس على حربهم. فتمكن من اخضاعهم ولكن خضوع هؤلاء القبائل لم يكن نهائيا. وبعد أمد قصير أعادوا الثورة وهجموا على نوميديا وانتشرت ثورتهم في الجهات الشرقية. وكان ديوقلطيانس قد قسم مملكة رومة على ولاة، منهم مكسميانس وجعله على اطاليا وأفريقيا. فلما اشتدت الثورة وتفاقم هولها قدم هذا الوالي بنفسه الى أفريقية ليتولى ادارة الحرب. أرجع هذا الوالي القبائل الخمس الى مقرها بجبال جرجرة، ثم تتبعهم في رؤوس تلك الجبال ونالوا منه أشد النكال. وأخيرا انتصر عليهم ونقل بعضهم خارج وطنهم، وذلك عام (297). وقبل هذا الحين لم يكن الرومان مستولين على وطن القبائل. ولما استولوا عليه جعلوا عاصمته بيدة (جمعة صهريج). وبعد استيلاء الرومان على وطن القبائل لم ينقطع منه رجال الاستقلال مثل فرموس وجلدون. وسترى في فصل آخر ما لهذين الزعيمين وغيرهما من عظيم الاعمال في سبيل الاستقلال. 15 - العمران الروماني بالجزائر علمت من الفصل الثاني عشر ان الحياة الرومانية بالوطن

الجزائري كانت راقية. وذلك يرجع الى عناية الرومان بالثروة ومظاهر العظمة. وقد حلوا أرضا خصبة وحكموا أمة عاملة حاذقة نشيطة. فلا جرم كانت آثارهم في العمران عظيمة. وأهم موارد الثروة بالوطن البربري الفلاحة ثم التجارة. أما الصنائع فلم تكن من موارد الثروة، وان كان الوطن لا يخلو منها. وكانت مراس معتمدة للتجارة، منها اجلجلي، صلداي، قيصرية صيغة. وصنعت الطرق داخل الوطن، وأجادوا في اتقانها وتوسيعها، الا فيما بين القرى. فقد كان بها شيء من الضيق. كانت الطرق تخترق الوطن البربري، والقوافل تقطعها للتجارة. وأكبر طريق هي التي تصل بين برقة والمحيط الأطلانطيقي. وقد كان لبعض الاباطرة يد في جعل الطرق والقناطر، منهم أدريانس والكسندر سويرس. والوطن البربري لم يكن في العصر الروماني اخصب منه اليوم وأكثر ماء. قال غسال: "بل الظاهر ان الحالة من حيث المطر مماثلة لما هي عليه اليوم، فلم تكن البحيرات التي بوسط عمالة قسنطينة أوسع منها اليوم. يدل لذلك وجود الآثار البرية بشواطئ هذه البحيرات. ولم تكن الاودية أكثر ماء منها اليوم. وفي الكتب الاغريقية روايات عن تكرر اليبس بالجزائر حتى وقعت مجاعات". وذهب بعضهم خلاف هذا ورأى ان هذا الوطن كان على عهد الرومان أخصب تربة واغزر ماء. ونحن نرى أن دعوى المماثلة غير صحيحة، وأن الفرق لم يكن بعيدا جدا اما من حيث الري فمن المحقق ان غابات الوطن كانت اذ ذاك أكثر من اليوم. وهي من أسباب الري لانها تمسك الماء عن الجريان فتروي الارض وتؤثر في الهواء برودة ما. واما من حيث طبيعة الارض فان كثرة استغلالها تضعف من قوة ترابها. وقد ذكر غسال نفسه: " ان شمال نوميديا كان من أخصب الاراضي لكثرة

حجر الجير به." قال: "وقد تقص هذا الحجر منه تدريجا ونقص معه حجم الحبوب". ومما يوضح لك تقارب احالة الارض في ذلك العهد وفي هذا العصر شدة العناية بجلب الماء حسبما دلت عليه آثار بأماكن متعددة. قال غسال: "وكثير من تلك الآثار وقع قبل الرومان. وانما هم حافظوا عليها وأنشاوا غيرها". وهذه الآثار منها تفجير العيون، ومنها حفر الآبار، ومنها اتخاذ المآجل، ومنها بناء السواقي ذات الحنايا، ومنها سد الاودية. قال بيروني: "ومنها بالحضنة ثلاثة سدود بواد واحد. الكبير منها يحمل نحو (1200000) ليترا." قال غسال: "ولم يزل الى اليوم مئات من الآبار بجنوب سطيف وشمال أوراس. ولهم قوانين دقيقة لتوزيع المياه على السكان. عثر على قانون لتوزيع المياه على سكان لمصبه (مروانة) ينص على عدد أشجار كل فلاح من زيتون وغيره، وعلى عدد ساعات السقي. ونفقة تلك الخدمات المائية اما على البلديات أو شركات أو أفراد. قال غسال: "والغرض من جلب المياه اما الشرب أو سقي أشجار الزيتون والبساتين. ولم يعتنوا بجلب المياه الى الاراضي الزراعية على احتياجها الى ذلك". وكانت آلة الفلاحة بسيطة. وهي مثل ما للجزائريين اليوم. وللفلاحين معرفة بتوزيع الحبوب على الارض حسب الصلاحية. وكان شجر الزيتون وغيره من ذوات الاثمار والفواكه كثيرا يظنه الرائي غابات. وتوجد آثار معاصر الزيت بجهات كثيرة.

ولقد تشارك الاغنياء والاباطرة في تنشيط الفلاحة. فكان المشتغلون بغراسة الزيتون والكروم يعفون من الضرائب سنين. ومن الاباطرة الذين اعتنوا بتنشيط الفلاحة قسطنطين. فقد أعفى آلات الفلاحة من الاداء على التجارة الخارجية، وأعفى العملة بأرض الفلاحين من الخدمات التي كانت تلزمهم بها الدولة عند العجز عن اداء الخراج، واشتد على الاغنياء الذين يريدون ان يبتلعوا بقروضهم صغار الفلاحين حتى صار يحكم بالقتل على كل مالي يريد ان يفتك من الفلاح الصغير عند العجز عن أداء الدين أرضه أو عبيده أو حيواناته أو آلاته. وقبله كان الامبراطور ادريانس (117 - 138) اعتنى بأفريقية وقدم اليها بنفسه سنة (122) فنشط الاستعمار. وادخل على الوطن البربري اصلاحات جمة. واقتدى به بعض البلديات في ذلك. فأنفقت قرطة من ماليتها على جعل طريق منها الى رسقاد. وأحبته العامة. ولكثرة حسناته على أفريقية دعي "مصلح أفريقية" RESTAURATEUR de l' AFRIQUE وطبع هذ اللقب على صفحات النقود. وعلى نتائج الوطن البربري كانت رومة تعتمد في حياتها، حتى أن الوالي الذي يثور بهذا الوطن على رومة يسرع قبل كل شيء الى قطع اصدار الحبوب الى رومة. كانت رومة تجلب من أفريقية الشمالية الحبوب والزيتون والعنب والتمر والفواكه والتوابل. وتجلب ايضا الرخام والاخشاب والخيل والغزال وبعض الحيوانات المفترسة لترويضها في الملاعب والنحاس والرصاص والحديد وسبائك الفضة والتبر والعبيد السود والصوف والجلود والبقر والغنم وشمع النحل وكل مواد الحياة والرفاهية. مواد حياة رومة كانت تأتيها من أفريقية الشمالية لمدة ثمانية

أشهر (شتنبر- ابريل)، ومن مصر لمدة اربعة اشهر. ولما اتخذ قسطنطيين بيزنطة عاصمة لمملكته اختصت افريقية بتموين رومة، ومصر بتموين بيزنطة. ويبلغ فب بعض السنين ما تأخذه رومة من شمال افريقية (348000) طن. واتخذت رومة سفنا خاصة لنقل حبوب أفريقية، ومراكز لجمعها ووكلاء للقيام على اصدارها، وأعفتها من أداء التجارة الخارجية. ومن المركزا التي كانت تجمع بها الحبوب لتصدر الى رومة: وادي مجردة، تغاست، مدورس، تفيست، لمبس، ناحية سيطيفس. قال بيروني: "يحمل من هذه المراكز كل عام ما يقرب من مليوني قنطار قمحا". وما تأخذه رومة من افريقية بصفة خراج تبيعه هنالك لابنائها ثم صارت تقسمه مجانا على أهل الحاضرة والبادية. وكان عدد الذين تمونهم الجمهورية برومة (320000). ولما جاء يوليوس قيصر نقص من هذا العدد نصفه. وبعده جاء أغسطس فبلغ عددهم (200000) وفي سنة 64م احترقت رومة فكان نيرون الامبراطور محتاجا الى تعزيز مالية الدولة فقطع هذا المعاش عن أهله. وبعد وفاته أعاده خلفه. وكان لتوزيع القمح قوانين خاصة مشتقة من اسمه (FRUMENTAIRE) والايطاليون اذ ذاك يستعملون القمح في معاشهم أكثر مما يستعمل اليوم. ولشدة ارتباط حياتهم بأفريقية كان عظماء رومة إذا اجتمعوا في ساحة المدينة (الفوروم) يقرن أحدهم

سلامه على صاحبه بقوله: "ما حدث بأفريقية؟ " (QUID NORD AFRICA) وإذا كنى الرومان عن رجل بسعة ماله قال: في مخازنه قمح أفريقية. وكانوا يقولون: أفريقية مخزن رومة (GRENIER de ROME). قد يتعجب المرء من كثرة هذه النتائج على قلة أيام السلم. وقد يعجب أيضا بفضل الرومان في العمران. ونحن لا نقف ازاء هاتين النقطتين موقف الدهش بل نعطي رأينا فيهما وللقارئ حق التعقيب: 1 - أما النقطة الاولى فنقول بازائها: حقيقة ان الاضطراب لم ينقطع مدة العصر الروماني، خصوصا بعد ظهور الديانة المسيحية، ذلك أن الفتن كانت سياسية ثم تولدت مع هذا الدين فتن دينية. غير ان الاضطراب لم يكن مستمرا بصفة تمنع أيدي العاملين في التعمير. فما وقعت فتنة شغلت رجال العمران الا أعقبها سلم يمكنهم من مباشرة أعمالهم. على أن أكثر الفتن إنما كانت بموريطانيا حيث تضيق المملكة الرومانية وتنحصر الى البحر. ونتائج الارض بهذا القسم كانت قليلة. وتلك النتائج المدهشة من زروع واشجار إنما كانت بالجهات التي تمكن منها الحكم الروماني فقلت ثوراتها. والخلاصة انه لا منافاة بين وجود الثورات وكثرة الثمرات. 2 - واما النقطة الثانية فنقول عنها ان ذلك العمران لا يزيد في فضل الرومان بل هو عندي بعكس ذلك: يدل على جور الرومان وضعف انسانيتهم. وذلك ان تلك النتائج ان لم تكن كلها من أراض مملوكة للرومان فجلها لهم من غير شك. والاراضي الرومانية انما كان العامل فيها يد البربر اما بصفة عملة مملوكين واما بصفة فلاحين مكترين وكلاهما تحت الضغط الشديد. فأي فضل للرومان في هذا العمران؟ الارض المنتجة بربرية الاصل واليد المستنتجة بربرية

16 - اللغة والآداب الرومانية بالجزائر

والرومان إنما يأكلون ويتمتعون ويمولون أهل وطنهم. واذن ففضل الرومان انما هو في جورهم بسلبهم أراضي البربر وضعف انسانيتهم بجبر صاحب الارض على العمل بها لفائدتهم. 16 - اللغة والآداب الرومانية بالجزائر الرومان اخوان اليونان في النسب، وتلاميذهم في العلم. فلغتهم أخت االيونانية، وأدبهم وليد الأدب الاغريقي. فكان للرومان أدبهم اللطييني، وهو لا يقصر في روعته عن آداب الامم الراقية لذلك الحين. وإذا نظرت الى سعة السلطان الروماني وتحكك ابناء رومة بالامم الشرقية الراقية وتواردهم على منهل أثينا تصورت اجماليا رقي الادب اللطيني. ولما حل الرومان بالجزائر ووجدوا أمة لها لغتها وأدبها وهي نافرة منهم سعوا في نشر لغتهم وآدابهم بما أقاموه من المسارح والنوادي وما شادوه من المدارس الابتدائية والثانوية بالقرى والمدن. وكانت قرطة ومدوروس من أشهر المدن التي يؤمها طلبة التعليم الثانوي ولكي تحمل رومة على البربر لغتها جعلتها هي اللغة الرسمية ومنعت الكتابة بغيرها. وذلك في القرن الثاني للميلاد. ومع حرص رومة على تعميم لغتها وآدابها لما في ذلك من تثبيت سلطانها لم تر من البربر اقبالا يفي بحرصها. العامة بقيت بعيدة عن اللطينية، والمتعلمون كانوا يحدون فيها صعوبة حملتهم على تغييرها بما يقرب من لهجتهم، حتى أصبحت لطينية أفريقية متميزة عن لطينية رومة. وهذا لا ينافي ان هناك رجالا من البربر نبغوا في الآداب اللطينية وكانت لهم فيها شهرة خلدت ذكرهم. كان الادب اللطيني أرقى من الادب الليبي والفينيقي، واللغة

17 - ديانة الرومان بالجزائر

اللطينية أوسع من اللغتين الاخريين، ومع ذلك فقد عاش الثلاثة بالوطن البربري، ولم تستطع اللطينية- على اتساعها ورقي أدبها- أن تتغلب على تينك اللغتين، بل كانت أقل منهما رواجا بين الطبقة السفلى من الأمة وأقل ذكرا في بعض الجهات التي لم يوقذها الاستعمار الروماني. قال بيروني: "وفي أيام القديس أغسطين - التي هي بعد الاستيلاء الحقيقي بقرون- كان الولاة الاداريون والرؤساء الدينيون يحتاجون الى ترجمان بينهم وبين البربر البادين. وكانت اللغة الفينيقية لغة الاكثرية البربرية. حتى ان العظماء الذين تخلقوا بالاخلاق الرومانية كانوا يتكلمون بها. " ومما تقدم تتضحح لك نقطتان: 1 - ان الرومان لم يؤثروا على البربر في اللغة والآداب مثل تأثير القرطاجنيين ولا قريبا منه. وذلك للفرق بين مقاصد الامتين في الشعب الجزائري. اذ القرطاجنيون مقاصدهم تجارية، والرومان مقاصدهم استعمارية بالمعنى العصري. فالبربر أقبلوا على من كانت مقاصدهم معهم حسنة، ونفروا من أصحاب المقاصد السيئة. 2 - الذين تعلموا اللطاينية صبغوها بصبغة وطنهم وغيروها عن أصلها. وذلك دأب البربر في كل ما أخذوه من غيرهم. وبذلك حافظوا على جنسيتهم، وابتلعوا الامم التي احتلتهم وارادت ان تبتلعهم وتكثر بهم سوادها. وهي مزية لا تعرف لسواهم من الامم غير العرب. 17 - ديانة الرومان بالجزائر قدمنا لك ما للرومان من كثرة الالهة، وما لهم من عناية بها، وانهم أخذوا من الامم التي استولوا عليها بعض آلهتهم. وقد كان

علماء رومة يرون ان الارباب المختلفة باختلاف الامم ليست الا مظاهر لاصل رباني عام. ومن ههنا نشأ التسامح الديني عند الرومان. فلم يضغطوا على أي شعب استولوا عليه في ديانته ولا ألزموه بديانتهم. وانما كانوا يلزمون من تحت رايتهم بعبادة قيصر. وظاهر ان هذه العبادة سياسية لا دينية. ولذلك لم تكن لها هيئة خاصة تتحد الشعوب المحكومة لرومة على أدائها. بل كانت كل أمة أو قرية تعبده على الوجه الذي تراه عبادة. وانت تعلم ان البربر ما أتوا بشيء من باب الاختيار الا قبلوه وأخذوا منه. فكان للبربر آلهة رومانية الى جنب آلهتهم البربرية وما أخذوه عن الفينيقيين. وهكذا عاشت الديانات الثلاث بين ظهراني البربر متآخية. غير انه لا بد ان يكون- بمقتضى طبيعة البربر- طابع البربرية على الجميع. بقيت هذه الديانات في ظل التسامح المتبادل بين البربر والرومان حتى ظهرت الديانة المسيحية فتضادت معها، ولم يتسع التسامح الديني الروماني لها فعارضها، لان الاباطرة والعظماء رأوا في انتشار هذه الديانة ما يضعف عظمتهم وينقص من غلوائهم. في سنة (303) أحدث امبراطور رومة قانونا باتخاذ بعض الايام لعبادة الآلهة الرومانية. لا يتخلف أحد عن حضور هذا اليوم المعلوم. ومراد الامبراطور مضادة المسيحية التي تنظره وأحقر انسان في امبراطوريته بعين واحدة. وتراهما في منزلة واحدة، بل تفضله لحقارته وفقره عليه لجلالته وغناه. قام بتنفيذ هذا القانون والي نوميديا فلريوس، ولم يمتثل له كثير ممن تمكنت المسيحية من قلوبهم فقضى عليهم بالقتل. ولكثرة المقتولين دعى هذا العصر عصر الشهداء.

18 - الديانة المسيحية

18 - الديانة المسيحية الديانة المسيحية هي الديانة التي جاء بها عيسى المسيح عليه السلام. وهو عيسى بن مريم ابنة عمران. وعمران اختلف المؤرخون في سياقة نسبه، ولكنهم اتفقوا على انه يتصل بسليمان بن داود عليهما السلام. وأم مريم اسها حنة. وأختها ايشاع (أو خالتها) كانت تحت زكريا عليه السلام. ومنها يحيى الذي قال فيه القرآن: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}. عمران كان كبير كهنوتية بيت المقدس. وحنة زوجه كانت من العابدات. أقاما ثلاثين سنة لا يولد لهما. فدعوا الله ونذرت حنة: ان ولدت لتجعلن ولدها حبيسا ببيت المقدس يقوم بخدمته. فولد لها مريم، ووفت بنذرها. فدفعتها الى عباد بيت المقدس. وقام بكفالتها هنالك زكريا حتى كبرت، وصارت تقوم بقسطها من خدمة البيت، واشتهرت بالتقى والفضيلة، وظهرت على يدها الخوارق كما قص ذلك القرآن في آية آل عمران: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. وما زالت على عبادتها وورعها حتى بشرتها الملائكة بأنها ستلد ابنا من غير أب يكون نبيا رسولا. فعجبت من ذلك. وأجابها الملك بأن الله يخلق ما يشاء. قدر الله أن تحمل مريم من غير زوج فارسل اليها جبريل ونفخ فيها، فحملت بعيسى. ولما ظهر بها الحمل خشيت ان تتهم في عرضها. فخرحت من بلدها وأخذها المخاض في الطريق ووضعت شرقي بيت لحم قرببا من بيت القدس. كانت ولادة عيسى في زمن اغسطس قيصر. قال ابن خلدون لاثنتين واربعين من ولايته. وهو صحيح إذا قدرنا ولايته منذ كان أحد الرجال الثلاثة.

ولادة عيسى من غير أب أمر خارق للعادة حقيقة ولكن الله على كل شيء قدير. وقد أزال القرآن الغرابة في ولادة عيسى بأن آدم أغرب منه. وذلك قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ}. كبر عيسى وظهرت على يده الخوارق منذ صباه- كما في القرآن- من ابراء الأكمه والأبرص واحياء الموتى وخلق الطير من الطين. ونزل عليه الانجيل ودعا الى طاعة الله واشتهر ذكره. هنالك خافه رؤساء اليهود على دينهم فتآمروا على قتله. وبحثوا عنه فدلهم عليه أحد أصحابه. فقصدوا موضعه. والقى الله شبهه على أحد اليهود فقتلوه وصلبوه معتقدين انه عيسى عليه السلام. وكان لعيسى من الحواريين (الاصحاب) اثنا عشر وهم: سمعان بطرس، أخوه انداورس، يعقوب بن زيدي، أخوه يوحنا، فليبس، برتلوماوس، توما، متى العشار. يعقوب بن حلفا، تداوس، سمعان القناني، يهوذا الاسخريوطي. ذهب الحواريون بعد رفع عيسى وافترقوا في النواحي لبث دنه. وكان منهم بطرس برومة، وهنالك كتب الانجيل بالرومية ونسبه إلى تلميذه مرقس. وكتب متى انجيله بالعبرانية في بيت المقدس. ونقله يوحنا بن زيدي الى الرومية وكتب لوقا انجيله بالرومية. كل ذلك على عهد قلوديوس. وكان نقل يوحنا ببعض جزر ايطاليا على عهد طريانس. وكان بين هذه الاناجيل اختلاف بالزيادة والنقص، وقد يقع بينها التناقض. وذلك من عدم جمع الانجيل في أيام من أنزل عليه وتدوينه باللغة التي أنزل بها. فكتب كل من الحواريين ما حضره من غير أن يجتمعوا. وبطرس كبيرهم كتب انجيله بالرومية. ومعلوم ان ذلك ترجمة قد يخطئ صاحبها.

ومن ههنا اشتمل الدين المسيحي على أصول تخالف الدين الاسلامي مع أن مصدرهما واحد. وعقيدتنا ان دين الله واحد لا يختلف في روحه وحقيقته باخلاف الازمان، وانما تختلف صوره ومظاهره. وقد ذكر الاستاذ الامام محمد عبده أصول الدين المسيحي ملخصا لها في ستة: 1 - الخوارق. 2 - سلطة الرؤساء الدينيين. 3 - ترك الدنيا. 4 - الايمان بغير المعقول. 5 - ان الكتب المقدسة حاوية كل ما يحتاج اليه البشر في المعاش والمعاد. 6 - التفريق بين المسيحيين وغيرهم حتى الاقربين. وقد شرح هذه الاصول مستشهدا عليها بكلام الاناجيل. ثم بين سوء نتائجها. ونحن نكتفي بالاشارة الى ذلك محيلين محب البسط والبيان على كتاب الاستاذ: "الاسلام والنصرانية مع العلم والمدنية". وقد ذكر ابن خلدون طبقات الرؤساء الدينيين الذين لهم السلطة على العامة، ولقب كل طبقة وهاك بيانها: 1 - البترك: رئيس الملة وخليفة المسيح. والاساقفة يسمونه أبا. والقسوس يسمون الاساقفة أبا. فوقع الاشتراك في اسم الاب، فاطلق على البترك اسم البابا. ومعناه أبو الآباء. وكان البابا يطلق على بترك الاسكندرية. ثم صار يطلق على بترك رومة الى يومنا

19 - الديانة المسيحية بالجزائر

هذا. واختص صاحب رومة بهذا اللقب لانها مركز بطرس كبير الحواريين. 2 - الأسقف: نائب البترك. 3 - القسيس: القراء. 4 - الجاثليق: صاحب الصلاة. 5 - الشمامسة: قومة المسجد. 6 - الراهب: المنقطع للعبادة بدير (خلوة). 7 - المطران: القاضي وقد لقيت المسيحية في طريقها اضطهادات. وحدث بين رؤسائها اختلافات. ولبثت على ذلك حتى تعززت بتمسيح قسطنطين في القرن الرابع للميلاد. هنالك ارتفع عنها الاضطهاد وقل الخلاف. لانه مهما ظهرت قولة الا اجتمع الاساقفة والبتاركة عليها وتناظروا في شأنها وقرروا رأي الاغلبية ولعنوا خلافه. ومن مذاهب النصرانية مذهب دوناتوس بنوميديا في بداية القرن الرابع. ومنها مذهب أريوس. وكان أيضا في القرن الرابع لعهد قسطنطين. قال ابن خلدون: واستقرت الكنائس أخيرا على ثلاثة مذاهب: يعقوبية وملكية ونسطورية. وليس من غرضنا شرح هذه المذاهب. فلنقتصر على الاشارة اليها. 19 - الديانة المسيحية بالجزائر تأسست الكنيسة المسيحية بقرطاجنة أوان تأسست برومة. وذلك بعد رفع عيسى (ص) وتفرق أصحابه في الجهات. واختلف هل كان تأسيسها على يد أحد الحواريين؟ فمن

المؤرخين من جزم بنفي دخول الحواريين الى الشمال الافريقي. ونسب نشر خبر الكنيسة بهذا الوطن اما الى تجار شرقيين لوجود الواصلة بين الشرق وقرطاجنة، واما الى الرومان الذين تمسحوا وقدموا افريقية. ومن المؤرخين من أثبت دخول بعض الحواريين الى افريقية نقل البكري عن اسحق بن عبد الملك الملشوني انه قال: "لم يدخل افريقية نبي قط. واول من دخلها بالايمان حواي عيسى بن مريم عليهما السلام" (¬1). وفي ابن خلدون أن الذي دخل افريقية من الحواريين فليبس. وقال القيرواني: اسمه متى العشار. وابن خلدون ذكر متى العشار، وانه أرسل الى أرض السودان والحبشة. ومراد ابن خلدون بافريقية وطن تونس. وكيفما كان الحال فان انتشار المسيحية بافريقية مقارن لانتشاره ¬

_ (¬1) المغرب ص45. واسحاق الملشوني ذكره البكري ص52 وأباه. وقال فيهما: "عالمان يحمل عنهما العلم". وقال عن ملشون: " قرية من قرى بسكرة". ومن هذا النقل عن عالم جزائري صحراوي قديم مشهود له بالصدارة في العالم- تعلم ان لا صحة لاعتقاد العامة وجود خالد بن سنان العبسي بوطننا. وزيارتهم لمكان زعموا انه ضريحه. قال صاحب المؤنس ص 18: ومنهم من قال بل دخلها) افريقية) خالد بن سنان زمن الفترة. ولكن لم يدخلها بدعوة. قال: "وانكر بعض الفقهاء ذلك وصححه آخرون". وليس التاريخ ما يؤيد تصحيح وجود خالد بصحراء الجزائر. وليس من المعقول ان يأتي نبي من جزيرة العرب الى هذا الوطن البربري من غير ان يكَون مرسلا الى أهله. هذا على فرض ان يكون خالد نبيا. والصحيح ايضا خلافه.

بايطاليا. وانتشاره كان بمساعدة اليهود الافريقيين واللغة اللطينية التي هي اللسان الرسمي للكنيسة. وقد كان لليهود هجرات الى الوطن البربري أولاها على عهد الفينيقيين جلبوهم عندما أسسوا المراكز التجارية بشاطىء البحر الابيض لفضل حذق اليهود بالتجارة. وثانيتها بعد هلاك الاسكندر على عهد بطليموس صاحب مصر، اذ حاصر هذا الملك بيت القدس وشرد اليهود منها فانتقل بعضهم الى الشمال الافريقي وذلك سنة (320) ق. م. وثالثتها على عهد الامبراطور ادريانس اذ نقل الى المغرب بعضهم من بيت المقدس وبعضهم من برقة. لبثت المسيحية بافريقية تحت جناح من الظلام لا يعلم لها تاريخ حتى بداية القرن الرابع. والمعلوم عنها في هذه المدة كلها هي احاديث الاضطهاد، وانعقاد مجمعين للأساقفة احدها أواخر القرن الثاني اشتمل على سبعين أسقفا من افريقية ونوميديا والثاني سنة (240) حضره تسعون أسقفا. وجدت الطبقة المستعلية في تعاليم هذا الدين ما ينافي كبرياءها وجورها واستعبادها للضعفاء فعارضته. واستعمل الاباطرة قوتهم في اخفات صوته واعتدوا على المتمسكين به حتى أن من سلم منهم من القتل لا يسلم من السجن. وكان سبتموس سويرس أشد الاباطرة وطأة على المسيحيين. وقد قابل رؤساء الكنيسة تلك الاعتداءات بكل شجاعة وثبات. وكان رجال من البربر وقفوا حياتهم لنشر هذا الدين ومات منهم عظماء في سبيله. لم يزل رجال هذا الدين يقاسون الاضطهادات الامبراطورية- وقليل من الاباطرة من خلاهم ودينهم مثل نربا (96 - 98) حتى ظهر

الامبراطور قسطنطين فأحسن الى الكنيسة ومنحها الحرية ثم تمسح هو نفسه. تعززت الكنيسة بهذا الناصر العظيم. ولكنها انتقلت من الاضطهادات الخارجية إلى الفتن الداخلية، اذ حدث بين رجالها اضطرابات أفضت الى انقسامها على حزبين متنافسين متباغضين. وذلك ان من المسيحيين من لم يتحمل الاضطهادات وارتد عن دينه. ومن بين المرتدين بعض الاساقفة. وفي عصر ديوقلطيانس طلبت منهم الحكومة تسليم الكتب المقدسة. فخشي كثير من الاساقفة أن يقتلوا فشحوا بأنفسهم وجادوا بدينهم وكتبه. ومنهم بنوميديا أساقفة قرطة وتجيست (عين البرج جنوب قسنطينة) ومصكولة (خنشلة) وقالمة. في سنة (305) مات اسقف قرطة بولوس. فاجتمع الاساقفة للنظر فيمن يخلفه فكان سلفانوس. وهو من المتهمين بتسليم الكتب المقدسة. فلم يرضه كثير. وأخذ الخلاف يتسع بين المسيحيين ويشتد من ذلك الحين. وفي سنة (311) مات اسقف قرطاجنة فاجتمعوا للنظر فيمن يخلفه فكان سيسليان. ولم يرضه كثير من الاساقفة. وأخذت الدعاية تتمشى ضده، حتى بلغ عدد أضداده من الاساقفة سبعين يرأسهم سوغندوس إلى أسقف تجيست. ثم اجتمع هؤلاء الاساقفة وطلبوا من سيسليان المثول أمامهم لاتهامهم له بانه من المقصرين في جانب شهداء الاضطهادات. فامتنع من الحضور. فسجلوا امتناعه واطلقوا عليه لقب (TRADITEUR) واعتبروا منصبه شاغرا فسموا مكانه بقرطاجنة مجورينوس من حزبهم.

سنة (316) مات مجورينوس وسمي مكانه دونتوس. وكان أسقفا بباغاية. وقد نظم مذهب هذا الحزب حتى نسب اليه. واستعان بسميه دونتوس أسقف الديار السود (قرية شمال أوراس اندثرت). أخذ هذا المذهب ينتشر بقوة وسرعة في نوميديا وموريطانيا. وقاومته الحكومة فلم تظفر به. وابتدأ قسطنطين مقاومته في مهده فجمع الاساقفة مرتين كانت النتيجة فيهما ضد دونتوس. وأخيرا قابلهم بالقوة واشتد عليهم فلم ينل منهم. وفي نواحي سنة (326) توفي سيسليان فاجتمع بقرطاجنة من أساقفة الحزبين 270 واصطلحوا. وقد كانوا قبل ذلك متنافسين كل حزب يريد التغلب على الآخر. ويتوسل الى ذلك بالاكثار من الاساقفة. وفي سنه (330) بلغ من كثرة اتباع دونتوس ان استحوذوا على جميع الكنائس، حتى طلب اسقف قرطة زيزيوس احداث كنيسة للارثوذوكس. وفي سنة (340) تجددت الفتن بين حزبي الكنيسة. ومات قبل ذلك قسطنطين (337) وخلفه ابناؤه الثلاثة كل بناحية. وكان قسطنط احدهم على ايطاليا وأفريقية. وكان ناصر الارثوذوكس. فوجه جنوده لحرب اتباع دونتوس. واقتتلت جنود الامبراطور وهؤلاء الاتباع. فاتنصر الامبراطور واخذ اتباع دونتوس بالقتل والنفي. وبعد سنين ثأر الدونتسيون من الارثوذوكس. وذلك ان قسطنيوس أحد أبناء قسطنطين استقل بالملك بعد وفاة أخويه. وفي سنة (360) ظهر يليانس المرتد، ونازع قسطنطيوس السلطة. وأراد فتح أفريقية، فامتنعت عليه. وكان الارثذوكس مع قسطنطيوس، فلما توفي هذا الامبراطور خلا الجو ليليانس المرتد، وانتقم من الارثذوكس فسلط عليهم الدونتسيين، ففتكوا بهم فتكا ذريعا، ولم

يسلم منهم حتى النساء والصبيان. وفي سنة (372) ثار فرموس البربري بوطن القبائل وشغل الرومان ثلاث سنوات. كان الدنتسيون من أنصاره في تلك الثورة. ولما أيس من النجاح وقتل نفسه انتقم الرومان من حزب دونتوس وساموهم سوء العذاب. وفي سنة (395) ثار جلدون أخو فرموس على الرومان ونصره اتباع دونتيوس وفتك بالارثذوكس. ولما قبض عليه انتحر. وحنق الرومان على الدونتسيين، فجاروا عليهم واستعبدوهم. انتشر مذهب دونتوس بنوميديا وموريطانيا (الوطن الجزائري) وحاز الاغلبية على الارثذوكس. وهاك بيان مراكز أساقفة الفريقين بمدن هذا الوطن: في سنة (411) كان عدد المراكز مائة وسبعة وثمانين منها (87) دونتيسية، (34) كاثوليكية، (66) للفريقين. ومهما كثر عدد أساقفة حزب بناحية آذوا أتباع الحزب الآخر بالسلب والسرقة وهدم المعابد. وقد بلغ من تباغض الاحزاب المسيحية ان قال فيهم اميان مارسلان- وقد عاش قريبا من أوائل القرن الخامس-: "ان العداوة بين المذاهب المسيحية أشد من عداوة السبع للانسان". ولم تقف الكنيسة عند هذا الحد من الانقسام. بل ان اتباع دوتنوس أنفسهم انشقوا طائفتين: طائفة متساهلة مع بقية المسيحيين والاغنياء، وأخرى متشددة مع المسيحيين ومتعمقة في الزهد تكره الاغنياء. وكان مركز الطائفة الثانية بتمغادي، وهي تتركب من العبيد المماليك الصعاليك، وقد أخذت على نفسها العمل لتحقيق المساواة بين الافراد في الفقر. فصارت تجوب البلاد وتطوف في البوادي لنهب الاغنياء وافساد الاموال. ورؤساء مذهب دونتوس يعدوت ثوارا على الحكومة. ولذلك أقبل بربر الجزائر على هذا المذهب

20 - المسيحية والوثنية بالجزائر

لما كانت تنطوي نفوسهم عليه من كراهية السلطة الاجنبية. ولذلك أعانوا فرموس وجلدون في ثورتهما، وكانت الحكومة دائما ضدهم. وأصدر الامبراطور هونريوس سنة (410) أوامر في التشديد عليهم، ولكثرتهم لم يستطع تنفيذها. ولما أعياه أمرهم أمر باجتماع شيوخ الدين سنة (411) فانعقد المجلس بقرطاجنة، وحضره من اساقفة الكاثوليك والدونتيس 286 فحكم رئيس الجلسة على الدونتيسيين ولكنهم لم يحفلوا بذلك الحكم. فأصدر الامبراطور أمره بالتشديد عليهم وسلب حقوقهم والتضييق على حريتهم. قال مؤرخ المسيحية بأفريقية الاب مسناج: "لما عجز البربر عن طرد الرومان من وطنهم اكتفوا باظهار الكراهية لهم. فامتنعوا من لغتهم ومذهبهم. فان شعبا لا يتعلم لغة المستولي عيه يعد ثائرا خصوصا إذا أضاف إلى ذلك مخالفته له في المعتقد. ويقول بعض المؤرخين: ان البربر ما دخلوا أولا في المسيحمة الا لكون الرومان وثنيين. فلما أقبل الرومان عليها خالفهم البربر وأسسوا لانفسهم مذهبا جديدا". 20 - المسيحية والوثنية بالجزائر لم تتجارز المسيحية بالجزائر حدود المملكة الروماية، ولم تنتشر داخل تلك الحدود الا على نسبة انتشار اللطينية، فكانت الاغلبية للوثنية، وما كان من كثرة الاساقفة ومراكزها بمدن نوميديا وموريطانيا فانما نشأ عن تنافس حزبي الكنيسة لا عن كثرة اتباع المسيحية. وقد رأيت أن مذهب دونتوس هو مذهب الاغلبية المسيحية بالجزائر وذلك لانه مذهب ظاهره ديني وباطنه سياسي يؤيد السيادة الوطنية. ومن ههنا كانت كراهية أتباعه للارثذوكس الذين ينصرون الرومان ويؤيدون السيادة الاجنبية.

ولان غاية اتباع دونتوس سياسية لم يتمكن الدين من تحويل طبائعهم وعاداتهم وعباداتهم. وكذلك كثير من الارثذوكس لم يكن الدين ليفضي الى قلوبهم. وقد كان القديس أغسطين يخطب في المسيحيين ويرشدهم الى المسيحية الصرفة. قال الاب مسناج: "اذ كان في عصره أكثر المسيحيين لم تزل بين جنوبهم عقائد وثنية: يأتون الكنائس ويعبدون فيها آلهة وثنية، ويذهبون أيضا إلى الهياكل الوثنية" - وقال أيضا: "فجر القرن الخامس هو أزهر عصر للديانة المسيحية بافريقية، ومع ذلك فانه لم يصل الى قلوب معتنقيه من البربر، وانما كان شعارا ظاهريا، وفي حقيقة الامر لم يزالوا على وثنيتهم". وكان عصر قسطنطين عصر الحرية الدينية فارتفعت عن المسيحية الاضطهادات وصار كل من المسيحيين والوثنيين يأتون أعمالهم بحرية تامة. ثم تأثرت المسيحية من الوثنية وأصبحت تضطهدها: في عصر قسطنط سنة (341) منعت القرابين، وفي أيامه أيضا سنة (346) أغلقت الهياكل الوثنية وشدد في منع القرابين حتى هدد فاعلها بالقتل. وفي سنة (380) لم يعترف امبراطور رومة غراطيانس بشيخ الديانة الوثنية. ثم صادر سنة (382) املاك الهياكل، ونزع لشيوخ الوثنية امتيازهم، وأزال من مجلس الشيوخ تمثال الهة النصر. وفي سنة (399) أمر هنوريوس بابطال عبادة الاصنام وهدم معابدها. وامتعض الوثنيون- وكانوا كثيرين- لهذا الامر. ولم تجد الوثنية حريتها الا في زمن يوليانس المرتد (361 - 363). كان هذا الامبراطور قد تعلم بأثينا. وبعد امبراطوريته فتح داره للحكماء والفلاسفة، فنبذ المسيحية، وبذلك سمي المرتد، ومنح الوثنيين حريتهم. واشتد على المسيحيين لانهم كانوا في نصرة خصمه قسطنطيوس ما عدا الدونتسيين.

21 - ذكر بعض رجال البربر في الدور الروماني

قال الاب مسناج: وقد استبشر بانتصاره للوثنية بربر أفريقية الشمالية: ولقبوه "محيي القرابين". وأظهرت مدن كثيرة استبشارها بذلك. وبعث مجلس بلدية تمغادي الى يوليانس تهانيهم في مجالس اخرى. وقد كان أكثر الولاة بنوميديا وموريطانيا وأغلب المتوظفين بالمجالس البلدية في أوائل القرن الخامس مسيحيين. قال الاب مسناج: "ومداوروش كانت كلها وثنية. وهي العاصمة العلمية لوطن أغسطين. ووجدت آثار هياكل وثنية من القرن الخامس، تدل على عظمتها. في حين ان الكنائس اذ ذاك في غاية الفقر". وقد تقدم ان الديانة المسيحية لم تتجاوز حدود المملكة الرومانية. وقد قسم الاب مسناج هذه المملكة الى ثلاثة أقسام: 1 - مدن رومانية، كانت الاغلبية فيها مسيحية، ولكنها ممزوجة بالعقائد الوثنية. 2 - بوادي رومانية لم يتمكن بها نفوذ الرومان. كانت الاغلبية فيها للوثنية. 3 - جهات غير خاضعة للرومان. هذه لا أثر للمسيحية بها. وقد اتضح ان الاغلبية الساحقة بالجزائر في جانب الوثنية، وان الاقلية المسيحية لم تكن خالصة، وان جلها من اتباع دونتوس الذين يرمون الى غرض سياسي. وقد عاشت المسيحية على أقليتها وعدم خلوصها وتعدد مذاهبها الى أن جاء الاسلام فقضى على الجميع بسرعته المدهشة. 21 - ذكر بعض رجال البربر في الدور الروماني قد رأيت ما كان البربر من رجال عظماء وملوك كبراء قبل أن يصابوا بكابوس الاحتلال الروماني. وقد ظهر منهم بعد ذلك الاحتلال

أيضا رجال في العلم وفضلاء في الدين وعظماء في السياسة ونحن نذكر لك ما وقفنا عليه من أسماء الجميع، وان كنا نأسف لفقدان تراجم حياة كثير منهم: 1 - فمن رجال العلم الذين كانت لهم شهرة فرنطونس. كان أستاذ الامبراطور مرقس أوراليوس. وله سمعة بين جميع الطبقات في الفن الهندسي، وهو مولود بقرطة. ومنهم أبوليوس. قال بيروني: "هو من أكمل الرجال وأعظمهم فائدة في عصره. وأحسن وصف له وأصدقه أن تقول: هو رجل مخترع مؤسس لمباد كثيرة". وكان قبل القديس أغسطين وأصله من مداوروش. 2 - ومن رجال الدين نمفانيو، مغجيس، لسيتة، سناييس. هؤلاء من أهل القرن الثالث الذين اضطهدوا في سبيل الدين وقتلوا شهداء. ومنهم دونتوس مؤسس المذهب المنسوب اليه. وسميه أسقف الديار السود. وكان بقالمة ومصكولة (خنشلة) اسقفان كلاهما يدعى دونتوس. وكانا عصر تسليم الكتب المقدسة. ومنهم أبطات أسقف ميلة. كان في عصر القديس اغسطين. وأعانه في حملته على المسيحيين المتهتكين. وترك تآليف ذات أهمية. وأهمها كتب في تاريخ مذهب دونتوس. ومنهم القديس أغسطين. ولد اغسطين بتغاست وتعلم بمدوروش ثم انتقل إلى قرطاجنة ثم ذهب الى ميلان بايطاليا ثم عاد الى مسقط رأسه سنة (388). ونزل دار أبيه وجعلها ديرا يتعبد به. وفي سنة (391) سمي قسا بهبون، ومنح ارضا خارج المدينة ليبني بها ديرا،

ثم سمي اسقفا، واتخذ داره نفسها ديرا. وقد اشتهر هذا الدير وتخرج منه نحو عشرة أساقف. منهم البيوس بتغاست، وسفروس سمي بميلة سنة (396)، وفرتونتوس سمي بقسنطينة سنة (402)، وبوسديوس سمي بقالمة سنة (397) وهو مؤرخ حياة اغسطين وافوديوس بأزليس (وجل) في حدود سنة (400)، ونفاتوس بسطيفي قبل سنة (411). ويقال ان أول من أحدث الاديرة بأفريقية القديس أغسطين، وكان من حزب الارثذوكس (سلفي) وانتصب للدفاع عن المسيحية. فرد على أدباء عصره الزارين عليها بكتاب سماه "مدينه الله" ومما جاء فيه في ماقام اثبات الاله قوله: "اني متحقق وجودي. ولا أخشى أن يقال اني غالط في ذلك. لان الغلط دليل الوجود" (¬1). وارشد مسيحي ذلك الوقت الذين انحرفوا عن الدين وانغمسوا في الملاهي والخمور حتى كانوا يتعاطونها في المجامع الدينية. واشتد في حماسه الديني عليهم حتى عزم مسيحيو قرطاجنة على الفتك به. ومن أقواله في سبيل الارشاد: "ان الشهداء ترتجف قلوبهم من زجاجاتكم وآلات طبخكم واصطباحكم". وناظر أصحاب دونتوس بالحجة وأغلق باب السباب الذي لا تخلو منه مناظرتهم سابقا وفتح باب النقد النزيه. قال بيروني: "وهو أخطب خطيب لطيني وأكبر مفكري كل زمان". عاش القديس أغسطين حتى فتح الوندال. وحوصر ببونة في جملة المحصورين. وتمكن له الفرار فلم يرضه لنفسه ومنصبه. وبقي مع المحصورين إلى أن أدركه أجله سنة (430). ¬

_ (¬1) عثرت على هذه الجملة الفلسفية في كتاب الدين الطبيعي. نقلها عنه مؤلفه جول سمون، ص7.

3 - ومن رجال السياسة لسيوس كييتوس وأرديون. وقد ذكرا سابقا. ومنهم فرموس وجلدون. وقد أخرنا ذكرهما الى هذا الفصل لان أنصارهما كانوا من حزب دونتوس. فرأينا ان نذكرهما بعد الكلام على ذلك الحزب. كان رجل بربري يدعى نوبال ملكا على القبائل الخمس. وتوفي في عشرة السبعين من القرن الرابع، وترك أولادا، وهم: فرموس، جلدون، مسيزال، ديوس، صلمسيس، زامة وكلهم مسيحيون. وفي سنة (372) ثار فرموس على الرومان بجبال جرجرة. وأعانه أهل الموريطانيتين واتباع دونتوس. فجمع من الجنود نحو عشرين ألفا ذهب بها الى قيصرية فحاصرها ثم افتتحها وحرقها. وامتدت الثورة بنوميديا. وأراد والي قرطاجنة مقاومتها بالحرب فانهزم. ونادى البربر بفرموس ملكا. بلغ خبر هذه الثورة الشاملة للوطن الجزائري مسامع الامبراطور والنتنيانس، فوجه جندا تحت رئاسة ثأودوسيوس فنزل هذا القائد جيجل وتوجه منها الى سطيف سنة (373). والتحق به جلدون ومعه جنده ليعينه على أخيه! وكان مع فرموس أخواه مسيزال وديوس. ولكنه رأى نفسه ضعيفا عن الحرب فراسل ثأودوسيوس في الصلح فلم يقبل، وتحاربا. وبعد معركتين أعاد فرموس طلب الصلح فقبل ثأودوسيوس. وانعقد الصلح بينهما على الصفة الآتية: 1 - اهداء مدينة الجزائر (اقسيوم) لثأودوسيوس. 2 - تنازل فرموس عن تاجه. 3 - أداء مال كثير لثأودوسيوس. 4 - اعطاء رجال رهنا لتنفيذ مواد الصلح.

ذهب ثأودوسيوس بعد الصلح الى قيصرية ليجددها وأخذ أعوان فرموس بها بالقتل والجلد. وحاول فرموس تجديد الثورة فلم يفلح. ولما أيس خرج مشرقا لينجو بنفسه. فراصده الرومان، فعاد الى وطنه وأوقد نار الثورة من جديد، وجمع نحو عشرين الفا هزم بها ثأودوسيوس ففر في جناح الظلام وجمع عساكره بعيون بسام. واشتد غيظه على من لم يثبت منهم في المعركة فقتل فريقا وحرق آخرين بالنار. وجمع الباقين بسطيف ونظمهم تنظيما حسنا. كان رجل بربري يدعى اغماسن رئيسا لقبيلة تقطن جنوب جرجرة. وكان هذا الرئيس قد أعان بقبيلته فرموس. في سنة (375) ذهب ثأودوسيوس الى تلك القبيلة وأرشى رئيسها ليقبض له على فرموس. فلم يخف على فرموس ضعفه وعجزه فانتحر، ولم يجد اغماسن الا جثته فوجهها على بعير لثأودوسيوس. قد يكون اغماسن خائنا لفرموس لما عرف به رؤساء البربر من التخاذل. والظاهر عندي انه غير خائن، بل هو سياسي حاذق لانه علم عجز فرموس وضعف قبيلته عن المقاومة وان الرومان سينتقمون منه ومن قبيلته، فقبل رشوة ثأودوسيوس ليكون له فضل على الرومان فيأمن على نفسه وقبيلته. فرموس من رجال البربر المعدودين. وقد مازجه شيء من الخلق الروماني فكان محبا للرفاهية متمتعا بالملذات كأنه قيصر. ومع ذلك قاسى في سبيل الاستقلال البربري أهوال الحروب ثلاث سنين. فرموس وتقفاريناص ويوغورطة ومصينيسا رجال متشابهون في الجلد ومقارعة الاهوال وعدم الخضوع للعدو وقوة الرجاء في النصر. ومن لم يفلح مات شهيدا في سبيل الاستقلال.

هكذا انتهت حياة فرموس أما أخوه جلدون فقد بقيت العلائق حسنة بينه وبين ثأودوسيوس، والمكاتبة سائرة بينهما. وكانت له بنت تدعى "صلفينة" ربيت مع أبناء ثأودوسيوس. وتولى هو خطبتها لبعض قرابته فزوجها أبوها، وأصبحت بالقسطنطينية. وتقوت بذلك العلاقة بين الزعيم البربري والامبراطور الروماني. وفي سنة (387) سمي جلدون رئيسا أعظم على فيلقين رومانيين وفي سنة (395) توفي ثأودوسيوس. واقتسم مملكته ابناه ارقاديوس على الجهات الشرقية قاعدته القسطنطينية وهنوريوس على الجهات الغربية قاعدته رومة. هنالك تبين ان جلدون لم يكن محبا للرومان رغم حظوته عند أمبراطورهم. وأعلن الحرب على هنوريوس. وقطع عن رومة ما كانت تستورده من حبوب أفريقية. وعطله بقرطاجنة. تهيأ وزير هنوريوس الى حرب جلدون وتهيأ الدونتسيون لنصرة جلدون. وشقي الكاثوليك اذ ذاك لانهم من دعاة السادة الاجنبية. وفي هذا الحين ذهب مسيزال الى ايطاليا ولم يعلم مراده فظنه جلدون يتجسس عليه للرومان، فقتل له ولدين، وتظاهر بخضوعه للامبراطور. وجد وزير هنوريوس في قتل ولدي مسيزال أحسن فرصة للانتقام من جلدون. فكلف مسيزال بحربه وأعطاه خمسة آلاف جندي. وكان لجلدون من الجنود سبعوق ألفا. وتقابل الاخوان بجيوشهما نواحي تبسة. وأعجب جلدون بكثرته فلم ينظم جيشه وخفي عليه ان النظام هو القوة. فانهزم جمعه وفر هو قاصدا

22 - سقوط حكومة الرومان بالجزائر

القسطنطينية. فأدركه شيعة أخيه بطبرقة، وجاؤوا به اليه فاودعه السجن. فعجل جلدون أيام نحسه وانتحر بعدما ملك اثنى عشر عاما. بعد انتحار جلدون وجهت رومة الى قرطاجنة واليا ليحوز لها أملاك جلدون وأبيه من أراض وأموال وذخائر. وكانت كثيرة جدا خصص لادارتها نائب خاص. هكذا انتهت حياة جلدون، أما مسيزال فانه أعاد أفريقية تحت السيادة الرومانية. ثم توجه الى ميلان بايطاليا طمعا في ان يعطى منصب أخيه جلدون جزاء انتقامه من جنسه لقتل ولديه وخدماته للرومان. ولكن وزير هنوريوس لم يجازه جزاء العاملين المخلصين بل جزاء الخائنين السافلين فقتله غريقا في الماء وهو ينظر اليه. وقد أصاب هذا الوزير في قتل مسيزال وجه الصواب في خدمة دولته. فانه لو منح هذا البربري مطلوبه لسلك سبيل جلدون. بل انه سبق جلدون الى كراهية الرومان اذ كان في صف أخيه فرموس. 22 - سقوط حكومة الرومان بالجزائر ابتدأت علاقة الرومان بالجزائر منذ سنة (213 ق. م) على عهد صيفاقس وتعرفوا بالتراب الجزائري منذ سنة (104) بعد يوغورطة. وتصرفوا في التراب النوميدي منذ سنة (46 ق. م) بعد يوبا الاول. وتم لهم الاستيلاء على الوطن الجزائري سنة (42م) بعد بطليموس. فكانت المدة بين ابتداء علاقتهم بالجزائر واستيلائهم عليها خمسا وخمسين ومائتين من السنين. وفي سنة (430) انهدم سلطانهم على ايدي الوندال، فكانت مدة حكومتهم بالجزائر ثمانية وثمانين وثلاثمائة من السنين. ولم تكن هذه المدة- على طولها- كافية لتثبيت قدم حكومة الرومان بالجزائر. فان البربر ما انفكوا خلال هذه المدة يعربون عن

كراهيتهم للرومان بالقول والفعل. فمن أقوالهم المأثورة في ذلك: "نقبل رومة في أفريقية بشرط ان تضيفنا اليها" ومن أفعالهم كثرة ثوراتهم التي لم تنحسم مادتها من عصر تقفاريناص الى عصر جلدون. وقد ظلت جهات محافظة على استقلالها وسط الحكومة الرومانية وهي جبال أوراس وجرجرة ووانشريس، وقد كانت هذه الجهات هي مادة تلقيح الحركة الاستقلالية. ومن وصايا بعض السياسيين الرومانيين: "لا تتم طاعة أية أمة ما دامت حولها أمم غير مطيعة. وإذا أردت ان تحمل أمة على الاستعباد فانزع من بين عينيها منظر الحرية". وقد عد بعض المؤرخين من الاغلاط الرومانية تركهم لهذه الجهات استقلالها. وعندي ان هذا يعد من الرومان عجزا لا غلطا. فانهم ما كانوا ليمنوا على البربر بمساواتهم لهم في الحقوق فكيف يتركون لبعضهم استقلالهم لو وجدوا الى ذلك سبيلا؟ وإذا بحثت عن علة سقوط حكومة الرومان بالجزائر فلن تجد لذلك غير ضعف الحاكم ونفور المحكوم منه. اما ضعف الحاكم فهو ضعف مادي وأدبي. وأما نفور المحكوم فبعضه ناشئ من الطبيعة البربرية وبعضه من معاملة الرومان. ونحن الآن نوضح هذه النقط بايجاز: أ- ضعف الرومان المادي: ظهر هذا الضعف في السلطة المركزية والجندية والعمران. 1 - اما السلطة المركزية فقد كانت تنتابها بين آونة وأخرى - علاوة على الحروب الخارجية- الفتن الداخلية الناشئة من تنافس العظماء على عرش الامبراطورية. وامتاز عصر ما بين سنتي (192 - 270) بتداخل الجنود في اسناد الامبراطورية لمن وافق هواهم حتى عرف بعصر الفوضى. وبلغ من التلاعب بها أن انتقل مركز

السلطة من رومة الى قرطاجنة سنة (237) على عهد غرديانس الاكبر، وبقي سرير الملك شاغرا بعد سنة (251) مدة عامين. وفي عصر ديوقلطيانس بلغ من عجز السلطة المركزية أن قسمت الممالك الرومانية أربعة أقسام على رأس كل قسم متصرف مطلق. وما زال سرير الامبراطورية يطفو ويرسب حتى جلس عليه ولنتنياس الثالث سنة (423) وكان غلاما ابن ست سنوات، فقامت أمه مقامه. وكان بونيفاس واليا عاما بأفريقية حاذقا في ادارته مخلصا لدولته. وله منافس يدعى ايتيوس، وهو قائد عام. فأوغر عليه صدر بلاصيدية أم الامبراطور الصبي، وروج عليها انه عازم على الاستقلال، وقال لها: ارسلي اليه ليحضر لديك، فان امتنع فتلك آية صدقي. وأرسل اليه أن الامبراطورة تريد قتلك. فلما أرسلت اليه لم يحضر، واذ ذاك ايقنت صدق ايتيوس، فعزلته سنة (427) فرفض عزلها. ووجهت اليه الجنود، فهزمها. ودخل الوالي والامبراطورة في حرب، ولما خشي الغلب راسل الوندال في الاعانة على أن يمنحهم من وادي مساغا الى آخر ما يملك الرومان بالشمال الأفريقي غربا. فصادف ذلك هوى في نفوس الوندال ولبوا مسرعين. 2 - واما الجندية فأخذ شأنها يضعف منذ امبراطورية سبتموس سويرس اذ أذن للجنود المرابطة على الحدود بالاقامة مع أزواجهم خارج المراكز الرباطية بصفة مستمرة، حتى أصبحت تلك المراكز اما مختزنات للسلاح والمؤن واما ساحات لتمرين الجند. وفي سنة (237) انتصب غرديانس الاكبر امبراطورا بقرطاجنة باعانة الفرقة الثالثة. فلما انتصر عليه مكسمينوس انتقم منها. قال مرسي: "وربما قضى عليها لمساعدتها غرديانس".

وكما كان لبعض الاباطرة يد في ضعف القوة العسكرية بالجزائر كان للزمان أيضا يد في ذلك. فان الجنود بطول اقامتها في هذا الوطن ومنح الاراضي لها عشقت الحياة الفلاحية، وأصبحت تنافس الاغنياء في تعمير الحقول وتشييد القصور، فابتعدت بذلك عن الصفات الجندية. 3 - واما العمران فقد كان لضعفه سببان: أحدهما تطلع الاعضاء البلديين لمجلس الشيوخ، وبعد تسنمهم لذلك المنصب تقل عنايتهم بالشؤون البلدية، ويعفون من الاداء على أملاكهم الواسعة. وثانيهما النزاع الواقع بين المذاهب المسيحية. وقد مر ان من المسيحيين طائفة كانت تجوب البوادي لنسف العمران واعدام الطبقة المثرية من البلاد. ب- واما ضعف الرومان الادبي فذلك انهم وجدوا بالجزائر أرضا طيبة التربة ويدا ناشطة في العمل، فاستغلوهما جميعا. وبلغوا بهما أقصى درجات البذخ والنعيم، فانغمسوا في الملاهي والملذات، حتى ان الديانة المسيحية- على ما فيها من تهذيب للنفوس وتزهيد في الدنيا- لم تصدهم عن ذلك وقد حدث أسقف قرطاجنة القديس قبريان (248 - 258) عن أكثر أساقفة عصره بانهم كانوا سراقا منهمكين في اللذائذ مرابين الى غير ذلك من الصفات الذميمة. وقد جاهد القديس اغسطين في تقويم الاخلاق جهادا أكبر ولكن الامر قد أدبر وفساد الاخلاق عم وانتشر فلم يكن لكلامه بالنفوس كبير أثر وإذا ذهبت أخلاف أمة فبشرها بالزوال إِنَّمَا الْأُمَمُ الْأَخْلَاقُ مَا بَقِيَتْ … فَإِنْ هُمُو ذَهَبَتْ أَخْلَاقُهُمْ ذَهَبُوا ج- واما نفور البربر الطبيعي فان هذا الجنس سقيت طينته بماء الحرية وعجنت بيد الشدة وجفت بريح الثورة، فليس في وسعه

23 - الحضارة الرومانية والبربر

ان يخضع للسيادة الاجنبية مهما طال أمدها عليه، وامتدت عروقها بوطنه، وكثرت سكاكين حضارتها لتقليم أظفار بدويته، وفيما سقناه من أحاديث الثورات البربريه ما يغني عن الاسهاب في بيان هذه الحقائق. د- واما نفور البربر الكسبي فقد رأيت ما كان للرومان عليهم من التفوق والاستعباد. الامر الذي كان يلقح دائما نفورهم الطبيعي. ولا أزيدك في انارة هذه الحقيقة عما تقدم غير كلمة واحدة أنقلها عن بيروني، وهي لا تخرج في معناها عما سبق. قال هذا البحاثة: "والاماكن التي كان للرومان بها سلطة حقيقية وقدم راسخة لا يعامل البربري فيها الا للاتتفاع منه". هذه أصول علل سقوط حكومة الرومان بالجزائر. وقد أكثر المؤرخون في هذا الموضوع من الابحاث والاستنتاجات. وقد لخصنا لك في هذا الفصل زبدة أقوالهم الصحيحة، وأعرضنا عن تتبع ما كان لهم من أقوال ساقطة وأفكار سقيمة خشية الاطالة من غير كبير فائدة. والمطلع على كلامهم يرى فيه غرضين واضحين: أحدهما حمل القارئ على الاعتقاد بعظمة الرومان الى درجة أن يدهش من سقوط استعمارهم، وثانيهما تحذير قومهم من الفرنسيين من الوقوع فيما وقع فيه الرومان. وكلا هذين خارج عن غرضنا من تاريخ الجزائر. 23 - الحضارة الرومانية والبربر كانت لبعض الاباطرة عناية بغرس الحضارة الرومانية بالجزائر. وأشدهم عناية بذلك ادريانس وسبتموس سويرس وقسطنطين. ويقول بعض المؤرخين: ان الرومان أكملوا حضارتهم بالجزائر حتى أصبحت لا فرق بينها وبين حضارة رومة. ويستدل لذلك بانه زمن طريانس

صار من يحكم عليه بالنفي من رومة يمنع من افريقية لما بين الوطنيين من المشابهة في الحياة والرفاهية. ونحن لا ننازع في وجود حضارة رومانية بالجزائر شبيهة بحضارة رومة. وانما نبحث عن هذه الحضارة هل كانت خاصة بالرومان أم أن البربر أقبلوا عليها؟ اختلفت أقوال الباحثين من المؤرخين ازاء هذه النقطة وانقسموا ثلاث فرق: 1 - فرقة تقول: كل ما كان بافريقية الشمالية من بناءات وفلاحة وسائر وجوه العمران انما كان من البربر، أخذوا الاساليب عن الرومان وعمروا لانفسهم. وزعيم هذه الفرقة هو لويس بيرتران. ومما قاله بيرتران: ان البربر أقبلوا على الحضارة الرومانية أكثر مما أرادت منهم رومة: وان افريقية اللطينية لم تزل قائمة الى يومنا هذا، لم ينسخ ظلها نور الاسلام اذ أنه أنما أتاها بدين ولم يأتها بحضارة، وانه لم تقع معارضة بين البربر والرومان مع كون السيادة للرومان لا سياسيا ولا دينيا ولا اقتصاديا. وهذه أقوال سخيفة. وقد تعرض يبروني لردها. أما أنا فلا أطيل الفصل بنقض أمثال هذه الاقوال، وكونها صادرة عن فكر لويس بيرتران كاف لسقوطها. وإذا كنت تجهل هذا الرجل- رغم كونه رئيس المجمع العلمي الفرنسي- فهو الذي قال فيه أحد الكتاب الفرنسيين وأجاد:، إذا أردت الحقيقة في كلام بيرتران تجدها في نقيض ما يقول". 2 - وفرقة تقول: ان الحضارة الرومانية بالجزائر مركبة من أيدي واذهان الرومان والبربر، وان العنصرين كانا مشتركين في الاحساسات الدينية والسياسية والفوائد الاقتصادية، وان رومة تداخلت في أخلاق البربر فغيرتها تغييرا معتبرا.

والتاريخ الصادق يشهد لخلاف هذا الرأي أيضا: فان البربر- وان عملوا في تكوين الحضارة الرومانية بوطنهم - انما كانوا بصفة عملة مجبورين. والذين لم تستطع يد الرومان ان تنالهم بالقهر لم يعملوا شيئا في هذه الحضارة. وقد رأيت أن البربر كانوا دائما خلاف الرومان في الدين وثائرين على سياستهم، وانهم كانوا محرومين من الفوائد الاقتصادية، وان اخلاقهم لم تزل بحالها فان أكثر القائمين بالثورات كانوا ممن عرفوا الحضارة الرومانية واخذوا منها ما لا يضر بقوميتهم. 3 - وفرقة- منها مرسيي وفرنال- تقول: ان البربر لم يقبلوا على الحضارة الرومانية، وانها ذهبت بذهاب سلطانهم. وهاك أهم حجج هذه الفرقة: 1 - مدة وجود الرومان بافريقية- على طولها- لم تنقطع الثورات، ولم يفتأ البربر فيها مدافعين عن ديارهم وعوائدهم، ولم توجد أية قوة تنزع من قلوبهم حب التمتع بالاستقلال. 2 - لم يوجد من البربر من أعان الرومان، وما كان من مسيزال فانما كان انتقاما من أخيه الذي قتل له ولدين لا حبا في الرومان. ويوضح لك ذلك انه كان حارب الرومان مع أخيه فرموس، وانهم لم يجازوه على أعانته لهم على جلدون جزاء المعين المخلص. 3 - عدم انتشار اللغة اللطينية بين البربر حتى آخر عصر الدور الروماني اذ كان عصر القديس أغسطين الولاة الاداريون والرؤساء الدينيون يحتاجون الى ترجمان بينهم وبين البربر. 4 - لم يبق من مدنية رومة غير الخرابات والاحجار المنقوشة، ولو أثرت رومة في البربر حقيقة لبقي من حضارتها أشياء أخر غير الخرابات.

وهذه الفرقة هي ذات القول الصحيح والحجة القويمة، هي التي صدقت التاريخ ولم تتأثر بدعاية ممجدي الرومان ومكبري شأنهم. قال بيروني: ويمكن اسناد سقوط الحضارة الرومانية بأفريقية الى ثلاثة أسباب: 1 - فساد الاخلاق الرومانية، وذلك لكثرة الملاهي والمنتزهات. 2 - نقص الرومان الذين بيدهم تسيير الحضارة، وذلك ان كثرة الملاهي تضعف اليد العاملة فيقل الفلاحون والنوتيون وغيرهم. 3 - وجود الديانة المسيحية، وذلك بما حدث فيها من الاحزاب المتباغضة. قال بيروني: "والسبب الحقيقي لسقوط الحضارة اللطينية من افريقية هو عدم استقلالها استقلالا يحفظ بقاءها بعد سقوط رومة" وفي هذا الكلام شيء من الابهام. فان أراد من الاستقلال استقلال الرومان العاملين على نشرها سياسيا واداريا فهذا لا يكفي لحفظها من السقوط لان الجنس الاصلي بهذا الوطن غير مقبل عليها اقبالا يحفظها بعد الرومان. فان قال: ان الرومان لو استقلوا بأفريقية لبقيت لهم سلطتهم وحضارتهم، ولم يضرهم ما يصيب الامبراطورية برومة قلنا ان سلوكهم مع الجنس الاصلي لا يضمن بقاء سلطتهم. بل لو استقلوا عن رومة لتعجل سقوطها. وهذا بونيفاس لما أراد الاستقلال احتاج الى الاستعانة بالوندال. على ان للدول مثل الاشخاص أعمارا تنتهي بانتهاء آجالها طالت أو قصرت. وان أراد من استقلال الحضارة اللطينية بأفريقية الشمالية ان تكون بيد الجنس البربري فصحيح ان تبقى بعد سقوط رومة كما بقيت حضارة قرطاجنة بعد سقوطها. ولكن الرومان ليس غرضهم من

الاستيلاء على الشمال الأفريقي نشر حضارتهم به حتى يتخذوا الوسائل اللازمة لقبول البربر اياها. وانما كان غرضهم توسيع دائرة نفوذ رومة، وتوزيع ابنائها على المستعمرات لكسب الثروة التي عزت عليهم بوطنهم، وجلب نتائج تلك المستعمرات الى ايطاليا القاحلة. واذن نقول: ان السبب الحقيقي لسقوط الحضارة اللطينية بالجزائر هو عدم اقبال البربر عليها، وليس عدم اقبالهم عليها لآفة في طباعهم. فانهم أقبلوا على حضارة قرطاجنة قبلها. وبقوا محافظين عليها حتى جاءهم العرب بحضارة سامية حديثة جرت ذيل النسيان على حضارة سامية قديمة. وعدم اقبالهم على حضارة رومة يرجع الى الاسباب الآتية: 1 - ترفع الرومان عن مخالطتهم. قال بيروني: "وكان الرومان لا يخرجون عن وظيفتهم السياسية والادارية، ويترفعون عن مخالطة البربر. ومن البربر من كانوا يتجنسون بالجنسية الرومانية، ولكنهم يجدون- بعد تجنسهم- الرومان متمسكين بترفعهم عن مخالطتهم". 2 - سياسة الضغط التي سلكها الرومان مع البربر، وذلك بانتزاع اراضيهم وسلب حقوقهم وجبرهم على العمل في أرضهم لفائدة غيرهم. فالبربر الذين تحت الاستعباد الروماني ذهبت مواهبهم في خدمة الرومان، والذين سلموا من ذلك الاستعباد نفروا من كل شيء روماني. 3 - اهمال الرومان للبربر، فلم يعتنوا ببث الاخلاق الفاضلة بينهم وتحويل عوائدهم. اذ كان غرضهم من الاستيلاء الفوز بنتائج الوطن وخيراته. ومن ههنا نعلم ان البربر لم يمتزجوا بالرومان ويندمجوا فيهم. ولكن لا ننكر وجود شواذ وقذتهم الحضارة الرومانية وتأثروا بساداتهم

24 - ذكر اباطرة رومة مدة الاستيلاء على الجزائر

في لغتهم وآدابهم ونظام حياتهم. غير ان ذلك لا يعد شيئا بالنظر لطول اقامة الرومان بينهم. بل ان طول اقامتهم بالوطن البربري أثر فيهم أنفسهم حتى صاروا متميزين عن اخوانهم برومة. والخلاصة ان استيلاء رومة على الجزائر إنما أفاد الرومان ولم يفد البربر لا علميا ولا أخلاقيا ولا اقتصاديا الا عرضا. بل انه بعكس ذلك أضر بهم. ولولا ازعاج رومة لهم واسقاطها لدولهم لكان يكفيهم ما أخذوه عن قرطاجنة. وفي مواهبهم الفطرية ما يهيؤهم لترقيته. فان البربر من أغنى الامم رجالا في صفاء الاذهان وقوة الجنان. 24 - ذكر اباطرة رومة مدة الاستيلاء على الجزائر لم تزل رومة منذ تأسيسها عاصمة الدولة الرومانية الى أن جاء قسطنطين فاختار ان ينقل سرير الملك الى بيزنطة. فانتقل اليها سنة (330) وكان له ثلاثة أبناء اقتسموا المملكة الرومانية بعد وفاته. ثم مات منهم اثنان فاستقل الثالث بالمملكة. ولم تزل المملكة الرومانية بين انقسام واجتماع حتى سنة (395) حيث تم في هذه السنة انفصال العاصمة الشرقية عن العاصمة الغربية. والجزائر لم تزل تابعة لرومة العاصمة الغربية الا سنة واحدة تبعت فيها القسطنطينية العاصمة الشرقية. وهاك اسماء أباطرة هذه المملكة في جدول استخرجته من ابن خلدون (2: 199 - 216) وقبل ان أرسم لك الجدول أقدم بين يديك ملاحظات: 1 - ذكر ابن خلدون اختلافا في أسماء بعض الاباطرة ومدتهم.

ونحن نقتصر من ذلك على ما كان متحدا أو قريبا مما في كتب الافرنج. لان ذلك التاريخ الهام قد عبثت به الايام فكثر فيه التحريف خصوصا في الاعلام. 2 - اقتصر ابن خلدون على ذكر مدة أولئك الاباطرة. ونحن نتمم الجدول ببيان ابتداء ولاية كل واحد منهم ونهايتها بالتاريخ الميلادي مأخوذا من كتب الافرفج. وما يوجد من اختلاف في مدة ولاية بعض الاباطرة بين ابن خلدون وغيره فذلك مما لا تخلو منه التواريخ. 3 - قد يكون ما نثبته عن ابن خلدون من الاعلام بعيدا عما في غيره. فننبه عليه في تعاليق. وقد يظهر لنا ان ما فيه محرف أو مصحف فلا نثبته في الاصل ولا نهمل التنبيه عليه في التعاليق. وقد يكون بعض التعاليق لفائدة تاريخية.

جدول الأباطرة

ـ[صورة]ـ شكل (24) الممر والقوس الذي نسب إلى طريانس بنيت هذه الابنية في عهد طريانس

ـ[صورة]ـ شكل (25) موزاييك "الجميلة"

ـ[صورة]ـ شكل (26) الصيد: لوحة تمثل حمام فينوس

الباب السابع في ذكرى الوندال ومدل امرهم

الباب السابع في ذكرى الوندال ومدل امرهم

1 - تمهيد

1 - تمهيد القوط (ويقال لهم أيضا: الغوث- LES GOTHS) أمة شديدة البأس صعبة المراس. قال ابن خلدون: " كانوا يعرفون في الزمن القديم بالسيسيين، نسبة الى الارض التي كانوا يعمرونها بالمشرق، فيما بين الفرس واليونان" (¬1) قال: وكانت لهم حروب مع الملوك السريانيين من لدن عهد ابراهيم الخليل عليه السلام (كان أواخر الالف الثالث قبل الميلاد) ثم مع الفرس ثم قهرهم الاسكندر المقدوني وأخضعهم فيمن أخضع من الامم. ومن ذلك الحين اختلطوا بالروم واليونان. هذا ملخص كلامه. وقال غروت: كانوا في القرن الثالث (ق. م) على شواطئ بحر البلطيق. ثم انتشروا في جنوب جرمانيا وتعددت شعوبهم فاشتهرت منها شعوب هيرول) HERULES) وسويف (SUEVES) والان (ALAINS) وبرغند (BURGONDE) ووندال (VANDALES) قال: وفي النصف الثاني من القرن الثالث للميلاد تغلبوا على بلاد مقدونيا وبلاد الاغريق. وانتشروا على ضفاف نهر الدنوب (¬2) بعضهم جنوبه، ويسمون القوط الشرقيين، وبعضهم شماله، ويسمون القوط الغربيين. ¬

_ (¬1) ج2 ص 234. (¬2) منبع هذا النهر من الغابة الكحلاء غربي المانيا، ويمر جنوب المانيا ثم بالنمسا والمجر، ويفصل بين صربيا والمجر ورومانيا، وبين رومانيا وبلغاريا وروسيا ويصب بالبحر الاسود.

وفي سنة (376) على عهد الامبراطور واليس هجم الهون من التتر على القوط الشرقيين. فاجتازوا نهر الدنوب. والتحقوا باخوانهم الغربيين. وهجم الجميع على المملكة الرومانية. واستوطنوا تراقية باذن من الأمبراطور واليس. ومن هذا الحين انفتحت لهم الطرق في المملكة الرومانية ففي سنة (382) كلفهم ثأودوسيوس وزير ولنتنيانس الثاني بحراسة مجار نهر الدنوب، وملكهم ولايتين هنالك، ولما ولى ابنه هنوريوس على رومة، وكان صغير السن، استوزر له ستيليقون الوندالي. وكان هذا الوزير متزوجا من بنات أباطرة الرومان. وفي أيام وزارته اجتازت طوائف من القوط حدود ايطاليا. فكلفه هنوريوس بحربهم. فجهز الجيوش، وكانت جنود مرابطة على نهر الرين لحفظ الحدود، فاستدعاها، واستعان بها على حرب تلك الطوائف. انتصر ستيليقون في حربه، ولكن حدود ايطاليا من ناحية الرين بقيت من غير حراسة، فاجتاز بها من شعوب القوط السويف والألان والوندال، وانتشروا بالغاليا. وذلك أول يناير سنة (407). وكان ألريك (¬1) قد حارب بقومه من القوط الغربيين أرقاديوس أمبراطور القسطنطينية. وتم بينهم الصلح على ان يمنح الامبراطور ألريك ولاية اليريا (¬2). ولما اصطلح مع امبراطور الشرق أخذ في الغارات على المملكة الغربية، ودافعه ستيليقون. ولما أعياه أمره عرض عليه رئاسة الجند الروماني على أن يكف غارات القوط. وكان من الرومان من لم يرض سياسة ستيليقون فقتلوه سنة (408). غضب ألريك لقتل ستيليقون. فتقدم الى رومة. وحاصرها ¬

_ (¬1) سماه ابن خلدون انطرك. (¬2) أليربا: وطن جبلي على الشاطىء الشرقي من بحر الادرياتيك.

2 - أصل الوندال

حصارا قضى على حياة خلق كثير من أهلها. وأخيرا أفرج عنها عوض غرامة كبيرة أخذها. ثم عاد اليها سنة (409) فخضعت له. وتداخل في شأن الامبراطورية. فأسقط هنوريوس لانه لم يسند اليه رئاسة الجند. ونصب مكانه شخصا يدعى اتال. ثم نزل هنوريوس على رغبته. فأعاد عليه كرسيه وعزل اتال. وما زال ألريك على عظمته حتى طمع في فتح أفريقية سنة (410) ولكن الزوابع اغرقت اسطوله. فعاد الى ايطاليا وتوفي سنة (411). وكان لالريك صهر يدعى اتولف. فقربه هنوريوس وزوجه أخته بلاسيدية وسماه بطريقا. كل ذلك ليعينه على ابعاد أمم القوط من ايطاليا. فانتقل اتولف بالقوط الغربيين الى الغاليا. وكان بها السويف والألان والوندال. فأخرجهم منها الى اسبانيا. وفي سنة (415) قتل اتولف وخلفه في ملكه وليا. فتوسع في اسبانيا، وأخرج الوندال الى نواحي غرناطة وجيان من الجنوب الاسباني. فاستقروا بذلك القسم. ونسب اليهم. فصار يدعى "وندلوسيا" وقد صقلته العرب فغيرته الى كلمة اندلس. 2 - أصل الوندال قد رأيت من سياقة تاريخ الوندال عند الافرنج انهم شعب من القوط. وذكر ابن خلدون ان القوط من ماغوغ ابن يافث. ورواية الافرنج هذه هي الصحيحة عندي لما فيها من الشرح والبيان لاحوال الوندال الى ان استقروا باندلس. وذلك يدل على فضل اطلاعهم في هذه المسألة. فيترجح الاخذ بروايتهم. وهناك روايتان أخريان حكاهما ابن خلدون: الاولى انهم من الاغريق. وهم أيضا من يافث. وهاك عبارته:

"ولحق بالاندلس ثلاث طوائف من الغريقيين فاقتسموا ملكها. وهم الابيون والشوانيون والفنداش. وباسم فندلس سميت الاندلس" (¬1) وعبر عن هؤلاء الطوائف بالطوالع. الرواية الثانية حكاها بقوله: "وقد يقال ان هؤلاء الطوالع كلهم من ولد طوال بن يافث، وليسوا من الغريقيين". وفي كلتا روايتيه نظر: أما الاولى فيبطلها ان الرومان كانوا يطلقون على الوندال وغيرهم من أمم القوط اسم المتوحشين. ولم يعهد منهم هذا اطلاق في الاغريق. كيف وهم اساتذتهم في العلوم والحضارة؟ ولعل منشأ الوهم في هذه الرواية ما ذكره ابن خلدون نفسه من ان القوط اختلطوا بالروم واليونان منذ عهد الاسكندر. فاختلط على صاحب الرواية بعض شعوب القوط بشعوب الاغريق. واما الثانية فقد أشار الى ضعفها بقوله وقد يقال. ووجه سقوطها ان أبناء قطوبال استوطنوا الاندلس بعد الطوفان على ما ذكره في موضع آخر، وتقدمت الاشارة اليه في الباب الثاني. وهؤلاء الطوالع إنما نزلوا الاندلس أوائل القرن الخامس للميلاد كما تقدم في سياقة تاريخ الافرنج. وتدل عليه أخبار ابن خلدون. ومما يرشح الاخذ برواية الافرنج أن أسماء الطوالع عند ابن خلدون قريبة من أسماء الشعوب التي صرح الافرنج أنهم من القوط: فالفندلس هم الوندال، والابيون يظهر أنهم ألان صحفت النون باء، والشوانيون يظهر أنهم السويف، ووضع الشين مكان السين من الشائع، فابن خلدون نفسه عبر عن الوندال مرة باسم فندلش وأخرى ¬

_ (¬1) ج2 ص235 وما ذكره باسم طوال ذكره في تفصيل انساب العالم باسم قطوبال، وذكره في الكلام على انساب اليونان والروم باسم طوبال.

3 - ديانة الوندال

باسم فندلس، والفاء عربت باء فيما يظهر ولكنها صحفت في الطبع نونا، وكثيرا ما يعرب ابن خلدون حرف (V) باء. والخلاصة ان الوندال شعبة من القوط يدل على ذلك سياقة تاريخهم، واتحادهم في الاخلاق حتى أطلق الرومان على الجميع اسم المتوحشين، واتحادهم ايضا في الدين واللغة. وقد بقي اسم القوط لبعض شعوب هذه الامة. وهم الذين أسسوا دولتهم بالغاليا الى أن سقطت سنة (507) وانتقلت الى الاندلس وبقيت هنالك الى ان قضى عليها طارق بن زياد وموسى ابن نصير سنة (711). أما الوندال فانهم أسسوا دولتهم بأفريقية وبقوا بها حتى قضى عليهم الروم البيزنطيون. 3 - ديانة الوندال كان الوندال- كبقية القوط- وثنيين يعبدون الشمس والقمر والارض وغيرهن من آلهتهم حتى بلغتهم دعوة المسيحية أواخر القرن الرابع للميلاد. كانت المسيحية قد انقسم أتباعها الى مذاهب متنافرة متباغضة. ومن بين تلك المذاهب مذهب أريوس. وكان أريوس هذا لعهد ديوقلطيانس وأدرك دولة قسطنطين. قال ابن خلدون: وهو كبير تلامذة ماربطرس بطرك الاسكندرية. وكان كثير المخالفة له. فسخطه وطرده. وقال في موضع آخر: "وكان يذهب الى حدوث الابن - عيسى عليه السلام- وانه إنما خلق الخلق بتفويض الاب اليه في ذلك" ولعل المراد من الخلق ما جاء في سورة المائدة من قوله تعالى:

استيلاء الوندال على الجزائر

{وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي} واذن تكون عقيدة أريوس في عيسى مثل عقيدة الاسلام. بعد وفاة ماربطرس انتصب اسكندروس مكانه بطركا. فأشاد بكفر أريوس. وكتب بذلك الى جميع النواحي. فبلغ الخبر قسطنطين. فاخضر أسكندروس وأريوس في أساقفة آخرين. وتناظروا أمامه. فمال الى أسكندروس. واذن له أن يشيد بكفر أريوس. وما أقبح تداخل القوة المادية في القوة الفكرية! وما أعجز فؤسها عن ايجاد قبر يعفي وجودها! حاول أسكندروس ان يعفي مقالة أريوس فانتشرت على الرغم منه ومن قسطنطين حتى أن كثيرا من الملوك أخذوا بها وانتصروا لها. قال ابن خلدون: "وغلبت تلك المقالة على أهل قسطنطينة وانطاكية ومصر والاسكندرية". بلغت االمسيحية في أواسط القرن الرابع إلى القوط على يد أتباع أريوس. وكان الوندال منهم كلهم أريويين. ويقيمون مراسم ديانتهم باللغة القوطية لا باللطينية. وكانوا على غاية من التعصب لمذهبهم حتى ان جل ما يجده المؤرخ من أحاديث الوندال بأفريقية هي اضطهاداتهم للارثذوكس. ومما زاد في تعصبهم واضطهادهم لغيرهم ان ملوك الارثذوكس في نواح أخرى كانوا يعذبون الاريويين أيضا. فكان الوندال ينتقمون لاخوانهم في الدين من أعدائهم الذين تحت سلطانهم. وليست يد السياسة ببعيدة عن تلك الاضطهادات. 4 - استيلاء الوندال على الجزائر ظهرت أمة الهون من التتر وأمم القوط بأروبا. وأخذت تلك الامم تنقص الامبراطورية الرومانية من أطرافها حتى بلغوا قلبها،

وصاروا يتحكمون في تنصيب الامبراطور. فأصابت أروبا والمملكة الرومانية منهم جوائح الفتن وارتفع الامن وذهب العمران. والجزائر- كبقية الشمال الأفريقي- كانت في هرج من أجل تنافس الاحزاب المسيحية وثورات بعض المتطلعين الى الاستقلال من البربر والرومان. ولكنها لم تزل أحسن حالا من أروبا وانعم بالا منها. ولما استقر الوندال بالاندلس اتخذوا سفنا لخوض لجج البحر الابيض المتوسط. فكانوا ينظرون الى شمال أفريقية من كتب. ومع علمهم بضعف رومة وجرأتهم على ولاياتها بأروبا لم يجرأوا على افريقة. فبقوا ينتظرون سنوح الفرصة لهم بفتحها، حتى وجدوا في الكونت بونيفاس تحقيقا لأمانيهم وانجازا لآمالهم. في سنة (422) سمي بونيفاس واليا على أفريقية. وفي سنة (423) توفي هنوريوس، وتطلع الى خلافته أناس، ووقعت رومة لذلك في هرج، وكانت بيلاسيدية أخت هنوريوس بالقسطنطينية، ومعها ولدها من قسطانس قائد هنوريوس. تزوجته بعد قتل اتولف. وتداخل امبراطور القسطنطينية ثأدوسيوس بن ارقاديوس أخي هنوريوس في عرش رومة. فنصب به ابن عمته بلاسيدية باسم ولنتنيانس الثالث تحت كفالة أمه. وذلك سنة (424). لما أفضى الامر الى بلاسيدية فوضت لبونيفاس في التصرف. فخدم دولته خدمة صادقة، وصار من عظماء الحكومة. فحسده لذلك بعض منافسيه. وقام بدور السعاية به مع بلاسيدية قائد عام يدعى ايتيوس. وأخذ يدس عليه الدسائس معها حتى أصغت اليه وعزلت بونيفاس من ولايته سنة (427). كانت المصلحة الشخصية أغلب على بونيفاس من المصلحة العامة.

فلم يمتثل أمر العزل، ولم يبال بما يصيب دولته من شغبه عليها وهي على فراش الاحتضار. وصممت الامبراطورة على عزله. وعززت أمرها بالقوة العسكرية. فحاربها بونيفاس، وهزم جنودها. فعادت لحربه في السنة التالية. ووجد هو موقفه حرجا، البربر أهل الوطن ضده، ودولته تحاربه، وارادته أبت من الامتثال للعزل. فأراد أن يستعين على الخلاص من الازمة بالاجنبي. فاستنجد الوندال على أن يمنحهم غرب المملكة الرومانية بأفريقية الى وادي مساغا، ويسلموا له في شرق هذه المملكة، يبقى به مستقلا (¬1) فأسرع الوندال الاجابة. وفي سنة (429) نزل الوندال والسويف والألان وغيرهم من أمم القوط بموريطانيا الطنجية. وأنبثوا في الوطن البربري كالجراد المنتشر. قال مرسيي: "وكان عددهم ثمانين ألفا المقاتلون منهم خمسون ألفا". وفي هذه المدة كان القديس أغسطين يسعى في الصلح بين بونيفاس والامبراطورة. فأدركت أخيرا غلطها وتحققت الدسيسة. فرضيت عنه وأعادت عليه منصبه، ولكن بعد نزول الوندال بموريطانيا. ولما عاد بونيفاس الى منصبه ندم على اتفاقه مع الوندال فأرسل اليهم أن عودوا الى الاندلس، واخرجوا من المملكة الرومانية! فلم يسرع الوندال الى اجابته هذه المرة، بل تمادوا في سيرهم. وعدوا أمر بونيفاس هذا ناقضا لاقفاقهم معه. فلم يقفوا عند حد وادي مساغا، وتعدوه الى نوميديا. وصدق على سياسة بونيفاس معهم المثل العربي: "لَا هَنَكِ أَنْقَيْتِ وَلَا مَاءَكِ أَبْقَيْتِ". ¬

_ (¬1) اين الثرى من الثريا؟ أين بونيفاس من خالد بن الوليد (ض) الذي كان قائدا عاما وغازيا منصورا، فلما عزله عمر (ض) امتثل ورجع تحت لواء أبي عبيدة جنديا مخلصا؟

ولما رأى بونيفاس تقدم الوندال في الوطن تهيأ لحربهم، وجمع جموعه. فالتقى الفريقان قرب قالمة. ودارت الدائرة على بونيفاس، ففر الى بونة، وتحصن بها. وذلك سنة (430). وبعد فراره قسم الوندال جنودهم قسمين: قسما تركوه للاستيلاء على نوميديا، وآخر وجهوه لحصار بونة. فكان الاول يفتح مدن نوميديا بمساعدة اتباع دونتوس، ويبطش بالارثذوكس، وكان الثاني يجمع جثث القتلى في خنادق حول المدينة ليفرق من منظرها المحصورون. وفي سنة (31) أرسلت بيلاسيدية نجدة الى بونيفاس تشجع بها، وخرج لقتال الوندال. ولكنه انهزم أمامهم. فدخلوا المدينة، ونهبوها، وحرقوها. وايس بونيفاس من المقاومة، فترك الوطن لفاتحيه، وذهب الى الامبراطورة، فأكرمته، ورفعت منزلته، ولم تؤاخذه على خسارة وطن هو حياة رومة لعلمها بأن لها يدا في ذلك باصغائها للوشاة. وبفتح بونة وذهاب بونيفاس تم للوندال فتح الوطن الجزائري (موريطانيا ونوميديا) وذلك في مدة عامين. ويجب ههنا أن نتذكر سير الاستيلاء الروماني على الجزائر. فقد تقدم أنهم تعرفوا الى هذا الوطن سنة (213) ق. م وشرعوا في تحقيق استيلائهم عليه من سنة (46) ق. م الى سنة (42) للميلاد. أما الوندال فلم تتقدم لهم معرفة به، ولم يمكثوا في فتحه غير عامين. وهذا مما يبعث على البحث في سبب الفرق الكبير بين سير الاستيلاءين. لا يصح أن ترجع سرعة الاحتلال الثاني وبطء الاول الى تفوق الوندال على الرومان في السياسة والجندية. فان الواقع يشهد

لخلاف ذلك. فلنبحث عن العلة في غير القوة الحربية والحنكة السياسية. يقول بعض المؤرخين: أن الذي سهل على الوندال احتلال الوطن البربري وقرب أمده هو اتفاقهم والبربر طبعا ودينا. ذلك بأن طبع الجميع حب الثورات وهدم الحضارات، ودين الجميع كان على خلاف دين الرومان الارثذوكس. وليس ذاك عندي بصحيح. فان البربر إنما كانت ثوراتهم حبا في الاستقلال وتطهير هوائهم من سموم الانفاس الاجنبية، وكانوا أكثرهم وثنيين والمسيحيون منهم كانوا غير متفقين مذهبا مع الوندال. ومن المؤرخين من يعترف بوجود فروق بين البربر والوندال من شأنها ان توجد الكراهية والبغضاء بين الامتين. وهذه الفروق هي: اللغة، القوانين، الاخلاق، العوائد، اللون. ويعلل هذا المؤرخ سرعة احتلال الوندال بأمرين: انتشار الفوضى في الوطن، وحسن سياسة القائد الوندالي. وليس هذا بصحيح عندي أيضا. أما الفوضى البربرية فانما هي من حيث فقد أمير عام يلتفون حوله، لان الرجال الذين يصلحون لذلك قد قضت عليهم رومة، ولا يمنع ذلك من وجود رؤساء على عشائر يقومون بالدفاع عن وطنهم وتعطيل سير الوندال به، وأما حسن سياسة القائد الوندالي فليست هي التي استمالت اليه البربر، وانما نفعته في جمع كلمة من تحت رايته من قومه وتثبيت قدم دولته بعد الاحتلال. وعندي أن لا سبب لسرعة احتلال الوندال غير مساعدة البربر لهم. وعلة مساعدتهم أنهم كانوا ينفرون من سلطة رومة، ويعشقون الاستقلال. وقد حاولوا مرارا أن يبلغوا مرادهم من طرد الرومان

5 - تأسيس حكومة الوندال

والاستقلال بوطنهم فلم ينجحوا. فلما وجدوا في الوندال نصيرا على طرد الرومان أعانوهم مكتفين بهذا الشطر من غايتهم، اذ رأوا أنهم عاجزون عن الشطر الآخر وهو الاستقلال. فاستبدلوا احتلالا باحتلال، تحقيقا لاحد المقصدين، وتلك قاعدة ارتكاب أخف الضررين. 5 - تأسيس حكومة الوندال استولى الوندال على نوميديا وما يليها غربا. واتخذوا بونة عاصمة مملكتهم. وأيست رومة من ارجاع ذلك الوطن بالحرب، لما كانت عليه من الاختلال والانحلال. ورأى الامبراطور أن يحافظ على ما بقي له من تراب أفريقية. فارسل رسولا الى جنسريق قائد الوندال وملكهم، ليفاوضه في الصلح. وفي سنة (35) تم الاتفاق بين الفريقين حسبما يلي: 1 - يدفع أمير الوندال لامبراطور رومة غرامة سنوية. 2 - لا يتجاوز ملكه حدود نوميديا شرقا. 3 - يعطي ولده هنريق رهنا على الوفاء. 4 - يعمل بهذه المعاهدة لمدة ثلاثين سنة. قضت هذه المعاهدة ببقاء حق امبراطور رومة في الجزائر وقبول جنسريق لان يكون تحت سيادته. فأظهر له حسن الولاء، وحافظ على مواد المعاهدة. وبعد اربع سنوات وثق الامبراطور باخلاصه، فسرح له ولده. وذلك ما كان ينتظره جنسريق لتوسيع مملكته بفتح البروقنصلية (تونس). لم يبق لجنسريق بعد رجوع ولده ما يحمله على احترام المعاهدة. واتفق ان كان الرومان اذ ذاك مشتغلين بحرب القوط. فلم يهمل هذه

الفرصة. وذهب إلى قرطاجنة، ففتحها من غير عناء. واستولى على البروقنصلية. وتم له بذلك الاستيلاء على تونس والجزائر ومراكش وذلك سنة (439). لم يستطع ولنتنيانس الثالث أن ينتقم من جنسريق لتعديه على المعاهدة. وقديما عد الرومان مدافعة القرطاجنيين لهجوم مصينيسا خرقا لمعاهدة (201) ق. م وهكذا ترى القوي يعد مدافعة الضعيف عن حقه تعديا، والضعيف يداس حقه فيتظاهر بالحلم والسماح. رأى ولتننيانس ضعفه أمام قوة جنسريق. فلم يحتج بالمعاهدة التي بينهما. واكتفى بتجديد معاهدة أخرى معه. فوقع الاتفاق بينهما بقرطاجنة سنة (42) على ان يسلم الامبراطور للامير من سرت شرقا الى تبسة وشق بنارية وباجة غربا، ويسلم الامير للامبراطور بقية نوميديا وجميع أقسام موريطانيا. قضت هذه المعاهدة بعود الجزائر الى السلطة الرومانية. ولكنها سلطة ضعيفة، وقصيرة العمر، اذ قضى عليها جنسريق سنة (55) وما قبل هذه المعاهدة الا بنية القضاء عليها، حيث أنه استبدل وطنا هادئا غنيا لسلامته من جوائح الثورات بوطن قضى على عمرانه تعدد الفتن وأنهكه تهاطل الارزاء والمحن. في سنة (450) توفيت بلاسيدية. وبقيت المملكة بيد ابنها ولنتنيانس. فعبث بها عبثا كبيرا. وأخيرا قتل سنة (54) وانتصب قاتله مكانه. وزاد ذلك في اضطراب أحوال رومة. وكان جنسريق يراقب أحوال أروبا. فرأى في اختلال رومة ما شجعه على غزوها. فجهز جيوشه من الوندال والبربر. وقصدها ففتحها سنة (55) من غير عناء ولا تعب. وسرح جنوده فيها للنهب اربعة عشر يوما. ثم عاد الى قرطاجنة ظافرا منصورا يحمل غنائم جليلة واسارى من أعيان الرومان.

6 - نظام دولة الوندال

من ذلك الحين انتهت بقايا سيادة الرومان على شمال افريقية. واستقل به الوندال. وعدوا أنفسهم سادة هذا الوطن. فكانوا يؤرخون بايام ملوكهم. ولم يقبل الملوك القابا تشريفية من رومة لئلا يعدوا كموظفين رومانيين، وصاروا يرسمون صورهم على النقود. وكانت المملكة الشرقية القوية تنظر الى أختها أو أمها المملكة الغربية بعين الحنان والشفقة. فأراد أمبراطورها ان يتداخل في شؤون الوندال تارة لفائدة رومة وأخرى لفائدة الارثذوكس. ولكن ملوك الوندال كانوا يرفضون تداخله بكل شمم. والخلاصة ان جنسريق كان في بداية استيلائه يتظاهر باحترام دولة الرومان. وبعد رجوعه من رومة رفع غشاء السيادة الرومانية. وبقي يلين القول لامبراطور القسطنطينية لقوته. فلما جاء خلفاؤه تمموا استقلالهم، وطهروه من شائبة أي تداخل أجنبي. وقد علمت ان استيلاءهم على الجزائر فيما بين سنتي (30 - 42) كان تحت سيادة الرومان الاسمية. وعادت الجزائر الى الرومان من سنة (42) الى سنة (455) ومن هذه السنة استقل الوندال بالجزائر وغيرها. وجعلوا عاصمتهم قرطاجنة. 6 - نظام دولة الوندال بعدما استقر جنسريق ببونة أخذ ينظم شؤونه ويستأصل جرثومة الخلاف عليه. كان له أخ يدعى غندريك، وكان هو رئيس الوندال بالاندلس. فقتله هنالك، وأودع زوجته وابناءه السجن. فلما حل ببونة قتل الجميع، وتتبع شيعة أخيه حتى أخضعهم. واعتنى بالجندية والبحرية. فاتخذ جيشا من الوندال والبربر يشتمل على ثمانين فرقة. وكان يستميل البربر، ويتقي كل ما من شأنه ان يثيرهم عليه.

وإذا اضطر لمحاربتهم لم يحاربهم الا بالوندال الحقيقيين، لانهم أكثر اخلاصا له، وأشد قوة على الحرب. وكان يمنح الجيش من الغنائم. واتخذ اسطولا عظيما خاض به عباب البحر الابيض المتوسط، وملك به أهم جزره، وأدهش به الايطاليين. قال مرسيي: وقد وجد في هذا الاسطول فائدتين: الغنائم التي كان يجلبها بالقرصنة، وتمرين الجنود على الحرب. وأرى فائدة ثالثة وهي اشغال البربر من جيشه بالقرصنة حتى لا يثوروا عليه. وقد غفل خلفاؤه عن هذه الفائدة، فلم يجدوا في البربر السلم التي وجدها هو. وبعد ان دخل جنسريق قرطاجنة وثبتت قدمه هنالك بمعاهدة سنة (42) اتخذ الوطن التونسي وطنا ونداليا. فقسم ادارته الى خمس عمالات، وقسم أراضيه بين ولديه هنريق وجنصون، والجنود، ومعمري الوندال. وابقى بعض الاراضي للاهالي. أما الوطن الجزائري فلم يدخل عليه بعد عوده اليه أي تغيير اداري ولا استعماري. بل ابقى لساكنيه نظامهم القديم وولاتهم ومجالسهم البلدية وشرائعهم الذاتية، وانما اتخذ به مراكز للجنود وكان يرسل اليه احيانا بعض أعيان دولته لاستطلاع الحالتين: السياسية والعسكرية، ولم ينتزع منهم أملاكهم، الا ما كان من املاك الدولة الرومانية فانه صار الى ملوك. الوندال، وعليه وكلاء وبه خدمة فلاحون، ولم تتغير حالة الضرائب ايضا الا في المدة التي عادت فيها الجزائر الى الرومان فان الامبراطور أصدر أمرا سنة (45) باسقاط سبعة أثمان الغرامة عن الاهالي. وكان رؤساء البربر منقادين لملك الوندال، ويمدون جيشه برجالهم. ووجد أتباع دونتوس في الوندال أعظم نصير فثأروا من

7 - ملوك الوندال وسياستهم

الارثذوكس. وفي أيام هنريق استعملوا قوانين ضد الارثذوكس هي نفس القوانين التي شرعها بعض أباطرة رومة للارثذوكس لينفذوها على الدونويين {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}. والخلاصة أن الوندال لم يحدثوا أي تغيير بالوطن الجزائري الا ما كان من قلة عددهم به بالنسبة الى ما كان به من الرومان، ولم يلحق سكانه منهم أي اضطهاد الا من كانوا أرثذوكس وهم أقل القليل كما سبق. 7 - ملوك الوندال وسياستهم اعتلى عرش مملكة الوندال بأفريقية ستة ملوك في مدة تزيد على مائة سنة. 1 - جنسريق (429 - 77): هو الذي تولى قيادة الجيش الذي ساقه لفتح افريقية. وأسس بها دولة الوندال. كان من أعظم ملوك افريقية وانفذهم رأيا وأبعدهم نظرا، سياسيا ماهرا وحربيا حاذقا. لا يحارب الا حيث يرى فائدته في الحرب. ولذلك عقد معاهدتين مع أمبراطور رومة. ولما تيسرت له الحرب لم يبال بالمعاهدتين. وان رأى أنه عاجز عن الحرب توقاها واستعان بدهائه. فقد جمع له مجريان (الذي تولى الامبراطورية برومة سنة 457) بقرطجنة سنة (58) ثلاثمائة سفينة ليحاربه بها ويسترجع منه أفريقية. فرأى هذا الملك أنه عاجز عن صده بالقوة، فارسل الجواسيس الى معسكر العدو وكان به جنود من القوط. فاستمال الجواسيس هؤلاء القوطيون، وأغرقوا السفن بمكانها. ونجا بهذا الدهاء جنسريق من شر حرب لا قبل له بها. وكان امبراطور القسطنطينية يحاول اضعاف الوندال. فأرسل جيشا بريا وآخر بحريا

لحرب جنسريق. ورأى هذا الملك عجزه فصار يناوشهم القتال، ويبث فيهم الجواسيس، ويسعى في تفرقتهم. فتم له الفوز. واكتفى الجيشان من الغنيمة بالاياب. فعادا الى القسطنطينية سنة (70). وفي سنة (476) (¬1) عقد معاهدة مع امبراطوري الشرق والغرب على ان لا يحارب أحد منهما مملكته ويعترفا بانه ملك أفريقية. وهكذا ظل منصورا في كل مواقفه حتى أدركه حمامه. 2 - هنريق (477 - 84): انتصب مكان أبيه. ولكن لم يخلفه في تدبيره ودهائه. فقد كان ضعيف السياسة شديد القسوة سفاكا للدماء. ولم ينج من بطشه حتى أقاربه وحاشيته. ويكفي أن نسوق حكاية واحدة عن أسقف قرطاجنة الاريوي ذهب اليه ليعظه ويرقق قلبه. فجازاه بأن حرقه أمام الناس؟ ولسوء سياسته انسلخ عنه أكثر الجهات. وانحصرت دولته في السواحل وبعض دواخل الوطن. 3 - غندامند (484 - 96): هو ابن جنصون. انتصب مكان عمه. ووجد الدولة في خطر من جراء سياسة عمه. فحاول ان ينهض بها، ويكبح جماح الثوار. فلم يأت بشيء. وكان كسلفه مشتدا على الارثذوكس. فأدرك ما في ذلك منن ضرر بالسياسة، ورجع عن شدته، وأعاد المنفيين منهم، ورجع اليهم أملاكهم. 4 - تراسمند (496 - 523): انتصب مكان أخيه. واشتد على الارثذوكس. وحسن علائقه مع القوط. وتزوج بأخت ملكهم. 5 - هلدريق (523 - 31): هو ابن هنريق. انتصب مكان ابن ¬

_ (¬1) في هذه السنة سقطت مملكة الرومان الغربية. قضى عليها أداقر ملك الهيرول. واستولى على ثلثي ايطاليا. واصطلح مع جنسريق. واقتسما صقلية.

عمه. وكان حييا محبا للسلم. وخالف سياسة اسلافه: فرفع الاضطهادات عن الارثذوكس، وأعلن بدخول دولته تحت سيادة يستنيان امبراطور القسطنطينية، وصار يرسم على نقوده صورة هذا الامبراطور، وقطع علائقه مع القوط بقتل أخت ملكهم زوجة تراسمند لانها سعت في تدبير ثورة ضده. ولم يرتض الوندال سياسته هاته، فثاروا عليه، وأودعوه السجن، فلم يزل به حتى قتل سنة (33). 6 - جلمير (531 - 534): هو حفيد جنصون. كان في دولة هلدريق رئيسا للجنود ومكلفا بحرب بربر الغرب. وله تأثير على الجنود. فكانوا يحبونه. ولما رأى انحراف الوندال عن ملكهم داخل جنوده في الثورة عليه. فأجابوه بالامتثال. فثار عليه، وأودعه السجن، وانتصب مكانه. بلغ خبر هذه الثورة يستنيان، فامتعض لها. وارسل الى جلمير: ان سرح هلدريق، واعد له كرسيه. فكان جواب هذه الرسالة التشديد على هلدريق حتى لا يعد جلمير مثله خاضعا ليستنيان. ولما رأى الامبراطور اصرار جلمير على سياسته ارسل اليه ثانية: ليسرح هلدريق، وليأذن له في الالتحاق به. وان لم يفعل فالحرب. فأجابه جلمير عن هذه الرسالة بقوله: "اني لم أتول الملك بالقهر .. وهلدريق كان صاحب دسائس في الاسرة. وحنق الوندال كلهم عليه هو الذي أسقطه. فبقي الكرسي شاغرا فجلست عليه بوجه شرعي، لاني أكبر الاسرة". وقال جوابا عن تهدده له بالحرب: "الملك الحكيم هو الذي يشتغل بحكومته. ولا يمد طرفه الى ما هو خارج حدودها. ولا يتداخل في شؤون الدول الاخرى. وإذا أردت قطع ما بيننا من المعاهدات فاني معذور في مقابلتك بالمثل".

8 - اعمال الوندال

كان هذا الجواب قاطعا لآمال يستنيان في أن يفيد صديقه هلدريق بالمكاتبة. ولم يبق له الا الاعراض عنه أو الحرب. وهي أنسب بعظمته. فتجهز لحرب الوندال بأفريقية. وانتهت الحرب بخضوع جلمير الى قائد الروم البيزنطيين. فذهب به هذا القائد الى القسطنطينية. ومنحه يستنيان أرضا بالاناضول قضى بها بقية حياته. 8 - اعمال الوندال الوندال أمة حربية متعصبة لمذهبها. فلم يشتغلوا بأفريقية الا بالغزوات البحرية، والاضطهادات للارثذوكس. ولم يفيدوا الوطن لا بعلم ولا بصناعة. بل كانوا سببا في نقص عمرانه وعلة لخرابه ومادة لاذكاء نار الثورات به. جنسريق مؤسس دولتهم والمعدود من أمهر السياسيين أمر بنسف عمران أقسام موريطانيا وافساد سبلها عندما بلغه ان مجريان جمع جموعه بقرطجنة، وقاصد لحربه على طريق المغرب. وكان مشتدا على الارثذوكس، حتى انه سنة (37) طلب منهم الدخول في مذهب أريوس. وأغلق كنائس من لم يلبوا طلبه منهم ونفاهم. وهنريق جمع في سنة (83) أساقفة وقسوسا وشمامسة من الارثذوكس، بلغ عددهم 4976 وحشرهم في شق بنارية، وسيقوا من هنالك الى مجزرة الصحراء. وطلب اليه بعض أساقفة الارثذوكس انهاء اضطهادهم بعقد مجمع في أفريقية، يستدعى اليه كل من له رتبة في الكنيسة من جميع أنحاء العالم. فأجابه بقوله: "أني أحب ذلك. لكن بشرط أن تضع العالم كله تحت سيطرتي". وغندامد اشتد أيضا على الارثذوكس أولا. وفي سنة (87) عفا عنهم.

9 - ثورات البربر

وتراسمند جرى على سياسة سلفه في العفو عنهم. ولكنه كان يستميلهم الى مذهبه بمنافع يمنحهم اياها. ولم يساعدهم على نظام كنيستهم، ونفى من الاساقفة من لم يخضعوا لاوامره. وهلدريق أوصاه سلفه بالرفق بالارثذوكس. فجرى على وصيته. وفي سنة (524) عقد مجمعا بقرطاجنة رجاء ايجاد سبل للمفاهمة والموافقة والموافقة بين المذهبين. فانفصل المجمع على استحالة توافقهما. والخلاصة أن أعمال الوندال كانت منحصرة في تخريب حصون الرومان، وامتلاك ما كانوا اخذوه عن البربر من الاراضي بجميع الشمال الأفريقي، واضطهاد الارثذوكس الروماني النزعة بنفي أساقفتهم واغلاق كنائسهم وانتزاع أملاكهم. وقد ساموهم سوء العذاب: يحرقون رجالهم ونساءهم بالنار، أو يمثلون بهم بقطع الاعضاء أو الضرب بالسياط. وتاريخهم حافل بتفاصيل وقائع الاضطهادات واعمال التخريب. ولكن لا تخلو تلك الاحاديث من المبالغات. على ان اجمال ذلك أنسب بنا من بيانه، لكون أكثره خارجا عن موضوع تاريخنا، وأغلب مسيحيي الجزائر كانوا دونويين فنجوا من تلك الاضطهادات، بل كانوا شركاء الوندال في التعدي على الارثذوكس وادالهم الله منهم. 9 - ثورات البربر قد علمت انه لم يكن للوندال بالوطن الجزائري غير مراكز عسكرية قليلة وأراض دولية الفلاحون بها من البربر. فكان عدد الوندال به قليلا، وسلطتهم على أهله ضعيفة. وإذا كان الرومان على قوتهم الحربية والاستعمارية وطول أمدهم لم يقطعوا ثورات البربر

فان الوندال أعجز من أن يغمدوا سيوف أولئك الابطال الا في جسد سلطتهم. كان جنسريق يحملهم على الهدوء بعاملي الترغيب والترهيب. فقد كان معينا بالجندية التي يخشون بطشها، وكان يشركهم مع جنوده في غزواته وغنائهما، حتى في فتح رومة وما عاد به منها من النفائس. وبهذه السياسة شغلهم عن تدبير الثورات، ورغبهم في السلم. فكانت افريقية الشمالية على عهده في راحة من الثورات لم تعرفها في غير عصره. ووجد البربر اذ ذاك الفرصة لاسترجاع قوتهم الحربية، لكنهم لم يستعملوها ضده ولم يهملوها بعد وفاته. جاء بعده هنريق الذي لم يكن كأبيه، فلم يعامله البربر مثله. وثاروا عليه سنة (83) بعد جمع الارثذوكس بشق نارية وتشريدهم في الصحراء. امتدت الثورة من جبل راشد وجبال أوراس وجرجرة وما بينهما الى طرابلس. وهجم الثوار على الجهات الشمالية. قال مرسيي: كان هؤلاء الثوار منضمين من عهد جنسريق. وانضم اليهم ضباط من الارثذوكس الممتحنين. وقد دافعهم هنريق. فعجز عن اخماد ثورتهم. وانحصرت مملكة الوندال في السواحل وبعض الجهات الداخلية. وجاء غندامند فلم يستطع ان يقف حرية البربر. وتقدم الجيتوليون على عهده الى ناحية قفتة. وفي عمر تراسمند تقدم البربر في لم شعثهم واستعدادهم للثورة. وفي عصر هلدريق انتصر البربر على قائده أومير، وأخذوا بذلك حريتهم. وكانت محاولات الوندال لاخضاعهم تذهب هباء. كانت ثورات البربر ناشئة عن سوء سياسة خلفاء جنسريق لانهم

10 - انتهاء دولة الوندال

أهملوا الجندية وفرطوا في الاسطول. فلم ير البربر تلك القوة التي كانوا يخشونها، ولم يجدوا تلك الغنائم التي كانوا يجرونها. وقرب نجاح تلك الثورات أن الوندال كانوا خربوا أسوار المدن خوفا من أن يتحصن بها الرومان. فلم يجد الثوار حاجزا يقف سير ثورتهم. في عهد خلفاء جنسريق استولى البربر على أكثر تراب الموريطانيتين. ونزل بربر أوراس الى سهول نوميديا. وخربوا بها المدن الزاهرة التي كانت تحت حماية الفرقة الثالثة الاوغسطية. وهي: تفيست، باغاية، تمغادي، لمبس. وبلغوا قريبا من قسنطينة. قال اغسال: "حقا ان البربر أنفسهم كانوا يكنسون الوندال. لولا ان الاغريق هم الذين تحملوا بهذه الخدمة" (¬1). 10 - انتهاء دولة الوندال في سنة (533) قدم الروم البيزانطيون إلى افريقية لحرب جلمير. وفي شتنبر تلك السنة فتحوا قرطاجنة. وبقي جلمير خارجها يجمع الوندال والبربر ليعيد عليهم الحرب. وفي منتصف دجنبر آخر السنة عادت الحرب بين الفريقين وانتصر فيها الروم. ففر جلمير الى بعض الجبال متحصنا. وحماه البربر بمدينتهم ميدينس. فحاصرها الروم ثلاثة أشهر ولم يقووا على فتحها. واخيرا طلب جلمير الامان لنفسه من الروم. فأمنوه واستسلم لهم. وذلك سنة (534) واستسلامه انتهت دولة الوندال التي تأسست بالجزائر سنة (430) فكانت مدتها 104 ولم يضبط ابن خلدون ذلك. فقال: انها كانت نحوا من ثمانين سنة. ¬

_ (¬1) الجزائر في القديم 131.

وبسقوط ملكهم ذهب من أفريقية كل شيء وندالي. قال مرسيي: " بعد ستة أشهر من مجيء البيزنطيين لم تبق أفريقية وندالية. الامر الذي يدل على ان استيلاءهم لم يتمكن منها. وذلك أنهم بعد ما فتحوها فتحا سريعا مدوا أعينهم الى جهات أخرى. فاشتغلوا بالفتح واطفاء الثورات. ولم يستعمروا الارض وينشروا المدنية. ولم يمتزجوا بالمعمرين من الرومان ولا اتخذوا روابط مع البربر. وبهذا ذهب أثرهم بأثر فقد ملكهم. أما رجالهم فقد ذهب أكثرهم في الحرب. وانتقل بعضهم مع جلمير الى المشرق ودخلوا تحت العلم البيزنطي. وانتقل آخرون الى جهات أخرى. وبقي منهم قليل بأفريقية. ولكن لم يكن لهذا الباقي تأثير بها. لانهم أمة حربية ذهب جندها وملكها. ولم يبق لهم بعد دولتهم الا ذكرهم السيء. وكل فتح لم يرتكز على الاستعمار يذهب أثره بذهاب دولته". وقال بيروني: "لا يوجد دليل على ان الوندال حكموا نوميديا كلها. إنما كان سلطانهم حقيقيا على الشواطيء الساحلية. وهو أشبه شيء باستيلاء الاسبان في القرن السادس عشر" وبعد ان ذكر كلاما نظير ما قدمنا عن مرسيي قال: " ويقول بعض المؤرخين: ان الوندال أخذوا شيئا من الحضارة الرومانية. وأعانوا الفلاحة. وجلبوا المياه. واخترعوا صناعة أسلحة. وهم أمة متعصبة للغتها وآدابها لا تسمح لها نفسها بتعلم اللغات الاجنبية وآدابها. ومع ذلك فان لجنسريق ابن أخ كان متضلعا في اللغة اللطينية وعلوم رومة. وشهد كثير من المؤرخين بأن تراسمند كان أعلم أهل أفريقية، وكان يحب المحاورة باللسان اللطيني في المسائل الإلهية والفلسفية مع رجال الكنيسة. وألف باللغة اللطينية كتابا يؤيد فيه مذهب أريوس، أظهر فيه بلاغة في الانشاء ومقدرة في المنطق. والوندال- وان كانوا أقل حضارة من الرومان- استفادوا من مماستهم، ونقلوا عنهم في أمد

قليل عوائد. وهذا مما يؤيد كفاءتهم وأهليتهم للفنون والادب. وقد نظم جلمير أيام حضارة قصائد بديعة. ولم يبق شيء مما كتبه الوندال حتى أن أسلحتهم ذهبت، ولم تعش بعد القرون الوسطى (¬1). ولم يبق من لغتهم الا بعض كلمات وأعلام شخصية. وهذا الفناء التام هو الذي جرأ من بعدهم على لعنهم وتشويه سمعتهم. ولا يعقل أن تدوم حكومة قرنا كاملا ولا غرض لها الا الهدم. بل لا بد ان تكون لها حسنات. ويظهر أنها هدمت أكثر مما شادت". هذا كلام بيروني نقلناه بطوله لانه اشتهر أن الأمة الوندالية أمة متوحشة هدامة للحضارات شأنها الغزو والسلب والنهب. فلكيلا يظن ان ذلك حقيقة تاريخية لا نزاع فيها نقلنا كلام المؤرخ مرسيي المؤيد لهذه النظرية ثم كلام البحاثة بيروني المناقض لها والمبين لسبب هذه السمعة السيئة. ونحن نميل الى الرأي الثاني لاعتداله وتدعيمه بالادلة المعقولة. بخلاف أصحاب الرأي الاول فقد بالغوا في ذم الوندال. وقد بين بيروني سبب اقدامهم على هذا التحامل بكون الوندال فنوا فناء تاما. أما سبب تحاملهم فلأن هذه الأمة كانت حاربت الملكة الغربية، وأسست دولتها على حسابها. ثم حاربت المملكة الشرقية احتفاظا بسلطانها فلم تفلح. فمحاربتها لهاتين المملكتين الشقيقتين ووقوع عصرها بين دوريهما سبب قوي لذلك التحامل. وسواء صح الرأي الاول أم الثاني فان بربر الجزائر لم يستفيدوا من الوندال لا علما ولا صناعة ولا أخلاقا ولا نظاما، لان سلطتهم ¬

_ (¬1) يقسم المؤرخون أدوار التاريخ الى ثلاثة: القرون الاولى، من فجر التاريخ الى انقسام دولة الرومان سنة 395م، والقرون الوسطى، من ذلك الحين الى فتح القسطنطينية سنة 1453، والقرون الاخيرة، من ذلك العهد الى اليوم.

عليهم كانت على ضعفها غير شاملة لجميعهم. وقد رأيت أنهم كانوا في أيام جنسريق أيام شباب الدولة متهيئين للثورة. فلم يغب عن الوجود حتى أعلنوها. على أن البربر ليس غرضهم من تسهيل طرق الاستيلاء للوندال أن يفيدوهم في شيئ غير طرد الرومان. وقد نالوا هذا الغرض. وبزوال الضغط الروماني استطاعوا ان يجددوا قوتم الحربية ويستعيدوا حياتهم الاستقلالية. هذا ما قصدوه من استبدال الوندال بالرومان. وهذا ما استفادوه منهم وبلغوا منه غايتهم. حتى أنه - كما سبق- لو لم يعجل الروم البيزنطيون بقدومهم الى أفريقية لاستطاع البربر وحدهم ان يقضوا على الوندال ويستقلوا بوطنهه.

ـ[صورة]ـ شكل (27) الجدار: القسم الاول عبارة عن سطح وغرفة مخصصة للعبادة.

ـ[صورة]ـ شكل (28) - الجدار: الجبل الاخضر

الباب الثامن في ذكرى دولة الروم

الباب الثامن في ذكرى دولة الروم

1 - تمهيد

1 - تمهيد تأسست الدولة الرومانية بايطاليا. تلك الجزيرة المتوسطة بين عالمي الشرق والغرب. فلما أخذت تعظم صارت تتوسع في هذين العالمين. وملكت فيهما من الاوطان ما صير رومة عاجزة عن القيام بادارتها. كان ذلك العجز ناشئا أولا عن كثرة المستعمرات، وثانيا عن محاولة بعض الامم المغلوبة للاستقلال، وثالثا عن هجمات أمم القوط وغيرهم، ورابعا عن تنافس عظماء الرومان على الرئاسة والاقتتال من أجلها. وقد حاول كثير من الاباطرة رفع ذلك العجز باشراك بعض قرابتهم أو عظماء قوادهم معهم في الحكم والادارة. وكان الامبراطور ديوقلطيانس قد أشرك معه مكسيمانس، واقتسما ادارة الامبراطورية، ثم أشرك معه غلاريوس وقسطنطيوس خلورس. فصارت الامبراطورية إلى أربعة أقسام. أحدها بلاد غاليا واسبانيا وابريطانيا. وكان على هذا القسم خلورس. ثم اعتزل الملك كل من ديوقلطيانس ومكسميانس. واتخذ غلاريوس معه شريكين، أحدهما مكسمينوس والآخر ليقينيوس. وفي خلورس. فقام مقامه ابنه قسطنطين. وثار بايطاليا على غلاريوس مكسنتيوس ابن مكسميانس.

وفي سنة (311) توفي غلاريوس. واقتسم شريكاه مملكته. وتحالف مكسمينوس ومكسنتيوس، واتحد ليقينيوس وقسطنطين. ونشبت الحرب بين الفريقين. وانتهت بفوز قسطنطين وحليفه. فدخل رومة. وذلك سنة (312) واختص بالجهات الغربية، وأخذ حليفه الجهات الشرقية. ثم نشبت الحرب بين هذين الحليفين. فانتصر قسطنطين، وقتل حليفه بالامس وخصمه اليوم. وذلك سنة (324). بعد هذا الانتصار أصبح قسطنطين الامبراطور الوحيد لجميع المملكة الرومانية. وفي سنة (330) نقل مقر الحكومة الى الشرق. وجعل عاصمته بيزنطة. وبقيت المملكة الرومانية ذات وحدة، غير أن اعتيادها للانقسام واحداث عاصمة ثانية فيها فتحا لها بابا إلى الانقسام والانفصال. فلما أفضت الامبراطورية الى ثأودوسيوس قسم المملكة بين ولديه: ارقاديوس، جعله على العاصمة الشرقية، وهنوريوس، جعله على العاصمة الغربية. ثم توفي هو سنة (395) فاستقل كل من الولدين بناحيته، وتم الانفصال بين العاصمتين. وأخذت الاولى في الصعود، والثانية في السقوط. هذه المملكة الشرقية هي التي يدعو العرب أهلها من الاغريق واللطين بالروم. ويطلقون اسم الرومان على أهل المملكة الغربية. بعد أن بلغ الروم قوة عظيمة صاروا يحاولون استرجاع كل الممالك التي خرجت عن رومة، ويرون لانفسهم الحق في تراثها. فاشتبكوا لذلك مع الوندال بافريقية، والقوط بالاندلس، وغيرهم. وكانت لذلك حروب ضررها بالبشرية غير يسير. وقد بلغ من عظمة الروم أن صارت لا يدانيها في العظمة غير دولة الفرس. وكانت بين هاتين الدولتين العظيمتين حروب ذات أهوال وخطوب.

2 - بيزنطة

وبقي الروم في عظمة سلطان الى أن ظهر الاسلام وجمع كلمة العرب ونظم قوتهم. فاخذوا يفتحون البلدان ويستولون على الاوطان. فانتزعوا من الروم غرو دولتهم من أوطان الشام ومصر وافريقية الشمالية. أمست دولة الروم بعد ان أخذ منها العرب زهرتها تذبل وتتدلى، حتى ظهر آل عثمان من الاتراك، وضايقوها فيما بقي لها، وصاروا يستولون على مدنها. وجاء محمد الفاتح منهم، فقضى على البقية الباقية منها بفتحه القسطنطينية سنة (857هـ - 1453م). 2 - بيزنطة عرفت ان الغرب يطلقون اسم الروم على أهل المملكة الشرقية من اللطين والاغريق. والافرنج يطلقون على هؤلاء الروم اسم البيزنطيين. وذلك نسبة الى عاصمة دولتهم مدينة بيزنطة. وهي مدينة قديمة ذات موقع ممتاز لتوسطها بين قارتي آسيا وأووبا، ووقوعها على مضيق البوسفور الواصل بين البحر الاسود وبحر مرمرة المتصل بالبحر الابيض المتوسط. وقد ذكر ابن خلدون بيزنطة مرة باسم بوزنطية وأخرى بلفظ بيزنطية. وقال: انها بنيت في الثانية والخمسين من ملك منشا بن حزقياهو. وهاك عبارته: "وفي تاسعة وثلاثين من ملكه ملك سنجاريف الصغير مملكة الموصل. قاله ابن العميد. وفي الثانية والخمسين بنيت بوزنطية، بناها بورس الملك. وهي التي جددها قسطنطين، وسماها باسمه" (¬1). ¬

_ (¬1) ج2 ص105 وفي الاصل بورنطية بالراء. وهو تصحيف.

وسنجاريف الصغير هذا هو ابن سنجاريف الذي دعاه ابن خلدون بهذا العلم. ويظهر من سياقة تاريخه انه المعروف عند غيره باسم سيناخريب (SENNACHERIB) والاختلاف قد يكون من أصل النقل. وقد يكون من تصحيف النساخ للخاء جيما وللباء فاء. وسياقة حديث سنجاريف الصغير تقتضي انه المعروف في غير ابن خلدون باسم اسرحدون. وهو قد تولى الملك سنة (681) ق. م فتكون هذه السنة في التاسعة والثلاثين من ملك منشا، والثانية والخمسون من ملكه توافق سنة (688). فتكون بيزنطة أسست في هذه السنة. وبعد ان استولى الرومان على البلاد الاغريقية لم يتنبه أباطرتهم لاهمية موقع بيزنطة، حتى جاء قسطنطين، فتنبه لذلك، وانتقل اليها سنه (330هـ). وكان انتقاله لها لغرضين: ديني وسياسي. أما الديني فلأنه تنصر، وكانت رومة لا يزال عظماؤها وثنيين. فهو لا يستطيع أن يؤيد ديانته بينهم. ويضر بنفوذه ان هو قام فيها بحماية المسيحية. فابتعد عنهم الى بيزنطة، واتخذها مهدا صالحا لنمو المسيحية. وأما الغرض السياسي فلأن الفرس كانوا يهددون دولته من ناحية الفرات، وأمم القوط يهددونها من ناحية الدانوب. فنزل تلك المدينة المتوسطة بين ذينك النهرين ليراقب حركات الاعداء ويرد غاراتهم. ولما انتقل اليها أخذ في تعميرها على مثال رومة، ونسبها اليه. فصارت تدعى القسطنطينية. ثم لما فتحها محمد الثاني من آل عثمان صارت تدعى اسلامبول. ومعنى ذلك مدينة الاسلام. وقد غير هذا العلم الى لفظ اصطنبول.

3 - الروم في أفريقية

3 - الروم في أفريقية كان يستنيان امبراطور القسطنطينية ينظر الى المملكة الغربية التي زال منها حكم الرومان نظر الوارث المستحق، ويتحين الفرص لاسترجاعها، وضمها إلى الامبراطورية الشرقية. فكان لذلك يتداخل في شؤون الوندال بأفريقية، وكان سروره عظيما يوم أعلن هلدريق سيادته بها، وكان كذلك استياء الوندال عظيما، أفضى الى اسقاط ملكهم واجلاس جلمير مكانه. وقد عجم يستنيان عود جلمير بالكتابة، فوجده صلبا. فاراد أن يهشمه بالكتيبة لا بالكتابة. كان يستنيان في حرب مع الفرس دام أمدها خمس سنوات. ولما أجابه جلمير ذلك الجواب اصطلح مع الفرس على أن يؤدي لهم غرامة مبلغها أحد عشر مليونا من الفرنك، وأخذ يتهيأ لحرب الوندال. اشترى يستنيان حرب الوندال بذلك الثمن. وانه لزهيد بالنظر لخيرات افريقية. ولكن وزراءه استصعبوا قبض متباعهم لبعده عن العاصمة وشجاعة حماته من الوندال. وكادوا يردونه عن عزمه. غير أن بعض أساقفة الارثذوكس الذين يودون انقاذ اخوانهم من الاضطهاد الوندالي شجعه على الغزو، وتنبأ له بالفوز والنصر. واتفق أن كانت طرابلس وصقلية ثائرتين على الوندال. وطلب رئيسا الثورة بهما اعانة هذا الامبراطور على أن يسهلا له طريق الاستيلاء على أفريقية. فزاد ذلك في نشاط يستنيان، ومضى على عزمه. وكان من رجال البلاط الامبراطوري رجل يدعى بليسير، له نفوذ بالجيش. فاختاره الامبراطور لقيادة حرب أفريقية. وفوض له في اختيار الضباط. وصدر له الامر بركوب البحر.

في صائفة سنة (533) ركب بليسير البحر بجيش يشتمل على خمسة عشر الفا ثلثهم فرسان، في أسطول يتركب من خمسمائة سفينة. وركبت معه زوجه وكاتبه المؤرخ بروكوب. وحضر ركوبهم الامبراطور نفسه، وأحد الاساقفة، وزودهم بالدعاء. سار الاسطول الى أن أرسى بصقلية. فنزل الجيش للاستراحة والتزود والاستعلام عن أحوال الوندال. وذهب بروكوب الى سرقوسة ليأتي مخدومه بارشادات. فعاد اليه يحمل هذه البيانات: 1 - الجنود الوندالية بسردانيا تحارب عاملها الثائر. 2 - جلمير نازل بالبيزاصين (جنوب تونس). 3 - الوندال لا علم لهم بمجيء الجيش الرومي. بعدئذ ارتحل بليسير بجيشه، وأرسى بخليج قابس في يوليه. وأخذ يتنقل مع الساحل البحري، ففتح لبتيس وحضرموت. وارسل الى سراة الوندال باسم الامبراطور: اني لم آت محاربا للامة الوندالية. وانما جئت محاربا لشخص جلمير الذي اغتصب الملك من يد هلدريق! ولما علم جلمير بنزول الروم بأفريقية جمع جموعه لحربهم. وكانت بين الفريقين معارك لم تفل من عزم جلمير وان كان وقعها عليه شديدا. وأخيرا ذهب الى جبل بابوة (PAPPUA) (¬1) فتلقاه أهله البربر بالترحاب، وادخلوه مدينتهم ميدينس (MIDENOS). نزل بهذه المدينة طمعا في أن يجد سبيلا في الذهاب الى الاندلس. وارسل إلى ملك القوط بهاثوديس ليوجه له مراكب. فلباه. ولكن القدر أبى على جلمير الا أن يقع بيد أعدائه. فحوصر بتلك المدينة ثلاثة أشهر. ولما أيس من اللحاق بالاندلس طلب من ¬

_ (¬1) اختلف في هذا الجبل: قيل هو جبل أيدوغ وقيل جبل الناطور.

4 - الروم بالجزائر

بليسير الامان. فامنه. وسلم نفسه اليه. فذهب به الى القسطنطينية. وذلك سنة (534). 4 - الروم بالجزائر بعد فرار جلمير الى جبل بابوة توجه بليسير الى بونة فاحتلها. وبعث بمن فيها من الوندال الى قرطاجنة. ثم وجه جندا عن طريق البحر الى قيصرية. فاستولى عليها. وبلغ ذلك الجند سبتة ففتحها أيضا. وأصدر يستنيان أمرا يقول فيه: "لا بد أن ندافع عن الخاضعين الينا، ونصل بحدودنا الى حيث وصلت الجمهورية الرومانية" ولكنه حلم لذيذ جعلته يقظة البربر من أضغاث الاحلام، وأمل حال دون تحقيقه تمسك البربر باستقلالهم وقدرتهم على حماية أنفسهم. جد الروم في الاستيلاء على الجزائر. ولكن لم يكن لهم في أول الامر غير السيادة الاسمية في جهات قسنطينة وسهول سبيوس وأعالي مجردة. ولحفظ تلك السيادة جعلوا على هذا القسم خطا من الحصون، أهم مراكزه قسنطينة وقالمة. وفي سنة (539) فتحوا أوراس الحضنة ووطن سطيف. ولكن لم تثبت قدمهم بأوراس. فاكتفوا باتخاذ حصون قوية شماله. وذهب خط الحدود من هذا الشمال مغربا فمر بضبنة وزابي، ثم انحنى شمالا مشتملا على سطيف. وبقية الوطن الجزائري لم يحتل منه الروم غير بعض المراسي. منها رسقوناي وتبازا وقيصرية وقرطنة. ولم يبلغوا هذه المراسي الا من طريق البحر. وقد ضيق البربر عليهم فيها تضييقا شديدا. فعاشوا بها عيشة بؤس. وأحاطوها بأسوار لم تزل آثارها حتى

5 - أمراء البربر في العصر الرومي

اليوم. وهي تدل على نقصان مساحتها بالنسبة لما كانت عليه عصر الرومان. وقد قسم الروم جزائرهم الى قسمين: نوميديا، وهي الجهات الشرقية من الوطن الجزائري، ومورطانية الثانية، وهي تلك المراسي التي ليس لهم حولها أي سلطة. وجعلوا لكل من القسمين رئسا. وبعد مدة أضيفت موريطانيا الى عمالة سطيف. وقد سلك يستنيان سبيل الرومان. فأسكن الجنود على خط الحدود ومنحهم الاراضي لاستعمارها. وقد علم ان هذا وحده غير كاف لحفظ ما استولى عليه جيشه. فاستمال بعض رؤساء القبائل بأن جعل لهم أرزاقا سنوية، ومنحهم القابا شرفية، وأنعم عليهم بالاوسمة. واحتاط لبقائهم في خدمته بأن أغرى بينهم العداوة والبغضاء.: وغمرهم بتأثيرات رؤساء الدين. وأخذ من قبائلهم رجالا رهائن. وجعلهم تحت اشراف قواده من الروم، فمن رأوا منه انحرافا عن الطاعة قطعوا عنه كل ما كان يناله من دولتهم. قال اغسال: "ومع هذا كله لم يكن السلم مستمرا. فكثيرا ما اجتاز البربر الحصون الرومية. وعاثوا في البوادي فسادا. واتقاء من هذه الغارات اتخذ المعمرون حصونا ممتنعه بباديتهم". 5 - أمراء البربر في العصر الرومي قد علمت ما استولى عليه الروم من وطن الجزائر وأنه أقل بكثير مما بقي بأيد البربر غير محتل. وتوجد خارج تلك الحدود امارات عظمى للبربر، منها امارة قرب تيهرت. تركت آثارا تدل على عظمتها، منها ثلاثة عشر هرما يسميها العرب اليوم الجدار، يبلغ ارتفاع أكبرها أكثر من تسعين ذراعا. وهي قبور لبعض الأسر البربرية.

من أمراء البربر في هذا العصر مصيناس. كان على موريطانيا. ويلقب نفسه: "ملك القبائل الموريطانية والرومان" والمراد من الرومان الباقون بموريطانيا بعد ذهاب سلطتهم من أفريقية. وهذا اللقب يدل على عظمة صاحبه حيث ان الرومان خاضعون له واخوانهم من الروم بجوارهم، اذ لو وجدوا سبيلا للشغب عليه والاحتماء بالروم لفعلوا جادين. ومنهم أرثياس. كان على غربي أوراس الى الحضنة. ومنهم بيداس. كان على جبل أوراس. ومنهم قطزيناس. كان على شرقي أوراس. هؤلاء الامراء كانوا مستقلين بنواحيهم. ووحدوا القبائل التي تحت سلطانهم وردوا لها قوتها الحربية لما ضعفت السلطة الوندالية. واسترجع البربر على عهدهم كثيرا من الاراضي التي كان الرومان استولوا عليها. وصار شعارهم: "أرض البربر للبربر". قال مرسيي: وقد وصف تجديد الوطنية البربرية لكروا (LA CROIX) وهو كاتب بليغ. فقال: "الرومان ذلك الجنس القوي الحاذق العظيم في التمدن وقوة الفتوح، لم يكن في وقت من الاوقات امتزج بالبربر امتزاجا حقيقيا. بربر السهول والمدن وما قاربها اختلطوا حقيقة بالرومان. ولكن بربر الصحراء والجبال لم يبلغ شيء من تأثيرات الرومان اليهم. بعد سبعة قرون من ابتداء تسلط الرومان على أفريقية وجدت الجنس البربري كما كان قبل ذلك التسلط. ثوار القرن السادس الذين حاربهم البيزنطيون في أوراس وايدوغ والبيزاصين كانوا مماثلين لاسلافهم الذين مر عليهم ستة قرون، وحاربوا الرومان تحت يوغورطة: طبائع متحدة وأعمال متماثلة وكراهية واحدة للاجنبي ومحبة واحدة للحرية وصفة واحدة في الحرب .. هذه

6 - حروب الروم والبربر

الامة لم تتبدل عن حالها الاولى، ولا يخرق سياج طبائعها أي أثر خارجي .. العدد الكثير الذي حارب يستنيان بعد ذهاب الوندال، واستحالة استيلاء البيزنطيين على ملك أسلافهم الرومان، يدلان على أن أكثر البربر لا يمكن نفوذ شيء الى طباعهم" (¬1). أجاد الكاتب حقا في وصف الوطنية البربرية، ولكنه أخطأ في جعله وطنيتهم قد منعتهم من نفوذ شيء الى طباعهم. فان تاريخهم ما تقدم منه وما يأتي يدل على أنهم يقبلون الرقي والحضارة لكن إذا لم يصحبهما صغار. 6 - حروب الروم والبربر بعد ذهاب بليسير بجلمير الى القسطنطينية بقي على رئاسة أفريقية الرومية سليمان الخصي. وما كاد بليسير يركب البحر حتى أسرع البربر الى الثورة. فحاربوا الروم. واستولوا على جميع مراكز الجند الرومي بدواخل الوطن. قطزيناس تقدم الى البيزاصين. وسرح له سليمان الجنود فحاصرهم بكهف هنالك. واستأصلهم. ثم خرج سليمان نفسه سنة (35) فهزم قطزيناس. وعاد الى قرطاجنة. فعاد البربر الى الثورة وخرج اليهم ثانية. فوجدهم متحصنين بجبل بورغؤن (المظنون أنه جبل بوغانم) فأخرجهم من حصنهم وهزمهم. وفي هذا الحين كان بيداس ومصيناس يجولان بنوميديا وينهبانها بجموعها. والتحق ببيداس بعض البربر المنهنرمين بالبيزاصين مستصرخين به. وأصبح موقف سليمان في أحرج ما يكون. ولكن ¬

_ (¬1) مرسيي 1: 168 عن مجلة أفريقية.

طبيعة البربر في الانقسام وتخاذل الرؤساء نفست عليه قليلا اذ تطوع بعضهم لسليمان بالدلالة على طرق الوطن لتتبع بيداس. فخرج سليمان يطلبه حتى بلغ جبل اصبيديس (جبل شلية) ولكنه لم يظفر به ولم يبصره. وكان وقت الشتاء قريبا والمؤونة غير كافية للاقامة. فعاد الى قرطاجنة. دخلت سنة (36) وخرج فصل الشتاء. فتجهز سليمان في فصل الربيع لحرب بيداس. ولكن جنوده كانت قليلة الانقياد. فلما شق عليها تتبع هذا الامير في جباله شقت عصا الطاعة في وجه سليمان وعزمت على قتله، فما وسعه الا النجاة بنفسه. فأغذ السير الى قرطاجنة. ومنها ذهب الى صقلية- وبها بليسير - فأعمله بما جرى. فركب بليسير البحر الى قرطاجنة لاخضاع الجنود. وثارت بعده جنوده هنالك، فعاد سريعا الى صقلية. وبقيت افريقية الرومية بعده في فوضى عامة. كانت تلك الجنود الثائرة بأفريقية متحدة تحت رئيس يدعى ستوزاس. وارسل يستنيان جرمان واليا. فحارب ستوزاس. وبينما هو فار أمامه الى ناحية بها بيداس وأرثياس طمعا في نصرتهما إذا بهذين الاميرين قد نزلا على جنوده واستأصلاها. ففر إلى موريطانيا. وكانت هذه المعركة بمكان يدعى "سلاص فاتاري" قال مرسيي: وهو اما نواحي تيفاش واما جنوب قسنطينة. وفي سنة (39) عزل جرمان وعين مكانه سليمان الخصي. فجعل حرب أوراس نصب عينيه. وكان على بربر البيزاصين أمير منهم يدعى اتتلاس. فاستماله سليمان وجعل له عطاء سنويا. وفي ربيع سنة (40) أرسل أحد ضباطه لفتح أوراس. وخرج هو بأثره. ولما بصر هذا الضابط بالعدو لم يقف لحظة عن الفرار الى باغاية. فادركه البربر.

وحاصروه بما. وأرسلوا عليها الماء كي يغرق من بها. ولكن سليمان أدرك ضابطه ففك عنه الحصار. بعد ذلك تتبع سليمان البربر في جبال أوراس طامعا في ادراك بيداس. وكان هذا الامير ذهب الى مدينة زربولة. فلحقه سليمان. وحاصره بها. واستطاع بيداس ان ينفلت من الحصار فذهب الى مدينة ثمار. وتحصن بها. وكانت ممتنعة. فحاصرها سليمان مدة حتى فتحها. وجرح بيداس في دفاعه عنها. ونجا الى موريطانيا. بانتقال بيداس من أوراس استطاع الروم أن يجوسوا خلاله. وغنموا أموالا طائلة لاميره. ثم ذهب سليمان الى بلاد الزاب يخضع البربر لدولته. وبلغ المسيلة. وكانت تدعى زابي. فجددها. وسماها يستنيانة تخليدا لذكر امبراطوره. وبعد جولته عاد الى قرطاجنة. وقدر له الهلاك على يد حليفة انتلاس. فقتل على ايدي جنود هذا الامير بنواحي تبسة سنة (45). بعد هلاك سليمان جاء ولاة ضعفاء عن حماية ما تحت أيديهم من البربر. فكانت مدتهم حروبا بينهم وبين ملوك البربر المتحدين تارة والمتخاذلين أخرى. وقام البربر بعدة غارات على روم نوميديا وغيرها. وفي سنة (46) جاء يوحنا طرغلطا واليا على أفريقيا. وجعل حرب انتلاس أهم أعماله. واستعان عليه بقطزيناس وبيداس وافسدياس (هو أحد أمراء البربر بنواحي أوراس) فأعانوه. كما كان سليمان استعان بانتلاس على بيداس. وبعد ما اشتدت الحرب بين انتلاس وطرغليطا انجلت بخضوع الامير البربري سنة (48). عد الروم هذا الفوز انتصارا باهرا. ولكنهم لم ينصروا على البربر الا بالبربر. وهم يعدون البربر كلهم أعداء لهم سواء المحارب

7 - البناءات والاستحكامات الرومية بالجزائر

والمحالف. ولذلك قتلوا الامير قطزيناس غدرا سنة (63) رغم كونه حليفا لهم. وقام أبناؤه مطالبين بدمه، ورفعوا لواء الحرب على الروم. استمرت غارات البربر على الروم. وعجز الولاة عن ايقافها عند حد. حتى جاء جناديوس. فحاربهم وافتك منهم بعض ما كان استولوا عليه من الاراضي. ولكنهم لم يزالوا في غاراتهم حتى انهم سنة (97) بلغوا أبواب قرطاجنة وحاصروها. والخلاصة ان تاريخ الروم. بأفريقية كله حروب. أكثرها للبربر. أما علة كثرة الحروب فهي تشبع البربر من مبدأ الاستقلال، وطمع الروم في ارث الرومان من غير نظر الى الظروف، وجور ولاتهم فيما تحت نفوذهم. واما سبب نجاح البربر في الاكثر فذلك لضيق نطاق التراب الرومي، وعجز كثير من الولاة في السياسة والحرب، وتمرد الجنود على قوادها. 7 - البناءات والاستحكامات الرومية بالجزائر قد رأيت ضيق نطاق ما استولى عليه الروم من الجزائر وعجز ولاتهم امام تعدد غارات البربر. وذلك مما يحرج موقف الروم ويجعل حياتهم في خطر. فأنشأوا لاتقائه الاسوار الحصينة خلف المدن، وبني الفلاحون بباديتهم الحصون المنيعة، وشيدت حصون على خطوط الحدود والطرق التي يمكن ان يفضى البربر منها الى التراب الرومي. وقام بتلك البناءات والاستحكامات بجلها سليمان الخصي، وببعضها معمرو الروم انفسهم. ومن المدن الكبرى التي أحيطت بالاسوار قرطنة وقيصرية وسطيف وميلة وتمغاد وقصر الصبيحي وقالمة ومدوروش وتبسة.

8 - الحالة الدينية في العهد الرومي

ومنها ما لم يزل سوره قائما حتى اليوم. ويبلغ ارتفاع بعض الاسوار عشرين ذراعا وعرضه ست أذرع. وقد أخذ الروم مواد الاسوار والحصون مما وجدوه من رخام وحجارة منحوتة وغيرها من بقايا مدن الرومان التي ضربها الوندال أو البربر. وإذا كان الوندال والبربر قد خربوا مدن الاحياء فان الروم لم يقفوا في تحصين مركزهم عند أخذ مواد المدن الخربة بل تعدوها الى نبش القبور وتخريب مدن الموتى لاخذ ما فيها من مواد صالحة للبناء. وللروم من البناءات سوى الاسوار والحصون تشييد الكنائس. وليس لهم من البناءات العمومية غيرها. قال اغسال: "وهي مبنية بمواد مختلفة ومزينة بلا ذوق ولا فن". وقد حافظ الروم- علاوة على ما أنشأوه- على ما بقي من آثار الرومان لم ينله الخراب. ورمموا منه ما وجدوه منثلما. وكل ذلك إنما قاموا به لحفط راحتهم. ولكن لم ينالوا بغيتهم، ولم تصد استحكاماتهم البربر عن غاراتهم. قال اغسال: "وآثار البيزنطيين الباقية بنوميديا- ما عدا التحاصين- تدل على بؤس شديد". 8 - الحالة الدينية في العهد الرومي علمت سابقا ان الاسرائليين كانت لهم هجرات الى الشمال الأفريقي قبل الميلاد وبعده. وقد جاء الوندال- وهم أمة حربية- فالفوا بهذا الوطن الاسرائليين- وهم أمة تجارية- فقربوهم، واستعانوا بهم على استدرار خيرات الوطن. فاستحوذ الاسرائليون على التجارة، وراشوا، وكثر عددهم. واتفقوا مع الوندال على كراهية الارثذوكس وإذايتهم.

ولما جاء الروم وجدوا أنفسهم في ضيق مع الاسرائليين. فكان قوادهم يرهقونهم على الدخول في المسيحية ويبدلون بيعهم كنائس. وزال على الارثذوكس ما نالهم في الدور الوندالي، وأصبحوا معتزين دون سواهم من الموسويين والدنويين والاريويين. وفي سنة (535) انتزعت الدولة الرومية من هذه الفرق جميع أملاكها، وأعدمتها حماية الشريعة، وحجرت عليها العمل بمذاهبها، وعزلتها مما كان لها من مناصب. كل ذلك جريا خلف داعي التعصب المذهبي. واعترف يستنيان رسميا للكنيسة الارثذوكسية بحق مراقبة المدن وادارة العمالات. فلم تقف عند حد مراقبة الولاة وأهل الوظائف السياسية، بل صارت تأمرهم، وتتداخل في جميع الشؤون الدولية سياسية كانت أو مالية أو ادارية أو حربية. فكان من الاساقفة والقسوس من يشتغلون ببناء استحكامات حربية. وصار البابا برومة يرسل أوامره للقواد والولاة. قال اغسال: " وغمرت قوة الكنيسة قوات جميع المتوظفين". تحت هذا الاستبداد الكنسي دخل بعض الموسويين في المسيحية لمجرد منافع مادية. والمادة عند الاسرائليين قبل الدين والجنس. ولكن مدة ارتدادهم لم تطل حيث ان السلطة الرومية ادركها الضعف قريبا. فعادوا الى دينهم الذي دخل فيه بعض القبائل البربرية ايضا. ورجعت قبائل اخرى من البربر الى الوثنية. هكذا كان الوطن الجزائري في العصر الرومي يشتمل على أديان ومذاهب كلها متعادية متنافرة. فكانت من أقوى عوامل الخراب في هذا الدور، ولها أثرها السيء في الفوضى وفقد الامن. وانها لكذلك حتى جاء الاسلام على أيدي الفاتحين من العرب. فنظم ما اختل، ووحد ما تفرق، واستقر بالقلوب الاستقرار النهائي.

9 - الحالة الاجتماعية بالجزائر

9 - الحالة الاجتماعية بالجزائر قد رأيت ان ما استولى عليه الروم من الوطن الجزائري قليل وان أكثره بقي تحت أمراء عديدين من البربر. وقد عم الشقاء والبؤس في هذا الدور كل الوطن الجزائري سواء الذي كان منه لنظر الروم، والذي كان لنظر البربر. اما ما كان تحت الروم فان من عوامل بؤسه ما يأتي: 1 - تكرر غارات البربر غير الخاضعين للروم، وتعنت هؤلاء الروم في دفاعهم. 2 - اذكاء نار الخلافات الدينية بتعصب الدولة لمذهب على سائر المذاهب. قال بيروني: "ولم يكن من غاية للحروب الدينية التي تهيج الاحقاد وتطيل أمد الفوضى الا ايجاد فرصة للنهب، وشفاء الغليل يقتل العدو". 3 - جور الولاة الرومانيين. قال بيروني: " واتفق المؤرخون ان سياسة البيزنطيين مع الاهالي سيئة" وقد أرهق هولاء الولاة الاهالي بالضرائب الفادحة. وزاد في فداحتها جور المستخلصين لها. وعلاوة على ذلك كله كانت الجنود تماطل بأعطيتها، فتستخلصها من الاهالي. وقد تكونت الفوضى وعمت من ذلك البؤس ومن فقد الاخلاص سواء من الجنود لرؤسائهم أو من الرؤساء لدولتهم. قال بيروني: "في ابتداء القرن السابع لم تبق ادارة ولا هيئة اجتماعية. وبلغت الفوضى السياسية غايتها". وقد نشأ عن هذه الفوضى ظلمة في تاريخ هذا الدور. قال اغسال: "ان الآثار الكتابية صارت قليلة جدا حتى انه ليخيل للباحث كأن كابوسا عاما حل بهذا الوطن".

واما ما كان تحت تصرف البربر فان من عوامل بؤسه تمسك الامراء باستقلالهم من غير أن يكونوا متحدين ولا ذوي نظام دولي. أما عدم اتحادهم فهو خلق قديم فيهم، وهو سبب نجاح أولي المطامع من الامم في وطنهم. وأما فقدهم النظام الدولي بعد ما كانت لهم دول قبل الميلاد فذلك أنهم بعدما تعلموا من الفينيقيين الحياة النظامية ووسائل العمران والرقي جاء الرومان فأخذوا على أنفسهم تجهيل البربر ما تعلموه. ابتدأوا بهدم استقلالهم وقتل عظمائهم، ثم حرموهم من جميع الحقوق السياسية. وكانت سياستهم سياسة تنفير فلم يقبل البربر على حضارتهم. فلم يذهبوا حتى أنسوا البربر ما أخذوه عن الفينيقيين من غير ان يعوضوهم شيئا ينفعهم في حياتهم الاجتماعية. ولما جاء الوندال وكانت وطأتهم عليهم خفيفة وهم أمة حربية لم يستفد البربر منهم غير الحياة الحربية. فعملوا للاستقلال من غير نظام. ولما جاء الروم أرادوا أن ينزعوا منهم استقلالهم. فدافعوا دونه. ووقعت بينهم حروب مبيدة. قال بيروني: "ويصعب ان يحيط مؤرخ بحروب البربر مدة الاستيلاء البيزنطي". ولولا ان الرومان هم الذين افقدوا البربر الحياة النظامية لكانت حروبهم مع الروم عائدة عليهم بالسعادة وعلى وطنهم بالعمران والرقي. ولكنهم- وقد فقدوا كل نظام- لم يجنوا منها غير الشقاء وخراب الوطن وعموم الفوضى. وإذا علمت ان الروم لم يعملوا فيما تحت تصرفهم الا لاشقاء أهاليه، وان أمراء البربر عاجزون عن اسعاد امتهم امكنك ان تحكم عن بينة بأن العصر الرومي كان كله جوائح نزلت بالوطن الجزائري فأنهكت الحياة الاجتماعية أيما انهاك. قال بيروني: "القرن الرابع الذي سقطت فيه حكومة رومة

10 - السلطة الرومية وانقراضها من الجزائر

والقرن الخامس الذي استولى فيه الوندال والقرن السادس الذي مكن فيه البيزنطيون نفوذهم بأفريقية- هذه القرون كانت قرون أهوال وحروب مبيدة" ثم قال: "وقد كانت هذه القرون علة في مرض أفريقية مرضا اجتماعيا واقتصاديا. ذهبت الفنون الجميلة، وعطلت الاراضي الفلاحية، وتنوسيت الاساليب العلمية، وتكاثرت اللصوصية حتى صار الناس يفزعون الى الغابات ويختفون بالشعاب، وتعطلت التجارة، وخشي الناس المجاعة" وقال مرسيي: "كان المؤرخ يروكوب لما نزل أفريقية مع بليسير دهش من عمرانها ونشاط تجارتها ونفاق أسواقها وسعادة فلاحتها. ولكن بعد عشرين عاما لم يبق شيء من ذلك، وعم الخراب جميع أفريقية. ويقال ان الحرب وحكومة يستنيان خسرتا أفريقية في خمسة ملايين من الانفس". ومن ههنا تعلم ان ما اشتهر به الوندال من التخريب ليس شيئا يذكر أمام تخريب الروم. فان الوندال مكثوا أكثر من قرن ولم يبلغوا في التخريب وقتل الانفس ما بلغه الروم في عشرين عاما. والخلاصة ان الحياة الاجتماعية بالجزائر على عهد الروم بلغت من الانحطاط والتقهقر والشقاء ما لم تبلغه في دور من أدوار تاريخها. 10 - السلطة الرومية وانقراضها من الجزائر قال اغسال: "السلطة البيزنطية بافريقية غير معلومة. وانما توجد قوانين تذكر مستعمرين ومستعبدين عائشين ببعض الاراضي. وكبار ملاكي الرومان الذين ضعفوا في دور الوندال نجهل ان تكون أملا كهم عادت اليهم في هذا الدور. والظاهر عدم عودها". والذي جعل السلطة الرومية غامضة هو ضعفها. ولعلك لا تتوقف

بعد قراءة ما تقدم في الحكم بضعفها منذ نشأتها في المهد الى حين وضعها في اللحد. ومنشأ ضعفها أولا بعدها عن مركز الامبراطورية. ذلك البعد الذي جعل الاباطرة لا يستطيعون امدادها بالقوة، والذي جرأ الولاة على الجور والاستبداد. وثانيا مقاومة البربر لها من غير انقطاع وفوزهم عليها في كثير من البقاع. ولم يأت من الولاة من هو ذو قيمة ادارية وحربية غير اربعة: 1 - بليسير. وغاية عمله انه قضى على الوندال. 2 - سليمان. وغاية عمله انه فتح أوراس ووسع حكومة الروم بالجزائر وشاد البناءات. ثم مات مصطليا بنار الثورة. وعاد توسعه في وطن الجزائر ضررا على الروم لان البربر لم ينفكوا يهاجمونهم. 3 - يوحنا طرغليطا. بقي يدير حكومة الروم عشرين سنة لم يجن فيها غير اخضاع أنتلاس. 4 - جناديوس. وهذا استرجع بعض المدن التي افتكها البربر من الروم. ولكن البربر حاصروه سنة (97) بقرطاجنة. ولم ينج من الحصار الا بطلب الصلح منهم ثم غدر بهم. ومع ضعف سلطان الروم وضيق نطاق نفوذهم وعدم كفاية ولاتهم واخلاصهم كانوا مشتدين على من تحت سلطانهم من البربر. قال بيروني: "ومن المحقق ان الولاة البيزنطيين كانوا قساة اصحاب طمع". ولقد زاد في ضعف السلطة الرومية بالجزائر ضعف مركز الامبراطورية. فقد توفي يستنيان سنة (565) وخلفه اباطرة ليست لهم عظمته وشغلوا عن أفريقية بحروب الفرس وغيرهم. وفي سنة (602) دخل فوقاص القسطنطينية بجنود من الدنوب. وقتل الامبراطور موريس. وانتصب مكانه.

وفي هذا الحين كان الوالي بافريقية يدعى جرجير (GREGOIRE) وقائد الجيش يدعى هرقل. فثار القائد على فوقاص سنة (608) وقطع عنه القمح الذي كانت العاصمة تستورده من أفريقية. فخاطبه البيزنطيون في الانتقال الى القسطنطينية على ان يعينوه على استلام العرش من يد غاصبه. وكان كبير السن. فاجابهم على ان يوجه ابنه مكانه. ونافسه جرجير. فأرسل كلاهما ولده المسمى باسمه. وبما أن هرقل هو قائد الجيوش كان الاسطول تحت قبضته. فسير ابنه بحرا. وسير جرجير ابنه برا. فسبق هرقل بن هرقل. وقتل فوقاص. وجلس على العرش. ولما خاب جرجير فيما كان يأمله من تبوأ عرش القسطنطينية أعلن انفصال افريقية عنها، واستقل بها. وجعل عاصمته سبيطلة. بقي جرجير على رأس هاته الدولة التي لم تكن لها قوة وهي مرتبطة بالامبراطورية فكيف تحصل لها وهي مستقلة عنها وفي غير وطنها. وفي سنة (647) هجم العرب على هذه الدويلة. فقضوا عليها لاول هجومهم. وقتلوا جرجير. واحتلوا عاصمته. ومن ذلك الحين انقرضت السلطة الرومية من الشمال الأفريقي بعد ما لبثت (113) سنة. كان انقراضها بهذه السهولة لانها لم تكن ثابتة الاركان، فقد سبق أنها عاشت في حروب واضطرابات. وان سلطة هذه حالها لا تلفت النظر الى ما تركته من علوم وصنائع وفنون وأنظمة وعمران. بل انها لا تترك الا ما يناسبها من جهل وفوضى. فلم ينتج عنها غير خراب الاذهان والاوطان. والخلاصة ان البربر عادوا في العصر الرومي الى حياة الوحشية والهمجية تحت رؤساء لا دراية لهم بغير الحرب والسلب.

ولعل الروم لو كانوا في هذا العصر لقالوا: اننا جئنا لننقذ البربر من الهمجية وننشر بينهم المدنية اللطينية. ولئن سألناهم عما بلغ اليه البربر من الوحشية والفوضى بعد قرن لاجابونا بأن البربري وحشي الاخلاق ثوري بطبعه. لا يقبل التعليم ولا يحسن النقل عن جاره الرومي. ولعلهم ينقطعون عن الجواب إذا قلنا لهم: هذه الامة قد أحسنت النقل عن الفينيقيين. فبلغت بذلك أوج العز. وشادت دولا عظمى. وبعد مدة من القرون نقول لهم أيضا: ها هي تلك الامة قد استفادت من العرب. وأحسنت النقل عنهم. وعاد لها عزها. فشادت ممالك عظمى كما شادتها من قبل. ____ ـ[صورة]ـ مدوروش

فهرست

انتاج دار الغرب الإسلامي بيروت- لبنان

مبارك بن محمد الميلي تاريخ الجزائر في القديم والحديث تقديم وتصحيح محمد الميلي الجزء الثاني المؤسسة الوطنية للكتاب

تاريخ الجزائر في القديم والحديث

مبارك بن محمد الميلي ـ[تاريخ الجزائر في القديم والحديث]ـ تقديم وتصحيح محمد الميلي الجزء الثاني المؤسسة الوطنية للكتاب

الرقم التسلسلي تاريخ الجزائر T1 et T2 3 è 214.89.01.09

الكتاب الثاني في العصر العربي

الكتاب الثاني في العصر العربي

غزا العرب الشمال الافريقي. وفتحوه. وأسسوا به امارة عربية تابعة للخلافة الشرقية. واخضعوا البربر لامارتهم حينا من الدهر. ثم اخذوا كعادتهم يسترجعون قوتهم الحربية ويعملون للاستقلال. فاقتطعوا من تلك الامارة جانبا من الوطن الجزائري أسسوا به دولة مستقلة. هي الدولة الرستمية. ثم جاء ادريس الاكبر الى المغرب الاقصى. وأسس به دولة مستقلة امتدت الى النواحي المغربية من الجزائر. ثم استقل بنو الاغلب بتونس من غير ان يقطعوا صلتهم بالخلافة. وكان شرقي الجزائر تابعا لهم. ثم جاءت الدولة العبيدية فقضت على هذه الدول الثلاث. وفي عهدها شغل البربر أهم مناصب الحكومة. وبلغوا اخيرا أن قطعوا صلتهم بالعبيديين واستقلوا بالحكم. في القرن الخامس الهجري انقطع سلطان العرب على الجزائر. وقد كاد جنسهم ينقطع تبعا لسلطانهم لولا نزوح الهلاليين. وأبى الله الا ان يستوطن العرب شمال افريقية. ويبقوا جيرانا للبربر اخوانهم في الدين. والدين أمتن رابطة. هذا الدور كله نطلق عليه اسم العصر العربي، وان كان أكثره عربيا بربريا، نظرا الى ان الادارة العليا بيد العرب في جميعه ما عدا الدولة الرستمية. فهو عصر عربي حقيقة في أوله وتغليبا في باقيه. وبهذا الاعتبار اشتمل هذا العصر على ستة أبواب: ـ[الباب الاول: في غزو العرب لافريقية وتأسيس امارتهم بها]ـ ـ[الباب الثاني: في الدولة الرستمية]ـ ـ[الباب الثالث: في الدولة الادريسية]ـ ـ[الباب الرابع: في الدولة الاغلبية]ـ ـ[الباب الخامس: في الدولة العبيدية]ـ ـ[الباب السادس: في نزوح الهلاليين الى افريقية الشمالية]ـ

الباب الأول في غزو العرب لافريقية وتأسيس امارتهم فيها

الباب الأول في غزو العرب لافريقية وتأسيس امارتهم فيها

1 - جزيرة العرب

1 - جزيرة العرب جزيرة العرب هي الوطن الذي اختص العرب به واختص بهم. فلا يوجدون بغيره الا وهم منتقلون منه، ولا يوجد به غيرهم الا وهو طارئي عليهم من وطن آخر. هذا الوطن واقع في الطرف المغربي من آسيا. يحده شمالا الشام، وشرقا العراق والخليج الفارسي، وجنوبا المحيط الهندي، وغربا بحر القلزم (البحر الاحمر). ومن هذا التحديد تعلم أن اطلاق الجزيرة عليه غير منظور فيه الى الاصطلاح الجغرافي: اذ الجزيرة عند الجغرافيين ما أحاط به الماء من جميع جهاته. وجزيرة العرب انما أحاط بها الماء من أغلب جهاتها. فهي شبه جزيرة في عرف الجغرافيين. وبجزيرة العرب سلسلة جبال موازية لبحر القلزم. تقطعها من الشمال الى الجنوب وتنتهي بالمحيط الهندي. وتنقسم الجزيرة الى أقسام: 1 - اليمن جنوبا. ويشمل حضرموت ومهرة والشحر وعمان. ومن أشهر مدنه صنعاء وعدن وظفار. ومن مدنه التاريخية مدينة أوفير. وهي تبعد عن عدن شرقا (400) ميل. ورد ذكرها في التوراة. وعفا رسمها. فلم تكتشف الا في هذه السنة (1346هـ).

2 - العرب قبل الاسلام

2 - تهامه. وهي غرب الجزيرة على بحر القلزم بين اليمن والحجاز. 3 - الحجاز. وهو يلي تهامة شمالا على البحر. ومن مدنه الطائف ومكة وجدة والمدينة. وهو القسم الذي يشتمل على المشاعر الدينية للعرب في جاهليتهم، ولهم ولغيرهم من المسلمين بعد الاسلام. 4 - نجد. في وسط الجزيرة. وهو هضبة فسيحة تربط بين بقية أقسام الوطن العربي: العراق شرقا، واليمن جنوبا، والحجاز غربا، والشام شمالا. 5 - اليمامة. وهي بين نجد واليمن. هذه الاقسام منها ما فيه الصحاري القاحلة والاراضي الخصبة الصالحة لضروب كثيرة من الحبوب والاشجار، وعليها مراس غنية باللؤلؤ والعقيق. وفيها معادن الذهب والنحاس والحديد وغيرهن. 2 - العرب قبل الاسلام العرب أوضح الامم نسبا وأبعدها عن الامتزاج والاختلاط. اتفقت الكلمة وأجمعت الآراء على أنهم من سام بن نوح. نزحوا من العراق الى جزيرتهم في أعصر متفاوتة ومتناهية في القدم. واتخذوها موطنا حفظوا به أنسابهم من الاختلاط، وحافظوا عليها من الاندماج المفضى الى الاضمحلال. وهم شعوب وقبائل تجمعها ثلاث طبقات: 1 - العرب البائدة. وهي الطبقة المتناهية في القدم. سميت كذلك اما لبيود أخبارها وانقطاع الصلة بيننا وبين تاريخها. واما لبيود قبائلها وفناء أعقابها بذوبانهم فيمن بعدهم من أجيال العرب.

وكلا المعنيين صادق في الجملة: فان من هذه الطبقة من علمت أخباره ولو على سبيل الاجمال، ومنها من لم ينقطع عقبه. ومن قبائل هذه الطبقة طسم وجديس وعاد وثمود ومدين وعمليق. 2 - العرب العاربة. سموا كذلك لاصالتهم في العربية. وجذم هذه الطبقة قحطان. وأشهر قبائلها وأجمعها لبطونهم قبيلتا كهلان وحمير. 3 - العرب المستعربة. وهم بنو اسماعيل الطارئون على القحطانيين. سموا كذلك لانهم عبرانيون، واستعربوا بمخالطة العرب العاربة. وهم شعوب وقبائل يجمعها أصل عدنان المنتهي في نسبه الى اسماعيل. وأجمع قبائلهم وأشهرها مضر وربيعة واياد وانمار. ومن مضر قبيلة قريش. ونحن نرى أن أول أساس للحياة البشرية هي الحياة الدينية التي تستمد من الرسل والانبياء. فتكون في قرب عهدها بالرسل المستمدة منهم صحيحة. ثم تتغير بطول العهد، بالمغالاة والابتعاد حتى تنحرف عن أصلها وتصبح وثنية. ولم يخرج العرب عن هذه السنة الكونية. فانحرفوا عن الدين الحق، وتنكبوا الصراط السوي. فأرسل الله في قبيلة عاد منهم هودا، وفي ثمود صالحا، وفي مدين شعيبا. وذلك في أوقات مختلفة. فآمن من آمن منهم، وهلك من كفر. وبادت تلك الاديان ببيود أممها. وكان في الحجاز إسماعيل بن ابراهيم عليهما السلام. فانتشرت على يده ديانة ابراهيم الخليل (ص) في العرب العاربة والمستعربة. وجاء بعض الاسرائليين بديانة موسى (ص) الى الجزيرة. فاعتنقها بعض العرب. ثم بعد ظهور المسيحية أخذ بها بعض القبائل منهم.

ولم يزل جل العرب على ديانة ابراهيم (ص) غير أنهم أحدثوا فيها أحداثا وابتدعوا فيها بدعا. فصاروا يعبدون الاصنام والاوثان والطواغيت. وقد يعبدون الارواح كالجن والملائكة. قال السهيلي: "يقال لكل صنم من حجر أو غيره صنم. ولا يقال وثن الا لما كان من غير صخرة كالنحاس ونحوه" (¬1) وقال ابن هشام عن الطواغيت: "وهي بيوت تعظيمها كتعظيم الكعبة: لها سدنة وحجاب، وتهدي اليها كما تهدي للكعبة، وتطوف بها لطوافها بها، وتنحر عندها. وهي تعرف فضل الكعبة عليها: لانها كانت قد عرفت أنها بيت ابراهيم الخليل ومسجده " (¬2) وأصل عبادة العرب للاصنام أن أهل مكة كانوا لا يظعن منهم ظاعن الا حمل معه حجرا من الحرم تبركا به. وحينما يقيم يضعه ويطوف به طوافه بالكعبة. وبطول العهد صاروا يعبدون ما أعجبهم من الحجارة. وذكر السهيلي وجها آخر في أصل دخول الوثنية الى العرب. وهو لا يتعارض مع ما سبق. قال: "وقد ذكر البخاري عن ابن عباس: قال صارت الاوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد. وهي أسماء قوم صالحين من قوم نوح. فلما هلكوا أوحى الشيطان الى قومهم: ان انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسونها انصابا، وسموها بأسمائهم. ففعلوا. فلم تعبد، حتى اذا هلك أولئك وتنوسخ العلم عبدت " (¬3). وقد بقيت للعرب بقايا من شريعة ابراهيم (ص) كتعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة والوقوف على عرفة والمزدلفة وهدي البدن، مع ادخالهم في ذلك ما ليس منه. قال ابن هشام: "فكانت ¬

_ (¬1) الروض الانف ج1 ص62. (¬2) السيرة المطبوعة مع الروض ج1 ص64. (¬3) الروض ج1 ص62.

كنانة وقريش اذا أهلوا قالوا: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، الا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. فيوحدونه بالتلبية ثم يدخلون معه أصنامهم ويجعلون ملكها بيده. يقول الله تبارك وتعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (¬1). هذه الوثنية التي كان عليها العرب مع اعترافهم بوحدانية الله واقرار بعضهم بالبعث وكونهم يقولون- كما جاء في القرآن-: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} - هذه الوثنية هي التي لم يرضها منهم الاله جل وعلا، وأرسل اليهم رسوله صلى الله عليه وسلم ليمحوها من قلوبهم ويذهب أثرها من بين أعينهم. وفي اسلام كثير منا ما يشبه هذه الوثنية، غير ان الاسلام لما كان أصله محفوظا بحفظ القرآن وضبط الحديث لا يحتاج في تجديده الى نبوة جديدة وانما يحتاج الى احياء أصله والتقاضي اليه والتراضي به حكما. ولقد كان لهؤلاء العرب ملوك فخام ودول عظام. اشتهر من دولهم ثلاث: دولة التبابعة ودولة المناذرة ودولة الغساسنة. والدولة الاولى أسست في الالف الثاني قبل الميلاد. فان المؤرخين يذكرون منها ملوكا كثيرين قبل بلقيس التي كانت في زمن سليمان عليه السلام ابن داوود عليه السلام. وهي مؤسسة على أنقاض دوله قحطان التي كانت قبل الميلاد بنحو ألفي سنة. فهي أقدمهن عهدا وأكثرهن حضارة وأبقاهن أثرا وأوسعهن ملكا. كان منها بعد بلقيس شمريرعش حوالي المائة الثامنة (ق. م) ودخل أرض فارس. وخرب مدينة الصغد خلف نهر جيجون. وبنى مدينة هنالك سميت باسمه. وهي المعروفة اليوم بسمرقند. وقد وجد في بعض قصورها النهدمة ¬

_ (¬1) السيرة ج1 ص 63.

عمود مكتوب عليه بالحميرية: "هذا ما بناه شمريرعش لسيدة شمس". دولتا المناذرة والغساسنة كانتا شمالا، ودولة التبابعة كانت جنوبا. ومعلوم أن الدول لا تقام الا بالعلوم والصناعات خصوصا وقد دلت الآثار على عظمة تلك الدول. قال صاحبا الوسيط: "واذن تكون هندسة ارواء الارض وعمارة المدن والحساب والطب والبيطرة والزراعة ونحوها معروفة في الجنوب والشمال، مدونة في الكتب، وان لم يحفظ لنا الدهر صورا منها. أما البدو منهم وان كانوا أميين يمقتون الصناعات وينتقصون أهلها فلا غنى لهم عن تجربة ترشدهم الى ما ينفعهم في بواديهم المقفرة ومجاهلهم الطامسة: ليعلموا ما به تصح أنفسهم وانعامهم وتستطلع خفايا أمورهم وتدون فيه مفاخرهم، وليعرفوا متى تجود السماء، وبم يتميز الاقرباء من البعداء. فكسبهم ذلك علم النجوم والطب الضروري والانساب والاخبار ووصف الارض والفراسة والعيافة والقيافة والكهانة والعرافة والزجر وقرض الشعر " (¬1). قالا: واشتهر منهم في علم النجوم بنو حارثة بن كلب وبنو مرة ابن همام الشيباني، وفي الطب الحارثة بن كلدة الثقفي وابن حذيم التيمي، وفي الانساب دغفل بن حنظلة الشيباني وزيد بن الكيس النمري وابن لسان الحمرة، وفي القيافة بنو مدلج وبنو لهب، وفي الكهانة شق أنمار وسطيح الذئبي وطريفة الخير وسلمى الهمدانية، وفي العرافة الابلق الاسدي عراف نجد، ورباح ابن عجلة عراف اليمامة، وفي الزجر بنو لهب وأبو ذؤيب الهذلي ومرة الاسدي. أما الشعر فقد اشتهر فيه كثيرون معروفة أخبارهم في كتب الادب. ¬

_ (¬1) الوسيط في الادب العربي وتاريخه ص38.

3 - العرب بعد الاسلام

3 - العرب بعد الاسلام قد رأيت أن العرب قبل الاسلام كانت لهم دول شمالا وجنوبا. أما قلب الجزيرة فكان تحت امراء ورؤساء عديدين. فلم تكن لهم وحدة سياسية، وقد كادوا يفقدون استقلالهم قبيل الاسلام: اذ استولى الفرس على اليمن، وكان المناذرة تحت حمايتهم، والغساسنة تحت حماية الروم البيزنطيين. وكانوا من حيث الدين أيضا على أديان مختلفة. فكانت الفوضى شاملة للوجهتين الدينية والسياسية. والامم غير العرب ليسوا بأسعد منهم في هاتين الوجهتين، بل ان العالم كله أمسى في فوضى عامة لا يبصر في ظلامها الدامس سبيلا للرقي والكمالات البشرية. يشهد بذلك التاريخ الصادق. وقد امتاز العرب عن غيرهم من أهل عصرهم بالاخلاق الفاضلة مثل الصدق والوفاء وحماية الجار الى غير ذلك مما لا يسعنا تتبعه وامتازوا أيضا بقربهم من الفطرة. فكانت أذهانهم صافية وعقولهم راجحة. كان العالم في حاجة شديدة الى نور يهديه سبل الكمال، وصيحة عظيمة توقظه وتلفت نظره نحو ذلك النور. وكان العرب - كما قلنا- أقرب من غيرهم الى الفطرة وأقوم أخلاقا. فكانوا أهلا لان يبدو من جزيرتهم ذلك النور، وان يكون صاحب الصيحة رجلا منهم قد عرفوا فضله على رجالهم وفضل عشيرته وقبيلته على عشائرهم وقبائلهم. هذا الرجل هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي. رجل أمي نشأ بين قوم أميين. وكان المثل الاعلى عندهم في

الاخلاق الفاضلة من صدق ووفاء عهد وأمانة ورأفة بالضعفاء واحسان الى عموم الناس. ناهيك أنه كان له عبد يدعى زيد بن حارثة، ولم يكن أبوه حارثة عالما بمكانه حتى عرف انه في مكة. فقصده هو وعم زيد. وطلبا الحربه محمد ان يسرح ولدهما يذهبان به معهما. فاحالهما على اختيار زيد للاقامة معه أو الذهاب معهما. فقالا له: لقد انصفتنا. وجاء زيد فاختار ربه على أبيه. هذا الرجل الامي الكامل في بشريته لم يجلس الى العلماء ولا صاحب زعيما من الزعماء ولا خرج من بين قومه الى أي بلدة سوى أنه سافر مرتين الى الشام، الاولى كان فيها صبيا ابن اثنتي عشرة سنة، تعلق بعمه وكافله ابي طالب عند خروجه اليه، فاستصحبه، والثانية كان فيها فتى قد عرف فضله وأمانته، فرغبت اليه خديجة في أن يذهب ببضاعتها الى الشام تاجرا. ففعل. لسنا نريد ان نشرح حياة هذا الرجل قبل ان يبلغ الاربعين شرحا وافيا. ولكنا نريد ان نعلم أنه عاش في تلك المدة كرجل أمي سوى ما كان عليه من خلق عظيم. ولما بلغ الاربعين من عمره اصطفاه الله وعهد اليه بمهمة القيام باصلاح المجتمع البشري من جميع مناحيه. تلك المهمة التي لم يقم بها أحد قبله، ولا يستطيع أن يقوم بها أحد بعده ولو قرأ في أعلى مدارس الفلسفة وعاش أكثر من قرن قضاه بحثا ودرسا عمليا. وبذلك كان محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الخلائق على الاطلاق. كانت الفوضى اذ ذاك بالغة منتهاها. فكانت دعوته بالغة منتهى التوحيد، اذ دعا الناس الى عبادة اله واحد، والعمل بشريعة واحدة جامعة بين الوحدتين الدينية والسياسية، شاملة للسعادتين الدنوية والاخروية.

قضى في نشر دعوته بمكة ثلاث عشرة سنة قاسى فيها من كبراء قومه وسفهائهم ما لا يحتمله الا من خلقه الله وهيأه لان يكون أفضل الخلق أجمعين. ثم هاجر الى يثرب حيث كان له أنصار. فأقام بها عشر سنوات، أكمل فيها برنامج دعوته، وقضى على معانديه بالسنان بعدما أفحمهم بالحجة والبرهان. فصار العرب يدخلون في دين الله أفواجا حتى لم يبق بجزيرة العرب غير من يدين بالاسلام. هذا الاسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الدين الجامع للفضائل الباطنية والظاهرية، الدال على طرق السعادتين الدنوية والاخروية. فكان خاتمة الاديان وأداة الكمال لنوع الانسان. دعا الناس عامة الى الاعتقاد باله واحد. وحرض مجيبيه على التسامح مع أهل بقية الاديان ومعاملتهم بالجميل والاحسان. جاء في سورة الانعام: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} وجاء في سورة الممتحنة: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وقال صلى الله عليه وسلم: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ يَدِهِ وَلِسَانِهِ». هذا الدين على موافقته للفطرة وفضله على البشرية عمل لتشويهه ومحوه أناس سرا تحت ظله. حتى اذا تم لهم صرف العامة من أهله عن صراطه السوي قام من بعدهم بمحاربته جهرا وصاروا يضعون على حسابه القواعد الفلسفية. واليك كلمة واحدة في هذا الموضوع ننقلها عن سلامة موسى أحد متجردي العصر وملحدي

مصر. قال: "وعند ظهور الآلهة وانتظام العبادة ازداد الكهنة قوة وجمدت نواهي الطبو. فتقيد فكر الانسان. انما يجب أن نذكر ان الآلهة القديمة لم تكن في قوة آلهة الاديان الحاضرة لانها لم تكن قادرة على كل شيء كما يعتقد الآن المسيحي أو المسلم في إلهه. فكان بين الانسان وربه مجال للفكر في جملة موضوعات لا يستطيع أهل الاديان الحاضرة ان يفكروا فيها ما لم يتناقضوا مع ما ذكرته الآلهه" (¬1). خلاصة كلامه هذا تفضيل الوثنية على الوحدانية اعتمادا على تلك الشبهة التي لبس بها على بسطاء العقول ممن يفزعون الى الاخذ بالجديد من الافكار مطلقا فزع النساء الى الجديد من الازياء. نظرته هذه نظرة خيالية لا تتفق ومفعول الديانة الاسلامية وفضلها على البشرية جمعاء كما ينطبق تاريخها أيام عظمتها. وعلاوة عن كون هذه الفلسفة النظرية تدحضها الفلسفة العملية نزيد دحض هذه الشبهة من الوجهة النظرية أيضا: ان الوثنيين يعتقدون في آلهتهم المتعددة القدرة على كل شيء مثل ما يعتقد المسلم في إلهه الواحد، غير أن الآلهة الوثنية ليس لعبادتها نظام ولا لمرضاتها سبيل مقرر انتهاجها، وهذا الاله الواحد عبادته مضبوطة وأوامره مقررة. وهو يأمر البشر بالنظر في ماضيهم لاصلاح مستقبلهم، وأن نظام هذا الكون واحد: ما كان علة لانحطاط الماضين فهو علة انحطاط الآتين، وما كان سببا لرفعة أولئك فهو سبب لرفعة أولاء " سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا". كل هذا لا يخفى حتى على سلامة موسى واضرابه. ولكن هي ¬

_ (¬1) حرية الفكر وابطالها في التاريخ ص25.

الاهواء ودعاية الكيد للاسلام عامة والعرب خاصة (¬1). وان عذلت في هذا الاستطراد القصير فسيعذرني من رأى تحامل هؤلاء الرهاط على الاسلام والعرب متسترين بالفلسفة النظرية متجاهلين الحقائق الواقعية. اعتز العرب بهذا الدين واتحدت كلمتهم واستجدت قوتهم. فعظمت دولتهم وتمكنت في قلوب الاعداء هيبتهم. فأخذوا يفتحون البلدان ويستولون على الاوطان بسرعة ليس لها في تاريخ البشر مثيل. وليس ذلك بتقدمهم على الامم الاخرى في الفنون الحربية ¬

_ (¬1) اشتد كلب الزارين على الاسلام والعرب في هذه الايام لظهور دولة عربية اسلامية هي دولة عبد العزيز بن السعود. وقد رأيت في عدد واحد من الهلال (الجزء الخامس من السنة السادسة والثلاثين) التي تدعى بعدها عن السياسة والدين التحكك بالاسلام في ثلاتة مواضع: الاول (ص555) جاء فيه ان الاباحة اوفق من الحظر وان الجبر شر منه. ومثل للجبر بجبر الوهابيين الناس على الصلاة. وخفى عليه ان ضرر الجبر انما يكون اذا كان المجبور غير معتقد الخير فيما اجبر عليه. وهؤلاء مسلمون يرون الصلاة أهم ركن في دينهم الذي يرون نسبتهم لغيره سبة لا نظير لها. الثاني (ص611) جاء فيه ان المنع أحسن من الاباحة، نقيض الاول. ولكن سهل هذا التناقض ان الاول ضد الجبر على الصلاة والثاني ضد اباحة الطلاق. وكلاهها يتفقان مغزى. الثالث (ص586) جاء فيه ان الجرئم تكثر تبعا للحضارة وتقل مع البداوة "والوهابيون في نجد أقل جرائم منا ودعائم الامن أرسخ عندهم مما هي عندنا، لا لانهم اكثر خشية للعقوبة بل لان وسائل الجريمة عندهم قليلة لا تتعدى سرقة الماشية أو الملابس" ولا أدري أهذا الفيلسوف .. يعتقد أن الحجاز على عهد الاتراك والشريف حسين كان ارقى حضارة منه على عهد ابن السعود؟ لا يا فيلسوف! انه لا علاج للاجرام غير التهذيب الديني وعدل الحاكم، ولا سبب لكثرتها غير استبدال الايمان بالمادة بالايمان باله عالم قادر.

واختراعهم الاسلحة القاضية على النفوس المخربة للعمران. وانما بعدل أمرائهم واخلاص جيوشهم وكفاءة قوادهم. وهذه ميزات لا توجد في محاربيهم. اختصوا بها: لبعدهم عن النعيم والترف الموجبين للراحة وسآمة مقارعة الخطوب، ولكونهم متدينين بدين مهذب للنفوس ومعتقدين باله واحد مطلع على القلوب لا تخفى عليه خيانة خائن ولا جور جائر. ومما يدلك على شدة تأثير الاسلام في العرب وسرعته وفضله في تطهير القلوب وانارة العقول اتفاقهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على تقديم أبي بكر لخلافته واسراعهم لذلك، وهم الذين كانوا لا يدينون لاحد بالطاعة، وكل يرى نفسه أميرا. هؤلاء صاروا يخضعون لرجل واحد ليس له سلف في الملك والامارة، ويحسنون انتخابه واختياره. وان أرقى أمة اليوم في العلم وأعرقها في الحضارة لم تزل تفتك بها الاغراض الشخصية في الانتخابات العمومية. ومن كلام أبي بكر الدال على فضله وكفاءته خطبته التي خطبها في اليوم الثاني لخلافته. قال- بعد أن حمد الله وأثنى عليه-: "أيها الناس! قد وليت عليكم ولست بخيركم. فان أحسنت فأعينوني، وان أسأت فقوموني. الصدق أمانة والكذب خيانة. والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه، والقوي ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق ان شاء الله تعالى. لا يدع أحد منكم الجهاد فانه لا يدعه قوم الا ضربهم الله بالذل. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فاذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم". ومن كلامه الدال على عدله وحسن سياسته وصيته لجيشه الذي وجهه الى الشام. قال: "عليكم بتقوى الله في السر والعلانية. واذا قدمتم على جندكم (يخاطب القواد) فأحسنوا صحبتهم وأبدأوهم

4 - العرب في افريقية

بالخير. واذا وعظتموهم فأوجزوا فان كثير الكلام ينسي بعضه بعضا. واصلحوا أنفسكم يصلح لكم الناس. وصلوا الصلوات في أوقاتها باتمام ركوعها وسجودها والتخشع فيها. واذا قدم عليكم رسل الاعداء فاكرموهم، وأقللوا لبثهم حتى يخرجوا من عسكركم وهم جاهلون به. وأكثروا حرسكم، وبددرهم في عسكركم، وأكثروا مفاجأتهم بمحارسهم بغير علم تهم بكم، فمن وجدتموه غفل عن محرسه فأحسنوا ادبه وعاقبوه. وستجدون أقواما حبسوا أنة سهم في الصوامع فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له". ولما احتضر دعا بعض الصحابة منهم عثمان وطلحة وعبد الرحمن ابن عوف. وأعلمهم برأيه في استخلاف عمر. فاستحسنوه. ودعا عثمان ليكتب العهد. وأملى عليه: "بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما عهد به أبو بكر خليفة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة، في الحال التي يؤمن فيها الكافر ويوقن فيها الفاجر: اني استعملت عليكم عمر بن الخطاب. ولم آل لكم خيرا. فان صبر وعدل فذلك علمي به ورأيي فيه، وان جار وبذل فلا علم لي بالغيب، والخير أردت، ولكل امرىء ما اكتسب. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون". نكتفي بهذه النتف من كلام أبي بكر عن بقية خطبه وخطب بقية الخلفاء وعظماء القواد، اذ لا يتسع المقام لذلك ولا لتتبع سيرهم وأعمالهم ولا لشرح فضل الاسلام في نهضة العرب وعظمتهم وتكوين مدنية اساسها العقل الصحيح وأثرها سعادة البشر عامة. 4 - العرب في افريقية في عصر عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتح العرب الشام ومصر وطرابلس. وفي عصر عثمان (ض) دخلوا افريقية.

في سنة (27هـ-647م) صدر الامر من الخليقة لوالي مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري بالهجوم على افريقية. فقدمها بعشرين ألفا. وكان في جيشه من وجوه الصحابة أهل الشجاعة والدهاء مثل عبد الله بن الزبير وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عباس وعقبة بن نافع. فخرج اليهم جرجير صاحب سبيطلة بمائة وعشرين الفا من الروم والبربر. والتقى الجمعان على مسافة يوم وليلة من سبيطلة. فاستعر القتال بين الفريقين. وانتهت المعركة بقتل جرجير وانهزام جيشه. وبعد هذا الانتصار المشجع المرعب دخل العرب سبيطلة، وانتشروا في البسائط والسهول، يشنون الغارات على الروم والبربر. وبلغوا في غاراتهم قفصة، وفتحوا قصر الاجم صلحا. وبعد سنة وثلاثة أشهر أقامها الجيش العربي بافريقية طلب أهلها الصلح، وتحملوا لعبد الله بن أبي سرح بمال عظيم قبل انجلاء العرب عنهم. فقبل المال. وعاد الى مصر يحمل غنائم جليلة. بلغ هرقل امبراطور القسطنطينية خبر انهزام الروم والبربر، وما تحملوه من المال لابن أبي سرح. فغضب عليهم، ونقم منهم تسليم ذلك المال للعرب. فامرهم أن يؤدوا له من المال مثل ما أدوه للعرب. ووجه بطريقا لتنفيذ هذا الامر. فلما نزل البطريق بقرطاجنة وأعلمهم أمر الامبراطور حنقوا عليه وقالوا: الواجب في هذه الحال اعانتنا لا تغريمنا. وأصر البطريق على تنفيذ أمر الامبراطور. فأفضى الجدال الى القتال، وانتصر البطريق عليهم. وخلع ملكهم الذي نصبوه مكان جرجير. فذهب الى الشام مستنصرا بالعرب. قضى البربر والروم ثمانية عشرة سنة بعد انجلاء العرب عنهم في الفوضى. وشغل العرب عن العود الى غزوهم بما كان من شأن

الثورة على سياسة عثمان (ض) ثم قتله الذي نشأت عنه حروب علي (ض) مع عائشة (ض) ثم معاوية (ض). افضت الخلافة الى معاوية بن أبي سفيان (ض) فطلب منه ملك افريقية المخلوع ان يعينه على استرجاع منصبه. فوجه معه جيشا عربيا بقيادة معاوية بن حديج السكوني الكندي الصحابي " ولما بلغوا الاسكندرية توفي الملك المخلوع، ومضى الجيش لطيته. كان مجيء معاوية سنة (45هـ - 665م) في عشرة آلاف، فيها من عظماء العرب أمثال عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الملك بن مروان. وخرج البطريق لملاقاتهم في ثلاثين ألفا. فانهزم عند قصر الاجم. وفتحت سوسة وبنزرت وجربة، وغزيت صقلية. واتخذ معاوبة آبارا للجيش بمكان القيروان. وفي سنة (46 أو 47هـ) استقدم الخليفة معاوية بن حديج، وولاه على مصر وافريقية. ثم انتزع منه افريقية. ثم عزله عن ولاية مصر سنة (50). وبعد معاوية ارسل الخليفة الى افريقية عقبة بن نافع الفهري. قيل سنة (46) وقيل سنة (50) وفي كتب الافرنج: انه جاء سنة (668 م) غازيا ثم سمي واليا عليها سنة (669 م). ولعل هذه الرواية تقرب الجمع بين روايتي مؤرخي العرب، فيكون مجيئه سنة (46) أو بعدها بقليل بصفة أمير جيش، وفي سنة (50) الموافقة لسنة (669 م) سمي واليا. اشتغل عقبة باخضاع البربر والروم لولايته، وتثبيت قدم العرب بافريقية. فأسس مدينة القيروان سنة (50) (670م) بمواد من الخرابات الرومانية. ثم عزله معاوية. وولى على مصر وافريقية معا مسلمة بن مخلد.

5 - العرب في الجزائر

5 - العرب في الجزائر في سنة (50) عزل الخليفة والي مصر معاوية بن حديج. وولى مكانه مسلمة بن مخلد الانصاري. وجمع له بين ولايتي مصر وافريقية. وفي سنة (55) (675) م استعمل مسلمة على افريقية مولاه أبا المهاجر دينارا. فقدمها واساء عزل عقبة. وخرب مدينته القيروان. وأسس أخرى قربها. وأخد يغزو ويفتح. وكان من ملوك البربر ملك يدعى كسيلة. قد جمع جموعه بالمغرب الاوسط، وزحف بها لقتال المسلمين. فخرخ اليه ابو المهاجر، وهزمه حول تلمسان. قال غروت: "بوادي اسر" (¬1) وظفر به. فاعتصم بالاسلام. فاتسبقاه. وقربه. قال الزياني: وتوجه أبو المهاجر لغزو البربر. فبلغ تلمسان. ونزل على تحتها. فسميت به الآن. وقال ابن خلدون: "وبه سميت عيون ابي المهاجر قريبا منها" (¬2). قال الزياني ما ملخصه: أن أبا المهاجر بعد عوده من غزو المغرب الاوسط خرب القيروان. وأسس أخرى أنزل بها حامية المسلمين. وأقام هنالك الى أن بلغته وفاة معاوية. وفي غروت: انه نقل مركز الولاية الى ميلة. ولم أقف على هذه الرواية في غيره. ويظهر أن رواية الزياني أصح. ولما أفضت الخلافة الى يزيد بن معاوية أعاد عقبة الى ولاية ¬

_ (¬1) وادي اسر منبعثه من جبال جنوب تلمسان. وينعطف شرقيها ويميل مغربا. فيمر شمالها. الى أن يلتقي بنهر تافنا. وقد ذكره في المغرب 77 وفي بلاد القبائل واد آخر يدعى اسر ايضا. وليس بمراد منا. (¬2) خ7 ص76.

افريقية. فقدمها سنة (62) (681) م وانتقم من ابي المهاجر. فاعتقله. ونكب صاحبه كسيلة. وخرب مدينته. وعمر القيروان من جديد. ثم أخذ في غزو الروم والبربر. بلغ مدينة باغاية. والتقى هنالك بجموع البربر والروم. قال البكري: "فدارت بينهم حروب عظيمة. وكانت الدبرة فيها على أهل باغاية. فهزمهم عقبة بن نافع. وقتلهم قتلا ذريعا. ولجأ فلهم الى الحصن. وغنم منهم خيلا لم يروا في مغازيهم أصلب ولا أسرع منها، من نتاج خيل أوراس. فرحل عنهم عقبة. ولم يقم عليهم كراهة ان يشتغل بهم عن غيرهم " (¬1). ومنها توجه الى لمبس (تازولت). واشتد دفاع الروم والبربر عنها. وكان النصر حليف العرب. ثم سار الى الزاب. وسأل عن أعظم مدنه. فقيل له: مدينة أربة (¬2) فقصدها. وبلغها عشية. ومن الغد هجم عليها. وكان البربر قد هابوه والتجأوا الى حصونهم. فلما هجم عليهم دافعوه. واستعر القتال بين الفريقين. ثم انجلى عن ¬

_ (¬1) المغرب ص145. (¬2) نقل الكعاك بهامش موجزه عن اليعقوبي: أنها آخر مدن الزاب مما يلي المغرب، وعن النويري: أنها قصبة الملك ومجمع الامراء، حولها نحو ثلاثمائة وستين قرية آهلة عامرة. وقال ابن خلدون: انها قاعدة الزاب (4: 186). وبعمالة وهران قرية قديمة تدعى أربة، وأخرى حديثة تدعى كذلك أيضا. ويعبرون عن ثنيتهما بلفظ أربوات. وحولهما قرى كثيرة متقاربة، بعضها عامر وبعضها خرب. وهما يبعدان عن تيهرت بنحو ثلاث مراحل الى الجنوب المغربي. والظاهر أن أربة القديمة التي بعمالة وهران اليوم هى المرادة. وليس في عبارة المؤرخين ما ينافي ذلك سوى قول ابن خلدون: إنها قاعدة الزاب. ولا يبعد أن يكون غالطا في هذا التعبير.

هزيمة البربر. وتركوا قتلى كثيرين. ومن أربه سار الى تيهرت. وانتصر بها على جموع البربر والروم. ومنها توجه الى المغرب الاقصى. فجاس خلاله بسرعته المدهشة حتى بلغ المحيط الاطلانتيقي. ثم قفل راجعا الى القيروان. واذن لجيوشه في اللحاق بها. وكان أبو المهاجر في اعتقاله مصاحبا لعقبة في غزواته هاته ومعه أيضا كسيلة. وكان يستهينه. قال ابن خلدون: "يقال انه كان يحاصره في كل يوم، ويأمره بسلخ الغنم اذا ذبحت لمطبخه" (¬1). أبو المهاجر- وان كان بينه وبين عقبة حزازات شخصية- لم يكن ليخون دينه ودولته. فأخذ يشير على عقبة باصطناع كسيلة، ويوقظه الى سوء سياسته، ويذكره بسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع جبابرة العرب واستئلافه لهم. كل ذلك لم يلين من سورة عقبة، فلم يقلع عن سياسته. ولما انتهى الى مدينة طبنة صرف الجنود الى القيروان. ولم يبق الا في طائفة قليلة ثقة بانتصاراته على البربر، واستخفافا بشأن كسيلة. وسار في تلك البقية قاصدا تهودا لينزل بها الحامية. علم كسيلة بقلة من بقي مع عقبة فأرسل الى الروم والبربر يعلمهم بذلك. وأرسل أيضا الى الكاهنة صاحبة جبل أوراس. فأقبلوا في جموع عظيمة. وأحاطوا بشرذمة عقبة. فلما رأى كثرتهم وقلته علم أنه مستشهد لا محالة. فسرح أبا المهاجر وقال له: الحق بالقيروان، فقم بأمر المسلمين. وأنا أغتنم الشهادة. وكان أبو المهاجر تتيسر له النجاة لما بينه وبين كسيلة من المودة. ولكنه أبى أن يرجع سالما ويهلك عقبة. فأجابه بقوله: وأنا أغتنمها ايضا. هكذا كان ¬

_ (¬1) ج4 ص186.

أسلافنا، اذا كان بينهم أشياء شخصية لا يذكرونها وقت الشدة، ويتناسونها أمام الصالح العام. لما أحاط البربر والروم بأصحاب عقبة نزلوا عن خيولهم وكسروا أجفان سيوفهم استطابة للموت على الاسر، وحبا في الموت الشريف، وكراهية للحياة اذا كان فيها ذل وهوان. فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم. وكانوا زهاء ثلاثمائة من الصحابة وكبار التابعين. قال ابن خلدون: "واجداث الصحابة رضي الله عنهم أولئك الشهداء عقبة وأصحابه بمكانهم ذلك من أرض الزاب لهذا العهد. وقد جعل على قبر عقبة اسنمة، ثم جصص واتخذ عليه مسجد عرف باسمه. وهو في عداد المزارات ومظان البركة. بل هو أشرف مزور من الاجدات في بقاع الارض لما توفر فيه من عدد الشهداء من الصحابة والتابعين الذين لا يبلغ أحد مد احدهم ولا نصيفه " (¬1) ومسجد عقبة هو المسجد الجامع للقرية التي تعرف لعهدنا هذا باسم سيدي عقبة. وضريحه داخل المسجد. وظاهر كلام ابن خلدون ان عقبة صحابي. وهو ليس كذلك. وانما ولد في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فقط ولذلك يقولون فيه: صحابي بالمولد. فاطلاق الصحابي عليه توسع. وصريح كلامه ان تلك القطعة من وطن الجزائر أشرف بقعة تزار يريد شكير البقاع التي عرفت للانبياء. وكلامه هذا صحيح. فللجزائر مفخرة لا ينازعها فيها وطن آخر بضمها لاجساد أولئك العظماء في الدين والتاريخ، عظماء في الدين لانهم من أهل القرنين المفضلين على ما بعدهما من القرون، وقد ماتوا شهداء، واليهم يرجع الفضل في اسلامنا الذي نعده أنفس شيء أخذه الاسلاف عن أمثالهم، وأعز تراث تركه لنا ¬

_ (¬1) ج6 ص146 - 147.

6 - الجزائر تحت ملوك البربر

الاجداد الامجاد، وعظماء في التاريخ لانهم جاسوا خلال الشمال الافريقي من تونس الى سوس الاقصى في ظرف ثلاثة أعوام- على ما في الزياني- من غير معرفة بهذا الوطن ولا مساعدة من أهله. وان عقبة بن نافع لجدير بأن يخص بالتأليف فانه من أعظم أبطال التاريخ، غزا الروم بحرا من مصر. وافتتح غذامس وذهب منها الى ودان ففزان. وانتهى الى السودان وفتح كورامنه. كل هذا قبل أن يشرع في حرب افريقية. وان من نظر الى ابعاده في الغزو وانتصاره على العدو مع تماثل السلاح وفقد وسائل النقل والاطلاع اذ لم تكن لهم آلات هذا العصر وخرائط الجغرافية- من نظر الى ذلك مع تلك الحال أكبر عقبة ايما اكبار، وأكبر تغافلنا عن تاريخ عظمائنا، الامر الذي جرأ كثيرا من خونة التاريخ أو الجاهلين به المتطفلين عليه على تشويه ماضينا ودوس حاضرنا. 6 - الجزائر تحت ملوك البربر البربر بعد قضاء الرومان على دولهم الكبرى بقوا يتطلبون الاستقلال حتى نالوا منه حظا وافرا على عهدي الوندال والروم. لكن لم يكونوا دولا عظمى كسابق عهدهم. وانما كانوا طوائف تحت ملوك متعددين، قد مر ذكرهم. ولما جاء العرب وجدوا أمامهم دويلة جرجير. فقضوا عليها بسهولة، وانضم الروم الى البربر. وصاروا يدا واحدة على العرب. وهؤلاء ملوك البربر الذين عرفوا في بداية الفتح العربي: 1 - صولات بن وزمار. كان أميرا على قبيلة مغراوة. وأسلم في عهد عثمان بن عفان (ض) قيل وفد عليه مهاجرا، وقيل أسيرا،

أسره عبد الله بن ابي سرح. وعقد له عثمان على قومه. وبقي لعقبة ملك في العصر العربي. 2 - ستردير بن رومي. كان أميرا على قبيلة أوربة. قال ابن خلدون: "ولي عليهم مدة ثلاث وسبعين سنة. وأدرك الفتح الاسلامي. ومات سنة احدى وسبعين" (¬1). 3 - كسيلة بن لزم. كان على قبيلة أوربة. قال ابن خلدون: "وولي عليهم من بعده (يعني ستردير) كسيلة بن لزم الاوربي. فكان أميرا على البرانس كلهم. ولما نزل أبو المهاجر تلمسان سنة خمس وخمسين كان كسيلة ابن لزم مرتادا بالمغرب الاقصى في جموعه من أوربة وغيرهم. فظفر به أبو المهاجر وعرض عليه الاسلام. فأسلم. واستنقذه وأحسن اليه وصحبه " (¬2). وقال غروت: "اتفقت كلمة البربر على قبول رئاسة كسيلة. وكان الوطن تحته مستقلا تماما. وهذه أول مرة اتحدف فيها البربر تحت ملك واحد". ولم يزل كسيلة على الاسلام في صحبة أبي المهاجر حتى قدم عقبة ونقم منه تلك الصحبة وامتهنه. فضغن عليه وأسرها في نفسه حتى أمكنته الفرصة. فحشد له جموع البربر والروم. فاحتشدوا. واستشهد عقبة وأبو المهاجر وغيرهما. قال ابن خلدون: "وأسر من الصحابة يومئذ محمد بن أوس الانصاري ويزيد بن خلف العبسي ونفر معهم. ففداهم بن مصاد صاحب قفصة" (¬3). ¬

_ (¬1) و (¬2) ج6 ص146 وفي كلامه نظر اذ جعل وفاة ستردير سنة 71 وولاية كسيلة بعدها. ثم يقول ان كسيلة لاقى بعد ولايته أبا المهاجر سنة 55، على أن كسيلة نفسه لم يعش الى سنه 71 فكيف ولي بعدها. ولا تستقيم روايته الا بان يكون ستردير توفي قبل سنة 55 أو يكون كسيلة ولي حياته. (¬3) ج6 ص147.

بعد هذه الوقعة الغريبة- وهكذا كل ما يتعلق بعقبة غريب- اجتمع الى كسيلة جميع من في المغرب من بربر وروم. فزحف بهم الى القيروان. وكان بها زهير بن قيس البلوي. تركه عقبة خليفة عنه بها. فلما بلغه خبر عقبة وزحف كسيلة اعتزم القتال. فخالفه حنش بن عبد الله الصنعاني واتبعه الناس. فلم يسع زهير الا متابعتهم. فارتحلوا من القيروان. وبقي زهير ببرقة ينتظر مدد الخليفة. دخل كسيلة القيروان. والفى بها بقايا من العرب ثقلوا عن الارتحال. فأمنهم. وأقام بها أميرا على المغرب خمس سنوات. اشتغل أثناءها بتعمير ما خربته الحروب من الوطن. وكان حبل الخلافة في هذه المدة مضطربا بما كان من ثورة عبد الله بن الزبير التي أستمرت الى زمن عبد الملك وثورات غيرها. ولما قضى عبد الملك بن مروان على الثورات أرسل سنة 67 المدد الى زهير بمكانه من برقة. فزحف الى القيروان في آلاف من العرب. وخرخ له كسيلة في جموعه والتقى الجمعان بنواحي القيروان. ووقعت بينهما معارك شديدة. حكمت أخيرا بفوز العرب. وقتل فيها كسيلة وكثير من أشراف البربر ورجالاتهم. بعد هذه المعركة الفاصلة تتبع زهير البربر حتى وادي ملوية. وقد ظن أنه قلم أظفار البربر نهائيا. وذلك غلط وقع فيه قبله عقبة. فحسب ان الامن قد استتب. فزهد في الامارة. وارتحل من القيروان مشرقا. فاستشهد ببرقة مقاتلا للروم. 4 - دهيا بنت ينفاق الشهيرة باسم الكاهنة. كانت أميرة على جراوه من زنانة بجبل أوراس. قال ابن خلدون: "وكان لها بنون ثلاثة ورثوا رئاسة قومهم عن سلفهم، وربوا في حجرها. فاستبدت عليهم وعلى قومهم بهم وبما كان لها من الكهانة والمعرفة بغيب أحوالهم وعواقب أمورهم. فاتتهت اليها رئاستهم. وملكت عليهم خمسا

وثلاثين سنة. وعاشت 127 سنة. وكان قتل عقبة بن نافع في البسيط قبلة جبل أوراس باغرائها" (¬1). ولما غادر زهير القيروان واستشهد ببرقة أمر عبد الملك بن مروان عامله بمصر حسان بن النعمان الغساني بفتح افريقية. قال البكري: "فخرج اليها في المحرم سنة ثمان وستين " (¬2) وكان الروم بعد تخريب سبيطلة يلتجئون الى قرطاجنة. فقصدها حسان وفتحها عنوة ثم خربها. وقضى بذلك على الروم. ولم يبق أمامه الا البربر. فسأل عن مكان الشوكة منهم. فدل على الكاهنة بجبل أوراس. فتوجه اليها. بلغ الخبر الكاهنة. فذهبت الى باغاية. وهدمت أسوارها خشية ان يفتحها حسان ويتحصن بها. وسارت من هناك الى مسكيانة. وكانت لها بها حصون. فالتقت بجيوش حسان. وتقابل الجمعان. على وادي مسكيانة. فاقتتلوا قتالا شديدا. وحكمت المعركة للكاهنة. فهزمت العرب وسارت في أثرهم حتى أدخلتهم تراب طرابلس. وأسرت منهم نحو ثمانين. فسرحتهم سوى خالد بن يزيد القيسي فانها أبقته لديها وتبنته. أصبحت الكاهنة بعد هذا الانتصار ملكة على ما بين السرت والمحيط الاطلانتيقي. قال غروت: "وجعلت عاصمتها تيسدروس". ومع اتساع ملكها هذا وانتصارها لم تزل رهبة العرب من قلبها ولم تشك في أنهم سيعودون لحربها. وظنت أنهم مثل الرومان: انما ¬

_ (¬1) ج7 ص9. (¬2) المغرب ص7 واعاد ذكر حسان (ص37) وساق نسبه هكذا: حسان بن النعمان بن عدي بن بكر بن مغيث بن عمرو مزيقياء بن عامر الازدي.

يحاربون لتين المغرب وخيراته. فقطعت أملهم- على ظنها- بأن أمرت بتخريب المدن والحصون ونسف العمران. وقالت لقومها: نحن انما نريد المزارع والمراعي. ولا شأن لنا بما عدا ذلك. فعلت هذا من جهة. واتخذت يدا عند العرب من جهة أخرى بتسريح أسراهم والاحسان الى خالد. فاحتاطت لنفسها وقومها من حهتين. ولكنها لم تفهم غرض العرب من غزو افريقية. فكان أمرها ذلك خاليا من الحاكمة. فقد أفسدت عليها البربر بذلك. وصاروا مضمرين نصرة حسان عليها ان هو عاد لحربها. حسان بعد هزم الكاهنة له أقام ببرقة بأمر من عبد الملك منتضظرا انجاده. وكان عبد الملك في شغل عن ذلك بفتن داخلية. وفي سنة (74) جاء المدد الى حسان فخرج من برقة لغزو الكاهنة. وكان على علم بتضعضع مركزها بما كان بينه وبين خالد من الصلة السرية. تلقاه البربر وبقايا الروم هذه المرة بوجه غير الاول. فبذلوا له طاعتهم. وأمدوه بالاموال. وأدركت الكاهنة خذلان الامة لها. فتحصنت بعاصمتها. وقضت بها ستة أشهر تحت الحصار. ثم غادرتها من نفق. وناوشت العرب القتال من غير ثبات لعدم ثقتها بالبربر. قال غروت: "بعد أن أيست الكاهنة من النصر ورأت خذلان البربر واليونان لها أرادت الانتقام منهم. فأرسلت الى حسان تعرض عليه اسلامها واسلام من بقي تحت أمرها، والوقوف في صفه. ووجهت ذلك مع ولديها. فلم يقبل حسان. وأسر الولدين. واذ ذاك تأخرت الى أوراس. وكانت لها بنت تدعى مشوشة، قد أعدت لها ملجأ هنالك بمكان يدعى جفة. وتمكنت بذلك من دفاع العرب مرارا. ولكنهم دخلوا أخيرا ملجأها. ففرت. وقتلت في طريق فرارها

عند بئر تدعى بئر العطر ثم اطلق عليها بئر الكاهنة. وذلك سنة 705 م". وفي كلامه هذا نقطتان غير مسلمتين: أولاهما ان مورخي العرب لم يذكروا أسر حسان للولدين. بل ذكروا انه عقد لهما على قومهما بعد والدتهما. وهذا هو الصحيح الموافق لما عرف عن العرب جاهلية واسلاما من عدم الاساءة الى الرسول، والموافق ايضا لما عرف به حسان من الحنكة السياسية، اذ لو فعل ذلك لنفر منه البربر. ثانيتهما ان غيره ذكر ان قومها دعوها الى الاسلام لما أيقنوا بهلاكها فامتنعت منه وامتنعت من الفرار أيضا. ومن كلامها في هذا الشأن ما في تاريخ دول الاسلام: "انما الملكة من تعرف كيف تموت" (¬1) وفي موجز الكعاك من خطابها لقومها: "الفرار عار وسبة في وجه أمتي. والتي قادت البربر والروم ضد العرب يجب ان تموت موت الملكات". ولا شك ان طلبها الاسلام طمعا في النجاة لا عن ايمان انما هو نوع من الفرار. ويؤيد عدم طلبها للاسلام انها لو فعلت ما قاتلها حسان. وكل من له المام ضعيف بتاريخ الاسلام يعلم ان العرب لا يقاتلون الا بعد ان يعرضوا على محاربيهم الاسلام أو الجزية. فكيف يعقل رفض حسان لاسلام الكاهنة وهو انما يحارب لتلك الغاية؟ والخلاصة أن رواية غروت فيها طعن في أعظم رجل من فاتحي المغرب، وهو طعن باطل. وفيها تنقيص لملكة عظيمة من البربر. وهو باطل أيضا. وكل من ينظر التاريخ بعين الحقيقة يراها درة في جيد تاريخ المرأة لما كانت عليه من حسن التدبير وشدة البأس وصدق الدفاع عن الوطن والثبات على المبدأ. ¬

_ (¬1) ج1 ص240.

7 - الفتح العربي

7 - الفتح العربي بعد قتل الكاهنة دخل حسان جبل أوراس. وخضع له البربر. فعقد لاكبر ابني الكاهنة على جبل أوراس وقومه جراوة. وجند من البربر اثني عشر الفا لا يفارقونه في جميع مواقفه الحربية. وذلك كي يأمن ثورتهم، ويستعين بشجاعتهم. وبعد فتح جبل أوراس عاد حسان الى القيروان. ووجه همه الى الادارة والحربية. فدون الدواوين. وكتب الخراج. وضرب الجزية على من أقام على المسيحية. ثم أنشأ بتونس دارا لصناعة المراكب البحرية والآلات الحربية. وعلى يدي حسان تم الفتح العربي حربيا وسياسيا ودينيا، فاستتب الامن. واقبل الناس على شؤونهم. ولكن الغلطة التي غلطها معاوية بن أبي سفيان (ض) باضافة المغرب الى ولاية مصر ما زالت تفتك بالمغرب، وتهدم ما بنته جهود الفاتحين. كان عقبة بن نافع قد وضع أساس الفتح العربي بالمغرب. وبينما هو مشتغل بتكميله اذ أضاف معاوية المغرب الى والي مصر مسلمة بن مخلد. وكانت نتائج هذه الاضافة عزل عقبة، واستحكام العداوة بينه وبين أبي المهاجر، وصاحبه كسيلة. الامر الذي أفضى الى قتله. ولم يزل المغرب تابعا لمصر. فلما تمم حسان الفتح، وعمم الامن عزله والي مصر. فارتحل الى المشرق. واستخلف مكانه أحد عظماء الجند. ولكن لم تكن له كفاءة حسان. فاضطرب حبل الامن. وكثرت الفتن. وخلت أكثر البلاد. وكادت جهود حسان تذهب هباء، لولا ان تداركها الله بمجيء موسى بن نصير. لما حل هذا الوالي بالقيروان أخذ في اخضاع البربر من جديد. ففرق البعوث في النواحي. وافتتح طبنة من جديد. وارسل أحد

قواده بشر بن ارطاة الى مجانة فافتتحها. وافتتح قلعة حولها. فأضيفت اليه. وسميت قلعة بشر. بلغ موسى في غزواته بحرا جزيرة ميورقة، وبرا السوس الادنى. قال بيروني: "كان موسى فاتحا عظيما. أخضع قسنطينة الثائرة والمغرب الاقصى وتافيلالت ودرعة وسوس. وجند تسعة عشر الفا من البربر. وأسس طنجة. وجعلها قاعدة الشمال المغربي. وجعل لها حامية ذات سبعة عشر الفا ما بين عرب وبربر"، وكان العامل عليها من قبله طارق بن زياد الليثي. ولما ثبت الفتح بالمغرب أمر طارقا بغزو الاندلس. فتوجه اليها سنة 92 في جيشين أحدهما تحت رئاسته، نزل به الجبل المعروف باسمه الى اليوم، والآخر تحت رئاسة طريف إن مالك النخعي، ونزل مكانا سمي به أيضا. ولما اجتازوا البحر كسر طارق المراكب كي لا يطمح في الفرار ضعفة الصبر من الجيش. وخطب فيهم خطبته الشهيرة التي ضاعفت شجاعتهم واقدامهم. قد وضع عقبة في ولايته الاولى أساس الفتح العربي بتأسيس عاصمة المغرب. وجاء حسان فرفع البنيان وأحكم بناء الاركان. وجاء موسى فوضع السقف وحفظ هذا الصرح من عوامل الضعف، ولولا غلطات الخلفاء وجهل الامراء بدواخل الوطن وطبائع أهله وجهل البربر بغرض الفاتحين ما بقي العرب في تشييد صرح الفتح نحو من اربعين عاما. ومع ذلك فهو فتح سريع لم يكتم مؤرخو الافرنج تعجبهم منه. بحث الافرنج عن سر هذه السرعة العجيبة فوجدوها فيما كان عليه الوطن البربري من عموم الفوضى منذ اواخر العصر الروماني. وليس ذلك بصحيح. وقد قدمنا بحثنا في التعليل بالفوضى في الفصل

8 - البربر والاسلام

الرابع من الباب السابع. ولوكانت الفوضى تفيد الفاتح سرعة الفتح فلم تفد الروم البيزنطيين بمعشار عشر ما أفادت العرب؟ وهل هذه الفوضى التي قربت للعرب فتح المغرب موجودة بصفتها لدى الفرس أيضا وغيرهم من أهل الشام ومصر والاندلس وبقية الاوطان التي سار فيها الفتح العربي سير الشمس غير أنه ليس سريع الافول؟ لسنا ننكر ان البربر كانوا في فوضى، ولا نخصهم بها. ولكنا لا نراها صالحة لان تكون سببا لسرعة الفتح. أما السبب في نظري فهو ان العرب لم يحملهم على غزو الامم كسب ثروة ولا استعباد ضعيف. وانما كانوا يريدون نشر الاسلام بصدق واخلاص. فكانوا يعرضونه على محاربيهم اولا. فان أجابوا صاروا مساوين للعرب في جميع الحقوق. لا سيد ولا مسود ولا غالب ولا مغلوب. وان امتنعوا عرضوا عليهم الجزية. فان قبلوها حفظوا بها حقوقهم الذاتية وعقائدهم وعوائدهم تحت العدل الاسلامي. وهذا السبب أراه عاما في سرعة الفتح العربي لجميع الاوطان. 8 - البربر والاسلام علمت سابقا أنه كان بالمغرب ثلاث ديانات: الوثنية والموسوية والمسيحية، وان المسيحية ذات مذاهب ثلاثة متباينة: الارثذوكس شيعة الرومان والاريويين من الوندال، والدونويين من بربر الجزائر. وان كان لاصحاب تلك الديانات والمذاهب شيء من التعاليم الموروثة والتقاليد الجامدة فقد قضت عليها الفوضى من جهة والسلطة البيزنطية من جهة أخرى، ولم تبق هيئة دينية الا في كنائس الارثذوكس لما لهم من السلطان والصلة بالبابا.

وقد أخذ الاسلام يظهر بالمغرب بين البربر لاول ما غزاهم العرب. فقد أسلم صولات بن وزمار أحد ملوكهم على يد الخليفة الثالث. وسرحه لقومه. ولا شك انه قد عمل لنشر الاسلام بينهم لما عاد اليهم. وفي ولاية عقبة بن نافع الاولى التي وضع فيها أساس الفتح العربي كان الاسلام منتشرا جدا. قال ابن خلدون: "فدخل افريقية. وانضاف اليه مسلمة البربر. فكبر جمعه .. ودخل أكثر البربر في الاسلام، واتسعت خطة المسلمين. ورسخ الدين " (¬1). وفي ولاية ابي المهاجر اسلم كسيلة من ملوكهم. وكاد الاسلام يعم المغرب أجمع في ولاية عقبة الثانية لولا اساءته لكسيلة. تلك الاساءة التي انتجت قتله ووقف سير الفتح العربي. ولما فتح حسان جبل أوراس أسلم أهله، واتخذ منهم جيشا اسلاميا. ولما فتح موسى بن نصير طنجة عام (88) ولى عليها طارق بن زياد. وأنزل معه آلافا من العرب والبربر. وأمر العرب أن يعلموا اخوانهم البربر القرآن وفقه الدين. واذا كان من البربر من قبل الاسلام عن علم واعتقاد راسخ فان جمهورهم انما قبلوه لما رأوا من قوة الجند العربي، وأنه لا يسلم من سيوفهم الا من أسلم أو دفع الجزية. فاختاروا الاسلام لما فيه من عز. وأنفوا من الجزية لما فيها من صغار. ولذلك كانوا اذا جاءتهم جنود العرب أسلموا، واذا رجعت عنهم ارتدوا. ويروى عن ابن أبي زيدانة قال: ارتد البربر اثتني عشرة مرة. ولما فتح الاندلس وثبتت قدم الامارة العربية بالمغرب وخالط البربر العرب ثبتوا على الدين. ثم لما أرسل الخليفة عمر بن عبد العزيز ¬

_ (¬1) ج3 ص10.

اسماعيل بن عبيد الله واليا على المغرب ارسل معه عشرة من التابعين يعلمون البربر الدين ولغته. فعم الاسلام البربر. ولم يقف دون قلوبهم. وقد أختارت بقايا الرومان والروم بالمغرب البقاء على المسيحية وقبول الجزية. فترك لهم العرب حريتهم الدينية. وقال غروت: "والباقون على المسيحية جبرهم عمر بن عبد العزيز سنة (719) على الاسلام أو الخروج من المغرب. فهاجر كثير منهم الى أروبا. ولكن أكثرهم أسلموا. ولم يبق بالمغرب مسيحي غير المعتصمين بشواهق الجبال. وهؤلاء بطول المدة أسلموا. وحسن اسلامهم". وظاهر ان المعتصمين بشواهق الجبال من البربر، والمهاجرين الى أروبا من غيرهم. وما يظهر منكلام غروت من ان الاسلام عم جميع أهل المغرب على عهد عمر بن عبد العزيز صحيح تؤيده أقوال مؤرخي العرب والافرنج. وما صرح به من نقض ذلك الخليفة لحكم الجزية غير صحيح: اذ لم يذكره احد من مؤرخي العرب. بل كلهم مجمعون على انه كان ذا عدل ووقوف عند احكام الشريعة الاسلامية. فلا يعقل أن يخالفها في حكم من أوضح أحكامها، فلا يقبل الجزية من مسيحي. بل انه يقبلها ويحترم أهلها. وقد سمى العرب أهل الجزية ذميين، نسبة الى الذمة التي هي عهد يستوجب مضيعة الذم. وهم معروفون قبل الاسلام وبعده بالمحافظة على العهود. والظاهر ان هجرة المسيحيين اذ ذاك انما كانت منهم اختيارا. رأوا انتشار الاسلام ورسوخه بهذا الوطن، ففروا الى حيث يأمنون على ذريتهم سريان الاسلام اليهم. كان البربر أولا يظنون ان هذا الدين آلة بيد العرب يخضعون به الامم لسلطانهم، ويفرض طاعة العرب على من سواهم. فكانوا

اذا ثاروا على العرب ثاروا سياسيا ودينيا. وفي خلفة عمر بن عبد العزيز فقهوه حق الفقه، وأدركوا أنه أداة سعادة للبشر عامة، وليس من تلازم بين العرب والاسلام. فأذعنوا له اذعانا أورثوه أعقابهم الى الابد. وصاروا اذا ثاروا على العرب ثاروا سياسيا فقط. ان ظهور الاسلام بالمغرب لاول غزو العرب له، وانتشاره من بعد، وتمكنه من قلوب البربر في أمد قليل- لشيء عجاب في تاريخ البربر. فقد رأيناهم قبل متساهلين في المعتقد لا يصعب عليهم الانتقال من وثنية لاخرى أو ديانة سماوية لغيرها. واليوم رأيناهم ثابتين على الاسلام ثبوتا لا يضعفه مرور المئات من الاعوام. يسند بيروني سرعة اقبال البربر على الاسلام الى ثلاثة أسباب: 1 - تساهل البربر في المعتقد. 2 - بساطة العقيدة الاسلامية. 3 - انتشار الفوضى الى درجة لم تبق معها فكرة قارة تعارض فكرة الاسلام. ولعل هذه الاسباب ترجع الى الاعتذار عن انهزام المسيحية أمام الاسلام. والسبب الاول حجة للاسلام حيث ان البربر المعروفين بالتساهل الديني ثبتوا على هذا الدين القرون العديدة، رغم عواصف الجهل وزوابع الفتن الكاثوليكية والبروتستانية. والسبب الثاني صحيح في نفسه. ولكن لوكان عدم اقبال البربر على المسيحية لكونها معقدة العقيدة لكانوا يفهمونها بطول المدة. فقد عاشت بينهم قريبا من سبعة قرون لا مزاحم لها. والسبب الثالث اعتراف بضعف المسيحية بهذا الوطن، وانها على طول أمدها لم توجد به فكرة قارة. أما غروت فقد علل سرعة اسلام البربر بما يرجع الى ثلاثة أشياء:

9 - الفتح العربي والحضارات القديمة

1 - تساهل البربر في المعتقد. وقد علمت أنه لا ينتج ثباتهم على الاسلام. 2 - امتياز الاسلام على غيره باشياء عددها. وقد قارب في هذا. 3 - اشتماله على حقوق فيها منافع للبربر. وهذا انما يصلح ايضا بالنظر لاسلامهم أولا. والسبب الوحيد عندي لاقبال البربر على الاسلام بسهولة قربهم من الفطرة وتعشقهم للحرية وحاجتهم الى الرقي الاجتماعي. والاسلام دين الفطرة دين الحرية الصادقة دين الرقي الشريف. 9 - الفتح العربي والحضارات القديمة حضارة أي أمة بما فيها من عقائد وعوائد وأخلاق ومعارف انما تسري لامة أخرى وتثبت فيها على نسبة سريان لغتها بين أفراد تلك الامة الاخرى وثبوتها في أجيالها، لا على نسبة سلطانها وقوتها الحربية ونفوذها السياسي. وفيما تقدم من حياة الحضارة القرطاجنية بلغتها الى الفتح العربي، وذهاب حضارة الرومان بأثر ذهاب سلطانهم لعدم انتشار لغتهم- دليل كاف على صحة نظرنا هذا. ولما جاء العرب الى المغرب كان انتشار لغتهم به مسايرا لجنودهم. فما فتحت قطعة منه حربيا الا انتشرت بها لغتهم. وكان لديوع حضارتهم بين البربر نفس السرعة التي كانت لفتوحهم. قال اغسال. " وقد انتشرت العربية بين البربر بسرعة" ولذلك قضوا أيضا بسرعة على حضارات الامم السابقة. وحلت حضارتهم من البربر مكانا لم يكن حل من قبل ولا يحل من بعد. قال اغسال: "هذا القطر الذي تقاتل عليه الشرق والغرب،

والذي ترك به كل طابعه، والذي اختلط فيه الرومان والروم ليغرسوا به المسيحية اللطينية- أصبح من هذا الحين (يعني الفتح العربي) كله شرقيا. وانقضى بذالك عصر الاتحاد اللطيني الذي كان حول البحر الابيض" (¬1). هذه الشهادة من اغسال الاختصاصي في التاريخ القديم ندفع بها في وجوه المتفيهقين المتطفلين على التاريخ الزاعمين أن الجزائر وبقية افريقية الشمالية وطن غربي لا صلة له بالشرق أصلا. وهاك شهادة أخرى من هذا المؤرخ عن علم وبحث. قال أثر ما تقدم: "البربر كانوا يثورون على العرب اما انفة من أداء الخراج واما طمعا في الاستقلال. وغرضهم اخرج العرب من وطنهم. وقد استطاعوا أن يؤسسوا دويلات أو دولا من طرابلس الى الاندلس. ومع ذلك لم يفكروا ولا يوما واحدا في رفض لغة العرب وديانتهم والرجوح الى اللغة اللطينية والدين المسيحي. فبقي مؤلفوهم في التوحيد والفقه والتاريخ يكتبون تآليفهم باللغة العربية. وملوكهم شادوا قصورهم على الفن العربي. وصارت بعض القبائل البربرية تلفق انسابا تتصل بها من العرب. ولم يبق من حضارة الرومان والبيزنطيين غير خرابات عظيمة وتذاكير للقوة الرومية". هكذا كان تأثير العرب على البربر بعيد الاثر حتى انتهى الى الانساب. ولذلك قال بيروني في وجوه تمييز العرب من البربر - وصدق فيما قال: "من انتسب الى البربر أو تكلم بلغتهم فلا شك أنه بربري. ومن انتسب الى العرب أو تكلم بلغتهم فلا يجزم بانه عربي " وهذا التأثير السريع العميق الخالد لا تجد له نظيرا في تاريخ البربر. ¬

_ (¬1) الجزائر في القديم ص143.

قال بيروني: "احتار كل المؤرخين من سرعة تأثير العرب على البربر في ديانتهم وعاداتهم واخلاقهم. ويوجه ذلك بعضهم بأن العرب والفينيقيين متقاربون في اللغة، ومتحدون في الاصل الذي ينشأ عنه تقارب في الطبائع " ومراده أن الفينيقيين أثروا في البربر. وبقي تأثيرهم ذلك الى أن جاء أخوانهم العرب فلحقوه. وهذا غير صحيح على اطلاقه. فانا مع اعترافنا بمحافظة البربر على ما أخذوه من قرطاجنة لا نعتقد أن البربر صاروا فنيقيين: ليست بينهم وبين العرب فوارق شديدة في مناحي حياتهم. فهم- وان أخذوا حظا وافرا من حياة البونيقيين- قد صبغوه بالصبغة البربرية، وابتعدوا به عن أصله". وهذا ما لا ينكره بيروني ولا غيره. واذن فان الفينيقيين ليست لهم يد فيما لان للعرب من تأثير على البربر. اللهم الا ما كان من قبل اللغة فلا ننكره بل نقول كما قال اغسال: ان بقاء الفينيقية بألسنة البربر سهل عليهم تعلم العربية. ولا نكبر هذه المساعدة أيضا: فانه لا يعقل أن تبقى البونيقية بألسنة البربر تلك القرون من غير ابتعاد عن أصلها. والوجه عندي أن العرب هم الذين كونوا أسباب الانقلاب السريع الغريب من غير مساعدة خارجية. ذلك أنهم لم يأتوا الى هذا الوطن لغرض سياسي أو تجاري أو استعماري. وانما أتوا لنشر مبدأ فيه سعادة البشر في الحياتين. وأيدوا صدقهم في قصدهم بقسطهم. فأقبل البربر على ذلك المبدا وهو الاسلام. ولم ينفروا أولا من العرب لعدلهم. ثم لما رأوا آثار الجور أخذت تبدو منهم قلبوا لهم ظهر المجن. وبقوا متمسكين بحضاراتهم وديانتهم. وهذا الوجه تجده أيضا في كل الاوطان التي كان للعرب بها سلطان. وقبل أن نختم هذا الفصل ننبه القارىء الى أن العرب لم يهدموا في فتحهم المغرب غير صروح الخرافات ومعاقل الفوضى. أما

10 - العرب والبربر بعد الفتح

ما كان للفاتحين قبلهم من أعمال العمران فلم يخربوا منه شيئا. أما أعمال الرومان فقد قال عنها بيروني: "ولم يتحد البربر والوندال الا في تخريب افريقية والقضاء على عمرانها الذي لم يبق منه الا آثار تشهد بعظمته " وأما أعمال الوندال والروم فقد قال في شأنها أيضا: "وقد ذهبت أعمال الوندال والبيزنطيين من نفسها لعدم اتقانها. ولم يكن للعرب يد في هدمها". ولم نعلم من تخريب للعرب الا ما كان من تخريب حسان لقرطاجنة. ولكن لم يخربها على ساكنيها من صبية ونساء وشيوخ. وانما خربها بعدما خرج أهلها منها لئلا يعودوا للتحصن بها. ولكن أين هذا من تخريب الرومان لها؟ وأين هذا مما يفعله الاروبيون اليوم بالامم الضعيفة؟ لم أدر كيف يغتر بعض الجزائريين بدعاية الملوثين لسمعة العرب بمثل هذه الاختلافات وهم يقرأون حقائق عن تخريب أولئك المعمرين ووحشية أولئك المحتكرين للمدنية؟ 10 - العرب والبربر بعد الفتح أصبح العرب بعد الاسلام أعظم دول العالم فتوحا. ولكنهم يمتازون عن الفاتحين سواهم ممن تقدم أو تأخر بأنهم لم يفتحوا وطنا لامتصاص خيراته ولا لسلب حرية أهله. بل كان غرضهم الوحيد نشر الاسلام الذي رأوا فيه سعادتهم. فاحبوا أن يعمموا نشره ما استطاعوا كي تعم السعادة. ولميزتهم هاته عن بقية الامم الفاتحة كان فتحهم ممتازا عن سائر الفتوحات. لما فتح العرب المغرب اختلطوا بالبربر وامتزجوا بعضهم ببعض من غير اندماج. فتصاهروا وتساكنوا في المدن والضواحي. ولم يكن للعرب تفوق على البربر في جميع الحقوق، الا ما كان من الولاية

العامة فانها كانت بأيدي العرب لخبرتهم بالشؤون الدولية. ولم تسند للبربر لعراقتهم في الفوضى وحدوث عهدهم بالنظام. ومع ذلك فان العرب قد أقروا بعض رؤساء البربر على رئاستهم. ولقد ساس العرب البربر سياسة الاخاء والحرية والمساواة حقا. فتركوا لهم أراضيهم ولم يثقلوا كاهلهم بالضرائب. حتى ان مالية ولاية المغرب كانت غير كافية، وتمدها ولاية مصر بمائة الف دينار كل عام. ولما بويع المنصور العباسي أرسل الى عبد الرحمن بن حبيب الفهري، وكان متغلبا على المغرب، يدعوه الى الطاعة. فلباه عبد الرحمن. وبعث اليه بهدية فيها بزاة وكلاب وذهب قليل. واعتذر له عن ضعف هديتة بأن المغرب اليوم بلاد اسلامية لا سبي فيها. ولعلك لم تنس ان ايطاليا كانت تأخذ من المغرب مؤونة ثمانية أشهر. فقابل بين السلطتين: الرومانية والعربية. وقد أدرك البربر فضل السلطة العربية. فأخذوا يخدمون دولتهم باخلاص. ودخلوا الجندية لاول الفتح على عهد حسان. وكانت لهم اليد الطولى في فتح الاندلس على عهد موسى بن نصير. وظلوا مغتبطين بالسياسة العربية الى أن أخذ الجور يبدو من بعض الولاة. فذكروا هواهم الدفين. وشرعوا يعملون لاستقلالهم بوطنهم وطرد النفوذ العربي منه مع المحافظة على ما أخذوه عن العرب من دين ولغة وحضارة. في سنة (102) كان الوالي على المغرب يزيد بن أبي مسلم. فأراد أن يأخذ من البربر الجزية وهم مسلمون. فبادروا بقتله لشهر من ولايته. ونصبوا مكانه أحد الولاة السابقين. قيل محمد بن يزيد، وقيل اسماعيل بن عبيد الله. وكتبوا الى الخليفة يزيد بن عبد الملك بالطاعة والعذر. فقبل عذرهم وأقر الامير الذي نصبوه.

وفي سنة (114) ولي على المغرب عبيد الله بن الحبحاب. وتوسع في الفتوحات برا وبحرا. ونصب عماله في الجهات. فكان بعضهم يجور على البربر. فثار أهل المغرب الاقصى على عاملهم بطنجة. وقتلوه من غير أن يشتكوا به الى أميره. فرأى عبيد الله بن الحبحاب ان هذا ثورة على الدولة نفسها. فأرسل اليهم الجنود. وتقاتلوا بأحواز طنجة. ثم تحاجزوا. واجتمع البربر من بعد على رئيسهم خالد بن حميد الزناتي. فأرسل اليه ابن الحبحاب الجنود بقيادة خالد ابن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الفهري. والتقى الجمعان على وادي شلف. فقتل خالد وجماعة من وجوه العرب. وانهزم الجيش العربي. وسميت الوقعة وقعة الاشراف. بلغ الخبر الخليفة هشام بن عبد الملك. فاستضعف بن الحبحاب وعزله. وأرسل الى المغرب كلثوم بن عياض القشيري. فدخله في سبعين الف مقاتلا. وكان بتلمسان حبيب بن أبي عبيدة أبو خالد المقتول مواقفا للبربر. فلحق به كلثوم. وزحف الجميع لقتال البربر. فكانت الغلبة لهم أيضا. وقتل كلثوم وحبيب. وتفرق جيثسهما أيادي سبا. ولما بلغ خبر هذه الخيبة الى هشام وجه الى المغرب حنظلة بن صفوان الكلبي. فقاتل الثوار وانتصر عليهم. وسكن المغرب أيامه، لكن سكونا موقتا. وبينما البربر يعملون لاسترداد استقلالهم اذ بالعرب يختلفون ويتقاتلون فيما بينهم على مرأى ومسمع من البربر. وابتدأ دور هذه الرواية حبيب وكلثوم. فان كلثوم لما نزل القيروان أساء الى أهلها. فشكوه الى حبيب وهو بتلمسان. فكتب اليه حبيب ينهاه ويتوعده. فأصرها في نفسه. وذهب لقتال البربر مارا بتلمسان. فابتدأ بقتال

حبيب. فتقاتلا. ثم اصطلحا واتفقا جميعا على حرب الثوار من البربر. وبعد استشهاد حبيب فر ولده عبد الرحمن الى الاندلس. وفي سنة (126) عاد عبد الرحمن بن حبيب الى المغرب. ونزل بتونس. ودعا أهالها الى طاعته. فلبوه. وبلغ ذلك حنظلة. فتعفف عن اراقة الدماء. وتحرج من تفريق الكلمة. فأرسل طائفة من وجوه الجند الى عبد الرحمن يدعونه الى الطاعة. فأوثقهم في الحديد. وذهب بهم ليفتح القيروان. وأرسل الى أوليائهم يحذرهم قتاله، ويهددهم بقتل من تحت يده ان هم حاربوه. فأشفقوا على أشرافهم وأمسكوا عن القتال. ولما رأى حنظلة عناد عبد الرحمن وعدم مبالاته بالوحدة العربية ترك له القيروان. وعاد الى المشرق سنة (127). ضبط عبد الرحمن المغرب. وقاتل ثوار البربر وانتصر عليهم. وزحف سنة (135) الى جموع من البربر بنواحي تلمسان. فظفر بهم. وغزا صقلية وسردانيا. وكتب الجزية على أهلهما. ولكن انقسام العرب ما زال يفتك بهم. فقد ثار عليه أخوه الياس بن حبيب. وقتله سنة (137) واستولى على المغرب مكانه. ونجا الى تونس ولد لعبد الرحمن اسمه حبيب. فثار على عمه. وقتله سنة (138). وكان عبد الوارث بن حبيب مظاهرا لاخيه الياس. فلما قتله- جيب طلب عمه عبد الوارث هذا. ففر منه الى ورفجومة من افخاذ نفزاوة احدى بطون لواتة. واستجار بهم. فأجاروه. وذهب حبيب لقتالهم. فهزموه. واحتلوا القيرواق. ثم قتلوه سنة (140). واستولى على القيروان عبد الملك بن أبي الحعد الورفجومي. وسار في العرب سيرة العسف والظلم. فافترقوا في النواحي. وشاع خبرهم في الآفاق. وكان بنواحي طرابلس ابو الخطاب عبد الاعلى ابن السمح من وجوه العرب. فقام على وفجومة منكرا لعسفها.

11 - ولاة المغرب من قبل الخلفاء

وانتصر عليها. وملك القيروان. واصبح المغرب خارجا عن قبضة الخليفة بالمشرق. وفي سنة (144) وجه المنصور العباسي محمد بن الاشعث الخزاعي واليا على المغرب. فقاتل ابا الخطاب. وقتله. وملك القيروان. ولكن ثورات البربر لم تنقطع. وأشدها ما كانت أيام عمر بن حفص من آل أبي صفرة. فقد ذهب هذا الوالي لادارة سور بطبنة قاعدة الزاب. فحاصره البربر بها في جموع لا تحصى. وكان من رؤسائهم أبو قرة اليفرني في أربعين ألفا، وعبد الرحمن بن رستم في خمسة عشر ألفا، والمسور بن هانيء الزناتي في عشرة آلاف، ولم يتخلص عمر بن حفص من هذا الحصار الا بالدهاء. فاستمال بعض الرؤساء بالمال. وأعمل الحيلة في تفريق كلمتهم. فانجلوا عنه. وذهب الى القيروان. فحاصره البربر بها أيضا. وقتل في مدافعتهم. توصل البربر بثوراتهم المتكررة الى اضعاف السلطة العربية. وأعانهم على ذلك- من غير قصد- آل عقبة بن نافع. واستقل البربر بجهات من المغرب. ولم يبق للعرب منه الا ما يقرب من نصفه. 11 - ولاة المغرب من قبل الخلفاء فتح العرب المغرب ثم الاندلس. فكان ما فتح من المغرب كله ولاية واحدة، والاندلس تابعة لها. وقاعدة المغرب هي القيروان. ينزل بها الولاة من قبل الخلفاء، ويولون العمال في النواحي، ينزلون مدنا معتبرة هي القواعد لتلك النواحي. وكانت طبنة هي قاعدة الزاب من الوطن الجزائري. وهي مدينة قديمة من العصر الروماني. ذكر البكري: ان لها خمسة ابواب.

قال: "وخارج المدينة بازاء باب الفتح سور مضروب على فحص فسيح، يكون مقدار ثلثي مدينة طبنة. بناه عمر بن حفص. ويشق سكك المدينة جداول الماء العذب .. وليس من القيروان الى سلجماسة مدينة أكبر منها " (¬1) وقد ذهب عمرانها من بعد. واصبحت ليس لها من قيمة ولا أهمية غير أهميتها التاريخية. وكان لها في أوائل العصر الاسلامي شأن عظيم. وتدرس بها العلوم شأن المدن الكبرى. وكان منها علماء أجلة. كان المغرب والاندلس ولاية واحدة الى أن دخل عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك الاموي الى الاندلس سنة (138) واستولى عليها. وجدد بها ملك بني أمية. وأورثها عقبة من بعده. وكانت تلك الدولة غرة في جبين تاريخ العرب. وفي سنة (140) تأسست سجلماسة. وكانت بها دولة بني مدرار. وفي سنة (144) تأسست تيهرت. وكانت بها دولة الرستميين. وفي سنة (172) دخل ادريس الاكبر المغرب الاقصى. وأسس بها دولة الادارسة. كانت هذه الدول جمعاء مستقلة عن ولاة المغرب وغير مرتبطة بدار الخلافة بالمشرق. فانحصرت ولاية المغرب بعد في الجهات الشرقية للجزائر وفي عمالة تونس وبعض تراب طرابلس. تداول عليها ولاة من طرف الخلفاء. وكانت ولايتهم غير وراثية الى أن تولى ابراهيم ابن الاغلب سنة (184). فأصبحت ولاية وراثية مستقلة استقلالا دالخيا. وهاك أسماء ولاة المغرب من لدن بداية الغزو الى حين استقلال بني الاغلب: ¬

_ (¬1) المغرب ص51.

الباب الثاني في الدولة الرستمية

الباب الثاني في الدولة الرستمية

1 - تمهيد

1 - تمهيد كان المسلمون على غاية من الاتحاد واجتماع الكلمة. يتلون من كتابا الله ويروون من أحاديث رسوله ما يقوي ميلهم الى الاتفاق ونفورهم من دواعي الشقاق. فلقد بويع أبو بكر (ض) بالخلافة. ولم يرض بيعته كثير من الصحابة. ولكنهم آثروا اجتماع الكلمة وحافظوا على الجامعة الاسلامية. فلم يعترضوا بيعته بالفعل وسلموا لحكم الجمهور. وعهد ابو بكر (ض) بالخلافة لعمر (ض) فنفذوا كذلك عهده. ثم بويع عثمان (ض) واتسعت على عهده الفتوحات. ففنيت الطبقة الاولى من المسلمين استشهادا وتشتتا في الاوطان. وخلفتها طبقة من اغمار العرب ومسلمة الفتح. وكان فيهم من تدثر بالاسلام فرارا من ذل الجزية وطلبا للانتقام من أهله بالدسائس وكان من أمر هذه الطبقة ان تداخل جمهور منها في سياسة هذا الخليفة وأسسوا جمعيات بمصر والكوفة والبصرة لبث دعاية ضده. وانتهى الامر الى حصاره ثم قتله رضي الله عنه وغضب عن قتلته. نتج عن هذا الحادث الجليل خطوب جسام لم تزل أدواؤها تفتك بالجامعة الاسلامية الى اليوم. فمن هذا الحادث حييت في العرب العصبية القومية وحلت محل العصبية الدينية، وظهرت مذاهب الخوارج والشيعة، وانقضى نظام الخلافة وحل محلها نظام الحكومات

2 - الخوارج

الوراثية. وعلى هذا النظام تأسست دولة بني أمية ثم بني العباس وهلم جرا. تأسست دولة بني أمية وكانت خطتها توسيع نطاق الممالك العربية من جهة والمحافظة على الجامعة الاسلامية من جهة أخرى. فغزت وفتحت وحاربت الثوار السياسيين والدينيين ولم تزل على ذلك حتى قضى عليها بنو العباس. فتح بنو أمية فيما فتحوا المغرب ووحدوه دينيا وسياسيا. ولكن كان بعيدا عن الشام مركز حكومتهم وأهله البربر ألفوا حياة الانقسام والفوضى منذ قرون. ولم يخف عليهم تطاحن العرب بالمشرق. وبلغهم ما به من مذاهب دينية وأحزاب سياسية. فقاموا على السلطة العربية. وسعوا في تمزيق تلك الوحدة وزادهم اقداما ما كان من تغلب آل عقبة بن نافع على المغرب واستبدادهم به وتواثبهم على امارته. وشغلت عنهم الدولة الاموية. فقضوا على ذلك التوحيد جنينا. وعمت الفوضى وطن البربر من مبتداه الى منتهاه. ولم يبق للعرب به أمر ولا نهي. ولما تم لبني العباس تأسيس دولتهم بالمشرق التفتوا الى المغرب. فجهزوا له الجيوش. وكانت حروب أسفرت عن استرجاع قسم من المغرب للدولة العباسية واستقلال قسم منه تحت رؤساء متعددين من الخوارج. 2 - الخوارج بعد مقتل عثمان (ض) كان الناس فرقا. فرقة وقفت موقف الحياد. وفرقة لم ترض خلافة علي (ض) وأخذت تطالب بدم عثمان، وفرقة بايعت عليا بعضها يرى أنه أحق بالخلافة. وأكثرها من الثوار على عثمان لم يريدوا من مبايعتهم لعلي الا الاحتماء به من العثمانيين

اذا كانوا يظنون انه يرضى عن صنيعهم ويقرب منزلتهم. ولكنهم تبينوا من بعد انه غير راض عنهم وسمعوا منه مرارا التصريح بلعن قتلة عثمان. فاوجسوا خيفة من اصطلاحه مع العثمانيين فكانوا هم السبب في وقعة الجمل سنة 36 ثم كانوا هم الحاملين لعلي على قبول التحكيم الذي دعا اليه معاوية سنة 37 وبعد امضائه على عهد التحكيم طلب اليه فريق من العراقيين نقض العهد واشهار الحرب فلم يستطع مجاراتهم في هذا التلاعب. فانعزلوا عنه. وأعلنوا بالخروج عن طاعته. وغادروا الكوفة الى النهروان. فارسل اليهم عبد الله ابن العباس ليستصلحهم بالحجة والمفاهمة. ثم لحق هو نفسه. ونتج عن هذه السياسة الحكيمة ان عاد فريق منهم الى الطاعة وأصر آخرون على الخلاف. فأعرض عنهم. حتى بلغه انهم قتلوا صحابيا وزوجه. فارسل اليهم بالكف عن الفساد. فقتلوا الرسول. وهنالك توجه اليهم بجيوشه وخاطبهم خطابا بين لهم فيه صوابه وخطأهم. فلم ينفعهم خطابه. وكانت الحرب. فأتى القتل على أهل النهروان. ولم ينج منهم الا قليل تفرقوا في الجهات. هؤلاء هم المسمون بالخوارج لخروجهم عن الامام علي. واصل معنى الخوارج الطوائف الخارجة عن طاعة امامها. وخصه المتكلمون والمؤرخون بالخارجين عن علي ومن والاهم ورضي سيرتهم. فصار علما لاصحاب فكرة خاصة. وليس مرادا به مدح او قدح اذ لا يعقل ذم طائفة- ايا كانت- لعملها بمبدأ استصوبته. وانما ينظر في مبدأها وما فيه من مقبول أو مردود. كان شعار الخوارج في الثورة على علي "لا حكم الا لله" وهو شعار لا خلاف في مدلوله الحقيقي بين المسلمين. وأصله قوله تعالى "ان الحكم الا لله". وانما انفرد الخوارج بهذا الشعار لكونهم

انه حكم الرجال بدين الله. وعلي أجل من ان تعلق به هذه الوصمة. وهم يلقبون أنفسهم الشراة جمع شار بمعنى بائع. يريدون انهم باعوا أنفسهم في سبيل الله أخذا من قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ}. لم تمت فكرة الخوارج بالنهروان شان الافكار لا تبلى بلاء الاجسام ولا يقضي عليها سنان ولا حسام. بل ظهرت من بعد. وكانت لاهلها مع خصومهم حروب شهيرة ومعارك مذكورة مع الامويين والعباسيين. وكان الخوارج على رأي واحد لا يختلفون الا في اليسير من الفروع حتى جاء أحد موالي بني هاشم الى نافع بن الازرق فقال له: ان من خالفنا مشركون وأطفالهم في النار وقتلهم جائز، بدليل قوله تعالى: {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} فاخذ نافع بقوله. وجعل يبدي آراء في تكفير المسلمين مشطة. فانكر عليه نجدة بن عامر في طائفة معه. وكانوا بالاهواز. فارتحل نجدة باتباعه الى اليمامة. ووقعت بينه وبين نافع مراسلات ومناظرات لم تزد عود الخلاف الا صلابة. وكان بالبصرة أبو بيهس هيصم بن جابر الضبعي وعبد الله ابن اباض (بفتح الهمزة وكسرها) المري في جمع من الخوارج. فكاتبهم نافع يدعوهم الى قتال المخالفين. فقال هيصم لابن اباض: "ان نافعا غلا فكفر". وانك قصرت فكفرت اذ زعمت ان من خالفنا غير مشرك وانما هم كفار النعم. وان مناكحهم ومواريثهم والاقامة فيهم حل طلق. قال المبرد في كامله: "والصفرية والنجدية في ذلك الوقت يقولون بقول ابن اباض". ومن تلك المقالات افترق الخوارج الى مذاهب اشهرها: الازارقة أصحاب نافع بن الازرق. يقولون بالبراءة والاستعراض

3 - الخوارج بالمغرب

وقتل الاطفال واستحلال الامانة. والنجدية أصحاب نجدة بن عامر المنكر على نافع تلك الآراء. والصفرية قال المبرد: "قال قوم سموا صفرية لانهم أصحاب ابن صفار. وقال قوم انما سموا بصفرة علتهم". والاباضية أصحاب عبد الله بن اباض. قال ابن خلدون: "والصفرية موافقون للاباضية الا في القعدة فان الاباضية أشد على القعدة منهم" وهم وان اختلفوا في معاملة من خالفهم- متفقون على ان أعداءهم كاعداء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! قال المبرد: وقول ابن اباض أقرب الاقاويل الى السنة من أقاويل الضلال، يريد الخوارج. هذا ما أردنا أن نقتصر عليه من حديث الخوارج الطويل العريض. وغرضنا أن يتصور القارىء بوجه اجمالي نشأتهم وقوتهم وأصولا من آرائهم. وقد شهد الكتاب للاباضية بانهم أعدل الخوارخ. 3 - الخوارج بالمغرب في خلافة هشام بن عبد الملك وولاية عبيد الله بن الحبحاب ظهرت أول فتنة بالمغرب. فاجتمعت جموعهم برئاسة ميسرة المطغري. وقصدوا طنجة ففتحوها وقتلوا عاملها. وذلك سنة 122 وبايعوا ميسرة بالخلافة. ثم قتل البربر خليفتهم ميسرة. وولوا مكانه خالد بن حميد الزناتي. وتوالت عدة وقائع بين الخوارج وولاة القيروان. انتصر في جميعها البربر. فازدادوا على الولاة جراءة. وازدادت الخارجية انتشارا. ظهرت الخارجية أولا حوالي طنجة البعيدة عن القيروان في حال غيبة الجيش العربي بصقلية تحت رئاسة حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع. وأخذت تنتشر في القبائل حتى بلغت طرابلس. وأصبح

المغرب أجمع بيد أهله البربر الذين لم يتمرنوا بعد على النظام. فاضطربت الاحوال. عرف البربر من مذاهب الخارجية الصفرية والاباضية. وكانت الاولى منتشرة في الجهات الغربية والثانية غالبة على النواحي الشرقية. وكان أظهر القبائل في الاخذ بالخارجية والدفاع ءنها زناته وهواره في قبائل دونها كثرة وغناء. وكان موطن الخارجية الصحراء والهضاب. وابتعدت كلما شرقت عن السواحل الجزائرية. فلم تدخل موطن كتامة ودخلت أطراف صنهاجة ولم تطل فيهم. ولما تغلب آل عقبة على المغرب ووليه منهم حبيب بن عبد الرحمن ابن حبيب بن أبي عبيدة ازداد حبل الامن بالمغرب اضطرابا. فان عبد الوارث بن حبيب ثار على ابن أخيه ولحق بورفجومة. ونزل على أميرهم عاصم بن جميل بأوراس. وكان كاهنا. فأجاره واجتمعت اليه نفزاوة. وكان من رجالاتهم عبد الملك بن أبي الجعد ويزيد بن سكوم وكانوا على رأي الاباضية. وخرج حبيب من القيروان لقتالهم. فهزموه الى قابس. واستولوا على القيروان واستهانوا مساجدها. ثم أخرجوا حبيبا عن قابس فلحق باوراس. وأجاره أهله. وجاء عاصم لقتالهم. فهزموه. ثم قام بأمر ورفجومة والقيروان من بعد عاصم عبد الملك بن أبي الجعد. فقاتل حبيبا حتى قتله. واستولى على القيروان سنة 140 وقتل من بها من العرب وربط الدواب بالمسجد. وكان ابو الخطاب بن السمح الاباضي بطرابلس بين بربرها من هوارة وزناتة. فبلغته مناكر ورفجومة. فقام منكرا عليها. وقصد القيروان بجموعه. فقاتل ورفجومة ونفزاوة. وقتل عبد الملك. ثم بلغه أن المنصور العباسي جهز جيشا لحرب خوارج المغرب. فعاد الى طرابلس لقطع مدد الخليفة عن افريقية. وترك بالقيروان عبد

الرحمن ابن رستم. ولكن لم تزل افريقية في اضطراب حتى قدم محمد ابن الاشعث الخزاعي سنة 144. ثم انتقضت مغيلة ويفرن بنواحي تلمسان. وقدموا على أنفسهم أباقرة اليفريني وقيل المغيلي. وبايعوه بالخلافة سنة 148 وزحف اليه عامل طبنة الاغلب بن سالم. ففر امامه، ثم زحف الخوارج اباضية وصفرية لحصار عمر بن حفص الملقب هزارمرد بطبنة. وفيهم ابو قرة في أربعين الفا من الصفرية. وعبد الرحمن بن رستم قال ابن خلدون في موضع: في خمسة عشر الفا، وفي آخر ستة آلاف. والمسمور بن هانيء الزناتي في عشرة آلاف من الاباضية. وجرير بن مسمود المديوني في جمع من قومه. وعبد الملك الصنهاجي في الفين من الصفرية. ولم يكن لعمر قبل بهذه الجموع. فبذل لاصحاب أبي قرة مالا فانصرفوا. واضطر ابو قرة للحاق بهم. ونجا عمر بدهائه من هذا الحصار. وفي أيام عصر بطبنة وغيبته عن القيروان قدم ابو حاتم يعقوب بن حبيب المغيلي لحصار القيروان. وقد بايعته اباضية طرابلس بالخلافة فخرج عمر من حصار الى حصار. وأنجده المنصور بيزيد بن حاتم المهلبي. ولكن قتل قبل وصول يزيد آخر سنة 154. وتوجه ابو حاتم للقاء يزيد بطرابلس. فقتل هنالك يوم 27 ربيع الاول سنة 155 (7 مارس 772 م). وفي سنة 57 ثارت ورفجومة. فحاربها يزيد بن حاتم. وانتصر عليها. ثم في سنة 161 ثارث نفزاوة وهي اباضية. وأميرها صالح ابن نصير. فسرح اليهم داود بن يزيد عشرة آلاف من جنده. فهزموهم. هذا وحروب الخوارج بالمغرب كثيرة. وذكروا انها بلغت منذ حصار طبنة خمسا وسبعين وثلاثمائة حرب. وذلك يوضح قوة

الخارجية المغرب وسعة انتشارها وعدم استسلامها وصعوبة قيادها. وليس منشأ تلك الحروب اختلاف العقيدة بل منشؤها ما كان عليه البربر من خلق الفوضى وكراهية السلطة المحلية كيفما كان عدلها فليست حروبهم دينية بل ولا سياسية. اما كونها غير سياسية فان البربر لم ينظموا صفوفهم ويوحدوا جهودهم ضد السلطة العربية ليكونوا دولة بربرية. فهم يحاربون العرب من جهة ويحارب بعضهم بعضا من جهة اخرى. وغايتهم الرجوح لما ألفوه من الفوضى. واما كونها غير دينية فذلك ان التاريخ الاسلامي لم يحو بين دفتيه ان المسلمين رفعوا سيوفهم لالزام مخالفيهم بعقيدتهم اذ العقيدة سبيلها البرهان. وايضا فقد كانت الدولة الاباضية بتيهرت تجمع طوائف مختلفي العقيدة من صفرية وسنية ومعتزلة. ولم تجبرهم الحكومة على عقيدتها. وايضا الخارجية الممتدة في المغرب بكل سرعة لا يعقل ان البربر تمسكوا بها في تلك الحصة من الزمان عن فهم لمبادئها وادراك لاصولها وايمان بصحتها وفساد غيرها. وانما الذي فهموه منها وعقلوه عنها هو الثورة على السلطة المحلية لا لكونها عربية او غير عربية. هذا الذي أدركوه سريعا وهو ما كانوا عليه قديما. فقد نصروا قبل مذهب دونتوس المسيحي لكونه ثائرا على حكومة الرومان. يوضح لك كون البربر لم يكونوا خوارج عن علم كخوارج العرب ما أتته ورفجومة من العبث بمسجد القيروان وسكانها حتى غير منكرهم ابو الخطاب الخارجي العربي. وذكر اليعقوبي في كتاب البلدان برقة وأهلها الذين منهم مزاته. فقال: "ومزاتة كلها أباضية على انهم لا يفقهون ولا لهم دين " هذا في القرن الثالث عصر اليعقوبي. ولكون الخارجية البربرية عبارة عن ثورة فوضوية فارق أكثر البربر الخارجية في كل جهة استتب بها النظام وثبتت بها قدم دولة غير خارجية. فقد انقطعت الخارجية أو كادت

4 - الامارات الاباضية

من المملكة الاغلبية شرقا والادريسية غربا. وبقيت بالمملكة الرستمية الاباضية حتى قضى عليها الشيعة. نعم بقيت الخارجية في الجهات الجنوبية كورقلة ومزاب متحصنة بعطش الصحراء وسمائها بعيدة عن نفوذ أغلب الدول الشمالية فحافظت على عقائدها وعوائدها غير متأثرة بالانقلابات السياسية. 4 - الامارات الاباضية خمدت الصفرية بالجزائر، فلم يكن لها شأن يذكر بعد حصار طبنة. وبقيت الاباضية في أفخاذ وبطون من قبائل لماية ولواتة وزجالة ونفزاوة وهوارة ومزاتة وزواغة ومطماطة ومكناسة ويفرن ومغراوة وبني سنجاس وبني برزال وبني دمر. ولم يتحد الاباضيون من هذه القبائل تحت امرة واحدة. بل كان منهم الخاضعون للاغالبة أو للادارسة واخوانهم بني سليمان، ومنهم المستقلون تحت امارات متعددة. واشتهر من اماراتهم امارة بني رستم بتاهرت. وافادنا اليعقوبي من أهل القرن الثالث بثلاث امارات سواها وهي: 1 - امارة بني دمر هم قوم من زناتة في بلاد واسعة ذات زرع ومواش. موقعها على مرحلة غربي هاز. ويليها في الشمال المغربي سوق كرام. قال اليعقوبي في كتاب البلدان: "ورئيسهم يقال له مصادف بن جرتيل. بين حصنه وبلد متيجة مسير ثلاثة أيام مما يلي البحر". وذكر البكري في الطريق من تاهرت الى المسيلة حصن تامغيلت. فقال: "هو على مرحلتين من تاهرت. مبني بالطوب على نهر. له ربض وسوق. يسكنه بنو دمر من زناتة. الى ايزمامة، حصن له سوق. وفيه فنادق تسكنه لواتة ونفزاوة. الى مدينة هاز".

وسوق كرام منهم من يحذف ميمها أو يبدلها نونا. قال البكري: "وهي على نهر شلف " وموقعها على مرحلة شرقي مليانة. ومنها الى اشير ثلاث مراحل .. ولها سوق يوم الجمعة يقصده بشر كثير. قال اليعقوبي: "وليس أهله بشراة. ولكنهم جماعية .. بلدهم بلد زرع". أهو يظهر ان هذ، الامارة بنواحي قصر البخاري. 2 - امارة هوارة قال اليعقوبي: "ومن تيهرت وما يحوزه عمل ابن افلح الرستمي الى مملكة رجل من هوارة. يقال له ابن مسالة الاباضي الا أنه مخالف لابن افلح يحاربه. ومدينته التي يسكنها يقال لها الجبل. الى مدينة يلل، تقرب من البحر المالح، مسيرة نصف يوم. ولها مزارع وقرى وعمارات وزرع وأشجار. ثم من مملكة ابن مسالة الى مملكة لبني محمد بن سليمان". وذكر البكري قلعة هوارة فقال: "وبغربي مستغانم على نحو ثلاثة أميال مدينة تامزغران. وهي مسورة لها مسجد جامع. وعلى مقربة منها قلعة هوارة. ويسمونها تاسقدالت. وهي في جبل. لها ثمار ومزارع. وتحت هذه القلعة يجري نهر سيرات. وهو النهر الذي يسق به فحص سيرات". وفحص سيرات هو سهل سيق. ولا يصح ان تكون هذه القلعة هي مدينة الجبل لانها غربي يلل. ومدينة الجبل شرقيها. فتكون قريبة من غليزان. نعم تكون قلعة هوارة من جملة هذه الامارة. والظاهر ان الجبل هي قلعة مغيلة دلول. فان البكري لما ذكر الغزة- وهي غليزان- فال: "وبقربها على البحر قلعة مغيلة

5 - تأسيس الدولة الرستمية

دلول. وهي في أعلى جبل منيف هناك شديدة الحصانة. بينها وبين البحر خمسة فراسخ. وبها عين ماء تسمى عين كردي. وبين قلعة دلول هذه ومدينة مستغانم مسيرة يومين". ومن هذا يظهر ان هذه الامارة واقعة جنوب اسافل شلف حوالي نهر مينة بين سهلي منداس شرقا وسيق غربا. 3 - امارة بني مسرة مدينتها تدعى أوزكي على ثلاث مراحل من تيهرت في الجنوب الغربي. ومنها الى سجلماسة نحو سبع مراحل. قال اليعقوبي: "والغالب عليها فخذ من زناتة يقال لهم بنو مسرة. رئيسهم عبد الرحمن بن أودموت بن سنان. وصار البلد بعده لولده. فانتقل ابن له يقال له زيد الى موضع يقال له ثاربينة. فولده به". والظاهر ان هذه الامارة كانت ناحية سعيدة. هذا ما علمنا من حديث الامارات الاباضية وغالب الظن ان هناك امارات أخرى جهلناها. فان البربر يومئذ انما يألفون سيادة العشيرة. ويأنفون من الخضوع لرئيس من قبيلة أخرى. ولم تقم بالمغرب الاوسط دولة قوية تحملهم على الانضواء تحت لواء حكومة مركزية. نعم كانت الدولة الرستمية تحاول ذلك ولكن لم تستطع تحقيق هذا الحلم. 5 - تأسيس الدولة الرستمية استولى ابو الخطاب على القيروان. فعزم ابو جعفر المنصور على افتكاكها منه. فولى محمد بن الاشعث مصر والمغرب وأمره بحرب البربر. فجهز ابن الاشعت جيشا بقيادة ابي الاحوص عمرو ابن الاحوص العجلي. وبلغ أبا الخطاب. قدوم ابي الاحوص الى افريقية. فترك بالقيروان عبد الرحمن بن رستم واليا وذهب هو

الى طرابلس كي يعترض جيش ابي الاحوص وذلك سنة 41 ولما نشبت الحرب انهزم ابو الاحوص سنة 42 فخرج ابن الاشعث نفسه من مصر يقود الجيوش. وبلغ خبره ابا الخطاب. فارسل الى ابن رستم بتجهيز الجيوش. واللحاق به. ولكن ابن الاشعث بلغ طرابلس قبل مدد عبد الرحمن. فدارت الحرب وأشتد القتال وانجلى عن قتل ابي الخطاب في صفر سنة 44. ولما كان عبد الرحمن بقابس بلغته وفاة ابي الخطاب. ففت ذلك في عضد جيشه. وتفرق عنه. وثارت قابس بعاملها، فكر عبد الرحمن الى القيروان في فالفاها ثائرة عليه أيضا، فاحتمل أهله وولده وتوجه الى المغرب الاوسط، ونزل على لماية من قبائله، وكانت قبائل غيرها أباضية أيضا، ولكنه اطمأن الى لماية لقديم حلف بينه وبينهم، فان النزعة المذهبية وحدها لا تكفي، وقد شاهد قبل عدم ثبات الاباضيين معه. نزل عبد الرحمن جبل سوفجج. ولا نعرف جبلا بهذا الاسم. ولكن لا بد ان يكون بنواحي تيهرت حيت لماية، وذاع خبر نزوله بهذا الجبل فقصده ابن الاشعث في جيش عظيم، ونزل بسفحه وخندق على معسكره، وحاصر الجبل زمنا فامتنع عليه، ولما طال مقامه استشار اركان حربه، فبعضهم اشار بالمقام حتى يفتح الجبل وبعضهم اشار بالاقلاع والعود الى القيروان، فاقلع عن الحصار لما رأى من مناعة الجبل واختلاف كلمة أصحابه. وبقي عبد الرحمن في الجبل وقصده الاباضية هناك من كل مكان حتى جبل نفوسة بطرابلس، ولما كثر جمعه خرج من حصن الجبال الى حصن الرجال، وفكر هو واصحابه في تأسيس مدينه تكون رمزا لاستقلالهم وحصنا يمتنعون به على من ناواهم، فأنشأوا

6 - المملكة الرستمية

مدينة تيهرت سنة 144 وبذلك تأسست الدولة الرستمية وحافظت على استقلالها زمنا طويلا، ولم يكن اباضيتها كغالب الخوارج همهم الثورة بل كانوا كخوارج العرب همهم تنظيم دولة على مباديهم. ومن ههنا يظهر ان تأسيس الدولة الرستمية بعد جواز عبد الرحمن ابن معاوية الى الاندلس، وقال المقري في نفح الطيب عن ابن عبد الحكم ان عبد الرحمن الداخل لما فر من بني العباس ودخل المغرب الاوسط استجار بني رستم ملوك تيهرت وتقلب في قبائل البربر حتى استقر بساحل البحر عند قوم من زناتة، وهي رواية مشكلة لان عبد الرحمن دخل الاندلس سنة 38 قبل تأسبس تيهرت بست سنوات، الا أن يكون لعبد الرحمن بن رستم نفوذ ديني في بعض قبائل المغرب الاوسط، فقد ذكر ابن خلدون وغيره ان حلفه مع لماية قديم، فاستجار به عبد الرحمن الداخل لذلك، وعلى ان يكون ابن عبد الحكيم تجوز في قوله ملوك تاهرت يريد الذين صاروا ملوكها من بعد. ويرشح صحة رواية ابن عبد الحكم على ذلك التجوز انه كان بين رستمي تيهرت وامويي الاندلس علاقات حسنة. هكذا تأسست دولة الرستميين اسلامية في قضائها عربية في معارفها بربرية في عصبيتها فارسية في ادارتها. وما جمع بين هذه الاجناس غير الرابطة الدينية. فلتحي الرابطة الاسلامية! 6 - المملكة الرستمية المملكة الرستمية واقعة بين مملكة الاغالبة شرقا والادارسة غربا، وتمتد شمالها ممالك صغيرة للعلويين من اخوان الادارسة، وينفسح لها المجال جنوبا الى ورقلة، ويمتد منها شريط على وادي ريغ الى الجريد وجبال دمر الى طرابلس وجبال نفوسة.

وقد عنيت بالبحث عن تعيين حدود هذه المملكة بالجزائر فلم أظفر برواية شافية، وقد ذكر ابن الصغير في كتابه اخبار الايمة الرستميين ان عبد الوهاب ثاني ايمتهم " دان له ما لم يدن لغيره حتى انه حاصر مدينة طرابلس وملك المغرب بأسره الى مدينة يقال لها تلمسان، وأجمعت عليه كلمة الناس الى أن حدثت الفرقة بتداخل العامة في شؤون الملك وطلبها عزل قاضي تيهرت وصاحب بيت المال وصاحب الشرطة، فلم يجبها عبد الوهاب، وحدثت الفتنة". وهذه الرواية على اجمالها تفيد ان امتداد المملكة الى ناحية تلمسان انما كان أيام عظمة عبد الوهاب قبل حدوث الفتنة، ونقل الباروني عن أبي عبد الله الينا الذي ألف كتابه سنة 375 نسبة مدن كثيرة الى تيهرت، وبنى على هذه الرواية قوله: "كل المدن والقرى الواقعة بين الزاب وفاس وسحلماسة داخلة في مملكة تيهرت". وهذا بناء على غير اساس، أما أولا فان البنا لم يذكر أن تلك المدن تبعت تيهرت ايام الرستميين، وقد ذكر منها وهران التي أسست سنة 290 وأفكان التي أسست سنة 338 واما ثانيا فان اضافة تلك المدن الى تيهرت انما هي لكونها اشهر مدن الاقليم يومئذ فهي اضافة جغراقية لا سياسيه، وقد ذكر من الامصار برقة واضاف اليها مدنا لشهرتها بذلك الاقليم ليس الا، واما ثالثا فان أكثر تلك المدن كان تابعا للعلويين أو الاغالبة كما يأتي في البابين الثالث والرابع، وتقدم ذكر ما كان منها تابعا للامارات الاباضية غير الرستمية، ولكن يظهر أن من تلك الامارات ما انفصل عن تيهرت بعد الثورة على عبد الوهاب. ويمكننا ان نحد الجزائر الرستمية بعد انفصال تلك الامارات عنها بتلول منداس شمالا الى قرب غليزان. ويذهب الخط جنوبا من هناك

الى فرندة وينعطف شرقي جبل العمور لان أهله يومئذ بنو راشد وهم غير اباضية وأولو قوة. ومن هنالك يذهب الى وطن ميزاب الى ورقلة. هذا في الجهة الغربية. ومن الجهة الشرقية يذهب الخط الى تيسمسيل والسرسو ويتصاعد الى ثنية الاحد. ويذهب مثسرقا الى قصر البخاري وأعالي وادي شلف. ويذهب جنوبا شرقي الاغواط الى تقرت ووادي ريغ. ويظهر ان هوارة أوراس خارج هذا الخط كانت خاضعة لتيهرت للعصبية المذهبية. هذا ما هدانا اليه البحث وطول التروي واجالة النظر في طبائع السكان ومذاهبهم وقوتهم يومئذ. ولا يعرف ما في ذلك من عناء الامن خاض أمثال هذه المواضيع. وخانته الرواية. وحمله دينه على الامانة. وكلفته عنايته بالقارىء الايضاح. وبعد فاننا نجهل مبلغ النفوذ السياسي للرستميين في هذه المملكة. ويظهر من حديث ابن الصغير عن أسباب حدوث الخلاف على عبد الوهاب ووقوع تلك الفتنة ان نفوذهم ذلك لا يعدو تيهرت. وهاك ملخص كلامه. قال: "كانت قبائل مزاتة وصدراته وغيرهم ينتجعون في فصل الربيع احواز تيهرت. فيدخل رؤساؤهم المدينة وينزلون على اخوانهم بها. فيبرون ويكرمون. ثم يخرجون الى نعمهم فيقيمون معها الى ظعنهم. وفي سنة الفرقة اجتمع من المنتجعين عدد كثير لم يجتمع قبل. فلما دخلوا المدينة وخلا وجوه كل قبيلة من سكانها باخوانهم النازلين عليهم شكوا اليهم جور القاضي وخيانة صاحب بيت المال وفسق صاحب الشرطة. وطلبوا منهم ابلاغ ذلك الى الامام عبد الوهاب. ففعلوا. وسألوه عزلهم وتولية من هو خير منهم. فأبى ذلك حاشية الامام. وكانت الفتنة".

7 - الحكومة الرستمية

وهذا يشعر بأن أولئك المنتجعين ليس عليهم من قبل الامام قاض ولا وال. والا كانوا يسألون عزل ولاتهم قبل أن يسألوا ذلك لاخوانهم أهل تيهرت. على أن نفوذ الرستميين بتاهرت كانوا مزاحمين فيه. فقد يخرجون منها ويتغلب غليها مزاحموهم. 7 - الحكومة الرستمية الدولة الرستمية مستقلة استقلالا تاما. وحكومتها كسائر الحكومات الاسلامية مقيدة بالكتاب والسنة وأثر السلف. فهي دستورية انما دستورها الهي تقبله العقول وتذعن له القلوب. فهي في غنى عن مجلس تشريعي. انما حاجتها لرجال الدين. والسلطة التنفيذية للرئيس وأعوانه. والقضائية مستقلة تماما. والرئيس الاعلى يعين بالانتخاب لمدة حياته أو بالعهد اليه من سلفه. ويلقب الامام والخليفة وأمير المؤمنين. ولا يدعى هذه الالقاب من رؤساء الدول الصغرى غير الخوارج. وللامام مستشارون كالوزراء في الدول الكبرى وحفظة لبيت المال ومحتسبون ورجال شرطة. وظيفة المحتسبين الرفق بالحيوان وقمع الغش والمحافظة على النظافة. فيؤدبون الغاش ويخففون حمل الدواب ويأمرون بازالة القاذورات. والشرطيون يطوفون بدروب المدينة وانهجها لحفط الامن وتغيير المنكر. ولما اضعفت الفتن الدولة كثر الفجار وشربة الخمور. فلما كانت امامة ابي حاتم ولى الشرطة رجلين اشتدا في تغيير المنكر. فكسرت خوابي الخمر وشردت الغلمان واخدانهم في الجبال. وكان للقاضي دار وسجل وخاتم. وولي القضاء على عهد أفلح محكم الهواري من أهل أوراس. فتنازع ابو العباس أخو أفلح

وصهر له على أرض. وترافعا الى أفلح فردهما الى القاضي. فسبق أبو العباس. وجلس حذاء القاضي واستسقى جاريته. وبصر الخصم بمنزلة أبي العباس. فجلس خارج الباب. فلما رآه القاضي سأله عن موقفه. فأخبره الخبر. فغضب من هذا التحيل. ووبخ أبا العباس. واستدنى الخصم وسقاه ماء اظهارا للمساواة. وهذا أصل القضاء الاسلامي اذ يوجب التسوية بين الخصوم. ولنفوسه المنزلة السامية. فهم الذين يعينون الائمة فمن دونهم. ويشاركهم زعماء القبائل في النظر في الامور العامة. يجمعهم الامام بالمسجد اثر الصلاة. وللحكومة جند من العرب والعجم. وجل الاعتماد على القبائل الموالية لها. وكان للماية وحدهم ثلاثون الف فارس. والمالية تجمع من الزكوات والجزية وخراج الارضين. قال ابن الصغير متحدثا عن الجباة ومصارف مال الجباية: "يخرج أهل الصدقات أوان الطعام. ويأتون أهل النعم. فيقبضون الواجب لا يظلمون ولا يظلمون. فالطعام يدفع للفقراء. والشاة والبعير تباع. ويدفع منها عطاء العمال. وما بقي يوزع على الفقراء. فيحصون من في البلد منهم ومن حولها. ويحصى ما في الاهراء من الطعام. ويشترى من باقي مال الصدقة اكسية صوف وجباب وفراء وزيت. ويدفع لاهل كل بيت بقدر ذلك. ويؤثر بأكثر ذلك الاباضيون. وما اجتمع من الجزية والخراج وما أشبه ذلك يقطع منه الامام لنفسه وحشمه وقضاته وأهل شرطته والقائمين بأموره ما يكفيهم في سنتهم. وما فضل صرف في مصالح المسلمين". وهكذا ترى أن مالية الدولة على ضيق مواردها يرد أكثرها على فقراء الامة لبساطة النظام وانحصار المملكة في تيهرت وما حولها.

وكان بنو رستم يرومون التوسع شرقا ليرتبطوا ببني جنسهم وأهل مذهبهم. ولكن امامهم دولة بني العباس القوية التي تود سحقهم لولا ان وجودهم لازم لحفظ الموازنة بين دول المغرب. فبنو امية والادارسة يرونهم حاجزا بينهم وبين الاغالبة. والاغالبة عرفوا صعوبة مراس البربر. فضنوا بسلطانهم عن ان يضيعوه في حربهم ارضاء لبني العباس. وبنو العباس ليس لهم بد من ابقائهم سدا في وجوه تلك الدول. وعلاقة الرستميين مع دولة ماكناسة بسجلماسة حسنة لرابطة الخارجية وتقارب الاباضية والصفرية. وعلاقتهم كذلك مع بني أمية امراء الاندلس. قال البلاذري في كتابه فتوح البلدان: " وكان محمد بن الاغلب بن ابراهيم بن الاغلب احدث سنة 239 مدينة بقرب تاهرت سماها العباسية. فأخربها أفلح بن عبد الوهاب الاباضي. وكتب الى الاموي صاحب الاندلس يعلمه ذلك تقربا اليه به. فبعث اليه الاموي مائة ألف درهم". وعلاقتهم مع أمراء القيروان تختلف سلما وحربا. ولم نعلم لهم حربا مع الاغالبة بالجزائر. وقبلهم عقدوا سلما مع روح بن حاتم. قال ابن الخطيب في كتاب الاعلام: "وملىء البربر من روح رعبا. ورغب الاباضيون منهم في موادعته". وفي ابن خلدون ان موادعة روح كانت لعبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم سنة 171 ذكر ذلك في موضعين وحرفهما النساخ بما يجعل بينهما اختلافا. واشتبك الرستميون بالبربر بعدة مصاهرات. فكانت أم عبد الوهاب يفرنية وزوجه لواتية. وهذه سياسة رشيدة. خالفها أفلح ابن عبد الوهالة. فانه خشي من قوة القبائل المجاورة لتيهرت. فعمد الى سياسة التفريق. وبث الجواسيس والمفسذين بين الرئيس

8 - الايمة الرستميون

ومرؤوسه والقبيلة وحليفتها. فاختلفت الآراء. وانحلت الروابط. وانطوت الصدور على الضغائن. واستحكمت النفرة بين القبائل. وظن أفلح أنه أفلح في سياسته. ولكنه ترك لمن بعده تراثا سيئا. فان سيادة تبنى على الدسائس لا بد ان ينهار صرحها لاول ضعف يبدو في الدولة. وهذا ما وقع بعد أفلح. فقد كانت أيامه خاتمة شباب الدولة وسياسته علة ضعفها. 8 - الايمة الرستميون مبدأ الخوارج أن الامامة لا تنحصر في أسرة معينة. ولكن امامة تيهرت انحصرت في بني رستم. ولعل سبب ذلك المنافسة البربرية والسياسة الرستمية. فان منافسة البربر بعضهم لبعض أشد من منافستهم لاجنبي عنهم. فلو انتقلت الامامة الى قبيلة منهم لرامت الاستئثار بها ونازعتها بقية القبائل. والرستميون كانوا يقربون اليهم النقوسيين الاجانب مثلهم من المملكة ثقة بعدم مزاحمتهم لهم لفقد عصبيتهم. - عبد الرحمن بن رستم 144 - 68 هـ 761 - 84 م لا خلاف أنه فارسي. ونسب البكري رستما الى بهرام بن ذو شرار بن سابور بن بابكان بن سابور ذي الاكتاف الملك الفارسي. فيكون عبد الرحمن من سلالة الملك. وجعله ابن خلدون من ولد رستم امير الفرس يوم القادسية. وهو ليس من بيت الملك بل هو أرمني. بويع عبد الرحمن أولا بالامارة ثم بالامامة سنة 60 بمد وفاة امامهم أي حاتم، وقدموه لانه لا قبيلة له تحميه اذا جار. وكان عالما زاهدا متواضعا. يجلس في المسجد للارملة والضعيف. قال ابن

الصغير: "وسيرته واحدة وقضاته مختارة وبيوت أمواله ممتلئة واصحاب شرطته والطائفون به قائمون بما يجب". - عبد الوهاب 168 - 88 هـ 784 - 803 م بويع بعد وفاة أبيه. وكان مرشحا للامامة في حياته. واختلفت عليه الكلمة، فاسكت الخصوم بالحرب والسياسة. قال ابن الصغير: "وكان عبد الوهاب ملكا ضخما وسلطانا قاهرا. اجتمع له من أمر الاباضية وغيرهم ما لم يجتمع لاباضي قبله. ودان له منهم ما لم يدن لغيره. واجتمع له من الجيوش والحفدة ما لم يجتمع لاحد قبله". - افلح بن عبد الوهاب 188 - 238 هـ 803 - 52 م كان مرشحا للامامة حياة والده. فبويع بها بعد وفاته. وكان داهية استطاع استطاع ان يحافظ على هناء تيهرت مدة امامته. قال ابن الصغير: "وعمر في امارته ما لم يعمره أحد ممن كان قبله. أقام خمسين عاما أميرا حتى نشأ له البنون وبنو البنين وشمخ في ملكه". ولم يذكر ابن الصغير سنة وفاته. وتقدم عن البلاذري أنه أخرب العباسية سنة 39 ولكن ابن خلدون يقول أنه أخربها سنة 27 فيحتمل أن أفلح توفي لتمام خمسين سنة من امارته وانه عاش بعدها قليلا. - ابو بكر بن أفلح بايعته نفوسة ولم يرضه بعض أهل المدينة. وكان ميالا الى الراحة مولعا بالادب تاركا الامر لاخيه أبي اليقظان وصهره محمد بن عرفة وهو رجل من وجهاء المدينة. فنفس عليه حاشية الامام تلك المنزلة. وسعوا في اغتياله. فقتله غيلة. وفتحت عليه فتنة أخرجته

من تيهرت. واستولى عليها محمد بن مسالمة الهواريبي، قال الباروني: "والظاهر أن مدته لم تبلغ سنتين". - أبو اليقظان محمد بن أفلح 241 - 81 هـ 855 - 94 م حج أيام والده، وتقبض عليه العباسيون، فسجنه الواثق مع أخيه المتوكل، فلما توفي الواثق وخرج المتوكل من السجن الى قصر الخلافة سرح أبا اليفظان وأحسن اليه، فعاد الى تيهرت، وقد اكتسب خبرة بشؤون الملك. فلما اخرج ابو بكر من المدينة خرج هو أيضا، ونزل بحصن لواتة، وهنالك بويع حوالي سنة 41 وزحف الى تيهرت، فامتنعت عليه سبع سنين. ثم دخلها. وعفا عن الثوار. واحيا رسوم الدولة، وكان يباشر التدريس بنفسه وتوفي باتفاق سنة 281. قال ابن الصغير: "عاش ابو اليقظان مائة سنة أو نحوها. وبقي في امارته نحوا من اربعين سنة. أدركته وحضرت مجلسه. وكان مربوع القامة ابيض الرأس واللحية (لانه أدركه شيخا) زاهدا ورعا ناسكا. افتتنت به نفوسة الجبل حتى انها أقامته في دينها وتحليلها وتحريمها مثل ما أقامت النصارى عيسى بن مريم". وهذا ان كان فانما هو من بسطاء العامة التي لا تعرف التعظيم حدا. - أبو حاتم يوسف 281 - 94 هـ 906 م هو ابن أبي اليقظان. بويع بعده. وكان شابا جميل الهيئة كثير المروءة واسع الاحسان محببا لدى العامة قبل ولايته. فلما بويع اضطربت عليه الامة. وثارت به الفتن. فأخرج من المدينة. ثم عاد اليها، وائتمر به بعض قرابته فقتلوه سنة 294. وكان بكر بن حماد قد أوضع في الفتنة. فلما عاد الى تيهرت اعتذر له بقوله:

ومؤنسة لي بالعراق تركتها … وغصن شبابي في الغصون نضير فقالت كما قال النواسي قبلها: … "عزيز علينا ان نراك تسير،" (¬1) فقلت جفاني يوسف بن محمد … فطال علي الليل وهو قصير ابا حاتم ما كان ما كان بغضة … ولكن أتت بعد الامور أمور فاكرهني قوم خشيت عقابهم … فداريتهم، والدائرات تدور واكرم عفو يؤثر الناس امره … اذا ما عفا الانسان وهو قدير - يعقوب بن أفلح هو أخو أبي اليقظان. كان يأمل الامارة بعده، فلما صرفت الى أبي حاتم ارتحل الى زواغة، فلما أخرخ أبو حاتم من المدينة وحاصرها، استقدم أهلها يعقوب، وبايعوه. فحارب ابن أخيه، ثم سعى الى أهل الفضل في ايقاف الفتنة، فعقدوا مجلسا حضره المبعوثون من الطرفين: فحكموا برفع يديهما معا عن الحكومة لمدة أربعة أشهر، وهذا هو التحكيم الذي أنكره سلفهم على علي (ض). وفي هذه المدة كان ابو حاتم يستميل اليه الناس بسياسته ويستألفهم بصلاته، فلم تمض المدة حتى كان جمهور الناس معه. فاستقدموه من قصره بابي مينة، وأعادوه الى قصر الأمارة. وغادر يعقوب المدبنة ليلا الى زواغة بعدما قام أميرا نحو أربع سنوات، وكان بيد الهمة نزيه النفس ذا غرائب في مأكله وملبسه، وعاش ختى استولى الشيعة على تيهرت، فارتحل الى ورقلة، وعرض عليه أهلها بيعتهم، فقال: "لا يستتر الجمل بالغنم " ومات هنالك. ¬

_ (¬1) النواسي هو أبو نواس الحسن بن هانيء الحكمي. من أهل المائة الثانية. وذلك الشطر من كلمة له طويلة يمدح بها الخصيب.

9 - الاقتصاد والحضارة

- اليقظان بن أبي اليقظان 294 - 296 هـ 906 - 909 م بويع بعد قتل أخيه أي حاتم، ولم يتمتع بالملك طويلا، فبقي مدة عامين وأمره في اضطراب الى أن قتله الشيعة في طائفة من أسرته، في شوال سنة 96 وانتهت به الدولة الرستمية. تناسل بنو رستم بتيهرت وكثر عددهم ومع ذلك لم يزدحموا على الملك الا ما كان أيام ادبار دولتهم من القيام على ابي حاتم ثم قتله. فلهم بذلك مزية على غالب الاسر المالكة. 9 - الاقتصاد والحضارة المملكة الرستمية صحراوية. ولهذا اتخذت عاصمتها حيث الجبال المتصلة بالصحراء. فالغالب على أهلها الترحال وسكنى الخيام والقيام على المواشي والتجارة في البر اما التجارة البحرية فبأيدي غيرهم لعدم اتصال المملكة بالسواحل. فلم يكن للرستميين مراكب بحرية ولا مصانع لها. والتجارة البحرية يومئذ للاندلسيين. فهم الذين يؤمون ببضائعهم المختلفة مراسي الجزائر مثل مرسى الحجاج وتنس ومرسى فروخ القريبة من مستغانم شرقا. ولهم اتصال بالرستميين في التجارة خصوصا من مرسى فروخ. وأهم تجارة تيهرت الى السودان. ولملوكها علائق حسنة مع الرستميين. ولها اتصال بالمشرق أيضا على طريق الصحراء الى القيروان وطرابلس ومصر. وعني بنو رستم بتأمين طرق القوافل. فكانوا يرسلون من طرفهم حامية تتلقى القوافل. وهذا ابو حاتم توفي والده وهو غائب. ذهب في جيش لحماية قوافل من المشرق.

وهكذا كانت البضائع تصدر من تيهرت واليها برا وبحرا وغربا وشرقا وشمالا وجنوبا. فتأتيها بضائع الاندلس والمغرب الاقصى والسودان وافريقية ومصر والشام والعراق والحجاز واليمن. وكانت الدواب والمواشي كثيرة بمملكة تيهرت. يكثر بها البقر والغنم وتوجد بها الخيل المسومة والبراذين الفراهيد. وللناس عناية بالفلاحة خصوصا حوالي الاودية. يزرعون القطن والكتان والسمسم والكسبر والكمون وغيرها. ويغرسون الاشجار المختلفة. ونشط الناس لانشاء العمارات والقصور في الاماكن الصالحة لها. فكان للأسرة الرستمية حصن في جوار لواتة يدعى تالميت به مواشيهم وعبيدهم. وللأمراء منهم قصور ومنتزهات في أملاكهم خارج تيهرت. وقد أطال ابن الصغير الحديث عن القصور. وقال: "وكانت العجم قد ابتنت القصور ونفوسة قد ابتنت العدوة والجند القادمون من افريقية قد ابتنوا المدينة العامرة اليوم". وانتقلت مع التجارة التي هي أهم موارد تيهرت حضارات الممالك الاخر. واضيفت الى حضارة البلاد الموروثة عن الرومان والروم. وتكون من مجموع ذلك حضارة تيهرتية مزيجة من عدة حضارات. فكانت تصنع بهذه المملكة نسائج الصوف والكتان وأواني الخزف والطين والزجاج والاثاث من الخشب المنحوت والمخروط والمموه والمرصع بالعاج أو الصدف. والصنائع متركبة من بربرية وفارسية وعربية ورومية واندلسية. عليها طابع الحضارة الاسلامية. وقد جاء بعد الرستميين دول اسلامية ذات حضارات متقاربة. فلا سبيل الى تمييز ما أبقته الحضارة الرستمية بالوطن الجزائري. ولو عني بالبحث عن آثار تيهرت لامكن الوصول الى شيء عن معرفة هذه الحضارة. ووطن مزاب حافظ حقا على عوائده القديمة ولكن

10 - العلوم والآداب

طول المدة وتوالي الفتن وضعف أهله مما يمنع الاعتماد على حضارته لمعرفة الحضارة الرستمية. 10 - العلوم والآداب نشأت الدولة الرستمية في بداية تاريخ المسلمين العلمي بما كان من اقبال المنصور العباسي فمن بعده على تجهيز المسلمين بالعلوم والمعارف بعد ما قضوا لبانتهم من الآداب العربية وبلغوا فيها الدرجة السامية أيام بني أمية. وقد عني الرستميون بنقل الكتب التي تظهر بالمشرق منبع الحركة الفكرية الاسلامية. ولكن عنايتهم بالعلوم الدينية أشد. فكانوا ايمة في العلم كما كانوا ايمة في السياسة يتدارسون التفسير والحديث والفقه والكلام والاخبار والاشعار والعلوم الرياضية. واشتهروا بالتنجيم والرمل. فعبد الرحمن كان مفسرا وله في التفسير تأليف. وابنه عبد الوهاب برز في العلوم الدينية. ونبغ أفلح في الادب وله في فضل العلم ومزاياه والتحريض عليه قصيدة مطلعها: العلم أبقى لأهل العلم آثارا … يريك اشخاصهم روحا وابكارا وهي طويلة جيدة أثبتها الباروني بتمامها مشطرة. وكان من ايمة بني رستم من انتصب للتدريس بالمساجد العامة. وارسل عبد الوهاب الى اباضية البصرة ألف دينار ليشتروا له بها كتبا. فلما بلغتهم اشتروها ورقا استنسخوه كتبا. قالوا فكانت تلك الكتب وقر اربعين جملا. وجهوها له واتصل بها. وكانت بتيهرت مكتبة تدعى المعصومة قد حوت آلافا من المجلدات. ولما دخلت الشيعة تيهرت أحرقوا مكتبتها ما عدا كتب الرياضة والصنائع والفنون الدنيوية. وكانت العربية هي لسان الدولة الرسمي. يدل لذلك رسائل

الرستميين الى الامة البربرية في الحث على الطاعة والتمسك بالدين، وعقود ولايتهم لعمالهم بطرابلس. وقد أثبت الباروني نصوص رسائل وعقود. وكانت العربية لسان علومهم وآدابهم أيضا. اذ جل عنايتهم بالعلوم الدينية التي لا لغة لها غير العربية. ولم تفكر الحكومة الفارسية في نشر اللغة الفارسية او اتخاذها لغة رسمية اذ لا داعي لذلك لا من حيث الدين ولا من حيث السياسة. فالدين لغته عربية. وكون بني رستم في غير وطنهم بين قوم اشداء في عصبيتهم مما يدعوهم الى اعفاء العصبية الجنسية واحياء الرابطة الدينية التي لا يجمعهم بالبربر غيرها. واقتدت الامة البربرية بحكومتها- والناس على دين ملوكهم- في العناية بالعربية وعلومها وآدابها. ولم يصدهم عنها ثورتهم على الحكومة العربية لان الثورة اسبابا يغبط جدا من يجعل من بينها عداء البربر للعرب جنسيا أو دينيا أوعلميا اذ ليست فكرة عداء العرب والعربية موجودة لدى الامم الاسلامية يومئذ. وانما هي وليدة عصرنا الحاضر. تستر بها الملحدون توصلا لهدم التعاليم الاسلامية ويأبى الله الا أن يتم نوره ولو كره الملحدون. وعاشت البربرية مع العربية عيشة العامية اليوم مع الفصحى. وكان من البربر شعراء بالبربرية مجيدون نظير ما نسمع اليوم من قصائد عامية بليغة. والفت بها التآليف الدينية حرصا من رجال الدين على ايصال عقائده وعباداته الى العامة اذ لم يكن البربر يحسنون - طبعا- جميعهم العربية. وكان بالمملكة التيهرتية مذاهب غير الاباضية. منها الصفرية. كان لهم حصن تالغمت (يدعى اليوم تيلغمت. وهو وسط بين الاغواط وغرداية). والواصلية. مجمعهم قريب من تيهرت. يسكنون بيوت

الشعر. ويعتدون في نحو ثلاثين الفا. والعراقيون الشهيرون بالرأي والقياس والحجازيون الشهيرون بالسنة والاثر. ولهذه الطوائف مساجدها وعلماؤها وحلق دروسها. وكانوا بتيهرت يجتمعون للمناظرة والمباحثة في دائرة الادب وقانون العلم بغاية الحرية. قال ابن الصغير: "ومن أتى الى حلق الاباضية من غيرهم قربوه وناظروه ألطف مناظرة. وكذلك من اتى من الاباضية الى حلق غيرهم كان سبيله ذلك". وقال متحدثا عن الاباضيين: " ولا يمنعون أحدا من الصلاة في مساجدهم ولا يكشفونه عن حاله. ولو رأوه رافعا يديه، ما خلا المسجد الجامع فانهم اذا رأوا فيه من رفع يديه منعوه وزجروه فان عاد ضربوه". قال الباروني: والمسجد الجامع هو مسجد الامام. ولعلهم يفعلون ذلك بغير اذنه وعلمه. يريد ان ذلك من متعصبة العامة التي كثيرا ما تنصر دينها بما تأباه مبادي ذلك الدين نفسه. أصبحت تيهرت معدن العلم والادب ومحط رحال الطلبة حتى قال فيها أبو عبد الله البنا: "يفضلونها على دمشق وأخطأوا وعلى قرطبة وما أظنهم اصابوا". ولست أشك في انها دونهما ولكن حضورها في الذهن بحضورهما يكفي دليلا على تقدمها ورقيها. وقد نسب اليها علماء كثيرون في مختلف الفنون. ذكر البارني طائفة منهم. والفتن التي استمرت بتيهرت أواخر الحكومة الرستمية وبعدها ترشد الى أن أن الذين آثارهم أكثر من الذين عرفوا. فمنهم أبو الفضل أحمد بن القاسم التميمي البزاز. روى عنه أبو عمر بن عبد البر وغيره. ومنهم الشيخ أبو سهل. كان أفصح أهل زمانه في اللسان البربري. ألف به تآليف احترقت في بعض الفتن. وتولى خطة الترجمة للامامين أفلح ويوسف. ومنهم أبو عبيدة

11 - ابو عبد الرحمن بكر بن حماد التاهرتي

الاعرج. أثنى عليه ابن الصغير. وقال قرأت عليه كتاب اصلاح الغلط لابن قتيبة. ومنهم ابن الصغير صاحب اخبار الايمة الرستميين. وهو كتاب لغته قريبة من العامية لكنه المادة الوحيدة لهذه الدولة. ونقل الكعاك عن المجلة الأسيوية الفرنسية الصادرة سنة 1843م أن يهود بن قريش التاهرتي من أهل القرن الرابع كان يحسن العربية والعبرانية والبربرية والارمية والفارسية عالما بها جميعا متضلعا فيها. وقد اهتم بالبحث في اللغات وحاول المقاربة بين العبرانية والعربية والبربرية. وهو واضع اساس النحو التنظيري. وله كتاب في ذلك باللغة العربية وجد بمكتبة أوكسفورد بانكلترة وهو من نفس ما سطر في الموضوع. 11 - ابو عبد الرحمن بكر بن حماد التاهرتي هو أبو عبد الرحمن بكر بن حماد بن سهل بن أبي اسماعيل الزناتي. نشأ بتيهرت. وارتحل الى المشرق في حداثة سنة 217 فسمع به الحديث من ابن مسدد وعمرو بن مرزوق وبشر بن حجر. واجتمع بأدبائها مثل أبي تمام حبيب وعلي بن الجهم وصريع الغواني ودعبل. ثم عاد الى القيروان. وسمع بها من سحنون وغيره. وجلس بها للحديث. ثم ارتحل الى تيهرت ومعه ولده عبد الرحمن. فاعترضه لصوص جرحوه وقتلوا ولده! قال الباروني عن المراكشي: وكانت وفاته بقلعة ابن حمة جو في مدينة تيهرت سنة 296 وهو ابن ست وتسعين سنة. وكان ثقة مأمونا حافظا للحديث. قال المقري في نفح الطيب: ان قاسم بن اصبغ القرطبي رحل الى المشرق سنة 274 ولقي بالقيروان بكر بن حماد الشاعر التاهرتي. وسمع منه حديث

مسدد. ولما قرأ قاسم حديثا فيه مجتابي الثمار قال له بكر الثمار. ولم يسلم أحدهما للآخر. فقال بكر لنذهب الى ذلك. يشير لشيخ بالمسجد. فحكم الشيخ لقاسم. فقال بكر- واخذ بأنفه- رغم أنفي للحق. وقال الباروني: ذكره يوسف بن ابراهيم الورجلاني في سلسلة حديث رواه بكتابه الدليل والبرهان. ومن هنا تعلم ان ثقته متفق عليها يروي عنه الخوارج وغيرهم. وكان نابغة في الادب. واشتهر بالشاعر. وله القصائد الطويلة الجيدة في الاغراض المختلفة من غزل ووصف ومديح وهجاء ورثاء واعتذار وزهد ووعظ. مدح الملوك والامراء بالمشرق والمغرب وعارض دعبل من متعصبة الشيعة وعمران بن حطان من الخوارج. وذكر الحافظ التنسي كلمته في معارضة مدح عمران بن حطان لابن ملجم على فعلته. وذكرها المسعودي ايضا في مروج الذهب ولكن لم ينسبها لاحد. ثم وقفت عليها منسوبة له في طبقات الشافعية الكبرى. وهي هذه: قال لابن ملجم- والاقدار غالبة- … هدمت- ويلك- للاسلام اركانا قتلت أفضل من يمشي على قدم … واول الناس اسلاما وايمانا واعلم الناس بالقرآن ثم بما … سن الرسول لنا شرعا وتبيانا صهر النبي ومولاه وناصره … اضحت مناقبه نورا وبرهانا وكان منه- على رغم الحسود له- … مكان هارون من موسى بن عمرانا وكان في الحرب سيفا صارما ذكرا … ليثا اذا لقي الاقران اقرانا ذكرت قاتله، والدمع منحدر، … فقلت سبحان رب الناس سبحانا!! اني لاحسبه ما كان من بشر … يخشى المعاد ولكن كان شيطانا

12 - الحروب والفتن

اشقى مراد اذا عدت قبائلها … وأخسر الناس عند الله ميزانا كعاقر الناقة الاولى التي جلبت … على ثمود بارض الحجر خسرانا قد كان يخبرهم ان سوف يخضبها … قبل المنية أزمانا فأزمانا فلا عفا الله عنه ما تحمله … ولا سقى قبر عمران بن حطانا لقوله في شقي ظل مجترما … ونال ما ناله ظلما وعدوانا "يا ضربة من تقي ما أراد بها … الا ليبلغ من ذي العرش رضوانا" بل ضربة من ذوي أورثته لظا … مخلدا قد اتى الرحمن غضبانا كانه لم يرد قصدا بضربته … الا ليصلى عذاب الخلد نيرانا ومما روى له التنسي في الدار والعقيان قوله: تبارك من ساس الامور بعلمه … وذل له أهل السموات والارض ومن قسم الارزاق بين عباده … وفضل بعض الناس فيها على بعض فمن ظن ان الحرص فيها يزيده … فقولوا له يزداد في الطول والعرض وشعره كثير تناقله الرواة شرقا وغربا. ومنه قطع مبعثرة في بطون الكتب يحتاج في جمعها الى عناية أدبية وغيرة قومية. وحسبنا اداء لحق هذا الشاعر المجيد والمحدث الثقة أن افردناه بالكلام ونبهنا على فضله. 12 - الحروب والفتن قامت الدولة الرستمية على جهود البربر الثائرين على حكومة القيروان، فلم ترق دماء في سبيل تأسيسها. ولم تجاهد كغيرها

لاعلاء كلمة الاسلام لعدم مجاورة الكفار لها. على ان الخوارج انما يعنون بالثورة على الحكومات الاسلامية، ويرون ملوكها جائرين على الاطلاق. جاورها الادارسة ولم نعلم من حال هذا الجوار غير ما ذكره ابن خلدون في قوله: "حارب بني رستم جيرانهم من مغراوة وبني يفرن على الدخول في طاعة الادارسة لما ملكوا تلمسان، واخذت بها زناتة من لدن ثلاث وسبعين ومائة فامتنعوا عليهم سائر أيامهم". وجاورها أمراء القيروان. فلم نعلم عن هذا الجوار غير زحف عبد الرحمن لحصار طبنة فانه نزل تهودا. فلها انجلى الحصار عن عمر بن حفص انفذ جيشا لعبد الرحمن هزمه الى تيهرت. ثم كانت المهادنة ايام روح. وجاءت الدولة الاغلبية. فلم نعلم حدوث شيء بينهما في الجزائر غير تأسيس مدينة العباسية واخراجها. هذا كل ما نعلم عن الحالة الخارجية للدولة الرستمية. اما الحالة الداخلية فالحرب فيها أغلب من السلم. ذلك ان الحكومة لم تتمكن من بسط نفوذها في المملكة على ضيق رقعتها. فالقبائل مستقلة تحت امراء منهم. وليس ثم من وحدة سياسية ولا دينية. والحكومة اجنبية لا ثقة لها بالامة. وتتساهل لذلك في اتهامهم بالافتراء عليها. فنشأت الفتن من ضعف الحكومة وسوء ظنها بالامة. أول ما حدث فتنة يزيد بن فندين اليفرني، وسببها ان عبد الرحمن بن رستم لما احتضر ترك الامر شورى بين سبعة منهم ابنه عبد الوهاب وابن فندين. فاسندت الامامة لعبد الوهاب. وابى ابن فندين من البيعة الا بشرط تأسيس مجلس من الاعيان يخضع له الامام. فرفض اقتراحه. وسخطته الحكومة. فلم يصبر لهذه الاهانة وهو ذو عصبية. فأعلن الثورة.

وبعد وقائع كاد ابن فندين ينتصر. فطلب عبد الوهاب هدنة للنظر في شرطه وعرضه على اباضية المشرق ليفتوا فيه. فاجابه لذلك. وربح عبد الوهاب الوقت لجمع قوته ونشر دعايته بالمشرق واحسن الخروج من المأزق. أدرك ابن فندين مكيدة خصمه. فأعاد الحرب قبل ورود فتوى المشارقة. فدارت عليه الدائرة. وقتله أفلح بن عبد الوهاب. وتفرق جمعه. وبعد مدة ثأروا لصاحبهم من ميمون بن عبد الوهاب. فقتلوه. وعادت الحرب ثالثة. وانجلت بانتصار عبد الوهاب. فتح ابن فندين باب الحديث في الامامة وشروطها. فاتخذها أرباب المذاهب الاخر سلما للخروج عن طاعة الامام الاباضي. فأعلنت الواصلية ثورتها. وقصدت فيمن انضم اليها تيهرت. وكانت وقائع أشد من الاولى. والتجأ عبد الوهاب لطلب الهدنة. وبعد ان انعقدت استنجد نفوسة طرابلس. فبلغته نجدتهم وعادت الحرب وانجلت بانتصار عبد الوهاب كأول مرة. وتقدم في الفصل السادس ما كان من انكار بعض الناس لعمال عبد الوهاب وثورتهم. وانتهت بانهزامهم. وكان أمير هوارة خطب بنت شيخ لواتة. فأشير على عبد الوهاب بمصاهرة لواتة حتى تتحد مع هوارة. فخطب تلك البنت. وتزوجها. فوقعت بين الرستميين وهوارة حرب على نهر اسلان. وتعددت المعارك. ثم انهزمت هوارة. وكان ابو بكر بن أفلح قد صاهر من أعيان المدينة رجلا يدعى محمد بن عرفة. وفوض اليه أمر الحكومة. فنفس عليه وجاهته بطانة الامام. وزينوا له اغتياله. فأرسل اليه ليخرج معه الى منتزه له يعرف بجنان الامير. ولما قاما الى صلاة المغرب طعن خادم ابي

بكر ابن عرفة. والقى شلوه في شق هنالك فافتقد الناس ابن عرفة. ثم وقفوا على جلية أمره. واستخرجوا شلوه. فثاروا بأبي بكر. وكان يوم من أشد الايام. فقد فيه ابو بكر امامته. وبقيت الحرب بين أنصار الحكومة واعدائها قائمة على ساق. وحكمت أخيرا بفشل نفوسة والعجم. قال ابن الصغير: "لما نزل بالعجم ونفوسة ما نزل تفرقوا في أقاصي البلاد. فنزلت العجم بموضع يقال له تابغيلت وهي على مرحلتين من مدينة تاهرت (¬1) ونزلت الرستمية ومن لف لفها باسكيدال وبه ابو اليقظان. وهو مجمع الاباضية قبلة تاهرت على يوم أو أزيد قليلا. ونزلت نفوسة بقلعة مانعة يقال لها اليوم قلعة نفوسة". عقب هذه الفتنة استولى محمد بن مسالة على تاهرت. وحارب بقومه واهل المدينة لواتة. واجلاها الى حصنها على مقربة من تاسلونت منبع عيون نهو مينة. ودعت ابا اليقظان الى جوارها. هنالك اجتمع الى ابي اليقظان شيعته. فذهب بهم الى تيهرت. فامتنعت عليه سبع سنين. ثم استنجد نفوسة طرابلس. فأنجدوه. وتقوى بهم في حين أن أهل تيهرت أجهدهم الحصار. فتقدمت رسله الى المدينة مبشرين ومنذرين. فرضي أهلها باسلامها الى ابي اليقظان على أن لا يؤاخذوا بما ذهب ايام الفتنة من أنفس واموال فرضي شرطهم ودخل المدينة. وأعلن العفو العام. ونفى ابو حاتم بعض أعيان المدينة بتهمة التآمر على قتله، إلى موضع يدعى الثلة. وبعد مدة دخلوا تيهرت في حماية أنصارهم. ¬

_ (¬1) تقدم في الفصل الرابع عن البكري تامغيلت بالميم. وأنه على مرحلتين من تيهرت. فالظاهر أنه موضع واحد يقال بالحرفين أو محرف في أحد الكتابين.

13 - سقوط الدولة الرستمية

فخشي أبو حاتم على نفسه. فخرج الى تالميت في أهله والعجم ونفوسة. واجتمعت اليه لواتة وقبائل الصحراء ما عدا أهل تيلغمت فانهم شايعوا التيهرتيين. استعد أبو حاتم لفتح تاهرت. فقصدها من ثلاث جهات: جاء هو في الرستميين ولواتة وغيرهم من ناحية القبلة. وزحفت العجم وصنهاجة ومن لف لفها من ناحية المشرق. وتقدمت نفوسة ومن انضاف اليها من ناحية المغرب. ودارت رحا الحرب من الجهات الثلاث. فرغب التهرتيون في السلم. فاشترط ابو حاتم تسليم شيوخهم اليه يرى فيهم رأيه. فلم يقبلوا. وعادت الحرب. واستدعى التيهرتيون يعقوب بن أفلح من مكانة بزواغة. وكان منابذا لابن أخيه. فبايعوه. وانحازت اليهم بذلك طائفة من لواتة. وعادت الحرب جذعة. وبعد اربع سنين من اتقاد نار هذه الفتنة تقدم ابو يعقوب المزاتي في قومه ونزل حول تيهرت لايقاف الفتنة. وسئمت الناس الحرب. فرضوا وساطته. فعقد هدنة لمدة اربعة أشهر. تقوى فيها حزب ابي حاتم. فدخل المدينة. وغادرها عمه يعقوب. ها قد وقفنا بالقارىء على ناحية من مناحي حياة هذه الدولة في ايجاز من غير اطالة بوصف المعارك واحصاء القتلى وذكر الابطال. ولا يستبعد مع هذه الفتن ما قدمنا من حديث العمران والمعارف فان القوم كانوا أحرارا. والحرية تعمل مع الفتن ما لا يعمله الاستعباد مع الامن. 13 - سقوط الدولة الرستمية تأسست الدولة الرستمية بتأسيس تيهرت سنة 144 (761م) وبويع

مؤسسها عبد الرحمن بن رستم بالخلافة سنة 160 وسقطت في أيدي الشيعة سنة 296 (909م) فتكون مدتها 152 سنة قمرية (148 شمسية) والبكري موافق في تاريخ تأسيس الدولة وسقوطها. ولكن يقول ان مدة الرستميين كانت ثلاثين ومائة سنة. أما اسباب سقوطها فترجع الى افتراق كلمة الامة واختلاف الرستميين فيما بينهم وظهور عدو قوي الى جانبهم هم الشيعة. وقد رأيت في الفصل السابق كثرة الثورات لأسباب ضعيفة واستفحال أمرها حتى ان الثائرين قد يستولون على العاصمة ويطردون منها الرستميين وذ لك يدل على ان القبائل كانت ذات حرية واسعة اكتسبتها بقوتها وضعف الحكومة ولم تحسن استعمالها. وهؤلاء الرستميون الذين لم تكن لهم قوة حربية تجعل القبائل تحت سلطانهم فعلا أخذ داء التنافس يسري اليهم. وبدأ ذلك عصر ابي حاتم حيث ان عمه يعقوب خالف عليه أولا ثم خالف عليه أخوه اليقظان ثانيا وافضى الخلاف الى قتله وانتصاب اليقظان مكانه. وكان لأبي حاتم بنت تدعى دوسرا قد أحرق كبدها ما نزل بأبيها. وكثير من أهل تيهرت غير راضين عن اليقظان. فالشعب كانت تعبث باتحاده العصبيات القومية والتعصبات المذهبية. والحكومة تعبث بهيبتها المنافسات السياسية والاختلافات الداخلية. تلك حالة الدولة الرستمية في الوقت الذي ظهرت فيه الدعوة الشيعية بكتامة وقضت على دولة الاغالبة. لما قضى أبو عبد الله الشيعي على دولةْ الاغالبة قصد تيهرت ونزل عليها. ولم يلق في طريقه كيدا. فخرج اليه أهلها متبرئين من اليقظان وواعدين له بفتح المدينة. ثم خرج اليقظان في جمع من أهل بيته. ولقي أبا عبد الله الشيعي مسلما مسالما. وخشيت دوسرا ان

14 - تيهرت

يبقى عليه. فامته مع أخ لها ووعدته نفسها زواجا ان هو ثأر لها من قتلة أبيها فأتى القتل على اليقظان ومن معه. وفرت دوسرا فلم يوقف لها على أثر. وسقطت الحكومة والامة في يد الشيعة. وهكذا استولى ابو عبد الله الشيعي على دولة تيهرت بكل سهولة. لانه وجد أمة بلا حكومة وحكومة بلا أمة. وفي ذلك درس مفيد لكل حكومة أجنبية تعتمد على أجانب مثلها وتقصي أهل الوطن عن ساحة الحكم. وفي ذلك أيضا درس جليل الفائدة لكل شعب يكون قليل الانقياد لحكومته كثير الثورات عليها من غير ان يرسم لطريق جهاده خطة معينة ويلتف على زعيم قوي مرضي يحسن السير به الى غاية واضحة. 14 - تيهرت تيهرت بكسر التاء بعدها ياء فهاء مفتوحة فراء ساكنة. ويقال أيضا تاهرت. وهي اسم لمدينتين احداهما على ربوة يحيط بها سور أسست قبل الاسلام. وافتتحها القائد العظيم عقبة بن نافع. وكانت لبرقجانة. وضعف عمرانها منذ العصر الرومي. وانتعشت قليلا ايام الرستميين. وكانت تدعى تاهرت عبد الخالق وتدعى ايضا حصن ابن بخاتة. وبعد الرستميين خربت وأسس مكانها تيهرت الفرنسية المدعوة اليوم تيارت. والثانية تيهرت الحديثة أسسها عبد الرحمن بن رستم سنة 144 (761م) غربي القديمة على خمسة أميال منها محاذية لتاقدمت. وقد غلط بعضهم فسمى تيهرت الحديثة. تاقدمت. وموضعها كان غيضة أشبة مملوكا لقوم مستضعفين من مراسة وصنهاجة. فارادهم عبد الرحمن على البيع. فامتنعوا. فاكتراه منهم بخراج الاسواق.

وشرعوا في تأسيسها. فعمرت واتسعت خطتها وطار في الآفاق صيتها حتى دعيت عراق المغرب وبلغ المغرب الحاقا لها بهما في المعارف والعمران والحضارة. اختار الرستميون موقعها لكونه بين قبائل اباضية وارضها مملوكة لقوم مستضعفين ليكونوا في مأمن من هجمات المخالفين وراحة من قبيلة المالكين. فهم بضعفهم لا يطمعون في التغلب على الدولة. ولموقعها مزية لديهم أيضا وهو اشرافه على الصحراء اذ كان أغلب القوم رحالا قائمين على المواشي. ففي الصحراء يجدون حاجة ماشيتهم. والرستميون مرتبطون مذهبا بنفوسة طرابلس. وبواسطة الصحراء يمكنهم ادامة الروابط معهم. اختطوا بهذه المدينة المنازل والقصور. وأجروا اليها المياه. قال الادريسي: "وبها مياه متدفقة وعيون جارية تدخل أكثر ديارهم يتصرفون بها". أصبح عمران تيهرت وعدل ايمتها حديث الرفاق تنقله الى الآفاق. فأمها الناس من كل ناحية. قال ابن الصغير: "واتتهم الوفود والرفاق من كل الامصار واقاصي الاقطار. فقلما ينزل بهم أحد من الغرباء الا استوطن معهم وابتنى بيتا بين أظهرهم لما يراه من رخاء البلد وحسن سيرة امامه وعدله في رعيته وأمانه على نفسه وماله حتى لا ترى دارا الا قيل هذه لفلان الكوفي وهذه لفلان البصري وهذه لفلان القروي وهذا مسجد القرويين ورحبتهم وهذا مسجد البصريين وهذا مسجد الكوفيين. واستعملت السبل الى بلاد السودان وغيرها من البلدان من مشرق ومغرب بالتجارة وصنوف الامتعة. والعمارة زائدة، والناس والتجار من كل الاقطار قابلون". وقال البكري: "مدينة تيهرت مسورة لها ثلاثة أبواب (¬1) باب ¬

_ (¬1) هكذا بالاصل. وقد سمى اربعة ابواب ثم قال وغيرها. فذكر الثلاثة خطأ.

الصبا وباب المنازل وباب الاندلس وباب المطاحن وغيرها، وهي في سفح جبل يقال له قزول (وهو بتخفيف الزاي وهكذا يدعى اليوم)، ولها قصبة مشرفة على السوق، تسمى المعصومة، وهي على نهر يأتيها من جهة القبلة يسمى مينة وهو في قبليها، ونهر آخر يجري من عيون تجمع تسمى تاتش، ومن تاتش شرب أهلها وبساتينها، وهو في شرقيها .. وهي شديدة البرد كثيرة الغيوم والثلج، قال بكر ابن حماد: ما أخشن البرد وريعانه … وأطرف الشمس بتاهرت تبدو من الغيم اذا ما بدت … كانها تنتشر من تحت فنحن في بحر بلا لجة … تجري بنا الريح على السمت نفرح بالشمس اذا ما بدت … كفرحة الذمي بالسبت ونظر رجل من أهل تاهرت الى توقد الشمس بالحجاز فقال: احرقي ما شئت فوالله انك بتاهرت لذليلة!، ومسجد تاهرت الجامع أسسه عبد الرحمن وهو من اربع بلاطات، قال محمد بن يوسف: وبها أسواق عامرة وحمامات كثيرة، يسمى منها اثني عشر حماما. ومنذ سقطت الدولة الرستمية اصبحت تيهرت نقطة عراك بين الشيعة وزناتة يتغلب عليها هؤلاء تارة وأولئك أخرى. فأخذ عمرانها في التراجع. واحرقت النار اسواقها في شوال سنة 305 كما في القرطاس. ثم كانت فتنة ابن غانية. وتكرر دخوله لتيهرت، فاحتمل أهلها وتفرقوا في البلاد، وذلك سنة 620 وكان ذلك آخر العهد بعمارتها، وأرضها اليوم تحرث، ولم يبق منها الا انقاض وبعض سورها، والاماكن تشقى وتسعد.

ـ[صورة]ـ قاعة الصلاة بجامع سيدي أبو مدين

الباب الثالث في الدولة الادريسية

الباب الثالث في الدولة الادريسية

1 - تمهيد

1 - تمهيد بينما كان بنو العباس يعملون لهدم دولة بني أمية شرقا كان البربر يعملون لذلك أيضا غربا، ولكن العباسيون يهدمون ليبنوا، والبربر يهدمون توصلا للفوضى. وما اتم بنو العباس بناء دولتهم بالمشرق حتى اتم البربر عمل فوضاهم بالمغرب. ولما أخذ العباسيون يسترجعون المغرب لسلطانهم استقل بنو رستم ببعض المغرب الاوسط وما بقي منه كان تابعا لامراء القيروان ظاهرا ومستقلا في داخليته تحت شيوخ قبائله. ومثل ذلك المغرب الاقصى. ولم تكن الدولة العباسية شرقا سالمة من المنافس. فان الطالبيين نهضوا طالبين لانفسهم الخلافة وثاروا مرارا. ولكن كان نصيبهم الإخفاق. وفي أيام موسى الهادي ظهر الحسين بن علي بن حسن المثلث بن حسن المثنى بن الحسن السبط. وثار على عامل المدينة. وتغلب عليه. وبعد أيام خرج الى مكة. ولما بلغها انضم اليه طائفة من عبيدها. وكان الفصل فصل موسم الحج. وقد حج جماعة من وجوه بني العباس وشيعتهم. فنشبت الحرب بين العباسيين والطالبيين ثامن ذي الحجة. فانهزم الحسين ثم قتل بفخ قريبا من مكة من طائفة من ذوي قرابته. وذلك سنة 169. وحضر هذه الواقعة ادريس وسليمان ابنا عبد الله الكامل بن الحسن المثنى. فاما سليمان فقيل نجا وقيل قتل فيمن قتل مع الحسين. واما ادريس فنجا وايس ان يكون للطالبيين مع العباسيين

بالمشرق أمر. وقد علم ما عليه المغرب من ضعف سلطان بني الغباس به. فقصده. ومر بمصر. وكان صاحب بريدها الى المغرب يتشيع. وهو واضح المعروف بالمسكين مولى لصالح بن المنصور. فحمله الى المغرب. وقد ساق البكري حديث نزوح ادريس الى المغرب نقلا عن ابي الحسن النوفلي. قال: "قال النوفلي ان ادريس ابن عبد الله انهزم فيمن انهزم من وقعة حسين صاحب فخ .. فاستتر مدة. وألح السلطان في طلبه. فخرج به راشد، وكان عاقلا شجاعا أبدا ذا حزم ولطف، في جملة الحاج منحاشا عن الناس، بعد أن غيه زيه والبسه مدرعة وعمامة غليظة. وصيره كالغلام يخدمه. وان امره ونهاه أسرع في ذلك. فسلما حتى دخلا مصر ليلا. فبينما هما متحيران يمشيان في بعض طرقها لا هداية لهما بالبلد، اذ مرا بدار مشيدة يدل ظاهرها على باطنها ونعمة أهلها. فجلسا في دكان على باب الدار فرآهما صاحب الدار. فعرف فيهما الحجازية. وتوسم في خلقتهما الغربة فقال أحسبكما غريبين. قالا نعم. قال وأراكما مدنيين. قالا نعم. نحن كما ظننت. فاذا الرجل من موالي بني العباس. فقام اليه راشد. وقد توسم. فيه الخير، فقال له يا هذا قد أردت أن ألقي اليك شيئا. ولست أفعل حتى تعطيني موثقا أن تفعل احدى خلتين اما اويتنا وتتقرب الى الله بالاحسان الينا وحفظت فينا نبيك محمدا (ص)، وان كرهت ما القيته اليك سترته علينا. فأعطاه على ذلك موثقا. فقال له هذا ادريس بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن ابي طالب خرج من موضعه مع حسين بن علي. فسلم من القتل. وقد جئت به أريد بلاد البربر. فانه بلد ناء لعله يأمن فيه ويعجز من يطلبه. فأدخلهما منزله. وسترهما حتى تهيأ خروج ورفقة الى افريقية فاكترى لهما جملا وزودهما وكساهما. فلما عزم القوم على الشخوص

قال لهما ان لامير مصر مسالح لا يجوز احد الا فتشوه وههنا طريق أعرفها لا يسلكها الناس. فأنا أحمل هذا الفتى معي، يعني أدريس. في هذه الطريق الغامضة البعيدة. فالقاك به، يقول راشد، في موضع كذا. وهنالك تنقطع مسالح مصر. فكب راشد في أحد شقي المحمل. ووضع متاعه في الشق الآخر. ومضى مع الناس في القافلة. وخرج الرجل على فرس له. وحمل ادريس على فرس أخرى. فمضى به في الطريق الغامضة، وهي مسيرة أيام، حتى تقدما الرفقة. وأقاما ينتظرانها حتى وردت. فركب ادريس مع راشد حتى اذا قربا من افريقية تركا دخولها. وسارا في بلاد البربر حتى انتهيا الى بلاد فاس وطنجة". هذا حديت البكري. ومراده بافريقية القيروان. وصاحبها يومئذ من قبل العباسيين روح بن حاتم. وفي الاستقصاء: ان ادريس دخل القيروان واقام بها مدة. ثم خرج هو وراشد حتى أتيا تلمسان. فأراحا بها أياما. ثم ارتحلا نحو طنجة. فعبرا وادي ملوية. ودخلا بلاد السوس الادنى. وتقدما الى مدينة طنجة. ونحوه في القرطاس لابن أبي زرع. ومن طنجة خرج ادريس ومولاه راشد الى مدينة وليلي. فنزلا على صاحبها اسحق بن محمد بن عبد الحميد الاوربي. فاكرم مثواهما. وعرفه ادريس بنفسه فبالغ في اكرامه وخدمته. وكان نزولهما بوليلى غرة ربيع الاول سنة 172. قال ابن ابي زرع: "ومدينة وليلي قاعدة جبل زرهون. وكانت مدينة متوسطة خصبة كثيرة المياه والغروس والزيتون. وكان لها سور عظيم من بنيان الاوائل". قال السلوى: "يقال انها المسماة اليوم بقصر فرعون"

2 - تأسيس الدولة الادريسية

2 - تأسيس الدولة الادريسية كان اسحق الاوربي أمير قومه. ولما نزل عليه أدريس عرفه بنفسه وكاشفه بسره وانه يريد أن يؤسس للطالبيين بالمغرب ما عجزوا عليه بالمشرق. فاجابه اسحق الى ما أراد. ولما كان شهر رمضان جمع عشيرته وعرفهم بادريس. وقرر لهم علمه وفضله ودينه. وعرض عليهم مبايعته، فاجابوه وبايعوه على السمع والطاعة والقيام بأمره والاقتداء به في صلواتهم وغزواتهم. وبعد البيعة قام ادريس خطيبا. فقال: "ايها الناس لا تمدن الاعناق الى غيرنا فان الذي تجدونه من الحق عندنا لا تجدونه عند غيرنا". بايعت أوربه وتلتها مغيلة وصدينة من بني فاتن. ثم وفدت عليه للبيعة قبائل زواغة وغياثة ومكناسة وغمارة في قبائل أخر من زناتة وغيرهم، فلم يلبث أن جهز الجيوش من أوربة وزناتةْ وهوارة وصنهاجة وغيرها. وقصد بها تامسنا وتادلا من البلاد الواقعة جنوب وليلي الى ناحية المحيط الغربي. وكان أكثر أهلها على اليهودية والمسيحية والوثنية. والاسلام فيهم قليل. فغزاهم ادريس وفتح حصونهم فاسلموا جميعا. وعاد مؤيدا منصورا فدخل وليلي اواخر ذي الحجة من سنة 172. بينما كان ادريس يخشى أقل الناس ان يعرف مكانه فينم به الى أي وال عباسي فيريق دمه اذا به يؤسس دولة في غير وطنه ويغزو في غير قومه. كل ذلك كان في ظرف أشهر! لقد فر قبله من بني العباس عبد الرحمن بن معاوية بن هشام الاموي. ونزل الاندلس. ولم يقف عند حد الامن على حياته بل كون تلك الدولة الراقية التي أضاءت على أروبا ثم غربت في حمئة حضارتها. ودعاه ابر جعفر المنصور "صقر قريش" وامره - وان كان

عجيبا- يقر به ان له سلفا في الملك ولقومه بني أميه عصبية من العرب قوية وقد فتحت الاندلس بقواد جدوده وجيوشهم. وفر كذلك من بني العباس عبد الرحمن بن رستم الى المغرب الاوسط. واسس به دولة من قوم لا يتصلون من نسبه بسبب. ولكن يسهل أمره أيضا اتحاده مع أولئك القوم مذهبا وقد عرفوه قبل أيام امامهم أبي الخطاب وعرفوا منزلته لديه. أما ادريس فشأنه اعجب اذ ليس له مع البربر أي سبب. وليس أمره مما تنتجه المصادفات أو يرتفع عن مدارك العقول. ادريس انما قصد المغرب لعلمه بانحراف أهله عن بني العباس وبعده عن مركز خلافتهم. ولكن هل قصده لمجرد النجاة بنفسه؟ اذن فلم أوغل في المغرب؟ أما كان يكفيه ان يدس نفسه في قبيلة غير خاضعة لولاة القيروان؟ ادريس أكبر نفسا من ان يفر هذا الفرار الى مكان سحيق طلبا للحياة الشخصية. وهو أنبه قدرا من ان يرضي بالخمول وهو أشرف نسبا من أن يدمج نفسه في البربر. وأرى أنه انما قصد المغرب اظهارا للدعوة الطالبية ورجاء في تأسيس دولة علوية اذ ايس من ذلك بالمشرق وانقطعت ثقته بالعرب. وقد رأى العباسيين انتصروا بالفرس فبحث عن شيعة له من البربر. وقد كان البربر يرتحلون الى المشرق طلبا للعلم وأداء لفريضة الحج ثم يعودون وقد حملوا معهم صورا من نزاعات المشرق السياسية ونزعاته الدينية. وكان من المذاهب الدينية مذهب الزيدية من الشيعة. وهو مذهب ادريس. ومن النزاعات السياسية نزاع العباسيين والطالبيين وكان البربر يتأثرون بكل ما يجري بالمشرق فيجري بوطنهم من الانقسام السياسي والاختلاف الديني مثل ما يجري بالمشرق. فلا بد أن يكون البرب قد عرفوا المذهب الزيدي ولا بد ان

3 - الحكومة الادريسية

يكون منهم من بلغته احاديث اضطهادات العباسيين للعلويين الفاطميين فود لو يتقرب الى الله بنصرة آل بيت رسوله ويحميهم من اعدائهم. ولعل ادريس قد بحث في المغرب عمن يجدهم متشيعين لآل البيت. ومن أجل ذلك تنقل في الحواضر والبوادي حتى خبر حال صاحب وليلي ورأى فيه ضالته المنشودة. فنزل عليه وباح له بسره. فلباه وصدق ظنه وجد في نشر دعوته. هكذا تأسست دولة ادريس بسهولة وبساطة هيأتهما القرابة من رسول الله (ص) ونفرة البربر من بني العباس المعتمدين فى سلطانهم على الفرس. فنصر البربر العلويين عن طواعية. وحاربوا معهم في بقية البربر غير المسلمين وادخلوهم في الاسلام فتقووا بهم ثم لووا عنان قوتهم لحرب الخوارج بالمغربين الاقصى والاوسط فاخرجوا منهم دولة علوية. وما زالت مدينة وليلي قاعدة دولة ادريس حتى توفي. وخلفه ابنه ادريس فعظمت دولته وكثرت غاشيته حتى ضاقت عنهم وليلي. فخرج يرتاد مكانا يتسع لدولته ما اتسعت. فأسس مدينة فاس. واصبحت احدى العواصم الاسلامية الكبرى ولم تزل فاس قاعدة الادارسة حتى انقرضت دولتهم. 3 - الحكومة الادريسية الدولة الادريسية مستقلة استقلالا تاما. وحكومتها كسائر الحكومات الاسلامية يومئذ قضاء وادارة. انما تخالفها في كونها حكومة غير مركزية. فكل عامل من الادارسة واخوانهم العلويين مستقل بادارة عمله وجباية الخراج واشهار الحرب. وانما يمتاز الامام بذكر اسمه في السكة والخطبة. اقتضى هذا النظام طبيعة الوطن الذي يكره أهله الحكومة

المركزية. فلهذا عهد ادريس لابن عمه محمد ابن سليمان على المغرب الاوسط. وأشارت أمه كنزة البربرية على حافدها محمد بن ادريس لما ولي بعد ابيه بتقسيم المملكة بين أخوته. ومبني سياسة الحكومة الخارجية عدم الاعتراف ببقية الدول الاسلامية. ولكن صدها عن العمل لاخضاعهن ذلك النظام الداخلي الذي اضطرت اليه وتركها فقيرة من المال والرجال. فاكتفت بما تحت نفوذها. واصطلحت مح الاغالبة ولم تهج بني أمية. وكانت تضرب السكة باسم الامام. وانتشرت سكتها بالمغرب. حتى ان زيادة الله الاول بعث منها الى المأمون لما ارسل له بالدعاء على منابر افريقية لعبد الله بن طاهر، تعريضا بتحويل الدعوة الى الادارسة. وهذا يرشد الى ما كان لهذه الحكومة من النفوذ الادبي. فان حكومة الاغالبة أغنى منها رجالا وأموالا ولم تطمع في الاستقلال ولم يأنف أميرها لما غضب من الدخول في دعوتها. وكات ايمة الادارسة أهل عدل ورفق بالرعية وسهر على أمنها. قال ابن ابي زرع: "فكثرت الخيرات بفاس وظهرت البركات. ورخصت الاسعار، فبلغ وسق القمح درهمين ووسق الشعير درهما والكبش درهما ونصفا والبقرة اربعة دراهم والعسل خمسة وعشرون رطلا بدرهم والقطاني والفاكهة لا قيمة لها. دام ذلك خمسين سنة. منذ أيام ادريس بن ادريس." وظاهر ان العاصمة تكون بها أمثال هذه المواد أغلى غالبا منها في الاعمال التابعة لها. وقد حدثت اواخر الدولة فتن غيرت مجرى هذا الرخاء. فقد قام عبد الرزاق رئيس الصفرية بمديونة وجمع جموعا عظيمة استولى بها على فاس حتى اخرجه الامام يحي بن القاسم وشغل مدة امامته بحروب الصفرية وولي بعده يحي بن ادريس بن عمر وكان شجاعا حازما فقيها محدثا فصيحا ورعا صالحا أكثر الادارسة عدلا واغزرهم

فضلا واعلاهم قدرا وابعدهم ذكرا ولكن مني بالدولة العبيدية التي نحرتها مكناسة وكبيرها موسى بن ابي العافية. فدخلوا عليها فاسا سنة 305 ولم يسعه الا مبايعتهم. ثم نكبه ابن أبي العافية سنة 309 واخرجه عن فاس. وسجنه سنين ثم سرحه. فقصد المشرق. ومات بافريقية سنة 332 جائعا غريبا! واستولى من بعده الحسن بن محمد بن القاسم على فاس سنة 310 وحارب موسى. فغلبه عليها بعد سنة. ونكبه ومات منكوبا سنة 313. وقد كان عدد الادارسة كثيرا. ولكن لم يكن بينهم نزاع على الامامة. ولشهرة ايمتهم في كتب التاريخ وكون مركزهم وأهم آثارهم خارج الجزائر موضوع كتابنا نكتفي عن التعريف بهم برسم جدول لبيان مدتهم.

4 - العلويون بالمغرب الاوسط

4 - العلويون بالمغرب الاوسط كان المغرب الأوسط لزناتة. وسيادتها لقبيلتين منها هما مغراوة ويفرن. وموطنهما نوحي تلمسان الى وهران الى شلف شمالا وغريس من ناحية المعسكر جنوبا. ورئاسة مغراوة كانت صدر الاسلام لصولات بن وزمار ثم ابنه حفص، وكان من أعظم ملوك زناتة، وخلفه ابنه خزر، ولعهده كان المغرب ثائرا على بني أمية، فاعتز بقومه، وعظم شأنه، وهلك في بداية الدولة العباسية، فخلفه ابنه محمد، وعلى عهده ظهر ادريس. لما أسس ادريس دولته بالمغرب الاقصى توجه نحو المغرب الاوسط كي يفتح لدولته طريقا الى المشرق وما زال المشرق حتى اليوم قبلة آمال الدول وميدان تطاحن الاقوياء منها. فزحف منتصف رجب سنة 173 في جموع مطغرة وغيرهم. ونزل على تلمسان. وصاحبها يومئذ محمد بن خزر. فأطاعه وسلم له المدينة. فدخلها من غير حرب. واقام بها أشهرا. بنى بها المسجد الاعظم. وكتب على منبره: "بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أمر به الامام ادريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن رضي الله عنهم. وذلك في صفر سنة 174"، قال ابن خلدون: "ولم يزل اسمه محفوظا في صفح المنبر لهذا العهد". أخذت زناتة بدعوة ادريس وتبعتها مغيلة. وحاربوا لها الرستميين وغيرهم. وقامت قيامة هرون الرشيد لما بلغه خبره. وقال: "تلمسان باب افريقية. ومن ملك الباب يوشك ان يلج الدار". فأوعز الى أمراء القيروان بحربه. فحاربه روح بن حاتم من غير طائل وهم بعده الفضل ابن روح بحرب المغرب الادريسي. فلم يطعه الجند. وكثر تمرد الجند على الامراء. واستشار الرشيد وزيره

يحي البرمكي. فأشار عليه بارسال داهية يتحيل في اغتيال ادريس. فاختار الشماخ الذي تحيل حتى توصل الى سم ادريس. "ورب حيلة أنفع من قبيلة". ولحق بادريس اخوه سليمان. وكان ممن حضر وقعة فخ ونجا على الصحيح. قال البكري: "قال علي النوفلي أخبرني عيسى بن جنون قاضي ارشقول لادريس بن عيسى (من بني سليمان)، ودخل الاندلس غازيا، ان سليمان بن عبد الله دخل المغرب أيضا. ونزل تلمسان". وقال ابن خلدون: "لحق سليمان بجهات تاهرت بعد مهلك ادريس. فطلب الامر هنالك واستنكره البرابرة. وطلبه ولاة الاغالبة. فكان في طلبهم تصحيح نسبه (لدى البربر) ولحق بتلمسان. فملكها واذعنت له زناتة وسائر قبائل البربر هناك". ولما هلك سليمان خلفه ابنه محمد. وكبر ابن عمه ادريس الاصغر. فانصلت ايديهما. ونهض ادريس الى تلمسان سنة 199 وحارب المخالفين عليه من نفزة وبقية الصفرية. وبلغ شلفا وما وراءه الى بلاد صنهاجة. وألفى جامع والده قد انصدع فرممه. وأصلح منبره. نقل ابن أبي زرع عن عبد الملك الوراق انه قال: "دخلت تلمسان سنة 255 فرايت في رأس منبرها لوحا من بقية منبر قديم قد سمر عليه هنالك مكتوبا فيه: هذا ما أمر به الامام ادريس بن ادريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي رضي الله عنهم في شهر المحرم سنة 199". أقام ادريس بتلمسان ثلاث سنوات. ثم اصطلح مع ابن الاغلب وعينت الحدود بينهما بوادي شلف. وعقد على المغرب الاوسط لابن عمه محمد بن سليمان. وكر راجعا الى عاصمته. واستقر محمد بعين

الحوت من ناحية تلمسان. وتوفي بجبل وهران. وترك ابناء اقتسموا مملكته. وسنفرد لممالكهم فصلا. وافلت من وقعة فخ ايضا داوود بن القاسم بن اسحق بن عبد الله بن جعفر بن الحسن بن الحسن بن علي بن ابي طالب. ولحق ببني عمه بالمغرب. وحضر مع ادريس الاصغر بعض وقائعه مع الخوارج. قال البكري: "وانصرف داوود الى المشرق. وبقيت ذريته بفاس. وبنو ادريس يناكحونهم". ومن بني جعفر هذا اخي عبد الله الكامل رجال نزلوا متيجة وملكوها. ولحق بالمغرب ايضا من العلويين الحسن بن سليمان بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. ونزل مدينة هاز القريبة من المسيلة. وكانت له من تلك الجهات مملكة. قال البكري: "وكان له من البنين حمزة وعبد الله وابراهيم واحمد ومحمد والقاسم. وكلهم أعقب وعقبهم هنالك". واذا نظرنا الى الممالك العلوية من بني محمد بن سليمان وبني جعفر وبني الحسن الفروع الثلاثة التي نزلت المغرب الاوسط وجدناها تمتد على السواحل من أرض الريف غربا الى أرض الحضنة من عمالة قسنطينة شرقا. وغرضنا الآن معرفة مملكتي هاز ومتيجة. 1 - مملكة هاز: تمتد من ناحية البويرة على مقربة من جبال جرجرة الى نواحي زاغز الشرقي الى نواحي قصر البخاري فتشتمل على سهل حمزة الفسيح. وبهذه الجهة من القرى اليوم عين بسام وسور الغزلان وسيدي عيسى وغيرها. وسمي سهل حمزة بحمزة بن الحسن صاحب هاز. والبويرة

كانت تسمى سوق حمزة لانه الباني لها. قال البكري: "وسوق حمزة مدينة عليها سور وخندق. وبها آبار عذبة. وهي لصنهاجة. نزلها حمزة بن الحسن وبناها". واستمرت مملكة هاز لبني الحسن حتى ظهرت دعوة الشيعة وأخذ بها زيري بن مناد الصنهاجي. فاجلب على مدينة هاز وخربها. وفي أيام المعز بن المنصور اجلب قائده جوهر على هذه المملكة وقضى عليها قال ابن خلدون: "وحمل بني حمزة منهم الى القيروان. وبقيت منهم بقايا في الجبال والاطراف معروفون هنالك عند البربر". ومدينة هاز ذكرها البكري فيما بين المسيلة وتاهرت. قال: "مدينة هاز على نهر شتوي. وهي خالية أجلى أهلها زيري بن مناد الصنهاجي، ومنها الى بورة على نهر جار يسكن حوله بنو يرناتن. وهم كانوا أصحاب هاز. وبورة كثيرة العقارب. وبها سويقة. ومنها الى حصن موزية. وبقرب هذا الحصن قصر من بنيان الاول بالصخر يعرف بقصر العطش حوله ماء ملح ومدينة عظيمة للاول ايضا خالية مبنية بالصخر يعرف بالجليل تسمى مدينة الرمانة تنفجر تحتها عيون ثرة طيبة تسيل الى المسيلة ومدينة للاول ايضا خالية تسمى بالبربرية تاورست تفسيره الحمراء وهي مبنية بالصخر على نهر عذب. ومن حصن موزية الى مدينة المسيلة". وقال اليعقوبي ان سكان مدينة هاز هم بنو يرنيان من زناتة خلاف قول البكري انهم بنو يرناتن. وذكر الادريسي مدينة هاز بين المسيلة واشير فقال: "ومن أشير زيري الى قرية سعيد مرحلة. وبها عين ماء جارية. ومنها الى قرية هاز في فحص رمل مرحلة وبها عيون مياه. وقد خربت. ومنها الى المسيلة مرحلة" وبورة بكسر الواو. تدعى اليوم بورة الصحاري

5 - ممالك بنى محمد بن سليمان

قريبة من شط زاغر الشرقي. وهاز بينها وبين اشير. فتكون نواحي عين بوسيف. 2 - مملكة متيجة: متيجة سهل فسيح قرب مدينة الجزائر. يفصل بينه وبين سهل حمزة جبال تيطري. قال اليعقوبي: "وهو بلد زرع وعمارة واسع فيه عدة مدن وحصون. تغلب فيه رجال من ولد الحسن بن علي ابن ابي طالب. يقال لهم بنو محمد بن جعفر". ولم نعلم أكثر من هذا عن اصحاب هذه المملكة. ولكن من الضروري انهم سلكوا سبيل أخوانهم بعد ظهور الشيعة. وسهل متيجة سمي بمدينته التي كانت فيه. ويقال لها أيضا قزرونة. وتدعى اليوم البليدة. قال البكري: "ومن المدية الى قزرونة وهي مدينة على نهر كبير عليه الارحاء والبساتين. ويقال لها متيجة. ولها مزارع ومسارح. وهي اكثر تلك النواحي كتانا. ومنها يحمل. وفيها عيون سائحة وطواحين ماء. ومنها الى مدينة آغزر ومنها الى مدينة جزائر بني مزغني". 5 - ممالك بنى محمد بن سليمان نقل ابن خلدون عن ابن حزم: "ان بني محمد بن سليمان بالمغرب كثير جدا. وكان لهم به ممالك. وقد بطل جميعها. ولم يبق منهم بها رئيس". وقد بين اليعقوبي هذه الممالك فقال: "متيجة مدينة مدكرة فيها ولد محمد بن سليمان. ومدينة الخضراء. ويتصل بهذه مدن كثيرة وحصون وقرى ومزارع. يتغلب على هذا البلد ولد محمد بن سليمان كل رجل منهم مقيم متحصن في مدينة وناحية. وعددهم كثير

حتى ان البلد يعرف بهم وينسب اليهم. وآخر المدن التي في أيديهم سوق ابراهيم. وهي المدينة المشهورة. فيها رجل يقال له عيسى ابن ابراهيم بن محمد بن سليمان. ثم من هذه الى تاهرت .. " ثم من مملكة ابن مسالة الهواري الى مملكة لبني محمد بن سليمان ايضا. ومسكنهم في المدينة العظمى ثمطلاس. وأهل هذه المملكة من قبائل البربر المتعددة أكثرهم مطماطة. وهم بطون كثيرة، ولهم في مملكتهم مدينة عظيمة يقال لها أبروح (¬1) بها بعضهم (يعني بني محمد) وأهلها مطماطة، ومدينة أيضا يملكها رجل منهم (بني محمد) يقال له عبد الله، تسمي المدينة الحسنة اذا فسرت من لسان البربر الى العربية". " ثم الى المدينة العظمى المشهورة تلمسان، ينزلها منهم محمد ابن القاسم بن محمد بن سليمان، ثم مدينة العلويين، كانت لولد محمد بن سليمان، ثم تركوها، فسكنها رجل من ابناء ملوك زناتة يقال له علي بن حامد الزناتي، ثم منها الى مدينة يقال لها نمالتة (¬2) فيها محمد بن علي بن محمد بن سليمان، وآخر مملكة بني محمد مدينة فالوسن وتليهم مملكة صالح بن سعيد الحميري". مملكة صالح بن سعيد هي بلد نكور من وطن الريف على البحر في غربيها مرسى بادس، فتكون ممالك بني محمد بن سليمان تمتد من هناك غربي مدينة مليلة وتذهب مساحلة مشرقة الى ان تنقطع نواحي مستغانم بامارة هوارة، ثم تعود بناحية تنس وتذهب جنوب شلف الى مليانة وتنتهي بمتيجة. ¬

_ (¬1) كذا غير معجمة. ولم نهتد الى لفظها. (¬2) ذكرها الادريسي بلفظ ثمالة. فقال: من فاس الى نهر سبو. ويمر الطريق منه الى تمالة مرحلة. وهي قبل وادي ملوية غربا. وذكر ابن خلدون في بطون زناتة نمالة. ولم يعين موطنهم.

وذكر التنسي وغيره ان محمد بن سليمان ترك من الابناء أحمد وعيسى وادريس وعليا وابراهيم وحسنا وعبيد الله وعبد الله العالم المحدث، وظاهر اليعقوبي ان منهم القاسم الذي خلفه ابنه محمد بتلمسان، وابن خلدون والتنسي وغيرهما يقولون ان الذي كان بتلمسان من ابناء محمد هو احمد وهو ولي عهده، فخلفه بها بعد وفاته، ثم توفى احمد فخلفه ابنه محمد، ثم خلف محمدا ابنه القاسم، وعليه انقرض ملك هذا الفرع. وعلي ظاهر اليعقوبي انه كان بمدينة نمالتة، وخلفه بها ابنه محمد، ولم نعلم عن هذا الفرع أكثر من هذا. وعيسى كان بأرشقول، وطالت مدته الى ان توفي سنة 295 فخلفه ابنه ابراهيم، ويعرف بالارشقولي، ثم يحي بن ابراهيم، ثم اخوه ادريس بن ابراهيم، وظهرت عليه دولة العبيديين. وادريس كان بجراوة جنوب مليلة شرقي نكور، وتزوج ابنه احمدام السعد بنت صالح بن سعيد، وسكن معها مدينة نكور الى ان مات، وله ابن آخر يدعى عبد الله الترناني كان بترنانا، والذي خلفه على جراوة من ابنائه وهو ابو العيش عيسى فلما هلك خلفه ابنه الحسن، ولعهده كانت دولة العبيديين. قال البكري: "وكان لابي العيش ومن خلفه مدينة تلمسان ايضا وما والاها". فيظهر انه استولى على عمل ابناء عمه احمد قبل ظهور العبيديين، ومدح ابا العيش بكر بن حماد التاهرتي، قال من كلمة طويلة: سائل زواغة عن فعال سيوفه … ورماحه في العارض المتهلل وديار نفزة كيف داس حريمها … والخيل تمرغ بالوشيج الذبل عمت مغيلة بالسيوف مذلة … وسقى جراوة من نقيع الحنظل وهذه القبائل كانت مساكنها هنالك.

وابراهيم ظاهر اليعقوبي انه كان بسوق ابراهيم، وخلفه بها ابنه عيسى، فتكون المدينة منسوبة اليه، وقال غيره: "كان ابراهيم بتنس وخلفه ابنه محمد ثم يحيى بن محمد ثم علي بن يحي، ولابراهيم ولد آخر يدعى عيسى كان مع أخيه محمد بتنس، ومن ولده ابراهيم المنسوب اليه سوق ابراهيم "، وما لليعبقوبي هو الظاهر لان سوق ابراهيم كانت اعمر من تنس. وحسن. قال التنسي كان بتاهرت، وظاهر انه أراد ناحيتها، ولا نعلم أي مدينة كان فيها، وخلفه ابنه حناش ثم بطاش بن حناش، ولا نعلم عن هذا الفرع أكثر من هذا كما انا لم نعلم شيئا عن الاخوين الباقيين وهما عبيد الله وعبد الله. وقد رأينا ان نشرح من الحال المدن السابقة مما عثرنا عيله ما يبين الموقع والاهمية تاركين الحديث عن المراسي الممتدة شمال هذه الممالك مثل وهران وعين فروج وقصر الفلوس لكثرتها وطول الحديث عنها، فاما مدكرة فلم نجد لها ذكرا ولا ما يقارب لفظها غير كلمة زكار اسم جبل مليانة فان لم تكن مدكرة هي مليانة فقريبة منها، قال البكري: " تسير من سوق كرام الى مليانة، وهي مدينة رومية فيها آثار وهي ذات أشجار وانهار تطحن عليها الارحاء، جددها زيري بن مناد واسكنها ابنه بلقين (خليفة العبيديين بالقيروان) وهي عامرة، ومنها الى مدينة الخصراء، وهي مدينة كبيرة على نهر خرار عليه الارحاء، واذا حمل دخل المدينة، وحولها بساتين كثيرة، ويكتنفها من قبائل البربر مدغرة وبنو دمر ومديونة وبنو واريفن، ومنها الى مدينة بني واريف، وهي قديمة، لمطغرة، على نهر شلف، بها حوانيت، وحولها مسارح واسعة كثيرة الكلأ، ومنها الى مدينة قارية، ووهي مدينة لطيفة ذات أعين كثيرة وهي في سفح جبل. ومنها الى مدينة تنس "

هذه طريق اشير الى تنس. وهناك طريق أخرى قال فيها البكري: "وان أردت طريق الساحل من تنس الى اشير زيري فمن تنس الى بني جليداسن مدينة لطايفة لمطغرة يسكنها الاندلسيون والقرويون ولا يدخلها برقجاني من وقت غدرهم بها وهي بلدة طيبة بها عيون عذبة. وهي مطلة على فحص شلف. وهناك مدينة شلف على نهر بها سوق عامرة. تعرف بشلف بني واطيل لزواغة. ومنها الى بني واريفن". وذكر طريقا أخرى بين القيروان وتنس. فقال: "من القيروان الى مدينة الغزة على ما تقدم. ثم منها الى مدينة تاجنة، وهي مدينة سهلية آهلة عليها سور. وبها جامع، سكانها برقجانة. وحولها كزناية، ومنها الى تنس". ومدينة الغزة هي المعروفة اليوم بغليزان. وتاجنة هي التي سماها الادريسي بلدة التين لكثرة شجره بها. وذكرها على مرحلة من تنس. وذكر سوق ابراهيم متوسطة بين الغزة وبلدة التين. وسوق ابراهيم حيث مصب نهر اسلي في شلف. وتنس هي قرطنة الفينيقية: وقد خربت قديما. وانتقلت العمارة الى تنس الحديثة. قال البكري: "بينها وبين البحر ميلان. وهي مسورة حصينة. داخلها قلعة صغيرة صعبة المرتقى. ينفرد بسكناها العمال لحصانتها. وبها مسجد جامع واسواق كثيرة. وهي على نهر يسمى تناتين ياتيها من جبال على مسيرة يوم. ياتيها من القبلة. ويستدير بها من جهة الجوف والشق. ويريق في البحر. وبها حمامات. وهذه تنس الحديثة اسسها البحريون من أهل الاندلس منهم الكركرني وابو عائشة والصقر وصهيب وغيرهم. وذلك سنة 262 ويسكنها من أهل الأندلس أهل البيرة وأهل تدمير. واصحاب تنس

من ولد ابراهيم بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن حسن بن حسن ابن علي (ض). " وكان هؤلاء البحريون من أهل الاندلس يشتون هنالك: اذا سافروا من الاندلس، في مرسى على ساحل البحر، فتجمع اليهم بربر ذلك القطر ورغبوا في الانتقال الى قلعة تنس، وسألوهم أن يتخذوها سوقا ويجعلوها سكنى، ووعدوهم بالعون والرفق وحسن المجاورة والعشرة، فأجابوهم وانتقلوا الى القلعة، وخيموا بها، وانتقل اليهم من جاورهم من أهل الاندلس وغيرهم، فلما دخل عليهم الربيع اعتلوا واستوبؤا الموضع، فركب البحريون الاندلسيون مراكبهم واظهروا لمن بقي منهم انهم يمتارون، فنزلوا مرية بجاية وتغلبوا عليها". ثم ان الباقين في تنس لم يزالوا في تزايد ثروة وعدد، ورحل اليهم أهل سوق ابراهيم، وكانوا في أربعماية بيت، فتوسع لهم أهل تنس في منازلهم وشاركوهم في أموالهم، وتعاونوا على البنيان. واتخذوا الحصن الذي فيها اليوم". " ولها بابان الى القبلة وباب البحر. وباب ابن ناصح وباب الخوخة شرقي يخرج منه الى عين تعرف بعين عبد السلام ثرة عذبة". ومدينة العلويين ذكرها الادريسي في طريق فاس على مرحلة من تلمسان. قال:، وهي قرية كبيرة على نهر ياتيها من القبلة وفواكهها فاضلة وخيراتها شاملة". ومدينه ترنانا وسط بين مدينتي جراوة وتلمسان، قال البكري: "وهي مدينة مسورة، ولها سوق ومسجد جامع، وبساتين كثيرة. وبينها وبين ندرومة ثمانية أميال".

وارشقول مؤسسة مكان صيغة القديمة، قال البكري: "وهي على نهر تافنا يقبل من قبليها ويستدير بشرقيها تدخل منه الى المدينة السفن اللطاف من البحر. وبينهما ميلان، وهي مسورة وبها جامع حسن فيه سبعة بلاطات، وفي صحنه جب كبير، وصومعة متقنة البناء، وفيها حمامان احدهما قديم، ولها من الابواب باب الفتوح غربي وباب الامير قبلي وباب مرنيسة شرقي، محنية كلها عليها منافس، وسعة سورها ثمانية أشبار، وامنع جهاتها جوفيها، وبها آبار عذبة لا تغور. تقوم باهلها ومواشيهم، ولها ربض من جهة القبلة، ويقابلها جزيرة في البحر تسمى جزيرة أرشقول، بينها وبين البر قدر صوت رجل جهير في سكون البحر، وهي مستطيلة من القبلة الى الجوف عالية منيفة". وجراوة سميت باسم قبيلة بربرية من زناتة كانت هناك، وهي على ستة أميال من البحر وعلى مرحلة من وادي ملوية الى ناحية تلمسان قال البكري. " وهي في سهل من الارض كان عليها سور مبني بالطوب، وداخلها قصبة، وحولها ارباض من جميع جهاتها وعيون ملحة، وداخلها آبار عذبة وخمس حمامات احدها ينسب الى عمرو بن العاص، وجامع من خمسة بلاطات على عمدة حجارة. أسسها ابو العيش عيسى بن ادريس بن محمد بن سليمان سنة 259 وكان لها بابان شرقيان وثالث غربي ورابع جوفي، وحواليها بسائط عريضة للزرع والضرع وعدة قرى لقبائل من البربر: مطغرة وبني يفرن وودانة ويغمر الجبل وبني راسين وبني باداسن وبني ورميش وغيرهم. ولجراوة مرسى تافرجينت. وجبل مما لوا قبلي المدينة به حصن بناه الحسن ابن العيش. حواليه بساتين ومياه تطرد. وبينه وبين جراوة اربعة اميال ويتصل بالحصن اسفل الجبل شعاري اشبة لا تسلك"، اهـ ببعض تصرف.

6 - سقوط الدولة الادريسية

6 - سقوط الدولة الادريسية تأسست الدوللة الإدريسية سنة 172 (788م) وانتهت بالقبض على الحسن الحجام سنة 311 (923 م) فكانت مدتها 139 سنة قمرية ومملكة الادارسة واسعة النطاق تشتمل على المغرب الاقصى أجمع وبعض المغرب الأوسط. وبها حصون طبيعية ومعاقل ممتعنة. ولكن سهل سقوطها في يد العبيديين اشتمالها على ضعفين سياسي وإداري. ذلك أن الأدارسة بقوا تلك المدة في الملك من غير مزاحم ولم يعتنوا بتهذيب البربر تهذيبا يحبب إليهم النظام ويكره اليهم الفوضى. بل إن البربر لم يزالوا على حالتهم يتششوقون لمن يقودهم الى الثورة عسى انت يقضوا بعض الزمان في الفوضى فما كادت تظهر دعوة العبيديين حتى هرعوا اليها. ولقبيلة مكناسة وأميرها موسى بن ابي العافية اليد الطولى في اعانة العبيديين على الادريسيين. وكان النظام الاداري على ما علمت قد فكك وحدة الدولة الحربية وذهب بقوتها المالية. فلم تجد ما تدافع به ذلك الخطب الداهم. ولانفصال أعمال المملكة بعضها عن بعض اداريا لم تسقط كل الاعمال بسقوط فاس. فان الجزائر العلوية بقيت بعدها مدة. لما ظهرت دعوة العبيديين بالمغرب وقضت على الدعوة الادريسية زاحمتها الدعوة الاموية فافتتح عبد الرحمن الناصر مليلة سنة 314 وبث دعاته بالمغرب. فلباه ادريس بن ابراهيم صاحب أرشقول. وكاتبه واهدى اليه. واقتفي أثره في ذلك الحسن بن ابي العيش صاحب جراوة وموسى بن ابي العافية ومحمد بن خزر المغراوي فنازلتهم جيوش العبديين. فخضع لهم صاحبا جراوة وأرشقول خضوع من عجز عن المقاومة. وكلف الناصر بحربهما موسى بن ابي العافية. فوقعا بين قوتين اوجبتا تلونهما في السياسة.

في سنة 315 بعث عبيد الله المهدي ابنه أبا القاسم لاخضاع المغرب. فافتتح بلد نكور. ونازل الحسن صاحب جراوة وضيق عليه وفي سنة 319 زحف موسى بن ابي العافية بدعوة العبيديين الى تلمسان وغلب عليها الحسن. قال ابن خلدون: "ففر عنها الى مليلة. وبني حصنا لامتناعه بناحية نكور. فحاصره (موسى) مدة. ثم عقد له سلما على حصنه" قال السلوي: "وكان عقد السلم في شعبان سنة عشرين وثلاثمائة". وفي هذه السنة أخذ موسى بدعوة الناصر الاموي. وفي سنة 33 جهز أبو القاسم بن المهدي عسكرين أحدهما إلى فاس بقيادة ميسور الخصي. والآخر ارسله مددا لميسور بقيادة صندل الفتى الاسود. قال البكري: "فخرج صندل من المهدية في جمادى الاخيرة سنه 323 فوصل جراوة الحسن بن أبي العيش فاستراح بها أياما". وقال ابن خلدون: ان صندلا حاصر جراوة. فعلى روايته يكون الحسن غير خاضع للعبيديين يومئد. وعلى رواية البكري يكون خاضعا لهم. وهي أصوب. ولما أفتتح ميسور فاسا حارب ابن ابي العافية وهزمه. وقفل الى القيروان. فعرج على ارشقول. وخرج اليه صاحبها ادريس ابن ابراهيم ملاطفا له بالتحف فاستراب به. وتقبض عليه واصطلم نعته. كذا في ابن خلدون. وفي البكري أن المتقبض عليه أخوه يحيى. قال ابن خلدون. وولي مكانه ابا العيش بن عيسى منهم. والظاهر أن في العبارة حذفا وتحريفا. وصوبها: ولي مكانه الحسن ابن ابي العيش عيسى. وهذا الحسن هو صاحب جراوة. وقد كان يومئذ آخذا بدعوة العبيديين. فلعلهم أضافوا له أرشقول أيضا. ولما عاد ميسور الى افريقية رجع موسى بن ابي العافية للإغارة

على اعمال العبيديين. قال ابن خلدون. "وزحف الى تلمسان. ففر عنها ابو العيش. واعتصم بارشقول. فنازله وغلبه عليها سنة 25 ولحق ابو العيش بنكور. واعتصم بالقلعة التي بناها هنالك لنفسه .. ثم سرح (موسى) ابنه مدين في العساكر. فحاصر ابا العباس بالقلعة حتى عقد له السلم عليها". ولفظ ابي العباس وابي العيش محرفان. وصوابهما الحسن بن ابي العيش. وتلك القلعة هي الحصن الذي تقدم ان الحسن بناه بناحية نكور. وهو الحصن الذي ذكره البكري بجبل ممالوا. قال البكري: "وفي الحصن المذكور اسر البوري بن موسى بن ابي العافية الحسن بن ابي العيش سنة 338 وكان قد انتقل اليه من جراوة باهله وماله وولده". ويؤيد اتحاد الحصن وصاحبه قول ابن خلدون في اخبار الادارسة: "لما أخذ ابن ابي العافية بدعوة الاموية نابذ اولياء الشيعة فحاصر صاحب جراوة الحسن بن ابي العيش وغلبه على جراوة. فلحق بابن عمه ادريس بن ابراهيم صاحب ارشقول ثم حاصرها البوري بن موسى بن ابي العافية. وغلب عليهما. وبعت بهما الى الناصر. فأسكنهما قرطبة". ولما ذكر البكري جزيرة أرشقول قال: "واليها لجأ الحسن بن عيسى أبي العيش صاحب جراوة وتخلى مما كان بيده لما غلبه على ذلك موسى بن ابي العافية .. فكتب موسى الى صاحب الأندلس عبد الرحمن الناصر يسأله نصرته عليه ويقرب له المأخذ .. فأمر عبد الرحمن أهل بجانة وغيرهم من أهل السواحل بإقامة خمسة عشر مركبا حربية. ثم جهزها بالرجال والسلاح والازودة والاموال. فاحاطت بهذه الجزيرة. وقتلوا كثيرا ممن كان فيها وحاصروهم حتى كادوا يهلكون عطشا لما نفدت مياه جبابهم حتى تداركهم الله بغيث وابل فلم يطمع فيهم أهل الأسطول حين سقوا وانصرفوا قافلين فوصلوا الى المرية في شهر رمضان سنة عشرين وثلاثمائة. ثم ظفر البوري بن

موسى بن ابي العافية بالحسن بن عيسى الذي لجأ الى أرشقول وبعث به الى عبد الرحمن الناصر سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة". وفي تاريخه وصول الاسطول الى المرية نظر فقد تقدم ان موسى حارب الحسن باسم العبيديين وعقد له السلم سنة عشرين ثم حاربه سنة خمس وعشرين باسم الامويين. وبعد فقد بذلنا الوسع لجمع الروايات وتمحيصها فيما يتعلق بأخبار صاحبي أرشقول وجراوة مع العبيديين والامويين. (¬1) فلم نستطع أن نفيد القارئ باكثر مما وضعناه بين يديه. اما صاحب تنس علي بن يحي فقد تأخر سقوط امارته الى سنة 342 ففيها تغلب زيري بن مناد على تنس ولحق علي بن يحي بالخير بن محمد بن خزر المغراوي صاحب وهران يومئذ. واجاز ابنا علي يحي وحمزة الى الناصر. فلقاهما رحبا وتكرمة. ثم عاد يحي منهما الى طلب تنس فلم يظفر بها. وجواز ابني علي الى الاندلس يدل على ان اباهما كان آخذا بالدعوة الاموية مثل ابن عمه صاحب ارشقول. هكذا انتهى أمر بني سليمان من الجزائر وسقطت معهم الجزائر العلوية بعد نحو نصف قرن من سقوط فاس. ¬

_ (¬1) التقطنا تلك الاخبار من المغرب للبكري صفحات 78، 98، 142 - 143 ومن ابن خلدون (4: 17 - 18، 39، 141) 6: 135 - 6، 213 (7: 76)

الباب الرابع في الدولة الاغلبية

الباب الرابع في الدولة الاغلبية

1 - كلمة عن الدولة العباسية

1 - كلمة عن الدولة العباسية الدولة الاغلبية مرتبطة بالدولة العباسية وجزء من أجزائها. تستمد من أنظمتها ومعارفها وحضارتها. فلا بد من كلمة عن الدولة العباسية تعيننا بعض الاعانة على تصور الدولة الاغلبية. بعد عراك شديد بين الامويين والعباسيين ظهر العباسيون. وبويع بالكوفة ابو العباس السفاح بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطالب. وذلك سنة 132 (750 م) وجاء بعده أخوه المنصور. فأسس بغداد سنة 145 (762 م) وانتقل مركز الخلافة اليها فلم تزل دار الخلافة العباسية وقبلة آمال رواد المعارف ومصدر الحضارة الاسلامية حتى استولى عليها التتر وقتلوا المستعصم آخر خلفاء العباسيين بها سنة 656 (1258). اجتازت الخلافة ببغداد ثلاثة أدوار: دور الصعود والعظمة (132 - 247) انتهى بقتل جعفر المتوكل سنة 247، دور الهبوط الى دخول معز الدولة بن بويه بغداد على عهد المستكفي سنة 334 حيث قضى على ما بقي للخلفاء من نفوذ سياسي، ويومئذ دخلت الخلافة دورا ثالثا أصبحت فيه عبارة عن ذكر الخليفة في السكة والخطبة. وقالوا أنها صارت رئاسة دينية. ولكنها - عندي- رئاسة وهمية اخترعها السلاطين المتغلبون على الخلافة تعزيزا لمركزهم لا تقوية للخلافة اذ حياة الخليفة في هذا الدور تحت رحمة السلاطين. فكيف يعقل له نفوذ ديني؟ وقد تأسست الدولة الاغلبية في شباب الدور الاول حيث عني

2 - تأسيس الدولة الاغلبية

الخلفاء بتنظيم شؤن الدولة واحداث المناصب وضبطها في الحكومة. فنقلوا الدولة من بساطة الخلافة وسذاجتها الى ضخامة الملك ودقة نظمه، وعنوا كذلك بالعلوم والآداب وترقية المدارك عناية لم يسبقوا بها ولا حاكاهم من بعدهم فيها. ترجموا علوم اليونان وآداب الفرس وحكمة الهند، وبذلوا في ذلك الاموال وقربوا أهل العلم ايا كان جنسهم ودينهم، وأسسوا المكاتب والمدارس، فانطلقت الافكار متسابقة في ميدان الابتكار. فانتشرت العلوم والمعارف وترقت الآداب ولطفت الاذواق، وعم التهذيب الافكار والاعمال من انشاء وتحرير وبناء وتزويق وغناء وتوقيع وهلم جرا. قال سديو في كتابه "خلاصة تاريخ العرب": "وأظهر ذوو الفنون الميكانيكية تقدمات يشهد بها ما بعثه الرشيد الى شرلمانية ملك الفرنسيس من الساعة الكبيرة الدقاقة التي تعجب منها أهل ديوانه ولم يمكهم معرفة كيفية تركيب عدتها". وأظهر خلفاء الدور الاول عناية بالعلوم والحضارة ابو جعفر المنصور وهارون الرشيد وعبد الله المأمون، وجاراهم في عنايتهم من بعدم من الخلفاء وقلدهم فيها ولاتهم بالجهات مثل الاغالبة، ولعل تلك الساعة الدقاقة انما اجتازت الى فرنسا على طريق القيروان. ولما اخذت الدولة في السقوط السياسي كانت العلوم والآداب والصنائع والفنون الجميلة قد نضجت وأصبحت الامة قادرة على القيام بها متعشقة لها، فلم يضرها ما أصاب الدولة من خلل بل بقيت في سيرها الى الامام تخدمها الايام. 2 - تأسيس الدولة الاغلبية كان المغرب لعهد تاسيس الدولة العباسية يضطرب فتنة، فلما

كانت خلافة ابي جعفر المنصور اهتم به، فولى عليه محمد بن اللاشعث الخزاعي، وكان الاغلب بن سالم الثميمي بخراسان من اضراب ابي مسلم الخراساني وكبار أولياء الدولة. فقدم المغرب مع ابن الاشعث، وكان الزاب هو طريق ثوار المغرب الاوسط الى افريقية فلما خلصت افريقية لابن الأشعث ولى الاغلب على الزاب كي يكون سدا في وجوه الثوار، فنزل قاعدته طبنة. وفي سنة 148 عاد ابن الاشعث الى المشرق فقلد المنصور الاغلب امارة المغرب، فانتقل الى القيروان، وقتل في بعض مواقفه مع الثوار سنة 150 وصارت الامارة الى آل ابي صفوة الازديين، وكان من ولاة طبنة أيامهم المخارق بن غفار الطائي ثم المهلب بن يزيد من آل المهلب ابن صفرة ثم ابراهيم بن الاغلب، وانقضت امارة آل ابي صفرة وولي الامر هرثمة ابن أعين. قدم هرثمة القيروان سنة 177 فهاداه ابراهيم بن الاغلب ولاطفه فاقره على عمله بطبنة، فبقي عاملا له ولمحمد ابن مقاتل العكي من بعده، وثار الناس بابن مقاتل واخرجوه من القيروان، فبلغ الخبر ابراهيم بن الاغلب فسار في جنوده ودخل القيروان واعاد اليها أميره العكي، ولكن الناس سئموا سيرته، وداخلوا ابراهيم في مخاطبة الخليفة بولايته على المغرب. هناك أتيحت لابراهيم فرصة الاستقلال فانتهزها، وكتب الى الرشيد طالبا منه امارة القيروان على ان يؤدي اليه كل عام اربعين الفا ويسقط مائة الف دينار كانت مصر تعين بها المغرب، فاستشار الرشيد اصحابه، فاشار عليه هرثمة بولايته. فكتب العهد له بذلك منتصف سنة 184 (800م). ولقد كان الرشيد حريصا على بقاء المغرب متصلا بدولته، وقد

3 - الحكومة الاغلبية

علم ضعف الامراء السابقين عن مقاومة ثواره، فكان يوالي شرلمانية ملك الافرنج كي يتخذ منه سدا أروبيا في وجوه بني أمية، ثم أقام ابن الاغلب سدا افريقيا في وجوه تلك الدول المستحدثة بالمغرب، فكان رشيدا في سياسته كما كان ابن الاغلب كفؤا لامارة القيروان. 3 - الحكومة الاغلبية الحكومة الاغلبية تابعة لبني العباس اسما ومستقلة فعلا، واستفاد العباسيون من هذا الارتباط فائدة ادبية هي رسوخ سيادتهم في قلوب البربر رسوخا عجز العبيديون عن محاربته وظهرت آثاره ايام المعز الصنهاجي. واستفاد الاغالبة من ذلك فوائد علمية وادارية وسياسية، فاستمدوا من العباسيين معارف ونظما ادارية وقبل البربر والعرب سيادتهم، فلم يلقوا اضطرابات داخلية ولا وقعوا بين هجمات شرقية وغربية. ورئيس الحكومة يلقب الامير، والقضاء مستقل عنه وغير مقيد بمذهب من مذاهب السلف، ولامير وزيران مفوضان قد يصل بهما النفوذ الى الاستبداد عليه، وتحتهما وزراء منهم صاحب الخراج بمعنى وزير المالية اليوم، وصاحب البريد، وقائد الجيش بمعنى وزير الحرب، ومقدم الاسطول بمعنى وزير البحر. ونفوذ الامير يمتد بواسطة عماله على جميع المملكة من طرابلس الى الحضنة والزاب، وهنالك أماكن لا تصل اليها ايدي العمال. ومن الجهات ما تتوارث ولايته اسرة خاصة. والحكومة الاغلبية أقوى حكومات المغرب يومئد على حفط الأمن واحسنها سياسة للرعية. وامراؤها ابقى الامراء آثارا. ومملكتهم

4 - الجزائر الاغلبية

أعلى الممالك حضارة. والتعريف بهؤلاء الامراء خارج عن موضوع كتابنا فنكتفي برسم جدول لتاريخ ولايتهم. الامير .......... الولاية هـ/م .......... الامير .......... الولاية هـ/م ابراهيم بن الاغلب .......... 184/ 800 .......... ابنه زيادة الله الثاني .......... 249/ 863. ابنه ابو العباس عبد الله .......... 196/ 812 .......... أخوه ابو الغرانيق محمد .......... 250/ 864. أخوه زيادة الله الإول .......... 201/ 817 .......... اخوهما ابراهيم .......... 261/ 875. أخوهما أبو عقال الاغلب .......... 223/ 838 .......... ابنه أبو العباس عبد الله .......... 289/ 902. ابنه ابو العباس محمد .......... 226/ 841 .......... ابنه زيادة الله الثالث .......... 290/ 903. ابنه أبو ابراهيم أحمد .......... 242/ 856 .......... وبه انتهت الدولة .......... 296/ 909. 4 - الجزائر الاغلبية ذكر اليعقوبي الزاب. ونسب اليه مدنا منها باغاية وتيجس وميلة وسطيف، وبلزمة ونقاوس وطبنه ومقرة وأدنة. قال: "ومدينة ادنة هي آخر مدن الزاب مما يلي المغرب في آخر عمل بني الاغلب. ولم يتجاوزها المسودة". والمسودة هم العباسيون لان راياتهم سود وشعارهم السواد. وادنة كانت بالحضنة. هذه الرواية الوحيدة التي عينت حدود الجزائر الاغلبية غربا. ويظهر أنها تنتهي جنوبا الى وادي ريغ الى شط الجريد، وشمالا الى نواحي سطيف وميلة. ويخرج عنها شمالا وطن فرجيوة وجبال بني خطاب وبني تليلان الى السكيكدة. وغربا وطن زواوة وصنهاجة. وكان مناد بن منقوش الصنهاجي يقيم الدعوة العباسية ويرجع الى الاغالبة من غير ان يكون لهم عليه نفوذ فعلي. ويظهر ان نفوذ الاغالبة بأوراس ضعيف. وكانوا يشرفون عليه من مدينة باغاية.

وقد رأيت ان الزاب كان يطلق على غالب عمالة قسنطينة اليوم. واختص لعهد ابن خلدون بما هو جنوب أوراس. قال: والجانب الغربي منه قاعدته طولقة، والوسط قاعدته بسكرة، والشرقي قاعدته بادس، ومن مدن الجزائر الاغلبية مجانة وتيفاش وبشرة والغدير. ومجانة تعرف ايضا بمجانة المطاحن وهي على مرحلة شرقي مسكيانة. مدينة قديمة كبيرة عليها سور طوب. وبها جامع وحمامات. وبها مقطع حجارة الارحي ليس على الارض مثله وحولها معادن الفضة والحديد والكحل والرصاص والمرتك بين جبال وشعاب. ومن سكانها السناجرة أصلهم من ديار ربيعة. وهم جند السلطان. هذا ما وصفها به اليعقوبي والبكري. ويطلق اليوم اسم مجانة على سهل غربي برج بوعريريج. وبشرة على ثلاث مراحل من الجريد. قال اليعقوبي: "وهي اعظم مدائن نفزاوة. وبها ينزل العمال". وتيفاش قال البكري: "مدينة اولية شامخة البناء. فيها عيون ومزارع كثيرة. وهي في سفح جبل. وفيها آثار للاول كثيرة". وباغاية مدينة جليلة اولية ذات أنهار وثمار ومزارع ومسارح. ويتصل بناحيتها الغربية بساتين ونهر. وحولها من بقية النواحي ربض كبير. به فنادقها وحماماتها واسواقها. وجامعها داخل الحصن. وبفحصها قبائل مزاتة وضريسة رحالة. وقد خلي الربض زمن الادريسي" وهي بين خنشلة والعين البيضاء. وتيجس من عمل باغاية شمالها. مدينة اولية شامخة البناء كثيرة الكلأ والربيع. عليها سور صخر رومي. ولها ربض. وبها أسواق وجامع وحمام. وحولها من قبائل البربر نفزة وورغروسة وبنو ونمو وكزناية وحمزة من زناتة.

وبلزمة قال اليعقوبي: "أهلها من بني تميم ومواليهم. وقد خالفوا علي ابن الاغلب في هذا الوقت". وسبب خلافهم ان الامير ابراهيم بن ابي ابراهيم اتخذ نحو الالف منهم جندا. ثم أمر بقتلهم. فقتلوا عن آخرهم بعد دفاع. وقال البكري المتأخر عن اليعقوبي: "هو لمزانة حصن قديم في بساط من الارض كثير المزارع والقرى كثير الأنهار والثمار". ونقاوس قال اليعقوبي: "كثيرة العمارة والشجر والثمر، بها قوم من الجند وحولها البربر من أوربة وغيرهم". ومقرة بسكون القاف قال: "لها حصون كثيرة. وأهلها من بني ضبة وغيرهم. وحولها بنو زنداق وغيرهم". قال البكري: "مقرة بلد كبير ذو ثمار وانهار ومزارع". والى مقرة هذه ينسب المقريون الشهيرون بالعلم والادب الذين منهم صاحب نفح الطيب. وادنة اخربها علي بن حمدون صاحب المسيلة سنة 324 وكل من مقرة وادنة في وطن الحضنة. وجاءت في اليعقوبي وياقوت بلفظ اربة (¬1). وطولقة قال البكري: "هي ثلاث مدن كلها عليها أسوار طوب وخنادق. وحولها أنهار. وهي كثيرة البساتين بالزيتون والاعناب والنخيل والشجر وجميع الثمار. احداها يسكنها المولدون والثانية يسكنها اليمن والثالثة يسكنها قيس". وبسكرة بكسر الباء والكاف قال: "كورة فيها مدن كثيرة قاعدتها بسكرة. وهي مدينة كبيرة كثيرة النخل والزيتون واصناف الثمار. عليها سور وخندق. وبها جامع ومساجد كثيرة وحمامات. ¬

_ (¬1) وقد غرنا ذلك فكتبنا ما كتبنا بهامش ص 334 من الجزء الاول.

وحولها بساتين مساحة ستة اميال. ولها ارباض خارج الخندق، وابواب منها باب القبرة وباب الحمام. وسكانها المولدون. وهم على مذهب أهل المدينة. وبها علم كثير". وبادس قال: "على مرحلة شرقي تهوذة. وهي حصنان لهما جامع واسواق وبسائط ومزارع جليلة يزرعون بها الشعير مرتين في العام على مياه سائحة كثيرة". والغدير قريبة من برج بوعريريج. مدينة كبيرة أولية بين جبال. فيها عين ثرة عذبة عليها الارحاء وعين أخرى. وتحتهما عين خرارة تدعى عين مخلد. ومن هناك منبعث نهر سهر. وبها جامع واسواق عامرة وفواكه كثيرة. واسعارها رخيصة. وسكانها هوارة يعتدون في ستين ألفا". وسطيف "مدينة كبيرة جليلة اولية كان عليها سور خربته كتامة مع ابي عبد الله الشيعي. وهي عامرة جامعة كثيرة الاسواق رخيصة الاسعار" قال اليعقوبي: "وبها قوم من بني أسد بن خزيمة عمال من قبل ابن الاغلب" آخرهم علي بن جعفر. وميلة قال اليعقوبي: "مدينة عظيمة جليلة عامرة محصنة لم يلها وال قط، وبها حصن دون حصن. فيه رجل من بني سليم يقال له موسى بن العباس بن عبد الصمد من قبل ابن الاغلب، وسواحل البحر تقرب من هذه المدينة، ولها من المراسي جيجل وقلعة خطاب والسكيكدة وغيرها. وهذا البلد كله عامر كثير الاشجار والثمار، وهم في جبال وعيون". وقال البكري: "خربها المنصور بن بلقين الصنهاجي سنة 378 وأجلى أهلها. وبقيت خرابا ثم عمرت. وعليها اليوم سور صخر. وحولها ربض. وبها جامع واسواق وحمامات. والمياه تطرد حولها.

5 - سقوط الدولة الاغلبية

يسكنها العرب والجند والمولدون، وهي من غرر مدن الزاب ولها باب شرقي، يعرف بباب الروس وعلى مقربة منه جامعها، وهو ملاصق لدار الامازة، وباب جوفي يعرف بباب السفلي، ويليه داخل المدينة عين تعرف بعين أبي السباع مجلوبة تحت الارض من جبل بني ياروت، يشق منها سوقها ساقية، ولها حمامات في ربضها، وبها عين تعرف بعين الحمى يرش منها على المحموم فيبرأ لبركتها وشدة بردها". وينسب اليها علماء كثيرون. واشتهر في عالم الادب ابو عبد الله ابن قاضي ميلة. أورد له قطعا الشريف الغرناطي في شرح مقصورة حازم. ومن روائع شعره قوله: جاءت بعود تناغيه فيتبعها … فانظرعجائب ما يأتي به الشجر غنت على عوده الاطيار مفصحة … رطبا. فلما ذوى غنى به البشر فلا يزال عليه او به طرب … يهيجه الاعجمان الطير والوتر 5 - سقوط الدولة الاغلبية تأسست الدولة الاغلبية سنة 184 وسقطت سنة 269 فمدتها 112 سنة قمرية. وكان سقوطها على يد ابي عبد الله الشيعي. ذلك انه نزل بفرجيوة من أرض كتامة سنة 280 واخذ في تمهيد الامر لعبيد الله المهدي. فارسل الامير ابراهيم الاغلبي الى موسى بن العباس عامله بميلة يستخبره عنه. فهون أمره عليه. ولما اشتد ساعده بكثرة الاتباع ارسل اليه الامير ابراهيم قائلا: "ما حملك على التعرض لسخطي والوثوب على ملكي، فان كنت تبتغي عرض الدنيا منحناك اياه. وان أردت غير ذلك فقد علمت عواقب

من سولت له نفسه ما سولت لك نفسك. وهذا أول كلامي وآخره. فانظر في يومك لغدك". فقال ابو عبد الله للرسول: "قد قلت فاسمع وبلغت فأبلغ. اني لست ممن يروع بالايعاد وفي انصار الدين الذين لا يخشون كثرة انصار الظالمين. وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة. ولا طمع لي فيما عنده. وانما جئت لامر حم". ولم يكن بعد من الامير ابراهيم الا ان خرج غازيا لصقلية سنة 84 وترك مكانه ابنه ابا العباس واوصاه بمسالمة الشيعي وان غلب على افريقية فليلحق بصقلية. وبلغ ابا العباس عن ابنه زيادة الله وما حمله على سجنه، فصانع زيادة الله بعض الخدم على قتل والده وقتله سنة 90 والحرب قائمة بين الاغلبيين والشيعيين بنواحي سطيف. ثم جلس مكان ابيه وقتل كل من يظن فيه منازعته من اخوته وعمومته. وعكف على الملاهي وأهمل أمر الدولة. تلك حال الاسرة الاغلبية في هذا الوقت. أما الجند فكان مؤلفا من عرب وبربر من أهل الشام وخراسان وغير ذلك. وكلهم مأجورون ليست لهم غاية دينية أو غيرة وطنية. وربما ثاروا على الحكومة وخرقوا حجاب هيبتها. فلم يكن لهم من الحماسة والاخلاص ما لاصحاب الشيعي. ولم تعمل الحكومة لبسط نفوذها على جميع المملكة. وكانت هذه السياسة نافعة في قلة الثورات الداخلية حتى لا تشتغل باطفائها عن الجهاد الذي كانت معنية به. لكنها ضارة من حيث ترك السبيل لمن يبث دعاية ضد الحكومة ويفسد عليها الرعية. فلولا سوء هذه السياسة ما وجد الشيعي مكانا لبث أفكاره. ولولا سوء النظام العسكري لتغلبت الدولة على الثورة. ولولا قتل

زيادة الله لابيه واقاربه لامكن للدولة ان تعيش اكثر مما عاشت بافريقية او بصقلية. والجزائر غير الخاضعة للدولة هي الثائرة. والجزائر الخاضه لها هي المدافعة. وبتغلب الشيعي عليها تم سقوط الدولة الاغلبية. ففر زيادة الله الى المشرق. واعانه المقتدر العباسي على استرجاع مكانه. ولكن صدق عليه المثل: "الصيف ضيعت اللبن" فلحق ببيت المقدس. وتوفي هنالك ولسان حاله ينشد: رزقت ملكا فلم أحسن سياسته … كذاك من لا يسوس الملك يخلعه

الباب الخامس في الدولة العبيدية

الباب الخامس في الدولة العبيدية

1 - تمهيد

1 - تمهيد كانت الجزائر في القرن الثالث مقسمة بين أمارات حفظمت التوازن بين ذوي السلطان، وارضت القبائل المتعادية باستقلال بعضها عن بعض، فيكان ذلك الانقسام مسكنا للثورات منشطا للحياتين العلمية والاقتصادية. وفي النصف الاخير من هذا القرن ساءت الحياة الاقتصادية وارتفعت الاسعار. قال ابن ابي زرع: " وتوالى القحط سنة 253 الى سنة 65 حتى انه عم سنة 60 بلاد الاندلس والغرب ومصر والحجاز. وفي سنة 276 طبقت الفتنة جميع بلاد الاندلس والمغرب وافريقية. وفي سنة 285 كانت المجاعة الشديدة التي عمت بلاد الاندلس والعدوة حتى اكل الناس بعضهم بعضا. ثم أعقب ذلك وباء ومرض وموت كثير. هلك فيه من الناس ما لا يحصى". لم يخف على ايمة الشيعة بالمشرق ما عليه المغرب من ضعف سياسي بسبب انقسامه الى امارات. ومن ضعف مادي لما حل به من المجاعات والموتان فأرسلوا دعاتهم اليه لينشؤا به دولة. ففازوا. وتأسست الدولة العبيدية التي ابتلعت تلك الامارات ووحدت الادارة. ولكنها اعادت للمغرب حياة الثورات. وهي تنسب الى عبيد الله المهدي اول أيمتها. وكانت قاعدتها

2 - الشيعة الاسماعيلية بالجزائر

الهدية نسبة إليه أيضا. ثم انتقلت الى مصر وعرفت هناك باسبم الدولة الفاطمية. وكان العبيديون يزاحمون بني العباس في الملك والسياسة وينافسونهم في العلم والحضارة. وبلغت دولتهم بالمغرب ومصر رقيا لا يقل عن رقي الدولة العباسية، وتركوا آثارا تشهد بفضل حضارتهم، ولكن لم يكن منها بالجزائر غير ما لعمالهم بني حمدون والصنهاجيين، وتصح نسبتها لهم لكونهم أساتذة أولئك العمال والآخذين بيدهم الى تلك المنزلة. 2 - الشيعة الاسماعيلية بالجزائر شيعة الرجل من يتابعه ويناصره، وهم لدى المؤرخين من تولى علي بن ابي طالب وفضله على جميع الصحابةآ، ووجدت شيعة علي بعد قبض رسول الله (ص) فكانوا يرونه أحق بالخلافة، فلما صرفت عنه دخلوا فيما دخل فيه الجمهور. وقد عرف بعض المفسدين أن لعلي (ض) شيعة، فاتخذوا التشيع مساغا لتفريق الكلمة وكيدا للإسلام، وكان من أشهرهم عبد الله بن سبأ رجل يهودي، بث فكرته بالبصرة والكوفة ومصر وانتشرت عنه مقالات في الجهات. أصبح التشيع ضربا من ضروب التدجيل السياسي. فتعددت المقالات وكثرت الفرق. فكان منها الزيدية أتباع زيد بن علي زين العابدين، ومنهم شيعة إدريس. ومنها الامامية الروافض، ومن شعب الامامية الاسماعيلية وهم القائلون بإمامة اسماعيل ابن جعفر الصادق، وقد توفي حياة والده ومع ذلك يرونه إماما توصلا الى امامة عقبه. وليس من غرضنا شرح مذاهب الشيعة ومباديها.

والإسماعيلية يسمون أيضا الباطنية لقولهم بالإمام الباطن يريدون المستور ولقولهم أن نصوص الشريعة رموز مراد بها بواطن لا يفهمها إلا الامام. وكان العبيديون من هؤلاء الاسماعيلية. كان الاسماعيلية ينتخبون الدعاة الاكفاء يبثونهم في الاوطان لنشر مذهبهم. فارسلوا الى الغرب داعيتين هما: السفياني والحلواني وقالوا لهما ان بالمغرب أرض بور فاذهبا اليها واحرثاها حتى يجيء صاحب البذر. فنزل احدهما مرماجنة والاخر سوق حمار من ناحية قسنطينة. وبثا الاسماعيلية في الناس الى ان توفيا. وخلفهما أبو عبد الله الحسين بن أحمد. قدم مع حاج كتامة: موسى بن حريث كبير بني سكان ومسعود بن عيسى بن ملال المساكتي وغيرهما. فدخلوا به بلدهم سنة 279 وتنازعوا عليه. كل يريد ان يكون معه. فقال لهم ان النص عندي من الهدي. بان منزلي بفج الاخيار، فاين يكون منكم؟ قالوا هو عند بني سليمان. وسلموا حكمه وظنوه اطلاعا على الغيب اذ لم يجر ذكر الوضع في طريقهم. وهو عند البصير دليل على تدجيل الشيعة وخبرة أيمتهم باحوال البلدان وما نأى عنها عن قبضة السلطان. أخذ أبو عبد الله في بث الرفاضية الاسماعيلية وذكر المهدي وقرب ظهوره وأن أولياءه مشتق اسمهم من الكتمان وانه يهاجر اليهم. وعرف بينهم بالعلم وبالشيعي وبالمشرقي. ولما تمكنت دعوته انتقل من الجدال الى الجلاد. وأسس في ايكجان قرب سطيف الى ناحية قسنطينة مدينة سماها دار الهجرة. وسمى اتباعه المؤمنين. وقاد الاجناد وفتح البلاد، ولحق به عبيد الله المهدي فظهر بسلجماسة وحبس بها، فلما تغلب ابو عبد الله على افريقية ذهب اليه وأتى به وسلم له الامر. ثم أظلم الجو بين المهدي وداعيته ابي عبد الله وتمشت بينهما

السعايات، فتخير المهدي من وجهاء كتامة عروبة بن يوسف واخاه حباسة، وامرهما بقتل ابي عبد الله وأخيه ابي العباس، ولما حمل عروبة على ابي عبد الله قال له لا تفعل! فأجابه: "الذي امرتنا بطاعته أمرنا بقتلك! " فقتلا معا يوم الثلاثاء منتصف جمادى الاخيرة سنة 298 وتلك عاقبة كل ساع في تأسيس دولة لغيره. ابو عبد الله هو مؤسس الدولة العبيدية على الحقيقة، كان عالما يقظا سياسيا داهية حربيا ماهرا زاهدا متقشفا، وهو الذي يقول لما أطل بجيوشه على طبنة من فج زيدان: من كان مغتبطا بلبن حشية (¬1) … فحشيتي واريكتي سرجي من كان يعجبه ويبهجه … نقر الدفوف ورنة الصنج فانا الذي لا شيء يعجبني … الا اقتحامي لجة الوهج سل عن جيوشي اذا طلعت بها … يوم الخميس ضحى من الفج ومع ما قاساه في تأسيس هذه الدولة لم يتمتع فيها بما كان يرجوه من علو الكعب فخسر الدنيا والآخرة، وصدق عليه المثل "لا هنك أنقيت ولا ماءك أبقيت". قال القاشي ابو عبد الله بن حمادي كتابه اخبار ملوك بني عبيد: "وكان مما أحدث عبيد الله المهدي ان قطع صلاة التراويح وامر بصيام يومين قبل رمضان. وقنت في صلاة الجمعة قبل الركوع، وجهر بالبسملة في الصلاة المكتوبة، واسقط من اذان الصبح، "الصلاة خير من النوم" وزاد حي على خير العمل محمد وعلي خير البشر، وكذلك كان الاذان مدة بني عبيد". ¬

_ (¬1) هكذا جاءت هذه العروض بخلاف ما بعدها في البكري. والوهج لعله الرهج.

3 - تأسيس الدولة العبيدية

وبعد الاذان يدعو المؤذن للامام ويصلي عليه وعلى آبائه وابنائه بصيغة نسجتها يد السياسة دعاية لهذه الحكومة التي اعتنت ببث الدعاة في سائر الاوطان حتى بلغوا السوس الاقصى، وكان منهم هنالك علي بن عبيد الله البجلي، وكان اتباعه يدعون البجلية. بقوا بعد الدولة العبيدية الى ايام المرابطين. ولم تمت بالمغرب الشيعة الاسماعيلية بذهاب الدولة العبيدية بل عاشت بعدها زمنا. 3 - تأسيس الدولة العبيدية تأسست الدولة العبيدية بالدعاية الدينية والحنكة السياسية اللتين كانتال لأبي عبد الله الشيعي وبالقيمة الحربية التي كانت لكتامة ووطنها وبسوء سياسة زيادة الله الثالث الذي قتل أباه وكثيرا من أهله وذويه. ابتدأ ابو عبد الله بتعليم المذهب الاسماعيلي ثم أعلن امامة الفاطميين وأخذ يذكر المهدي وقرب ظهوره. فبلغ أمره ابراهيم الاغلبي فارسل اليه يتهدده. فاجابه جواب من ايقن بنجاح سياسته. وبلغ جوابه عمال وطن كتامة ورؤساء عشائرها فاجتمع منهم للمفاوضة في شأنه عمال ميلة وسطيف وبلزمة ويحي المساكتي المدعو بالامير ومهدي ابن ابي كمارة اللهيصي وفرج بن خيران الاجاني وثمل بن فحل اللطاني، فاتفتوا على مراسلة بيان بن صقلاب رئيس بني سكان في ان يسلم اليهم ابا عبد الله او يخرجه من بلدهم، فاجابهم باستشارة أهل العلم. فتآمروا باغتياله. وشعر انصاره بذلك. ففرقوا المتآمرين. واطبقت جيملة على مظاهراته. عاد أولئك العمال والروساء الى مخاطبة بيان بن صقلاب حتى استمالوه اليهم. فاستجار ابو عبد الله بالحسن بن هرون رئيس

غسان. ونزل عليه ببلدة تازروت فنشبت الحرب بين غسمان أولياء ابي عبد الله، ولهيصة اعدائه. فقتل ابو مديني اخاه مهدي بن أبي كمارة. ورأس مكانه لهيصة، وكان من حزب ابي عبد الله فاتحدت غسمان ولهيصة على ولائه وحاربوا من يحاربه. كان ابو عبد الله ينتصر دائما على أعدائه فكثر انصاره. وزحف الى ميالة. ففتحها. وولى عليها ماكنون بن ضبارة. وقتل صاحبها موسى بن العباس. ففر ابنه ابراهيم الى تونس ونزل على الامير أبي العباس نائب ابيه ابراهيم الذي كان يومئذ بصقلية. وحرضه على محاربة الشيعي، فجهز ما ينيف على عشرين الفا عقد عليها لاخيه الأحول، ولم يكن احول، وانما كان يكسر جفنه اذا ادام النظر. فصل الأحول بالجنود من تونس سنة 89 ففتح سطيف ثم بالزمة، وقصد تازروت، وكان الشيعي قد كثرت جموعه وتكررت انتصاراته وانتشر صيته، فخرج للقاء الاحول، فانهزم ببلد ملوسة، وبلغ الاحول تازروت، فهدمها، وتحصن الشيعي بجبل ايكجان. وقصد ابراهيم بن موسى ميلة، فاعترضته طائفة من المتشيعة هزمته إلى معسكر الاحول. ثم عاد الاحول الى تونس، فخلا الجو للشيعي، وتلاحق الناس الى دعوته. فعاد الاحول الى حربه ونزل سطيف. واتخذها معسكره، وبينما هو يغير وينهزم اذ اتاه الامر بالعودة الى تونس على لسان أخيه الذي قتله أبيه زيادة الله، فلما بلغها قتله ابن أخيه. ولما استيقن الشيعي بنجاح أمره أرسل الى سيده عبيد الله يستقدمه ويخبره بما فتح من الاوطان. فيخرخ عبيد الله وابنه ابو القاسم وابو العباس اخو ابي عبد الله في زي التجار. وبلغوا مصر سنة 89 وأذكى بنو العباس عليهم العيون. فقبض على ابي العباس بطرابس وسجن بها. وظهر عبيد الله وابنه بمسلجماسة يوم الأحد

سابع ذي الحجة سنة 96 فاعتقلا بها. كذا قيل. وظاهر الاخبار الآتية أنه ظهر بها قبل هذا التاريخ. ووجه صاحبها اليسع بن مدرار كتابا الى زيادة الله يعلمه ذلك، فلما دخل رسوله ارض كتامة وقع بين قوم ظنهم في ولاية الاغالبة. فاخبرهم خبره فرفعوه الى ابي عبد الله. فالفى معه كتاب اليسع فتعرف منه خبر عبيد الله. وبعد خروج الاحول من سطيف بقي أهلها محاربين لابي عبد الله. فحاصرها مدة. ثم فتحها وهدم سورها. وأمن أهلها وعقد زيادة الله لابراهيم بن حبيش على اربعين الفا. نزل بها قسنطينة. واقام بها هنالك ستة اشهر. اجتمع له فيها من الجنود مائة الف. والتقى بها مع الشيعي على بلزمة. فانهنرم الى باغاية ثم عاد إلى القيروان. وتوجه ابو عبد الله الى طبنة. ففتحها بعد الحصار صلحا، ثم فتح بلزمة عنوة. وقصد عروبة بن يوسف من اصحابه عامل باغاية هرون بن الطبني، وقد عقد له زيادة الله على اثني عشر الفا، فقتله عروبة. وزحف من اصحابه ايضا يوسف الغسماني الى تيجس. فدخلها بعد الحصار صلحا. ولحقت حاميتها بالقيروان. ووجه سرية فتحت مرماجنة عنوة. وقتلت عاملها، وهي فيما بين مجانة وسبيبة. واستأمن له أهل تيفاش. فاستعمل عليهم صواب بن ابي القاسم السكاني. وفتح بنفسه صلحا باغاية ومسكيانة وتبسة. وعاد الى ايكجان بعد ما سرح العساكر تردد الغارات على نفزة وغيرهم. واتخذ زيادة الله معسكره بالاربس وهي مدينة في الجنوب الشرقي من مدينة الكاف بعمل تونس قريبة من سبيبة. وأصبح يغير من هذا المعسكر على النواحي المتشيعة. فاسترجع تيفاش. وخرج ابو عبد الله من ايكجان لتعميم فتحه. فاخذ قسنطينة بعد الحصار صلحا. وشرق حتى بلغ قفصة وملكها. ثم عاد الى ايكجان. وترك حامية بباغاية لمواقفة جنود الاغالبة ورد غاراتها.

4 - الحكومة العبيدية

ثم قصد أبو عبد الله الاربس في جمادي الاخيرة سنة 96 في مائة الف بين فارس وراجل وكانت بين الفريقين حروب صعبة ولكنها من المعارك الفاصلة. ودخل أبو عبد الله الاربس عنوة وانهزم جيش الأغالبة هزيمة نكراء وفر زيادة الله الى المشرق. وأقبل الشيعي الى رقادة دار ملك الاغالبة قى سبعة عساكر فيها تلاثمائة الف بين فارس وراجل. فدخلها. وبين يديه رجل يقرأ} هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر} الآية و {كم تركوا من جنات وعيون} الآية. وكان دخوله رقادة في رجب سنة 96. نزل ابو عبد الله قصر الامارة. وضبط ما فيها. واستقدم اخاه من سجن طرابلس. واستخلفه على رقاده. وخرج الى سجلمالسة ففرت أمامه زناتة. وملك تاهرت. وولى عليها دواس بن صولات اللهيصي، وأخذ السير الى سجلماسة فاخرج من سجنها عبيد الله وابنه. واركبهما. وبايعته عساكر كتامة وأهل سجلماسة. وبعد ان مهدوا تلك النواحي عادوا بعبيد الله فمروا به على ايكجان. واخذ ما فيها من غنائم. ثم ارتحلوا إلى رقادة. وبها بويع عبيد الله البيعة العامة وتلقب بالمهدي. وذلك في ربيع الثاني سنة 297. 4 - الحكومة العبيدية الدولة العبيدية مستقلة استقلالا تاما، وحكومتها يصح ان تسمى مطلقة لان الذهب الاسماعيلي يرى الامام معصوما. فيجمع له كل السلط تشريعية وتنفيذية وقضائية. والامام هو رئيس الحكومة الاعلى. ويلقب أمير المؤمنين ويتعين بالعهد اليه من سلفه. ولا بد ان يكون من آل البيت. ولهذا

كثر النزاع في نسب عبيد الله المهدي. قال ابو عبد الله بن حماد: "اختلف الناس في نسبه الى الحسين بن علي عليهما السلام. فمن مسلمين ما ادعاه ومقرين بما حكاه ومن مانعين ما انتحله والذي ادعاه هو انه عبيد الله بن محمد بن الحسين بن محمد بن اسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي زين العابدين. والذي ادعاه الناس لا برهان عليه. فلا حاجة لي اليه. " اهـ. ويساعد الامام وزراء ة عمال وقضاة. ويختص الامام وولي عهده بالمظلة. قال ابو عبد الله بن حماد: "وهي شبه درقة في رأس رمح محكمة الصنعة رائقة المنظر ظرف من الصناعة في الصياغة ونظم الاحجار الغالبة ما يروق مرآه ويدهش من رآه. يمسكها فارس من الفرسان يعرف بها. فيقال صاحب المظلة. وكانت عندهم خطة يتداولها من يؤهل لها، فيحاذي بها الملك من حيث كانت الشمس، يقيه حرها بظلها، وفيها يقول محمد بن هانيء الاندلسي من قصيدة يمدح فيها معدا المعز: وعلى أمير المؤمنين غمامة … نشأت تظلل تاجه تظليلا نهضت بمثل الدرع ضوعف نسجه … وجرت عليه عسجدا محلولا ولم يعلم أحد غير بني عبيد اتخذ هذه المظلة الا ملك الروم بصقلية، واحسب انهم أهدوها اليه في بعض هداياهم، وكأني سمعت هذا" اهـ. والحكومة العبيدية لا تعترف بأية حكومة أخرى، فكانت ترسل الدعاة الى جميع الاوطان الاسلامية دون بلاد الكفر! ولهم رئيس يلقب داعي الدعاة، وهو الذي يأخذ البيعة للامام، وبهؤلاء الدعاة ملكت اليمن والبحرين ثم الحجاز وخطب لها بمدينة بغداد على عهد المستنصر من أيمتها، وكانت لها جيوش جرارة واساطيل عديدة،

حافظت بها على ممالكها، وملكت بها مصر والشام. وغزت بها سواحل إروبا، وفتحت جنوة من بلاد ايطاليا، ولكن عنايتها بفتح العالم الاسلامي أشد! وكانت تجبر الناس على العمل بمذهبها، فتشيع كثير من أهل العالم رغبة أو رهبة، وامتحن كثيرون من أجل ترك البسملة في الفريضة وترك "حي على خير العمل" في الاذان، وكانت لا تسمع في ولاتها من يشكو جورهم تأليفا لهم اذ لا غنى لها عنهم واضعافا للرعية حتى تأمن ثورتها، ورفع الناس مرة إلى عبيد الله أن القاضي المروزي يرتشي ويقتني الاموال. فلم يرفع لها رأسا. فرفعوا إليه انه يقدح في الدولة فعزله وعذبه ثم قتله. وأحدث بنو عبيد الخراج على الأرضين قال محمد ابن الحارث وهو ممن أدرك أوائل هذه الدولة: "امتحن مالك بن عيسى القفصي بصحبة عبيد الله. وبتعديل الارض له لتوظيف الخراج الذي يسميه المقسط. " اهـ. ولم يكن للعبيديين ثقة بأهل المغرب. فشرع المهدي من فوره في تأسيس المهدية، واختار لها موقعا حربيا مهما. وبالغ في تحصينها. وانتقل اليها سنة 308 وقال انما بنيتها لتعتصم بها الفواطم ولو ساعة من نهار. ولما فتح المعز مصر بادر بالانتقال اليها. وأوصى خليفته بلقين بن زيري بوصايا. وقال له: "ان نسيت شيئا فلا تنس هذه الوصايا: ان لا ترفع السيف عن البربر وان لا ترفع الجباية عن أهل البادية وان لا تولي أحدا من قرابتك لئلا يطمعوا في أمرك، وان تحسن الى أهل الحاضرة " اهـ. هذه الوصايا تصور لك حرص الحكومة على استعباد الامة وتلك سياسة كل حكومة أجنبية انتفاعية. وانما أوصاه خيرا بأهل الحاضرة

لأن فيهم كثيرا من الاسماعيلية. وقد وقذت الحضارة غيرهم فلا تخشى منهم ثورة. وأيمة العبيديين بالمغرب أجل قدرا وأنفذ أمرا من أيمتهم بمصر تولى منهم بالمغرب أربعة وبمصر عشرة. واستقل المغرب عنهم أيام المستنصر بن الظاهر. وانتهت دولتهم بموت العاضد في المحرم سنة 567) 1171 م) فحول وزيره صلاح الدين الأيوبي الدعوة الى العباسيين فكانت مدتهم 269 سنة. وهاك ايمة هذه الدولة الخليفة .......... الولاية ......................... هـ ......... م عبيد الله الهدي … 297 … 909 ابنه محمد القائم … 322 … 933 ابنه اسماعيل المنصور … 334 … 945 ابنه ممد المعز … 341 … 952 ابنه نزارا العزيز … 365 … 975 ابنه منصور الحاكم … 386 … 996 ابنه علي الظاهر … 411 … 1020 ابنه معد المستنصر … 427 … هـ103 ابنه أحمد المستعلي … 487 … 1094 ابنه منصور الآمر … 495 … 1101 عبد المجيد الحافظ بن محمد بن المستنصر … 524 … 1130 ابنه يوسف الظافر … 544 … 1149 ابنه عيسى الفائز … 549 … 1154 أخوه عبد الله العاضد … 555 … 1160

5 - تيهرت العبيدية وزناتة

5 - تيهرت العبيدية وزناتة دخلت تيهرت في حكم العبيديين سنة 296 فجعلوها قاعدة المغرب الاوسط وانتخبوا لها الولاة من أوليائهم. ففتحوا لها سائر المغرب أوسطه وأقصاه. ودخلت وهران في عمل تيهرت لسنة 298. ووهران حديثة التأسيس يومئذ. قال البكري: "وهي حصينة ذات مياه سائحة وأرحاء ماء وبساتين. ولها مسجد جامع. بناها محمد بن ابي عون وجماعة من الاندلسيين البحريين سنة 290 باتفاق مع نفزة وبني مسقن. وأقاموا بها دعوة الامويين، وفي سنة 97 زحفت إليها قبائل كثيرة يطالبون الاندلسيين باسلام بني مسقن اليهم لدماء كانت بينهم. فأبوا من اسلامهم فحاصروهم ومنعوهم الماء، فخرج بنو مسقن ليلا واستجاروا بازداجة، ثم نجا الاندلسيون بأنفسهم، فتغلب أولئك القبائل على وهران في ذي الحجة واضرموها نارا، ثم عاد أهل وهران اليها سنة 98 بأمر أبي حميد عامل تيهرت، وولى عليهم محمد بن ابي عون، ش ابتدأوا بنيانها في شعبان، فعادت أحسن مما كانت، ولم تزل في عمارة وكمال وزيادة وحسن حال الى أن دخلها يعلى بن محمد بن صالح اليفرني سنة 343 فخربها وحرقها ثانية، وبقيت كذلك سنين، ثم تراجع الناس إليها وبنيت" اهـ. وقال فيها الادريسي ما ملخصه: "عليها سور من تراب متقن، وبها أسواق مقدرة. وصنائع كثيرة. وتجارات نافقة. ومنها أكثر ميرة أهل ساحل الاندلس. وشرب أهلها من واد يجري اليها من البر. وعليه بساتين وجنات. وأهلها في خصب. يوجد لديهم العسل والسمن والزيت والغنم. والبقر بها رخيصة. وفي أهلها دهقنة وعزة نفس ونخوة " اهـ.

وقد وقعت تيهرت بين مواطن زناتة. وكان سنيهم وخارجهم مخالفين للعبيديين. فاجلبوا عليهم مرارا. واشتهر من رؤسائهم يومئذ محمد بن صالح اليفرني ثم ابنه يعلي. ومحمد بن خزر المغراوي من عقب محمد بن خزر صاحب ادريس. واخوته عبد الله وفلفول ومعبد وابناه الخير وحمزة. لما توجه ابو عبد الله الشيعي الى سجلماسة لم تدر زناتة وجهته ففرت من طريقه. فلما بلغها أرادت أن تقطع عنه خط الرجعة. فزحفت سنة 97 الى تاهرت وواطأها من أهل المدينة بنو دبوس. فسجنهم عاملها ابو حميد دواس بن صولات اللهيصي الكتامي. بحصن بن بخاتة. ثم قتلوا به. وتغلب محمد بن خزر على بعض ارباض المدينة. ففر منها دواس الى قلعة ابن حمة. ثم أجلى التيهرتيون زناتة عن مدينتهم واعادوا اليهم عاملهم. ثم ثاروا به سنة 98 فنجا الى حصن ابن بخاتة. وادخلوا محمد بن خزر المدينة ثم خذلوه فانصرف عنهم. وجاءت جيوش العبيديين. فحاربوا أهل تاهرت ثلاثة أيام ثم دخلوها في صفر سنة 99 وفعلوا بأهلها الافاعيل. وعاد اليها دواس. الى ان صرفه عنها المهدي ثم قتله برقادة. ولي تاهرت بعد دواس مصالة بن حبوس المكناسي. وهو الذي فتح فاسا. وكانت بينه وبين زناتة حروب. ففي بعض أيامه فصل من جيشه خيلا لبعض النواحي. وبقي في قل. فقصده محمد ابن خزر وقتله في شعبان سنة 312 فولى المهدي مكانه أخاه يصل بن حبوس. فغمرته الثورات. وقصد محمد بن خزر تيهرت سنة 14 فانهزم عنها. واخرج المهدي في أثره موسى بن محمد الكتامي في طائفة من القواد. فدخل محمد ابن خزر الصحراء. وترك أخاه عبد الله مع وجوه رجاله بوادي مطماطة. فحارب موسى بن محمد وانتصر

عليه. ثم أخرج المهدي اسحق بن خليفة وابا عروس في عسكر كتامة. فهزمهم ايضا. ودخلت في ولاية عبد الله بن خزر وطاعة أخيه محمد لماية وما جاورها من القبائل فعظم الخطب على الشيعة. وفي تاسع صفر سنة 315 بعث المهدي ابنه أبا القاسم في عساكر كتامة ومن انضاف اليهم، ففر ابن خزر في الصحاري على المهاري. وفتح ابو القاسم بلد مزاتة ومطماطة وهوارة وسائر الاباضية والصفرية. من نواحي تاهرت الى ما وراءها. وبقي يصل واليا بتيهرت الى أن توفي سنة 319 فخلفه ابنه حميد. وفي هذه السنة تقدم موسى بن ابي العافية المكناسي عامل العبيديين بالمغرب الاقصى. فاخضع لهم تلمسان ووهران والبطحاء وتنس وشرشال. ثم رفضهم. وخطب لبني أمية. فجهز له المهدي حميد بن يصل سنة 321 في عشرين الفا، فانتصر عليه. ثم انقلب هو ايضا أمويا سنة 28 ولم يكن يومئذ واليا بتيهرت. وتوفي المهدي فخلفه ابنه ابو القاسم محمد القائم. فولى على تيهرت ابا مالك يغمراسن بن ابي شحمة اللهيصي. فثار به أهل المدينة واخرجوه سنة 23 وقدموا على انفسهم ابا القاسم الاحدب بن مصالة ابن حبوس. فنزل عليهم ميسور الخصي سنة 24 وظفر بهم. وقتل واليهم وولى عليهم داود بن أبرأهيم العجيسي. فانقرضت به ولاية المكناسيين بتيهرت. واصبحت مكناسة التي كانت محاربة لزناتة متحدة معها على ولاية الامويين وحرب العبيديين. وفي سنة 333 اجلب حميد بن يصل على تيهرت، وظاهرته لواتة، فاخرج منها داود، واقام بها الدعوة الاموية، وشغل عنه العبيديون بامر صاحب الحمار. ولما قبض اسماعيل المنصور على صاحب الحمار توجه الى تيهرت في صفر سنة 36 ففر منها حميد. ولحقت لواتة بالرمال، وملك

6 - العبيديون وجبل اوراس

المدينة. واحرق منبرها لكونه خطب عليه الامويين، وولي عليها ميسورا الفتى وهو غير ميسور الخصي المتقدم. وثار التيهرتيون بميسور، وكاتبوا محمد بن خزر، فوجه لهم جيشا به ابناه الخير وحمزة واخوه عبد الله ويعلى بن محمد بن صالح اليفرني. وخرج اليهم ميسور في رجال لماية، فدارت الحرب بين الجمعين. وقتل حمزة بن محمد بن خزر، ثم اسر ميسور، وفتحت زناتة المدينة، ولم يجد العبيديون سبيلا لغلبة زناتة غير تفريق كلمتهم، فاستمالوا يعلى بن محمد اليفرني، وعقدوا له على تاهرت والمغرب الاوسط اغاظة لمغراوة وكبيرها ابن خزر، لكن يعلى لم يلبث ان راجع طاعة الامويين. وفي سنة 47 جهز المعز قائده جوهرا الصقلي لاخضاع المغربين، وامر ولاة الجهات بامداده فخرج معه جعفر صاحب المسيلة وزيري صاحب اشير، وانضم اليهم محمد ابن خزر بداعي المنافسة ليعلى، فالتقى الجمعان، على مقربة من تاهرت. قال ابن ابي زرع: "فالتحم الحرب بين الفريقين، وبذل جوهر الاموال لقواد كتامة على قتل يعلى، فصممت منهم عصابة، وصمدت الى يعلى. فقتلته واتت برأسه الى جوهر، فبعث به الى المعز. وطيف به في القيروان"، اهـ. واضيف عمل تيهرت الى صاحب اشير زيري بن مناد الصنهاجي، فرمى العبيديون زناتة بصنهاجة، وغلبوهم بذلك على تاهرت. 6 - العبيديون وجبل اوراس كان جبل اوراس معدن الثورات لحصانة موقعه واختلاف سكانه اصلا ومشربا. وكانت عاصمته باغاية. تنتخب الدولة لولايتها الأكفاء المخلصين من أوليائها.

وليها عروبة بن يوسف الكتامي سنة 298 بعد قتله للشيعي. واتصل بعمل تاهرت. وكان اخوه حباسة من أعظم القواد. وولي عمل برقة. ثم قتله المهدي سنة 302 فغضب عروبة لقتله. وثار في أوليائه من كتامة وغيرهم. فجهز له المهدي مولاه غالبا. فقتله وقضى على ثورته من سنتها. وفي سنة 231 انعقد بجبل اوراس مؤتمر للثورة. فبايعوا ابا يزيد مخلد بن كيداد. وتلقب شيخ المؤمنين. وحارب العبيديين. وحصرهم بالمهدية. واستولى على سائر افربقية والمغرب الاوسط. ثم أساء السيرة. فضجت منه الامة. وخذلته. فتغلب عليه العبيديون. وقوام هذه الثورة عداوة الامة لمذهب الحكومة. ونفار القبائل من تحكم كتامة، وظهور دعوة الامويين بالمغرب الاوسط. وهذا ابو يزيد أصله من الجريد. ونسبه في بني واركو من يفرن. كان ابوه يختلف بالتجارة الى السودان. فاشترى بتادمكت امة. تدعى سبيكة. فحملت منه بابي يزيد. وكان أعرج وعمره. يوم ثار ستون سنة. وبه علل كثيرة. ونشأ فقيرا مشتغلا بالعلم والادب. واخذ برأي النكار من الاباضية. وعني بتعليم الصبيان. ورزقه من صدقات الناس. ثم أخذ في الطعن على الحكومة. فضيقت عليه وخشي الناس مجالسته. فهجروه. فخرج من توزر الى أوراس. ونزل على بني كملان من هوارة. فايدوه على الثورة. وصحبه ابو عمار الاعمى بن عبد الله الحميدي من مقدمي الاباضية. قام ابو يزيد بدعوة عبد الرحمن الناصر الاموي. وسمى الملازميين له من اتباعه العزابة، ومن بايعه وانصرف عنه عدة المسلمين، وتظاهر أول أمره بالزهد. فكان يلبس من خشين الصوف جبة قصيرة ضيقة الكمين وقلنوسة. ويركب حمارا اشهب أهدي له بمرماجنة. فدعي لذلك صاحب الحمار. وبهذه الظاهر السياسية

والدينية جذب عامة الناس اليه. فانضاف اليه محمد بن خزر واخوه معبد، واجتمعت اليه هوارة وزناتة ونفوسة وغيرها. ولما اعجب بكثرة جموعه وثمل بانتصاراته انتقل الى ركوب جياد الخيل ولبس الحرير والديباج واستباحة الفروج والدماء وكانت عساكره تأتي انواع المناكر من سلب ونهب واغتصاب حريم حتى انهم ليبقرون الحوامل ويشقون بطون الرجل عسى أن يكون بها مال ابتلعوه. ولا تسأل عما تحدث هذه الافاعيل من ذعر وخراب. ولما عوتب عن تنعمه بعد تقشفه تلا قوله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل} الآية. ولما شكي الناس اليه ما اصابهم من عساكره انشد: اذا أبقت الدنيا على المرء دينه … فما فاته منها فليس بضائر فكان ذلك مما زوى قلوب الناس عنه واضاع عليه ثمرة انتصاراته. وكان ابتداء هجوم ابي يزيد في سنة 32 فنزل من اوراس الى باغاية، فحاصرها، ولم يقدر على فتحها، فرأى ان يوسع نطاق الثورة ليفرق عنه قوة الحكومة، فأثار بني واسبن فحاصروا توزر سنة 333 ودخل حميد بن يصل تاهرت، وفتح هو صلحا تبسة ومجانة ومرماجنة. ثم استولى على الاربس وسبيبة وباجة وتونس ورقادة والقيروان وسوسة، كل ذلك أثناء عام 333 وتقدم فحاصر المهدية. وأفرج عنها في صفر سنة 34 وكان ابنه أيوب بباجة لحشد الناس. وخرج عامل المسيلة علي بن حمدون لانجاد المهدية في جموع زواوة وكتامة فمر بقسنطينة والاربس. والتقى بايوب على باجة، فهزمه ايوب. وتردى به فرسه، فهلك، ثم هلك محمد القائم بعده باشهر. وخرج اسمعيل المنصور لحرب ابي يزيد، فاخرجه عن افريقية. ورام باغاية. فاغلقت في وجهه، ولفظته البلاد، وتوجه المنصور مغربا

أثره في ربيع الاول سنة 35 فمر بسبيبة فرماجنة فملاق فباغاية فبلزمة فنفاوس فطبنة، وأقام بها اياما فرق فيها الاموال وتفقد احوال الجند. ثم سار الى بسكرة، وبها ابو يزيد، ففر منه، ثم انقلب الى مقره، وأفاض بها من احسانه على الناس استمالة لهم. وكاتب زيري بن مناد وماكن بن سعد، واهدى اليهما من التحف والطرف والاموال الجمة والكسي الفاخرة ما جد بهما به اليه فحشدا له من صنهاجة وعجيسة كل ما قدرا عليه. ووصلا بتلك الحشود اليه. وانتقل المنصور من مقره الى المسيلة. فوفد عليه رسول محمد بن خزر بطاعته. فاكرمه وأركبه فرسا من افراسه بسرجه ولجامه. ووصله بعشرة آلاف دينار. ثم خرج في طلب ابن يزيد الى جبل سالات (بشد لام ألف) وانقلب الى مواطن كصنهاجة. فنزل سوق حمزة. وجاءه زيري بن مناد في رجال صنهاجة. فأجزل صلتهم. وخرج الى وادي لعلع. فمرض به نحو شهرين. وخالفه ابو يزيد الى المسيلة فأخذ المنصور اليه السير. فاجفل امامه الى جبل كيانة. واقام المنصور بالمسيلة. ووجه مواليه الى سطيف وميلة لاستنفار الناس. وجاءه رسول الخير بن محمد بن خزر في نحو مائة فارس بانه أقام دعوته بمدينة الاغواط وسائر عمله. وطلب منه ان يبعث بالخطبة والسكة ليضربها على اسمه. فاكرم الرسل وردهم بمطلوبهم. وحملهم رسالة ليأمر الخير بن محمد زناته بالاختلاف الى المسيلة والقيروان بالاطعمة وغيرها وانه لا يمنعهم شراء السلاح ولا يكلفهم قبالة ولا مغرما. انحصر ابو يزيد بجبل كيانة وهو قلعة بني حماد، وكان الطعام يأتي اليه من بنطيوس وغيرها. فكتب المنصور الى زناتة بالاغارة عليهم فانقطعت عنه الميرة، وتقابل الجمعان في شعبان بفحص باتنة، وهي قرية كانت تدعى أدنة بينها وبين المسيلة اثنا عشر ميلا، وليست

هي باتنة المعروفة اليوم بجبل أوراس، وانهزم ابو يزيد في هذه المعركة هزيمه نكراء. وفي غرة رمضان رحل المنصور لحصار أبي يزيد بكيانة، فاحاط بالجبل، وكانت حروب شديدة دامت الى المحرم سنة 36 ففيه قتل ابو عمار الاعمى. وقبض أبو يزيد مثخنا بالجراح. فأمر المنصور بمداواته والاحسان اليه لكن الدم نزفه فمات في آخر المحرم، فأمر المنصور بسلخه وحشو جلده، قطنا وطيف به في البلاد ثم صلب. وقد كلفت هذه الثورة الحكومة انفاق أموال طائلة وشغلتها مدة مديدة، فكان السرور بانتهائها عظيما، وانشدت الشعراء في ذلك القصائد والمقطمات. فمن ذلك قول أحدهم وقد اوقن بقبض أبي يزيد: يا مخلد بن سبيكة … يا شر بيت في العشائر ذق ما جنته يداك قبـ … ـل من الصغائر والكبائر ذق هول شقك للبطو … ن وما ارتكبت من الجرائر يا شر من بكيانة … وكيانة شر البرابر وقبل القبض على ابي يزيد ظهر باوراس ثائر آخر. شاب أمرد من أهل القيروان، كان يشتغل بكتب الصوفية، واجتمع عليه في ثورته قبائل كثيرة من زواوة وصنهاجة وعجيسة، فقبض عليه وعلى بعض اتباعه جعفر بن علي صاحب المسيلة. وكتب الى المنصور وهو بطبنة يخبره خبرة، ثم جاءه به مقيدا على جمل وعلى رأسه طرطور مشهر، فأمر بسلخه حيا وحشو جلده قطنا ووضعه في تابوت، وكان يصلبه اينما حل ارهابا للناس. وبعد القبض على ابي يزيد بقي أبناؤه وبعض اتباعه على ثورتهم، فلما كان المنصور عائدا الى المهدية هجم على ساقة جيشه

7 - الجزائر بين العبيديين والامويين

الفضل بن ابي يزيد ومعيد بن خزر في جمع عظيم. فهزمهم زيري بن مناد. ثم نزل الفضل من اوراس. وحاصر باغاية. فقتله غدرا باطيط بن يعلى الزناتي في ذي القعدة سنة 36 ثم زحف يزيد بن أبي يزيد الى باغاية ايضا. فهزم عنها. وكان اخوه ايوب وفد على عبد الرحمن الناصر مستنجدا. وعاد إلى أوراس. فاغتاله عبد الله بن بكار اليفرني. ثم قبض على معبد بن خزر. فقتل سنة 41. وبقيت هوارة اوراس على ثورتها. فجهز لها المعز بن المنصور بلقين بن زيري. وجمعوا له بسفح غزالة قريبا من باغاية. فهومهم. وتشتتوا في بلاد الزاب. وبلغ فلهم بلاد السودان. وولى المعز على باغاية مولاه قيصر الصقلي فكان له غناء في تمهيد تلك الجهات. سبب له دالة على العز. فقتله سنة 349. وفي سنة 358 ثار بالجريد ابو خزر الزناتي من الاباضية الوهبية. ودعا للناصر الاموي. وحاصر باغاية وامتدت ثورته بالزاب ووادي ريز وورقلة. فخرج اليه المعز نفسه. وشتت جموعه. فلحق بجبل نفوسة. وهكذا شقي العبيديون بجبل أوراس كما شقوا بتيهرت. واصبح تاريخهم بالمغرب حربيا خرابيا أكثر منه مدنيا عمرانيا. 7 - الجزائر بين العبيديين والامويين كانت الامارات المستبدة على دار الخلافة تكبر أمر الخلافة فلا تدعيها. ولم يجرؤ عليها غير الخوارج وفي بداية القرن الرابع ادعاها عبيد الله المهدي بالمغرب ثم عبد الرحمن الناصر بالاندلس. وكان سلفه مكتفين باندلسهم. ولهم علاقات تجارية بسواحل المغرب. وفي سنة 290 أسست طائفة من تجارهم وهران واقاموا بها الدعوة الأموية.

وقد أيد العبيديين كتامة ثم صنهاجة وحاربتهم رناتة فهزموها سنة 315 حتى بلغ عظيمها محمد بن خزر سجلماسة. فكانت للامويين فرصة اتنهزوها. فارسل الناصر رسله الى محمد بن خزر. وقدموا عليه بسجلماسة سنة 316 فاجابهم الى القيام بدعوته. ونهض الى التل. فاستولى على تنس ووهران وشلف. وكان موسى بن أبي العافية عظيم مكناسة بالمغرب الاقصى من أولياء العبيديين. فنبذهم. واقتفى اثر محمد بن خزر. نهض العبيديون لمحاربة القبائل الأموية. فكانت وقائع شديدة لكنها غير فاصلة. وكادت تتغلب الأموية ايام صاحب الحمار الذي بلغ أن حاصر المهدية. وفتح حميد بن يصل المكناسي تاهرت. واستولى محمد بن خزر على الزاب. وقتل زيدان الخصي عامل بسكرة للعبيديين. وفي سنة 35 ضعف أمر صاحب الحمار. فاخذ محمد بن خزر وابنه الخير بدعوة العبيديين في قومهما مغراوة. فحاربتهم يفرن وعظيمها محمد بن صالح. وغدر به عبد الله بن بكار اليفريني. فقتله تملقا لمغراوة ثم اتفقت القبيلتان على موالاة الاموية وملكوا تاهرت. وقتلوا عبد الله بن بكار. ثم استمال المنصور العبيدي يعلي بن محمد بن صالح. وعقد له على تاهرت وعملها لكنه عاد الى دعوة الناصر وعقد له على ما بين تاهرت وطنجة. فعظم شأنه. وزحف سنة 43 الى وهران بدعوى تمريض أهلها في الطاعة. فغلب عليها محمد بن ابي عون وشتت شمل ازداجة. ونقل منهم الى مدينة فكان. وغضب محمد بن خزر لتقديم قريعه يعلي بن محمد. فوفد سنة 42 على المعز بن المنصور آخذا بدعوته، وخرج في جيشه لغزو يعلي سنة 47 ثم وفد على المعز سنة 350 وهلك بالقيروان. وقد اناف على مائة سنة.

وخلفه ابنه الخير. وخلا له وجه زناتة بقتل يعلي. فعاد الى طاعة بني امية حتى توفي. وخلفه ابنه محمد. وكان جبارا طاغيا. وخرج بلقين بن زيري الصنهاجي لحربه سنة 60 فدارت عليه الدائرة. وكاد يؤسر. فانتحر. والعرب تقول المنية ولا الدنية. وقتل من زنانة سبعة عشر أميرا. ونهض الخير بن محمد. فجمع أشتات قومه وأعاد الكرة على صنهاجة. فقتل زيري بن مناد. وثأر منه بأبيه المنتحر. وفي سنة 61 نهض بلقين بن زيري لحرب زناتة. فأجلاها عن الزاب. ثم أجلاها سنة 63 عن المغرب الاوسط. وعاد من تلمسان. وتفرقت زناتة في المغرب الاقصى. تلوله وصحرائه. وتبعهم بلقين سنة 69 فقتل بسجلماسة الخير بن محمد. ونجا ابنه محمد في أعيان من قومه الى الاندلس مستصرخين المنصور بن ابي عامر حاجب هشام المؤيد ابن المستنصر بن الناصر. فأجاب صريخهم. واجتمعت زناتة وأولياء الاموية بظاهر سبتة. وأطل عليهم بلقين فرأى ما هاله كثرة. فعاد عنهم. وصدق القائل: "اذا أردت السلم فاستعد للحرب". وفي سنة 77 خالف سعيد بن خزوون بن فلفول بن خزر قومه. فنزع الى صنهاجة العبيدية. فأكرمه منصور بن بلقين. وعقد له سنة 81 على عمل طبنة. وتوفي من سنته. فجدد المنصور العهد لابنه فلفول. وفي سنة 77 ملك فاسا زيري بن عطية بن عبد الله بن خزر مقيما للدعوة الاموية. وكان ابو البهار بن زيري الصنهاجي عاملا بتاهرت. فنبذ عهد الشيعة. واتحد مع زيري بن عطية. وكان صهره خلوف بن ابي بكر بمدينة تاهرت، فتابعه، ثم عاد الى العبيدية، وضبط تاهرت، فغفل عنه ابو البهار، ونهض اليه زيري سنة 81

فانتصر عليه، ثم حارب ابا البهار لقعوده عن قتال صهره، ففر أمامه الى ابن أخيه منصور فرضي عنه، واعاده الى تاهرت، فزحف اليه زيري وانتصر عليط ايضا، واستولى على عمله، فأصبح المغرب الاوسط الى الزاب أمويا. وكان ابن ابي عامر يذكر في الخطب بعد المؤيد، وساء ما بينه وبين زيري، فاقتصر في دولته الممتدة من المحيط الى الزاب على ذكر المؤيد في الخطب، فجهز ابن ابي عامر لحربه الجيوش، وكان اللقاء بنواحي طنجة وتكافأت القوتان، ثم طعن زيري احد غلمانه غدرا واشبع موته فانهزمت جموعه. خرج زيري من هذه المعركة جريحا وقصد تيهرت فحاصرها وبها يطوفت ابن بلقين وبلغ الخبر باديس بن منصور بالقيروان فخرج الى زيري في جموعه ومر بطبنة فقدم بين يديه حماد بن بلقين فلقي زيري على وادي مينة فهزمه زيري وفتح تاهرت واستولى على عملها شلف وتنس وتلمسان ثم فتح المسيلة وحاصر اشير وهنالك انتقضت عليه جراحاته فافرج عنها ومات سنة 91 وخلفه ابنه المعز فاقصر عن مزاحمة صنهاجه العبيدية وتلطف لبني أمية حتى أعادوه الى فاس فاقتصر هو وعقبه على ملك المغرب الاقصى. وكان باديس لما بلغ طبنة استدعى عاملها فلفول، فخشي منه واعتذر عن عدم مقابلته، فلما فارقها باديس عاد اليها فلفول، فترك حمادا لمقابلة زيري، وعاد هو الى فلفول، وقد امتدت ثورته من طبنة الى تيجس، وحاصر باغاية، فسرح له باديس أعظم قواده، فقتل وانهزمت جنوده، فقاد باديس نفسه الجيوش، واخرخ فلفول عن باغاية ثم مرماجنة، فلحق بالجبال سنة 89. انضم الى فلفول بعد هزيمته بنو زيري بن مناد المخالفون على باديس، فنزلوا الى تبسة، وحاصروها، فاجلاهم باديس عنهما،

8 - امارة بني حمدون بالمسيلة

وطارد فلفول من مكان الى مكان حتى ألحقه بالرمال سنة 91 فتوجه الى طرابلس وملكها. واورث بها بني خزر دويلة زناتية. وهكذا كانت سنة 391 هي خاتمة تطاحن العبيدية والاموية على الجزائر. ولولا طعنة ذلك الغلام لزيري بن عطية ما انتهت الحوادث في هذه السنة وعلى هذا الوجه. فربما نشأ عن الحقير انقلاب كبير. ان الامور دقيقها … مما يهيج له العظيم 8 - امارة بني حمدون بالمسيلة كان علي بن حمدون بن سماك بن مسعود بن منصور الجذامي المعروف بابن الاندلسية، قد اتصل بالمهدي وابنه القائم بالمشرق وصحبهما الى المغرب. ولما بلغوا طرابلس ارسله المهدي الى ابي عبد الله الشيعي. فادى الرسالة. وانصرف الى المهدي بسجلماسة. وبقي في خدمته وخدمة ابنه ابي القاسم. قال القاضي ابن حماد: "وفي سنة 315 خرج ابو القاسم محمد ابن المهدي الى المغرب. فهدنه ومر منصرفه بوادي سهر، فاختط مدينة المسيلة، رسمها برمحه وهو على فرسه. وأمر علي بن حمدون المعروف بابن الاندلسية ببنائها وتحصينها وتحسينها وسماها المحمدية باسمه. فبناها. وجعل لها بابين سمى احدهما باب الامور والآخر باب القاسمية نسبة الى ابي القاسم". "وبلغت المسيلة أيام علي بن حمدون وابنيه جعفر ويحي من العمارة والحضارة الى الغاية القصوى. وجمعت اليها الاقوات وانواع المأكولات. فأدخرت فكان علي بن حمدون اذا ارتفعت الاسعار يكتب الى ابي القاسم يستأذنه في البيع. فينهاه عنه، ويأمره

بالاستكثار والادخار فلم تزل الاطعمة مصونة الى أن خرج المنصور في اتباع ابي يزيد، فكانت عونا له ولاجناده"، هذا ملخص كلامه. وقال البكري: "هي مدينة جليلة في بسط من الارض عليها سوران، بينهما جدول ماء يستدير بالمدينة وله منافذ تسقى منها عند الحاجة. ولها أسواق وحمامات وحولها بساتين كثيرة، ويجود عندهم القطن، وهي كثيرة اللحم رخيصة السعر، وبقبليها موضع يعرف بالقباب، فيه قباب من بنيان الاول. وعلى مقربة منها مدينة للاول خربة يقال لا بشليقة (بكسر اللام المشددة)، فيها جدولان من ماء عذب" اهـ. وفي كتب الافرنج ان بناحيتها مدينة قديمة تدعى زابي ومدينة يستنيانة التي أسسها سليمان الخصي قائد يستنيان البيزنطي، ولعلهما المذكورتان في كلام البكري. اصبحت المسيلة عاصمة الزاب بدلا من طبنة. وامتد عملها على الحضنة الى حدود عمل باغاية شرقا. ويجاور وطن صنهاجة شمالا وغربا. وبه من سكان زناتة كثير. ومنهم في جنوب المسيلة بنو برزال أهل جبل سالات. رأس على عمل المسيلة علي بن حمدون. وكان له ابنان جعفر ويحي. نشآ بدار ابي القاسم بالمهدية. وربيا مع أولاده. وجمع جيشا لفك حصار صاحب الحمار للمهدية. فالتقى ناحية باجة بايوب ابن ابي يزيد. واشتد القتال بينهما. فانهزم علي ابن حمدون. واوى لجهله بالطريق الى موضع وعر. فغرس بغله فيه. فلما هجموا تواثب فرسان لهم وصهلا. فظنوا ان ايوب غشيهم، فركبوا الخيل، وتفرقوا في الاوعار، فسقط علي بن حمدون من جرف عال، فانكسرت عظامه ومات سنة 34.

وخلفه ابنه جعفر، وكان له غناء في ضائقة الدولة بثورة صاحب الحمار، واهدى للمضور لما نزل بطبنة هدايا جليلة منها خمسة وعشرون فرسا ومثلها نجباء، فعقد له على عمل ابيه، ووازره أخوه: فنبه قدره وعظم شأنه. ولما عقد المنصور لزيري بن مناد على عمل اشير بارى جعفرا في خدمة الدولة ونافسه اسباب الرفعة، وكان للدولة صاغية اليه والى ابنه بلقين، فأخذا يرميان جعفرا بالميل الى زناتة حتى اوغرا عليه صدر المعز بن المنصور، فلما عزم عله الرحيل الى مصر اشيع انه مستخلف لبلقين، فعظم على جعفر أن يبقى تحت ولاية منافسه، ثم بلغه أن المعز أرسل اليه أحد مواليه يستقدمه ويطمعه في خلافته، فقويت استرابته وغادر المسيلة في أوليائه بني برزال، ولحق بزناتة سنة 60 فجهز المعز زيري أثره، فكانت حرب صرع فيها زيري. واحتزت رأسه. وذهب بها الى المستنصر الاموي وفد من وجوه زناتة يرأسهم يحي بن علي. فمهد الامر لاخيه جعفر ولحق به. بقي جعفر واخوه بالاندلس مرموقين بعين التجلة والاكبار تكتفي الدولة بهما وبمن معهما من زناتة في مهماتها، واستعان المنصور ابن ابي عامر بجعفر وشيعته بني برزال على نكب رجال الدولة المزاحمين له فلما قضى عليهم حشي جعفرا فقتله وفر يحي الى مصر فنزل على العزيز بن المعز الى أن مات. وهكذا انتهت حياة جعفر كما تنتهي حياة كل عظيم خطير. فر من المسيلة خشية من العز فبطش به المنصور بن ابي عامر الذي اضطره الدهر لصحبته: واذا خشيت من الامور مقدرا … وفررت منه فنحوه تتوجه وقد ام جعفرا بالمسيلة ابو القاسم محمد بن هانئ اديب الاندلس

الذائع الصيت. قال الفتح في المطمح: "فناهيك من سعد ورد عليه فكرع ومن باب ولج فيه وما قرع فاسترجع عنده شبابه وانتجع وبله وربابه وتلقاه بتأهيل ورحب وسقاه صوب تلك السحب " اهـ. وقد خلد ابن هانئ جعفرا بمدائحه الكثيرة البليغة. منها قصيدته الفائية. وهي من المطولات المستجادات ومن ابياتها: كأن عمود الصبح خاقان معشر … من الترك نادى بالنجاشي فاستخفى كأن لواء الشمس عزة جعفر … رأى القرن فازدادت طلاقته ضعفا وله من أخرى خليلي اين الزاب مني وجعفر … وجنات عدن بنت عنها وكوثر فقبلي نأى عن جنة الخلد آدم … فما راقه من جانب الارض منظر لقد سرني اني أمر بباله … فيخبره عني بذلك مخبر وقد ساءني ان لا أراه ببلدة … بها منسك منه عظيم ومشعر وقد كان لي منه شفيع مشفع … به يمحص الله الذنوب ويغفر اتى الناس افواجا اليك كأنما … من الزاب بيت او من الزاب محشر فانت لمن قد مزق الله شمله … ومعشره والاهل أهل ومعشر (¬1) ومن أخرى لم تدنني ارض اليك وانما … جئت السماء ففتحت ابوابا ورأيت حولي وفد كل قبيلة … حتى توهمت العراق الزابا ارض وطئت الدر من رضراضها … والمسك تربا والرياض جنابا ورأيت اجبل ارضها منقادة … فحسبتها مدت اليك رقابا سد الامام بك الثغور وقبلها … هزم النبي بقومك الاحزابا ¬

_ (¬1) ليته قال مزق الدهر. وكم هنات مثلها لابن هانئ سامحه الله.

9 - الجزائر الصنهاجية

وله أيضا من أخرى: أبني العوالي السمهرية والموا … ضي المشرفية والعديد الاكثر من منكم الملك المطاع كانه … تحت السوابغ تبع في حمير؟ وقد أورد القصيدة بطولها ابن معصوم في كتابه سلافة العصر في محاسن الشعراء بكل مصر. وقال عقبها: "يحكى انه أنشد هذه القصيدة وممدوحه راكب في جيشه. فلما بلغ ذينك البيتين ترجل العسكر كله. ولم يبق أحد راكبا سوى الممدوح. فلو يعلم سؤال كان جوابه نزول عسكر جرار غيره " اهـ. 9 - الجزائر الصنهاجية كان الصنهاجيون بعضهم خاضع لامارات علوية. وبعضهم مستقلون في جبالهم تحت رؤساء منهم ومن اشهر رؤسائهم مناد بن منقوش كان يقيم الدعوة العباسية ويعترف بأمرة الاغالبة. ومات فخلفه ابنه زيري. وفي سنة 335 نزل المنصور العبيدي مقرة وكاتب منها زيري بن مناد واهدى له أموالا وكسى فاخرة وتحفا وطرفا ملوكية طالبا منه اعانته على صاحب الحمار، فاجالب طلبه. وكان له أثر محمود في القضاء على تلك الثورة. فبالغ المنصور في تكرمته، وعقد له على قومه. وكانت الجزائر يومئذ تتركب من اربع ولايات: ولاية باغاية تشمل وطن كتامة من نواحي قالمة وعنابة الى نواحي سطيف وجيجل. وولاية المسيلة تشمل مواطن عجيسة وكثيرا من مواطن زناتة بالزاب والحضنة. وولاية اشير تشمل مواطن صنهاجة وما يجاورها من

زواوة وزناتة. وولاية تاهرت تشمل مواطن مغراوة ويفرن وغالب زناتة. وفي سنة 47 قتل العبيديون يعلى بن محمد صاحب تاهرت. وتقدموا الى فاس. فكان فتحها على يد زيري. فأضيف له عمل تاهرت. وفي سنة 60 خرج جعفر بن علي عن المسيلة. وقتل زيري. فولى المعز ابنه بلقين على الاعمال الثلاثة اشير والمسيلة وتاهرت. وفي سنة 358 فتحت مصر للمعز واسست له القاهرة. فتأهب للرحيل اليها. وفكر فيمن ينيبه على المغرب ويكفيه هم زناتة. وكانت كتامة صادقة التشيع لكنها غير مجاورة لزناتة. وكثيرا من أبطالها انفقتهم في تأسيس الدولة وتسكين الثورات ثم في فتح مصر والشام. فوقع اختياره على صنهاجة. ولم يغضب كتامة فلم يجعل لعمال صنهاجة عليها سبيلا. وفي سنة 61 خيم المعز خارج المنصورية. وكانت عاصمته أسسها ابوه المنصور قرب القيروان سنة 334 ثم توجه نحو مصر في صفر سنة 62. وعقد لبلقين على المغرب. وسماه يوسف وكناه ابا الفتوح. ولقبه سيف الدولة. ولم يجعل له ولاية على بني ابي الحسن الكلبيين بصقلية ولا على عبد الله بن يخلف الكتامي بطرابلس. ثم اضيف اليه طرابلس سنة 67 وقسمت الجزائر الصنهاجية يومئذ الى ولايتين كبيرتين هما اشير وتاهرت. وقسمت ولاية المسيلة: جنوبها اضيف الى تاهرت وشمالها اضيف الى اشير، ثم تغلب منصور ابن بلقين على كتامة، فأضاف باغاية الى اشير. جدت صنهاجة في اخضاع زناتة، فخرج لها بلقين سنة 63 وخرب من عمران تاهرت ونقل اهل تلمسان الى اشير، وعاد لها سنة 69 فملك سجلماسة وفاسا، ثم تغلب خزرون بن فلفول على سجلماسة، فخرج له سنة 73 فمات في طريقه في ذي الحجة، واقتفى خلفه أثره في

قتال زناتة حتى أخضعوهم. بلغت صنهاجة من سعة السلطان وقوة النفوذ ما يحولها الاستقلال، ولكنها آثرت الارتباط بالعبيديين لئلا تشوش على نفسها داخليا وخارجيا، واشفق العبيديون من عظمة صنهاجة، فاخذوا يغرون بها كتامة التي تتمتع بوطنها لا يلي عليها صنهاجي ولا تنفر معهم في الحروب، وكانهم تركوا لها هذه الميزة لمثل هذه الدسائس. ففي سنة 377 ظهر بكتامة ابو فهم حسن بن نصر داعيا للثورة على صنهاجة، فكتب منصور بن بلقين الى العزيز بن المعز يستأذنه في قتال كتامة، فوجه له رسولين بالنهي عن ذلك، وأمرهما بالمسير الى كتامة بعد أداء الرسالة، فلما بلغ الرسولان المنصور نهي العزيز شعر بالمكيدة، فسجنهما وتأهب للحرب، فلما نزل على ميلة نشر البنود وقرع الطبول مزمعا على استئصال أهلها، فخرج اليه النساء والعجائز والاطفال بالتضرع، فرثى لمنظرهم حتى بكى، وابقى عليهم ونقلهم الى باغاية، وخرب سور ميلة، وسار نحو سطيف لا يمر بقصر او منزل الا هدمه، ووقع قتال شديد على سطيف، ثم انهزمت كتامة، وفر ابو فهم الى جبل وعر، فنزل على أهله بني ابراهيم من كتامة فلم يحموه، وقبض عليه منصور، فقتله، واقام نائبا بميلة وسطيف، ثم سرح الرسولين الى العزيز، فارسل له العزيز يطيب قلبه، واهدى له هدية جليلة، وسكت عن قضية ابي فهم. وفي سنة 79 ظهر بكتامة ايضا ابو الفرج منتسبا الى القائم بن المهدي فعظم امره أكثر من ابي فهم حتى انه ضرب السكة باسمه، وجرت بينه وبين نائب منصور بميلة وسطيف وقائع كثيرة، ثم خرج له منصور نفسه، فأسره ثم قتله. وشحن بلاد كتامة بالعساكر، وبث عماله فيها لتمهيدها وجباية خراجها، ودخلت ضمن الجزائر الصنهاجية ولم يجد العبيديون سبيلا لاضعاف صنهاجة غير انهم

أعانوا زناتة وأميرهم فلفول بن سعيد على تملك طرابلس واخراجها من سد صنهاجة. شعر ملوك صنهاجة بدسائس العبيديين، فجاملوهم ظاهرا حتى ولي المعز بن باديس، فايد السنيين على الشيعيين، وكاتب وزير المستنصر ابا القاسم الجرجرائي (نسبة الى جرجرايا من العراق (معرضا ببني عبيد، وساعيا في تغييره عليهم، بقول الشاعر. وفيك صاحبت قوما لا خلاق لهم … لولاك ما كنت أدري أنهم خلقوا فقال الجرجرائي: "الا تعجبون من صبي بربري مغربي يحاول أن يخدع شيخا عربيا عراقيا؟ ". وبعد وفاة الجرجرائي أعلن المعز سنة 440 قطع دعوة بني عبيد ومحا اسمهم من السكة واحرق بنودهم وهدم دار الاسماعيلية. ودعا للعباسيين ونشر راياتهم السود فعجز بنو عبيد على الانتقام من صنهاجة. فاارسلوا لهم بني هلال وسليم، ثم عاود يحي بن تميم بن المعز دعوتهم. وقام بها ايضا خلفه. وكان يخالف على ملوك صنهاجة أقرباؤهم ويؤيدون الثوار عليهم ولكن لم يفت ذلك في عضدهم ولا حط من عظمتهم حتى استقل حماد بن بلقين بالوطن الجزائري سنة 405 فانقسمت صنهاجة على نفسها الى دولتين شرقية عاصمتها المنصورية ثم المهدية وغربية عاصمتها القلعة فبجاية. ضعفت الدولة الشرقية بما انسلخ منها. ثم جاء الهلاليون فملكوا عليها الضواحي وبعض المدن. وتوالت عليها غارات النرمان بحرا حتى ملكوا عليها الهدية آخر معاقلها سنة 543 وبذلك انقرضت دولة صنهاجة الشرقية. 1 - أول ملوك صنهاجة العبيدية زيري بن مناد. كان حازما

شجاعا شديد البأس حسن السياسة مولعا بالعمران. أسس اشير. وضرب بها سكة بني عبيد. وكلف ابنه باقين بتمصير مدن الجزائر ومليانة ولمدية. 2 - ثم ابنه بلقين وهو انجب اخوته. ربي بدار المنصور مع ابنائه. وولي لابيه على مليانة لخضد شوكة زناتة. وكان من أفحل الملوك واعظمهم نعي اليه ابوه وهو باشير. فنهض لاخذ ثأره من زناتة. وشفى صدره منهم. وانتقل الى المنصورية لما استخلف على المغرب. 3 - ثم ابنه منصور كان ولي عهده. ونعي اليه وهو باشير. فوفدت عليه الوفود معزين ومبايعين. فاحسن مقابلتهم. واجزل صلاتهم. وخطب فيهم قائلا: "ان ابي وجدي كانا يأخذان الناس بالقهر. وانا لا آخذ أحدا الا بالاحسان. ولا اشكر على هذا الملك الا الله تعالى. ولست ممن يولي بكتاب ويعزل." اهـ يعرض ببني عبيد وان لا يد لهم عليه في توليته. ولا قدرة لهم على عزله وكان يتردد بين اشير والمنصورية. جوادا عاقلا عادلا حازما صارما عفيفا عن الدماء رفيقا بالرعية. ونزع اليه سعيد بن خزرون فوصله بمال كثير. ثم قال له يوما: "هل تعرف أحدا أكرم مني؟ قال نعم! أنا أكرم منك. قال منصور: وكيف؟ قال له لأنك جدت علي بالمال وانا جدت عليك بنفسي. فاستعمله على طبنة. وعقد لاحد ابنائه على بنت سعيد. فليم على ذلك. فقال: كان ابي وجدي يستتبعان زناته بالسيف. اما أنا فمن رماني بسيف رميته بكيس حتى تكون مودته طبعا واختيهارا " اهـ. وكان اخواه حماد ويطوفت يتداولان عمل اشير، وعمه ابو البهار بتاهرت. 4 - ثم ابنه باديس، جاءه سجل العزيز بولاية عهد ابيه سنة 81

ولما توفي ابوه جاءه سجل الحاكم بالولاية، ولقبه نصير الدولة، وكان شجاعا مقداما جوادا محسنا حليما، كان عمه يطوفت عامله على تاهرت، وعمه حماد على اشير، ثم ثار عليه وتحصن بمدينتة القلعة فحاصره بها، وتوفي أثناء ذلك بالمسيلة. 5 - ثم ابنه المعز، بويع صبيا، ولقبه الحاكم شرف الدولة، وقامت جدته بتدبير الدولة حتى توفيت سنة 411، وتركته قادرا على الادارة، واصيب بفتنة الهلاليين، فانتقل من المنصورية الى المهدية، وكان أجود أهل بيته ذا دين صحيح رقيق القلب عفيفا عن الدماء حديد الذهن عالما بالادب يقول الشعر عارفا بالالحان والتوقيعات وعلم الاحجار. 6 - ثم ابنه تميم، كان أديبا شاعرا من نظراء ابن المعتز. 7 - ثم ابنه يحي كان أديبا ايضا، ولكن لا يقرض الشعر الا في اوقات فراغه، وصرف همته لسياسة رعيتة وتدبير دولته، وغزا ساحل أروبا غزوات حتى لقبه النصارى "الجريء" وسالموه. 8 - ثم ابنه علي بويع بعده، وانشدته الشعراء معزين ومهنئين، ومن ذلك قول ابن حمديس من ابيات: ما اغمد السيف حتى جرد الذكر … ولا اختفى قمر حتى بدا قمر 9 - ثم ابنه الحسن هو خاتمة ملوكهم، نازله النرمان بالمهدية. فلما رأى ما يعجزه غادرها بما خف من نفائسه. وقال: "سلامة المسلمين من القتل والأسر خير لي من الملك والقصر". ونزل الجزائر تحت رعاية ابن عمه يحي صاحب بجاية الى أن ملكها عبد المؤمن بن علي. فصحبه واغراه بالمهدية. فلما نزل عليها ورأى حصانتها. قال للحسن: "ما الذي أخرج هذا المعقل من يدك؟ فقال له: أخرجه انقضاء الامد وعدم الثقة بأحد". وكان الحسن أديبا فصيحا عالي الهمة حدبا طى الرعية. ولكن

10 - الحالة السياسية والمالية بالجزائر العربية

عجز عمن علاج الدولة. فسقطت سنة 543 بعد ما مر عليها 208 منذ عقد المنصور لزيري على عمل اشير سنة 335 وتوفي الحسن سنة 566 تحت رعاية الموحدين. الأمير .................... الولاية .................... هـ ........ م زيري بن مناد … 335 … 946 ابنه بلقين … 360 … 970 ابنه منصور … 373 … 983 ابنه باديس ...... 386 … 996 ابنه المعز … 406 … 1016 ابنه تميم … 454 … 1062 ابنه يحي … 501 … 1107 ابنه علي … 509 … 1115 ابنه الحسن … 515 … 1121 اخذت منه المهدية … 543 … 1148 10 - الحالة السياسية والمالية بالجزائر العربية الاسلام دين العرب يسوي بين الناس في الحقوق. وقد طبق العرب هذا المبدأ بالجزائر. فلم تكن لهم ميزة قضائية على بقية السكان. وأخذوا بيد البربر. فرقوهم في المناصب الدولية حتى تمرنوا بالادارة. وأصبحوا ايام بني عبيد قادرين على الاستقلال. ولم يكن البربر يحملون للعرب بغضا سياسيا أو جنسيا بل كانوا يعظمونهم تعظيم التلميذ لاستاذه والمريد لشيخه. وما كان من خلاف على الادارة العربية فسببه نفارهم بعضهم من بعض لان الادارة جمعت بين قبائل بينها احن قديمة متوارثة. فلذلك لم تعطل

الثوراث عبر الحضارة العربية ماديها وادبيها. عني العرب بنشر الامن ونظام البريد وتنشيط الفلاحة وتربية المواشي. فكانوا يقطعون الفلاحين الارضين. ويخففون عن البادية الخراج. ويكلفون شيوخ القبائل حماية القوافل ويتخذون الفرسان لنقل البريد بين البلدان. حكى التنسي أن رجلا من سجلماسة بلغه خروج قافلة الى مصر. فخرج يطوي المراحل خلفها. ومعه ثلاثة آلاف دينار. فلما جاوز قابس اذا بفرسان أخذوا دابته ودنانيره. فرجع الى الامير ابراهيم بن الاغلب بالقيروان. فدخل عليه وهو بمقصورة الجامع لسماع الشكاوي وفصل الدعاوي. فقص عليه خبره. وتنحى جانبا فدعا الامير حاجبه. وسأله هل وجهت خيلا الى طرابلس؟ فقال نعم وقد عادوا. فأمره بعرض جميع الفرسان عليه بعد القيلولة. وبعد انتهاء مجلسه أمر بالشاكي الى دار الضيافة. وجاء موعد العرض. فاستدعاه وأجلسه الى جنبه ليعرفه ان بصر باحد أصحابه. فكلما عرفه بواحد اوقفه ناحية. ولما تم العرض ادخل الموقوفون على الامير. فاستنطقهم حتى اعترف أحدهم. واتي بالدابة والدنانير. وخرج الشاكي وقد ارسل الامير الى عامل طرابلس بحبس الرفقة عليه ووجه معه من ابلغه اياها. تلك السياسة وهذا العدل أعانا على توسيع نطاق العمران وتنمية موارد الحياة. فكانت الطرق تخترق الوطن جنوبا وشمالا، والسفن تشق عباب البحر مشرقه ومغربه. والمراسي في حركة مستمرة والاسواق في نفاق متصل. وللتجار في بعض النواحي علامات على أبوابهم تدل على مبلغ ثروتهم. وترقت مع التجارة الصنائع من حدادة ونجارة وحياكة وصياغة

وغيرها حتى أصبحت علما تدون فيه الكتب. وكذلك الفلاحة. فعظمت النتائج. وساعدت الملوك على تضخيم الملك وانشاء المدن والقصور. وبعثت الناس الى مثل ذلك فاستبحر العمران. وضاقت المدن. فاتخذ حولها الفحوص وحضارة الجزائر في هذأ الدور شرقية صرفة. ولم تعرف حضارة الاندلس على قربها منها واتصالها بها الا في العصر البربري. وعظمة ثروة الجزائر العربية تدرك من كتب الجغرافية مثل المسالك والممالك ونزهة المشتاق. وكتب تاريخية حيث تجد مقدار خراج الاعمال وتفصيل هدايا العمال للامراء والملوك للرؤساء وما ينفق في الولائم والمآتم. وهذا الموضوع وحده يستحق ان يفرد بالتأليف لو وجد من ابناء الجزائر ذا عناية بماضيه. ونحن نثبت ههنا أمثلة قليلة منه ولا يسعنا استقصاؤه. من ذلك هدايا المنصور العبيدي لزيري بن مناد استثارة لنصرته على صاحب الحمار. قال القاضي بن حماد: "وكاتب المنصور زيري ابن مناد وماكسن بن سعيد وبعث اليهما أموالا جمة وثيابا جملة. ومن الذهب والعين واللجين ومن التحف والطرف ما استمال به النفوس واستلان به القلوب؟ اهـ. وقال أيضا: "وصل زيري بن مناد في قومه الى المنصور وهو بسوق حمزة. فوصله وفضله. وخلع عليه ثيابا كثيرة من لباسه. واعطاه من الطيب والطرائف الملوكية ما لا يحيط به الوصف ولا يعمه الحصر. وحمله وحمل أولاده واخوته وبني عمه ووجوه أصحابه على الخيل العتاق، بالسرج واللجم المحلاة بالذهب والفضة. وافاض عليهم وعلى كافة صنهاجة الواصلين معه الاموال إفاضة؟ اهـ. وانما يظهر عظم هذه الهدايا بالنظر الى ضيقة الحكومة يومئذ. وذكروا ان باديس الصنهاجي منح فلفول بن سعيد الزناتي صاحب

11 - الحالة العلمية والدينية

طبنة ثلاثين حملا من المال وثمانين تختا من الثياب وعشرة بنود مذهبة ومراكب بالسروج المحلاة، وان صندل عامل باغاية ارسل سنة 408 الى مولاه المعز بن باديس هدية فيها 335 برذونا بالسروج المحلاة وعبيد وشيء مستكثر. وهذا غيض من فيض اخذناه من اواخر الدور العربي ليعلم كيف ترك العرب هذا الوطن. 11 - الحالة العلمية والدينية الحكومات في حاجة الى كتاب لتسجيل الاوامر والاحكام وضبظ المالية. قال ابن السيد في الاقتضاب: "واصناف الكتاب على ما ذكره ابن مقلة خمسة: كاتب خط وكاتب لفظ وكاتب عقد وكاتب حكم وكاتب تدبير. فكاتب الخط هو الوراق والمحرر. وكاتب اللفط هو المترسل. وكاتب العقد هو كاتب الحساب الذي يكتب للعامل. وكاتب الحكم هو الذي يكتب للقاضي ونحوه ممن يتولى النظر في الاحكام وكاتب التدبير هو كاتب السلطان او كاتب وزير دولته " اهـ. وقد أفاض في بيان آلاتهم وآدابهم. وذكر اصطلاح الخط يومئذ فقال ما ملخصه: "يحتاج كاتب الخط الى جودة التقدير والعلم بمواقع الفصول فيكون ما يعزله من البياض عن يمين الكتاب وشماله وأعلاه وأسفله على نسب معتدلة، وتباعد ما بين السطور على نسبة واحدة الى أن يأتي فصل فيزاد في ذلك وسعة الفصول على مقدار تناسب الكلام فان كان القول المسأنف مشاكلا للقول الاول أو متعلقا بمعنى منه جعل الفصل صغيرا، وان كان مباينا له بالكلية جعل الفصل اكبر من ذلك " اهـ. كان كتاب الحكومات علماء ادباء، وكثير من أمراء الاغالبة

والادارسة وبني عبيد وعمالهم علماء ادباء. وعواصمهم كانت قبلة آمال أهل العلم وكعبة طلابه. قربوا اليهم العلماء والشعراء. وانشأوا بيوت الحكمة وهي دور الكتب. وأقاموا بها الوراقين يؤدون وظيفة الطباعة اليوم. واقبل الناس رجالا ونساء على العلوم والآداب لتنشيط الحكومات على ذلك. وظهر فحول الفقهاء ونوابغ الادباء وحكماء الاطباء والمؤرخون والاخباريون والجغرافيون. وظهرت المؤلفات في العلوم الدينية واللسانية والطبيعية والصناعية والفلاحية. ذكر المقري أن ابراهيم بن أحمد الشيباني البغدادي المتوفي بالقيروان سنة 298 كتب للاغالبة. وكان أيام زيادة الله على بيت الحكمة. وادخل في افريقية رسائل المحدثين واشعارهم وطرائف أخبارهم. وله تآليف. ومحمد بن يوسف من أهل القرن الرابع ينقل عنه البكري كثيرا. ذكر المقري أيضا انه ألف ديوانا ضخما في مسالك افريفية وممالكها وكتبا جمة في أخبار ملوكها وحروبهم والقائمين عليهم. وألف تآليف حسانا في أخبار تيهرت ووهران وغيرهما. وذكر ابن أبي اصيبعة أن اسحق بن عمران البغدادي كان طبيب زيادة الله بن الاغلب. وبه ظهر الطب والفلسفة بالمغرب، وله تآليف كثيرة. وعنه أخذ اسحق بن سليمان المصري الاسرائيلي. وكان طبيب عبيد الله المهدي وله تآليف جمة. وأخذ عنه ابن الجزار صاحب التآليفه العديدة الذي ترك خمسة وعشرين قنطارا من كتب الطب وغيره. وحياة الجزائر العلمية المتأثرة بما فيها وما حولها من العواصم يومئذ في حاجة الى تأليفه مستقل. ولم توف حتى اليوم حقها. وكان الناس لانتشار العلم سلفيين اعتقادا وعملا لا يتقيدون بمذهب من المذاهب، قال محمد بن الحارث في طبقات علماء افريقية:

"كان يحي بن عمر الاندلسي يسأل عن الشيء فيجيب عنه، ثم يسأل عن ذلك عينه بعد زمن فلا يختلف جوابه، وكان غيره يختلف قوله، وهذا من يحي يدل على ركود النظر وقلة الاجالة للفكر والاقتصار على المقال المحفوظ" اهـ. وقال ان سعيد بن محمد الحداد من أصحاب سحنون "كان مذهبه النظر والقياس والاجتهاد لا يتحلى بتقليد أحد من العلماء، ويقول انما أدخل كثيرا من الناس الى التقليد نقص العقول ودنا الهمم، وكان يقول القول بلا علة تعبد، والتعبد لا يكون الا من المعبود". واصل هذا القول عندي آية {اتخذوا احبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله". وقد عرف أهل المغرب أولا مذهب ابي حنيفة، ثم ظهر مذهب مالك في القيروان والاندلس، ودخل الجزائر من هاتين الجهتين، وحمل عليه الناس المعز بن باديس، وقطع ما سواه من مذاهب السنية وغيرهم، هذا في الفروع أما في الاعتقادات فلم يزالوا سلفيين يرضون عن جميع الصحابة كما قال سعيد بن المسيب. وقد قيل له ما تقول في عثمان وطلحة والزبير: "أقول ما قولنيه الله عز وجل: {ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا}. وكان الناس يقرأون بقراءة حمزة لا يعرف قراءة نافع الا الخواص الى ان جاءمم برواية ورش عن نافع محمد بن محمد بن خيرون الاندلسي نزيل القيروان المتوفي سنة 356. هذا خبر أهل السنة وهم أكثرية المغربيين، ويوجد بينهم الواصلية والخوارج والشيعة، أتى بمذهب الواصلية طائفة منهم زيد بن سنان الزناتي من أهل القرن الثاني. وكان منهم طوائف بنواحي تيهرت ومزاب والزاب.

والخوارج منهم الصفرية بنواحي وهران وتلمسان وتيلغمت فيما بين الاغواط ومزاب، ومنهم الاباضية بممكلة تيهرت، وبقوا بعد سقوط بني رستم بمزاب وورقلة ووادي ريغ والحضنة وجبل أوراس والزاب والجريد. والشيعة منهم الزيدية بالمملكة الادريسية والاسماعيلية بالمملكة العبيدية. وقضى على هذه المذاهب المعز بن باديس فغلب المذهب المالكي. وانحصر المذهب الاباضي بالصحراء في أرض مزاب وورقلة. وكان انقسام البربر على تلك المذاهب لما بين قبائلهم من منافسات وعداء، فتلك المذاهب فيهم نتيجة السياسة لا ربيبة العلم، ومع ذلك فلا بد ان يبقي المذهب أثرا في اتباعه وان استبدلوا به غيره، لان العامي ليس معه من العلم ما يفرق به بين المذهبين، فتجتمع لديه المتناقضات من حيث لا يشعر، ولو تجرد عالم مفكر لدرس وسطنا مثلا من حيث المعتقدات لالفى بين جنبي الواحد عقائد مختلفة كان أهلها يتقاتلون من أجلها ثم هو لا تحارب أجزاؤه بعضها بعضا! وقد استغل جهل العامة بحقيقة ما تدين بها كثير من الناس في أوقات مختلفة يتظاهرون لها بمذهبها قولا ويصرفونها عنه فعلا. وكان منهم من ادعى النبوءة فلم يعدم انصارا. ففي سنة 237 قام رجل مؤذن بناحية تلمسان. وادعى النبوءة. وتأول القرآن على غير وجهه. ونهى عن قص الشعر وتقليم الاظفار. ويقول لا تبديل لخلق الله. كأن ازالة تلك تبديل للخلقة! فاتبعته العامة. وطلبه أمير تلمسمان. ففر الى الاندلس. وشاع خبره هنالك ايضا. فقتله الامير بعد الاستتابة. وليست غاية هؤلاء المتنبئين الا نيل سيادة دينية. ولم يحمل الناس على اتباعهم الا الجهل بدينهم لا كما ظن بعض كتاب عصرنا

12 - سيادة العرب بالبحر الرومي

ان البربر أرادوا مقاومة الدين العربي وقرآنه ولسانه بدين وقرآن ونسان بربري نفورا من السلطة العربية. ومن أجاد فهم حوادث المغرب العربي وصدق التاريخ لم يجد ظلا لهذه الفكرة. ويغلط جدا من يعلل حوادث جيل بما يتجدد من احوال وافكار جيل بعيد عنه. 12 - سيادة العرب بالبحر الرومي تغلب الروم على البحر الابيض المتوسط بعد الفينيقيين اخوان العرب فسموه بحرنا MAR NOSTRUM ثم تغلب عليه العرب فلم يضيفوه اليهم، وقالوا بحر الروم. استعد العرب لغزو البحر لاول نزولهم بالمغرب. فأنشأ حسان ابن النعمان بتونس دار صناعة. وامده عبد الملك بن مروان بصناع من القبط. وانشأ اثره موسى بن نصير دار صناعة ايضا بطنجة فتح بمراكبها الاندلس. استولى العرب على هذا البحر وجزره من طنجة الى بيروت. وركبوه للغزو والتجارة. ومن اشهر مراسي الجزائر الحربية بونة) عنابة) ومرسى الخرز (القالة) قال البكري: "ومن مرسى بونة تخرج الشواني غازية الى بلاد الروم وجزيرة سردانية وكرسقة وما والاها. وبشرقي بونة مدينة مرسى الخرز. فيه المرجان. وهي مدينة قد أحاط بها البحر الا مسلكا لطيفا ربما قطعه البحر في الشتاء. عليها سور وبها سوق عامرة. وقد صنع بها مرفأ للسفن منذ مدة قريبة. وفيها تنشأ السفن والمراكب الحربية لغزو بلاد الروم. واليها يقصد الغزاة من كل أفق لان مقطعها يقرب من جزيرة سردانية. بينهما نحو مجريين (¬1) " اه. ¬

_ (¬1) المجرى مائة ميل بحرية.

قال الادريسي: "وعمارة أهلها على صيد المرجان لكثرته بها. يقصد اليه التجار من سائر الاقطار. يعمل بمعدنه في كل الاوقات نحو الخمسين قاربا في كل قارب نحو العشرين رجلا " اهـ. وقال صاحب الاستبصار: "مرجان مرسى الخزر انفس مرجان الدنيا وانفق شيء بالهند والصين". قال ابن خلدون في الفصل الثالث من الكتاب الاول: "وكان لكل بلد تتخذ فيها السفن أسطول يرجع نظره الى قائد من النواتيه يدبر امر حربه وسلاحه ومقاتلته. ورئيس يدبر أمر جريه بالريح أو بالمجاذيف وأمر ارسائه في مرفئه. فاذا اجتمعت الاساطيل لغزو محتفل أو غرض سلطاني مهم عسكرت بمرفئها المعلوم، وشحنها السلطان برجاله وانجاد عساكره ومواليه. وجعلهم لنظر أمير واحد من أعلى طبقات أهل مملكته. يرجعون كلهم إليه. ثم يسرحهم لوجههم. وينتظر ايابهم بالفتح والغنيمة". "وكان المسلمون قد غلبوا على هذا البحر من جميع جوانبه وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه فلم يكن لامم النصرانية قبل باساطيلهم بشيء من جوانبه. وامتطوا ظهره للفتح سائر أيامهم. فكانت لهم المقامات المعلومة من الفتح والغنائم. وملكوا سائر الجزائر المنقطعة عن السواحل فيه. مثل ميورقة ومنورقة ويابسة وسردانية وصقلية وقوصرة ومالطة واقريطش (كريد) وقبرص وسائر ممالك الروم والافرنج، وكان ابو القاسم الشيعي وابناؤه يغزون اساطيلهم من المهدية جزيرة جنوة فتنقلب بالظفر والغنيمة". "تغلب المسلمون على كثير من لجة هذا البحر. وسارت أساطيلهم فيه جائية وذاهبة. والعساكر الاسلامية تجيز البحر في الاساطيل من صقلية الى البر الكبير المقابل لها من العدوة الشمالية. فتوقع بملوك الافرنج، وتثخن في ممالكهم. كما وقع في أيام بني

الحسن ملوك صقلية القائمين فيها بدعوة العبيديين". "وانحازت أمم النصرانية باساطيلهم الى الجانب الشمالي الشرقي منه من سواحل الافرنجة والصقالبة وجزائر الرومانية لا يعدونها. واساطيل المسلمين قد ضرت عليهم ضراء الاسد على فريسته. وقد ملأت الاكثر من بسيط هذا البحر عدة وعددا واختلفت في طرقه سلما وحربا. فلم تسبح للنصرانية فيه ألواح". "حتى اذا أدركت الدولتين العبيدية والاموية الفشل والوهن وطرقها الاعتلال مد النصارى ايديهم الى جزائر البحر الشرقية مثل صقلية واقريطش ومالطة. فملكوها " اهـ. هذا كلامه في العصر العربي نقلناه بطوله لاهميته. فان من يرى اليوم اختصاص النصارى بهذا البحر يظن ان المسلمين لم تكن لهم عليه يد ويغفل عن آية {وتلك الايام نداولها بين الناس}. وللادباء قصائد ومقطعات في وصف الاساطيل. منها قول ابن هانىء الاندلسي: معطفة الاعناق نحو متونها … كما نبهت ايدي الحواة الافاعيا اذا ما وردن الماء سوقا لبرده … صدرن ولم يشربن غرقي صواديا اذا اعملوا فيها المجاذيف سرعة … ترى عقربا منها على الماء ماشيا ولغيره: وياللجواري المنشطآت وحسنها … طوائر بين الماء والجو عوما اذا نشرت في الجو اجنحة لها … رائت بها روضا ونورا مكمما وان لم تهجه الريح جاء مصافحا … فمدت له كفا خضيبا ومعصما مجاذف كالحيات مدت رؤوسها … على وجل في الماء كي تروي الظما كما أسرعت عدا أنامل حاسب … بقبض وبسط يسبق العين والفما هي الهدب في اجفان أكحل أو طف … فهل صنعت من عندم او بكت دما؟

نقود الدولة الادريسية 1 - نقود ادريس الثاني ضرب بفاس سنة 189 2 - نقود محمد بن ادريس المنتصر بالله ضرب هذا الدرهم بالعلية سنة 216 3 - نقود علي بن محمد المنتصر بالله ضرب بالعلية سنة 224 4 - نقود احمد بن عيسى من بني سليمان ضرب بسوق ابراهيم سنة 287 نقود الدولة الاغلبية 5 - نقود عبد الله بن ابراهيم الاول ضرب هذا الدينار عام 199. 6 - نقود ابي العباس محمد ضرب هذا الدينار سنة 241 7 - نقود ابي الغرانيق محمد بن احمد ضرب هذا الدينار سنة 250 8 - نقود عبد الله بن بلراهيم الثاني ضرب هذا الدينار سنة 290

9 - نقود زيادة الله الثالث ضرب هذا الدينار سنة 291 نقود الدولة العبيدية 10 - نقود الخير بن محمد بن خزر المنتصر بالله ضرب أيام المعز بن المنصور 11 - نقود المعز بن باديس

وعلى م تبكي المجاذيف الدم؟ انما يبكيه خلف هؤلاء العرب الذين فرطوا في تراثهم وافرطوا في سباتهم. ولله شاعر العصر احمد شوقي في قوله من قصيدة: اليس البحر كان لنا غديرا … وكانت فلكنا البجع الرتاعا غمرنا بالحضارة ساحليه … فما عيا بحائطهما اضطلاعا ثوارثناه ابلج عبقريا … ذلول المتن منبسطا وساعا ترى حافاته انفجرت عيونا … ورفت من جوانبه ضياعا فما زدنا الكتاب الفخم حرفا … ولا زدنا العصور الزهر ساعا فعدنا مقعدا الآباء منه … فكنا البهم قد خلف السباعا

الباب السادس في نزوح الهلاليين إلى المغرب

الباب السادس في نزوح الهلاليين إلى المغرب

1 - تمهيد

1 - تمهيد جاء العرب أولا الى المغرب فاتحين منظمين معمرين (بالمعنى اللغوي لا السياسي المستعمل اليوم) مقتصرين على سكنى المدن غير مزاحمين للبربر في أراضيهم، وتمرن البربر على عهدهم في الشؤون الدولية حتى تبؤا المناصب العالية ايام العبيديين فلحق كثير من العرب بالمشرق. ومن بقي منهم بقي خاملا. فالعبيديود هم الذين اخرجوا العرب من المغرب، ثم كانوا هم الذين اعادوهم اليه لما نبذ الصنهاجيون طاعتهم. لكن هؤلاء العرب جاءوا منتقمين من البربر مزاحمين لهم في أوطانهم لا في سلطانهم. وهؤلاء العرب هم بنو سليم وبنو هلال واحلافهم من جشم والخلط والمعقل، وتجتمع هذه القبائل غير المعقل في منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان (بالعين المهملة) بن مضر، فسليم هو ابن منصور، يقال انه كان في أوائل القرن الثالث للميلاد، وجشم هو ابن معاوية بن بكر بن هوازن بن سعد بن منصور. وهلال هو ابن عامر بن صعصعة بن معاوية، ويقال انه كان اوائل القرن الخامس للميلاد. والخلط من بني المنتفق بن عامر بن عقيل بن كعب بن ربيعة ابن عامر بن صعصعة. واما المعقل فينسبون انفسهم الى جعفر بن ابي طالب. ونسابة بني هلال يعدونهم في بطونهم. قال ابن خلدون: "والانسب ان يكونوا يمنيين من المعقل واسمه ربيعة احدى بطون مذحج " اهـ.

2 - نزوح الهلاليين الى افريفية

وموطن سليم فيما بين المدينة وخيبر وتيماء. ومجال هلال في بسائط الطائف إلى جبل غزوان شرقي مكة. وجشم حيث هلال وبقية هوازن. وبنو المنتفق بارض تيماء من نجد. والمعقل بالبحرين. هذه مواطنهم في الجاهلية. وبعد الاسلام حافظوا عليها مع توسعهم في غيرها. وفي ولاية عبد الله بن الحبحاب انتقلت طائفة من سليم الى مصر. ثم لحق بهم أحياء من هلال واحلافهم. واشتغلوا بالفلاحة والكسب. فراشوا وكثروا. ودخل إخوانهم بالجزيرة في دعوة القرامطة سنة 316 وحارب الفاطميون القرامطة بالشام. وأنتصر عليهم العزيز بن المعز. فنقل كثيرا من سليم وهلال إلى صعيد مصر. وأمعن في نقل هلال بحيث لم يبق منهم بنجد الا العاجز عن الحرب ونزل بنو قرة من هلال ببرقة. كانت هذه القبائل بادية ظواعن. اشرف اعمالهم الغارة واطيب مكاسبهم النهب. لم يتهذبوا بآداب الاسلام. ولم يقدر على اخضماعهم لا الأمويون ولا العباسيون ولا الفاطميون. فأكثروا من الفساد. وتضرر بهم العباد والبلاد. هذه صورة موجزة من خبر هذه القبائل قبل دخولها المغرب. وكان حظ الجزائر منهم بعد نزوحهم اليه قبيلة هلال واحلافها. ولم يدخلها من سليم الا القليل. ولهذا اقتصرنا في عنوان الباب على بني هلال. 2 - نزوح الهلاليين الى افريفية كان بنو عبيد بمصر يدبرون الثورات بالمغرب كي لا يفقدوا نفوذهم منه. فساء ذلك ملوك صنهاجة. وخشوا إن قطعوا دعوتهم

ان يوجدوا السبيل على سلطانهم لمنافسيهم من اقربائهم ومشاقيهم من كتامة وغيرها. ولما ولي المعز بن باديس نصر اهل السنة وهم أكثر السكان واضعف الشيعة حتى لا يستطيعوا مقاومته متى قطع دعوة بني عبيد. وكان وزير بني عبيد المتحكم في دولتهم ابا القاسم الجرجرائي فطمع المعز في استفساده عليهم. ولكن لم ينل معه مراده. وتوفي سنة 438 فخلفه اليازوري. وكان دونه شأنا. فاستخف به المعز وخاطبه بما احفظه. فاظلم الجو بينهما. وأعلن المعز الدعاء لبني العباس سنة 440 وعجز كل من بني عبيد بمصر وشيعتهم بالمغرب عن اعادة الدعوة العبيدية بافريقية. فرأى اليازوري أن يرسل على المعز عرب الصعيد. فان ظفروا به والا فلها ما بعدها. وفي سنة 41 أذن اليازوري لعرب الصعيد باجازة النيل. ورغبهم في أرض المغرب. وأعان من اجابه منهم ببعير ودينار. واقطع زغبة طرابلس وقابس، ورياحا القيروان وباجة، ودريدا قسنطينة. وكتب الى المعز: "قد انفذنا اليكم خيولا فحولا وارسلنا عليها رجالا كهولا ليقضي الله أمرا كان مفعولا". نزل رعيل العرب برقة. وأعجبتهم أرضها. فكتبوا الى اخوانهم بالصعيد يرغبونهم في اللحاق بهم. ولكن حكومة بني عبيد لم تأذن لهم هذه المرة أجازة النيل الا باداء دينارين لكل شخص، فأحذ القادرون على الاداء في الرحيل حتى ضاقت بهم برقة. فبقي بنو سليم، وتقدم بنو هلال الى افريقية. كان كل من بني عبيد وصنهاجة يجهلون نتيجة هذه الحملة. فاستكثر المعز من شراء العبيد حتى اجتمع له منهم ثلاثون الفا. وتقدمت رياح سنة 43 لامتلاك اقطاعها. فاحسن المعز إلى أميرهم

مؤنس بن يحي واصهر اليه واسكنه ببعض قصوره بالقيروان. فحسنت معه نية مؤنس وعاد تشاؤم المعز بمقدمهم تفاؤلا. ففكر في اتخاذ جند منهم يتقوى بهم على بني عمه الحماديين. وعرفه مؤنس عواقب دخول العرب مملكتهم. وحذره فسادهم. فأبى الا استقدامهم. فذهب اليهم مؤنس بدعوى المعز. فقدموا ولكن بدعوى المستنصر الفاطمي واخذوا يعيثون في الارض فسادا. ساءت نيه المعز مع مؤنس واتهمه باغراء العرب على الفساد. فقبض على أخيه واهله بالقيروان. فورم أنف مؤنس لفعلته، وجمع العرب ووضع بين أيديهم زربيه قائلا: هل يستطيع احد ان يبلغ وسطها دون أن يطأ حواشيها؟ قالوا لا. قال كذك القيروان لا نملكها الا اذا ملكنا ضواحيها. استعد المعز لحرب العرب فجمع عبيده وقومه وبقايا عرب الفتح. واستمد ابن عمه الحمادي فأمده بالف فارس. واستنفر زناتة. فأتاه منهم ألف فارس، ولحق برياح زغبة وعدي. وكانت جموع المعز اضعافهم. ولكن قد قيل قديما: "للكثرة الرعب وللقلة النصر". تزاحف الجمعان، فانخزل عرب الفتح الى اخوانهم الهلاليين، وخانت زناتة وصنهاجة الحمادية، فترك المعز معسكره للعرب، وفر الى القيروان، واستولى العرب على افريقية ومدنها مثل ابة والاربس وباجة. وخشي المعز على نفسه بالقيروان. فلحق في خفارة بعض أمراء العرب بالمهدية سنة 49 وذاق وبال سوء ظنه بمؤنس واغتراره بقوته. وتلاحق الى الهلاليين اخوانهم بالصعيد ونجد. ودامت حركة الهجرة نحو نصف قرن. وموجتها في اتجاه نحو الغرب.

3 - الهلاليون بالجزائر

3 - الهلاليون بالجزائر تقدم الهلاليون واحلافهم نحو الجزائر. فدخلوها من ثلاث جهات. الاولى جهة السواحل حيث تقطن كتامة ويضعف نفوذ صنهاجة او ينعدم. تقدموا اليها من نواحي باجة. فانتشروا على ضواحي القالة وعنابة وقسنطينة الى القل الى جبال بابور. وتقدم الهلاليين في هذه الناحية اسبق منه في سواها. ولم نجد خبرا عن دفاع كتامة لهم. فاما ان يكون بنو عبيد كتبوا اليها بتأييدهم واما ان تكون هي التي تقربت منهم نكاية في صنهاجة. وكلام الادريسي عن مدن هذه الجهة يدل على حسن علائق أهلها مع العرب فالقالة كانت حالتها التجارية حسنة والعرب يمونونها بحبوبهم. وقسنطينة قال ان أهلها مياسير، بينهم وبين العرب معاملات ومشاركة في الحرث والادخار. الجهة الثانية جهة الهضاب ما بين الاطلسين التلي والصحراوي حيث الحكوملة الحمادية ثابتة القدم. تقدموا اليها من نواحي الاربس وانتهوا ايام الادريسي الى وادي الساحل وجبال البيبان. دافعتهم صنهاجة عن هذه الجهة. فغلبوها على الضواحي، وحصروها بالمدن الحصينة والقلاع المنيعة، فان الادريسي لما ذكر المدن الواقعة شمال اوراس ذكر انها في حال سيئة من حصار العرب لها، قال في حصن ماوس: "حصن عامر بأهله، وكانت العرب تملك ارضه. وتمنع أهله الخروج منه الا بخفارة رجل منهم". ودار ملول شرقي طبنة على مرحلة منها، قال: "انها مدينة عامرة بها حصن. فيه مرصد مشرف على محال العرب يستطلع منه حركاتهم". ودار ملول ذكرها ياقوت بلفظ ارملول.

وذكر الطريق من بجاية الى قلعة بني حماد. وعدد منازلهم. فلما بلغ الباب قال: "وهي جبال يمر بينها الوادي المالح. وهناك مضيق وموضع مخيف. ومنه الى حصن السقائف الى حصن الناظور الى سوق الخميس، وبه المنزل. وهذه الارض كلها تجولها العرب وتضر باهلها وسوق الخميس حصن باعلى جبل. وبه مياه جارية. ولا تقدر العرب عليه لمنعته. وبه من المزارع والمنافع قليل. ومنه الى حصن مطماطة في أعلى جبل الى سوق الاثنين. وبه المنزل. وهو قصر حصين. والعرب محدقة بارضه. وبه رجال يحرسونه مع سائر أهله. ومنه الى حصن تافكلات (في غيره تافلكات (الى تازكي، حصن صغير، الى قصر عطية على أعلى جبل ثم الى حصن القلعة مرحلة وجميع هذه الحصون أهلها مع العرب في هدنة. وربما اضر بعضهم ببعض. غير أن أيدي الاجناد بها مقبوضة، وايدي العرب مطلقة في الاضرار وموجب ذلك ان العرب لها دية مقتولها. وليس عليها دية فيمن يقتل" اهـ. الجهة الثالثة جهة الصحراء حيث تكثر خيام زناتة الخاضعة لبني حماد. تقدموا اليها من ناحية سبيبة الى تبسة. وانتشروا جنوب اوراس على قرى الزاب وانتهوا ايام الموحدين الى مزاب وجبل راشد. دافعهم زناتة عن هذه الجهة. وكانت أملك للبأس من صنهاجة لبدواتها وتقارب ما بين حياتها وحياة العرب. فكانت بين الفريقين مواقف صعبة أكثر الهلاليون من ذكرها في أشعارهم. وقتل في بعضها أبو سعدى خليفة اليفرني بالزاب. وهو قائد صاحب تلمسان من بني يعلي. قال ابن خلدون: "وتغلب العرب على الضواحي في كل وجه وعجزت زناتة عن مدافعتهم بافريقية والزاب. وصار الملتحم بينهم في الضواحي بجبل راشد ومصاب " اهـ.

4 - نتائج النزوح الهلالي

ولما استتب الامر للموحدين نزعت اليهم زغبة ونزلت مع بني بادين من زناتة قبلة المغرب الاوسط من مزاب الى جبل راشد. واتحدوا على دفاع ابن غانية الميورقي. قال ابن خلدون: "وانعقد بينهم حلف على الجوار والذب عن الاوطان وحمايتها من معرة العدو في اهتبال غرتها وانتهاز الفرصة فيها. واقامت زغبة في القفار. وبنو بادين بالتلول والضواحي" اهـ. ولما ضعفت الدولة الموحدية المؤمنية ونشأت دولتا بني زيان وبني مرين احتاجت الدولتان الى العرب لتعزيز سيادتهما. فدخل الهلاليون واحلافهم شمال المغرب الاوسط من عمالة وهران. وهكذا تم للعرب استيطان الجزائر بالرهبة من سيوفهم أولا وبالرغبة فيها أخيرا. فاقطع لهم ملوك البربر الاقطاعات وأجزلوا لامرائهم الصلات. وأضيفت افريقية الشمالية الى جزيرة العرب جنسيا بعد ما تبعتها دينيا وسياسيا. 4 - نتائج النزوح الهلالي ارسل الفاطميون الهلاليين على المغرب انتقاما من المعز ودوله صنهاجة الشرقية فنزحوا اليه لا حبا في نصرة الفاطميين ولا بغضا في صنهاجة. ولكن طلبا للرزق بالتقلب في بواديه بين الصحراء والتل. ولما دخلت رياح افريقية لم تبدأ بالشر حتى كان ما كان من قبض المعز على أسرة أميرها مؤنس. فحمل بسوء سياسته العرب على تنفيذ ما رسم لهم الفاطميون من تملك المناطق المعينة لهم. كان عدد من أجاز النيل من رياح وزعبة وعدي يربو على ألف ألف نفس. المقاتلة منهم نحو خمسين ألفا وسلاحهم سيف ورمح

وقوس ودرع. وكان البربر يفوقونهم عددا وعددا ولكن تخاذلوا امامهم فاكسب العرب صيتا ملأ قلوب السكان رعبا. والرعب أهم أسباب الفوز في الحرب. حصرت الحرب العرب في افريقية، ولم يزل اخوانهم يتواردون عليهم من المشرق، فضاق بهم ما احتلوه من الاوطان، ونتج عن ذلك خراب العمران وسوء حياة السكان. واحصى عليهم الجغرافيون والمؤرخون حتى اقتلاع عود للوقود أو رفع حجر للاثافي. بقيت الجزائر في نجوة من فساد الهلاليين حتى حالف الناصر بن علناس قبيلة الأثبج وخرج لامتلاك تونس، فاغرى به ابن عمه تميم ابن المعز بقية العرب وكانت وقعة سببية سنة 457 فهزم الناصر. وتبعه العرب الى القلعة. قال ابن خلدون: "فنازلوها وخربوا جناتها واحتطبوا عروشها وعاجوا على ما هنالك من الامصار مثل طبنة والمسيلة. فخربوها وازعجوا ساكنيها. وعطفوا على المنازل والقرى والضياع والمدن. فتركوها قاعا صفصفا أقفر من بلاد الجن وأوحش من جوف العير! وغوروا المياه واحتطبوا الشجر وأظهروا في الارض الفساد" اهـ. وفي قوله أقفر من بلاد الجن وأوحش من جوف العير مبالغة أجنبية عن أسلوب التاريخ. فان الادريسي تتبع الحملة الهلالية أحسن تتبع ووصف طبنة ومقرة والمسيلة وغيرها بالعمران. عجزت صنهاجة الغربية أمام الهلاليين كاختها الشرقية. وغلبوا أيضا زناتة بالصحراء. ونشأ عن ذلك فوضى في الوطن. فانقطعت الصلة بين المدن باخافة السبل. وفر الفلاحون من الضواحي. فوقفت التجارة والفلاحة. وانحصرت العمارة والأمن في السواحل شمال قسنطينة حيث لا شر بين العرب والبربر.

وكان ضرر الحرب بالجزائر أقل منه بتونس وطرابلس لان الجزائر لم تكن هي المقصودة بهذه الحملة، ولم تطل بها مدة الحرب، وسواحلها حيث كتامة كانت منطقة سلم، ووسطها به معاقل منيعة وجبال حصينة، وجنوبها حيث اشتدت الحرب صحراء ليس فيها كبير عمارة. والمسؤل عما لحق المغرب من أضرار الحرب هي صنهاجة التي لم تحسن سياسة هؤلاء العرب وجرأتهم عليها بما كان بين دولتيها من تنافس. وقد بالغ كتاب العربية في تقدير تلك الاضرار ثم حملوا الهلاليين مسؤليتها. ذلك لانهم كتبوا لدول بربرية ولم يكن للهلاليين حكومة تطمعهم في انعامها. ولبداوتهم لم يهتموا بدعاية سياسية تنشر لهم أو عليهم. واتخذ كتاب الفرنسوية مبالغات كتاب العربية سلما لثلب العرب. وصاروا يطرون البربر بعد ما كانوا يقذفونهم باشنع القذائف في الدورين الروماني والبزنطي. واقتصر في هذا الغرض على كلمة واحدة للكاتب العسكري كاريت. قال: " كان هجوم العرب الفاتحين كالاعصار يقتلع الاشجار ويهدم المنازل وهجوم الهلاليين كالحريق الهائل الذي يذر الاشجار والمساكن رمادا تذروه الرياح فما أبقاه الاعصار قضى عليه الحريق. وما بقي عن السياسة العربية قائما بالمغرب ذهب به الطبع العربي الهدام. فتمم الهلاليون اعمال التخريب التي ابتدأها الخلفاء الأولون " اهـ. اما تجد في هذه الجملة التي هي غيض من فيض ريح مسيحية القرون الوسطى وروح الاستعمار المصري؟ لعل كاريت تصور حربا أروبية بآلاتها المدمرة واستعار نتائجها لنتائج حرب سلاحها السيف والقوس! ولعل عاطفته على هذا الوطن امام الهجوم العربي استعارها من انسان كامل رأى الحملات الاروبية على الامم المستضعفة! اسمح لي أيها الكاتب أن أقول لك لست بمؤرخ يحترمه القارىء ولا بسياسي

5 - الحياة الهلالية

يغر البربر فانهم لا يرضون عن تحاملك على العرب ولا سيما الفاتحين. البربر يعلمون أن ما نتج عن هجوم الهلاليين ليس ناشئا عن عداوة جنسية أو قسوة حربية ولذلك اختلطوا بهم وأخذوا عنهم عوائد اجتاعية واخلاقا فاضلة اضافوها الى عوائدهم وأخلاقهم. واستعرب كثير منهم لما وجدوا في العربية ثروة لفظية وادبا راقيا واعانة على فهم الدين. واستبدلوا بحياتهم حياة عربية. فكان نفوذ الهلاليين في البربر اجتماعيا لغويا جنسيا. كما كان نفوذ الفاتحين دينيا سياسيا ويمتاز نفوذ العرب في غيرهم من الامم بأنه غير ناشىء عن دعاية سياسية وانه خالد خلود الراسيات لا يذهب بذهاب سلطانهم ولا توهن من قوته الدسائس الاجنبية. بل لا يكترث بها الا اكتراث القائل: يا ناطح الجبل العالي ليوهنه … اشفق على الرأس لا تشفق على الجبل 5 - الحياة الهلالية الهلاليون بداة ظواعن. يسكنون بيوتا يستخفونها يوم ظعنهم. ويكسبون الخيل لركوبهم والانعام لحمل أثقالهم والتغذي بألبانها واتخاذ الملابس والاثاث من أوبارها واصوافها واشعارها. ينتجعون بها الصحراء شتاء والتل صيفا. ويبتغون الرزق في غالب أحوالهم من القنص وتخطف الناس من السبل. ويجمعون أيام كونهم بالتل الحبوب لقوت سنتهم. قال ابن خلدون: "وربما يلحق أهل العمران أثناء ذلك معرات من اضرارهم بافساد السابلة ورعي الزرع مخضرا وانتهابه قائما وحصيدا. الا ما أحاطته الدولة وذادت عنه الحامية في الممالك التي للسلطان عليهم فيها سبيل" اهـ.

وتغلب الهلاليون على طرق القوافل، فلا يجتازها غيرهم الا بخفارة احدهم. فوقفت حركة البربر التجارية من هذه الناحية ولكن الهلاليين قاموا بها أحسن قيام ووسعوا نطاق التجارة بين التل والصحراء. ولم يحافظ عللى حياة الظعن من الهلاليين الا القبائل القوية واحلافها. اما من ضعف منهم فكانوا ينزلون المدن والقرى البربرية. أو يحدثون لانفسهم قرى بالزاب والصحراء. ويشتغلون بالفلاحة ويستبدلون بالشاة البقر. وكانت زناتة وبعض البربر على مثل هذه الحياة البدوية من قبل مجيئء الهلاليين. لانها حياة ناشئة عن طبيعة الوطن لا دخل للنسب فيها. ولتشابه الحياتين تأثر الهلاليون بزناتة في بعض عوائدهم. قال ابن خلدون متحدثا عن العرب: " شعارهم لبس الخيط في الغالب. ولبس العمائم تيجانا على رؤسهم. يرسلون من أطررافها عذبات يتلثم قوم منهم بفضلها. وهم عرب المشرق. وقوم يلفون منها الليت والاخدع قبل لبسها. ثم يتلثمون بما تحت اذقانهم من فضلها. وهم عرب المغرب. حاكوا بها عمائم زناتة من أمم البربر قبلهم. وكذلك لقنوا منهم في حمل السلاح اعتقال الرماح الخطية. وهجروا تنكب القسي. وكان المعروف لاولهم ومن بالمشرق لهذا العهد منهم استعمال الأمرين .. "، " فهذه كلها شعائرهم وسماتهم. وأغلبها عليهم اتخاذ الابل والقيام على نتاجها وطلب الانتجاع بها لارتياد مراعيها ومفاحص توليدها، بما كان معاشهم منها. فالعرب أهل هذا الشعار من أجيال الآدميين، كما أن الشاوية أهل القيام على الشاة والبقر، لما كان معاشهم فيها. فلهذا لا يختصون بنسب واحد بعينه الا بالعرض.

ولذلك كان النسب في بعضهم مجهولا عند الاكثر، وفي بعضهم خفيا على الجمهور. وربما تكون هذه السمات والشعائر في أهل نسب آخر فيدعون باسم العرب " اهـ. ولسان الهلاليين مضري. حافظوا عليه ببداوتهم في المفردات والتراكيب ووجوه البلاغة وأساليب الخطاب. قال ابن خلدون: " وفيهم الخطيب المصقع في محافلهم ومجامعهم، والشاعر المفلق على أساليب لغتهم. والذوق الصحيح والطبع السليم شاهدان بذلك، ولم يفقدوا من أحوال اللسان المدون الا حركات الاعراب في أواخر الكلم فقط" اهـ. وقد ذكر العبدري في رحلته- وهو من أهل القرن السابع- عن عرب برقة لم يزالوا يعربون أكثر أقوالهم. ويتحدثون بما يعد عند العلماء غرورا. وذكر ما سمعه من أقوالهم المعربة وألفاظهم الغريبة، وعلل ذلك بعدم أختلاطهم بالناس وقال هم افصح من عرب الحجاز وغيرهم. فلعل الهلاليين انما فسد لسانهم بالجزائر لاختلاطهم بالبربر، ويشهد لذلك أننا نرى اليوم عرب الصحراء القليلي الاختلاط بغيرهم أصح عربية واقوم مخارج حروف، وعرب السواحل المغمورين بالبربر أفسد نطقا بالحروف وأردى لغة. ومع هذا فالهلاليون أثروا من حيث اللغة في البربر أكثر مما تأثروا بهم. وذكر ابن خلدون ان بداة العراب شرقا وغربا يمتازون عن أهل الحضر بان مخرج القاف لديهم بين مخرجي الكاف والقاف الحضرية، ولم تزل هذه القاف البدوية لعهدنا، وهي مثل القاف الأعجمية التي نحدها في الاعلام البربرية والافرنجية وغيرها، مثل بلقين وتاقرا وقسال وقوتية، وكان الاقدمون كالبكري يرسمونها جيما، يقولون

بلجين وتاجرا، ومن بعدهم كابن خلدون يرسمونها كافا، فيقولون بلكين، وكتاب عصرنا يرسمونها غينا. فيقولون غسال وغوتية. وانا اختار رسمها قافا اذ هي مثل القاف البدوية مخرجا. وكانت أخلاق الهلاليين هي أخلاق الجاهلية بما فيها من حسنات وسيئات كالجود والشجاعة وعزة النفس واباية الضيم وحفط العهد وحسن الجوار والاعتراف بالجميل والتمدح بالغارة وبغض الصنائع والحرف. ومعارفهم هي معارف الجاهلية من عناية بالانساب وكل ما يتصل بحياتهم البدوية، وليس لهم من الاسلام بعد الشهادتين كبير علم أو عمل. وقد تأثروا من هذه الناحية بالبربر، فنبذ القاطنون بالنواحي الخصبة حياة الغارة والفتن. وحيي فيهم الشعور الديني. وظهر منهم من دعا الى السنة. ورابطوا في الثغور لحمايتها من النرمان، ولم يعرف عنهم اعانة الكافر أو الاستعانة به حتى كان بنو زيان أواخر أيامهم يستعينون بعضهم على بعض لنيل الملك بالاسبان النازلين بوهران. فجروا معهم أحلافهم من عامر وزغبة القاطنين بنواحي وهران، فاصبحوا من بعد جندا لنصارى الاسبان. وللقبائل الهلالية مناطق تتقلب فيها ظعنا واقامة. ولكل رئيس منها يلقب أميرا أو شيخا أو سيدا. والغالب أن يكون معه من قبيلته رئيس تابع له يلقب رديفا. وقلما تخرج رئاسة القبيلة من بيت الى آخر. وللرئيس صفات يمتاز بها من كبر سن ورجاحة عقل وفصاحة لسان وفضل جود. وليس للحكومة عزله الا ان تكون قبيلته ضعيفه. وكثيرا ما تكون الحروب بين الهلاليين اما بين قبيلتين متجاورتين لاسباب أهمها التنازع على وسائل الحياة ولا سيما بالصحراء: واما

بين أفراد القبيلة للواحدة لاسباب أهمها التنازع على الرئاسة. ولا يفض الخصاء كالحسام. وينتج عن هذه الحروب ضعف قبيلة واستعلاء أخرى. فتضطر الضعيفة اما للجلاء الى ناحية اخرى واما للاحتماء بقبيلة أقوى. فتضع القبيلة الحامية على المحمية عربية أو بربرية ضريبة معلومة يسمونها خفارة. وهي آية الشرف الحربي. واليوم لم يزل لبعض القبائل على غيرها خفارة يقبضونها باسم الشرف الديني. ويحرفوق لفظها الى غفارة كما حرفوا اصل وضعها. وقد احتاجت الحكومات البربرية الى القبائل العربية. فقربت رؤساءهم بالمصاهرة والمجا لسة. واقطعتهم الاراضي. واعتمدت عليهم في جباية الخراج وتجنيد الجنود. وعرف العرب ان نعمتهم تلك لا تدوم الا بضعف الحكومة. فكانوا يحدثون لها المشاكل ويديرون عليها الثورات. ويتحدون ضدها متى خشوا قوتها نابذين ما بينهم من تراث. وينقسمون على الحكومات متى تعددت. وقد أصبحت الحكومات الحفصية والزيانية والمرينية كل منها تعتمد على قبائل عربية سلما وحربا. ولم تكن مشاغبة الهلاليين للحكومات البربرية لطمع في الملك أو طلب للفوضى. وانما كانت لحفظ حياتهم البدوية. وكانت القبائل البربرية تتواثب على الملك ارضاء لشهوات زعمائهم لا لاختلاف مباد او تباين غايات. ونتج عن سياسة هذين الجنسين المشتركين في الدين والوطن نتائج سيئة عادت عليهم جميعهم بالوبال. وتفصيل الحياة العربية السياسية في الكتاب الثالث ان شاء الله. قال ابن خلدون: "وكان في هؤلاء العرب لعهد دخولهم افريقية رجالات مذكورون. وكان من أشهرهم حسن بن سرحان وأخوه بدر

الهلاليون ومواطنهم بالجزائر

وفضل بن ناهض. وهم من دريد بن الاثبج. وماضي بن مقرب من قرة. وسلامة بن رزق من كرفة. وشبانة بن الاحيمر واخوه صليصل من بني عطية من كرفة. وذياب بن غانم من بني ثور. ومؤنس بن يحي من مرداس رياح لامر داس سليم وزيد بن زيدان من الضحاك، ومليحان بن عباس (وفي نسخة ثليجان بن عابس) من حمير. وزيد العجاج بن فاضل. ويزعمون انه مات بالحجاز قبيل دخول افريقية. وفارس بن أبي الغيث واخوه عامر (وفي نسخة عابد) والفضل ابن ابي علي. ينسبونهم في مرداس والمعنى مرداس رياح كل هؤلاء يذكرون في أشعارهم. وكان ذياب بن غانم رائدهم في دخول افريقية. ويسمونه لذلك ابا مخيبر، وشعوبهم لذلك العهد- كما نقلنا- هم زغبة ورياح والاثبج وقرة وكلهم من هلال بن عامر وربما ذكر فيهم بنو عدي، ولم نقف على اخبارهم. وليس لهم لهذا العهد حي معروف فلعلهم دثروا وتلاشوا وافترقوا في القبائل " اهـ. الهلاليون ومواطنهم بالجزائر العرب المستوطنون بالجزائر إنما هم الهلاليون واحلافهم. اما سليم فإنما تقدمت منهم قبيلة عوف حوالي القرت الثامن من تونس الى ناحية عنابة. واحلاف الهلاليين هم عرب المعقل واحياء من فزارة وأشجع من بطون غطفان. وجشم بن معاوية بن بكر بن هوازن. وسلول بن مرة بن صعصعة بن معاوية. وعمرة بن اسد بن ربيعة بن نزار وفي بعض نسخ ابن خلدون عترة بالتاء بدل الميم. وثور بن معاوية بن عبادة بن ربيعة البكاء بن عامر بن صعصعة. وعدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر. وطرود بطن من فهم بن قيس عيلان.

هذا ما ذكر ابن خلدون. ولم يعتن باخبار غير المعقل منهم. وعد باقيهم مندرجين في هلال. وفي الاثبج منهم خصوصا. نعم طرود لم يزالوا معروفين باسمهم. ودخلوا أرض سوف بعد ابن خلدون. ونقل كاريت عن ابن الرقيق ان السكاكين فيمن دخل مع الهلاليين. وسكون بطن من كندة احدى القبائل اليمنية. ولما أخذ ابن خلدون في شرح أحوال هؤلاء العرب قال: " ونخص منهم بالذكر من كان لهذا العهد بحيه وناجعته. ونطوي ذكر من انقرض منهم" اهـ. ونحن نقدم الكلام في المعقل ثم نقفي ببني هلال. تحيز المعقل منذ أمد قديم الى الهلاليين. ودخلوا معهم المغرب في عدد دون المائتين ونزلوا غربيهم. وانتشروا في الصحارى. فاعتزوا وعفوا وكثروا بمن اندمج فيهم من غير نسبهم من اشجع وفزارة وبني سليم. ومن بني هلال احياء مع المعقل ايضا من مسلم وسعيد والعمور وكرفة والمهاية وحصين. ومواطنهم تمتد من قبلة تلمسان الى المحيط الغربي الى سجلماسة ودرعة حيث يجاورون الملثميين. وملكوا على زناتة قصور توات وتامنطيت وتيفورارين وورقلة واقتضوا منهم الضرائب. ومن بطونهم ذوو حسان بالسوس الاقصى، وذوو منصور بين ملوية ودرعة منهم العمارنة والمنبات بطنان يعرفون بالاحلاف. ومن بطون المعقل ذوو عبيد الله بن صقيل واخوانهم الثعالبة من ثعلب بن علي بن بكر بن صقيل. أما ذوو عبيد الله فمواطنهم بين تلمسان ووجدة الى مصب وادي ملوية في البحر ومنبعث وادي صا من القبلة. ويبلغون في رحلتهم الى تيقورارين وتوات ويجاورهم شرقا بنو عامر من هلال. وبين القبيلتين حروب.

وهم بطنان الهداج والخراج. يجاورون ذوي منصور غربا والخراج شرقا. والخراج منهم الجعاونة أبناء جعوات. والغسل ابناء غاسول. والطارفة ابناء مطرف. والعثامنة ابناء عثمان، ومن العثامنة أولاد عبد الملك، وفيهم رئاسة الخراج ومعهم ناجعة من المهايا. ينتسبون تارة الى المهايا من عياض، وتارة الى مهايا بن مطرف. واما الثعالبة فموطنهم بمتيجة. قال ابن خلدون: "ويظهر أن نزولهم لها حين كان ذوو عبيد الله في مواطن عامر، لهذا العهد، وكان بنو عامر في مواطن سويد. فكانت مواطنهم لذلك العهد متصلة بالتلول الشرقية. فدخلوا من ناحية قزول وتدرجوا الى ضواحي لمدية. ونزلوا جبل تيطري الى أن ملك بنو توجين لمدية وغلبوهم على تيطري. فنزلوا الى متيجة)، اهـ. وذكر أبن خلدون انتساب المعقل الى جعفر بن ابي طالب وفنده. ويظهر لي أن نسب جعفر في الثعالبة صحيح وانه جعفر أخو عبد الله الكامل الذي ملك ابناؤه متيجة في القرن الثالث. فلا يبعد انهم بقوا هنالك بعد ذهاب ملكهم حتى نزل عليهم الثعالبة. وأما الهلاليون فقبائل عديدة وبطون كثيرة. ولضبط الحديث عنهم نعد هلالا شعبا. ونسلك في تفصيل فروعه الترتيب اللغوي الذي نظمه من قال: الشعب ثم قبيلة وعمارة … بطن وفخذ والفضيلة تابعه فقبائل هلال هي الاثبج ورياح وزغبة وقرة بن عبد مناف وكلهم ابناء ابي ربيعة بن نهيك بن هلال. وعمائر الاثبج هي دريد وكرفة وعياض والضحاك ولطيف والعمور والعاصم ومقدم. والعمارتان الاخيرتان نقلهم بنو عبد الؤمن الى المغرب الاقصى كما نقلوا قبيلة قرة. وعمائر رياح هي مرداس وسعيد وعامر وعلي وعمائر زغبة هي: يزيد وحصين ومالك وعامر وعروة.

1 - دريد. كانت اليهم رئاسة هلال. ومدحهم شعراؤهم. وكان منهم الحسن بن سرحان رئيس الاثبج اجمعين عند دخولهم افريقية. وأخته الجازية التي كانت تحت الشريف بن هاشم صاحب الحجاز. وولايته عليه من سنة 430 إلى 453 ولهذا الشريف منها ابن اسمه محمد ولي الحجاز بعد أبيه. ولما اجمعوا الرحلة الى افريقية تحيلوا في نقل الجازية معهم. تزوجها بعده ماضي بن مقرب من قرة. واجتمع على حربهم من اخوانهم كرفة وقرة وعياض. وكان الظهور غالبا لدريد. ومن بطونهم أولاد سرور وأولاد عطية وأولاد عبد الله. وأولاد عطية رئاستهم في فخذ أولاد مبارك بن حباس. ومن أفخاذ أولاد عبد الله أولاد جار الله وتوبة. ورئاسة أولاد جار الله في فصيلة أولاد عنان بن سلام. ورئاسة توبة بين فصيلتي أولاد وشاح وأوالاد مبارك ابن عابر وفي بعض نسخ ابن خلدون عابد بالدال بدل الراء. وهؤلاء أولاد مبارك هم فصيلتنا القاطنون بين بني تليلان وبني خطاب. ومواطن دريد ما بين بونة وقسنطينة الى طارف مصقلة وما يحاذيها من القفر. وطارف قرية ذكرها ياقوت. وكان أولاد مبارك ابن حباس بتلة بن حلوف من ناحية قسنطينة. ثم غلبتهم عليها توبة زحفت اليهم من طارف مصقلة فدثروا وتلاشوا. ثم قعدت توبة عن الظعن واستبدلت الشاء والبقر بالابل. وعليها قعدت توبة وعسكرة. وأولاد سرور وأولاد جار الله مجاورون لتوبة وعلى سننم في الحياة. هذه حالتهم لعهد ابن خلدون. 2 - كرفة. كان لهم جمع وقوة. وبطونهم كثيرة. منها بنو محمد ابن كرفة والمراونة بنو كثير بن مروان بن قطن بن كرفة. وأولاد نابت بن فاضل بن محمد بن كليب. والحدلجات اربع بطون

هم بنو كليب بن عطية ابن قطن يعرفون بالكلبة بالباء أو الياء نسختان لابن خلدون، وبنو شبيب بن محمد بن كليب يعرفون بالشببة، وأولاد صبيح بن فاضل يعرفون بالصبحة، والسراحنة أولاد سرحان بن فاضل، ومن أفخاذ أولاد نابت أولاد مساعد وأولاد ظافر وأولاد قطيفة. ومن فصائل أولاد مساعد أولاد علي بن جابر بن مفتاح ابن مساعد. وفيهم رئاسة كرفة. وموطن الحدلجات بأوراس مما يلي زاب تهودا. وأولاد نابت اقطعهم الحفصيون جانب أوراس الشرقي وازيبان الشرقية. وبنو محمد والمراونة تلقاء اولاد نابت ظواعن في القفار. وكرفة كانوا محالفين لصنهاجة ثم الحفصيين. ولما ضعف نفوذ الحفصيين بالزاب انقبضوا الى جبل أوراس. وقلما يظعنون الى تخوم الزاب. 3 - عياض. كان لهم عدد وقوة. ومن إخونهم الزبر بنو زبير وأوالاد صخر وأولاد رحمة والمهاية والخراج والمرتفع. ومن أفخاذ المرتفع أولاد حناش رئاستهم في فصيلة أولاد عبد السلام، وأولاد تبان رئاستهم في فصيلة أولاد محمد ابن موسى، وأولاد عبدوس أو غندوس نسختان لابن خلدون رئاستهم في فصيلة بني صالح. ورئاسة الخراج في فخذ أولاد زائدة بن عباس. ورئاسة المهاية في فخذ أولاد ديفل. قال ابن خلدون: "وعياض نزلوا بجبل القلعة قلعة بني حماد. وغلبوا قبائله على أمرهم وصاروا يتولون جبايتهم .. وطول الجبل من المشرق الى المغرب ما بين ثنية غنية والقصاب إلى وطن بني يزيد ابن زغبة. فاوله مما يلي غنية للمهاية والزبر. وبعدهم المرتفع والخراج. ويلي الخراج غربا أولاد صخر وأولاد رحمة وهذا آخر وطن الاثابج " أهـ.

4 - الضحاك. كانوا بطونا كثيرة. وهم مفترقون على أميرين منهم هما ابو عطية وكلب بن منيع. ولاول دولة الموحدين غلب كلب ابا عطية واستقل بالرئاسة. وكان نجعهم بالزاب. ثم تغلب عليهم الذواودة. واصاروهم في جملتهم. فعجزوا عن الظعن ونزلوا المدن. 5 - لطيف. بطونهم كثيرة منها اليتامى أولاد كسلان بن خليفة بن لطيف، واللقمانة أولاد لقمان بن خليفة. ومن أفخاذ اليتامى ذوو مطرف وذوو أبي الخليل وذوو جلال بن معافى. ومن افخاذ اللقامنة أولاد جرير بن علوان بن محمد بن لقمان، وبراز بن معن بن محيى. وغلبتهم رياح والذواودة. فانتقل بعضهم الى المغرب الاقصى ونزل فريق من براز على العطاف من زغبة. وعجز الباقون عن الضعن فاتخذوا بالزاب الآطام والقرى. ونزلوا مدنه مثل الدوسن وتهودة وبادس وغريبو وتنومة. قال ابن خلدون: "ولهم عنجهية لم يفارقوها منذ ايامهم القديمة لهذا العهد. وبين المتجاورين منهم بقصور الزاب فتنن متصلة، وعامل الزاب يدرأ بعضا ببعض، ويستوفي جبايته منهم جميعا " اهـ. 6 - العمور. ليسوا من الاثبج وإنما هم ملحقون بهم، ويحتمل انهم من عمرو بن عبد مناف بن أبي ربيعة بن نهيك بن هلال أو من عمر بن رويبة بن عبد الله بن هلال، قال ابن خلدون: " وليسوا من ولد عمرو بن ابي ربيعة بن نهبك بن هلال" اهـ. وهم بطنان مرة وعبد الله. فمرة على كثرتهم مفترقون في القبائل والمدن وحدانا، وعبد الله فخذان ماضي ومحمد، ومحمد فصيلتان عنان وعزيز، ومن عنان شكر وفارس، ومن شكر زكرير ومحيا.

وفي العمور فرسان وأكثرهم رجالة وليسوا في ولاء دولة ولا لهم رئاسة ولا ناجعة لافتراق كلمتهم، وبين أولاد شكر فتن متصلة، فحالف أولاد محيا سويد بن زغبة، وحالف أولاد زكرير بني عامر. وموطن العمور يمتد من أوراس على الحضنة والصحراء الى جبل راشد المضاف اليوم اليهم. وليس لهم سبيل إلى التل، ونزل أولاد شكر جبل راشد، ثم استقل به أولاد محيا، وطردوا منه أولاد زكرير إلى جبل كسال غربيه، وهو جبل يطل على البيض. وباقي العمور بسفح أوراس لى مواطن غمرة غربا. وهم تحت طاعة رياح. 7 - مرداس. بطونهم كثيرة منها الذواودة اولاد ذواد، وصنبر بن عقيل بن مرداس، ومسلم بن عقيل، وعامر بن يزيد بن مرداس، ومن الذواودة بنو عساكر بن سلطاقن وأولاد محمد بن مسعود بن سلطان وأولاد سباع بن يحي، ومن عامر بنو موسى وجابر وبنو محمد، ومن بني محمد مشهور ومعاو وعلي الملقب سودان ومن مسلم رحمان وأولاد جماعة وفيهم رئاسة مسلم بين أولاد شكر بن حامد بن كسلان بن غيث بن رحال بن جماعة، وبين أولاد زرارة بن موسى ابن قطران بن جماعة. وكانت رئاسة رياح لمرداس في صنبر قوم مؤنس بن يحيى، ثم صارت للذواودة وكان منهم مسعود بن سلطان واخوه عساكر. واستمرت الرئاسة في عقبهما. 8 - سعيد، من بطونهم أولاد يوسف بن زيد ومن أولاد يوسف أولاد عيسى بن رحاب بن يوسف، وأولاد ميمون بن يعقوب بن عريف ابن يعقوب بن يوسف، ورئاسة سعيد في أولاد ميمون ويرادفهم أولاد عيسى، وسعيد احلاف لاولاد محمد من الذواودة.

ومع سعيد لفائف من المخادمه والغيوث وهم من ولد مشرق ابن الاثبج ومن نفاث احدى بطون جذام ومن زنارة احدى بطون لواتة من البربر. 9 - عامر. منهم الاخضر، رئاستهم في أولاد ثامر بن علي من تمام بن عمار بن خضر، والاخضر ومسلم من مرداس احالاف لاولاد سباع بن يحي من الذواودة ولم يتحدث ابن خلدون عن عمارة علي. وبطون رياح كانت تنقلب من الجريد الى القيروان الى الزاب الى المسيلة الى ورقلة. ولهم اقطاع بالحضنة ونواحي قسنطينة وبجاية. 10 - يزيد. بطونهم كثيرة، منها جواب وبنو كرز وبنو موسى والمرابعة بنو مربع والخشنة بنو خشين وحميان وأولاد لاحق وأولاد معافي وبنو سعد بن مالك بن عبد القوي بن عبد الله بن سعيد ابن محمد بن عبد الله بن مهدي بن يزيد. ومنهم من يزعم ان مهديا هو ابن عبد الرحمن بن ابي بكر الصديق، وليس بصحيح ولبني سعد ثلاث أفخاذ هم بنو منصور بن سعد وبنو ماضي بن رزق بن سعد وبنو زغلي بن رزق. ولبني يزيد محل من زغبة بالكثرة والشرف وللدول بهم لذلك عناية وهم أول من اقطعتهم الدول بالتلول والضواحي. وكانت رئاستهم لاولاد لاحق ثم لاولاد معافي ثم صارت لبني سعد واختص بها منهم بنو زغلي. ويزيد مجاورون غربا للاثبج ورياح. يقطنون سهل حمزة والدهوس وارض بني حسن من صنهاجة الى متيجة، وما يتصل بذلك ريفا وصحراء. وهم مقيمون لا يظعن الا قليل منهم. وينزل معهم اخوانهم عكرمة فانه ويزيد ابناء عيسى بن زغبة وفي بعض نسخ ابن

خلدون عبس بدل عيسى. وفي ايام يغمراسن بن زيان انتقل منهم حميان الى صحراء تلمسان. وانتقل فريق من عكرمة الى جبل كريكرة قبلة السرسو. 11 - حصين. لهم بطنان عظيمان جندل وخراش. ومن جندل خشعة وأولاد سعد بن خنفر بن مبارك بن فيصل وفي بعض النسخ فضيل بن سنان بن سباع بن موسى بن كمام بن علي بن جندل. ومن أولاد سعد فصيلة بني خليفة ومن خراش أفخاذ أولاد مسعود ابن مظفر بن محمد الكامل بن خراش، وأولاد فرج بن مظفر، وأولاد طريف بن معبد بن خراش يعرفون بالمعابدة. ومن ولاد مسعود فصيلة رحاب بن عيسى بن ابي بكر بن زمام بن مسعود. ومن أولاد فرج فصيلة بني خليفة بن عثمان بن موسى بن فرج ومن أولاد طريف فصيلة أولاد عريف. ورئاسة حصين مفترقة على الفصائل المذكورة. وموطنهم غربي بني يزيد الى جبل تيطري ونواحي لمدية. 12 - مالك: بطونهم ثلاثة: بخيس والحرث وسويد. ومن الحرث افخاذ غريب والعطاف والديالم بني ديلم. ومن غريب فصيلة بني منبع. ومن منيع بنو مزروع وأولاد يوسف. ومن فخذ العطاف فصيلة أولاد يعقوب. ومن الديالم فصيلتان: العكارمة ابناء عكرمة ابن مزروع بن صالح بن ديلم، وأولاد ابراهيم بن رزق بن رعاية بن مزروع. ومع الديالم اخوانهم بنو زياد من ابراهيم وأولاد هلال بن حسن وبنو نوال بن حسن والدهاقنة أولاد دهقان بن حسن فان ديلما هو ابن حسن. ولسويد أفخاذ منها فليتة وجوثة وصبيح وأولاد ميمون وشبابة ومجاهر. ومن شبابة الحساسنة بنو حسان. ومن مجاهر غفير وشافع ومالف وبورحمة وبوكامل وحمدان وهبرة. ومن حمدان

أولاد عيسى بن عبد القوي بن حمدان. وهبرة تزعم انها من قوم المقداد بن الاسود الصحابي البدري. فهم من قضاعة. وقد ينتسب بعضهم الى تجيب من بطون كندة. وكانت مواطن مالك جنوب بني توجين المستولين على ما بين سعيدة ولمدية. ثم استولت سويد على بلاد توجين ما عدا جبل وانشريس. وكان لسويد المنزالة العليا في دولتي بني زيان وبني مرين. ونزلت هبرة نواحي البطحاء بالضفة اليمنى من نهر مينة. والعطاف بسهول غربي مليانة، والديالم قبلة وانشريس. ونزلت بطن بخيس نواحي وهران. 13 - عامر. بطونهم ثلاثة أولاد يعقوب وبنو شافع وبنو حميد. ومن شافع فخذا بني مطرف والشقارة. ولحميد افخاذ وفصائل منها بنو عبيد بن حميد، منهم المحارزة بنو محرز بن حمزة ابن عبيد، والعقلة بنو عقيل بن عبيد، والحجز بنو حجاز بن عبيد، ومن الحجز حجوش وحجيش. ومن حجوش حامد ورباب ومحمد، ومن محمد الولالدة بنو ولاد بن محمد. ورئاسة عامر في بني يعقوب. وكانت عامر احلافا لبني يزيد يظعنون بظعنهم ثم انتقلوا في عهد بني عبد الواد الى قبلة تلمسان ولهم جبل تامالة، ويتقلبون هنالك بين وهران والصحراء. 14 - عروة. هم بطنان حميس والنضر ومن حميس عبيد الله ويقظان وفرع ومن فرع أولاد نائل ومن يقظان اولاد عايد ومن بطن النضر أولاد خليفة والجماقنة وشريفة والصحارى وذوو زيان وأولاد سليمان. وأولاد نائل احلاف لاولاد محيا من العمور وبنو يقظان وعبيد الله احلاف لسويد يظعنون معهم. والنضر رئاستهم في أولاد خليفة. وهم منتبذون بالقفر ويصعدون الى أطراف مواطن حصين والديالم

والعطاف. والصحارى أكثرهم بجبل مشنتل المضاف اليوم اليهم. هذه فروع هلال ومواطنهم في القرنين الثامن والتاسع. اعتمدنا في جلها على ابن خلدون مع تصحيح ما فيه من تحريف في الاعلام. ومن تلك الفروع ما تغيرت أوطانه او اتسعت فصائله أو اندثر اسمه. وموعدنا ببيان الهلاليين ومواطنهم لهذا العهد الكتاب الرابع إن شاء الله. وذكر كاريت ان مرمول احصى مقاتلة عرب الجزائر في القرن العاشر بنحو (199500) واعتذر عن قلة هذا العدد بان مرمول تارة يستند في احصائه الى اليقين واخرى يعتمد على أقل تقدير. قال ويمكن احصاء المقاتلة وغيرهم من شيوخ ونساء وصبيان بنحو تسعماثة الف. ونحن لا نقفو ما ليس لنا به علم. وانما نرى من الجدول الذي نقله عن مرمول انه أهمل كثيرا من القبائل العربية. فيكون ذلك الاحصاء دون الحقيقة بمراتب. وهذا جدول مرمول: 1 - السكاكين القبيلة … البطن … الموطن … المقاتلة أولاد صبير … / … بين تلمسان ووهران … 23000 2 - بنو هلال بنو عامر … / … بين تلمسان ووهران … 60000 أولاد هوروا … / … جهة مستغانم … 18000 أولاد عقبة … / … جهة مليانة … 11500 أولاد هبرة … / … بين مستغانم ووهران … 03000 أولاد مسلم … / … جهة المسيلة …؟؟؟ رياح … الحنانشة … بين قسنطينة وبونة … 20000 أولاد سعيد … / … بين تنس ونوميديا … 18000 3 - المعقل أولاد حسان … الثعالبة … في متيجة ونوميديا … 44000 أولاد حسان … أولاد سعيد … بين مستغانم وشلف … 02000

الكتاب الثالث في العصر البربري

الكتاب الثالث في العصر البربري

عرف البربر العرب اساتذة ماهرين مخلصين لا فاتحين غالبين يسوسونهم بالعسف ويسومونهم سوء العذاب ثم يمنون عليهم بانهم تعبوا في تمدينهم أو يملكون عليهم أراضيهم ثم يسبونهم بانهم لا يحسنون تعميرها. ترقى البربر في ظل الحكومة العربية. ولكنهم أسرعوا بتطلب الاستقلال قبل قدرتهم عليه. وانما بعثهم على ذلك ما بقي فيهم من عروق الفوضى ومنافسة قبائلهم بعضها لبعض. حتى اذا جاء الدور العبيدي اتموا دروسهم العملية في الحياة النظامية فاصبحوا قادرين على الاستقلال. وفي القرن الخامس استقل البربر بوطنهم من غير كفران لفضل العرب فكانت حكومات صنهاجة معترفة بالسيادة العباسية أو لفاطمية. ثم ظهرت دولة الموحدين في القرن السادس فلم تعترف بالسيادة للفاطميين أو العباسيين اذ كانت فدولتاهم يومنذ على فراش الاحتضار. وكان عصر الموحدين هو شباب العصر البربري. اتحد فيه سكان المغرب اجمع تحت راية واحدة وبلغوا من حسن الادارة وانتشار المعارف ورقي الحضارة مبلغا عظيما ثم اخذ هذا العصر في الهرم. حتى غلب الاسبان على كثير من السواحل وجاء الاتراك فقضوا على ما بقي للبربر من استقلال. والحق أن البربر يومئذ ليسوا بأهل للحكم كما ان الاتراك ليسوا باهل للسياسة.

كان مبتدأ العصر البربري في القرن الخامس ومنتهاه في القرن العاشر وحكم أثناء هذه المدة ست دول كبرى هي: دول بني حماد والمرابطين والموحدين والحفصيين وبني مرين وبني زيان. ومعرفة انساب القبائل البربرية ومواطنها مما يعين على ما كان بينها في هذا العصر من ولاء وحلف أو عداء وسيف. فرأينا ان نعيد القول في ذلك بما يناسب هذا العصر. وقد شاء الله ان يكون للعرب وجود جنسي في عصر البربر السياسي كما كان للبربر وجود جنسي في عصر العرب السياسي. غير ان بين الوجودين فرقا. فان العرب مؤثرون في البربر في العصر العربي سياسيا ودينيا، وفي العصر البربري اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا ايضا. فلا جرم وجب ذكر العرب في هذا العصر وقد عقدنا للحديث عنهم بكل دولة فصلا. ولما رأينا كثرة أخبارهم في دول الحفصيين والمرينيين والزيانيين جمعناها في باب مستقل. فاشتمل هذا الكتاب على ثمانية أبواب: الباب الاول في القبائل البربرية الجزائرية. الباب الثاني في الدولة الحمادية. الباب الثالث في دولة المرابطين. الباب الرابع في الدولة الموحدية المؤمنية. الباب الخامس في اخبار العرب لعهد الحفصيين والمرينيين والزيانيين. الباب السادس في الدولة الحفصية. الباب السابع في دولة بني مرين. الباب الثامن في دولة بني زيان.

الباب الأول في القبائل البربرية الجزائرية

الباب الأول في القبائل البربرية الجزائرية

1 - تمهيد

1 - تمهيد يقطن الوطن الجزائري من البربر زناتة وصنهاجة وكتامة وزواوة وعجيسة وازداجة ومسطاسة وبنو فاتن وبطون من لواتة ونفزاوة وهوارة وزواغة ومكناسة ومصمودة ولمطة وأوربة، ومن هذه القبائل والبطون ما لها فروع في بقية المغرب. ومنها ما ينتسب في العرب القحطانيين أو العدنانيين انتسابا دعا اليه حب العرب لا ثقة الرواية بالنسب. ولقد ذكرنا هذه القبائل والبطون في الكتاب الاول ثم ظهرت بطون وأفخاذ كان لها شأن في هذا العصر البربري. وتغيرت مواطن كثيرين منهم اما بهجوماتهم بعضهم على بعض كما فعلت صنهاجة بزناتة واما بهجومات الهلاليين. فنبين في هذا الباب ما حدث من بطون وما تجدد من أوطان بما يناسب العصر البربري تاركين ما بعده الى الكتاب الرابع ان أعان الله على بلوغه واتمامه. وقد رأينا أن نتبع ابن خلدون في أسلوب الحديث عن البربر. سنذكر كل قبيلة على حدة. فان ذلك ادخل في البيان وانسب بالحياة البربرية المستقلة قبائلها بعضهم عن بعض. واذا كانت البطون صغيرة جمعناها في فصل لقلة الكلام عليها. 2 - زناتة زناتة أشبه البربر حياة بالعرب لان أكثرهم مواطنهم الصحراء.

يتخذون بيوت الشعر للظعن. قال ابن خلدون: "وكانت مكاسبهم الانعام والماشية وابتغاؤهم الرزق من تحيف السابلة وفي ظل الرماح المشرعة. وكانت لهم في محاربة الاحياء والقبائل ومنافسة الامم والدول ومغالبة الملوك ايام ووقائع، نلم بها ولم تعظم العناية باستيعابها فنأتي به. والسبب في ذلك أن اللسان العربي كان غالبا لغلبة دولة العرب وظهور الملة العربية. فالكتاب والخط بلغة الدولة ولسان الملك. واللسان العجمي مستتر بجناحه مندرج في غماده. ولم يكن لهذا الجيل من زناتة في الاحقاب القديمة ملك يحمل أهل الكتاب على العناية بتقييد ايامهم وتدوين أخبارهم. ولم تكن مخالطة بينهم وبين أهل الارياف والحضر حتى يشهدوا آثارهم لابعادهم في القفر وتوحشهم عن الانقياد. فبقوا غفلا إلى أن درس منهم الكثير ولم يصل الينا بعد ملكهم الا الشارد القليل يتبعه المؤرخ المضطلع في مسالكه ويتقراه في شعابه ويثيره من مكامنه " اهـ. وقد أخذت زناتة بالخارجية ثم فارقتها تدريجا حتى لم يبق منهم عليها الا القليل. وكانوا منقسمين سياسيا الى ادريسيين ورستميين واغلبيين. ولهم حروب مع جيرانهم صنهاجة، فلما ظهرت دولة بني عبيد والتهم صنهاجة، وعادتهم زناتة فاتسعت واجهة الخلاف بين القبيلتين. وكانت رئاسة زناتة لمغراوة، ووفد أميرهم صولات بن وزمار على عثمان بن عفان (رض) فعقد له على قومه، قال ابن خلدون: " فاختص صولات وسائر الاحياء من مغراوة بولاء عثمان وأهل بيته من بني أمية، وكانوا خالصة لهم دون سائر قريش، وظاهروا دعوة المروانية بالاندلس رعيا لهذا الولاء)، اهـ. ومظاهرة مغراوة وسائر زناتة لمروانية الاندلس انما حدثت ايام

بني عبيد، فالظاهر ان سببها منافسة صنهاجة، وقد تقوت صنهاجة ببني عبيد على اعدائها الاقدمين، فنالت منهم قتلا وجلاء، وكانت نكبتهم على يد بلقين بن زيري سنة 369، قال ابن خلدون: "دوخ بلقين في هذه السنة المغرب، وانكفأ راجعا، ومر بالمغرب الأوسط، فالتحم بوادي زناتة ومن اليهم من الخصاصين، ورفع الامان على كل من ركب فرسا أو أنتج خيلا من سائر البربر، ونذر دماءهم، فاقفر المغرب الاوسط من زناتة، وصاروا الى ما وراء ملوية من بلاد المغرب الاقصى الا ما كان من رجوع بني يعلي بن محمد الى تلمسان وملكهم اياها " اهـ. وقد لدحق كثير من زناتة بالاندلس في العصرين العربي والبربري، وضربوا هنالك مع ملوك الطوائف بسهم، وكان منهم جيش عظيم للغزو أيام بني الاحمر بغرناطة. وكان منهم جراوة قوم الكاهنة ذوي سلطان، ثم انقضى أمرهم لاول الفتح، ومنهم مغراوة قوم صولات بن وزمار جد بني خزر، واستمر سلطانهم إلى أن غلبتهم صنهاجة، فنزحوا الى المغرب الاقصى، وأسسوا امارات بتلمسان وفاس وسجلماسة واغمات قضى عليها المرابطون، وأسسوا ايضا امارة بطرابلس. قضى عليها النرمان وتجدد لهم ملك بشلف في العصر البربري ومنهم يفرن قوم صاحب الحمار ويعلي بن محمد بن صالح مؤسس مدينة افكان. ولبنيه دولة بالمغرب الاقصى قبل ظهور المرابطين. ومنهم بنو يلومي وبنو ومانو. كان لهم شأن في العصر البربري. وهذه طبقة أولى عند ابن خلدون. والطبقة الثانية هم بنو مرين ملوك فاس وبنو عبد الواد ملوك تلمسان. وبنو توجين أصحاب وانشريس. واشهر قبائل زناتة جراوة ويرنيان ووجديجن وواغمرت وورقلة

ودمر وبنو ومانو وبنو يلومي ويفرن ومغراوة وواسين وحديث نسب زناتة الى البربر أو قحطان أو عدنان وما للناس في أنساب قبائلها وأفخاذها حديث يطول جلبه وتضعف جدواه وقد أطال في ذلك ابن ابي زرع وابن خلدون. جراوة كان موطنهم باوراس ثم انتثر عقدهم فاكلتهم القبائل. وكانت طائفة منهم بنواحي ملوية سميت بهم مدينة هناك كانت للعلويين. ولم يكن لهم ذكر في العصر البربري. يرنيان. متفرقون في مواطن زناتة. وجمهورهم على وادي ملوية مجاورين لمكناسة. ثم اختلطوا ببني مرين لما ظهرت دولتهم. وجديجن. كان جمهورهم بمنداس شرقي يفرن وشمال لواتة وغربي مطماطة، ونكحت منهم امرأة في لواتة، فعيرها نساؤهم بالفقر، فتذمرت الى عنان أمير وجديجن، فغضب لها، واستجاش أحلافه، فنصره يعلي بن محمد اليفرني وكلمام في مغيلة وعزانة في مطماطة وفي بعض نسخ ابن خلدون غرابة، وكانت حرب مات فيها عنان، وغلب وجديجن لواتة. فملكوا عليهم السرسو. وذلك أيام العبيديين، ثم غلبهم على مواطنهم بنو يلومي وبنو ومانو، فلم يكن لهم ذكر في العصر البربري. واغمرت وتدعى ايضا غمرت، جمهورهم جنوب صنهاجة فيما بين الدوسن ومشنتل. ثم غلبهم العرب على السهول فاعتصموا بالجبال قبلة المسيلة وصنهاجة وقعدوا عن الظعن. ثم صاروا في اقطاع الذواودة. ورقلة وتدعى أيضا ورقلان. موطنهم بالصحراء جنوب الزاب. ولهم المصر المعرف بهم الى اليوم. ومعهم جمع من بني زنداق ونزل عليهم كثير من زناتة الزاب لما أجلاهم عنه الهلاليون.

دمر. من أوسع بطونهم بنو ورنيد. ومن ورنيد بنو ورتاتين وبنو تفورت وبنو برزال. وكان بنو برزال بجبل سالات من ناحية بوسعادة. وبقية ورنيد بصحراء تلمسان الى سعيدة. وتغلب عليهم بنو راشد. فانقبضوا الى الجبل المضاف اليهم المطل على تلمسان. ولم يكن لدمر كبير شان في العصر البربري. بنو ومانو. كانوا بالعدوة الشرقية من مينة الى اسافل شلف. وظهر أمرهم بعد اجلاء صنهاجة لمغراوة. فكان لهم ذكر أيام الحماديين. وبعدهم تغلب عليهم بنو عبد الواد. وبنو توجين. فازدردتهم القبائل. بنو يلومي. كانوا مجاورين لومانو غربا منافسين لهم الى أن غلبهم بنو توجين على مواطنهم. فتفرقوا أوزاعا في القبائل. يفرن. كان منهم بالجريد بنو واركو ومرنجيصة. وغلب عليهم بنو هلال وسليم. فاستكانوا للحفصيين. ومنهم فريق بالزاب. اجلاهم الهلاليون الى ورقلة وغيرها. وجمهورهم بالمغرب الاوسط من نواحي تلمسان الى تيهرت الى جبل راشد وغلبهم صنهاجة. فلم يكن لهم شان بالجزائر البربرية. مغراوة. مساكنون لبني يفرن. وبينهم منافسات فمنهم بالزاب. وجمهورهم بالمغرب الاوسط من شلف الى تلمسان إلى جبل مديونة. وبطونهم كثيرة. منها بنو زنداق بالحضنة حول مقرة. ومنها بنو ورا بشلف. ومنها الاغواط فيما بين الزاب وجبل راشد. ولهم مدينة لم تزل الى اليوم تسمى بهم. ذكرت في عهد بني عبيد وهي التي الفنا بها هذا الكتاب. قال ابن خلدون: "وهم مشهورون بالنجدة والامتناع من العرب" اهـ. والمحقق عند أهلها واعرابها أن الهلاليين تغلبوا على أطراف مدينتهم. وبها بستان يعرف اليوم

باسم هلال. وبجبل كسال طائفة معروفة اليوم باسم غواط كسال لم يذكرهم ابن خلدون. ومنها ريغة بعضهم بجبل عياض الى نقاوس. تغلب عليهم العرب، وبعضهم بوادي ريغ لهم على عدوتيه قصور كثيرة وفلاحات متنوعة، خرب جلها ابن غانية، ومن تلك القصور تقرت، ومنها سنجاس بالجريد والزاب وارض مشنتل وجبل كريكرة وجبل راشد وشلف، وقد تغلب عليهم الهلاليون، فاستكانوا للدول، ومنها بنو ورسيفان وبنو ورتزمان وبنو يلنت وبنو بوسعيد. وكلهم بشلف. واسين، كانوا ينتقلون فيما بين الزاب وسجلماسة صحراء وتلا، ومن بطونهم بنو راشد بالجبل المضاف اليهم وغلبوا مديونة وبني ورنيد على بسائطهما، ثم تغلب عليهم العمور، فبقي بعضهم مساكنا لهم بالجبل، ومنها بنو مرين وافخاذهم كثيرة، ولي الملك منها بنو وزرير فخذ بني عبد الحق وبنو واطاس. واختصوا بعد الملك بالمغرب الاقصى. ومنها بنو بادين. وافخاذهم كثيرة منها بنو عبد الواد بعضهم باوراس. وجمهورهم أقطمهم الموحدون بلاد بني ومانو. ثم ملكوا تلمسان. ومن فصائلهم بنو ياتكبن وبنو ولو وبنو ورسطيف ومصوجة وبنو تومرت وبنو القاسم ومن بني القاسم بنو مطهر وبنو يكزيمن وبنو دلول وبنو كمي وبنو طاع الله قوام يغمراسن بن زيان مؤسس دولة تلمسان. ومؤرخو دولتهم ينسبون بني القاسم في الادارسة. قال ابن خلدون: "وهو زعم لا مستند له الا اتفاق بني القاسم هؤلاء عليه مع ان البادية بعداء عن معرفة هذه الانساب. والله أعلم بصحة ذلك وقد قال يغمراسن بن زيان لما نسبوه الى ادريس، برطانتهم ما معناه: فان كان هذا صحيحا فينفعنا عند الله واما الدنيا فانما نلناها بسيوفنا " اهـ.

ومن أفخاذ بادين بنو توجين كانوا منافسين لبني عبد الواد وتقدموا الى التل فانبثوا في السرسو ووانشريس الى لمدية شرقا وسعيدة وجبل راشد غربا. ثم غلبهم الهلاليون على ما عدا جبل وانشريس. ويجمع فصائلهم جذمان احدهما سرغين وفي بعض نسخ ابن خلدون بدل سرغين رسوغون منهم بنو يرناتن بجبل يغودو نواحي نهر واصل وبنو منكوش وبنو تيغرين بوانشريس. ومن تيغرين أولاد عزيز بن يعقوب. وثانيهما مدن منهم بمنداس بنو مادون وبنو قاضي بالقاف في ابن خلدون ولعله ماضي ومنهم بنواحي فرندة بنو يد للتن. قال ابو راس: "وبلغني عمن رأى تأليفا في ذكر بني بادين ان توجين اثنان احدهما بالواو بعد التاء شريف والآخر زناتي والذي أعرفه من بطونهم بنو ازندار وبنو وكبمار. ومنهم فرقة كبيرة بارضهم. الاولى ازاء جبل راشد " اهـ. ومن افخاذ بادين مصاب بالوطن المعروف بهم المدعو اليوم مزاب والزاي والصاد متقاربان. وفي اللسان البربري حرف يقرب مخرجه من مخارخ الزاي والصاد والسين. فيختلف النطق به عند التعريب. وصاحب الترجمان المعرب من قبيلة صيان بالمغرب الاقصى يدعونه الصياني والزياني. قال ابن خلدون: "وقصور مصاب سكانها لهذا العهد شعوب بني بادين من بني عبد الواد وبني توجين ومصاب وبني زردال فيمن انضاف اليهم من شعوب زناتة، وان كانت شهرتها مختصة بمصاب" اهـ. وبنو عبد الواد الذين بمزاب من بني مطهر بن يمل بن يزقن بن القاسم. وقال ابو راس بمزاب لماية واخلاط كل من صنهاجة وغيرهم.

3 - صنهاجة

3 - صنهاجة صنهاجة بكسر الصاد وقد تضم. قال ابن خلدون: " هم أكثر أهل المغرب لهذا العهد. لا يكاد قطر من أقطاره يخلو من بطن من بطونهم في جبل أو بسيط، حتى لقد زعم كثير من الناس أنهم الثلث من أمم البربر" اهـ. وكانوا فيما بين زناتة وزواوة، وانحدرت منهم أمة الى الجنوب في أزمنة قديمة، فكثروا بالصحراء جنوب المغرب حتى عمروا ما بين غذامس شرقا ونول غربا والسودان جنوبا، وتشعبت بذلك صنهاجة الى شعبين عظيمين بقي احدهما بالجزائر واستوطن الآخر الصحراء، وهم الملثمون، واختلفت حياتهما باختلاف الموطن. فاما صنهاجة الجزائر فهم أهل مدر من مدنهم اشير ولمدية ومليانة ومتيجة والجزائر، أسلموا لاول الفتح ير ودان بالخارجية بعضهم من مجاوري زناتة، ثم فارقوها قال ابن خلدون: " ولصنهاجة ولاية لعلي بن ابي طالب كما ان لمغراوة ولاية لعثمان بن عفان رضي الله عنهما، الا انا لا نعرف سبب هذه الولاية ولا أصلها" اهـ. وقدمنا البحث معه في ولاية مغراوة. ونرى ان ولاية صنهاجة لعلي سببها نزول ابنائه بيهم وكونهم آل البيت، وأما أخذهم بدعوة بني عبيد فانما كان منافسة لزناتة الثائرة عليهم. على ان الامارات العلوية كان سقوطها على ايديهم. ومن بطونهم تلكاتة قوم زيري بن مناد. ومنهم فريق بجهات بجاية ولمدية بفتحتين فكسرة فياء مشددة أهل المديه المعروفة الى اليوم بهم، وبنو مزغنة أهل مدينة الجزائر، وبنو خليل ومتنان وبنو جعد وبطوية وبنو ايفاون.

4 - كتامة وزواوه

وظهرت منهم دولتا بني باديس وبني حماد، ولحق بعض ابناء زيري المخالفون على اخوانهم بالاندلس. واستولوا على غرناطة حتى غلبهم عليها المرابطون، ثم غلب الموحدون صنهاجة على أمر المغرب وغلبتهم بطون من هلال على مواطنهم فانحصروا بالجبال. واما صنهاجة اللثامية فمن اشهر قبائلهم لمتونة ومسوفة وقدالة، وهم أهل شعر ظواعن، قال البكري: "وجميع قبائل الصحراء يلتزمون النقاب لا تبدو منه الا محاجر العينين ولا يفارقونه في حال من الاحوال حتى ان الرجل لا يعرف وليه وحميمه الا اذا تنقب، ولو زال قناع قتيل لم يعرف حتى يعاد عليه القناع، وطعامهم صفيف اللحم الجاف مطحونا ويصب عليه السمن أو الشحم المذاب، وشرابهم اللبن اغناهم عن الماء فلا يشربه احدهم الا شهر. وقوتهم مع ذلك مكينة وابدانهم صحيحة " اهـ. وكانوا وثنيين، واسلم بعضهم على يد عقبة بن نافع، ولم يعمهم الاسلام الى القرن الثالث، ولكنه اسلام اسمي، ولم يأخذوا به حقيقة وعملا الا في القرن الخامس على يد عبد الله بن ياسين الجزولي. وكان منهم أمراء، ولهم في جهاد السودان مواقف ثم ظهرت منهم دولة المرابطين دولة الدين والعدل. وذهبت على يد الموحدين. وبقايا الملثمين يعرفون اليوم بالتوارق. ومر علينا بالاغواط سنة 1348 بعض رؤسائهم. فرأينا لثامهم على ما وصف به أسلافهم. 4 - كتامة وزواوه يميل ابن خلدون الى أن زواوة بطن من كتامة، فرأينا جمعهما في فصل فاما كتامة فشعب عظيم. كانوا من لدن الفتح معتزين

بكثرتهم لا يسومهم الامراء بهضيمة الى أن ظهرت الرافضية بالمغرب. فدانوا بها. وملكوا المغرب باسم بني عبيد ثم مصر والشام. واختطوا القاهرة. ولهم بها حارة مضافة اليهم. ذكرها السخاوي في تحفة الاحباب. وظهر منهم امراء عظام مثل حباسة بن يوسف أمير برقة وقائد الاساطيل العبيدية، والحسن بن ابي خنزير أمير صقلية، وماكنون بن ضبارة امير طرابلس، وجعفر بن فلاح امير الشام وفاتحه، وبني لقمان أمراء قابس وفي أحدههم يقول الشاعر: لولا ابن لقمان حليف الندى … سل على قابس سيف الردى ثم انتقل الامر من ايديهم الى صنهاجة. وجاء الهلاليون فساكنوهم في كثير من النواحي مثل عنابة وقالمة وجنوب قسنطينة. ففارفهم الملك واكلتهم الاوطان وبقيت منهم بقايا ذات سيادة بوطنها في العصر البربري حتى استوت عليهم مصمودة والحفصيون. وانتقل بعضهم الى المغرب الاقصى ونزل فريق منهم نواحي دلس من وطن زواوة. قال ابن خلدون: "وبقي في مواطنهم الاولى بجبل أوراس وجوانبه بقايا من قبائلهم على اسمائها والقابها. وآخرون تغير لقبهم. وكلهم رعايا معبدون للمغارم الا من اعتصم بقنة الجبل مثل بني زلدوي بجبلهم وأهل جبال جيجل " اهـ. ومن بطون كتامة سدويكش وبنو تليلان وبنو يستيتن وهشتيوة ومسالته وبنو قنسيلة في بطون كثيرة يجمعها جذمان هما غرسن ويسودة. وعد ابن خلدون من بطون يسودة فلاسة ودنهاجة ومتوسة ووريسن وعد من بطون غرسن مصالة وقلدن وما وطن ومعاذ ويناوة وينطاسن وايان. ومن يناوة لهيصة وجيملة ومسالتة. ومن ينطاسن لطاية واجانة

وغسمان وأوفاس. ومن ايان ملوسة. ومن ملوسة بنو زلدوي. ومن سدويكش كايازة وسقدال وبنو عياد وبنو سقين وسيلين وطرسون وطرغيان وموليت وبنو لماي وبنو زعلان والبويرة وبنو مروان ووار مكسن وأولاد سواق. ومن سواق أولاد علاوة وأولاد يوسف. ومن يوسف بنو محمد وبنو المهدي وبنو ابراهيم والعزيزيون نسبوا الى أمهم تاعزيزت. وسدويكش يكسبون الابل والخيل والبقر. وينتقلون ببيوتهم في البسائط ما بين قسنطينة وبجاية. وينتسبون في سليم من بطون مضر، ونقل ابن خلدون أنهم من كتامة. وايده بكون موطنهم من مواطن كتامة. ويقويه عندي كون بعض بطونهم لم تزل لغتها حتى اليوم بربرية. ولم يذكر ابن خلدون في بطون كتامة كثيرا من البطون المعروفة اليوم بفرجيوة ولا ذكر من سكان الجبال بين السكيكدة وجيجل غير بني تليلان. وهناك من هم أكثر منهم مثل بني والبان وبني تفوت وبني خطاب وبني يدر. فاما ان تكون تلك البطون لا شان لها لعهده واما ان يكون أهملها لقلة خبرته بتلك الجبال فانه لم يحدثنا عنها لا بقليل ولا بكثير. واسم خطاب معروف منذ القرن الثالث. فقد ذكر اليعقوبي في مراسي ميلة قلعة خطاب. ويقول الشيخ عبد القادر الراشدجي في رسالة له أن تفوت اصله تفورت حذفت راؤه، وهو محض غلط فان تفورت فخذ من دمر احدى بطون زناتة. ولم يدخل على كتامة في تلك الجبال غير العرب. واما زواوة فكانوا ممتنعين بجبالهم الى أن أسس بنو حماد بجاية. فانقادوا لهم قال ابن خلدون: "واتصل اذعانهم الى هذا العهد". وكان لهم مرسى الدجاج قبل بجاية كعاصمة تجارية تاتيها

5 - لواتة ونفزاوة

القوافل برا وسفن الاندلسيين بحرا. وسيادتها في فراوسن وايراتن بطنان فيما بيت بجاية ودلس. ورئاسة ايراتن في بني عبد الصمد لم تزل فيهم لعهد ابن خلدون. وعلى حصانة موطنهم نفذ اليهم الهلاليون وغيروا من مراكز بطونهم بعض التغيير. وفيهم بيوتات من آل البيت. ومن بطون زواوة بنو مجسطة ومليكش وبنو كوفي ومشدالة وبنو زريقف وبنو قزيت وكرسفينة ووزلجة وموجة وزقلاوة وبنو مرانة وبنو جناد وبنو واقنون وفراوسن وايراتن وافليسن واعزوزن. وقيل ان مليكش من صنهاجه. قال ابن خلدون: "ومن قبائلهم المشهورة لهذا العهد بنو يجر وبنو منقلاب وبنو يتروث وبنو يني (وفي بعض النسخ بنو ماني (وبنو بوغردان وبنو يتورغ وبنو بويوسف وبنز عيسى وبنو بوشعيب وبنو صدقة وبنو غبرين وبنو كشطولة " اهـ. وبنو غبرين كانوا بجبل الزان. وانتقلوا بعد ابن خلدون الى جنوب تمقوت قاله بوليفة في كتابه "جرجرة" المولف بالفرنسية. وعليه اعتمدنا في تصحيح اعلام البطون المذكورة. 5 - لواتة ونفزاوة لوا الاكبر بن زحيك بن مادغيس الابتر له ولدان هما نفزاو ولوا الاصغر، فمن ولد نفزاو نفزاوة واخوانهم بنو لوا الاصغر اختصوا باسم لواتة. فاما لواتة فكانوا ظواعن. ولهم في الخارجية مواقف وفي حرب بني عبيد مقامات. فاكلتهم الحروب. واغرقهم سيل الهلاليين فلم يكن لهم في العصر البربري كبير ذكر. ومن بطونهم صدراتة بنواحي بسكرة ومزاتة بنواحي باغاية

وبلزمة وغيرهما. ومن مزاتة محيحة بحائين أو جيمين ودكمة في أفخاذ استوعبها ابن خلدون. ومنعني من نقلها ضعف الثقة برسمها. ويعرف باسم لواتة ثلاث فرق: الاولى باوراس. وهم بنو سعادة وبنو ريحان وبنو باديس ويدهم هي العالية على من هناك من هوارة كتامة. قال ابن خلدون: "تبلغ خيالتهم الفا وتجاوز رجالاتهم العدة". ثم غلب عليهم الهلاليون. فصار بنو سعادة في اقطاع أولاد محمد من الذواودة ومن جملة رعاياهم. ودخل بنو ريحان وبنو باديس في طاعة ابن مزني صاحب بسكرة. ولبني باديس اتاوة على بنو نقاوس يقتضونها إذا انحدر الاعراب الى مشاتيهم. فاذا رجع الاعراب الى مصايفهم انقبضوا الى جبلهم. الثانية قبلة تاهرت ظواعن على وادي مينة يبلغون شرقا الى جبل يغود. يقال ان بعض امراء القيروان نقلهم معه في غزوة وانزلهم هنالك. وكانت لهم حروب مع وجديجن وزناتة ازاحتهم عن مواطنهم الى جبل يغود وجبل درق (بشد الراء) وانتشروا من هنالك الى الجبال المطلة على متيجة. قال ابن خلدون: "وهم لهذا العهد في عداد القبائل الغارمة. وجبل دراق في اقطاع ولد يعقوب بن موسى مشيخة العطاف من زغبة،) اهـ. الثالثة بنواحي بجاية. قال ابن خلدون: "ينزلون بسيط تاكرارت من اعمالها ويعتمرونها فدنا لمزارعهم ومسارح لانعامهم. ومشيختهم لهذا العهد في ولد راجح بن صواب منهم. وعليهم للسلطان جباية مفروضة وبعث مضروب" اهـ. واما نفزاوة فكانوا أيضا خوارج. وخضدت الدول شركتهم. وزاحمهم الاعراب في مواطنهم فافترقوا في القبائل. ولم يكن لهم في العصر البربري كبير شأن.

واشهر مواطن نفزاوة جنوب قسنطينة غربي الجريد يتصلون بالرمال. قال اليعقوبي: "ولهم عدة مدن عظماها التي ينزلها العمال يقال لها بشرة " اهـ. ولهم بطون في جميع اقسام المغرب منها غساسة بنواحي مرسى مليلة وزاتيمة بساحل برشك وزهيلة بنواحي بادس منهم في عهد مشيخة ابن خلدون ابو يعقوب البادسي المشتهر بالولاية رسوماتة بنواحي القيروان منهم منذر بن سعيد قاضي عبد الرحمن الناصر بقرطبة ومرنيسة لا يعرف لهم موطن ومنهم أوزاع بين أحياء العرب بافريقية. ومنها مجرة وورسيف ومكلاتة لا يعرف لهم موطن. ومنها ولهاصة وهي ذات أفخاذ منها ورفجومة وورتدين ومن ورفجومة زكولة وزجالة. وتعرف بولهاصة امتان احداهما بساحل تلمسان مجاورة لكومية اندرجت فيها، والاخرى ببسيط بونة استعربت في زيها ولغتها وسائر شعائر العرب، قال ابن خلدون "وهي في عداد القبائل الغارمة، ورئاستهم في بني عريف منهم (وفي بعض نسخه عريض) وهي لهذا العهد في ولد حازم بن شداد بن حزام بن نصر بن مالك بن عريف (وفي بعض النسخ عريض ايضا)، وكانت قبلهم لعسكر بن بطان منهم" اهـ. وورفجومة افترقوا بعد ركود ريح الخوارج اوزاعا في القبائل، وبقي من زجالة منهم فرق بمرماجنة وهنالك قرية ببسيطها تنسب اليهم، وكان منهم محمد بن سعيد الزجالي من كتاب بني أمية. وداعبه بعض الوزراء فاجابه بما احفظه. فشكاه الوزير الى الحاجب عيسى بن شهيد. فقال له الحاجب في ذلك. فانشده: وما الحر الا من يدين بمثل ما … يدان، ومن يخفي القبيح وينصف

6 - بنو فاتن

همو شرعوا التعريض قذفا فعندما … تبعناهمو لاموا عليه وعنفوا 6 - بنو فاتن كان بنو فاتن منهم الظاعن الراحل والقاطن المقيم. ودانوا بالخارجية. ثم فارقوها بعد ظهور الادارسة لا سيما بعد سقوط الدولة الرستمية. ونزح كثير منهم الى الاندلس، ولم يكن لهم كبير ذكر في العصر البربري ما عدا كومية من بطونهم. فقد ظهر منها عبد المؤمن بن علي مؤسس الدولة الموحدية المؤمنية دولة العلم والنظام. وبطونهم هي مطغرة وكومية ومديونة ومغيلة وملزوزة وكشانة ودونة وصدينة ومطماطة ولماية. فاما مطغرة ويعرفون بالمداغر فجمهورهم بالمغرب الاقصى ويتصلون شرقا بكومية واندمجوا فيها منذ ظهور الدولة الموحدية ومنهم جنوب تلمسان بفقيق امة في قصور متقاربة ائتلف منها مصر كبير مستبحر بالعمران ضاح من ظل الملك. ورئاستهم في بني سيد. الملك منهم. وفي شرقيها على مراحل منها قرى أخرى متتابعة متصاعدة قليلا الى الشمال آخرها جنوب جبل راشد على مرحلة منه. وهي في مجالات بني عامر من زغبة. وشرقي هذه القصور على خمسة مراحل القليعة يعتمرها رهط منهم ومنهم أوزاع في أعمال المغرب الاوسط وافريقية. واما كومية فثلاث بطون هي: ندرومة وصغارة وبنو يلول. وافخاذهم كثيرة منهم بنو عابد قوم عبد المؤمن بن علي، قال ابن خلدون: "فمن ندرومة نفوطة وحرسة وفردة وهفانة وفرانة، ومن

بني يلول مسيفة ووتيوة وهبيشة وهيوارة ووالغة، ومن صغارة ماتيلة وبنو حباسة" اهـ. ومواطنهم سيف البحر من ناحية ارشقول وتلمسان. قال صاحب المعجب " وكومية كثيرة العدد جمة الشعوب لم يكن لها في قديم الدهر ولا حديثه ذكر في رياسة ولا حظ من نباهة، وانما كانوا أصحاب فلاحة ورعاة غنم واصحاب اسواق يبيعون فيها اللبن والحطب وسوى ذلك من سقط المتاع فاصبحوا اليوم بكون عبد المؤمن منهم وليس فوقهم أحد ببلاد المغرب " اهـ. وكان الخليفة عبد المؤمن غريبا بين قبائل المصامدة. فنقل من كومية الى مراكش في دفعة واحدة اربعين الف فارس. قال ابن خلدون: "واكلت كومية الاقطار في تجهيز الكتائب وتوزع الممالك فانقرضوا، وبقي بمواطنهم الاولى بقايا منهم بنو عابد. وهم في عداد القبائل الغارمة " اهـ. واما مديونة فجمهورهم بنواحي تلمسان الى جبل مديونة جنوب وجدة غربا وجبل راشد شرقا. يظعنون في تلك الجهات، ويجاورهم شرقا بنو يلومي الوارثون لموطن يفرن وغربا مكناسة وشمالا كومية وولهاصة. وانتقل جمع منهم الى الاندلس. ومن بقي تغلبت عليهم زناتة من بني راشد وتوجين. فانحصروا بجبل تسالة وغيره من المعاقل. واما مغيلة فامتان احداهما بالمغرب الاقصى. ومعهم صدينة. والاخرى على وادي شلف عند مصبه في البحر. ومعهم ملزوزة ودونة وكشانة. قال ابن خلدون: "ولم يبق من مغيلة بذلك الوطن جمع ولا حي". واما مطماطة فمنهم بافريقية وبالمغرب الاقصى، وجمهورهم

7 - هوارة

بتلول منداس من نواحي تيهرت. ومن مشاهيرهم سابق بن سليمان المطماطي. قال ابن خلدون: "وهو كبير نسابة البربر ممن علمناه" وذكرلهم بطونا كثيرة منهم غرذاي. ونقل ان منداس سمي بمن نزل به من بطون هوارة وتغلبت عليه مطماطة قال: "وبقية هؤلاء القوم لهذا العهد بجبل وازشنيس لحقوا به لما غلبهم بنو توجين من زناتة على منداس وصاروا في عداد القبائل الغارمة " اهـ. ووارشنيس هو وانشريس. واما لماية فظواعن بافريقية والمغرب. وجمهورهم بأرض السرسو شرقيهم وشماليهم مطماطة ومكناسة ولواتة وغربيهم زوأغة. وانتشر عقدهم بسقوط الدولة الرستمية. قال ابن خلدون: "وبقيت فرقا منهم أوزاعا في القبائل. ومنهم جربة الذين سميت بهم الجزيرة البحرية تجاه ساحل قابس" اهـ. وقال ابو راس: "من لماية من فارق الخارجية كاهل فرندة والحوارث. وهم منتشرون بالمغرب الاوسط" اهـ. 7 - هوارة كانوا منهم الظاعن والآهل. ولهم في الردة آثار ثم في الخارجية مواقف. وأجاز جمع عظيم منهم الى الاندلس. ومن بقي على كثرتهم اخضعتهم الدول لسلطانها فتفرقوا في الجهات، ولم يكن لهم شان في العصر البربري. وبطونهم كثيرة منها ونيفن بنواحي تبسة وبنو كملان كانوا حيث المسيلة ونقلهم القائم العبيدي الى فج القيروان. فلما كانت ثورة صاحب الحمار آزروه. فسطا بهم المنصور بن القائم حتى قطع ذكرهم. ومنها مليلة ولعل عين مليلة القرية الموجودة اليوم جنوب قسنطينة سميت بهم. ومنها هقار بالصحراء جوار لمطة من اللثمين.

وكان جمهورهم بطرابلس وبرقة. قال ابن خلدون: "ومن قبائلهم أمم كثيرة في مواطن من أعماله تعرف بهم وظواعن شاوية تنتجع لمسرحها في نواحيها، وقد صاروا عبيدا للمغارم في كل ناحية، وذهب ما كان لهم من الاعتزاز والمنعة ايام الفتوحات بسبب الكثرة. وصاروا إلى الافتراق في الاودية بسبب القلة " اهـ. واشهر مواطنهم بالجزائر ثلاثة: الاول القلعة المطلة على البطحاء من نواحي سيق غربي نهر مينة ملكوها بعد انقراض امر بني يلومي، ومن بطونهم هناك مسراتة وكانت رئاستهم في بني عبد العزيز ثم انتقلت الى بني عمهم بني اسحق. الثاني أوراس. وهم تحت سيادة لواتة. الثالث نواحي تبسة الى باجة. وقد بسط ابن خلدون الكلام عن أهل هذه النواحي فهاك عبارته: " ومن هوارة بارض التلول من افريقية ما بين تبسة إلى مرماجنة الى باجة ظواعن صاروا في عداد الناجعة من عرب بني سليبم في اللغة والزي وسكنى الخيام وركوب الخيل وكسب الابل وممارسة الحروب وايلاف الرحلتين في الشتاء والصيف في تلولهم، قد نسوا رطانة البربر. واستبدلوا منها فصاحة العرب، فلا يكاد يفرق بينهم، فاولهم مما يلي تبسة قبيلة ونيفن. ورئاستهم لهذا العهد في ولد بعرة بن حناش بن ونيفن لاولاد سليم بن عبد الواحد بن عسكر بن محمد ابن بعرة. ثم لاولاد زيتون بن محمد بن بعرة ولاولاد حمان بن فلان ابن بعرة، وكانت الرئاسة قبلهم لسارية من بطون ونيفن. ومواطنهم ببسائط مرماجنة وتبسة وما اليهما. وتليهم قبيلة أخرى في الجانب الشرقي منهم، يعرفون بقيصر. ورئاستهم في بيت بني مؤمن ما بين ولد زعزاع وولد حركات. ومواطنهم بفحص ابة وما اليها من نواحي الاربس. وتليهم الى جانب الشرق قبيلة أخرى منهم يعرفون ببصوة.

8 - مصمودة وبقية القبائل

ورئاستهم في بيت الرمامنة لولد سليمان بن جامع منهم. ويرادفهم في رئاسة بصوة قبيلة ورمانة ومواطنهم ما بين تبرسق الى حامة الى جبل الزنجار الاطار على ساحل تونس وبسائطها. ويجاورهم متساحلين الى ضواحي باجة قبيلة اخرى من هوارة يعرفون ببني سليم. ومعهم بطن من عرب مصر من هذيل بن مدركة بن الياس جاءوا من مواطنهم بالحجاز مع الهلاليين عند دخولهم المغرب. واختلطوا في هذه الناحية بهوارة. ومعهم ايضا بطن من رياح ينتمون الى عتبة بن مالك بن رياح. ومعهم أيضا بنو حبيب من مرداس سليم، والجميع مثل هوارة في الظعن والمغرم". "هؤلاء الظواعن من هوارة وغيرهم أهل بقر وشاة وخيل ولسلطان افريقية عليهم وظائف من المغرم مقررة وبعث من العسكر مفروض يحضر بمعسكر السلطان متى استنفروا لذلك ولرؤسائهم ازاء ذلك اقطاعات ومكان في الدول بين رجالات البدو" اهـ. بتصرف قليل. 8 - مصمودة وبقية القبائل 1 - أوربة، كانوا ذوفي كثرة وأولي قوة. ومنهم لاول الفتح كسيلة اميرهم وبعد الفتح استقروا بالمغرب الاقصى. وكانت منهم في القرن الثالث طائفة حول نقاوس ذكرها اليعقوبي. 2 - لمطة، هم اخوة صنهاجة، وجمهورهم بالصحراء، ومنهم قبيلة بين تلمسان وافريقية. 3 - عجبسة، من بطونهم بنو عوسجة، وكانوا مجاورين لصنهاجة، ومن سهولهم فحص عجيسة قرب مدينة الغدير، ومن حصونهم جبل كيانة، وكانت لهم يد في نصرة صاحب الحمار، ثم خضعوا لبني عبيد، واسس حماد بن بلقين مدينة القلعة بجبل كيانة،

فراموا كيدها مرارا، فاستلحمتهم الدولة، ثم ورثت مواطنهم عياض. قتفرقوا في القبائل شرقا وغربا. قال ابن خلدون: "وبقاياهم لهذا العهد في ضواحي تدلس والجبال المطلة على المسيلة " اهـ. 4 - ازداجة. من النسابين من يعدهم في قبائل زناتة. ومن بطونهم بنو مسقن. وموطنهم نواحي وهران. وكان لهم اعتزاز على الدول حتى اختلفت عليهم جنود العبيديين والاموبين. واوقع بهم يعلي بن محمد اليفرني سنة 343 ففرق جمعهم ولحق رؤساؤهم بالاندلس. ومن بقي منهم استكان للذل واداء المغرم. 5 - مسطاسة. قيل أنهم أخوة ازداجة وقيل بطن منهم. وكانوا مندرجين معهم في الموطن. ومن رؤسائهم من أجاز الى الاندلس. وحال من بقي كحال ازداجة. 6 - زواغة. من بطونهم بنو واطيل ودمر أهل جبل دمر الممتد جنوب قابس الى ان يتصل شرقا بجبل نفوسة. ومن دمر فخذ سمكان. وهم أوزاع في القبائل. منهم قرب ميلة فريق يعرفون بزواغة. وبنو واطيل كانوا بنواحي شلف. ومن زواغة من كانوا غربي السرسو. قال ابن خلدون: "ولم يتأد الينا من أخبار زواغة وتصاريف أحوالهم ما نعمل فيه الاقلام " اهـ. 7 - مكناسة. كان لهم في الخارجية قدم. وضربت في الرافضية الاسماعيلية بسهم. ثم قامت بدعوة بني أمية على عهد عبد الرحمن الناصر. وكان كبيرها موسى بن ابي العافية، ولبنيه بتسول ونواحي فاس ملك ادركهم عليه المرابطون. وبطولهم كثيرة، ومواطن جمهورهم بتسول وتازا ووادي ملوية من مصبه في البحر الى سجلماسة. ومنهم أمة حوالي تيهرت بينها

وبين غليزان، قال ابن خلدون: "ومن مكناسة أوزاع في القبائل لهذا العهد مفرقون في نواحي افريقية والمغرب الاوسط" اهـ. 8 - مصمودة. ذكر البكري منهم امة حول بونة، وموطنهم بالمغرب الاقصى في جبل درن تجاورهم صنهاجة اللثامية جنوبا الى بلاد السوس. وبطونهم هنالك كثيرة لا تحصى منها هرغة وهنتاتة تينملل وقنفيسة وقدميرة ودكالة وهسكورة. قال ابن خلدون: "يسير الراكب في جبل درن معترضا من تامسنا وسواحل مراكش الى بلاد السوس ودرعة من القبلة، ثماني مراحل وازيد، تفجرت فيها الانهار وجلل الارض خمر الشعراء، وتكاثفت بينها ظلال الادواح وزكت مواد الزرع والضرع. وانفسحت مسارح الحيوان ومراتع الصيد. وطابت منابت الشجر، ودرت افاويق الجباية " اهـ. وقال صاحب المعجب: "ومصمودة مطبوعون على سفك الدماء شاهدت من ذلك ايام كوني بسوس ما قضيت به العجب " اهـ. وكان منهم قبل الاسلام امراء، وأسلموا لاول الفتح، ولهم مع جيرانهم اللثمين حروب وفتن، ولم يزالوا في حدود وطنهم حتى ظهرت دولة الموحدين وفازت منهم هنتاتة بحظ عظيم من الملك على يد ابنائها الحفصيين، فتفرقوا لذلك في ممالكهم. ومنهم أولاد نعمون الذين لم يزل عقبهم بقسنطينة. ولم تكن مصمودة لتستغل ما وهبها الله من كثرة عدد وخصب موطن ومناعة موقع لولا ان قيض الله لها من ابنائها محمد بن تومرت. ذلك الرجل الذي كلما أمعن المفكر النظر في حياته ازداد ايمانا بالطفرة واستيقن ان من يبني حياة امته على قاعدتها هو العظيم الخارق للعادة وان من يبني حياة الامم على قاعد التدرج وفاقا لمبدأ النشوء والارتقاء فانما هو من العظماء العاديين.

الباب الثاني في الدولة الحمادية

الباب الثاني في الدولة الحمادية

1 - تمهيد

1 - تمهيد استخلف آل زيري بن مناد الصنهاجي عن العبيديين والمغرب يضطرم نارا بالفتن الناشئة عن النزاع بين العبيدية والاموية. وما كادوا يتغلبون على الاموية حتى دب فيهم دبيب المنافسة. وتنازعوا امرهم بينهم. وعقد منصور بن بلقين لاخيه حماد على عمل أشير والمسيلة مستكفيا به أمر زناتة الاموية ومن ينازعه من آله. فلم يزل حماد مخلصا له، وتداول هذا العمل مع أخيه يطوفت وعمه ابي البهار. وتوفي المنصور، فخلفه ابنه باديس. واقر عمه حمادا على عمله، وافرده به سنة 387 دون يطوفت وابي البهار. وخالف عليه من عمومته زاوي وماكسن ابنا زيري فيمن استجاب لهما. فعقد على حربهم لعمه حماد سنة 390 فقتل حماد ماكسن وحصر زاوي بجبل شنوة من ناحية شرشال، ثم أمنه ومن معه على ان يجيزوا الى الاندلس. فلحقوا بالمنصور بن ابي عامر. ولم يزل باديس مستعينا بحماد يستقدمه متى شاء الى صبرة ويحرجه لاطفاء الثورات. وفي سنة 95 كلفه بحرب زناتة، فاشترط عليه ولاية المغرب الأوسط وكل ما يفتحه وان لا يستقدمه. فوفي له بما شرط. وفي سنة 398 اختط حماد مدينة القلعة. وصار ينزل بها وباشير. وبقي واليا على الزاب والمغرب الاوسط مواقفا لزناتة. وتكررت

2 - تأسيس الدولة الحمادية

انتصاراته عليهم فطار صيته وعظمت هيبته حتى خشي باديس أن يخلع طاعته لا سيما وقد أسس مدينة القلعة. وفي سنة 403 جاء التسجيل من الحاكم صاحب مصر الى باديس بولاية عهده لابنه المعز، وكانت حاشية باديس قد سعوا له بحماد. فاتخذ ذلك التسجيل ذريعة لاختيار حماد. فارسل اليه بالتنازل للمعز عن عملي تيجس وقسنطينة. فأى ذلك حماد وافضى الامر الى حرب اسفرت عن تأسيس الدولة الحمادية. 2 - تأسيس الدولة الحمادية اقوى أعداء صنهاجة هم زناتة واعظم آل زيري بطوله هو حماد. فوكلوا اليه حروب زناتة. فاوقع بهم مرارا. وكان مظفرا عليهم، ورأى ان يجني ثمرة انتصاراته. فاستوثق من باديس سنة 95 بتلك الشروط ثم احتاط لنفسه. فأسس القلعة، وشحنها بأوليائه ودخائرد اذ لم تكن له ثقة بأشير. وكانت الامة تتبرم من سماع الدعاء للعبيديين على المنابر. وكان آل زيري مع الامة باطنا. وليس لهم مع العبيديين الا ظواهر دعت اليها السياسة. ولما طلب باديس من حماد التنازل عن ذينك العملين رأى هذا الطلب كمقدمة لحرمانه من ثمرة جهاده وان رفضه مفض الى الحرب ولا نتيجة للحرب الا تمتعه بالاستقلال او تعجيل حرمانه من لذة النفوذ فرجا الاستقلال بما كان قد هيأه لمثل هذا من معقل القلعة وأعلن ما تصبو اليه الامة من قطع دعوة بني عبيد فقتل الروافض. ودعا لبني العباس. وذلك سنة 405. وجهز باديس لحرب حماد كبير قواده هاشم بن جعفر. وجمع

حماد ثلاثين الفا لقي بها هاشما بمدينة الكاف. فهزمه وغنم ماله وعدده. وتقدم الى باجة. فدخلها بالسيف. وأثار تونس على الرافضة. وذلك سنة 406. وهنالك قاد باديس الجيوش بنفسه. وخرج من القيروان لحرب حماد. فخذل حمادا بعض رجاله من بني حسن الصنهاجيين، ومن زناتة كبني ابي واليل أهل مقرة وبني يطوفت وبني غمرة، ففر حماد حتى اتى اشير في صفر، وبها نائبه خلف الحميري، فمنعه منها وأعلن طاعة باديس، فتوجه حماد الى شلف بني واطيل. واستولى باديس على المسيلة واشير، وبلغ سهل السرسو. فأتاه رؤساء بني توجين وكثير من زناتة الناقمين على حماد. فاستظهر بهم، واجاز وادي شلف، فتقابل مع عمه مستهل جمادي الاولى وتقاتلا اشد قتال، فانخزل عن حماد اصحابه الى باديس، فانهزم وأخذ السير الى القلعة، وبها أخوه ابراهيم. فدخلها تاسع جمادى الاولى، وذهب الى دكمة، فأخذ من أهلها ما وجده من طعام وملح وذخيرة، وعاد الى القلعة مستعدا للحصار. عاد باديس اثر عمه، وحاصره بالقلعة، وبينما حماد يقاسي ألم الحصار وينتظر اليوم الذي يؤخذ فيه اذ نعي اليه باديس آخر ذي القعدة، فأتاه الفرج من حيث لم يحتسب. وهكذا تأيد بالقدر الذي عوده الظفر. وكان كرامت اخو باديس ذا منزلة لدى صنهاجة، فبايعه كبار القواد ارضاء لصنهاجة لبعدهم عن العاصمة فمضى كرامت الى أشير وفرق الاموال في صنهاجة. وجمع سبعة آلاف مقاتل وخرج اليه حماد في خمسمائة والف فارس فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم انهزم كرامت الى اشير، فحاصره بها حماد.

وعاد القواد بشلو باديس الى القيروان فبايعوا للمعز ونقضوا بيعة كرامت فلما بلغه ذلك صالح حمادا على مال يأخذه ويلتحق بالمعز، فاسعفه حماد بذلك ولحق بالمعز في محرم سنة 407 وكان هذا أيضا من أسباب نجاح حماد. انتقل الميدان بين حماد والمعز الى جهات باغاية وما يليها الى ناحية قفصة ولثمان بقين من صفر سنة 408 سار المعز بالاجناد لحرب حماد. فأجلاه عن باغاية ثم كانت بينهما وقعة شديدة آخر ربيع الاول جرح فيها حماد، وأسر فيها أخوه ابراهيم. وتفرقت عنه رجاله. فاسلم معسكره بما فيه من معدات وذخائر، ونجا بنفسه. وانتهى المعز الى سطيف وقصر الطير. ثم قفل الى حضرته. وهنالك مال حماد الى السلم. فارسل إلى المعز. يعرض عليه طاعته. فاشترط عليه ارتهان ابنه القائد. فوسط اخاه ابراهيم في التوثق من المعز. فارسل ابراهيم اليه يضمن له سلامة ابنه. ثم بلغ المعز قصره آخر جمادى الاولى، وسرح ابراهيم بن بلقين، وخلع عليه، فلما بلغ ذلك حمادا زالت ريبته بالمعز، وارسل ولده القائد بهدية جليلة، فبلغ الى المعز منتصف شعبان. فاكرمه. واهدى له هدايا جليلة واقطعه المسيلة وطبنة وغيرهما. ولم يمسكه بل سرحه الى ابيه فعاد اليه في رمضان وبحسن هذه السياسة من المعز تم الصلح بينه وبين حماد، وصلحت الاحوال. ونرى حمادا لم يكن له غرض في هذه الحرب. وانما كان حذرا مستعدا للطوارئ. فادخل حذره ذلك الريبة في نفس باديس. وقواها له حاشيته من حسدة حماد. فاشتعلت الحرب مدة عامين. وانتهت ببقاء حماد على ما كان عليه وانما في صلح المعز اعتراف ضمني بالعجز عن مقاومة حماد.

3 - المملكة الحمادية

وهكذا أحسن حماد الدفاع عن ممالكه حتى أورث عقبه ملكا نافسوا به بني عمهم أصحاب افريقية. وأصبحوا أقوى منهم واملك للباس. ولكن بني باديس كانوا ارقى حضارة واقعد بالسياسة. وانما تأسست الدولة الحمادية باقتحام الاخطار ومساعدة الاقدار. 3 - المملكة الحمادية تمتد المملكة الحمادية غربا الى فاس، وبهذه الناحية امارة بني يعلي بتلمسان ونواحي وهران وحكومة بني زيري بن عطية بفاس، وأغلب سكانها زناتة فكان الحماديون يترددون بجيوشهم عليها تسكينا للثورات او اقتضاء للمغارم. وفي سنة 430 زحف حمامة بن زيري بن عطية امير فاس الى القائد بن حماد. فتقاتلا. وسرب القائد الاموال في زناتة. فوهن حمامة. وبذل طاعته للقائد. ثم ظهرت دولة المرابطين. فخرج بلقين بن محمد بن حماد سنة 454 للقاء يوسف بن تاشفين الذي ظهر بوطن المصامدة. فاجلاه الى الصحراء. وردد غاراته بالمغرب. واحتمل من اكابر فاس واشرافها رهائن على الطاعة. ثم عظمت شوكة المرابطين. فاستوالوا على امارات زناتة وتقدموا الى الجزائر واشير. فدافعهم الحماديون. ثم اصطلحوا. واستقرت الحدود بين المملكتين. قال صاحب المعجب: "وكان يحي آخر الملوك الحماديين يملك بجاية واعمالها الى موضع يعرف بسيوسيرات وهذا الموضع هو الحد فيما بينه وبين لمتوتة". وأعاد ذكر هذا الموضع بهذا اللفظ، وقال بينه وبين بجاية قريب من تسع مراحل. وذكره ابن خلدون في مواطن بني يلومي بلفط سبدو سيرات. وهذا الموضع غربي نهر مينة الى سهل سيق.

على ان في نسخة من ابن خلدون سيك وسيرات بالعطف وسيك هو سيق. وامتدت شرقا حتى اشتملت على تونس والقيروان وصفاقس والجريد وخضعت جزيرة جربة ايام العزيز، وهذه الناحية يغلب عليها العرب وبمدنها عدة أمراء يتلونون في السياسة حسب اهوائهم. وقد فتح الناصر بن علناس مدينة الاربس سنة 460 بعد خضوع تلك البلدان له. وهي في طريقه الى تلك البلدان. فدل على ان تبعية هاتيك الجهات غير مبنية على خضوع عسكري. واستمر نزاع حماد وآل باديس على مدينة. تونس. ثم تبتت للحماديين من سنة 514 الى سنة 548 وعادت بعد الى امرائها الاقدمين بني خراسان. وامتدت المملكة جنوبا الى الزاب ووادي ريغ وورقلة. وبقيت داخل هذه الحدود جهات من وطن زواوة وكتامة غير تابعة للحماديين. قال ابن الاثير: "وفي سنة 417 وردت رسل زناتة وكتامة على المعز في طلب الصلح والدخول في حكمه على ان يحفظوا الطريق. فاستوثق منهم. وقدمت عليه مشيخنهم. فبذل لهم أموالا جليلة " اهـ. وقد اخضع الحماديون زناتة من بعد. ويظهر ان كتامة كذلك. ولكن لا نعلم لهم نفوذا بالجبال الممتدة فيما بين السكيكدة وجيجل من وطن كتامة، فان بها قبائل قوية لا يعلم لها خضوع لاية دولة سواء في العصر العربي او البربري. وبعد ان حارب المنصور المرابطين سنة 86 ثم اثخن في زناتة عاد الى فتح وطن زواوة. قال ابن خلدون: "ورجع المنصور الى بجاية واثخن في نواحيها ودوخت عساكره قبائلها. فساروا في جبالها المنيعة مثل بني عمران وبني تازروت والمنصورية والصهريج والناظور وحجر المعرق (في نسخة حجر المعز). وقد كان اسلافه كثيرا ما يرمونها

4 - الحكو مة الحمادية

فتمتنع عليهم" اهـ. والمنصورية شرقي بجاية على طريقها الى جيجل. 4 - الحكو مة الحمادية هذه الدولة أول دولة بربرية بالجزائر الاسلامية. وكانت مستقلة استقلالا تاما غير أن ملوكها لم يجرؤا على دعوى الخلافة التي كانت يومئذ للعباسيين ببغداد وللفاطميين بمصر، فدعا حماد أولا العباسيين ثم اصطلح مع المعز. فدعا للفاطميين. فلما خلع المعز العبيديين دعا لهم القائد خلافا لابن عمه وتوقيا من شر الحملة الهلالية ظنا ان ذلك يفيده. ثم عاد من بعده الى الدعوة العباسية. ولم يضربوا السكة على عظم دولتهم احتراما لدولتي الخلافة. واحدثها يحي آخرهم. قال ابن خلدون: " وسكته في الدينار كانت ثلاثة سطور ودائرة في كل وجه. فدائرة الوجه الواحد: واتقوا يوما ترجعون فيه الى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون. والسطور: لا اله الا الله محمد رسول الله يعتصم بحبل الله يحي بن العزيز بالله بن الامير المنصور. ودائرة الوجه الآخر: بسم الله الرحمن الرحيم ضرب هذا الدينار بالناصرية سنة نلاث واربعين وخمسمائة وفي سطوره: الامام أبو عبد الله المقتفي لامر الله أمير المؤمنين العباسي " اهـ. ورئيس الحكومة يلقب بالأمير أو الملك. ويتولى اما بالعهد اليه من سلفه أو بالتغلب والقهر، ولم تخرج الامارة عن آل حماد. وللامير وزراء في عاصمته. وعمال في المدن. وأهم ممالكهم الجهات الشمالية كان يليها عمال من آل حماد مثل الجزائر ومرسي الدجاج وجيجل وبونة وقسنطينة ونقاوس والقلعة واشير وحمزة.

واما النواحي الجنوبية فكانت بواديها للبربر واغلبهم زناتة. ثم تغاب عليهم العرب وكانت مدنها تابعة للحماديين ولكن لكل مدينة ادارة خاصة يديرها جماعة من الشيوخ الذين حنكتهم التجارب. وكانت بسكرة قاعدة الزاب يومئذ. ومن أسرها بنو رمان وبنو سندي، فتولى رئاسة الزاب بنو رمان من البربر، ويقول مرسيي انهم من أصل لطيني، ونبذوا الطاعة لعهد الناصر. ففتتك بهم، وادال منهم ببني سندي، فلم يزالوا على رئاستهم مخلصين للدولة الى ان غلب الموحدون على هذه المملكة. وكان القضاء مستقلا عن الادارة، ويظهر انه كان على المذهب المالكي لانه الغالب يومئذ على اهل المغرب والاندلس. كان للدولة جيش نظامي علاوة على ما كانت عليه الامة من الاستعداد الطبيعي لاجابة دعوة الحكومة للقتال، لبساطة الحرب يومئذ، قال لسان الدين في الاعلام: "كان يسكن بالقلعة ايام الناصر من فرسان صنهاجة أثنا عشر الفا " اهـ. هذا بالقلعة دون بقية المدن ومن صنهاجة دون بقية القبائل ومن الفرسان دون المشاة. وقال أيضا: "ان المنصور خرج لقتال المرابطين لما استولوا على تلمسان في اثنتي عشرة محلة " اهـ. وان المادة لتعجزنا ان نأتي بتفاصيل عن الجيش الحمادي، والذي نعلمه من حياة هذه الدولة انها حربية أكثر منها سلمية. ومؤسسات الدولة تدل على انها كانت غنية جدا، وانا لنجهل تفاصيل تكوين ماليتهما، وانما نعلم انها كانت تقبض الخراج، وتعتمد في جمعه من الجهات التي يتغلب عليها العرب على العرب أنفسهم، ولكثرة حروبها وانتصاراتها نعتقد ان الغنائم أهم ما تتكون منه ماليتها. فان الامراء كانوا يغنمون اموال البغاة.

5 - ملوك الدولة الحمادية

ويجاور هذه الدولة غربا ممالك زناتة الخاضعة لها، فلما غلب عليها المرابطون طمعوا في بقية المملكة الحمادية. وبعد حروب اعترفت الدولتان بعضهما ببعض. وتم بينهما تقرير الحدود في جو ودادي، ولم تزالا على ودادهما إلى أن ظهر الموحدون فقضت المصلحة باتحادهما حربيا. ويجاورها شرقا دولة آل باديس وقد اعترف حماد بخضوعه للمعز لما تغلب عليه، ولم تزل هذه الدولة تحاول الاستقلال والمعز يخضعها حتى جاء الهلاليون واضعفوا دولة المعز وبنيه، فاعلن القائد ابن حماد الاستقلال، ثم اختلفت ايام الدولتين الشقيقتين سلما وحربا، وكان الظفر غالبا لآل حماد، واذا اصطلحوا فربما يؤكدون الصلح بالمصاهرة. ولكن لم يدم بينهم سلم حتى انقضت ايامهم. وكان لبني حماد عمائم هي تيجان ملوكهم. قال صاحب الاستبصار ما لفظه. " وكان لملوك صنهاجة عمائم شرب مذهبة، يغلون في أثمانها. تساوي العمامة خمسمائة دينار وستمائة دينار وازيد. وكانوا يعممونها باتقن صنعة. فتأتي كأنها تاج وكان ببلادهم صناع لذلك. يأخذ الصانع على تعميم عمامة منها دينارين وازيد وكانت لهم قوالب من عود في حوانيتهم يسمونها الرؤس. يعممون عليها تلك العمائم" اهـ. ذكر هذا بمعد ذكر وقعة سبيبة التي انهنرم فيها الناصر وسلم عمامته وراية لاخيه. 5 - ملوك الدولة الحمادية كان ملوك هذه الدولة الى البداوة اقرب لانهم انشأوا الملك انشاء. ولم تدع لهم ثورات زناتة وغيرهم سبيلا الى الترف بل

حفظت عليهم الحياة الحربية. ولم ترتق الدولة في سلم الحضارة الا في عهد الناصر وابنه المنصور. وما مالوا الى الراحة والدعة الا بعد خروج أهم مواطن زناتة عنهم الى المرابطين. وأولهم حماد بن بلقين. أعلن استقلاله سنة 405 ثم اصطلح مع المعز سنة 408 وتزوج ابنه عبد الله أخت المعز، ولم ينقض الصلح حتى توفي بالقلعة في رجب. قال لسان الدين في الاعلام: "كان حماد نسيج وحده وفريد دهره وفحل قومه. ملكا كبيرا وشجاعا ثبتا وداهية حصيفا. قد قرأ الفقه بالقيروان ونظر في كتب الجدال " اهـ. قال البكري: "وحدثوا أن حمادا قال ما تداهى احد علي قط ولا خدعني الا امرأة وكعاء من البربر، ذلك ان صاحبا كان لي بالقيروان نشأنا نشأة واحدة ولم يفرق بيننا مكتب ولا مشهد. ولم نزل على ذلك حتى صرت لحه ما أنا فيه، ففقدته: وجعلت افتقده، فلا أجد سببا للوصول اليه". " فلما نزلت على باغاية وشننت عليها الغارات لم انشب صبيحة ذات يوم ان سمعت النداء يالله! ياللامير! فقلت ما بالك ومن انت؟ فاذا هو صاحبي قد حبسه عني نسكه وغلب على هواه ورع يملكه فاظهرت البشر بمكانه والجذل بشأنه وقلت له والله لو خرجت الي بالامس لحقنت دماء أهل بلدك لحرمتك عندي، فقال القدر غالب، ثم ذكر حاجته وهي ان ابنته فقدت. "فأمرت القواد فاحضروا جميع ما كان في جيوشهم من النساء. فعرف ابنته فأمرت بسترها وحملها مع أبيها. فرفعت صوتها قائلة لا ارجع مع احد! اني لا اصلح الا للملوك لان عندي علما لا اشارك فيه. فقلت الا ترينا شيئا من ذلك؟ قالت تأمر بقتل انسان وتحضر

امضى سيف اقرأ عليه فيعود أكل من قائمه. فقلت الذي يجرب هذا فيه لمغرور. قالت أويتهم أحد بقتل نفسه؟ قلت لا. قالت فليجرب في فاحضرت سيفا فلما ضربها السياف بان رأسها. فاستيقظت من غفلتي وعلمت أنها تداهت علي وكرهت العيش بعد الذي جرى لها، واستبان ذلك لابيها ايضا". بحذف يسير. وقال أيضا: "ذكروا ان لشيخ أمرأة شابة. فخرج بها الى قلعة حماد، فصحبه في طريقه شاب علقته المرأة. فتواطآ على دعوى الزوجية، فلما وصلوا الى القلعة رفع الشيخ القضية الى حماد، فاوقف الشاب والمرأة فانكرا ما يدعيه الشيخ من الزوجية ولم يجد حماد بينة غير كلب للشيخ فأمر بربط ذلك الكلب. ثم أمر المرأة بحله وربطه ثانيا، ففعلت ولم ينكرها الكلب، ثم أمر الشاب بمثل ذلك فنبحه الكلب فحكم حماد للشيخ بزوجته. وضرب عنق الشاب " اهـ. وثانيهم القائد، خلف اباه. وكان سديد الرأي عظيم القدر وسلم لاخوته أهم أعمال المملكة، فولى يوسف على المغرب وويغلان على حمزة. واستمر مع المعز على ما كان عليه والده. ثم خالف عليه سنة 32 فخطب للعباسيين، وزحف اليه المعز فحاصره بالقلعة نحو سنتين وحاصر ايضا اشير. ثم اصطلحا، قال ابن خلدون: "وراجع القائد طاعة العبيديين لما نقض عليهم المعز، ولقبوه شرف الدولة " اهـ. وقال لسان الدين: "وخلع القائد بني عبيد كما فعل ابن عمه، ودعا لبني العباس الى أن هلك في ذي القعدة". وثالثهم محسن، ولي بعد أبيه بعهده، وكان جبارا فظا، مكث في الملك ثمانية أشهر وثلاثة وعشرين يوما، وتوفي في ربيع الاول،

وكان أبوه اوصاه ان لا يخرج من القلعة لمدة ثلاث سنوات وان يحسن الى عمومته، فخالف وصيته وعزم على عزلهم. فخرج عليه عمه يوسف وأسس قلعة في جبل منيع سماها الطيارة فانتقم منه محسن بقتل اربعة من عمومته، فازداد يوسف نفورا. وكلف محسن عامله على بلد اكريون ابن عمه بلقين بن محمد ابن حماد بحرب عمه يوسف، وأصحبه من العرب خليفة بن مكن وعطية الشريف في جمع من قومهما، وأسر اليهما قتله، فقال خليفة لقومه: ان بلقين لم يزل محسنا الينا فكيف نقتله؟ فاتفقوا على اعلامه بنية محسن وهونوا عليه قتله. استعد بلقين لحرب ابن عمه وبلغ خبره محسنا وهو خارج القلعة فأحذ السير اليها. ولكن بلقين أدركه، فقتله، ودخل القلعة ليلا وملكها. ورابعهم بلقين بن محمد. تغلب على الملك بقتل ابن عمه، وكان شهما قرما حازما شجاعا جريئا على العظائم سفاكا للدماء، ابتدأ بسفك دم وزير محسن، وأستوزر خلف بن حيدرة، ونكب آل رمان أصحاب بسكرة سنة 50 لمخالفتهم عليه ومخالفتهم للاثبج. وكان كثير الغارة على المغرب حتى سئمته الرعية لايغاله بها في أرض العدو، وكان له أخ اسمه مقاتل فمات، واتهم به زوجه تانميرت ابنة عمه علناس. فقتلها. فتربص به أخوها الناصر، حتى أمكنته فيه الفرصة بتسالة وهو آيب من غزو فاس، فقتله. ونقل لسان الدين عن ابن بسام ما ملخصه: "كان بلقين أحد جبابرة الاسلام المفتاتين على الايام لا يملأ يده الا من لبدة اسد ولا يسرح لحظه الا في نهاب بلد، قد تجاوز في شذوذ أمنيته وقهره

لرعيته والاخافة لاقرانه والاستبداد على زمانه غاية من سلف من جبابرة الارض وسمع به من فراعنة الابرام والنقض". "حدث انه آب مرة من بعض غزواته ومال الى الراحة، فأمر باحضار آلات الانس وأدواته، وأمر قيمة جواريه باحضار زوجه ابنة عمه لم ير بعدها زعموا ولا قبلها ابدع ظرفا ولا افتل طرفا فحضر كل ما أمر به، وخطر بباله الغزو، قالت قيمته: وكأني انظر الى الكاس في يده والى ابنة عمه قائمة على رأسه، فاعتذر اليها وقام من حينه، فوضع الكاس مليء في طاق وطبع عليها، وأمر بالركوب من حينه الى غزو المغرب، فوطيء ارض فاس. ثم رجع، فجلس ذلك المجلس بعينه. واستدعى كاسه تلك وابنة عمه، وقضى وطره من لذة نفسه". "وكان قلما يركب الا دارعا مولعا بالادلاج مؤثرا للانفراد. وفي الليلة التي يقتل من صبيحتها اقسم لا يدلج الا حاسرا وليقين الناصر اذا نزل ولو كان أسدا خادرا، فما بدا الصبح حتى لقيه الناصر كالمسلم عليه، وما راجعه الكلام حتى جلله الحسام واراح منه البلاد والانام". " ثم قام مقامه واستظل اعلامه. وأمر برفع راسه امامه، فظن الناس بلقين قد قتل بعض اتباعه. فلما طلعت الشمس حشر الناصر أقاربه وزعماء الدولة فاطلعهم على جلية الخبر وانه انما قتله لقتله اخته لا طلبا للملك، ففكروا قليلا، ورأوا انه لم يجسر على قتله الا وله اشياع. وارتاب كل بمن يليه، وأنهب الناصر خزائن بلقين ذؤبان العرب وصقورة زناتة، فالستمال قلوبهم، وطوى المراحل الى القلعة فسبق الاخبار " اهـ. وخامسهم الناصر بن علناس. واصله علا الناس او علاء الناس.

فخفف لفظا ورسما. وكان الناصر جريئا على سفك الدماء شديد الغيرة على النساء جوادا عالي الهمة تغلب على الثوار. وحافظ على الممالك الغربية وتوسع في الجهات الشرقية، واختط بجاية ونسبها اليه، وعني بالعمارة. وقصده الشعراء. وطالت مدته. فثبت اركان الدولة لعقبة. وتوفي يوم الجمعة سابع جمادى الاولى بقصره ظاهر بجاية. وحمل الى بجاية ودفن بها. ثار عليه بنو رمان ببسكرة. فخرج اليهم وزيره خلف بن حيدرة. فغلبهم. وحملهم ومن مالأهم من أعيان بسكرة الى القلعة. فصلبوا بها وولي مكانهم عروس بن سندي. ثم خرج الناصر ليتفقد المغرب. فوثب علي بن ركان على تاقربوست دار المملكة فيمن معه من عجيسة. فرجع اليهم من المسيلة. فسقط في ايديهم وانتحر علي بن ركان. وكان الناصر يقع قي تميم بن المعز ويذمه في مجالسه ووقعت بينهما حروب ثم اصطلحا سنة 61 وزوج تميم ابنته بلارة من الناصر. وسيرها اليه من المهدية في عسكر. واصحبها من الحلي والجهاز ما لا يحد وحمل اليه الناصر ثلاثين الف دينار. فردها عليه. واخذ منها دينارا واحدا. وابتنى الناصر لها قصرا باسمها. وكانت وزارته لابي بكر بن ابي الفتوح وخلف بن حيدرة. ثم سعت صنهاجة للناصر بخلف. فقتله. واستوزر مكانه أحمد بن جعفر ابن افلح. ومن عماله اخوته كباب بمليانة ورومان بحمزة وخزر بنقاوس. وبلباز بقسنطينة وابنه عبد الله بالجزائر ومرسي الدجاج وابنه يوسف باشير ومما فيل فيه: قالت سعاد وقد زمت ركائبنا … مهلا عليك فانت الرائح الغادي فقلت تالله لا انفك ذا سفر … تجري بي الفلك او يحدو بي الحادي حتى أقبل ترب العز منتصرا … بالناصر بن علناس بن حماد

وسادسهم المنصور، أتته الكتب والرسل من يوسف بن تاشفين وتميم بن المعز وغيرهما بالتهنية والتعزية. واكمل عمل ابيه في تحضير الدولة والمحافظة على سلامتها. وانتقل الى بجاية سنة 83 وتوفي في ربيع الاخير. قال لسان الدين: "وكان قائما على أمره حميد الخلل ضابط الامور يكتب ويشعر. ويذهب في أموره مذهب ابي جعفر المنصور من رقع الثياب والتحفظ على القليل من الاشياء. وعليه قدم معز الدولة بن صمادح لما فر من المرية امام المرا بطين فاقطعه تدلس ونظرها " اهـ. وكان وزيره عبد الكريم بن سليمان. واستبد عليه عمه بلباز بقسنطينة فسرح اليه أبا يكنى بن محسن ابن القائد بن حماد، وعقد له على قسنطينة وبونة، فقبض على بلباز واشخصه الى القلعة، وأقام واليا بقسنطينة، وولي اخاه ويغلان على بونة. ثم خالف ابو يكنى على المنصور سنة 87 واوفد أخاه من بونة على تميم بن المعز بالمهدية واستدعاه لولاية بونة، فبحث معه تميم ابنه ابا الفتوح، فنزل بونة مع ويغلان، وكاتبوا المرابطين وجمعوا العرب على أمرهم. فسرح المنصور عساكره لحربهم، فحاصروا بونة سبعة أشهر تم اقتحموها عنوة، وقبضوا على ابي الفتوح بن تميم، وبعثوا به الى المنصور. فاعتقله بالقلعة. ثم نازلوا قسنطينة واضطربت احوال ابي يكنى. فخرج الى قلعة بجبل اوراس وترك بقسنطينة صليصل ابن الاحمر من رجالات الاثبج فنزل صليصل عنها للمنصور على مال بذله له. أقام أبو يكنى باوراس يردد الغارة على قسنطينة. فنازلته العساكر. وحاصرته بقلعته. ثم اقتحموها عليه وقتلوه.

وسابعهم باديس. ولي بعد أبيه. وكان عظيم السطوة شديد الباس سريع البطش. قتل عبد الكريم وزير ابيه لاولى ولايته. ونكب عامل بجاية. وعزل اخاه العزيز عن ولاية الجزائر. وغربه الى جيجل. وتوفي ثالت عشر ذي الحجة قبل ان يستكمل سنة. وثامنهم العزيز. بايعه بعد وفاة اخيه علي بن حمدون قائد الاسطول بعدما احضره من جيجل. وكان حسن الخلق معتدل الطريقة. صالح زناتة. وتزوج بنت ماخوخ. وملكت اساطيله جربة. ونازلت جيوشه تونس. فخضع له صاحبها احمد بن عبد العزيز الخرساني. وبنو خراسان قيل انهم صنهاجيون. وطالت مدته فنالت الدولة على عهده امنا ورقيا وعلما. واستوطن بجاية الى ان مات. واخذت القلعة في الانحطاط. وتاسعهم يحي بن المزيز. جهز الى الشرق عسكرا بقيادة مطرف ابن علي بن حمدون. قيل سنة 522 وقيل سنة 529. حاصر المهدية من غير طائل. وفتح تونس. وحمل صاحبها احمد بن عبد العزيز الى بجاية. فولى يحي على تونس عمه كرامة بن المنصور الى ان مات. فخلفه اخوه ابو الفتوح بن المنصور الى ان مات. فخلفه ابنه محمد. ولم تحمد سيرته. فعزل بعمه معد بن المنصور الى أن عاد أمرها لبني خراسان، فاخرج الى بجاية سنة 543. وفي هذه السنة خرج يحي الى القلعة لافتقادها ونقل ما بقي منها، وفيها استولى النرمان على المهدية. وأراد صاحبها اللحاق بعبد المؤمن فكتب الى يحي يستأدنه في زيارته والتوجه من عنده الى عبد المؤمن. فاجابه بالتوجه لما جرى عليه والحث على الوصول اليه والعدول عن قصد غيره. فتوجه الحسن الى بجاية ولاقاه القائد بن العزيز. فعدل به بأمر أخيه إلى الجزائر. فانزله وأولاده بها. وامر يحي بمراقبته حتى لا يلحق بعبد المؤمن او يراسله.

وكان وزير يحي ميمون بن حمدون. ومن عماله اخوته القائد بالجزائر والحارث ببونة والحسن بقسنطينة وجوشن بالقلعة. وفي سنة 547 استولى الموحدون على بجاية. ونقلوا يحي الى مراكش وتوفي بسلا سنة 558. قال لسان الدين: "وكان يحي بن العزيز فاضلا حليما فصيح اللسان والقلم مليح العبارة بديع الاشارة. وكان مولعا بالصيد مغرما به، كلفا بالمارين يحضر منهم عنده نحو العشرين بين رجل وامرأة من شيوخ وعجائز وحمقى. فكان يستلقي في بيته على الفرش الوثيرة الحشايا ويستدعي المضحكين وجوارح الصيد. فيختبر هذا البازي ويتفقد هذا الكلب ويستنهض هذا المضحك في النوع الذي سلكه فيلهيه ويضحكه. ويجلس ابدا بين يديه اخواته تقسوط وأم ملال وشبلة في زي العرائس من الحلي واللباس. فلا يزال كذاك الى أن ينام. ثم يغتدي الى الصيد هكذا انقضت أيامه. " وكان قد ولي ابنه المنصور عهده. فتوفي في حياته. وعظم وجده عليه. ولما اضطرب حاله بظهور الموحدين لحق بقسنطينة ثم نزل لهم عنها مستأمنا لنفسه وسكن بقصر ابن عشرة بسلا وكانت وفاته به سنة 544" اهـ. وما قدمناه من تاريخ وفاته عن ابن خلدون. وقال صاحب المعجب ان غزو عبد المؤمن لبجاية كان سنة 540 وان عبد المؤمن نقل معه الى مراكش يحي واعيان دولته. قال: " فحين وصلوا أمر لهم بالمنازل المتسعة والمراكب النبيلة والكسي الفاخرة والاموال الوافرة. وخص يحي من ذلك باجزله واسناه واحفله. ونال يحي هذا عنده رتبة عالية وجاها ضخما. واظهر عبد المؤمن عناية به لا مزيد عليها بلغني من طرق عدة ان يحي بن العزيز

6 - العرب ايام الحماديين

كان في مجلس عبد المؤمن يوما. فذكروا تعذر الصرف. فقال يحي اما أنا فعلي من هذا كلفة شديدة. وعبيدي في كل يوم يشكون الي ما يلقون من ذلك. ويذكرون ان أكثر حوائجهم تتعذر لقلة الصرف. فلما قام يحي اتبعه عبد المؤمن ثلاثة أكياس صروف كلها. وقال لرسوله قل له لا يتعذر عليك مطلوب ما دمت بحضرتنا ان شاء الله عز وجل " اهـ. ملوك الدولة الحمادية الملك .......... الولاية .......... هـ … م حماد بن بلقين بن زيري … 405 … 1014 ابنه القائد … 419 … 1028 محسن بن القائد … 446 … 1054 بلقين بن محمد بن حماد … 447 … 1055 الناصر بن علناس بن حماد .... 454 … 1662 المنصور بن الناصر … 481 … 1089 ابنه باديس … 498 … 1104 اخوه العزيز … 498 … 1105 ابنه يحيى … 515 … 1121 سقوهـ الدولة … 547 … 1152 6 - العرب ايام الحماديين كان الهلاليون يذهبون لبداوتهم في مذاهب الحرية الى أقصى مدى. فيرون الانتصاف من جانبهم ذلا واحترام القوانين الدولية استعبادا. فكثرت بينهم الفتن. وعجزت عن قيادهم الدول. وزادهم هذا الخلق قوة ما وجدوا عليه بني زيري الصنهاجيين من الافتراق فكان العرب يخشون اتحاد الزيريين. فيغرونهم بعضهم ببعض. وكان الزيريون كذلك يسعون لاذكاء نار العداوة بين قبائلهم.

قتلت عدي أحد بني رياح واصطلح القبيلتان. فرأى تميم بن المعز ان عداوتهم أولى بسياسته. فقال يخاطب رياحا: متى كانت دماؤكمو تطل .. أما فيكم بثار مستقل أغانم ثم سالم ان فشلتم … فما كانت أوائلكم تذل ونمتم عن طلاب الثار حتى … كأن العز فيكم مضمحل فعمد أخوة المقتول. فقتلوا أميرا من عدي. وهاجت الفتنة حتى انجلت عدي الى طرابلس. وكانت حروب ايضا بين الاثبج ورياح. فوفد رجال من الأثبج على الناصر بن علناس وعقدوا معه حلفا على رياح وزغبة. فخشيء تميم ابن المعز ان يتقوى عليه الناصر ويسلبه ملكه فامد عليه رياحا بالمال والسلاح والجنة. ثم ارسلت رياح وزغبة الى الاثبج ومن معهم من عدي يحذرونهم مساعدتهم للناصر وانه ان انتصر علينا مال عليكم بصنهاجة وزناتة. فأهلككم وانه لا مقام للعرب الا مع خلف ملوك صنهاجة وضعفهم. فالستصوب الاثبج رأي اخوانهم. وواعدوهم الغدر به متى نشبت الحرب على ان يكون لهم ثلث الغنيمة. فخرج الناصر سنة 457 لحرب رياح وزغبة في جموع الاثبج وعدي وصنهاجة وزناتة. وكانت زناتة قد اتفقت مع الاثبج على الخديعة. وكان للناصر أخ أسن منه اسمه القاسم. فنهاه عن الخروج. وقال له: أقم ببلادك وابعث إلى هؤلاء العرب وصانعهم ياتوك طائعين وفي نوالك طامعين. فابى الا الخروج. كان اللقاء بفحص سبيبة. ودارت رحا الحرب. فانخذل العرب وزناتة. وحقت الهزيمة. فاخذ القاسم من اخيه الناصر العمامة والراية وقال له انج بنفسك كي تحفظ الملك. وقاتل هو حتى قتل.

قال ابن الاثير: "ومات من جموع الناصر اربعة وعشرون الفا - وغنم العرب معسكره بسلاحه وماله ودوابه وكل ما اشتمل عليه- واقتسموا الغنيمة على ما شرطوا أولا، وبعثوا بالالوية والطبول وخيم الناصر بدوابها الى تميم. فردها عليهم مستقبحا أخذ سلب ابن عمه " اهـ. واتبعت رياح الناصر الى قسنطينة ثم القلعة. فاحاطوا بها. وساروا فيما حولها الى المسيلة وطبنة من أرض الحضنة ينهبون ويخربون. وظاهرتهم زناتة. فحالفت مغراوة وغمرت الاثبج. وحالف بو توجين بني عدي. وبعث اليهم الناصر ابنه المنصور. فظهر عليهم وتقبض على امراء بني عدي ساكن بن عبد الله وحميد بن حرعل ولاحق بن جهان ثم ظهر العرب على الحماديين فملكوا الضواحي. وحجروا العمال في المدن. واختط الناصر بجاية فرارا منهم. وتقدم في دخول الهلاليين الجزائر ما وصف به الادريسي حال الدولة والامة معهم. ولما ثار على المنصور ابو يكني عامله بقسنطينة وفر الى أوراس نزل بقسنطينة صليصل بن الاحمر من رؤساء الاثبج. فصالحه المنصور عليها بمال يبذله له. وقال صاحب المعجب: "صالح المنصور العرب على ان يجعل لهم نصف غلة البلاد من ثمرها وبرها وغير ذلك، فلم يزالوا يقبضون ذلك حتى ملك البلاد عبد المؤمن " اهـ. ولما خرج المنصور الى تلمسان لحرب المرابطين كان معه الاثبج وزغبة ورياح والمعقل. وفي أيام العزيز كبس العرب القلعة واهلها غارون، فاكتسحوا جميع ما كان بظواهرها، ودافعتهم الحامية، فغلبوهم واخرجوهم من

البلد، ثم ارتحل العرب وبلغ الخبر العزيز ببجاية، فارسل ابنه يحي وقائده علي بن حمدون في عسكر وتعبية، فوصلوا الى القلعة وسكنوا الاحوال، واستأمن العرب واستعتبوا فاعتبوا، وانكفأ يحي في عسكره الى بجاية، وعلى أثر ذلك بلغ ابن تومرت بجاية قافلا من المشرق سنة 512. وفي سنة 529 أو سنة 522 نزع بعض عرب افريقية الى يحي مغاضبين للحسن بن علي، فاغروه بالهدية، ووعدوه الاعانة، واعطوه ابناءهم رهائن على ذلك، فارسل معهم الفرسان والمشاة لنظر كبير قواده مطرف ابن علي بن حمدون ولم يأمره بالقتال تعففا عن الدماء، فلما نزلوا على المهدية واشتدت الحال، ووقعت الحرب فتح الحسن الباب وخرج في أول الناس، وحمل على المحاصرين له وهو ينادي انا الحسن، فاجلوا مقامه وانهزموا عنه. وكان الحماديون يختصون الاثبج دون سائر العرب بالرئاسة، واقطعوهم الكثير من أعمال الزاب والحضنة وضواحي القلعة، واستألفوا معهم زغبة، واستظهروا بهاتين القبيلتين على زناتة. ورئاسة زناتة يومئذ لامراء تلمسان من بني يعلي المغراويين. فكان الامير يحي من بني يعلى يستجيش مغراوة ويفرن وبني يلومي وبني عبد الواد وبني راشد وبني توجين وبني مرين وغيرهم من زناتة، ويوجه عليهم وزيره وقائد حروبه أبا سعدي اليفرني. وكان موطن زغبة اقرب الى مواطن زناتة، فدارت بين الفريقين حروب شديدة. هلك في بعضها ابو سعدي حوالي سنة 450. وكانت بين بطون الاثبج حروب. فقتل الحسن بن سرحان أمير دريد شبانة بن الاحيمر شيخ كرفة. ثم لحقت به اخته الجازية مغاضبة لزوجها ماضي بن مقرب سيد قرة. فتحالفت على دريد كرفة

7 - زناتة ايام الحماديين

وقرة. وظاهرتهم عياض. وكانت بين الفريقين موقف. قتل في بعضها ابناء شبانة الحسن بن سرحان. ثم ظهرت عليهم دريد. قال ابن خلدون: "واستمرت الفتنة بين هؤلاء الاثبج وافترق أمرهم. وجاءت دولة الموحدين وهم على ذلك الشتات والفتنة " اهـ. وبعد سقوط الدولة الحمادية ضعفت الاثبج. بما كان بينها من الفتن وذهاب الدولة التي كانوا يستدرون خيراتها. فازال عبد المؤمن ما كان لهم من امتيازات. ونقل منهم الى الاندلس. ثم نقل ابناؤه بعض بطونههم. الى المغرب الاقصى. فقل جمعهم بالجزائر. وتغلت رياح على كثير من مواطنهم. 7 - زناتة ايام الحماديين كانت رئاسة زناتة مفترقة في قبائلها وبطونها. والفتن متصلة بين المتجاورين منهم: بين مغراوة ويفرن وبين يلومي وبني ومانو وبين بني بادين وبني مرين. وهكذا غيرهم. وكانت مغراوة أعظم قبائلهم وامارة بني خزر منهم أعظم امارات سائر القبائل فلما أجلاهم بلقين بن زيري عن المغرب الاوسط اسسوا امارات بالمغرب الاقصى. وامدهم بنو أمية بالرجال والاموال ليكونوا حاجزا دون سيل الدولة العبيدية. وفي سنة 377 نزح سعيد بن خزون بن فلفول بن خزر الى صنهاجة. ورأس على زناتة الحضنة والزاب. وفيها ملك ابن عمه زيري بن عطية بن عبد الله بن خزر مدينة فاس. واخذ يجلب على صنهاجة. وثار عليها ايضا فلفول بن سعيد. وظهرت قوة زناتة ايام باديس. فهزموا جيوشه مرارا حتى رماهم سنة 395 بحماد وسوغ له ما يفتحه من اوطانهم.

وفي سنة 93 استرجعت الدولة الاموية عمالها من المغرب. واستقل به المعز بن زيري من عطية على شروط بينه وبين بني أمية. وقال ابن خلدون في أخبار تلمسان: "كان ذلك سنة 96 فاستعمل المعز على تلمسان ابنه يعلى. واستقرت ولايتها في عقبة الى ان انقرض أمرهم على يد لمتونة " اهـ. قال ابن ابي زرع: "وقيل ان المعز بن زيري ليس له ولد الا معنصر خاصة " اهـ. ونسب ابن خلدون في اخبار مغراوة يعلى الى محمد أخي عبد الله ابني خزر فقال هو يعلى بن محمد بن الخير بن محمد بن خزر. وكانت امارة بني يعلى بتلمسان تشتمل على وهران وتلك النواحي. ومدوا ايديهم الى أخوانهم اصحاب فاس. واستعانوا على محاربة من ناوأهم من صنهاجة وغيرهم ببقية زناتة. وظهر امر بني ومانو وكان شيخهم ماخوخ. وله خيمة شهيرة قال ابو راس: "وآثارها اليوم ببلاد اولاد علي " اهـ. ونازعهم بنو يلومي. فكانت بينهم حروب وكان من شيوخهم أمير الناس ثم ابنه سيد الناس. أدركه الموحدون. ونقلوه في وجوه قومه الى مراكش. وبها توفي ايام عبد المؤمن. وكان بنو ومانو وبنو يلومي قد غلبوا وجديجن على مواطنها كل من جهته. ثم غلبهم جميعا ايام الموحدين او عبد الواد وبنو توجين. وكان شيخ اوغمرت ابن ابي حلي وشيخ توجين دافلتن بن ابي بكر المنكوشي. وينازعه ابن عمه لقمان بن المعتز حتى ظهر عليه. ثم انفرد بالرئاسة بنو دافلتن. ولم يكن يومئذ لمصاب كبير شان لافتراق جماعاتهم وتنازعهم على الرئاسة. وكان بنو يعلى وبنو ومانو وبنو يلومي يستظهرون ببطون بني

واسبن. ويقرضونهم المال والسلاح والحبوب. فراشوا. واخذوا في الظهور. وكان الحماديون كثيرا ما يجلبون على زناتة ويستعينون بهم بعضهم على بعض. وقتل حماد قبل اسقلاله دافلتن بن ابي بكر في بعض حروبه ولما أعلن اسقلاله نزع عنه ابن ابي حلي الى باديس. فوصله وحمل اصحابه. وعقد له على طبنة وعملها. واوفد لقمان بن المعتز ابنه بدرا على باديس وهو في طريقه اثر حماد، وتحيز اليه ايضا عطية بن دافلتن، وكانت لتوجين في حرب حماد آثار، ومقاتلتهم يومئذ زهاء ثلاثة آلاف. فلما انهزم حماد سوغهم باديس ما غنموه. وعقد للقمان على قومه وما يفتحه من البلاد بدعوته. وفي سنة 430 جمع صاحب فاس حمامة بن المعز بن عطية زناتة لحرب القائد فاشترى القائد ذممهم بالمال. ولم يسع حمامة الا الخضوع. وكان بلقين كثيرا ما يجدد الغارة على المغرب، ويجمع زناتة لذلك، ثم خرج في صفر سنة 54 فاجلي عنه يوسف بن تاشفين، وعاد فقتله الناصر بتسالة في شعبان. والستمال الناصر بني ومانو، وتزوج منهم، فكانوا أولياءه دون بني يلومي، وجرت عليه زناتة الهزيمة في وقعة سبيبة وقائدها يومئذ صاحب فاس، وزحف المنتصر بن خزرون بن سعيد بن خزرون من طرابلس في جمع من بني عدي، فنازل المسيلة واشير. وطمع في استرجاع ما كان لجده بالحضنة، فاجلاه الناصر الى الصحراء، ورجع الى القلعة، فعاد المنتصر عائثا في تلك الجهات، فصالحه الناصر. واقطعه ضواحي الزاب وريغة مزمعا الغدر به، وكلف بتدبير اغتياله عروس بن سندي، فاستدعاه الى بسكرة، واشار على حشمه بقتل المنتصر وذويه عند انكبابهم على الطعام، ففعلوا، وبعث برأسه الى

الناصر، فنصبه ببجاية وصلب شلوه بالقلعة وكان ذلك حوالي سنة 460. وتتبع الناصر أمراء زناتة بالقتل. وكانت غمرت ومغراوة قد ظاهرت الاثبج وبنو توجين ظاهروا عديا، فجهز ابنه المنصور اليهم، فشتت جموعهم، وبلغت سراياه ورقلة، فدخلها وولي عليها، وأسر من توجين أميرهم مناد بن عبد الله واخاه زيري وعميهما الأغلب وحمامة، فلما حضروا بين يدي الناصر وبخهم ثم قتلهم. وكان من بني سنجاسن رئيسان احدهما ابو الفتوح بن حبوش (وفي بعض نسخ ابن خلدون حبوس) بلمدية ثار على الناصر فقتله. والآخر معنصر بن حماد بناحية شلف، اجلب على عامل مليانة، وقتل شيوخ بني ورسيفان، وكان الناصر مشتغلا بأمر العرب، فكاتب في شانة بني ورسيفان، فزحفوا الى معنصر وقتلوه، وحعثوا الى الناصر برأسه- فنصبه مع رأس المنتصر. ثم غلب العرب على الحضنة، والجأوا غمرة الى الجبال. فعجزت عن الظعن بعد. وتغلبوا ايضا على الزاب. واخروا بني واسين الى الغرب. فلاذوا باخوانهم بني يلومي وبني ومانو وانتدب لدفاع العرب بنو يعلي. فجهز بختي منهم وزيره وصاب حروبه ابا سعدي خليفة اليفرني. فكانت بينهما مواقف صعبة. هلك في بعضها بالزاب حوالي سنة 450. ولم يزل بنو يعلى بتلسمان. وايامهم مع الحماديين تختلف سلما وحربا. وتوفي بختي فخلفه ابنه العباس. وظهر ايامه المرابطون. وتغلبوا على فاس. فنزع اليه كثير من أهلها من مغراوة. ثم اجلب عليهم المرابطون. فحاربهم. ودخلوا عليه تلمسان سنة 473 فقتلوه. وبذلك انتهت امارة بني يعلى بتلمسان بعدما عاشت نحوا من مائة سنة.

وكان الناصر يردد غزو المغرب. فوقف المرابطون بمكانهم من تلمسان الى أن هلك. وكانت أخت ماخوخ تحت المنصور. وكان لقومه بذلك مزيد ولاية في الدولة. لكنه والى المرابطين على صنهاجة لما كان المنصور مشتغلا بفتنة ابي يكنى. فدخل المرابطون ارض صنهاجة. وبعد قضاء المنصور على تلك الفتنة زحف اليهم واخرب ثغورهم وحصون ماخوخ. وضيق عليهم. فصالحه يوسف بن تاشفين. وقبض عنه ايدي المرابطين. ثم عاد المرابطون الى الاجلاب على صنهاجة فخرج اليهم الامير عبد الله بن المنصور. فرجعوا ادراجهم وشن هو الغارة على بني يلومي وبني ومانو وفتح الجعبات وسيرات. وعفا عن أهلهما ورجع الى ابيه ظافرا. والجعبات على ضفة وادي مينة اليسرى. واعتد المنصور على ماخوخ ولاءه للمرابطين. فخرج اليه بنفسه في صنهاجة ومن والاهم. وجمع له ماخوخ زناتة. فهزمه الى بجاية. ولم يفعل المنصور اكبر من تعديه على زوجه أخت ماخوخ. فقتلها! ان من اعجب العجائب عندي … قتل بيضاء حرة عطبول استحكمت النفرة بين المنصور وماخوخ بعدها. فجمع ماخوخ بني يلومي وبني ومانو على دعوة المرابطين. واوفد احد بنيه على محمد بن تينعمر أمير تلمسان يحرضه على بلاد صنهاجة. فخرج في جموع المرابطين وزناتة حتى نازل الجزائر وحاصرها يومين. مات عقبهما فخلفه أخوه تاشفين. وما زال يجلب على صنهاجة حتى فتح أشير. هنالك جمع المنصور عامة صنهاجة ومن والاهم من العرب. وخرج الى تلمسان في شوال سنة 496 كما في الاعلام، وبلغت مقاتلته نحو عشرين الفا. فافرج له تاشفين عن تلمسان، وخرج الى تسالة، فهزمته عساكر المنصور الى الصخرة وعاثت في تلمسان فنهضت امرأة

8 - الحماديون والمسيحيون

تاشفين الى المنصور، وانكبت على رجليه تستعطفه وتذكره صلة الرحم الصنهاجية لرفع محنة الجند عن البلد، فاكرم المنصور مقدمها وكف جنوده عن الفساد، وخرج من الغد قافلا بهم الى حضرته، وانعقدت السلم بينه وبين المرابطين. وعزل يوسف بن تاشفين امره بتلمسان تاشفين بن تينعمر ترضية للمنصور. نزل المنصور بعد قفوله بالقلعة واثخن في زناتة بنواحي الزاب والمغرب الاوسط، ثم عاد الى بجاية، فمات بعد اشهر، ولما ولي العزيز صالح زناتة، وتزوج ابنة ماخوخ. لما كف الحماديون عن بني ومانو وبني يلومي تذكروا ضغائنهم، وعادوا الى العداء. فكانت بينهم حروب. هلك في بعضها ماخوخ. فخلفه بنوه تاشفين وعلي وابو بكر. وكان بنو عبد الواد وتوجين وبنو راشد وبنو ورسيفان مددا لبني يلومي. وربما مادهم ايضا بنو مرين. ولم يزالوا في فتنتهم حتى جاء الموحدون. 8 - الحماديون والمسيحيون عرف المغرب في هذا العصر البربري من أمم أروبا المسيحية أمة النرمان واصل هذه اللفظة نرثمن. ومعناهما رجال الشمال. وهم من النرويج والدانمارك. انتشروا في شرق أروبا. وانتقلوا أيام شرلمان الى الغرب وسكنوا حوالي الاودية الفرنسية. واستقروا سنة 299 (911 م) بنرمنديا احدى كور فرنسا. وكانت القرصنة بالبحر أهم أعمالهم. وهجموا على الاندلس من ناحية اشبونة سنة 229 وتكرر اجلابهم على الثغور وبلغوا سنة 245 بلد نكور من سواحل المغرب. ولم مجن للنرمان قبل بالاساطيل العربية حتى جاء الهلاليون

وضعفت دولة صنهاجة بانقسامها. واستيلاء العرب على اراضيها واستنزاف ماليتها باللعطاءات تسكينا لثوراتهم واستبداد كثير من الولاة على المدن. وحدث بين الصقليين شقاق فاستعان بعضهم بالنرمان. فخفوا لنصرتهم. ولكن لما نزلوا المدن رفعوا عليها أعلامهم وذهبت صقلية شهيدة الخلاف والخديعة. فاستولى النرمان عليها سنة 485 واصبحت مركزا عظيما للنصارى في الحروب الصليبية. وكان الحماديون أقوياء. فلم يقدر النرمان على التوسع الا في المملكة الشرقية الضعيفة ولم يطب آل باديس نفسا بتسليم المملكة للحماديين. فاخذوا يفاوضون المرابطين ويدعونهم لحماية ثغورهم. ولا طريق لهم الا بالمملكة الحمادية. فشمر الحماديون عن ساعد الجد لقطع كل حركة تمس باستقلالهم حتى عقد معهم المرابطون معاهدة سلمية ودية. كان الحماديون يرون في توهين الرومان لبني عمهم اعانة لهم على امتلاك مملكتهم يوما ما. ورأى النرمان ان لا يهيجوا الحماديين بسوء. فظلت العلاقات بينهم حسنة. ولكن النرمان لما رأوهم ملكوا جربة وطمعوا في المهدية قلبوا لهم ظهر المجن. ففي سنة 537 طرق النرمان جيجل فاحتلوها عنوة. وانتهبوا الاموال وأحرقوا المنازل وخربوا قصر النزهة الذي بناه يحي بن العزيز وسفكوا الدماء وسبوا الحريم. ولم ينج من أهلها الا من تعلق بالجبل. ثم أقلعوا عنها. وتركوها خاوية على عروشها. وفي سنة 539 فتحوا برشك وقتلوا أهلها وسبوا حريمهم وباعوه بصقلية على المسلمين. ولما ملك عبد المؤمن بجاية وخضع له يحي لحق أخوه الحارث صاحب بونة بصاحب صقلية. فاعانه على البقاء بها حتى اخذها منه عبد المؤمن. هذه علاقات الحماديين والمسيحيين السياسية وكانت بالمدن

الحمادية طوائف مسيحية اما من بقايا الرومان او من البربر الذين فقدوا جنسيتهم ونسوا اصلهم او من سبي أروبا فكان الحماديون يحسنون معاملتهم ويحفظون حقوقهم على أقليتهم احسانا وحفظا لم يوجد ما يقرب منهما في عصر يزعم القابضون على مناحي حياته انهم أرقى دولة عرفها التاريخ وان عصرهم أزهر العصور، زعما لا مؤيد له غير القوة المادية. وهاك ملخص ما اطال به ذوماس لتري في وصف حياة المسيحيين تحت الحماديين. قال: " كان لبابوات رومة علائق مع الحماديين وخصوصا اشهرهم الناصر بن علناس ويلقبونهم ملوك موريطانيا السطيفية". " ولما أسسوا القلعة تقبلوا بها المسيحيين بصدور رحبة. وأحسنوا اليهم مدة دولتهم. وضمنوا لهم حرية دينهم تحت قسيس منهم من رتبة (افيك (". " وفي سنة 508 (1114 م) أسسوا بالقلعة كنيسة مريم العذراء. وقسيسهم يومئذ عزون. وتسميه العامة الخليفة. وابتنى لنفسه دارا حذاء الكنيسة". "وانتخب أصل بونة اسقفا عليهم يدعى سرفاند. فسماه لهم ارشفيك قرطاجنة وصادق عليه الناصر، ولما سافر سرفاند الى رومة حمله الناصر هدايا جليلة ورسالة ودية إلى البابا قرقوار السابع. واشترى جميع الاسرى الذين عثر عليهم بممالكه وأرسلهم الى البابا واعدا اياه بعتق كل أسير مسيحي يعثر عليه من بعد". "سرت الكنيسة الرومانية كثيرا بفعل الناصر. فلما عاد سرفاند الى بونة ارسل معه كبار رجال الكنيسة رسائل شكر وثناء للناصر.

9 - العمران والحضارة

وارسل له البابا ايضا رسالة خاصة تعد أكبر رسالة وأعظمها ارسلت من بابوات رومة الى ملوك المغرب وذلك سنة 469 (1076 م (. "ولم يحفظ التاريخ جواب الناصر عن هذه الرسالة ولا ما نشأ عنها. والرسالة تنص على ان البريك وكنشبوش من خدام قصر البابا الذين نشأوا به يرغبان رغبة شديدة في شرف خدمة الناصر برومة. وانهما ارسلا له بعض رجالهما لتأكيد ودادهما، وتنص الرسالة أيضا على أن البابا مستعد لمعاملة كل من تعلق بالناصر معاملة ودية صادقة" اهـ. وقد أثبت ذوماس الرسالة بنصها اللطيني وترجمتها الفرنسية. ومنعنا من تعريبها طولها وما قصدنا اليه من الايجاز. 9 - العمران والحضارة كانت المملكة الحمادية تشتمل على ارض طيبة وجبال جالبة للامطار واودية حافظة لها، وعني الحماديون بحفظ الامن واستخراج خيرات المملكة، فلم ينوا في اطفاء الثورات الداخلية وصد الهجومات الخارجية وتنظيم البريد وتأمين السبل. نشطت الفلاحة فأحيي موات الارضين وازينت البوادي وضواحي المدن والقرى بالمزارع على اختلاف انواعها ونصبت الارحاء على ارجاء الاودية والجداول وغرست البساتين الجامعة لانواع الاشجار والازهار. ونفقت الاسواق بمختلف البضائع. فكانت الطرق البرية غاصة بالقوافل، والبحار والاودية الكبار تشقها اسراب السفن التجارية غادية رائحة. وتعددت الصنائع وترقت الحرف من خشابة ونجارة وخراطة

وحدادة وحياكة صوف وقطن وكتان وحرير، واستخرجت المعادن من مختلف الجهات. وزاد الحركة العمرانية نموا فرار الناس من افريقية الى الحماديين امام الهجوم الهلالي ومن صقلية امام استيلاء النرمان ومن الاندلس امام استيلاء المرابطين. ووطد اركان هذه الحركة بسط المرابطين لنفوذهم الفعلي على عواصم القوة الزناتية غربا التي كانت أكبر شاغل للحماديين. وساعد هذا العمران على انشاء حضارة من ارقى الحضارات من نقش وتزويق وغناء وبناء، وقد عثر على أوان من الخزف المطلي فيها كتابات عربية بارزة، وقارورات وبعض أدوات من الزجاج. وكلها تدل على صناعة خزفية وزجاجية راقية. وذكر ياقوت القلعة. فقال: "يتخذ بها اللبابيد الجيدة والاكسية القلعية الصفيقة النسج المطرزة بالذهب. ولصوفها من النعومة والبصيص بحيث ينزل مع الذهب بمنزلة الابريسم " اهـ. قال جورج مارصي: "وحوالي سنة 457 (1065 م) صارت القلعمة مدينة تجارية عظيمة وارفة الخيرات، وقصدها ارباب الصنائع من المشرق وافريقية، ويظهر ان صناعة الفخار يومئذ بلغت بها مبلغا عظيما ويظهر عليها تأثير الفرس ومصر فنا وعملا، وجد بها من ذلك آثار كثيرة، ثم ترقت الصناعة وتطورت حسب تطور الدولة في العظمة" اهـ. وكانت موسيقى الجزائر الحمادية متأثرة بالموسيقى الافريقية والاندلسية. ينشطها الملوك والامراء. فيتخذون بمجالستهم المغنين والمغنيات. وعاش الى جنبها أغاني العرب في باديتهم والبربر في جبالهم. فكان للحاضرين اغانيهم الفنية القابلة للتهذيب والرقي، وللبادين أغانيهم الموروثة عن اسلافهم المتعاصية عن التطور.

وقد أنشأ الحماديون القصور في مختلف المدن والمساجد والجوامع والمنائر والمنابر والاسواق والاسبوار والقناطر، واصلحوا ما تداعى من انشاء من قبلهم وأسسوا المدينتين العظيمتين القلعة وبجاية، وبنوا حولهما القصور الشاهقة والمباني الجميلة. همم الملوك اذا أرادوا ذكرها … من بعدهم فبألسن البنيان بنى الناصر حول القلعة قصورا شامخة مسماة بعدة اسماء، قال ابن خلدون: "وبني ببجاية قصر اللؤلؤة، وكان من أعجب قصور الدنيا" اهـ. قال ابو راس: "وكان بناؤه حوالي سنة 470" اهـ. والمنصور قال ابن خلدون: "هو الذي حضر ملك بني حماد وصير بجاية فدار المملكة، وجدد قصورها وشيد جامعها وتانق في اختطاط المباني وتشييد المصانع واتخاذ القصور واجراء المياه في الرياض والبساتين، فبنى في القلعة قصر المنار والملك والكوكب وقصر السلام ط وفي بجاية قصر اللؤلوة وقصر اميميون" اهـ. قال صاحب الاستبصار: "وفي بجاية موضع يسمى اللؤلؤة، وهو أنف جبل داخل في البحر متصل بالمدينة، فيه قصور من بناء ملوك صنهاجة لم ير الراءون أحسن منها بناء ولا أنزه موضعا. فيها طاقات مشرفة على البحر عليها شبابيك الحديد، ومجالسها مبنية حيطانها بالرخام الابيض من أعلاها الى أسفلها، قد نقشت أحسن نقش، وانزلت بالذهب، وصورت فيها الصور الحسنة، فجاءت من أحسن القصور " اهـ. قال مارصي: "ان الحضارة الحمادية تظهر تحت تأثير المشرق. وآثارها لا نظير لها ببقية وطن البربر، وهي شاهد قوي على رقي الحضارة الاسلامية المغروسة بالجزائر.

وكان النرمان مغرمين بالحضارة الحمادية، فوضعوا قصور بلرم على شكل قصور بجاية، وكان قصرا زيزة وكوبة ببلرم شديدي الشبه بقصور اللؤلوة والكوكب وأميميون". وكان محمد بن حماد ببجاية ولوعا بندب آثار اسلافه الحماديين بالقلعة وما حولها من الامكنة، فمن ذلك قوله: أين العروسان لا رسم ولا طلل … فانظر ترى ليس الا السهل والجبل وقصر بلارة أودى الزمان به … فاين ما شاد منه السادة الاول قصر الخلافة ابن القصر من خرب … غير اللجين وفي ارحابها زحل وليس يبهجني شيء أسر به … من بعد أن نهجت بالمنهج السبل وما ورا الكوكب العلوي معتصم … وقد عرا لكوكب التغيير والندل وقد عفا قصر حماد فليس له … رسم ولا أثر باق ولا طلل ومجلس القوم قد هب الزمان به … بحادث قل فيه الحادث الجلل وان في القصر قصر الملك معتبرا … لمن تغربه الايام والدول وما رسوم المنار الآن ماثلة … لكنها نبذ يجري بها المثل حتى المصلى محت آياتها وعفت … الا جدارا وما طلت به الطلل كرجعك الطرف كانت كل آبرة … فما تراه كذاك العمر والاجل وله من أخرى الا ليت شعري هل ابيتن ليلة … بوادي الجوى ما بين تلك الجداول وهل اسمعن تلك الطيور عشية … تجاوب في تلك الغصون البلابل وهل أردن عين السلام على الصدى … فابرد من حر الضلوع النواهل وانظر طيقان المنار مطلة … على الواجنات الزاهرات الخمائل كأن اقباب المشرقات بأفقه … نجوم تبدت في سعود المنازل فان ثنت الايام عنها اعنتي … وانزلنني في غير تلك المنازل فصبر جميل غير ان صبابتي … ستبقى بقاء الطالعات الاوافل

وله من أخرى على عين السلام سلام صب … غذاة ماؤها العذب النمير تأود أيكها وجرت صباها … وشم لها كما فتق العبير وابرد ما يكون الجو فيها … واندى حين يحتدم الهجير وما ادري ايجري فوق در … أم ابتسمت بمنبعها الثغور وقد قام المنار على ذراها … كما قام العروس او الامير بناء يزدرى ايران كسرى … لديه والخورنق والسدير وقد ذكر المقري في نفح الطيب قصيدة لعبد الجبار بن حمديس الشاعر الصقلي يصف بها دارا بناها الملك المنصور ببجاية، ولدقة وصفها وحسن تصويرها للحضارة الحمادية نوردها على طولها، قال: أعمر بقصر الملك ناديك الذي … اضحى بجدك بيته معمورا قصر لو أنك قدكحلت بنوره … أعمى لعاد الى المقام بصيرا واشتق من معنى الجنان نسيمه … فيكاد يحدث بالعظام نشورا نسي الصبيح مع الفصيح بذكره … وسما ففاق خورنقا وسديرا لو ان بالايوان قوبل حسنه … ما كان شيئا عنده مذكورا اعيت مصانعه على الفرس الالى … رفعوا البناء واحكوا التدبيرا ومضت على الروم الدهور وما بنوا … لملوكهم بها له ونظيرا أذكرتنا الفردوس حين اريتنا … غرفا رفعت بناءها وقصورا فالمحسنون تزيدوا اعمالهم … ورجوا بذلك جنة وحريرا والمذنبون هدوا الصراط وكفرت … حسناتهم لذنوبهم تكفيرا فلك من الافلاك الا انه … حقر البدور فاطلع المنصورا ابصرته فرأيت ابدع منظر … ثم انثنيت بناظري محسورا فظننت اني حالم في جنة … لما رأيت الملك فيهاكبيرا واذا الولائد فتحت ابوابه … جعلت ترحب بالعفاة صريرا

غضت على حلقاتهن ضراغم … فغرت بها أفواهها تكبيرا فكانها لبدت لتهصر عندها … من لم يكن بدخولها مأمورا تجري الخواطر مطلقات اعنة … فيه فتكبو عن مداه قصورا بمرخم الساحات تحسب انه … فرش المها وترشح الكافورا ومحصب بالدر تحسب تربه … مسكا تضوع نشره وعبيرا تستخلف الابصار منه اذا اتى … صبحا على غسق الظلام منيرا قال المقري: ثم ذكر بركة فيه عليها اشجار من ذهب وفضة ترمي فروعها المياه وتفنن فذكر اسودا على حافاتها قاذفة بالمياه ايضا. فقال: وضراغم سكنت عرين رئاسة … تركت خرير الماء فيه زئيرا فكأنما غشي النضار جسومها … واذاب في أفواهها البلورا أسد كان سكونها متحرك … في النفس لو وجدت هناك مثيرا وتذكرت فتكاتها فكانما … أقعت على ادبارها لتثورا وتخالها- والشمس تجلو لونها- … نارا والسنها اللواحس نورا فكأنما سلت سيوف جداول … ذابت بلا نار فعدن غديرا وكأنما نسج النسيم لمائه … درعا فقدر سردها تقديرا وبديعة الثمرات تعبر نحوها … عيناي بحر عجائب مسجورا شجرية ذهبية نزعت الى … سحر يؤثر في النهى تأثيرا قد صوفحت اغصانها فكأنما … قبضت بهن من الفضاء طيورا وكأنما تأبى لوقع طيرها … ان تستقل بنهضها وتطيرا من كل واقعة ترى منقارها … ماء كسلسال اللجبن نميرا خرس تعد من الفصاح فان شدت … جعلت تغرد بالمياه صفيرا وكأنما في كل غصن فضة … لانت. فأرسل خيطها مجرورا وتريك في الصهريج، موقع قطرها … فوق الزبرجد لؤلؤا منثورا ضحكت محاسنه اليك كأنما … جعلت لها زهر النجوم ثغورا

10 - العلوم والاداب

ومصحف الابواب تبرا نظروا … بالنفس فوق شكوله تنظيرا تبدو مسامير النضار كما علت … تلك النهود من الجنان صدورا خلعت عليه، غلائلا موشية … شمس ترد الطرف عنه حسيرا واذا نظرت الى غرائب سقفه … ابصرت روضا في السماء نضيرا وعجبت من خطاف عسجده التي … حامت لتبني في ذراه وكورا وضعت به صناعها اقلامها … فأرتك كل طريدة تصويرا وكأنما للشمس فيه لقية … مشقوا بها التزويق والتشجيرا وكأنما الازورد فيه مخزم … بالخط في ورق السماء سطورا وكأنما. وشوا عليه ملاءة … تركوا مكان وشاحها مقصورا قال المقري: ثم مدح المنصور بعد ذلك. وختم القصيدة بقوله: يا مالك الارض الذي أضحى له … ملك السماء على العداة نصيرا كم من قصور للملوك تقدمت … واستوجبت بقصورك التأخيرا فعمرتها وملكت كل رياسة … منها ودمرت العدا تدميرا قال المقري: "ولم أر لهذه القصيدة في لفظها ومعناها من نظير غير أن فيها عندي عيبا واحدا هو ختمها بلفظ التدمير" اهـ. واخترنا هذا البيت لختام هذا الفصل من أجل لفظ التدمير الذي تحقق في العمران والحضارة الحماديين كما هو الشأن في آثار كل الدول سنة الله قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا. 10 - العلوم والاداب كان عصر الحمادييبن عصر انشاء وترقية في- جميع مناحي الحياة المدنية. فضربوا في العلم والادب بسهم، ونشطوا أهلهما بالجوائز والصلات فارتحل اليهم امثال ابن حمديس الصقلي من الادباء، وابي

الفضل بن النحوي التوزري من العلماء وكان يشبه بابي حامد الغزالي. فغصة عواصمهم بطلاب المعارف وناشريها وكان العلماء يتناظرون في مجالس بني حماد ويؤلفون لهم الكتب. وذكر ابن الابار في التكملة ان حماد بن ابراهم المخزومي الف كتابا في التاريخ للعزيز. ظهر بالجزائر الحمادية العلماء والشعراء والكتاب والمؤرخون والاطباء والرياضيون وغيرهم، ظهورا لا عهد للجزائر به من قبل. وكانت لعلوم الدين المنزلة الاولى ويليها علوم العربية. وينسب الى القلعة وبجاية فما دونهما من ممالك الحماديين علماء كثيرون تجد نبذا من أخبارهم متفرقة في الدواوين. ولكي تتصور اجمالا مبلغ الحركة العلمية بهذا العصر ننقل كلمة لياقوت ذكرها لما ذكر ريغة وانها قرب القلعة. قال: " قال ابو طاهر بن سكينة سمعت ابا محمد عبد الله بن محمد ابن يوسف الزناتي الضرير بالثغر يقول حضرت هرون بن النصر الريغي بالريغ في قراءة البخاري والموطأ وغيرهما عليه وهو يتكلم على معاني الحديث. وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ورأيته يقرأ كتاب التلقين لعبد الوهاب البغدادي في مذهب مالك من حفظه كما يقرأ الانسان فاتحة الكتاب. ويحضر عنده دوين مائة طالب لقراءة المدونة وغيرها من كتب المذهب عليه، اهـ. ولتقدم العلوم العربية في هذا الدور ظهر من اليهرد الذين دأبهم مسايرة الوسط نبغاء طار صيتهم في الآفاق وكانوا من بلغاء الكتاب العربيين. وكانت العربية هي اللسان الرسمي للدولة. وجاء الهلاليون بلغتهم القريبة يومئذ جدا من الفصحى فنشروها بين سائر الطبقات وسهلوا على الخاصة تعلم العربية وعلى العامة تعلم دينها. ولم يبق

11 - سقوط الدولة الحمادية

كبير حاجة الى التدريس او التأليف باللسان البربري في الجزائر كما كان الامر في أيام الرستميين. تقهقرت البربرية من الميدان العلمي والادبي. وزاحمتها العربية في المجالس العامة فاستعرب كثير من البربر. ولم يبق للبربرية موطن الا جبال أوراس وتيطري وجرجرة ونحوها حيث لم يختلط البربر بالعرب. والذي دعا البربر الى هذا الاستعراب والدولة دولتهم والحكومة حكومتهم ما يعتقدونه من شرف العربية وغناها وكونها لغة الدين. فصاروا يتشرفون باجادة النطق بها. وهكذا تأثير الاديان في رفع الفوارق الجنسية. 11 - سقوط الدولة الحمادية في سنة 539 كانت الحرب على تلمسان بين تاشفين أمير المرابطين وعبد المؤمن بن علي أمير الموحدين. واستنجد تاشفين يحي بن العزيز. فامده بجيش يقوده ميمون بن حمدون، ففتك بهذا الجيش عبد المؤمن، وانهزم ميمون الى متيجة. فبعث منها الى عبد المؤمن بالطاعة ووعده الاعانة على فتح المشرق وان يكون قائده. واستمرت الكاتبة بينهما بعد. تم للموحدين الاستيلاء على ممالك المرابطين فجاوروا يحي بن العزيز وهم في دورهم الاول ودور النمو وشباب القوة الحربية، في حين ان الحماديين انغمسوا في حياة الترف، فكان يحي مشتغلا باللهو تاركا أمور المملكة بيد وزيره ميمون ابن حمدون. ولما كان هذا الوزير غادرا بدولته مواليا لعبد المؤمن أغفل

الممالك الغربية المجاورة للموحدين. وصرف عساكره الى الناحية الشرقية حيث ممالك بني باديس الذين اشتد ضعفهم. فانتصر هنالك عدة انتصارات زادت يحي بن العزيز غرورا بصدق خدمته، وانما صدق ابن حمدون في خدمة عبد المؤمن، فضرب دولتي صنهاجة احداهما بالاخرى توطئة لاستيلاء عبد المؤمن عليهما. وفي سنة 46 عزم عبد المؤمن على فتح بجاية. فخرج من مراكش إلى سبتة موهما انه يريد الاندلس. واوقف حركات القوافل. وجعل امناء على الطرق لئلا يسلكها احد. وغرضه كف الاخبار عن يحي ابن العزيز حتى لا يستعد له، ثم اظهر العود الى مراكش. وسلك طرقا غير معتادة. ومنع من السؤال عن وجهته. فنادى مناديه: "ايها الناس من تكلم منكم بما معناه الى اين هذا السفر فجزاؤه السيف! ". وأخذ عبد المؤمن السير. فمكث بتلمسان يوما واحدا. وخرج. فملك لمدية. وبلغ الجزائر على حين غفلة. فاحتلها من غير مقاومة. وفر عاملها القائد بن العزيز الى اخيه يحي فاخبره خبر عبد المؤمن. ولم يكن له به علم. وكان بالجزائر الحسن بن علي آخر ملوك آل باديس. فسر بعبد المؤمن. فترك الجزائر تحت نظره. وسار من الغد بالجيوش الى بجاية. جهز يحي الجيوش لنظر أخيه سبع وخائن دولته ميمون بن حمدون فلما التقوا بمقدمة الموحمدين انهزموا من غير قتال. واستأمن بنو حمدون للموحدين وفتح لهم باب بجاية ابو عبد الله بن ميمون. فدخلوها في ذي القعدة سنة 47. تفرقت جيوش يحي برا وبحرا. وركب هو البحر يريد صقلية كي يتوجه منها الى بغداد حيث خلفاؤه العباسيون. ونزل ببونة على

ـ[صورة]ـ منارة سيدي أبو الحسن

أخيه الحارث فنكر عليه تسليمه العاصمة واساء مقابلته. فعدل الى قسنطينة. فنزل له عنها أخره الحسن واحسن مقابلته. ولحق عبد المؤمن ببجاية بعد يومين من فتحها فاجتمعت خلائق من صنهاجة لحربه. وقدموا عليهم ابا قصبة من بني زلدوي، وانضاف اليههم خلق كثير من كتامة ولواتة وغيرهم. ولقيهم جيوش الموحدين في عرض الجبل شرقي بجاية. فهزموا ابا قصبة وقتلوا كثيرا من أصحابه. ثم توجهوا الى القلعة. فدخلوها عنوة وقتلوا عاملها جوشن بن العزيز وثمانية عشر الفا من أهلها. وغنموا خيراتها. وتفرقت السرايا في الجهات. فحاصروا قسنطينة حتى نزل يحي على الامان وبايع لعبد المؤمن. هنالك ركب الحرث صاحب بونة إلى صقلية مستصرخا بالنرمان واجتمع العرب لدفاع عبد المؤمن. فاوقع بهم الموحدون نواحي سطيف في صفر سنة 48 وقيعة شنعاء وجاء الحارث باسطول النرمان تحت قيادة فيليب المهدوي فحاصر بونة واعانه العرب على فتحها. فدخلها فيليب في رجب وسبى أهلها وملك ما فيها. واغضى عن طائفة من العلماء والصلحاء. فتركهم نجوا باهليهم واموالهم الى القرى. وبعد عشرة ايام سلم أمرها للحرث وركب هو الى المهدية فصقلية. فأفتى الاساقفة والقسوس والرهبان باحراقه لرفقه باولئك العلماء والصلحاء، فاحرق في رمضان وهكذا تطبق رحمة المسيحيين! بقي الحرث ببونة حتى استولى عليها الموحدون سنة 551 فقتلوه صبرا وانقرض ملك بني حماد. وبقيتهم بوادي بجاية، قال ابن خلدون: "وهم في هذا العهد في عداد الجند. ولهم اقطاع على ذلك بنواحي البلد". تأسست الدولة الحمادية سنة 405 وسقطت سنة 5477 فكانت مدتها 142 سقطت وهي أقوى ما يكون كما يموت المرء وهو في

شبابه، وليس لهو يحي هو علة السقوط اذ لم ينشأ عنه احتلال في الدولة. ونرى لسقوطها عللا هي: 1 - خيانة ميمون، وهي خيانة باردة لانه لا يرجو في دولة عبو المؤمن أكثر من ان يكون وزيره المفوض وقد نال ذلك مع يحي. 2 - ضعف العصبية القومية، فقد أكلت صنهاجة الحروب، ومالوا منذ ايام العزيز الى الترف. 3 - فقد الغيرة الوطنية من المسلمين لان كلا من الحلومتين القديمة والجديدة اسلامية، فهم لا يتفانون في نصرة القديمة ولا يرون في الجديدة عدوا. 4 - قوة هذه الدولة الجديدة وعظمة رئيسها عبد المؤمن الذي لا يعرف التاريح كثيرا من أمثاله في السياسة الحربية. وبسقوط الدولة الحمادية انقرضت الدعوة العباسية من المغرب. فلم تظهر به الا ايام ابن عانية. ولم تنقطع قبل منه الا ايام بني عبيد، ولهذا رأينا أن نرسم جدولا للخلفاء العباسيين من أول أمرهم الى انتهائه من بغداد، وقد قسمهم ابن خلدون في هذه المدة الى اربع طبقات، الاولى ذات النفوذ العام، الثانية ذات النفوذ الخاص ببغداد وما قرب منها، الثالثة ذات الخلافة الاسلامية فاقدة النفوذ ببغداد نفسها، الرابعة المسترجعة للنفوذ ببغداد خاصة الى أن قتل التتر المستعصم سنة 656. الطبقة الاولى الخليفة … الولاية … هـ … م عبد الله السفاح … 132 … 750 اخوه أبو جعفر المنصور … 136 … 754 ابنه محمد المهدي … 158 … 775 ابنه موسى الهادي … 169 … 785 اخوه هرون الرشيد … 170 … 786 محمد الامين ابن الرشيد … 193 … 809 اخوه عبد الله المأمون … 198 … 813 اخوهما محمد المعتصم … 218 … 833 ابنه هرون الواثق … 227 … 842 أخوه جعفر المتوكل … 232 … 846

الطبقة الثانية الخليفة … الولاية … هـ … م محمد المنتصر ابن المتوكل … 247 … 861 احمد المستعين ابن المتصم … 248 … 862 الزبير المعتز ابن المتوكل … 252 … 866 محمد المهتدي ابن الواثق … 255 … 869 احمد المعتمد، ابن المتوكل … 256 … 870 احمد المعتضد بن طلحة ابن المتوكل … 279 … 892 علي المكتفي ابن المعتضد … 289 … 902 اخوه جعفر المقتدر … 295 … 908 اخوهما محمد القاهر … 320 … 932 أحمد الراضي ابن المقتدر … 322 … 934 اخوه ابراهيم المتقي … 329 … 941 الطبقة الثالثة الخليفة … الولاية … هـ … م عبد الله المستكفي بن المكتفي … 3333 … 945 الفضل المطيع ابن المقتدر … 334 … 946 ابنه عبد الكريم الطائع … 363 … 974 الحسن القادر بن اسحق ابن القتدر … 381 … 991 ابنه عبد الله القائم … 422 … 1031 عبد الله المقتدي بن محمد ابن القائم … 467 … 1074 ابنه احمد المستظهر … 487 … 1094 ابنه الفضل المسترشد … 511 … 1118 ابنه منصور الراشد … 529 … 1134 الحسين المقتفى ابن المستظهر … 530 … 1135 الطبقة الرابعة الخليفة … الولاية … هـ … م يوسف المستنجد ابن القتفي .... 555 … 1160 ابنه الحسن المستضيء … 566 … 1170 ابنه احمد الناصر … 575 … 1179 محمد الظاهر بن الناصر … 622 … 1225 ابنه منصور المستنصر … 623 … 1226 ابنه عبد الله المستعصم … 640 … 1243 سقوط بغداد … 656 … 1258

12 - العواصم الصنهاجية بالجزائر

12 - العواصم الصنهاجية بالجزائر عواصم صنهاجة بالجزائر ثلاث هن: أشير والقلعة وبجاية. أشير بفتح فكسر. كانت بين صنهاجة وزناتة حروب بسبب الجوار في الموطن. فلما قوي أمر زيري بن مناد في قومه ارتاد مكانا حربيا اقتصاديا يجمع بين المناعة والاشراف على مواطن زناتة وكثرة المياه وسعة الفضاء. فوقع اختياره على موضع اشير. فشرع في انشاء مدينته سنة 324 (936) وجلب البنائين من المسيلة وطبنة وغيرهما. وهي في سفح جبل تيطري بالجنوب الشرقي من البرواقية وغربي جبل شعبة وشمال قصر البخاري قرب ثلاثاء الدوائر، وكانت الطرق تخرج منها الى سوق حمزة غربا على طريق شعبة والى متيجة شمالا على طريق لمدية والى تيهرت غربا والى مليانة على شلف شمالا غربيا والى المسيلة جنوبا شرقيا. ويوجد بين برج بوعريريج والمنصورة جبل يدعى ايضا اشير. وبه آثار مدينة عظيمة. وهنالك محطة للقطار تدعى بهذا الاسم. وقد غلط ابو راس. فظن اشير زيري هنالك اذ قال: "وهي الآن خراب غربي ارض بني مقران" اهـ. وارض بني مقران هي سهل مجانة في الشمال الغربي من برج بوعريريج. ولما أخذ زيري بدعوة بني عبيد اذن له المنصور بن القائم في اتخاذ القصور والمنازل والحمامات باشير. وطبع بها نقودهم ذهبا وفضة. وعني بها ابناؤه من بعده. فابتنوا خارجها فحوصا. واستبحر عمرانها واتسعت خطتها. فرحل اليها من البلاد القاصية التجار والعلماء. قال ياقوت: "ومن اشير هذه الشيخ الفاضل ابو محمد عبد الله بن محمد الاشيري امام أهل الحديث والفقه والادب بحلب خاصة

وبالشام عامة. استدعاه الوزير عون الدين ابو المظفر يحي بن محمد ابن هبيرة وزير المقتفي والمستنجد. وطلبه من الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي. فسيره اليه. وقرأ كتاب ابن هبيرة الايضاح في شرح معاني الصحاح بحضوره. ثم سار من بغداد الى مكة ثم عاد الى الشام فمات في بقاع بعلبك سنة 561" اهـ. ولما أسست القلعة أخذت عمارة اشير تراجع. وخربها يوسف ابن حماد ايام ثورته على ابن أخيه محسن. ثم عمرت حتى جاء الهلاليون. ونزل بنو حصين بسائطها. واعتزوا على الدول وصاروا موئلا لكل ثائر. فنازلتهم جيوش عبد الواد مرارا. ويظهر أن خرابها كان أثناء تلك الفتن. ولم يبق اليوم منها الا رسوم وآثار أسوار. قال البكري: "واشير جليلة حصينة. يذكر انه ليس في تلك الاقطار أحصن منها ولا أبعد متناولا ومراما. ولا يوصل الى شيء منها بقتال الا من موضع يحميه عشرة رجال. وهو في شرقيها الذي ينفذ الى عين مسعود. وسائر نواحيها تزل عنها العيون فكيف الاقدام. وهي مع ذلك بين جبال شامخة محيطة بها. وداخل مدينتها عينان ثرتان لا يبلغ لهما غور ولا يدرك قعر احداهما تعرف بعين سليمان والاخرى بعين تلا نتيرغ. والذي بنى سورها بلقين بن زيري سنة 367 وخربها يوسف بن حماد واستباح أموالها وفضح حرمها وذلك بعد اربعين واربعماية ثم تراجع الناس اليها بعد خمس وخمسين " اهـ. القلعة: كان حماد بن بلقين بن زيري متوليا حروب زناتة لابن أخيه باديس. وكانت زناتة صعبة المراس وحول باديس منافسون لحماد. فخشي أن يتغير عنه يوما ما باديس او تحيط به زناتة. فارتاد مكانا

يفوق اشير حربيا واقتصاديا يكون له موئلا من زناتة أو باديس. فوقع اختياره على جبل كيانة. فشرع في انشاء القلعة به سنة 398 (1007 م) وتم تمصيرها سنة 400. وجبل كيانة كان لعجيسة وهو جنوب برج بوعريريج تتصل به سهول وباعلاه حصن تاقربوست يطل منه على بحيرة الحضنة. ومكان القلعة كان يدعى قلعة ابي طويل. تقرب منه مدينة الغدير على نحو خمسة عشر ميلا في الجهة الشرقية. وكانت الطرق تخرج منها الى سائر الجهات. وفي سنة 405 احاط حماد بجبل كيانة سورا من الحجارة يقرب ارتفاعه من ذراعين ويمتد حوله على استدارة سبعة أميال. ونقل حماد الى القلعة قبيلة جراوة من أسافل وادي ملوية وأهل المسيلة وحمزة. وشيد بها القصور والفنادق واستكثر من المساجد. فاستبحر عمرانها ورحل اليها أهل البلاد النائية من التجار وارباب الصنائع وأهل العلم. وعني بها ابناء حماد من بعده. فابتنوا حولها القصور وغرسوا الجنات واكثروا من المنتزهات. وجلبوا اليها الماء واجروه بها سواقي وجداول وفرقوا المياه بالحارات والدور والمساجد في القنوات علاوة على ما بها من المآجل والصهاريج. وكان لها ابواب منها باب الجنان يخرج منه على جسر الى المسيلة، وباب جراوة به جسر على وادي الفرج، وباب الاقواس يفضي الى حارة جراوة. قال البكري: "وقلعة ابي طويل قلعة كبيرة ذات منعة وحصانة، وتمصرت عند خراب القيروان انتقل اليها أكثر أهل افريقية، وهي اليوم مقصد التجار وبها تحل الرحال من العراق والحجاز ومصر والشام وسائر بلاد المغرب. وهي اليوم مستقر مملكة صنهاجة. وبها كان احتصن ابو يزيد مخلد بن كيداد " اهـ.

وقال الادريسي: "هي من أكبر البلاد قطرا وأكثرها خلقا واغزرها خيرا وأوسعها اموالا واحسنها قصورا ومساكن واعمها فواكه وخصبا " اهـ. ولما جاء الهلاليون استولوا على بسائطها ايام الناصر. فأسس فرارا منهم مدينة بجايه. ونقل هو وابناوه كثيرا من موادها الى بجاية. فأخذت في الضعف وحرق الموحدون مساكنها ثم استولى على الجبل عياض. فخربت قلعة حماد كما خربت اشير جده زيري ولكن بلقين كان اسعد حظا من ابيه وابنه فلم تزل مدنه الثلاث عامرة وهي الجزائر ولمدية ومليانة. بجاية: بكسر الباء وتخفيف الجيم. بعد واقعة سبيبة سنة 457 استولى العرب على ما حول القلعة ووضعوا ايديهم على طرقها، فرأى الناصر عاصمته مهددة بخطرهم، ففكر في انشاء عاصمة بعيدة عنهم، وندم على منازعته لابن عمه تميم ابن المعز، فانفذ اليه رسولا يرغبه في الصلح، فوافق ذلك هوى تميم، وارسل من طرفه محمد بن البعبع لاحكام الصلح. مر ابن البعبع كب طريقه بأبيات قليلة لقوم من صنهاحة يدعون بجاية. ولما بلغ الناصر اختلى به وطعن له في وزيره ابي بكر بن ابي الفتوح وفي ابن عمه تميم ورآه يفكر في أي مكان يؤسس عاصمته الجديدة فدله على مكان بجاية وزينها له بان منها يكون امتلاكه للمهدية ووعده الانتقال اليه والقيام بدولته. ثم عاد الى مرسله تميم فنم عليه ابن ابي الفتوح لتميم بما دار بينه وبين الناصر. فقتله وألحق به عاقبة الغدر. شرع الناصر سنة 460 (1067 م) في تأسيس بجاية على مقربة من مينى صلداي الفنيقية. ونقل الناس اليها واسقط الخراج عن

ساكنيها. وانتقل هو اليها سنة 61 وسماها الناصرية. ولكن غلب عليها اسم بجاية. وانما اختار مكانها لكونه في سفح جبل. بحفظها من غارات الهلاليين وامامها خليج مامون يسع اسطولا ضخا يهيمن به على البحر، وسوادها خصب. قال صاحب الاستبصار: "ليس لبجاية طريق سهلة الا من ناحية الغرب وباقي طرقها شرقا وجنوبا على اوعار فلم يكن للعرب اليها سبيل. وكان لا يدخلها منهم الا من يبعث اليه الملك الحمادي لمصانعه على بلاد القلعة وغيرها. فيدخلونها افذاذا وفرسانا دون عسكر". "ولها داران لصناعة المراكب. ومنها تغزى بلاد الروم. ومرساها عظيمة ترسى بها سفن الروم من الشام وغيرها وسفن المسلمين من الاسكندرية طريق مصر واليمن والهند والصين وغيرها " اهـ. قال الادريسي: "ومدينة بجاية كا فت مدينة المغرب الاوسط وعين بلاد بني حماد. والسفن اليها مقلعة. وبها القوافل منحطة. والامتعة اليها برا وبحرا مجلوبة. والبضائع بها نافقة. وأهلها مياسير تجار، وبها من الصناعات والصناع ما ليس بكثير من البلاد وأهلها يجانسون تجار المغرب الاقصى وتجار الصحراء والمشرق وبها تحل الشدود وتباع البضائع بالاموال المقنطرة. ولها بواد ومزارع. والشعير والحنطة بها كثير. والتين وسائر الفواكه بها ما يكفي لكثير من البلاد. وبها دار صناعة لانشاء الاساطيل للقتال ولانشاء السفن الحمالة والمراكب النقالة لان الخشب في أوديتها كئثير. ويجلب اليها من أقاليمها الزفت البالغ الجودة والقطران. وبها معادن الحديد الطيب موجودة ممكنة. وبها من الصناعات كل غريبة ولطيفة. وعلى بعد ميل منها نهر ياتيها من جهة المغرب من نحو جبال جرجرة وهو نهر عظيم" اهـ.

ولم تزل بجاية في اتساع عمارة ورقي حضارة ايام الحماديين ثم الموحدين ثم الحفصيين حتى أخذها الاسبان سنة 915، ثم أخرجهم منها الاتراك. فضعفت لتوالي الحوادث عليها. ولولا أهميتها البحرية لكان سبيلها سبيل القلعة. وكانت بجايه أيام عظمتها عاصمة علمية تدرس بها العلوم العقلية والنقلية على اختلاف فنونها. وقد جمع الغبريني في تراجم أهل القرن السابع فقط كتابه عنوان الدراية. وبها تعلم ليونار فبونتشي الايطالي الرياضي المهندس الشهير. تعلم بها الحساب والجبر والهندسة وفي لروس "انه ولد بمدينة بيزا حوالي سنة 571 (1175 م) وقام باعمال رياضية جليلة. وهو اول من طبق عمليات الجبر على الهندسة" اهـ.

33 الفن الديني الاسلامي 34 الفن الديني الاسلامي

الباب الثالث في دولة المرابطين

الباب الثالث في دولة المرابطين

1 - تمهيد

1 - تمهيد انتقل بنو عبيد من المهدية الى القاهرة ولم يستطيعوا توحيد المغرب تحت ادارتهم، فكانت فتن بين صنهاجة العبيدية وزناتة الاموية لم تنتج اكثر من تاخر زناتة الى المغرب الاقصى وتأسيسهم فيه دويلات مغراوية ويفرنية عاشت قرنا واقواها دولة بني زيري بن عطية بفاس، قال ابن ابي زرع: "وفي أيامهم عظم شأن فاس وحصنت ابوابها وزيد في جامعي القرويين والاندلس زيادة كبيرة واتسع الناس في البناء وكثرت الخيرات واتسع الامن والرخاء الى أن ظهر المرابطون وقد ضعفت أحوال مغراوة ونقص ملكهم وجاروا على رعيتهم، فاخذوا أموالهم وسفكوا دماءهم وتعرضوا لحرمهم، فانقطعت عنهم الموارد وكثر الخوف في البلاد وغلت الاسعار، وعدمت الاقوات في فاس واعمالها ايام الفتوح بن ذو ناس ومن بعده حتى بيعت اوقية الدقيق بدرهم " اهـ. باختصار. ولم تكن حال الاندلس أحسن من حال المغرب الزناتي. فان البربر الذين استوطنوها ايام بني امية أصبحوا يعملون للفوضى ورؤساء العرب اقتسموا ولايتها وتخاذلوا امام اعدائم المسيحيين. فقويت شوكة الاسبان وشجعوا لابتلاع الاندلس. أثناء هذه الظروف الحرجة ظهرت بالصحراء دولة المرابطين وانتشرت انباء عدلها ورففقا بالرعية. فكاتبهم علماء المغرب يستحثونهم لانقاذه من عسف زناتة. ثم راسلهم عقلاء الاندلس لصد غارات

2 - المرابطون

الاسبان عنهم. فخرجوا من صحرائهم تلبية لصوت الواجب. واستولوا على سجلماسة سنة 447 وعلى اغمات وتادلا سنة 49 وعلى فاس سنة 62 ثم أجازوا الى الاندلس وكفوا عادية الاسبان عنها وجمعوا شملها بالقضاء على ملوك الطوائف. أصبحت مملكة المرابطين تشمل الصحراء الى حدود السودان والمغرب الزناتي والاندلس من شرقها الى غربها. وكانت مدريد ولشبونة عاصمتا الاسبان والبرتغال اليوم من مدنهم البسيطة. وفي سنة 454 أسس المرابطون عاصمة دولتهم مدينة مراكش على مقربة من وطنهم الصحراوي وفي سفح جبال درن وطن منافسيهم المصامدة. واتسعت خطتها باتساع المملكة وعظم عمرانها، فلم تزل عاصمتهم حتى انقضى أمرهم. 2 - المرابطون كان من صنهاجة اللثامية ملوك كبار بالصحراء. منهم الامير يحي بن ابراهيم القدالي: ذهب حاجا سنة 427 ولما عاد من نسكه اجتمع في القيروان بابي عمران الفاسي المالكي. وعرفه بجهل قومه ورغب منه ان يوجه معه بعض تلاميذه لبث حقائق الدين بوطنه. فكتب له ابو عمران رسالة الى تلميذه وقاق بن زلو اللمطي السوسي ليرسل بعض تلاميذه مع الامير يحي. وكان الشيخ وقاق بمدينة نفيس من أرض المصامدة يدرس العلم في رابطة له. بلغ الامير يحي نفيس سنة 430 وسلم الرسالة للشيخ وقاق. فعرضها على تلاميذه فانتدب منهم لصحبة الامير يحي عبد الله بن يس الجزولي. وكان من حذاق الطلبة دينا فاضلا تقيا ورعا فقيها أديبا مشاركا ذا نباهة وسياسة.

3 - المرابطون بتلمسان

رجع الامير يحي الى قومه بعبد الله بن يس. فأخذ يعلمهم الدين ويأمرهم بالمعروف ويناهم عن المنكر. فثقل عليهم أمره. فهجروه. واعرضوا عن ارشاده. فعزم عبد الله على الذهاب الى السودان. ولكن الامير يحي نبذ امارته وتمسك به واشار عليه بالانعزال في ربوة يحيط بها وادي النيل. فقبل اشارته وذهب هو والامير يحي وسبعة من قدالة الى تلك الربوة. فبنوا بها رابطة للعبادة واخذ الناس يلتحقون بهم حتى اجتمع بها من اشراف صنهاجة نحو ألف رجل ففقههم عبد الله في دينهم. وسماهم المرابطين للزومهم رابطته. ثم أمرهم بالذهاب إلى قومهم لانذارهم ففعلوا. ولكن لم يجدوا أذنا صاغية وقلبا رقيقا. وفي صفر سنة 434 رفع المرابطون سلاحهم على كل مسلم لم يمتثل أوامر دينه. فحاربوا قدالة ثم لمتونة ثم مسوفة. فاستقاموا على نهج الكتاب والسنة. وتوفي الامير يحي بن ابراهيم القدالي. فخلفه الامير يحي بن عمر بن ابراهيم اللمتوني ثم أخوه أبو بكر ثم ابن عمهما امير المسلمين يوسف بن تاشفين بن ابراهيم. وهكذا تأسست دولة المرابطين. وتوفي عبد الله بن يس شهيدا في قتال برغواطة يوم الاحد الرابع والعشرين لجمادى الاولى سنة 541 ودفن هناك. وبني عليه مسجد. وكان متحريا لاكل الحلال. وله فتاوي شاذة ونوادر تدل على شدته في الحق وحسن اعتقاد المرابطين فيه وقوة انقيادهم له. واوصاهم عند احتضاره بالاتحاد والتعاون على الحق ونبذ الخلاف والتحاسد على الرئاسة. 3 - المرابطون بتلمسان في سنة 472 بعث يوسف بن تاشفين قائده مزدلي لغزو تلمسان،

في عشرين الفا من المرابطين. فعاث في نواحيها. ثم عاد الى أميره يوسف بمراكش. وفي سنة 74 نهض يوسف نفسه اليها. وعسكر اليها. وأسس بمعسكره مدينة سماها تاقرارت. ومعناها المحلة. وقد اصبحت من بعد مع تلمسان مدينة واحدة واتخذها المرابطون عاصمة مملكتهم بالوطن الجزائري. وانزلوا الجند بتاقرارت. فتح يوسف في نهضته هذه تلمسان من ايدي بني يعلي الخزريين ثم وهران وتنس ووانشريس واعمال شلف. وبلغ مدينة الجزائر. ثم قفل الى مراكش. فدخلها في ربيع الاخير سنة 75. ولي أمارة تلمسان محمد بن تينعمر المسوفي. واجلب على مملكة بني حماد الغربية. ومات محاصرا للجزائر. فخلفه أخوه تاشفين وحارب الحماديين. ثم صالحهم يوسف بن تاشفين. وعزل تاشفين بن تينعمر بالقائد مزدلي اللمتوني. فلم يزل بها الى أن نقله أمير المسلمين علي بن يوسف الى قرطبة، وبها توفي سنة 508. عادت امارة تلمسان بعد مزدلي الى مسوفة، وكان منهم بها لاول ظهور الموحدين يحي بن اسحق الملقب انكمار، ووقعت فتنة بين مسوفة ولمتونة، فلحق انكمار وكثير من رجال مسوفة بعبد المؤمن بن علي قبل دخوله المغرب الاوسط، فعادت ولاية تلمسان الى لمتونة ووليها منهم محمد بن يحي ابن فانو. ولما فتح عبد المؤمن حصون ملوية بعث سريتين احداهما ذهبت مع الساحل الى وهران بقيادة ابن زقو، فقتل القائد، ولم تفتح وهران، والثانية قصدت مديونة وخرج اليها ابن فانو في جنود لمتونة وزناتة، فانخذلت زناتة، وانهزمت لمتونة وقتل ابن فانو، فولي بعده ابو بكر بن مزدلي وعليه انقرضت دولة المرابطين من الجزائر.

4 - حكومة المرابطين

4 - حكومة المرابطين الدولة المرابطية مستقلة استقلالا تاما. ولكن حكومتها وهي أقوى نفوذا من خلفاء بني العباس كانت تعترف بسيادتهم. فتذكر اسماءهم في سكتها وخطبها. واستفادت من ذلك قوة أدبية لان الناس يومئذ لا يسلمون دعوى الخلافة لغير العرب. والحكومة المرابطية مقيدة بالكتاب والسنة لا يمضي أمراؤها وعمالها أمرا الا باستشارة شيوخ الدين وموافقتهم، ومنذ استولى يوسف بن تاشفين على الاندلس تلقب بأمير المسلمين، وجرى على ذلك خلفه، ولم يتلقبوا بأمير المؤمنين لانه شعار الخلافة التي سلموها لبني العباس، وللامير وزراء في حضرته وعمال على الجهات وقضاة بعاصمته وغيرها. والقضاء مستقل عن الادارة كل الاستقلال، وكان على مذهب مالك لان المرابطين ما عرفوا الدين الا على يد عبد الله بن يس المالكي ثم ملكوا الاندلس أهم ممالكهم وأهلها أيضا مالكيون ولم تكن المالكية يومئذ عبارة عن جمود محض ووقوف عند أقوال الكاتبين في المذهب. بل هي اتباع لمالك عن بينة وبصيرة وخبرة بكتاب الله وسنة رسوله واقضية السلف. وكانت عناية الحكومة بحفظ الاندلس من هجمات المسيحيين. ولم تشغل نفسها بمحاربة جيرانها من الدول الاسلامية بل سالمتهم واحسنت جوارهم. فاتخذت للجهاد وحماية البلاد جيشا من لمتونة ومسوفة وغيرهم من الملثمين. وقد وصفهم البكري وهم في صحرائهم بقوله: " ولهم في القتال شدة وجلد ليسا لغيرهم. يختارون الموت على الانهزام ولا يحفظ لهم فرار من زحف. يقاتلون على الخيل والنجب.

وأكثر قتالهم رجالة صفوفا، بايدي الصف الاول القنا الطوال للمداعسة والطعان. وما يليه من الصفوف بايدهم المزاريق. يحمل الواحد منهم عدة. يزرقها فلا يكاد يخطيء ولا يشوي. ولهم رجل قدموه أمام الصف بيده الراية. فهم يقفون ما وقفت منتصبة. وان أمالها الى الارض جلسوا جميعا فكانوا أثبت من الهضاب " اهـ. وفي سنة 64 عزز يوسف جيشه باشتراء جملة من العبيد السودان. بلغوا نحو الفين فاركبهم فرسانا وبعث الى الاندلس في شراء العلوج فانتهى عنده منهم خمسون ومائتا فارس، ثم استعمل ابنه علي جيشا من الروم وأركبهم وقدمهم على جباية المغارم. قال صاحب الحلل الموشية: "وعلي بن يوسف اول من استعمل الروم بالمغرب " اهـ. وكانت مالية الدولة تجمع من الجبايات الشرعية زكاة وجزية واخماس غنائم قال ابن ابي زرع: "ولم يجر في عمل المرابطين طول أيامهم رسم مكس ولا معونة ولا خراج لا في بادية ولا في حاضرة " اهـ. وقال ايضا: "جبى يوسف بن تاشفين من المال على وجهه ما لم يجبه أحد قبله. فيقال انهم وجدوا في بيت المال بعد وفاته ثلاثة عشر ألف ربع من الورق وخمسة آلاف واربعين ربعا من دنانير الذهب المطبوعة " اهـ. وهذا شاهد بثروة الامة واقتصاد الامراء، وقد اتفقت كلمة المؤرخين على وصف حكومة المرابطين بالعدل وإقامة الأمن، قال ابن ابي زرع: "وكانت أيامهم ايام دعة ورفاهية ورخاء متصل وعافية وأمن، بيع القمح ايامهم اربعة اوسق بنصف مثقال، والثمار ثمانية اوسق بنصف مثقال، والقطاني لا تباع ولا تشترى، كان ذلك مصطحبا

5 - امراء المرابطين

بطول أيامهم، وكثرت الخيرات، وعمرت البلاد، ووقعت الغبطة بهم، ولم يكن قطاع ولا من يقوم عليهم الى ان خرج عليهم مهدي الموحدين سنة 515" اهـ. وكان أمراء المرابطين يطبعون السكة باسمهم، وبعد واقعة الزدلاقة جدد يوسف بن تاشفين السكة، قال ابن ابي زرع: " ونقش في ديناره لا اله الا الله محمد رسول الله، وتحت ذلك امير المسلمين يوسف بن تاشفين، وكتب في الدائرة ومن يتبع غير الاسلام دينا فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين، وكتب في الصفحة الاخرى الامير عبد الله العباسي، وفي الدائرة تاريخ ضربه وموضع سكته " اهـ. 5 - امراء المرابطين تغلب أبو بكر بن عمر اللمتوني بجيوش المرابطين على اغمات، وقتل أميرها لقوط المغراوي. وتزوج زوجه زينب بنت اسحق الهوارية، أصلها من القيروان وكان أبوها تاجرا. وكانت هي امرأة حازمة لبيبة ذات رأي وعقل وجزالة ومعرفة بالامور حتى كانت تلقب الساحرة. وفي ذي القعدة سنة 453 عاد ابو بكر الى وطنه لاصلاح حال قومه. ففارق زينب شفقة عليها من حر الصحراء وأوصاها أن تتزوج ابن عمه يوسف بن تاشفين خليفته على المغرب. فتزوجها يوسف. واعانته بسياستها على فتح أكثر البلاد. وتوفيت سنة 464 ثم سلم أبو بكر الامر ليوسف فاستقل بامارة المرابطين سنة 65. وفي سنة 67 رأى المعتمد بن عباد صاحب اشبيلية وأعظم ملوك

الطوائف استدعاء يوسف الى الاندلس برسم الجهاد. فلامه بقية ملوك الاندلس وحذروه عاقبة مجيئه. ولكنه كان يتحقق عجزهم عن مدافعة الافرنج والجلالقة (الصبنيول) فأجابهم بكلمته الخالدة: " رعي الجمال خير من رعي الخنازير". وقبله قال صفوان بن امية يوم حنين: "لان يربني رجل من قريش خير من ان يربني رجل من هوازن". وما زال ابن عباد بابن تاشفين حتى لبى دعوته سنة 79 وكانت وقعة الزلاقة المشهورة. ثم كانت بعدها نكبته لابن عباد وسجنه باغمات حتى مات. وكان يوسف جاهلا بالعربية لا يكلم الا بترجمان، سخيا شجاعا سياسيا حازما عادلا زاهدا لباسه الصوف وأكله الشعير ولحوم الابل وألبانها وكان أسمر نحيفا معتدل القامة اكحل العينين أقنى الانف مقرون الحاجبين جعد الشعر له وفرة الى شحمة أذنيه وعاش ماية سنة. ولد بالصحراء سنة 400 وتوفي بمراكش غرة محرم سنة 500. وخلفه ابنه علي. وله أخوة بعضهم أكبر منه. فسلموا له الامر لان أباهم عهد به اليه سنة 96 وسار بسيرة أبيه في جميع أموره. وكان بالزهاد والعباد أشبه منه بالامراء. ومن هنات أبيه حبسه لابن عباد وقسوته عليه، ومن هناته هو حرقه لكتاب الاحياء للغزالي لما أفتى له العلماء بذلك. وقد كان عليه أن يكلفهم بنقضه والرد عليه. وأم علي رومية. فكان ابيض مشربا بحمرة تام القد اسيل الوجه أفلج اقني اكحل العينين سبط الشعر. ولد بسبتة سنة 477 وتوفي سنة 537. وخلفه ابنه تاشفين. وكان واليا بالاندلس. وله في الجهاد هنالك مقامات محمودة. ثم ظهر الموحدون فاستدعاه ابوه سنة 32 ثم عهد اليه بالامر بعده. وقضى جميع مدته في محاربة الموحدين حتى

6 - سقوط دولة المرابطين

انتهى الى وهران. فتردى في ليلة مظلمة. وألفي صباحا بجانب البحر ميتا. فاحتز رأسه وحمل الى تينملل. فعلق على شجرة وكان ترديه ليلة السابع والعشرين من رمضان سنة 39. وكان تاشفين قد عهد الى ابنه ابراهيم. فلما بلع نعيه مراكش وبويع ابراهيم نازعه عمه اسحق بن علي. وكانا صغيرين غير شاعرين بحراجة الحال. فاستمر الخلاف بينهما الى أن دخل الموحدون مراكش في شوال سنة 541 فقتلوهما وغيرهما من المرابطين وكان الحادث جللا. 6 - سقوط دولة المرابطين ظهر أيام علي بن يوسف بجبال المصامدة محمد بن تومرت. وأعلن حربه على المرابطين. ثم توفي. فخلعه عبد المؤمن بن علي. واستولى على جهات من المغرب الاقصى قوي بها جمعه. وفي سنة 534 خرج عبد المؤمن من تينملل عازما على استئصال دولة المرابطين وسلك طريق الجبال المانعة حيث الارزاق الواسعة. لا يخشى فيها مكروها ولا يعدم حطبا ولا ماء. وخرج تاشفين بن علي من مراكش محاذيا له في البسائط معرضا لكل خطر من هجوم وبرد ووحل وغير ذلك. يسير بسير عبد المؤمن ويقف بوقوفه ويدافع هجومه. فسئم الناس من خطته وأخذوا يتسللون لعبد المؤمن حيث لا يعدمون مرافق الحياة، وتنازعت مسوفة مع لمتونة. فانضم كثير من قوادها وعظمائها الى عبد المؤمن. تقدم عبد المؤمن نحو المشرق بعد وفاة علي بن يوسيف وبث السرايا في عمل تلمسان. فخضعت له مديونة، ونزع اليه بنو ومانو،

فوفد منهم عليه وهو بالريف زيري بن ماخوخ، وقلة بنو مكود في عودة، ثم وفد عليه أبو بكر بن ماخوخ ويوسف بن يدر من امرائهم، فسرح معهم عسكرا مع يوسف ابن وانو دين وابن يغمور فاثخنوا في بلاد بني يلومي وبني عبد الواد، فاستصرخوا تاشفين بن علي، فأمدهم بالعساكر معها الربرتير قائد الروم، ونزلوا منداس، واجتمع اليهم بنو ورسيفان وبنو توجين وبنو ينكاسن من مرين، فكانت لهم الكرة، واستنقذوا أموالهم، وقتلوا أبا بكر بن ماخوخ في ستمائة من قومه، وتحصن الموحدون وفل ومانو بجبل سيرات، ولحق تاشفين بن ماخوخ بعبد المؤمن صريخا فارتحل معه الى تلمسان، ثم سيرات، واوقع بجنود لمتونة وزناتة. سبق تاشفين بن علي عبد المؤمن الى تلمسان، فضبطها وعسكر بسطفسيف وهو نهر يمر بتلمسان به غلات أهلها، ونزل عبد المؤمن بمديونة، وأغارت سراياه على بني يستيتن وبني سنوس وبني وردروسن وبني ستلتن، وبعث تاشفين بن علي قائده الربرتين لاعتراض غنائم السرايا. فقتل ولم ينج من عسكره الا ثلاثة من الروم وثلاثة من بني وانار وذلك عام 39 ثم نزل عبد المؤمن بين الصخرتين وهو جبل مطل على تلمسان من قبليها. فبنى به لجنوده حصنا. وأقام يقاتل تاشفين من هناك مدة شهرين. بعث تاشفين الى الجهات مستمدا فوافته العساكر من الجهات منها عسكر بجاية. فاوقع بهم الموحدون وفرقوهم شذر مذر. واعترض تاشفين بن ماخوخ فل بجاية في قفولهم فنال منهم أعظم النيل. ولم يبق لتاشفين بن علي أمل في الانتصار فغادر تلمسان في شعبان إلى وهران. وارسل الى قائد اسطوله بالاندلس محمد بن ميمون. فأتاه بعشرة أساطيل. وارسى قريبا من معسكره.

ترك عبد المؤمن جيشا لحصار تلمسان. وخرج اثر تاشفين وامامه ابو حفص عمر بن يحيى في ثمانين ساقة من الموحدين وبني ومانو. وقصد بلاد بني يلومي وغيرهم. فكانت بينهم معركة منداس. انتهت بخضوع زناتة. فلحق ابو حفص بوهران ونزل ازاء معسكر المرابطين. ووصف صاحب الحلل الموشية معركة منداس هذه بما ملخصه: "قال ابن اليسع حدثني غير واحد من الموحدين قالوا لما نزلنا من جبل تلمسان نريد بلاد زناتة اتبعنا المرابطون. فنزلنا بسيطا. وأدرنا به أربعة صفوف من الرجال بيد الصف الاول القنا الطوال. وبيد الثاني وهو خلف الاول الحراب والدروق. وبيد الثالث مخالي الحجارة. والصف الرابع من الرماة. والخيل وسط الدائرة. قد ترك لها فرج بالصفوف للكر والفر. فإذا هجمت خيل المرابطين رماها الصفوف بسلاحهم. واذا أدبرت خرج أثرها خيل الموحدين فتصيب منهم فاذا كر عليها المرابطون رجعت الى دائرتها. وعرف هذا اليوم بيوم منداس. فقد فيه من جيوش المرابطين ما لا يحصى. وظهر فيه أمر عبد المؤمن وكثر جمعه " اهـ. ولما انتقلت الحرب الى وهران فشل كثير من قواد المرابطين فتفرقوا. ورأى تاشفين بن علي أنه أحيط به. وكان قد بنى حصنا على شاطئ البحر. فترك بوهران خيامه وجنوده. وصار الى الحصن ليقترب من أسطوله فينجو فيه الى الاندلس عسى أن يحفظ هناك دولته من السقوط كما فعل قبله بنو أمية. ولكن الموحدين لم يمهلوه. فحالوا بينه وبين أساطيله واحدقوا بالحصن وأضرموا حوله النيران كي لا يخفى عليهم شأنه. وفي ليلة السابع والعشرين من رمضان- وكانت ممطرة مظلمة- خرج كي يضرب في جيش الموحدين

ويوجد الفرصة لخرق الحصار واللحاق باسطوله. فتردى به فرسه وهلك. ففر كثير من المرابطين الى تلمسان وغيرها. واستعد بعضهم للحصار بوهران، فجهدهم العطش. ونزلوا يوم عيد الفطر على حكم عبد المؤمن، فحكم بقتلهم، لم ينج منهم الا واحد. وبعد فتح وهران توجه عبد المؤمن نحو تلمسان، فدخل اقادير، وعفا عن أهلها ودخل تاقرارت حيث المرابطون عنوة، فقتل رجالها وغنم أموالها. وذكر ابن اليسع ان عدد القتلى بها بلغ مائة الف أو أزيد، وبعد سبعة أشهر من فتح تلمسان عاد عبد المؤمن الى المغرب الاقصى. فقطع منه دعوة المرابطين بفتحه مراكش سنة 41. وهكذا انتصر عبد المؤمن بما مهد له ابن تومرت قبل من نشر رسائل الطعن في المرابطين حتى سقطت هيبتهم ثم باحكامه خطته الحربية حيث سار بالجبال الكفيلة بحاجيات الجيش الممتنعة على العدو. وملك بذلك زمام الحرب. فصار يقاتل متى أراد القتال ويستريح متى شاء. وطاول المرابطين في هذه الحرب سبع سنوات حتى سئم جيشهم وقلق الناس مما يكون عادة لازما للحرب من اشتداد الازمات وارتفاع الاسعار. وقد كانت دولة المرابطين يومئذ في منتهى عظمتها وريعان شبابها. فما كانت لتسقط بهذه السرعة لولا قوة العلة التي نزلت بها وكان عنصرا علتها ابن تومرت وعبد المؤمن. وما من حركة يكون عنصراها مثل هذين الرجلين الا كان الفوز حليفها. ولكي تطمئن النفس الى سقوط هذه الدولة من غير تدريج نلخص عللها فيما يلي: 1 - دهاء ابن تومرت السياسي البارع في طرق نشر الدعوة واسقاط هيبة الحكومة المرابطية. 2 - احكام عبد المؤمن لخطته الحربية جغرافيا وسياسيا.

3 - قدم العداوة بين المصامدة والملثمين. 4 - طبيعة البربر التي تمثل الكلمة الشائعة: "لكل جديد لذة". فنصر من نصر منهم الموحدين لا لسخط على المرابطين ومن نصر من زناتة المرابطين فانما نصروهم منافسة ومخالفة لمن كانوا مع الموحدين منهم. 5 - حدوث غلاء مقلق. 6 - اضطراب البلدان لخلوها من الحامية. 7 - اضطراب مركز القيادة العامة وتناقض أوامرها تكتب بالامر وتعقبه بضده. 8 - موت علي بن يوسف على حين شباب الفتنة. 9 - اسلام مسوفة للمتونة في وقت الحاجة والضرورة. 10 - اضطرار أمير المسلمين تاشفين لقيادة ااجيوش بنفسه وتعرضه للتلف. 11 - تنازع ابراهيم وعمه اسحق على الامر بعد هلاك تاشفين وكلاهما صغير مضعف. ففقد المرابطون باشفين أميرا قويا على جمع الكلمة. 12 - تفريط المتنازعين في تحصين عاصمتهم مراكش وشحنها بالاقوات. فبعد قليل من حصار الموحدين لها اضطر أهلها الى أكل الجيف والدواب. وكان معهم جيش من الروم لم يصبروا على هذه الازمة. ففتحوا للموحدين أحد أبواب المدينة. وكأنما فتحوا للمرابطين ودولتهم قبورهم. وهكذا تفقد الامم استقلالها متى فقدت من بنيها كفؤا لجمع كلمتها ووجد من بينها خونة لا يهمهم مستقبلها ولا ينظرون لأبعد من خيال مصلحتهم الخاصة.

وكان تأسيس دولة المرابطين بالصحراء على يد عبد الله بن يس سنة 434 وثبتت قدمها بالمغرب بتأسيس مراكش سنة 454 واستقر أمرها بالجزائر منذ تأسيس تاقرارت (تلمسان الجديدة) سنة 474. وانتهت في الجزائر بموت تاشفين سنة 539 وبالمغرب بفتح مراكش سنة 41 ولم يحفظوا دولتهم بالصحراء لتفرق عشائرهم في الممالك الشمالية بالمغرب والاندلس. وكانت مدتهم بالجزائر خمسا وستين سنة. وكل جديد فالى بلى. لدوا للموت وابنوا للخراب … فكلكموا يصير الى ذهاب نقود المرابطين 12 - نقود يوسف بن تاشفين ضرب هذا الدينار بسجلماسة سنة 480. 13 - نقود علي بن يوسف بن تاشفين ضرب هذا الدينار بتلمسان سنة 534. 14 - نقود تاشفين بن علي ضرب هذا الدينار بمراكش سنة 538. 15 - نقود اسحق بن علي ضرب هذا الدينار بقرطبة سنة541.

(ش 36) منظر عام لجامع سيدي ابو مروان الرسام بربروغر

(ش 37) مخطط- جامع قلعة بني حماد. (ش 38) مخطط غرفة الصلاة للجامع الكبير في قسنطينة

(ش 39) فناء جامع سيدي أبو مروان الرسام لوسور ووايلد

(ش 40) فناء جامع سيدي أبو مروان الرسام بربروغر

الباب الرابع في الدولة الموحدية المومنية

الباب الرابع في الدولة الموحدية المومنية

1 - تمهيد

1 - تمهيد كانت الخلافة الاسلامية بالقرن الخامس لبني العباس ببغداد وبني عبيد بمصر. وكان خلفاء الاسرتين معا مستضعفين وقوادهم وامراؤهم عليهم مستبدين. وكان مغرب آل زيري تعبث ببواديه العرب وتغير على سواحله سفائن النرمان، ومغرب الملثمين في دعة وهناء لا يخشى عليه أدنى خطر داخلي أو خارجي. وفي أواخر هذا القرن ولد بهرغة هن جبال درن محمد بن عبد الله تومرت. ونشأ فقيرا طالبا للعلم. فأخذ بعض المبادئ بوطنه وارتحل سنة 500 الى الاندلس فدخل قرطبة. ثم ارتحل الى المهدية. وأخذ عن المازري ثم انتقل الى الاسكندرية ثم بغداد، ولازم الغزالي ثلاث سنوات، ولقي غيره من جلة العلماء وفحول النظار فاستفاد علوما جمة، ومهر في الحديث والاصول والجدل، وأخذ بعقائد الاشعري واضاف اليها من عقائد الشيعة الامامية القول بالامام المعصوم. درس ابن تومرت في رحلته هذه حالة المسلمين السياسية فعرف ضعفها ولا سيما بالمشرق، ورأى ان الخلافة الاسلامية في خطر فحدثته نفسه- وكان بعيد الهمة- بانشاء خلافة بالمغرب تجمع شمل أهله على الاقل. وبهذه النية توجه نحو وطنه. في غرة ربيع الاول سنة 510 قفل الى المغرب وعرج في قفوله

على العواصم العلمية والسياسية كمصر وطرابلس والمهدية وتونس وقسنطنة وبجاية وتلمسان وفاس ومراكش، وحيثما حل درس العلم وامر بالمعروف وغير المنكر بيده، فعرض نفسه مرارا للخطر، ولكنه كان يحسن الخلاص، وبهت العلماء من فصاحته ودهش الامراء من جراءته ومال اليه العامة لديانته، فما غادر مدينة إلا وترك بها سمعة واسعة وانصارا عديدين. نزل بقسنطينة على الفقيه عبد الرحمن الميلي وغيره وببجاية في مسجد الريحانة، وأمه ابراهيم بن محمد الميلي وغيره من الفقهاء، ثم خشي سطوة العزيز بن المنصور، فخرج الى ملالة ضيعة لبني ورياغل على فرسخ من بجاية، فأقام بها مدة، وهنالك جمعه القدر بعبد المؤمن بن علي الكومي، فأعجب بذكائه، واعجب عبد المؤمن بعلمه فصحبه وخرجا فيمن معهما الى متيجة فوانشريس فتلمسان، وبلغوا هرغة سنة 514. وصحب ابن تومرت من تونس ابو بكر بن علي الصنهاجي المدعو بالبيدق وكتب في كتابه أخبار المهدي عن طريقه من تونس الى هرغة نحو عشرين صفحة، فصل فيها أخباره وحوادثه. وكان ابن تومرت يعرف في طريقه بالفقيه السوسي وأخذ يشيع أنه الامام المهدي المنتظر، فصار يعرف بالامام المعصوم. حتى اذا بايعه المصامدة دعي المهدي. استهوى ابن تومرت المصادمة بمكايده وسحرهم بعذوبة لفظه فقد كان فصيحا في العربية والبربرية حتى صاروا يستغيثون به في شدائدهم ويتبركون بذكره على موائدهم، قال ابن قنفذ في الفارسية ما ملخصه:

" داره بجبل هنتاتة يتبرك الآن بالدخول اليها، ودخلتها انا لهذا الوجه سنة 763 وأماكن جلوسه بالجبل معلومة لا يمر بها راكب الا نزل " اهـ. فصل ابن تومرت علمه وعمله بمقدار غايته السياسية فاختار عقيدة الاشعري وهي خلاف عقائد أهل المغرب يومئذ، ليجد سبيلا الى الطعن في عقائدهم، وأشهر ذكره بانتحاله تغيير المنكر في طريقه. وانتسب في آل البيت واعتقد عصمة الامام ليمهد لدعواه انه المهدي المنتظر. وتظاهر بالزهد والصلاح كي تقبل العامة مكائده وحيله باسم الكرامات. درس ابن تومرت بمصموده وألف ونشر الدعاة لبيعته فبويع في رمضان سنة 515 تحت شجرة خرنوب بعدما خطب في الناس وذكر المهدي وانه يظهر من المغرب الاقصى وان نسبه كنسبه واسمه كاسمه وفعله كفعله وعرف الناس بما يكون عليهم في القيام بدعوته من الارزاء والمحن. فالتزموا ذلك. وسماهم الموحدين وكفر المرابطين ولقبهم المجسمين وحاربهم بسيفه وقلمه م، حتى توفي على ما حققه ابن أبي زرع وغيره فيما رمضان سنة 24 وكانت ولادته سنة 474 وقيل 84 وقيل 86 وقيل 91 ولم يترك خلفا لانه لم يتزوج وله تآليف لطيفة جمع بعضها وطبع بالجزائر سنة 1321 هـ وجمع البيدق بعض رسائله طبعت مع كتابه أخبار المهدي. واستيعاب أخبار ابن تومرت ودرسها بصفة فنية يستدعي تآليف مستقلة. فانه قد احدث انقلابا عاما بالمغرب في السياسة والعلم والدين ولم يكن كسائر الانقلابات البربرية الناشئة من أسباب قومية ومنافسات بين القبائل القوية. ولا نتيجة لها غير سقوط دولة وقيام أخرى. ودولة الموحدين تشبه دولة المرابطين من حيث ابتناؤهما على دعوة

2 - تأسيس الدولة الموحدية المؤمنية

دينية. ولكن الفرق بينهما كالفرق بين مؤسيسهما عبد الله بن ويس وابن تومرت فلم يكن عبد الله بن ويس في علم ابن تومرت ولا دهائه ولكن كان أطهر منه عقيدة وأصفى سريرة. ولم تكن دولة المرابطين في قوة دولة الموحدين ولا حسن ادارتها ولا اتساع معارفها ولكن كانت أعف عن الدماء وارفق بالرعية. 2 - تأسيس الدولة الموحدية المؤمنية ابن تومرت هو مؤسس هذه الدولة وكان يؤثر من اتباعه عشرة ويقرب من بينهم عبد المؤمن بن علي الكومي. فلما توفي قدم العشرة من بينهم ابا علي عمر الصنهاجي. وبعد أيام سلمها لعبد المؤمن قائلا أنه الذي أشار به المهدي. فبايعوه سرا. وكتموا موت المهدي عن العامة وموهوا عليهم بانه مريض وصار عبد المؤمن يتقدم اليهم بالاوامر على لسان المهدي حتى ركنوا اليه فأعلنوا بيعته للعامة سنة 26 واختاروه لغربته فيهم فهو أقرب الى العدل. حكى ابن أبي زرع انه لما مات المهدي تشوق كل واحد من العشرة الى الخلافة، وكانوا من قبائل شتى، فتنافسوا وتحاسدوا ثم تآمروا. وخافوا افتراق الكلمة فاتفقوا على عبد المؤمن لكونه غريبا بينهم مع ما كانوا يرونه من ميل المهدي اليه اهـ. أخذ عبد المؤمن في فتح المغرب. ففتحه في ثلاث كرات: الاولى فتح فيها مغرب المرابطين وأقام محاربا لهم سبع سنوات ومسكنه الجبال وطاولهم هذه المدة كلها ليحفط بها قوة رجاله ويضعف الدولة بكثرة النفقات وقلة ما تقبضه من المغارم حتى تختل طاعة الجند وتسأم الرعية، وذلك ما وقع.

الثانية فتح فيها بجاية. ولم يعلن عليها الحرب ولا طاولها بل إستعان عليها بالدسائس ولم يتريث في السير اليها، ولولا ذلك ما نحج في فتحها ذلك النجاح. الثالثة فتح فيها المهدية استعد لفتحها ثلاث سنوات حفر فيها الآبار على طول الطريق وأمر بحفظ الزرع في سنابله وخرج اليها في صفر سنة 54 في جيوش جرارة واساطيل محاذية له بحرا، وسار سيرا في غاية النظام وكمال العدة. ولم يسرع في سيره فبلغ تونس أواخر جمادى الثانية، فاحتلها وتقدم الى المهدية، فحاصرها حتى فتحها بوم عاشوراء سنة 555 وانما سلك في فتحه المهدية غير مسلكيه في فتح بجاية وحرب المرابطين لانه ليس بافريقية يومئذ دولة فاشتد أذى النرمان للمسلمين. ووفد عليه جمع منهم بمراكش يستنصرونه، فوعدهم النصرة ولكن تريث في تنفيذ وعده كي تقوى في الناس الغيرة الدينية بما يتكرر عليهم من معرات العدو ويستيقنوا أن لا ناصر لهم غير عبد المؤمن فلا يعترضون سبيله يوما ما، ولكي يجمع هو قوته فيدهش بها القبائل التى يمر بها عربية وبربرية فلا تحدث نفسها بالثورة عليه. وذلك ما وقع، فقد كان الناس ينضمون الى جيشه حيثما حل ففي كل مرحلة يزداد جمعه، وما فتح المهدية وطرد النرمان حتى أتاه رؤساء المدن طائعين. وهكذا تم لعبد المؤمن فتح المغرب. ودخلت في طاعته جزيرة الاندلس فكانت مملكته تنتهي شرقا الى التراب المصري شرقي طرابلس حيث سويقه بني مضكود، وغربا الى البحر المحيط، وجنوبا الى الصحراء وشمالا الى البحر الابيض وتجاوزه الى الاندلس فشملها من الجزائر الشرقية الى أشبونة. وقد استعد عبد المؤمن لاخراج الامر من المصامدة الى قبيلته

وبنيه فجمع ثلات الاف ولد كأنهم أبناء ليلة واحدة جمعهم من المصادمة وغيرهم. وأخذهم يحفظ كتاب الله وحفظ الموطأ وكتاب ابن تومرت ورباهم على ركوب الخيل والرمي والسباحة ببحيرة صنعها خارج بستانه بمراكش. وكانت نفقتهم وخيلهم من عنده. فلما أكمل تأديبهم على ما اراد عزل بهم أشياخ الموحدين. وقال لهم العلماء أولى منكم. فسلموا لهم الامر. وظهر من أبنائه ثلاثة عشر ولدا على تلك الصفات. فأشار عليه أشياخ الموحدين بتقديمهم للاعمال. فتظاهر بالامتناع حتى ألحوا عليه فولاهم على الاقاليم. وذلك سنة 549 وفيها عهد بالامر من بعده لابنه محمد بعد ما دس الى رؤساء من العرب كان قد أحسن اليهم ان يطلبوا منه ولاية العهد لاحد أبنائه. وكان ولي عهده أبا حفص عمر الهنتاني جد الحفصيين. فلما طلبوا منه ذلك أنكر عليهم. وشعر ابو حفص بسر القضية. فخشي على نفسه وخلعها من ولاية العهد. وفيها ثار عليه عبد العزيز وعيسى اخوا المهدي لما رأياه من تقديم أبنائه. وكان هو بسلا وهما بفاس. فلحقا بمراكش. ودخلاها وقتلا نائبه بها. فارسل أثرهما وتوجه نحو مراكش. فقتلا وقتل كل من شاركهم في الثورة. وفي سنة 557 قدم على عبد المؤمن قومه كومية في أربعين الف فارس. وكان هو الذي استقدمهم تم تجاهل سبب قدومهم تسكينا للمصامدة وتمويها عليهم وقرب موته عزل ابنه محمدا من ولاية العهد. وجملها لابنه يوسف فلها مات لم يبايع يوسف ابو حفص الهنتاني الى سنة 563 ويومئذ تلقب يوسف بأمير المؤمنين لما تم له الامر بمبايعة أبي حفص. وهكذا تأسست دولة الموحدين واخرج عبد المؤمن الامر من شيوخ مصمودة الى ابنائه وكانت عاصمتهم مراكش ولم يعرف المغرب

3 - الحكومة الموحدية المؤمنية

قبل عبد المؤمن وبنيه ولا بعدهم دولة أحسن ادارة ولا أرقى معارف وحضارة من دولتهم. 3 - الحكومة الموحدية المؤمنية الدولة الموحدية المؤمنية مستقلة استقلالا تاما. وهي أول دولة بربرية غير خارجية ادعت الخلافة. وكانت أهلا لها اذ لم يكن بنو العباس ولا بنو عبيد يومئذ شيئا مذكورا. وتوسلوا لها من حيث النسب بدعوى ابن تومرت النسب في آل البيت وانتساب عبد المؤمن الى قيس بن مضر وتعلقه بآل البيت من جهة بعض جداته. وحكومتها مقيدة بالكتاب والسنة من غير انتماء الى مذهب خاص. ورئيسها خليفة يدعى أمير المؤمنين ومنهم من تلقب بالالقاب كالمنصور والناصر. وكان الخليفة يعين بالعهد اليه من سلفه. ثم سار أيام انحطاط الدولة يدعي الخلافة دعوى ويتغلب عليها بالقوة. ولكنها انحصرت في بني عبد المؤمن على كل حال. ويساعد الخليفة ولاة بالاعمال الواسعة ووزراء مختلفو النفوذ وكتاب متفاوتو الدرجات حسب مهماتهم وللخليفة وولاته مجالس شورية يلقب أهلها الشيوخ من أهل العلم والدين ولا يكونون من غير الموحدين. وقد أخذت الحكومة أنظمتها الادارية من دولتي صنهاجة وزادتها اتقانا ودقة. والقضاء يختار له العلماء المجتهدون وأماثل المقلدين للامامين مالك والشافعي وهو مستقل عن الادارة. والناس أمامه سواء لا فرق بين أمير وسوقة. والمالية تجمع من الزكوات وخراج الاراضي الدولية واخماس الغنائم ليس فيها مكس ولا جور قال ابن ابي زرع:

" أمر عبد المؤمن بعد فتح المهدية بتكسير الارض فكسرت من برقة الى نول من بلاد السوس الاقصى بالفراسخ والاميال طولا وعرضا فاسقط من التكسبر الثلث في الجبال والشعراء والانهار والسباخ والطرقات والخروق. وقسط الخراج على ما بقي وألزم كل قبيلة قسطها من الزرع والورق. وهو أول من أحدث ذلك في المغرب" اهـ. وكانت المالية وافية بمارف الدولة من انشاء البنايات العامة كدور الحكومة والمساجد والقناطر والمستشفيات، ومن عطاء الجنود والموظفين وجوائز الشعراء والعلماء. وللحكومة جيش من الموحدين ومرتزقة العرب والبربر عدا ما هو مفروض على القبائل من الجنود، ويبلغ ايام الحرب اربعمائة ألف فارس عدا المشاة، وبلغ جيش الناصر الذي خرج به الى الاندلس مليون من الفرسان والمشاة من سائر الاقسام العسكرية غير المرتزقة. ولها أسطول ورثته من صنهاجة وزادت فيه وعنيت بصنع الاسلحة والمجانيق والرعادات وانشأ عبد المؤمن سنة 557 اربعمائة قطعة فرقها على سواحل المغرب والاندلس. وكان يضرب له كل يوم عشرة قناطير من السهام. وللجيش طبول ورايات. فاذا أريد النفير ضرب كبر مستدير الشكل دوره خمس عشرة ذراعا من خشب أخضر اللون مذهب. يضرب فيه ثلاث ضربات فيرتحل الناس. يسمع على مسيرة نصف يوم من مكان مرتفع. يتقدم الامير نحو مائة فارس ويأتي وراءه مدبرو دولته ثم بقية الناس حسب مراتبهم. ويصحب الجيش الصناع وأصحاب الحرف وكل ما يحتاج اليه في السفر حتى كانهم مقيمون. ومرتبة الموحدين في الجيش ومناصب الحكومة أعلى الرتب.

وهم أنفسهم درجات لا يتعدى صنف مرتبته سفرا وحضرا. وذكر صاحب المعجب القبائل التي تلقب بالموحدين ورتبهم حسب درجاتهم هكذا: هرغة ثم كومية ثم أهل تينمل ثم هنتاتة ثم قنقيسة ثم قدميوة ثم من استجاب للموحدين من قبائل صنهاجة ثم بعض بطون هسكورة، قال: " فهذه جملة قبائل الموحدين المستحقين لهذا الاسم عندهم والذين يأخذون العطاء وتجمعهم الجيوش وينفرون في البعوث. وغير هؤلاء القبائل من المصامدة رعية" اهـ. وانما خصت هذه القبائل باسم الموحدين لكونها لبت الدعوة قبل فتح مراكش، ورتبوا في الدرجات حسب ترتبهم في اجابة الدعوة. وكانت الحكومة حافظة لممالكها حامية لثغورها تعاهد من سالمها وتحارب من حاربها لا تنقض عهدا ولا تخلف وعدا، ارتبطت مع جمهورية جنوة بمعاهدة تجارية، واختلف حالها مع ملوك المسيحية بالاندلس سلما وحربا، يعاهدونها اذا ضعفوا وان وجدوا فرصة نقضوا العهد، وكانت مسالمة لاصحاب صقلية، قال صاحب المعجب: "كان صاحب صقلية يؤدي اتاوة لابي يعقوب، واتصلت اليه منه ذخائر لم يكن عند ملك مثلها " اهـ. وكانت الحالة الداخلية على غاية من الاطمئنان، فكثرت الاموال وتأمنت الطرق وصلح أمر الناس في البادية والحاضرة وعم الامن والرخاء وكانت الظعينة تخرج من بلاد نول الى برقة وحدها لا ترى في سفرها ما يؤذيها، كل هذا بعدل بني عبد المؤمن وحسن سياستهم. وبعد الناصر ولي ابنه المنتصر صبيا، فتحكم في الدولة الحاشية،

4 - عبد المؤمن وبنوه

واختلت الدولة حتى ظهرت زناتة على مرسح السياسة وطمع الحفصيون في عرش بني عبد المؤمن، فتغيرت الاحوال بما أدى الى سقوط هذه الدولة. وكانت للدولة سكتها دنانير ودراهم وانصاف درهم وارباعه واثمانه والخراريب، والدرهم المؤمني نصف درهم الزكاة، وكان مربعا، يكتب على السكة اسم المهدي حتى ولي المأمون بن المنصور ودخل مراكش سنة 627 فدور الدرهم وقطع منه اسم المهدي. 4 - عبد المؤمن وبنوه كان عبد المؤمن وبنوه أهل علم وأدب ولهم عناية بالجهاد. قد صرفوا قواهم لحماية الاندلس حتى ان المنصور لما حضرته الوفاة جمع بنيه والموحدين وقال لهم: "اوصيكم بالايتام واليتيمة؟ قيل له وما الايتام واليتيمة؟ قال اليتيمة الاندلس والايتام أهلها. انه ليس في نفوسنا شيء أعظم من همها، ولو مد الله في أجلنا لم نتوان في جهاد كفارها حتى نعيدها دار اسلام. فاياكم والغفلة عما يصلحها من تشييد اسوار وحماية ثور وتربية الاجناد وتوفير الرعية". وكانت العلامة السلطانية عندهم (الحمد لله وحده) يكتبها الخليفة بيده بخط غليظ في رأس الرسالة أو المنشور. وفي ذلك تقول حفصة الاندلسينة تخاطب عبد المؤمن: يا سيد الناس يا من … يؤمل الناس رفده امنن علي بطرس … يكون للدهر عده تخط يمناك فيه … (الحمد لله وحده) وكان بنو عبد المؤمن يعرفون بالسادة لا ينعت بالسيد لعهدهم سواهم.

ولد عبد المؤمن بقرية تاقرا من ساحل تلمسان على ثلاثة أميال من مرسي هنين سنة 487. وكان والده علي فخارا يعمل النوافيخ، وقيل كان قاضيا. وليس لقبيلته كومية شأن. ونشأ هو فقيرا طالبا للعلم فارتحل الى بجاية. فا تفق ان كان ابن تومرت قد أخرج منها الى ملالة، ووجد له ذكرا، فقصده. والفى بغيته لديه فصحبه واستفاد علمه ثم أستغل جهوده في تأسيس هذه الدولة. وكان عبد المؤمن أبيض مشربا بحمرة تام القد اجدع تبلغ وفرته شحمة أذنيه أكحل العينين ازج الحاجبين قويم الانف عريضه فصيحا فقيها جدليا اصوليا محدثا اماما في النحو والادب والقراءة ذاكرا للتاريخ وأيام الناس مشاركا في كثير من العلوم الدينية والدنيوية حازما سياسيا مقداما سري الهمة حسن السيرة سخيا مقربا لاهل العلم والادب منفقا لبضاعتهم. وتوفي عبد المؤمن وترك ستة عشر ذكرا وبنتين. فخلفه منهم ابو يعقوب يوسف. وسار بسيرة ابيه. وأجاز الى الاندلس مجاهدا. وتوفي بها شهيدا. وعني بالعمران وبناء القناطر والمساجد والمستشفيات. وكان له أطباء وفقهاء يجالسونه. وكان يشببه أباه خلقا وخلقا عاقلا ورعا مباشرا أمور المملكة بنفسه. وكان من كتابه أبو الفضل بن طاهر البجائي من أهل العلم والفضل والدين والتقى كان كاتبا بليغا مترسلا. وكتب بعده المنصور ثم الناصر. وترك أبو يعقوب ثمانية عشر ذكرا. خلفه منهم يعقوب المنصور. أقام العدل وارجع الولاة والعمال الى أحكام القضاة. وكانت له بالاندأس وقعة الأراك على النصارى سنة 194 وكان كأبيه وجده علما ودينا وسياسة كثير التواضع يشهد جنائز الفقهاء والصلحاء.

وترك من الذكور اربعة عشر. ولي الخلافة منهم ثلاثة الناصر والعادل والمأمون وخلفه منهم محمد الناصر أمه بنت أبي اسحق بن الخليفة عبد المؤمن، وفي أيامه عظم أمر ابن غانية بافريقية، فولي عليها أبا محمد عبد الواحد بن ابي حفص، وكان ذلك مبتدأ الدولة الحفصية، ثم كانت عليه واقعة العقاب بالاندلس سنة 609 وكان غليظ الحجاب لا تكاد تصله الامور، وذلك سبب ضعف الدولة. وعهد الى ابنه بوسف المنتصر، فخلفه وهو دون البلوغ، وقام بالدولة الحاشية من الموحدين، واوقعوا بني عبد المؤمن في فتنة التنافس على الملك وصاروا لهم كالاتراك لبني العباس، ولم يخرج المنتصر من مراكش حتى توفي. وقد ظهرت زناتة على مسرح السياسة. وخلفه أخو جده عبد الواحد بن يوسف بن عبد المؤمن، قدمه الموحدون على كراهية منه لكبر سنه وظهور الاستبداد على الخليفة، وكان صالحا فاضلا ورعا ولم يستقم له الامر غير شهرين، وقام عليه العادل ابن أخيه. فخلع وقتل، وكان أول مخلوع ومقتول في هذه الدولة. وأبو محمد عبد الله العادل هو ابن المنصور، تغلب على الخلافة ثم قتله الموحدون وبايعوا ابن أخيه يحي المعتصم ابن الناصر، واضطربت أموره لصغره واختلال الدولة، فانتقل الى تينملل سنة 26 فدخل عمه المأمون مراكش سنة 23 وبقي يحي بتينملل محاربا للمأمون وابنه الرشيد حتى قتل سنة 633. تغلب على مراكش ابو العلاء ادريس المأمون بن المنصور، وأعلن لعن المهدي، وقتل كثيرا من شيوخ الموحدين العابثين بالخلافة، وسعى في اصلاح الدولة، ولكن عاجلته المنية فمات ولم يحقق أمنيته.

وخلفه ابنه ابو محمد عبد الواحد الرشيد وهو في سن الرابعة عشرة. فكانت خلافته قوة لمنافسي دولته، ولما مات خلفه أخوه أبو الحسن علي الملقب بالسعيد وبالمعتصم، وكان بطلا مقداما بعيد الهمة، لكنه جاء بعد استفحال الداء، وقتل في حربه مع يغمراسن ابن زيان. وخلفه ابو حفص عمر المرتضى بن اسحق بن يوسف بن عبد المؤمن، وقتله ابن عبه ابو دبوس ادريس الواثق بن ابي عبد الله ابن عمر بن عبد المؤمن، واستولى مكانه حتى دخل عليه بنو مرين وقتلوه في المحرم سنة 668. وبه انقرض أمر بني عبد المؤمن رغم محاولتهم لارجاع سلطانهم، فقد فر الموحدون من مراكش الى جبل تينملل وبايعوا اسحق أخا المرتضى، فقبض عليه سنة 674 وجيء به الى يعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين، فقتل في جملة من ابنائه وذوي قرابته، وفي سنة 705 ظهر بافريقية عثمان بن ابي دبوس كان بطرابلس، فاستقدمه أحمد بن أبي الليل شيخ الكعوب من سليم، وبايعه واجلب به الى تونس، فقبض عليهما وأودعا السجن، وفي آخر سنة 748 بايع العرب أحمد بن عثمان بن ابي دبوس وكان خياطا بتوزر، واجلبوا به على تونس، ثم خذلوه سنة 49 وسلموه لابي الحسن المريني المستولي يومئذ على تونس فاعتقله. وانقطع أمل بني عبد المؤمن في احياء دولتهم.

عبد المؤمن وبنوه الخليفة … الولاية هـ … م عبد المؤمن بن علي … 524 … 1130 ابنه يوسف … 558 … 1163 ابنه يعقوب المنصور … 580 … 1184 ابنه محمد الناصر … 595 … 1199 ابنه يوسف المنتصر … 610 … 1213 عبد الواحد بن يوسف ابن عبد المؤمن … 620 … 1224 عبد الله العادل بن المنصور … 621 … 1224 يحي المعتصم ابن الناصر … 624 … 1227 ادريس المأمون ابن المنصور … 627 … 1230 ابنه عبد الواحد الرشيد … 630 … 1232 اخوه علي السعيد … 640 … 1242 عمر المرتضى بن اسحق … 646 … 1248 ادريس لواثق … 665 … 1266 سقوط الدولة … 668 … 1269 نقود الدولة المومنية 16 - نقود عبد المؤمن بن علي 17 - نقود يوسف بن عبد المؤمن ضرب ببجاية. 18 - نقود يعقوب المنصور 19 - نقود عمر المرتضى

5 - ولاة الجزائر المؤمنية

5 - ولاة الجزائر المؤمنية كانت الجزائر المؤمنية مقسمة الى ولايتين كبيرتين: ولاية تلمسان من ملوية غربا الى نهر مينة شرقا، وولاية بجاية الى حدود عمالة قسنطينة اليوم شرقا فقد ذكر صاحب المعجب من مدنها قالمة بلفظ قالم تحريفا. وفتحت مدينة الكاف في غزوة المهدية. فيظهر انها تابعة لولاية تونس وربما تبع الزاب ولاية تونس وكان للولاة وزراء وكتاب ومجالس شورى من شيوخ الموحدين. ولي تلمسان لما فتحت سليمان بن محمد وانودين الهنتاني وقيل عمه يوسف وولي بجاية لما فتحت طلبة من الموحدين، وفي سنة 49 بعث عبد المؤمن على تلمسان ابنه ابا حفص عمر واستوزر له ابا محمد عبد الحق بن وانودين، واستكتب له أبا الحسن عبد الملك ابن عياش القرطبي، وبحث على بجاية ابنه ابا محمد عبد الله واستوزر له أبا سعيد يخلف بن الحسن، واستكتب له أبا العباس بن مضاء. ولما ولي الخليفة يوسف امتنع من بيعته أخوه عبد الله ببجاية، ثم أتاه مبايعا سنة 59 فعفا عنه ووصله واحسن اليه، ثم مات. وفي سنة 61 ولى الخليفة يوسف أخاه زكرياء ببجاية، وأمره بتفقد أحوال افريقية ورفع مظالمها وقطع طغاتها، وتوفي بالطاعون في مراكش سنة 71. وفي سنة 76 ولى يوسف على بجاية أخاه ابا موسى عيسى، ثم ولى بعده ابن أخيه السيد أبا الربيع سليمان بن عبد الله بن عبد المؤمن، فلم يزل بها حتى استولى عليها علي بن غانية سنة 80 ثم ولي تلمسان. وفي سنة 555 استقدم عبد المؤمن ابنه ابا حفص من تلمسان، ثم استوزره أخوه يوسف، ومات سنة 75 وولي على تلمسان السيد

ابو عمران موسى بن عبد المؤمن سنة 56، ووفد على أخيه يوسف بمراكش هو وصاحب بجاية ابو زكرياء في وجوه أهل افريقية من العرب وغيرهم، وكان دخولهم مراكش سنة 64 فكان يوما مشهودا، ثم نهض الخليفة الى غزو الاندلس سنة 66 فاستخلف على مراكش أخاه ابا عمران وبها توفي بالطاعون سنة 71. ثم ولي تلمسان السيد أبو الحسن علي بن عمر بن عبد المؤمن، وقدم عليه أخوه أبو زيد من افريقية فارا من ابن غانية فتنبه لتحصين بلاده ورم أسوارها ثم عاد أبو زيد لحرب ابن غانية بأمر ابن عمه المنصور فخلص بجاية، ونزلها، ثم استقدمه المنصور منها، وولى مكانه أخاه السيد أبا عبد الله بن عمر. ثم خرج المنصور نفسه لحرب ابن غانية. وفي سنة 584 قفل المنصور الى مراكش، فعقد لأبي زيد على تونس ولاخيه ابي الحسن على بجاية. فأقام بها الى أيام الناصر، ولم يغن في دفاع ابن غانية، وكان مولعا بالادب والطرب، فعزل عنها. وله نفس عالية زكية وحكايات في الجود برمكية، ومن شعره قوله يخاطب المنصور في قضاء ديونه: وجوه الاماني بكم مسفره … وضاحكة لي مستبشرة ولي أمل فيكم صادق … قريب عسى الله ان يسره علي ديون وتصحيفها … وعندكم الجود والمغفره وولي تلمسان بعد انتقال أبي الحسن الى بجاية السيد ابو الربيع ابن عبد الله بن عبد المؤمن، وتوفي هو وابو الحسن سنة 604 فولى الناصر بتلمسان السيد ابا عمران موسى بن يوسف بن عبد

المؤمن سنة 605 وقتل في حرب ابن غانية، فولى الناصر مكانه ابا زيد ابن يوجان، وعزله المنتصر بابي سعيد بن المنصور. وممن ولي ببجاية بعد ابي الحسن ابن يغمور، فلما أفضى الامر الى العادل عزله بيحي بن الاطلس التينمللي، وفي سنة 624 بايع أهل الأندلس ادريس المأمون باشبيلية قال ابن خلدون: وبايعه صاحب تلمسان محمد بن ابي زيد بن يوجان وصاحب سبتة ابا موسى بن المنصور وصاحب بجاية ابن أخيه ابن الاطاس، وفي بعض نسخه ابن اخته ابن الاطامي. وفي سنة 27 خلع أبو زكرياء الحفصي طاعة المأمون فعقد المأمون على بجاية للسيد ابي عمران بن محمد بن يعقوب المنصور، وفي سنة 28 فتح ابو زكرياء قسنطينة وبجاية، واعتقل السيد ابا عمران، وثقفه بتونس، فانقرضت كلمة بني عبد المؤمن من عمل بجاية، وقامت بها دعوة الحفصيين. وكان المأمون قد ولي على تلمسان أخاه السيد ابا سعيد، وكان مغفلا ضعيف التدبير، ومعه الحسن بن حبون الكومي عاملا على الوطن، فغلب على ابي سعيد واغراه ببني عبد الواد. فقبض على طائفة من مشيختهم، وشفع فيهم ابراهيم ابن اسمعيل بن علان زعيم الجند اللمتوني بتلمسان، فردت شفاعته، فقام بدعوة ابن غانية، واغتال الحسن بن حبون وثقف السيد ابا سعيد، وسرح مشيخة بني عبد الواد. ونكروه فقتلوا ابراهيم ابن اسميل ودخلوا تلمسان بدعوة المأمون، واستمرت ولايتها في مشيختهم حتى استقل بها يغمراسن بن زيان. وهكذا خرجت الجزائر من يد السادة بني عبد المؤمن الى الحفصيين وبني عبد الواد، فكانت ولايتهم بها نحو ثمانين سنة.

6 - ثورة ابن غانية

6 - ثورة ابن غانية كان علي بن يحي المسوفي مقربا لدى يوسف بن تاشفين أمير المرابطين. فزوجه امرأة من أهل بيته تسمى غانية. فولدت له محمدا ويحي. وعقد علي بن يوسف لمحمد على الجزائر الشرقية سنة 520 فنزل ميورقة. ولما هلك خلفه ابنه اسحق. وسقطت أيامه دولة المرابطين. ووفدت عليه فلولهم. فاحسن اليهم. وغني بالغزو. واستمر على الدعاء لبني العباس. واغفل الموحدون شأنه. واستشهد سنة 579 وترك ابناء منهم علي خليفته من بعده ويحي. وفي ربيع الاخير من هذه السنة استشهد بالاندلس أمير الموحدين يوسف بن عبد المؤمن. هنالك أراد أبناء غانية احياء دولة المرابطين بالمغرب واعادة الدعوى العباسية اليه. واتفق معهم أهل بجاية من الحماديين وغيرهم على دلك. وظنوا كلمة الموحدين تختلف فيمن يخلف يوسف لكثرة ابناء عبد المؤمن ولعل في المصامدة من يدعو الى نفسه. وأمير الجزائر الشرقية من ابناء غانية يومئذ علي بن اسحق المعروف بالميورقي لكونه يقطن ميورقة. وما زال لفظ الميورقي معروفا لدى العوام ببعض جهاتنا الجنوبية الا انهم يقولون المورقي بحذف الياء. خرج علي بن اسحق من ميورقة في اثنتين وثلاثين قطعة ومعه بعض اخوته منهم يحي. وحمل اسطوله نحو مائتي فارس من الملثمين وأربعة آلاف راجل. فأرسى على بجاية يوم الجمعة من شعبان سنة 580 ودخلها وقت الصلاة من غير قتال. والناس آمنون. ووالي المدينة السيد سليمان بن عبد الله خارجها بايميلول. ولم يترك بها حامية للامن من طروق العدو. لما دخل علي بن اسحق قصد الجامع الاعظم وأدار به الخيل

والرجال. فمن بايعه خلى سبيله ومن أبى قتله. وألفى بها والي تونس السيد أبا موسى بن عبد المؤمن. فاعتقله. وكان والي القلعة قاصدا مراكش. فبلغه الخبر وهو بمتيجة. فعاد لمظاهرة السيد سليمان. وقصدا استرجاع بجاية. فاجتمع من الموحدين ثلاثماية فارس ومن العرب وقبائل تلك الجهات نحو ألف فارس. واجتمع الى الميورقي نحو ألف فارس. وتقابل الجمعان. فانخزل من كان مع الموحدين الى الميورقي. فانهزم السيد سليمان الى تلمسان. وغنم الميورقي أمواله وأبنيته. استألف علي بن اسحق العرب بالمالى، واستخلف اخوه يحي ببجاية وخرج لافتتاح ولايتها. ففتح الجزائر ومليانة ومازونة والقلعة. وتوجه الى قسنطينة فحاصرها وقطع الماء عن أهلها حتى أغاثهم الله بمطر غزير فكسر واديها سده. وبلغ المنصور بن يوسف خبر بجاية وهو قافل من الاندلس فارسل عسكرا في البر لنظر السيد أبي زيد بن عمر بن عبد المؤمن، وبعث الاساطيل في البحر يقودها أحمد الصقلي وعقد عليها لابي محمد ابن ابراهيم بن جامع، فاسترجعوا ما استولى عليه الميورقي من البلدان. ونزلوا على بجاية في صفر سنة 81 بجنود لا قبل ليحي بها، ففر ومن معه من الملثمين. ولحقوا بعلي وهو محاصر لقسنطينة. فكانت مدتهم ببجاية سبعة أشهر خطبوا فيها لبني العباس. وخطيبهم ابو محمد عبد الحق الاشبيلي الذائع الصيت. عسكر السيد أبو زيد بتبكلات من ظاهر بجاية واطلق عمه ابا موسى من معتقله. ثم رحل اثر ابن غانية. فأجلاه عن قسنطينة واتبعه الى نقاوس ومقرة، ودخل علي بن اسحق الصحراء. وملك قفصة واستقر بها، واستقر ابو زيد ببجاية.

ثم ظهر غزي الصنهاجي في جموع هن الملثمين والعرب وتغلب على أشير. فسرح اليهم السيد أبو زيد ابنه عمر ومعه غانم بن مردنيش فأوقع بجموع غزي وقتله ونصب رأسه ببجاية. وغرب أبو زيد بني حمدون الى سلا لاتهامهم بتأييد ابن غانية. ثم استقدم المنصور أبا زيد من بجاية. واجتمع الى ابن غانية بافريقية جموع العرب من رياح وغيرهم. وانضاف اليه قراقوش بمن هنالك من الاتراك. وبايعوا علي بن اسحق. ولقبوه أمير المسلمين فجدد رسوم الملك واتخذ الآلة. وأوفد الى بغداد ابنه وكاتبه عبد البر بن فرسان بالبيعة وطلب المدد. فأمر الخليفة عماله بمصر والشام بمدده. فعظم سلطان علي بن غانية واستولى على افريقية وانزل بأهلها وعمرانها بلاء لم ينزل بها أيام دخول الهلاليين ذكر تفصيله ابن الاثير وأهم المنصور أمره فخرج بجموعه الى افريقية سنة 83 وكانت بينه وبين ابن غانية وقائع غير فاصلة .. ثم عاد الى مراكش سنة 84 ومات في هذه السنة علي بن غانية بنفزاوة من ناحية الجريد. فخلفه أخوه يحي. ونقل الحرب الى المغرب بعد سنة 597. خرج من بجاية واليها السيد ابو الحسن في جيش عظيم للقاء يحي. قال صاحب المعجب: "لم أر للموحدين جيشا أضخم منه ولا أكثر سلاحا ولا أحسن عدة. وفيه من أعيانهم وشيوخهم جملة وافرة " اهـ. التقى الجمعان قرب قسنطينة من ناحية بجاية. فانهزم الموحدون الى بجاية في حال سيئة. وتوجه يحي الى بسكرة. فدخلها ومثل بأهلها. وسجن عاملها أبا الحسن بن أبي يعلى. ثم ملك تبسة. وبايعه أهل بونة. وعاد الى المهدية.

قوي أمر يحي الميورقي. وحاصر قسنطينة. فجهز له ابو الحسن عسكرا حفظها. فارتحل يحي الى حصار بجاية. وكان المدد يأتيه من ميورقة. كأجاز الناصر أساطيله اليها من مدينة الجزائر سنة 98 فاستولوا عليها سنة 99. وفي سنة 610 توجه الناصر نفسه الى افريقية. ولم يبق بها للموحدين غير قسنطينة وبجاية. فأجلى يحي الى جبل دمر واسترجع البلاد لطاعته. وعقد على افريقية لابي محمد بن ابي حفص سنة 603 وقفل الى مراكش، فخرج عليه يحي بوادي شلف في جيش عظيم من العرب وصنهاجة وزناتة قتقاتلا قتالا شديدا، ثم انهزم الميورقي، وشرق، فلقيه أبو محمد بن ابي حفص بنواحي تبسة، فهزمه أيضا الى الصحراء وذلك سنة 604. وبعدما استجمع يحي قواه نهض الى المغرب يغير ويسبي ويخرب حتى بلغ سجلماسة وتقدم الى المغرب الاوسط، فخرج اليه والى تلمسان السيد ابو عمران. وكان اللقاء على تاهرت. فقتل ابو عمران وغنم عسكره، وشرق يحي بالغنائم فاستنقذها منه والي تونس، وفتك به فتكا ذهب بقوته، فأخذت ثورته في الضعف، وذلك سنة 606. وفي سنة 18 توفي أبو محمد بن أبي حفص فولى مكانه السيد أبو العلاء ادريس بن يونس بن عبد المؤمن، وطارد يحي بن غانية، فلحق بالزاب ونزل بسكرة، فاتبعه ابو العلاء ابنه ابا زيد، فأجلاه عنها. انتقل يحي الى المغرب الاوسط وانقسمت زناتة عليه وعلى الموحدين فكانت بينهم وقائع، قتل في بعضها أمير مغراوة منديل بن عبد الرحمن بمتيجة سنة 622 ودخل يحي بعدها الجزائر، ولكن نجمه في أفول.

وفي سنة 24 كاقن والي تونس عبد الله بن أبي محمد بن أبي حفص فبلغه أن يحي بن غانية دخل بجاية عنوة، وتخطاها الى دلس وعاث في تلك النواحي فاخذ السير حتى دخل بجاية وسكن أحوالها، وسار الى متيجة فمليانة، فبلغه أن يحي قصد سجلماسة، فاناكفأ الى تونس. وفي سنة 25 تولى تونس أبو زكرياء أخو عبد الله المتقدم. وهو جد الملوك الحفصيين. فصرف عزمه لاستئصال حركة ابن غانية. فشرده عن الزاب وورقلة. وانزل الحامية باطراف البلاد. فلم يزل يحي شريدا الى ان هلك سنة 631 بوادي شلف وقيل بالزاب. دامت ثورة ابن غانية نصف قرن. ولم يجن الوطن منها غير الخراب. فقد خرب كثيرا من قصور الصحراء بوادي ريغ وغيره. وخربت تاهرت وقصر عجيسة وزرقة والخضراء وشلف ومتيجة وحمزة ومرسى الدجاج والجعبات والقلعة. ولقد كان بنو غانية يرومون احياء سلطانهم بالمغرب فلم ينجحوا لقوة الموحدين وجدهم. ولكن نتج عن ثورتهم تخريب كثير من المدن وشغل الموحدين عن موالاة الجهاد بالاندلس واضعاف دولة بني عبد المؤمن وظهور الحفصيين. وكان علي ويحي ابنا غانية آيتين في علو الهمة والاقدام على العظام والغناء في مواقف الحرب. وكان كاتبهما عباد البر بن فرسان الغساني مثلهما شجاعة واقداما. وهو أديب بارع. ومن شعره يخاطب يحي بن غانية. اجبنا ورمحي ناصري وحسامي … وعجزا وعزمي قائدي وامامي؟ ولي منك بطاش اليدين غضنفر … يحارب عن اشباله ويحاميى

7 - العرب في الدولة المؤمنية

ألاغنياني بالصهيل فانه … سماعي ورقراق الدماء مدامي! وحطا على الرمضاء رحلي فانها … مهادي وخفاق البنود خيامي! 7 - العرب في الدولة المؤمنية وجد العرب بغيتهم في الدولة الصنهاجية لضعفها. فلما قدم عبد المؤمن لفتع بجاية وفد عليه بالجزائر أميران منهم أحدهما أبو الخليل ابن كسلان أمير الاثبج وفي بعض نسخ ابن خلدون أبو الجليل بن شاكر. وثانيهما حباس بن مشيفر أمير جشم فتلقاهما بالمبرة وعقد لهما على قومهما. ومضى لفتح بجاية. ولما فتحها خشوا على حريتهم منه فحاربوه مع صنهاجة وقتلوا صهره عبد الله بن وانودين. ثم اجتمعوا بظاهر باجة، فوضعوا ما بينهم من ترات. ودعتهم المصلحة المشتركة الى الاتحاد على اخراج عبد المؤمن من البلاد قبل ان يرسخ نفوذه فيها وجمعوا نساءهم وأموالهم. وارتحلوا لحرب عبد المؤمن ليكون لقاؤهم أصدق وقدمهم في الميدان أثبت. وهؤلاء العرب هم الاثبج ورياح وزغبة وقرة. وأمير رياح يومئذ محرز بن زياد بن فادغ احدى بطون بني علي. ومن الامراء سواه جبارة بن كامل وحسن بن ثعلب وعيسى بن حسن. وأرسل اليهم رجار صاحب صقلية يحرض عليهم انجاده اياهم بخمسة آلاف فارس من النصارى. فأجابوه يشكرون له صنيعه وانهم في غنى عن نجدته اذ لا يستعان بكافر على مسلم. وبلغ عبد المؤمن خبرهم. وكان ببجاية على ما قال البيذق وهو شامد لهذا الفتح ووقائعه فخرج للقائهم عبد الله بن عبد المؤمن.

وأمده أبوه بالرجال فبلغ جيشه أكثر من ثلاثين ألف فارس. وانضاف اليهم من أمراء العرب ديفل بن ميمون. التقى الجمعان بناحية سطيف، قال البيذق سنة 46 وقال ابن الاثير في صفر سنة 48 فتاخر الموحدون حتى حل العرب ببن جبال. فمالوا عليهم وهم على غير أهبة. واشتد القتال ثلاثة أيام. ثم انهزم العرب في اليوم الرابع. وتبعهم الموحدون الى ناحية تبسة. قال ابن الاثير: "وترك العرب جميع ما لهم من أهل ومال وأثاث ونعم فقسم عبد المؤمن جميع الاموال على العسكر. وترك النساء والاولاد. ووكل بهم من يحفظهم ويقوم بحوائجهم. ولما وصلوا معه مراكش أنزلهم المساكن الفسيحة وأجرى لهم النفقات الواسعة. وأمر ابنه محمدا ان يكاتب أمراء العرب ويعلمهم أن نساءهم وأولادهم تحت الحفط والصيانة. وأنه قد بذل لهم الامان والكرامة. فوفدوا عليه بمراكش. ورد عليهم نساءهم وأولادهم وأعطاهم أموالا جزيلة. فاسترق قلوبهم بذلك. وأقاموا عنده. وكان بهم حفيا. واستعان بهم على ولاية ابنه محمد للعهد " اهـ. وقال البيدق: "ترك عبد المؤمن من غنائم العرب وسبيها بفاس ومكناسة وسلا. وحمل معه الى مراكش سلاطينهم وعيالهم. وهم ديفل بن ميموق وحباس بن الرومية وابن الزحامس وابن زيان وأبو قطرن وأبو عرفة والقائد بن معرف. ثم من عليهم ورد عليهم عيالهم وأعطاهم المال وصرفهم الى بلادهم. وذلك سنة 547 " اهـ. وأرى أن الامراء الذين نقلهم عبد المؤمن معه غير الذين كاتبهم جمعا بين الروايتين فان الواقعة عظيمة جدا لجمع كل من الفريقين قوته فيها. فلا يستوفيها ابن الاثير- وان كان مؤرخا بصيرا- لبعده عنها ولا يستوفيها البيذق- وان كان حاضرا- لغفلته.

ولما عاد عبد المؤمن الى المشرق وفتح المهدية أحضر أمراء العرب واحلفهم في مصحف عثمان (رض) على السمع والطاعة والسير معه للجهاد بالاندلس. واستصحب منهم في عوده فلما قرب من وهران طلبه عرب افريقية في الرجوع الى حللهم. فاسعفهم. ونقل منهم الى المغرب الفا من كل قبيلة بعيالاتهم. وكانت نيته اخلاء افريقية من العرب ونقلهم الى المغرب والاندلس ليبعدهم عن الصحراء ويقربهم من عاصمته ويشغلهم بالجهاد. وفي سنة 58 خرج عبد المؤمن من مراكش يريد الجواز الى الاندلس. فندب عرب بجاية الى الجهاد برسالة ختمها بأبيات من نظمه وهي: أقيموا الى العلياء هوج الرواحل … وقودوا الى الهيجاء جرد الصواهل وقوموا لنصر الدين قومة ثائر … وشدوا على الاعداء شدة صائل فما العز الا ظهر أجرد سابح … يفوت الصبا في شدة المتواصل وابيض ما ثاور كان فرنده … على الماء منسوج وليس بسائل بني العم من عليا هلال بن عامر … وما جمعت من باسل وابن باسل تعالوا فقد شدت الى الغزو نية … عواقبها منصورة بالاوائل هي الغزوة الغراء والموعد الذي … تنجز من بعد المدى المتطاول بها يفتح الدنيا بها يبلغ المنى … بها ينصف التحقيق من كل باطل أهبنا بكم للخير والله حسبنا … وحسبكم والله أعدل عادل فما هبنا الاصلاح جميعكم … وتسريحكم في ظل أخضر هاطل وتسويغكم نعمى ترف ظلالها … عليكم بخير عاجل غير آجل فلا تتوانوا فالبدار عنيمة … وللمدلج الساري صفاء المناهل قال صاحب المعجب: "فاستجاب له منهم جمع ضخم فانزل بعضهم نواحي قرطبة وبعضهم نواحي أشبيلية. وأقاموا هنالك.

وزاد فيهم ابو يعقوب وابو يوسف فكثروا. وانتشر من نسلهم في تلك المواضع خلق كثير. وعددهم الآن وهو سنة 621 نحو خمسة آلاف فارس سوى الرجالة. وهم من زغبة ورياح وجشم وغيرهم" اهـ. وفي سنة 77 وفد على يوسف بمراكش أمير رياح أبو سرحان مسعود بن سلطان في جيش عظيم من وجوه قومه برسم الخدمة. وظهر ببعض نواحي افريقية مفسدون من العرب. فخرج اليهم والي تونس السيد أبو موسى بن عبد المؤمن في الجند وأولياء الدولة من العرب وغيرهم. فانهزم جيشه. وأسره العرب. وتفاوض معه أبو يعقوب أمير المؤمنين في فدائه. فتقرر الفداء بستة وثلاثين ألف مثقال. ورأى أبو يعقوب ان هذا المال مما يقويهم على فسادهم. فضربوا لهم دنانير من الصفر مموهة. وخرج أبو موسى من أسرهم. وتوجه الى مراكش. فلما كان ببجاية دخلها ابن غانية وأسره أيضا. ولما كانت ثورة ابن غانية إنضم اليها جشم ورياح وجمهور الاثبج. وانحازت زغبة الى الموحدين. ودافعت ابن غانية عن المغرب الاوسط، فاقطع الموحدون بني يزيد منهم أرض حمزة. واستظهروا بهم على صنهاجة وزواوة. ثم دفعوهم لاقتضاء جباية تلك النواحي. ولما خرج المنصور الى افريقية راجعت طاعته جشم ورياح وبعض القبائل. فنقل منهم الى المغرب قبائل رياح وجشم وقرة والعاصم ومقدم. وبقيت احياء من رياح أميرهم عساكر ابن سلطان الذوادي لما بلاه المنصور من حسن طاعتهم. وحوالي سنة 90 فر من المغرب أمير رياح مسعود ابن سلطان الذوادي الملقب بالبلط لشدته وصلابته. ولحق بافريقية. واجتمع

8 - البربر في الدولة المؤمنية

اليه بنو اخيه عساكر. ووصل يده بابن غانية. ثم هلك فخلفه ابنه محمد. وكان رئيسا عظيما. فلم يزل يجلب مع ابن غانية على الموحدين. وقتل ابنه عبد الله سنة 660 في بعض المعارك وابن عمه حركات بن ابي الشيخ ابن عساكر وأمير من قرة. وإجتمع الى محمد ابن مسعود طواعن من الضحاك ولطيف. وصار يتقلب بجموعه ما بين القيروان والجريد الى الزاب والحضنة. حتى هلك يحي بن غانية. واستغلظ سلطان الحفصيين. 8 - البربر في الدولة المؤمنية قضى الموحدون على صنهاجة. وحاولت الثورة عليهم واتحدت مع ابن غانية. ولكنها لم تفلح. ويظهر أن كتامة ايدتهم. فان قسنطينة هي المدينة الوحيدة التي لم يحتلها ابن غانية. ولم نعلم انه جاوزها شمالا الى نواحي ميلة، وكان أولاد علاوة بن سواق رؤساء سدويكش موالين للموحدين، وكان أبو بكر جد بني ثابت من بني تليلان هو الذي فرض المغرم للموحدين على أهله بجبلهم المعترض ما بين القل وقسنطينة، ولم يزل بنو تليلان وسدويكش على ولائهم حتى أفضى الامر الى الحفصيين. وولهاصة المغرب اندرجت في كومية وولهاصة عنابة ربما كان منها بعض الخلاف، فقد اعترضت سنة 623 أبا زكرياء مؤسس الدولة الحفصية وهو ذاهب الى تونس، وجهه أخوه عبد الله أمامه لما وليها، فأوقع بهم. وهوارة تبسة كان لها شأن في ثورة ابن غانية وأميرهم يومئذ حناش بن ونيفن، وأوقع بهم سنة 624 والي تونس عبد الله بن عبد الواحد بن ابي حفص بفحص ابة. واعتقل مشائخهم، وانفذهم الى المهدية.

وكان بنو ومانو هم السابقين الى عبد المؤمن ثم وفد عليه بعد واقعة منداس وهو محاصر لوهران سيد الناس بن أمير الناس الشيخ بني يلومي وحمامة بن مطهر شيخ بني عبد الواد وعطية الحيو بن مناد ابن العباس بن دافلئن المنكوشي شيخ بني توجين، ثم خالف بنو يلومي. وتحصنوا بالجعبات، فأخضعتهم العساكر. ونقلوا منهم الى المغرب، وهلك سيد الناس بمراكش ايام عبد المؤمن، ثم هلك بنو ماخوخ، فضعف أمر بني ومانو وبني يلومي، واستعلى عليهم بنو توجين وبنو عبد الواد، فتفرقوا أوزاعا في زناتة. ومغراوة شلف من ورسيفان وغيرهم استقاموا على الطاعة. وذهب ملك اخوالهم بني خزرون ين فلفول من طرابلس سنة 540 فلحق بهم عبد الصمد بن محمد بن خليفة بن ورابن سعيد بن خزرون ابن فلفول، وتزوج منهم وكثر ولده، وعرف حافده ابو ناس بن عبد الصمد بن وارجيع بن عبد الصمد بالعبادة والفضل، فتزوج من بنات ماخوخ وولدت له عبد الرحمن، فكان أجل اخوته بنسبه وخؤولته، وسودته مغراوة. فكان السادة من بني عبد المؤمن يمرون به في ذهابهم الى افريقية وايابهم منها، فيحسن خدمتهم في مقامهم لديه، وينقلبون بالثناء عليه، فنال صيتا عند الخلفاء، واسلم له بعض السادة منهم ذخيرة وظهرا، فاكتسب ثروة. واستركب من قومه واستكثر من عصابته. ولما هلك خلفه ابنه منديل وحافظ على ولاء بني عبد المؤمن وحضر معهم غزوة الاراك سنة 591 واخضع لهم وانشريس ولمدية. واجلب على متيجة. ولقي بها يحي بن غانية. فانهنرمت عنه مغراوة. وقتل هو صبرا سنة 622 وصلب شلوه بالجزائر. وترك ابناء خلفه أكبرهم العباس، وظهرت ايامه دولة الحفصيين. فأخذ بدعوتها منافسة لبني عبد الواد.

وبنو توجين صدقوا في ولاء الدولة، وكانت بين شيخهم عطية الحيو وشيخ عبد الواد عدوى بن يكنمن من بني القاسم حروب شداد، واستمرت بين القبيلتين الى ما بعد سقوط الدولة المؤمنية. ولما هلك عطية خلفه ابنه العباس وكان دليل المنصور الى تلمسان في قفوله الى مراكش سنة 584، واجلب بقومه على ضواحي المغرب الاوسط. ثم نقض طاعة الموحدين فدس عليه والي تلمسان أبو زيد ابن يوجان من اغتاله سنة 607 فخلفه ابنه عبد القوي، وكان قد حضر ببني توجين وقعة الأراك ولما ظهرت دولة الحفصيين أخذ بدعوتها مشاقة لبني عبد الواد. وبنو راشد كانوا أحلافا لبني عبد الواد يوالون من والاهم ويعادون من عادوهم، ورئاستهم في بني عمران منهم لابراهيم بن عمران، وخالف عليه أخوه ونزمار الى أن هلك فخلفه ابنه مقاتل، فقتل عمه ابراهيم، وخلف ابراهيم ابنه ونزمار، وكان معاصرا ليغمراسن ابن زيان، وطال عمره الى أن هلك سنة 690. وبنو عبد الواد كانوا أصدق زناتة ولاء للموحدين، ورئاستهم في بني القاسم، فكان منهم لعهد عبد المؤمن عدوي بن يكنيمن وعبد الحق بن منغفاد بفتحتين فسكون وحمامة بن مطهر. واقطعم الموحدون جزاء اخلاصهم بلاد بني ومانو وبني يلومي، وحدثت الفتنة بين بني طاع الله وبني كمي من بطونهم، فقتل كندوز من بني كمي زيان بن ثابت كبير بني طاع الله، فخلفه ابن عمه جابر بن يوسف، وقتله كندوز في بعض حروبهم، وبعث برأسه الى يغراسن ابن زيان القتيل فلحق عبد الله بن كندوز في قومه بتونس أيام أبي زكرياء الحفصي. وكان جابر ابن يوسف قد حضر ببني عبد الواد وقعة الاراك،

وفي أيام المأمون ابتدأ خلاف بني عبد الواد، فقد كان والي تلمسان السيد أبا سعيد عثمان فاغراه عامله الحسن بن حبون الكومي ببني عبد الواد لما رآه من تغلبهم على الضاحية، فاعتقل مشيختهم، وسعي في خلاصهم ابراهيم بن اسماعيل بن علان زعيم الجند من لمتونة بتلمسان، فاغتال الحسن بن حبوف وأطلق مشيخة بني عبد الواد ثم بدا له في الفتك بهم فدعاهم لحضور وليمة، وفطن لقصده جابر بن يوسف، ففتك به، ودخل المدينة بدعوة المأمون، فكتب له المأمون بولايتها، ثم خرج لاخضاع ندرومة، فقتل في حصارها سنة 229 فخلفه ابنه الحسن ستة أشهر، وتخلى لعمه عثمان ابن يوسف، ولم يحسن السيرة فاخرجته الرعية سنة 34 وقدموا مكانه ابن عمه ابا عزة زكران بن زيان ومنهم من يسميه زيدان، فشاقه بنو مطهر وأحلافهم بنو راشد، فكانت بينهم حروب هلك فيها أبو عزة سنة 33 فخلفه أخوه يغمراسن ابن زيان، ولم بزالوا آخذين بدعوة بني عبد المؤمن حتى أساء منهم السعيد الظن يغمراسن فنهض لحربه سنة 45 فقنله يغمراسن واستقل بالامر واورث بنيه دولة عظمى. وبنو مرين كانوا معادين للموحدين، ففروا بعد واقعة منداس الى الصحراء وبلغ اميرهم المخضب بن عسكر خروج الغنائم من تلمسان الى تينملل سنة 545 فنهض لاخذها في خمسمائة فارس من قومه، فاستنجد عبد المؤمن أولياءه من زناتة. وكتب الى عبد الحق ابن منغفاد، فخرج في خمسمائة فارس من قومه. ولقي بني مرين بفحص مسون، وقد احتازوا الغنائم، فاستنقذها منهم، وقتل المخضب. ورأس مرين بعد المخضب ابو بكر بن حمامة، وتوفي سنة 561 فخلفه ابنه محيو. وحضر بقومه وقعة الاراك فجرح بها ومات بالزاب في صفر سنة 92 فخلفه ابنه عبد الحق ودخل بقومه المغرب سنة 610

9 - المسيحية والاسرائلية

على حين ضعف بني عبد المؤمن فحاربهم هو وبنوه حتى استولوا على مراكش وأسسوا الدولة المرينية. وهكذا قضى عبد المؤمن وبنوه على صنهاجة وأحيوا زناتة. فكانت هي القاضية عليهم ولا ايثار بالمعالي. 9 - المسيحية والاسرائلية كان المسيحيون والاسرائليون بالمغرب من عناصر أجنبية عنه ومن بقي من البربر بعد الاسلام متمسكا باحدى الديانتين تنوسي أصله وصار معدودا من الاجانب. وكانوا يتمتعون بحرية واسعة حتى ظهرت دولة الموحدين. وكانت الحروب الصليبية يومئذ بالمشرق قائمة على ساق وادعى الموحدون الخلافة. فلعل عبد املؤمن رأى أن يجعل المغرب كجزيرة االعرب لا يجتمع فيه دينان حفظا لمركز الخافة من الدسائس الاجنبية. قال القفطي في كتابه أخبار العلماء باخبار الحكماء: "نادى عبد المؤمن في ممالكه باخراج اليهود والنصارى. وقدر لهم مدة. ومن أسلم فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم ومن بقي على ملته ولم يخرج بعد الاجل فهو في حكم السلطان مستهلك النفس والمال فخرج المخفون وبقي من ثقل ظهره وشح بأهله وماله. فاسر الكفر وأظهر الاسلام والتزم شعاره وجزئياته من صلاة وقراءة" اهـ. قال ذوماس: "وبتوالي الايام اندمج المسيحيون في عموم جيرانهم المسلمين " اهـ. ويظهر أن اليهود لكثرتهم لم يدمجوا في غيرهم. وكان أبو يوسف المنصور يقول: "لو صح عندي اسلامهم

لتركتهم يختلطون بالمسلمين في أنكحتهم وسائر أمورهم. ولو صح عندي كفرهم لقنلت رجالهم وسبيت ذراريهم وجعلت أموالهم فيأ للمسلمين ولكني متردد في أمرهم. ولم تنعقد عندنا ذمة ليهودي ولا نصراني، منذ قام أمر المصامدة، ولا في جميع بلاد المسلمين بالمغرب بيعة ولا كنيسة. انما اليهود عندنا يظهرون الاسلام ويصلون في المساجد ويقرئون أولادهم القرآن جارين على ملتنا وسنتنا، والله أعلم بما تكنه صدورهم وتحويه بيوتهم " اهـ. نقله صاحب المعجب. وقال: "وفي آخر أيام ابي يوسف أمر أن يتميز يهود المغرب بلباس يختصون به. وذلك ثياب كحلية واكمام مفرطة السعة تصل الى قريب من أقدامهم، وبدلا من العمائم كلوتات على أشنع صورة كأنها البراديع تبلغ الى تحت آذانهم فشاع هذا الزي في جميع يهود المغرب ولم يزالوا كذلك لى أن غيره أبو عبد الله الناصر بعد أن توسلوا اليه بكل وسيلة واستشفعوا بكل من يظنون ان شفاعته تنفعهم فأمرهم أبو عبد الله بلبسان ثياب صفر وعمائم صفر، فهم على هذا الزي الى وقتنا هذا وهو سنة 621 " اهـ. وقد صار الحفصيون يميزون ايضا اليهود بلباس ويسمونه الشكلة، ولم يعد المسيحيون الى المغرب حتى بايع أهل مراكش المأمون وهو باشبيلية سنة 624 فلما توجه الى العاصمة بلغه أنهم نكثوا بيعته فاستعان بالمسيحيين، وجلبهم من الاندلس. وشرط لهم حرية دينهم وأن يبني لهم كنيسة بمراكش نفسها. قال ذوماس: "وفي أيام ابناء المنصور كان رجال الطرق الكاثوليكية أمثال الفرنسيسكان والدومنيكان يتجولون في المغرب بكل حرية ويعاملون معاملة حسنة ويغشون مجتمعات التجار الاوربيين

10 - الاقتصاد والعمران والحضارة

ويؤدون هناك وظائفهم الدينية من عقد نكاح ووعظ ويزورون أسرى المسيحيين ويحملون لهم الاعانات وعبارات التسلية وربما اضطروا لاتباع زي أهل البلاد فسمح لهم البابا هنوريوس الثالث سنة 626 (1229 م) بتغيير لباسهم واطالة لحاهم ما داموا في المغرب (وكانت عادتهم حلق اللحي والشوارب) وارسل من جاء بعد هنوريوس من البابوات رسائل الشكر لأمراء الموحدين على حسن معاملتهم للمسيحيين الذين كثر عددهم حتى وضع على رأسههم قس من رتبة افيك سنة 630 (1233 م) اهـ كلامه. 10 - الاقتصاد والعمران والحضارة لم تعرف الجزائر في حياتها ايام أمن وعدل كأيام عبد المؤمن وبنيه فنشطت لذلك الحركة الاقتصادية الداخلية، وربط العرب بقوافلهم التجارية بين الجهات الشمالية والجنوبية وقوي اتصال المغرب بالمشرق تجاريا برا وبحرا ونظمت التجارة الاروبية مع المغرب تنظيما دوليا وكانت في الدرجة الثانية بالنسبة لتجارة المشرق. عقد عبد المؤمن معاهدة تجارية مع دول أوربا وكانت جمهورية جنوة انشطها تجارة فعقدت مع عبد المؤمن معاهدتها التجارية سنة 548 (1153 م) ثم أوفدت سنة 555 (1160 م) قنصلها أطوبون من أسرة كاملة الشهيرة فقابله عمال عبد المؤمن بالاجلال أينما حل حتى قابل عبد المؤمن وأمضى معه معاهدة تضمن حرية التجارة لرعايا جنوة برا وبحرا على أن يأخذ عن البضائع الواردة الى بجاية العشر والواردة الى غيرها ثمانية من مائة. وأسست جنوة اثر هذه المعاهدة شركات خاصة للتجارة بالمغرب. وكان ببجاية قناصل للدول التجارية لحفظ حقوق رعايا دولتهم

ـ[صورة زخرفة البوابة]ـ

وكاتب خاص لضبط حساب تجار دولته وتقديمه للديوانة المؤمنية. ومراسي الجزائر الجارية العظمى يومئذ هي هنين مرسى تلمسان وطريقها الى الاندلس خربها شرلكان. ويليها شرقا المرسى الكبير فوهران فارزيو فمزغران فمستغانم فتنس فشرشال فالجزائر فبجاية فجيجل فالقل فاستورة قرب السكيكدة فبونة. وكان تجار أروبا يستوردون من المغرب الزيت والصوف والشب وريش النعام والأدم ومواد الدباغة النباتية والشمع والزبيب وسائر الفواكه الجافة ويصدرون إليه الملف وسائر الاقمشة والذهب والفضة والنحاس وسائر لملعادن قطعا ومصنوعة أواني وأدوات منزلية كالمرجل والابر والسكين والناس اليوم من قبيلتنا وجيرانهم يسمون السكين "الجنوي". ولكي تتصور ما بلغته الثروة الجزائرية اجمالا استحضر ان دولتها المؤمنية كانت لا تعرف جورا ولا يدخل خزينتها إلا مال الزكوات وخراج الارضين وما تفرضه على السلع الاجنبية ومع ذلك كانت ماليتها وافية بشؤونها ولم يشك جنودها نقصا في المرتب أو تأخرا في قبضه على كثرتهم وانتصابهم في سائر المدن حاميات وانتقالهم حينا فحينا الى الاندلس مجاهدين أو الى افريقية للثورات مسكنين. ولقد حافظت الدولة المؤمنية على ما قبلها من عمران وحضارة واربت على من تقدمها فيهما غير أن عنايتها بالاندلس والمغرب الاقصى أكثر من عنايتها ببقية المغرب وكانت ولاية تلمسان قد قلدت في حضارتها الاندلس أيام المرابطين ثم تلتها ولاية بجاية أيام الموحدين. وفي سنة 540 أمر عبد المؤمن ببناء أسوار تاقرا مسقط رأسه وأعلى الاسوار وحصن المدينة وبنى جامعها. وفي سنة 555 عاد من فتح المهدية فمر بالبطحاء وكانت مدينة

بنواحي شلف شمالا شرقيا من غليزان ثم خربت فأمر عبد المؤمن ببنائها قال ابن ابي زرع: "وسبب بنائه اياها انه لما طالت بالموحدين الاقامة بالمشرق والتغرب عن أوطانهم وأولادهم عزمت طائفة منهم على اغتيال عبد المؤمن إذا نام في خبائه فأعلمه شيخ بنبئهم وقال له دعني أبت على فراشك فان فعلوا كنت فداءك فبات على فراشه فقتل، فلما صلى عبد المؤمن الصبح افتقده فوجده مقتولا. فحمله بين يدي مسيره على ناقة لا مقودها أحد، فلما بركت دفنه في مبركها وبنيت عليه قبة وبني بازاء القبة جامعها، ثم أمر ببناء المدينة حول المسجد، وترك بالمدينة عشرة من كل قبيلة من قبائل المغرب، فقبر الشيخ هناك معظم عند أهل تلك البلاد يزار الى اليوم " اهـ. وذكر الدمشقي من أهل القرن الحادي عشر في أخبار الدول مدينة البطحاء فقال: "مدينة عظيمة ببلاد الغرب في وطأة من الارض وتسمى مدينة السدرة وبها أنهار كثيرة " اهـ. وقال ابن أبي زرع يذكر أبا يوسف المنصور: "وحصن البلاد وضبط الثغور وبنى المساجد والمدارس في بلاد افريقية والمغرب والاندلس وبنى المارستانات للمرضى والمجانين وأجرى المرتبات على الفقهاء والطلبة على قدر مراتبهم وطبقاتهم وأجرى الانفاق على أهل المارستانات والجذمى والعميان في جميع عمله وبنى الصوامع والقناطر والجباب للماء واتخذ عليها المنارات وبنى المنازل من سوس الاقصى الى سويقة بني مضكود " اهـ. وكان السادة من بني عبد المؤمن ولاة بجاية وتلمسان يعنون بالبناء والغراسة عناية الملوك، قال ابن خلدون يذكر ابا الربيع سليمان ابن عبد الله بن عبد المؤمن والي بجاية: "وهو الذي جدد الرفيع

11 - العلوم والآداب

والبديع من رياضها وكان بنو حماد شيدوهما من قبل، فاصابهما الخراب " اهـ. واذا كانت الحكومة عادلة حافظة للامن معنية بالاقتصاد والعمران مقيمة للحضارة فالامة تكون في ذلك أنشط ما يكون والبلاد أبهج ما يرى. 11 - العلوم والآداب لم يدع الموحدون الخلافة حتى نهضوا بما نهض به قبلهم العباسيون والفاطميون من نشر العلوم الاسلامية والفلسفية تفسيرا وحديثا وفقها وكلاما ومنطقا ورياضة وسياسة مدنية ومنزلية وخلقية وغير ذلك من كل ما عرف ببغداد والقاهرة قبل، وامتاز عصرهم العلمي على ما قبله بالاتقان والدقة وعلى ما بعده بعدم الجمود والاقتصار على الموجود. ولقد كانت العلوم الطبيعية والانظار الفلسفية مرغوبا عنها بالمغرب خصوصا أيام المرابطين الذين حكموا الفقهاء في دولتهم فارهقوا المفكرين خشية منهم على تعاليم، الإسلام، ولما جاء الموحدون وكان خلفاؤهم مشاركين في كل العلوم أحسنوا تمييز ما ينافي الدين منها مما لا ينافيه. فحافظوا على جوهر الدين بنشر أصوله العقلية والنقلية وتركوا للعقول حريتها تجري طلقة العنان في ميادين البحث والاستنتاج، ونشطوا أهل العلم قاطبة بادرار الرزق عليهم وشمولهم بعنايتهم وخالطوهم في مجالسهم، وأنشأوا المدارس وكفوا طلبتها مؤنة الاسترزاق وكان يعقوب المنصور يقول:

"يا معشر الموحدين أنتم قبائل فمن نابه أمر منكم فزع الى قبيلته، وهؤلاء الطلبة لا قبيل لهم إلا أنا، فمهما نابهم أمر فأنا ملجأهم وإلي فزعهم وإلي ينتسبون". قال صاحب المعجب: فاه المنصور بهذا لما بلغه حسدهم للطلبة على موضعهم منه وتقريبه اياهم وخلوته بهم. وأظتك إذا صدقت البحث وأجدت النظر لا تجد عصرا تآخت فيه الفلسفة والشريعة كعصر الدولة المؤمنية، فهذا الحفيد ابن رشد أعظم فلاسفة الاسلام تجده ايضا من أعاظم حفظة الشريعة ناهيك بكتابه بداية المجتهد، وكان مقربا لدى المنصور. فلم يحرم الناس مواهبه وكثر تلاميذه، وكان منهم أبو عبد الله محمد بن سحنون الكومي الندرومي من قرية ندرومة. شملت هذه النهضة العلوم والآداب والصنائع والحرف، فساعدت على انشاء مدنية ان لم تكن أعلى المدنيات فمن أعلاها، قال الشريف الغرناطي في شرح مقصورة حازم. "ويتعلق بذكر الهالة ما حكاه أبو عبد الله بن عياش كاتب المنصور أبي يوسف يعقوب، قال كان لابي بكر بن مجير وفادة على المنصور في كل سنة. فصادف في احدى وفاداته عليه فراغ المنصور من احداث المقصورة التي كان احدثها بجامعة المتصلة بقصره في حضرة مراكش، وقد وضعت على حركات هندسية ترفع بها لخروجه وتخفض لدخوله، وقد انشده الشعراء في ذلك، فلم يزيدوا على شكره وتجزيته الخير فيما جدد من معالم الدين وآثاره، ولم يتصدوا لوصف الحال فانشد ابن مجير قصيدته التي أولها: أعلمتني القى عصا التسيار … في بلدة ليست بدار قراري

12 - الاعتقادات والمذاهب الفقهية

واستمر فيها حتى ألم بذكر المقصورة فقال يصفها: طورا تكون بما حوته محيطة … فكأنها سور من الاسوار وتكون طورا عنهمو مخوءة … فكأنها سر من الاسرار وكأنما علمت مقادير الورى … فتصرفت لهم على مقدار فاذا أحسنت بالامام يزورها … في قومه قامت الى الزوار يبدو فتبدر ثم تخفى بعده … كتكون الهالات للاقمار قال المقري: "وقد بطلت حركات هذه القصورة الآن وبقيت آثارها حسبما شاهدته سنة عشر وألف". وكان شاعر بني عبد المؤمن من قسنطينة ابا علي حسن بن علي بن عمر الفقون. قال عبد القادر الراشدي: "وبنو الفقون من قرية فقونة بأوراس ولم يتحرر لي نسبهم " وفد على خلفائهم بمراكش ونظم رحلته في قصيدة ذكرها العبدري في رحلته والمقري في نفح الطيب، وامتدح الناصر بن المنصور بقصيدة بليغة لما نزل بقسنطينة سنة 601 وكان كثر الوفادة على السادة من ولاة بجاية، وله ديوان شعر كان موجودا بأيدي الناس. وكانت بجاية يومئذ عاصمة المغرب علما وأدبا لا يفوقها إلا مراكش عاصمة الخلافة، ولابي العباس الغبريني جزء في علمائها وادبائها طبع بالجزائر، وهو متداول بين الناس. 12 - الاعتقادات والمذاهب الفقهية كان مبنى اعتقاد المسلمين في الإله على الكتاب وصحيح السنة. يثبتون له من الصفات ما أثبتاه وينزهونه عما نزهاه عنه، ثم ظهرت بعد ترجمة كتب اليونان وغيرهم أيام العباسيين طريقتا النظر والرياضة

لمعرفة الله، وطريقة الرياضة نفرد لها فصلا بعنوان التصوف. وطريقة النظر والاستدلال بالطبيعيات على الإلهيات مع التقيد بالدين هي المسماة كلاما وأهلها متكلمين. نكر أهل السنة طريقة الكلام، وسموا أهلها معتزلة حتى جاء أبو الحسن الاشعري، فقرأ على أبي علي الجبائي المعتزلي، ولازمه الى الاربعين من عمره، ثم اعتزل الاعتزال ونصر السنة بطريقة الكلام نفسها، وألف كتبا كثيرة منها تفسيره المسمى المختزن في خمسمائة مجلد، وكانت منه نسخة واحدة بدار الخلافة. فبذل الصاحب بن عباد- وكان يميل الى الاعتزال- لخازن المكتبة عشرة آلاف دينار ليحرقها " فاحترق ذلك التفسير فيما احترق من الكتب، وكانت وفاة الاشعري ببغداد سنة 324. وانقسم أهل السنة الى سلفيين يؤمنون بآيات وأحاديث الصفات كما جاءت ولا يعتمدون على الكلام، والى أشاعرة يعتمدون على الكلام ويؤولون بعض آيات وأحاديث الصفات. وكان أهل المغرب سلفيين حتى رحل ابن تومرت الى المشرق وعزم على احداث انقلاب بالمغرب سياسي علمي ديني. فأخذ بطريقة الاشعري ونصرها وسمى المرابطين السلفيين "مجسمين " وتم انقلابه على يد عبد المؤمن، فتم انتصار الاشاعرة بالمغرب. واحتجبت السلفية بسقوط دولة صنهاجة، فلم ينصرها بعدهم إلا أفراد قليلون من أهل العلم في أزمنة مختلفة، ولشيخ قسنطينة في القرن الثاني عشر عبد القادر الراشدي أبيات في الانتصار للسلفيين طالعها: خبرا عني المؤول اني … كافر بالذي قضته العقول ومنذ أعلن المعز بن باديس مذهب مالك أصبح هو مذهب أهل السنة بالمغرب. وزاده المرابطون تأييدا. فكان لا يقطع أمر في

مملكتهم الا بمشورة الفقهاء المالكيين فعظم شأنهم ونفقت كتب المذهب. قال صاحب المعجب: "وكثر العمل بكتب المذهب ونبذ ما سواها حتى نسي النظر في كتاب الله وحديث رسوله (ص) فلم يكن أحد من مشاهير ذلك الزمان يعتني بهما كل الاعتناء. ودان الناس بتكفير من يخوض في علم الكلام. وقرر الفقهاء عند علي بن يوسف بن تاشفين تقبيحه وكراهة السلف له وانه بدعة في الدين، وربما أدى الى اختلال في العقائد فكان يكتب عنه في كل وقت بالتشديد في نبذه وتوعد من وجد عنده شيء من كتبه، وأمر باحراق كتب ابي حامد الغزالي لما دخلت المغرب، وتقدم بالوعيد الشديد من سفك الدم واستئصال المال الى من وجد عنده شيء منها واشتد الامر في ذلك " اهـ. ولم يكن يومئذ بالمغرب غير مذهب مالك وربما كان من أهل الاندلس من أخد بمذهب الشافعي أو أبي سليمان داوود امام أهل الظاهر. وولادته سنة 202 ووفاته سنة 270 وأظهر من أيد مذهبه بالاندلس ابن حزم المتوفي سنة 456. وعكست دولة الموحدين كل ما كان أيام المرابطين، ففي سنة 550 بنى عبد المؤمن المساجد وأصلحها وحرق كتب الفروع ورد الناس الى قراءة الحديث ثم جاء حفيده المنصور فجرد كتب الفقه من الآيات والاحاديث، ثم حرقها، فاحرقت مدونة سحنون ونوادر ابن أبي زيد ومختصرة وتهذيب البرادعي وواضحة بن حبيب وغيرها. ومنع الاشتغال بعلم الرأي وأمر جماعة من المحدثين بجمع أحاديث من الموطأ والصحيحين والترمذي وأبي داوود والنسائي والبزار وابن أبي شيبة والدارقطني والبيهقي فجمعوا منها أحاديث في الصلاة وما يتعلق بها فكان يملي هذا المجموع بنفسه على الناس ويأخذهم بحفظه. فانتشر

13 - التصوف والصوفية

في جميع المغرب وحفظه العامة والخاصة. وجعل لمن حفظه جعلا من كسي وأموال. قال صاحب المعجب: وكان قصده في الجملة محو مذهب مالك وازالته من المغرب مرة واحدة وحمل الناس على الظاهر من القرآن والحديث. وكان هذا مقصد أبيه وجده إلا أنهما لم يظهراه وأظهره هو" اهـ. قال ابن الاثير: "واستقضى يعقوب المنصور آخر أيامه الشافعية على بعض البلاد. ومال اليهم " اهـ. 13 - التصوف والصوفية كان عليه الصلاة والسلام مجتهدا في العبادة حتى ورمت قدماه. ولكنه نهى من أراد من أصحابه الانقطاع للعبادة. وصح عنه "ان الله لا يمل حتى تملوا" وظهر بعده بالبصرة وغيرها نساك بالغوا في التعبد ونقلت عنهم حكايات غريبة في التواجد لسماع القرآن فأنكر عليهم الصحابة وعلماء التابعين. فال ابن تيمية في رسالته الصوفية والفقراء: "والمنكرون لهم مأخذان. منهم من ظن ذلك تكلفا وتصنعا. يذكر عن محمد بن سيرين انه قال ما بيننا وبين هؤلاء الذين يصعقون عند سماع القرآن إلا أن يقرأ على أحدهم وهو على حائط. فان خر فهو صادق ومنهم من أنكر ذلك لانه رآه بدعة مخالفة لما عرف من هدي الصحابة كما نقل عن اسماء وابنها عبد الله " اهـ. ثم ظهر على مرسح السياسة غلاة الشيعة الامامية والاسماعيلية والقرامطة. فلما غمرتهم القوة العباسية تدثروا بالزهد والنسك.

ونشروا دعاتهم في البلاد لاصطياد غفل العوام باشراك سداها التدجيل بالغلو في العبادة والمبالغة في تعظيم آل البيت ونسبة الكرامات اليهم. وبهذا تأسست دولة بني عبيد الذين كان منهم من ادعى الالوهية أو أدعيت له. هذه صورة مصغرة لحياة المسلمين الدينية والسياسية في القرن الثاني. قال السهروردي: "ولم يعرف اسم التصوف الى المائتين من الهجرة" اهـ. ولا يعرف بالضبط تاريخ ظهور التصوف ولا واضعه ولا أول صوفي. وقد قيل ان الصوفي منسوب الى صوفة الذين كانوا يجيزون بالحجاج في الجاهلية. وأول من سمي منهم صوفة هو الغوث ابن مر بن ادبن طابخة بن الياس بن مضر، ويزيفه انه لم يعرف اسم الصوفية لطائفة من العباد ذات شعار خاص لا في الجاهلية ولا زمن الصحابة والتابعين، وهناك أقوال في توجيه لفظ الصوفي، نقضها القشيري في رسالته، وقال: "لا يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياس ولا اشتقاق والا ظهر انه كاللقب " اهـ. ولم يوجه القشيري تلقيبهم بهذا اللقب. فكأنه اعترف بأنه لا أصل له في العربية. وهو الحق، فان التصوف معرب تيو صوفية (THEOSOPHIE) وهو لفظ يوناني مركب من تيوص بمعنى الإله وصوفية بمعنى الحكمة. وهي طريقة رياضية لمعرفة الله، يزعم أهلها مناجاته ووحيه اليهم ونيلهم منه عرفانا ومننا خاصة وانه يتجلى لهم في الكون أو الطبيعة حتى يمتز جوابه ومذهبهم وحدة الوجود، ولمريديهم درجات في السلوك الى هذه الغاية. هذا هو التصوف الذي عرفه اليونان والهنود قديما، ثم استقت منه المسيحية حتى اذا انتشرت باروبا غطته فتنوسي بها الى أن أحياه بالتآليف العديدة سبينوزا بروخ اليهودي المتوفي بمدينة لاهاي سنة 1088 (1677 م) فصار التصوف معروفا اليوم بأروبا.

ودخلت لفظة التصوف اليونانية الى العربية لما ترجمت كتب اليونان والهند في الدور العباسي لا سيما أيام المأمون، وكان ذلك العصر عصر اختلاف ديني واضطراب سياسي، فأخذ من التصوف كل فريق حسب استعداده وصوره بما يلائم غايته، واختلفت قواعد التصوف ونظمه باختلاف جنسية المتصوف وعصره ومصره وميله إذ العمدة فيه الرياضة وما يرد على صاحبها أثناءها من خواطر والهامات، فليس له ضابط يضبطه ولا قانون يسيطر عليه. وكان من الصوفية من يعتمد على الرياضة وحدها ومنهم من يقيدها بالدين، فتعددت مذاهبهم الى سنيين ومبتدعين ومارقين من الدين يقولون بالوحدة المطلقة أو الاتحاد المطلق أو الحلول المطلق أو الحلول الخاص، ولهم في تصوير مذاهبهم عبارات غامضة واشارات بعيدة، فربما يجمع قارئي كلامهم بين الايمان والكفر وهو لا يشعر، فيصير كمن قال: عقد الخلائق في الإله عقائدا … وانا اعتقدت جميع ما اعتقدوه وكان سيد الصوفية السنيين ابو القاسم الجنيد المتوفي سنة 297 يقول: "الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول عليه الصلاة والسلام " وقال: "من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحايث لا يقتدى به في هذا الامر لان علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة". وقد استعمل غلاة الشيعة بعض الصوفية في مقاصدهم السياسية، فألف منهم جماعه في القرن الرابع رسائل سموها " رسائل اخوان الصفا " وبثوا فيها من الكفر والضلالات والاستخفاف بالشريعة ما يعلم بمطالعتها، وقالوا انهم جمعوها من كلام الخلصاء الصوفية. وذكر ابن خلدون في المقدمة امتزاج التصوف والشيعة الامامية،

فقال: "ثم أن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحس توغلوا في ذلك فذهب الكثير منهم الى الحلول والوحدة. وملؤا الصحف منه مثل الهروي في كتاب المقامات له وغيره، وتبعهم ابن العربي وابن سبعين وتلميذهما ابن العفيف وابن الفارض والنجم الاسرائيلي في قصائدهم. "وكان سلفهم مخالطين للاسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضا بالحلول وألهية الأيمة مذهبا لم يعرف لأولهم، فاشرب كل من الفريقين مذهب الآخر واختلط كلامهم، وتشابهت عقائدهم". "وظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب ومعناه رأس العارفين يزعمون انه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله، ثم يورث مقامه لآخر من أهل العرفان، وقد أشار الى ذلك ابن سينا في كتاب الاشارات في فصول التصوف منها .. وهو بعينه ما تقوله الرافضة، ثم قالوا بترتيب وجود الابدال بعد هذا القطب كما قاله الشيعة في النقباء، ثم انهم أسندوا لباس خرقة التصوف الى علي (رض) وهو من هذا المعنى ايضا، وإلا فعلي (رض) لم يختص من بين الصحابة بتخلية ولا طريقة في لباس ولا حال " اهـ. وتصوف ابن سينا انما هو تصوف يوناني مأخوذ عن ارسطاطليس، قال القفطي متكلما عن مترجمي كتب ارسطاطليس: " وأقرب الجماعة حالا في تفهيم مقاصده في كلامه الفارابي ابو نصر وابن سينا، فانهما دققا وحققا فحملا علمه على الوجه المقصود واعذبا منه لو ارده مذهبه المورود، ووافقاه على شيء من أصوله فكفرا بكفره " اهـ. ثم قال في الكلام على الالهيات: "وقد قرب من ارسطاليس في قوله فيها الفارابي وابن سينا " اهـ. وقد استمال الصوفية العامة بظواهرهم فمالت اليهم لتقريبهم لها

طريق السعادة بالرياضة التي هي على العامة أيسر من العلم، وباعتقاد أن شيوخهم يحملون عنهم تقصيرهم في الدين، فكان للصوفية فيهم تعوذ اضطر الامراء الجائرين الى خدمتهم وعلماء السوء إلى تأييدهم من غير فرق بين سني وغيره، فأصبح التصوف مطلقا هو لب الدين في عقد العامة ومغفلي العلماء، ويرحم الله القائل: وهل أفسد الدين الا الملوك … واحبار سوء ورهبانها وقد ضج العلماء الناصحون والصوفية السنيون من أعمال عامة الصوفية واضلالهم للعامة، قال القشيري من أهل القرن الخامس في صوفية عصره: "ثم اعلموا رحمكم الله ان المحققين من هذه الطائفة انقرض أكثرهم ولم يبق في زمننا هذا منهم الا أثرهم: اما الخيام فانها كخيامهم … وارى نساء الحي غير نسائها زاد الورع وطوي بساطه، واشتد الطمع وقوي رباطه، وارتحل عن القلوب حرمة الشريعة فعدوا قلة المبالات بالدين أوثق ذريعة ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام ودانوا بترك الاحترام وطرح الاحتشام، واستخفوا باداء العبادات واستهانوا بالصوم والصلاة وركضوا في ميدان الغفلات وركنوا الى اتباع الشهوات وقلة المبالات بتعاطي المحظورات والارتفاق بما يأخذونه من السوقة والنسوان وأصحاب السلطان". " ثم لم يرضوا بما تعاطوه من سوء هذه الأفعال حتى أشاروا الى أعلى الحقائق والاحوال وادعوا أنهم تحرروا عن رق الاغلال وتحققوا بحقائق الوصال وانهم قائمون بالحق تجري عليهم أحكامه وهم محو وليس لله عليهم فيما يؤثرونه أو يذرونه عتب ولا لوم، وانهم كوشفوا باسرار الاحدية واختطفوا عنهم بالكلية وزالت عنهم أحكام البشرية

وبقوا بعد فنائهم عنهم بأنوار الصمدية، والقائل عنهم غيرهم اذا نطقوا والنائب عنهم سواهم فيما تصرفوا بل صرفوا " اهـ. ولابي حيان النحوي المتوفي سنة 745 في صوفية عصره: حلبت الدهر أشطره زمانا … وأغناني العيان عن السؤال فما ابصرت من خل وفي … ولا ألفيت مشكور الخلال ذئاب في ثياب قد تبدت … لرائيها باشكال الرجال ومن يك يدعي منهم صلاحا … فزنديق تغلغل في الضلال ترى الجهال تتبعه وترضى … مشاركة بأهل أو بمال فينهب مالهم ويصيب منهم … نساءهمو بمقبوج الفعال ويأخذ حاله زورا فيرمي … عمامته ويهرب في الرمال ويجرود التيوس وراء رجس … تقرمط في العقيدة روالمقال ولشيخ الاسلام أحمد بن تيمية المتوفي سنة 728 رسالة زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور أجاب بها عن استفتاء رفع اليه ونصه: " ما تقول السادة العلماء أيمة الدين وعلماء المسلمين رضوان الله عليهم أجمعين بمن يزور القبور ويستنجد بالمقبور في مرض به أو بفرسه أو بعيره يطلب ازالة ذلك المرض ويقول يا سيدي أنا في جيرتك أنا في حسبك: فلان ظلمني فلان قصد أذيتي. ويقول ان المقبور يكون واسطة بينه وبين الله تعالى، وفيمن ينذر للمساجد والزوايا والمشائخ حيهم وميتهم، الدراهم والابل والغنم والشمع والزيت وغير ذلك: يقول ان سلم ولدي فللشيخ علي كذا وكذا وامثال ذلك وفيمن يستغيث بشيخه يطلب تثبيت قلبه من ذلك الواقع وفيمن يجيء الى شيخه ويستلم القبر ويمرغ وجهه عليه ويمسح القبر بيديه ويمسح بهما وجهه وأمثال ذلك، وفيمن يقصده بحاجته ويقول يا فلان ببركتك أو يقول قضيت حاجتي ببركة الله وبركة

الشيخ، وفيمن يعمل السماع ويجيء الى القبر فيكشف ويحيط وجهه بين يدي شيخه ساجدا، وفيمن قال ان ثم قطبا غوثا جامعا في الوجود. افتونا مأجورين وأبسطوا القول في ذلك " اهـ. ومما يستغرب اتفاق عالمين جزائريين وحجازي في القرن الحادي عشر على وصف صوفية زمانهما بوصف واحد، قال الاخضري الجزائري " اهـ. وظهرت في هذه البلاد طائفة البلع والازدراد وقال شهاب الدين المرشدي المكي الحجازي: صوفية العصر والاوان صوفية العصر والاواني قال محشي شيخ الاسلام زكرياء على الرسالة القشيرية الشيخ مصطفى محمد العروسي من أهل القرن الثالث عشر في عقيدة له: " اني بذلا للنصيحة أحذرك من متابعة مشائخ هذا الوقت ممن لا يثمر الاجتماع بهم خلاف المقت اذ هم قطاع طريق الله على عباده وأعداء الاولياء الداعين الى سبيل ارشاده حيث لا همة لهم الا جمع العرض الفاني ولا سعي لهم الا في تجريد القاضي والداني أزاحهم الله من جميع البلاد وأراح منهم الدواب والعباد .. فعليك يا أخي في مثل هذا الوقت بخاصة نفسك وتباعد عمن بهم تزيد قاذورات رجسك، وتابع هدى سيد المرسلين وامام كل النبيئين والمرسلين فكافيك التمسك بالقرآن والتنسك على طريق سيد ولد عدنان ولا تغرنك - لو فرض- خوارق العادات فانها كما تكون للكرامة توجد لقصد الاهانة، فهذه وصيتي اليك قد ذكرتها شفقة عليك دعاني الى ذكرها رعاية المقام فتقبلها ومني عليك السلام " اهـ. وقد أطلنا خلاف عادتنا في هذا الموضوع، ولكنا في الحقيقة قد

بالغنا في الايجاز فانه موضوع طويل عريض، وله بحياة المسلمين الدينية والسياسية ارتباط قوي، فلا يجدر بالمؤرخ اهماله وان لم يسعه استقصاؤه. وقد عرفت الجزائر التصوف زمن بني عبيد، لكن العلماء انكروا عليهم وكفروهم حتى قال محمد بن عمار الكلاعي الميروقي يوصي ابنه من قصيدة: وطاعة من اليه الامر فالزم … وان جاروا وكانوا مسلمينا فان كفروا ككفر بني عبيد … فلا تسكن ديار الكافرينا فلم يكن يومئذ بالمغرب شأن للصوفية الى أن جاءت الدولة المؤمنية ونشرت المعارف ونصرت الفلسفة، فظهر من الصوفية رجال ذوو علم طار صيتهم في الآفاق ولكن لقوة نفوذ الدولة لم يتغلبوا على العامة حتى سقطت وخلفتها دول تنازع امراؤها أمرهم بينهم فضعف سلطانهم، وعلت كلمة الصوفية فمثلوا أدوارهم مع العامة وكان ذلك مبتدأ انحطاط الجزائر والمغرب دينيا وسياسيا. ومن مشاهير الصوفية الذين عرفتهم الجزائر أبو مدين شعيب الاندلسي دفين تلمسان المتوفي سنة 591 (أو) 594 قرأ بفاس على ابن حرزهم وغيره وأخذ التصوف عن أبي يعزى وتعرف في عرفة بالشيخ عبد القادر الجيلاني وأخذ عنه واستوطن بجاية فكان يقرئ بها رسالة القشيري وغيرها، وكثر أتباعه فاستقدمه يعقوب المنصور الى مراكش فلما بلغ تلمسان توفي بها ودفن برابطة العباد، وضريحه مشهور يتبرك به. ومن كلامه " بفساد العامة تظهر ولاة الجور وبفساد الخاصة تظهر دجاجلة الدين الفتانون " وقال: "احذر محبة المبتدعين فهو أبقى على دينك، واحذر محبة النساء فهو أبقى على قلبك".

ومنهم محي الدين بن عربي الاندلسي دفين دمشق المتوفي سنة 638 وكان ظاهري المذهب في العبادات باطني النظر في الاعتقادات يميل في فلسفته الى الغموض، ومن آرائه: "التثليث أساس الوجود، ومع ان الله في اعتقادنا فرد فاول عدد فردي ثلاثة لا واحد". ومنهم ابو الحسن الشاذلي نسبة الى شاذلة قرية بتونس قيل انها مرناق، وتوفي بارض الحجاز سنة 655 والناس فيه بين مادح وقادح، وله أوراد واذكار انتشرت في الناس غربا وشرقا، وتفرع من طريقته طرق كثيرة، ويلقب اتباعه با لدراويش وبالفقراء، والدرويش كلمة فارسية معناها القانع أو الفقير. ومن كلامه: "اذا عارض كشفك الكتاب والسنة فتمسك بهما ودع كشفك، فان الله قد ضمن فيهما العصمة ولم يضمنها في الكشف". ومنهم عبد الحق بن سبعين المتوفي سنة 669 سكن بجاية مدة وأقرأ بها ثم لحق بالمشرق وجاور بمكة، وعن قطب الدين القسطلاني انه ظهر في المائة السابعة من المفاسد العظام ثلاث: مذهب ابن سبعين وتملك التتر للعراق واستعمال الحشيشة حكاه في نفح الطيب وذكر أيضا: "ان الامير ابا عبد الله بن هود من أمراء الاندلس أرسل سفيرا عنه الى البابا برومة ابا طالب بن سبعين أخا عبد الحق فقال له البابا ان أخاك ليس للمسلمين اليوم أعلم بالله منه " وارى أن هذه الشهادة ان لم تدل على مواصلة سرية بين البابا وعبد الحق تدل على قرب مذهبه من المسيحية. ومن كلامه في أبي مدين: "شعيب عبد عمل ونحن عبيد حضرة". هذا وقد اتخذ دجاجلة الصوفية الانتساب الى سني صوفي عظيم سببا للارتزاق وخلبوا عقول العوام بالظواهر والدواعي. وغمروها

14 - سقوط الدولة المؤمنية

بالخرافات والاضاليل فأوردوها موارد الردى وصدوها عن سبل الهدى، ولله عبد الحق الاشبيلي استاذ بجاية اذ يقول: لا يخدعنك عن دين الهدى نفر … لم يرزقوا في التماس الحق تأييدا عمي القلوب عروا عن كل فائدة … لأنهم كفروا بالله تقليدا 14 - سقوط الدولة المؤمنية كان الاولون من خلفاء هذه الدولة يباشرون أمور المملكة بأنفسهم ويطالعون أخبار حكامهم ولا سيما المنصور. فقد قال عنه صاحب المعجب ما ملخصه: " وكان يقعد للناس عامة ولا يحجب عنه صغير ولا كبير حتى قضى بين رجلين في نصف درهم. ثم قعد للناس في أيام مخصوصة لمسائل مخصوصة. وكان قاضيه يجلس حيث يسمع حكمه في جميع القضايا، ليس بينهما غير ستر من ألواح وكان يدخل عليه أمناء الاسواق وأشياخ الحضر مرتين في الشهر يسألهم عن أسواقهم وأسعارهم وحكامهم. واذا وفد عليه أهل بلد فأول ما يسألهم عنه عمالهم وقضاتهم وولاتهم، ويحذرهم كتمان الشهادة، وقد يتلو قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والاقربين " اهـ. بهذا استقامت أمورهم، فلما ولي الناصر تغيرت الحالة بعض التغير ففوض الشؤن لوزيره أبي سعيد بن جامع الذي لم يكن نبيه البيت في الموحدين، فاستهان بشيوخهم حتى فر من بساط الناصر من يعتمد عليه منهم. وفي سنة 607 خرج الناصر لغزو الاندلس بعدما استنفر الناس

عامة، وأساء ابن جامع التدبير، وأوغر صدور بعض العظماء، فكانت وقعة العقاب على المسلمين سنة 609 فني فيها أكثر رجال الدولة وذهبت الحامية من البلدان وانحرف قواد الاندلس عن بني عبد المؤمن ثم ظهر الخلاف بينهم انفسهم، وتواثبوا على عرش مراكش، فاختلت الدولة. وفي سنة 610 صعد بنو مرين الى تلول المغرب الاقصى، فملكوا بواديه وأعلنوا حرب بني عبد المؤمن سنة 613 واقتطع عنهم ابو زكرياء الحفصي ولايتي تونس وبجاية سنة 28 وثبت يغمراسن بن زيان والي تلمسان على ولايتهم حتى أخضعه أبو زكرياء سنة 640. وفي سنة 610 صعد بنو مرين الى تلول المغرب الاقصى، فملكوا واجفل امامه بنو مرين، ووفد عليه يغمراسن ابن زيان في ألف فارس من قومه، فبايعه بفاس وخلع عليه السعيد وأمره باستئصال مرين وأمده بالاموال والرجال، فخرج اليهم يغمراسن حتى ألحقهم بكرت، ثم عاد الى فاس فقيل له انك مغدور، فغادر فاسا هو وقومه وسالم بني مرين، وبعث اليه السعيد بالامان، فامتنع خشية الغدر. وفي سنة 45 خرج السعيد من مراكش لاخضاع المستبدين عليه من بني مرين وبني عبد الواد وبني ابي حفص، وحشد أمما كثيرة، وبلغ تازا في المحرم سنة 46 فأرسل اليه أمير مرين ابو يحي ابو بكر ابن عبد الحق ببيعته، وعرض عليه العود الى مراكش وانه يكفيه أمر يغمراسن، وكان السعيد شهما حازما يقظا بعيد الهمة، فشكر لابي يحي خدمته، وأمره بامداده وتوجه نحو تلمسان. وخرج يغمراسن في أهله وقومه الى قلعة تامززدكت قبلة وجدة فاعتصم بها وأوفد وزيره الفقيه عبدون على السعيد بالطاعة والاعتذار عن تخلفه، فابى السعيد الا حضوره، فامتنع يغمراسن خشية على

نفسه فقصد السعيد القلعة وأحاط بها ثلاثة أيام وفي الرابع ركب حين القيلولة يبحث عن عورة يأخذ منها القلعة فبصر به فارس من بني عبد الواد كان يحرس القوم، فطعنه وكبه عن فرسه، وكان يغمراسن وابن عمه يعقوب بن جابر قريبين منه، معرفا السعيد وانقض القوم من الشعاب على مواليه. وبلغ النبأ المحلة فتفرقوا ايدي سبا وذلك في صفر سنة 46. وبادر يغمراسن الى السعيد وهو يجود بنفسه فحياه وفداه واقسم له على البراءة من دمه فلما قضى حمله الى العباد ودفنه وارسل مع حرمه واخته من اوصلهن الى مأمنهن، وانتهى أمر بني عبد المؤمن من تلمسان ثم قضى عليهم بنو مرين بدخولهم مراكش سنة 68. وكانت مدة هذه الدولة بولاية بجاية من سنة 547 الى سنة 628 وبولاية تلمسان من سنة 539 الى سنة 646 ومدتها منذ مبايعة المهدي بتينملل الى القبض على اسحق ابن اسحق بن يوسف بن عبد المؤمن بتينملل من سنة 515 الى سنة 674. ثم انقضت تلك السنون وأهلها … فكأنها وكأنهم أحلام

الباب الخامس في أحوال العرب لعهد الحفصيين والزيانيين والمرينييين

الباب الخامس في أحوال العرب لعهد الحفصيين والزيانيين والمرينييين

1 - تمهيد

1 - تمهيد استكان العرب بعد ثورة ابن غانية لقوة الدولة التي عرفت كيف تسوسهم. لكن الحفصيين نواب بني عبد المؤمن بتونس استقلوا عنهم. وحنو الى وطنهم. فطمعوا في فتح مراكش. ولم يقووا على تحقيق أمانيهم الا بمعاضدة زناتة. فعاضدتهم وهي تسر حسوا في ارتغاء. وكانت النتيجة سقوط الدولة المؤمنية وقيام ثلاث دول مكانها هم الحفصيون والزيانيون والمرينيون. لم تعترف هذه الدول بعضها لبعض بالاستقلال. فاستمرت الحروب بينهن. وربما وقعت الحرب بين الامراء المرشحين للملك في الدولة الواحدة. وتقاربت قواتهم الحربيه والسياسية فلم ينحسم النزاع. وكان ملوك تلك الدول في حاجة الى العرب لكن اضطربت سياستهم معهم. فاذا كانت الحرب واحتاجوا الهم أقطعوهم الاراضي الواسعة وجباية القبائل المستضعفة ونفحوهم بالهدايا والاموال وقربوهم بالصهر والاستشارة. واذا استغنوا عنهم بالسلم قلبوا لهم ظهر المجن وحاولوا تجريدهم من امتيازاتهم. فلم يعدم العرب في الامراء المرشحين للملك والملوك الطامعين في التوسع ما يعينهم على احداث ثورة للاحتفاظ بامتيازاتهم.

وكان العرب يحسنون الاستفادة في أمثال هذه الظروف لتقوية حريتهم وتوسيع مجالات تنقلهم في الشمال والجنوب وكانوا يفترقون حسب افتراق مصالحهم على الدول والملوك. ونتج عن هذه السياسة ضعف الدول وفقد الامن وقلة الانتاج واستحكام العداوة بين القبائل وطمع اسبانيا في امتلاك المغرب، ولولا قيام الدولة التركية بأساطيلها في وجوه الدول الاروبية للحق المغرب بالاندلس وصقلية. على أن عوامل الافتراق التي غرست في هذا الدور لم تزل تنخر جسمنا الى اليوم. والمسؤل عن هذه النتائج السيئة هم الحفصيون الذين أسقطوا الدولة المؤمنية حامية الاندلس وآسية العرب. ثم عجزوا عن حفظ المغرب وتوحيده. ثم اضطربت سياستهم مع العرب وقووا أغراضهم في الحياة البدوية بدلا من تمدينهم وتهذيبهم. والعرب بداة لا غرض لهم في الملك. فليس عليهم ضمان في هذه النتائج السياسية التي هي خاصة الملك. ولعلنا بهذا الفصل وضعنا أساس البحث للناقد البصير في قواعد ابن خلدون الاجتماعية التي وضعها على حساب العرب البداة دون الحفصيين الملوك الذين كان ريشه منهم هواه معهم. يعرف ذلك من عرف حياته ودقق النظر في أساليب تاريخه. فأدرك الفرق بين أسلوبه في الدولة الحفصية وأسلوبه في غيرها. حتى انه أجهد نفسه في تصحيح نسب ابن تومرت في آل البيت ونسب الحفصيين في آل عمر بن الخطاب (رض) مع أنه انكر انسابا هي أقوى من هذين النسبين والكمال لله.

2 - رياح والاثبج وسليم

2 - رياح والاثبج وسليم كانت قبيلة عوف بن سليم تجاور رياحا على حدود عمالة قسنطينة، وتبلغ ناجعتها نواحي بونة، ولها بطنان هما مرداس وعلاق، ومن علاق حصن ويحي ومن حصن حكيم وبنو عدي، ومن يحي العكوب، ومن العكوب أولاد مهلهل وأولاد ابي الليل، ومن أولاد ابي الليل الاعشاش. وكان ابو زكرياء الحفصي اصطنع عوفا على رياح فاخرجتهم الى عمالة قسنطينة، وجازتها الدولة على ذلك بالتضريب في بطونها، حتى لا يستبدوا عليها فكان المغلوبون من عوف ينزلون على رياح للاجلاب على الدولة، واستقرت رئاسة عوف في أولاد مهلهل وأولاد أبي الليل، وتنازعوا أمرهم بينهم وأصبح حال الدولة بينهم حال القائل: رضى هذا يحرك سخط هدي. وحكيم كانوا يحالفون تارة أولاد مهلهل وأخرى أقتالهم، واشتهر من شيوح حكيم أبو زيد بن عمر بن يعقوب وابنه خليفة ومحمد ابن مسكين وخليفة ابن أخيه، وكان منهم أول القرن التاسع الشيخ المرابط أحمد إن أبي صعنونة بن عبد الله بن مسكين. وكان بمقرة بيوت من دباب ومرداس، أوقع بهم المستنصر سنة 651 واعتقل منهم بالمهدية رحاب بن محمود وابنه في آخرين. وأقطع الحفصيون كرفة بادس والزاب الشرقي وجباية أوراس الشرقي، ليوقعوا رياحا بين نارين، فلم تفعل كرفة أكثر من المحافظة على اقطاعها، ولم يجدوا في بقيه بطون الاثبج من يقدر على مقاومة رياح، وإن بقيت في بعضهم رئاسة. قال ابن خلدون: "ورئاسة أولاد وشاح من دريد لعهدنا منقسمة

بين سحيم بن كثير بن جماعة بن وشاح، وأحمد بن خليفة بن رشاش ابن وشاح ورئاسة أولاد مبارك بن عابد منقسمة ايضا بين نجاح بن محمد بن منصور بن عبيد بن مبارك، وعبد الله بن أحمد بن عنان ابن منصور " اهـ. وكان شيخ محيا من العمور في القرن الثامن عامر بن أبي يحي ابن محيا حج ولقي بمصر يوسف الكوراني شيخ الصوفية، فلقن طريقه وحمل عليها قومه وعني بتأمين السبل فحارب النضر جيرانه لافسا دهم. فاغتالوه. وفي عصره كان شيخ أولاد زكرير يغمور بن موسى بن ابي زيد ابن زكرير فكان يناهضه في شرفه، ولكن عامرا اسود منه لمعه بين مشيختي القبيلة والطريقة. وكانت عياض تتولى جباية جيرانها من البربر لصاحب بجاية وأكثر الاثبج عجزوا عن الظعن وأقاموا بالمدن وانضوى تحت لواء رياح الضحاك ولطيف والعمور الشرقيون. غلبت رياح أولا على منطقتي الهضاب والصحراء من عمالة قسنطينة الى زاغز من عمالة الجزائر. وعنوا بالفلاحة وتربية المواشي، فأثروا وكثروا واعتزوا على الدولة، الحفصية لبعدهم عن عاصمتها، واصبحوا مأمنا لكل مسخوط من الدولة وعونا لكل ثائر يخطب الملك. وكانت لهم امتيازات واقطاعات منحهم اياها ملوك أعانوهم على تبوأ العرش أو على حمايته من ثائر عليه حتى ان الذواودة كان لهم بقسنطينة عطاء معلوم مرتب على مراتبهم علاوة على ما بأيديهم من البلاد وما لهم من خفارات، وكانوا معفين من الضرائب وكان هذا مما يضر بمالية الدولة.

وكانت الحكومة اذا آنست من نفسها القوة انتقمت منهم على اعانتهم لثائر أو نقصتهم عطاءهم أو منعتهم اياه، فلم يعدموا في ملوك زناتة أو أمراء البيت الحفصي قائدا للثورة، وهكذا استمرت حياة رياح والحفصيين. واختلفت أيامهم سلما وحربا، ولم تزد رياحا الايام إلا قوة. وكانت بطانة الحفصيين يستعملون نفوذهم مع رياح وغيرها في مصالحهم الخاصة وحسب أهوائهم، فربما دعوا القبيلة اليوم الى طاعة ملك ودعوها غدا الى حربه، وهذا عبد الرحمن بن خلدون كان مع الحفصيين فدعا رياحا لطاعتهم ثم فارقهم. فدعاها لابي حمو الثاني سنة 769 ثم حملها على حربه ومحالفة عدوه عبد العزيز بن أبي الحسن سنة 772. ومع هذا التلاعب الذي لم يسلم منه فيلسوفنا نراه يؤنب العرب ان جرؤا على الدولة. وكانت بطون رياح تبعا للذواودة الذين كان منهم مسعود بن سلطان وأخوه عساكر ومحمد بن مسعود. واستمرت الرئالسة في أولاد مسعود. ومال عنهم ابناء عساكر للدولة سنة 666 فولى المستنصر رئاستهم مهدي بن عساكر ثم ابنه ماضي ثم موسى ابن ماضي. واقطعتهم الدولة نقاوس، وحالفتهم عياض. ولكن غمرهم اولاد مسعود. وكان محمد بن مسعود مع يحي بن غانية وتوفي بعد وفاته. فخلفه ابنه موسى. وكان عظيم الصيت معتزا اعلى الدولة. ووفد على أبي زكرياء لما نزل بباغاية سنة 47 فبايعه. وتوفي أيام المستنصر. فخلفه ابنه شبل. واستطال على الدولة. وبايع أبا القاسم بن عبد الرحمن ابن الامير عبد الواحد سنة 661 وقد نزل عليه بنقاوس. وخرج اليه المستنصر سنة 64 فبلغ المسيلة. واعجزه. فعاد الى تونس. وأمر عامل بجاية أبا هلال باستئلافه.

وخرج المستنصر سنة 666 فعسكر بالحضنة على ثنايا الزاب ازاء جموع رياح. وترددت الرسل بين شبل وابي هلال. فأقنعه بحسن عاقبة الوفادة على السلطان. فقدم هو وأخوه يحي وسباع بن يحي ابن دريد بن مسعود وطلحة بن ميمون بن دريد وحداد بن مولاهم ابن خنفر بن مسعود ودريد بن تازير شيخ أولاد نابت من كرفة. فضرب المستنصر أعناق هؤلاء الامراء. وصلب أشلاءهم بزرايا قرب نقاوس حيث بايعوا ابن عمه ابا القاسم. وأجفلت رياح والعساكر أثرها تنهبها حتى قطعت وادي جدي، فرجعت العساكر، ولحق أولاد يحي بن دريد بيغمراسن ابن زيان، وبنو محمد بن مسعود بيعقوب بن عبد الحق فأكرموهم ووصلوهم بالمال والخيل والابل والكراع. وعادت رياح فغلبت على ورقلة ووادي ريغ، وتقدموا الى الزاب فهزموا عامله عثمان بن محمد بن عتو، ثم قتلوه بقطاوة، وملكوا أوراس أيضا، وقتلوا موسى بن ماضي، وأخذوا الحضنة، واضطرت الدولة الى مهادتنهم، فاقطعهم السلطان ابو اسحق أخو المستنصر ما غلبوا عليه. ونشأ سباع بن شبل في كفالة عمه مولاهم بن موسى، ورأس على قومه واقطعته الدولة المسيلة، وتربى علي بن سباع في حجر عمه طلحة بن يحي وصارت اليه المسيلة وبقيت في عقبة، وكانت مقره في اقطاع أحمد بن محمد بن مسعود وخلف سباع بن شبل ابنه عثمان العاكر، وخلف علي بن سباع ابنه سليمان فتنازعا رئاسة قومهما، وافترق أولاد مسعود الى فرقتين أولاد محمد وأولاد سباع بن يحي وافترقت عليهم رياح فكان سعيد مع أولاد محمد، ومسلم والاخضر مع أولاد سباع، واقتسموا المواطن بورقلة وريغ والزاب والحضنة والتلول، فكان لاولاد سباع المسيلة وجبال عياض ومتنان ووانوغة

ونواحي بجاية، ولاولاد محمد مقرة والزاب الاوسط ونواحي قسنطينة، وكانت طولقة والزاب الغربي بينهم. فتقاتلوا عليه حتى اختص به أولاد سباع. ولكن مواطن أولاد محمد أخصب وأوسع وسيادتهم أعظم وعددهم أكثر. ثم افترقت رئاسة اولاد سباع بين علي وعثمان ابني سباع بن يحي وعثمان هذا هو الذي وفد سنة 701 على السلطان يوسف وهو محاصر لتلمسان وحرضه على ملك بجاية. وخلف علي بن سباع ابنه سليمان ثم ابنا سليمان عطية ويوسف ثم عثمان بن يوسف الذي أخذ بطاعة ابي عنان المريني، ويرادف أولاد سليمان أخوتهم أولاد يحي أخي سليمان. وانتقلت رئاسة أولاد محمد الى أولاد أحمد بن عمر صاحب مقرة، فتولاها أبو يحيى بن أحمد الى أن هلك أوائل المائة الثامنة، فخلفه أخوه علي، وكان أعظم أمراء رياح، وخلفه ابنه يعقوب، وطالت مدته، حتى توفي سنة 790 بنقاوس ودفن ببسكرة واشتهر من ابنائه صولة ومحمد. وكان يعقوب بن علي أعظم أمراء رياح من سبقه منهم ومن لحقه. له ولوع بالفلاحة والعمران، اختط قرية فرفار قرب طولقة، ونزل عليه بها ابن خلدون في وفادته على سلطان تونس سنة 780 وله أملاك بطولقة ونقاوس والصحراء والتل، وله رغبة في السلم، وكثيرا ما يصلح بين أمراء الحفصيين أو بين الامراء والرعايا، ونزل عليه الامير أبو يحي زكرياء لما ثار عله أخيه سنة 759 واصهر اليه في ابنة اخيه سعيد فانكحه اياها. وكان يعقوب قد بايع ابا الحسن المريني. وفد عليه في زحفه على تونس بأرض بني حسن قرب البرواقية، وذهب معه أخوه ابو دينار

سليمان الى المغرب حتى مات. فوفد على ابنه ابي عنان واكرمه، وطلب منه تسهيل السبيل لفتح تونس، فلما زحف اليها ابو عنان بايعه يعقوب، واخوه سليمان، وخالفهما اخوهما ميمون الى ولاء الحفصيين. ثم رأى يعقوب محاولة ابي عنان لانتزاع امتيازاتهم فنبذ طاعته سنة 58 وخالفه إليه ميمون، ورام ابو عنان ارضاء يعقوب او القبض عليه، فلم يقدر على أكثر من تخريب قصوره بالصحراء والتل. ثم حج يعقوب وعاد فالفى قومه في حرب مع أمير قسنطينة ابراهيم بن السلطان ابي العباس لمحاولته نزع امتيازاتهم، فسعى في الصلح وطلب من ابراهيم انصاف العرب فأعرض عنه فاعتزل يعقوب الحرب وتوفي فخلفه ابنه محمد وفرق عنه ابراهيم كلمة رياح وحاربه فانهزم، فلما أصحر محمد جد ابراهيم في حماية التلول عنه واضطره الى المصيف في الزاب سنة 92 ثم هجم على التل في السنة التالية، ومات الامير ابراهيم وتفرقت جموعه فتقدم محمد بن يعقوب الى نواحي قسنطينة ونادى بالامان فأمنت الطرق وصلحت أحوال الرعايا. وبعث الى السلطان ابي العباس بطاعته. وفي سنة 96 ولي قسنطينة ابو بكر بن ابي العباس وعكف على لذاته وأساءت بطانته الادارة فانقضت رياح على الدولة وقتلوا في بعض حروبهم معها قائد قسنطينة جا الخبر سنة 833. وكان كبير الذواودة سنة 38 عيسى بن محمد، وكلمته مع السلطان محمد الرابع المنتصر مسموعة، ومن معاصريه سباع بن محمد ولعله أخوه وبينهما اختلاف ومن شيوخ الذواودة منتصف هذا القرن التاسع أحمد بن علي، ومنهم نصر بن صولة ولا ادري أصولة هذا هو ابن يعقوب بن علي أم غيره؟ وآخر كلمة في تاريخ دولتي الموحدين للزركشي قوله: "وفي

3 - رياح والاصلاح

أواسط المحرم من عام 882 ورد على السلطان نصر بن صولة شيخ الذواودة طالبا للعفو فعفا عنه وانصرف الى أهله بعد الاحسان خديما" اهـ. 3 - رياح والاصلاح كان القرن السابع الذي سقطت فيه الدولة المؤمنية مبدأ انحطاط عام، فكثر الملوك وتزاحمهم وتحاربهم. ووجدت الرعايا سبيلا إلى الفوضى. والولاة سبيلا الى الجور. وفشت المنكرات وأخيفت الطرقات. وفي أوائل القرن الثامن ضهر من رياح ثم من رحمان رجل يدعى سعادة كانت أمه من الصالحات ونشأ هو على اعمبادة والزهد وارتحل الى المغرب فصحب ابا اسحق التسولي شيخ الفقهاء الصالحين يومئذ وعاد الى قومه بفقه صحيح وورع وافر ونزل طولقة. وانذر عشيرته وبث دعوته فأجابه خلق كثير بالزاب وريغ وكثير من البلدان. فلقبهم السنية. ومن مشاهير مريديه من أولاد مسعود ابو يحي بن أحمد وعطية ابن سليمان وحسن بن سلامة من أولاد طلحة بن يحي بن دريد، ومن أولاد عساكر عيسى بن يحي بن ادريس، ومن زغبة هجرس بن علي اليزيدي ورجالات من العطاف. استظهر سعادة بهؤلاء الامراء واتباعهم على تأمين السبل وتغيير المنكر واحياء السنة، ودعا منصور بن مزني أمير الزاب الى اعفاء الرعية من المغرم والمكس وسائر الظلامات، فهم بقتله. ولكن حال دونه مريدوه. وبايعوه على اقامة السنة والموت دونه. وأعد منصور سعادة ثائرا فاستعد لحربه واستنجد أمير بجاية

خالد بن أبي زكرياء المنتخب واستمال اليه بعض رياح فمال اليه علي ابن أحمد منافسة لاخيه ابي يحي، وسليمان بن علي منافسة لعطية ابن سليمان وخشي سعادة من الاقامة في طولقة، فابتنى بضواحيها زاوية انتقل اليها بمريديه. ثم زحف سعادة الى بسكرة سنة 703 وسنة 704 وحاصر بها منصورا فامتنعت عليه أولا وثانيا. وانحدرت رياح الى مشاتيها سنة 705 فبقي في قل من مريديه. ومع ذلك حاصر مليلي، فصبحه بها منصور في جند الدولة ورياح وبعد جولة استشهد سعادة. نعي سعادة الى السنية بمشاتيهم. فصعدوا الى الزاب برئاسة ابي يحي بن احمد وزحفوا الى بسكرة مررا. وقطعوا نخيلها وأحرقوا عمال الدولة بالنار فصرخ منصور في أوليائه من الذواودة فلبوه وعقد على الجند لابنه علي ومعه علي بن أحمد على رياح. وكانت المعركة بالصحراء سنة 13 فقتل علي بن منصور. واسر علي بن أحمد. فأطلقه عيسى بن يحي لمكان أخيه، وعظم أمر السنية بعد هذا الانتصار. ثم هلك ابو يحي وعيسى، ت يحي وكاد أمر السنية ينحل فاتفقوا على استدعاء عالم يقيم لهم أمر الدين ويجمع كلمتهم واختاروا الفقيه أبا عبد الله محمد بن الازرق من فقهاء مقرة. أخذ على ابي محمد الزواوي كبير شيوخ بجاية. فارتحل اليهم. ونزل على حسن بن سلامة. ووالاهم ابو تاشفين الاول اضعافا للحفصيين الذين كان معهم في حرب. فصار يبعث اليهم بالهدايا ويخص عالمهم ابن الازرق بجائزة معلومة كل سنة. وخلا وجه رياح لعلي بن أحمد بموت أخيه. فقاتل هؤلاء السنية مرارا ثم هلك حسن بن سلامة. واستدعى ابن مزني الفقيه ابن الازرق لقضاء بسكرة ليقضي على دعوة سعادة. فأجابه. وطويت صحيفة السنية.

4 - امارة بني مزني ببسكرة

وبعد حين غاضب علي بن أحمد ابن مزني. فأحيا هذه الدعوة، وحاصر بسكرة سنة 40 وأقام عليها اشهرا، ثم عاد الى موالاة ابن مزني، وهكذا حاولت اصلاح المجتمع رياح. فذهبت مساعيها لاختلافها أدراج الرياح. وكفى سعادة سعادة انه ادى الواجب وفاز بالشهادة. قال ابن خلدون: "وبقي من عقب سعادة في زاويتة بنون وحفدة يوجب لهم ابن مزني رعاية، وتعرف لهم أعراب الفلاة من رياح حقا في اجارة من يجيرونه من أهل السابلة وبقي هؤلاء الذواودة ينزع بعضهم احيانا الى اقامة هذه الدعوة. فيأخذون بها أنفسهم غير متصفين من الدين والتعمق في الورع بما يناسبها ويقضي حقها. بل يجعلونها ذريعة لأحذ الزكاة من الرعايا ويتظاهرون بتغيير المنكر يسرون بذلك حسوا في ارتغاء فينحل أمرهم لذلك وتخفق مساعيهم ويتنازعون على ما يحصل بايديهم ويفترقون على غير شيء" اهـ. 4 - امارة بني مزني ببسكرة كانت قاعدة الزاب الحفصي مقرة من أرض الحضنة. فكانت بسكرة تابعة لها ومشيختها لبني رمان منذ سقوط الدولة الحمادية. وكان بنو مزني بقرية حياس قربها. وملكوا بها جنات النخيل والثمار بمياهها. وانتقلوا اليها. وشارك كبارهم في مجالس شوراها. فاستنكف منهم بنو رمان. وتلاحوا بالكلام، وانتهى أمرهم الى سلطان تونس فمال مع بني رمان لقدمهم، ولكن النزاع لم يفصل واصلتوا سيوفهم، وتقاتلوا في سكك بسكرة. وفي سنة 651 دعا ابو اسحق لنفسه مغاضبا لاخيه المستنصر فبايعته رياح بنقاوس وزحفوا به الى بسكرة فبايعه من مشيختها فضل

ابن علي بن أحمد بن الحسين بن علي بن مزني وابى أهلها موافقته، وعزموا على قتله فخرج الى ابي اسحق الذي لم يتم أمره واجاز معه الى الاندلس حتى توفي المستنصر وعاد مع ابي اسحق الى تونس. وبنو مزني ينتسبون الى مازن بن فزارة قال ابن خلدون: "والذي تلقيته عن نسابة الهلاليين أنهم بنو مزنة بن ديفل بن محيا بن جرير من فصائل لطيف. وهو الصحيح فان أهل الزاب كلهم من أفاريق الاثبج عجزوا عن الظعن ونزلوا قراه على من كان بها قبلهم من زناتة وطوالع الفتح. وانما نزعوا عن نسب الاثبج لما صاروا اليه من المغرم والوضائع " اهـ. وفي سنة 78 ملك ابو اسحق تونس وجازى فضلا عن صحبته اياه بولاية الزاب فنزل بسكرة وخضع له بنو رمان ظاهرا. وحالفوا أولاد جرير. واغروهم بقتل فضل وتناول الامر من يده وهم يومئذ بقرية ماشاش قرب بسكرة ولهم اختلاط مع أهلها بالنسب والصهر فقتلوه ظاهر البلد سنة 83 وانتقلوا الى بسكرة فنبذ لهم بنو رمان عهدهم لعامين من حلفهم، فلم تسعهم المدينة ولا قرية ماشاش لقربها فتفرقوا في وادي ريغ واستبد بنو رمان ببسكرة وتغلبت رياح على الزاب. وكان منصور بن فضل لما قتل ابوه بتونس فخشي بنو رمان غائلته. وسعوا به لدى السلطان ابي حفص فاعتقله الى ان تمكن من الفرار ولحق بأوراس فنزل على الشبه من كرفة خير منزل. ثم لحق ببجاية سنة 92 وابو زكريا بن ابي اسحق يومئذ مستقل بها والزاب في طاعة صاحب تونس فتقرب اليه منصور واستظهر به على ولاية الزاب على ان يحول دعوته اليه كما فعل أبوه مع أبيه من قبل فسرحه سنة 93 بالجنود الى بسكرة واستبعد بنو رمان صاحبهم بتونس فوفدوا على ابي زكرياء مبايعين خائفين من منصور فامنهم وجعل

احكامهم الى قائد عسكره وكتب الى منصور بالعفو عنهم ففتحوا أبواب المدينة لمنصور وعسكر بجاية وبعد ان ثبتت قدم منصور في بسكرة أجلى بني رمان عنها كما أجلوا قبل أولاد جرير. وكما تدين تدان. اعجبت حكومة بجاية بصدق طاعة منصور وحسن ادارته. فأضافت له ورقلة ووادي ريغ والحضنة وجبل أوراس، وبقيت كذلك لخلفه فامارة بني مزني تمتد من ورقلة جنوبا الى المسيلة ونقاوس شمالا ومن الدوسن غربا الى بادس شرقا، ودخلت مواطن عياض وسدويكش في هذه الامارة ايام منصور خاصة. ولهذه الامارة مواصلات تجارية مع أهالي السودان وما حولها من الاوطان ولتوسطها بين الصحراء والتل جمعت بين خواصهما: تجد فيها النخيل والزيتون والابل والبقر وتحسن بها تربية المواشي وفلاحة الحبوب والثمار. فكان أهلها أغنياء، وامراؤها تشبه ثروتهم ثروة الملوك. قال العياشي في رحلته: "وبسكرة من أعظم المدن وأجمعها لمنافع كثيرة مع توفر اسباب العمران فيها، قد جمعت بين التل والصحراء ذات نخيل كثير وزرع كثيف وزيتون ناعم وكتان جيد وماء جار في نواحيها وارحاء متعددة تطحن بالماء ومزارع حناء الى غير ذلك، وبالجملة ما رأيت في البلاد التي سلكتها شرقا وغربا أحسن منها ولا أحصن ولا أجمع لاسباب المعاش " اهـ. وذكر ان عام ستين والف كان عام وباء وانه مات به في بسكرة نحو من سبعين الف نفس، وهذا يرشد الى مبلغ عمرانها بعد بني مزني بأكثر من قرنين ونصف قاست فيها الوانا من الشر وضروبا من الفتن فكيف يكون عمرانها ايام سعادتها وهنائها تحت بني مزني؟

احسن بنو مزني سياسة الرعية، وعاشوا مع رياح احسن مما عاش معهم الحفصيون، حتى ان ثورة سعادة لم تشمل رياحا أجمعين. وكان مع بني مزني علي بن أحمد ثم نافسهم لاستئثارهم بمال الجباية دونه، فثار عليهم متدثرا بالسنية، ولكن يوسف بن منصور استمال ابنه يعقوب وابن عمه سليمان بن علي بن سباع، وأنزلهما معه ببسكرة وأنكح أخته يعقوب، ثم انعقدت السلم بين يوسف بن مزني وعلي ابن أحمد حوالي سنة 40 فلم تنقض بعد. وكانت بطانة أمراء الحفصيين ببجاية تحسد بني مزني على هنائهم وثروة امارتهم، فتسعى بهم لدى الامراء، وكان بنو مزني يطفئون تلك السعايات بتوفير الجباية للامراء واتحاف بطانتهم بالهدايا، وربما لم ينجح هذا الدواء فيضطر بنو مزني الى نصب أحد الحفصيين المملك ومبايعته ضد الأمير السابق أو الى موالاة ملوك زناتة أهل تلمسان وفاس. ففي أيام ابي البقاء بن ابي زكرياء فر يحي بن خالد بن السلطان ابي اسحق الى منصور بن مزني وقد فسد ما بينه وبين ابي البقاء فبايعه واجلب به على قسنطينة، ووسوس ليحي بعض حاشيته في منصور فعزم على نكبته اذا تم أمره وشعر به منصور فنبذه، وراجع طاعة ابي البقاء وخاب سعي يحي، فنزل على منصور. وأقام تحت جرايته وحرسه مرصدا للعواقب الى أن مات سنة 721 فكان ابن اللحياني يصانع منصورا من أجله بالجوائز واقطعه من املاك السلطان بضواحي تونس أملاكا ورثها عنه بنوه. ودعا منصور لابي تاشفين الاول أيام ابي بكر أخي ابي البقاء، وترددت اليه العساكر. فأعجزها. وبقي على ذلك الى أن خلفه ابنه عبد الواحد، فلم يلبث ان غاضبه عامل بجاية محمد بن ابي الحسين

ابن سيد الناس فدعا لصاحب تلمسان ونازلته عساكر بجاية مرارا من غير طائل. ثم انعقد بينهما صهر وسلم. ووالى يوسف بن منصور ابا الحسن المريني لما ملك تلمسان. واقتصر مع الحفصيين على دفع الجباية لهم ثم تحرك ابو الحسن لفتح تونس، فوفد عليه في جموع الذواودة بارض بني حسن. وذهب اليه سنة 49 بجبايته واجتمع بقسنطينة مع عمال المغرب بجبايتهم ووفدي صاحبي السودان والاندلس بهداياهم. وبلغتهم نكبة ابي الحسن. فهم بهم القسنطينيون واجارهم يعقوب بن علي وانزلهم يوسف بسكرة وكفاهم مهماتهم شهورا. وأقام على ولائه لابي الحسن حتى هلك. وملك ابنه ابو عنان تلمسان، فبايعه وامده في فتح قسنطينة سنة 54 ودله على الطريق في اتباعه يعقوب بن علي. وانزله بعساكره ظاهر بسكرة ثلاثا أغرب في ضيافتهم على كثرتهم بما تحدث الناس به دهرا. وقدم اليه جبايته قناطر ذهبا. فخلع عليه ابو عنان وأجزل صلته. ثم اوفد عليه ابنه احمد سنة 59 بهدية فيها عتاق الخيل وفاره الرقيق. وتوفي ابو عنان فاتحفه خلفه بتحف ملوكية، وانقطعت الطرق بالثورات فخفره صغير بن عامر شيخ بني عامر حتى أبلغه مأمنه. واجلى ابو حمو الثاني ابا زيان محمد بن عثمان الثاني عن مملكته سنة 78 فنزل على صاحب توزر يحي بن يملول واتحد يحي وأحمد بن يوسف على استغلاله ضد الحفصيين، فراسل احمد ابا حمو بكف ابي زيان عنه واشغاله هو للحفصيين بالاجلاب على مملكتهم ثم طرد الحفصيون يحي بن يملول فلحق ببسكرة ومعه ابو زياد فاوفد أحمد بن يوسف على ابي حمو يعقوب بن علي سنة 82 لاستنجاز وعده في حرب الحفصيين، ومات يحي بن يملول وترك صبيا، فسرحه أحمد لاسترجاع توزر فلم يقدر أبو حمو على أكثر من امداده بالمال.

وخرج سلطان تونس ابو العباس لحرب أحمد بن يوسف، فسعى يعقوب بن علي في السلم، وحمل أحمد على الطاعة. وارسل الى السلطان بالشفاعة. وسرحوا أبا زيان الى قسنطينة ايذانا بنفض أيديهم من أبي حمو. وبلغت رسل أحمد بهديتهم وطاعة ابا العباس أول سنة 83 وهو معسكر بساح تبسة فاعرض عن حربه. ثم مرض بعدها في الطاعة. فخرج اليه سنة 86 ومعه سليم، ومر بتبسة وجنوب أوراس وتهودا، وانضم اليه أولاد سباع بن شبل وأنفت بقية رياح من دخول سليم مواطنها. وتناوش الفريقان القتال. وانتبذ عنهم يعقوب ساعيا في الصلح فتم باقلاع السلطان عن بسكرة وبذل أحمد له طاعته وجبايته. وقويت الدولة الحفصية بضعف دولتي زناتة. وقطعت عنها كل المستبدين. ولم يبق الا بنو مزني. فخرج اليهم السلطان ابو فارس بن ابي العباس سنة 804 وتلوم اياما ببئر الكاهنة. ثم دخل بسكرة يوم السبت سابع جمادى الثانية. وولى عليها من قواده وحمل معه أحمد بن يوسف الى تونس. فانتهت امارة بني مزني. وقد عاشت هذه الامارة نحوا من قرن ونصف تخللها بنو رمان بين فضل بن علي وابنه منصور. ولم يعرف الزاب الى اليوم عصرا كعصرها هناء ورغادة عيش لما كان عليه بنو مزني من حسن التدبير والادارة، فقد أحسنوا معاملة الذواودة، فاستعانوا بهم. وعرفوا ما بالبلاط الحفصي من دسائس فوصلوا أيديهم بزناتة التي لولا تطاحن دولتيها حتى ضعفتا ما سقطت هذه الامارة في دور اكتهالها. ومما يحسن ختم هذا الفصل به ابيات للسان الدين بن الخطيب بعث بها أثناء رسالة لابن خلدون وهو مقيم على أحمد بن يوسف. وهي: من أنكر غيثا منشؤه … في الارض وليس بمخلفها

5 - رئاسة الثعالبة بمتيجة واخبار المعقل

فبنان بني مزني مزن … تنهل بلطف مصرفها مزن مذ حل ببسكرة … يوما نطقت بمصحفها شكرت حتى بعبارتها … وبمعناها وباحرفها ضحكت بابي العباس من الا … يام ثنايا زخرفها وتنكرت الدنيا حتى … عرفت منه بمعرفها وهذا جدول امراء بني مزني الامبر … الولاية … هـ … م فضل بن علي … 678 … 1279 ابنه منصور … 693 … 1294 ابنه عبد الواحد … 725 … 1325 اخوه يوسف منصور … 729 … 1329 ابنه أحمد … 767 … 1365 النهاية … 804 … 1402 5 - رئاسة الثعالبة بمتيجة واخبار المعقل كان الثعالبة مستضفين عاجزين عن الترحال. فاستقروا بالتل، وتغلبت عليهم توجين ايام كانوا بتيطري ذا مليكش وولاة الجزائر لما انتقلوا الى متيجة أواخر القرن السابع. وأدوا المغارم لدول الحفصيين والمرينيين الذين تداولوا ملك متيجة والجزائر. وبقوا غفلا من حلف القبائل واقطاع الدول الى أن نشأ فيهم سالم بن ابراهيم. وكان رئيس الثعالبة سباع بن ثعلب بن علي ومر به ابن تومرت فأكرمه فكان اذا وفد على خلفاء الموحدين وضعوا على عمامته دينارا عظيما إكراما له. واستمرت الرئاسة في عقبه. فكانت أولا لبني يعقوب ابن سباع ثم لبني محمد بن سباع.

ولما ملك ابو الحسن المريني تلمسان ولى عليهم ابا الحملات بن عايد بن ثابت بن محمد بن سباع، وهلك بالطاعون سنة 749 فخلفه ابراهيم بن نصر بن حنيش بن ابي حميد بن ثابت، وهلك ايام ابي عنان، فخلفه ابنه سالم، واستولى على تلمسان بعد ابي عنان ابو حمو الثاني. وفي ذي الحجة سنة 767 ثار أبو زيان محمد بن عثمان الثاني على ابن عمه أبي حمو، وبايعه حصين وملك سنة 68 مليانة ولمدية، ووالي الجزائر يومئذ علي بن غالب من بيوتاتها، ونفر أهلها من السلطان أبي حمو. فاستبد بها، وساعدت هذه الظروف سالم بن ابراهيم على وضع ذل المغرم عن عاتق قومه، فوصل يده بابي زيان، ووسوس لاهل الجزائر ان واليهم يريد الدعاء لابي حمو، فثاروا به. وأخرجه سالم الى حيه وعجل له بحينه واستبد بالجزائر داعيا لابي زيان. وخرج أبو حمو سنة 71 الى متيجة فاخضع الثعالبة وأخذ منهم جباية السنوات الماضية، وامتنعت عليه الجزائر ثم ملك عليه عبد العزيز سلطان مرين تلمسان سنة 72 وطرد ابا زيان ووضع على الثعالبة مغارم ثقيلة، ثم مات سنة 74 وعاد أبو حمو الى تلمسان وابو زيان الى تيطوي. وفي سنة 76 سعى محمد بن عريف شيخ سويد في اطفاء هذه الفتنة، فتم الامر بخروج أبي زيان الى رياح واداء أبي حمو له اتاوة سنوية ت واوفد على أبي حمو سالم بن ابراهيم وشيوخ حصين واعيان الجزائر، فأمنهم وعادوا الى طاعته وبقي سالم على رئاسته بالجزائر ومتيجة وعمال ابي حمو تستيوفي منه الجباية. وكل ينتظر الفرصة لشفاء صدره من الآخر. وفي سنة 78 تآمر سالم ومرضى القلوب على ابي حمو،

واستقدموا ابا زيان فغلب أبو حمو على الثورة وطلب سالم الامن لنفسه على مفارقة ابي زيان فمنحه اياه، وخرج أبو زيان الى الجريد وعاد ابو حمو الى تلمسان مضمرا الفتك بسالم لكثرة تلاعبه بالعهود، فلما كان فصل الشتاء وانحدرت العرب الذين يخشاهم ابو حمو الى مشاتيهم نهض الى متيجة، فاجفلت امامه الثعالبة الى رؤس الجبال، وبعث سالم ابناءه وأولياءه الى الجزائر وتحصن هو بجبل بني خليل، ثم نزل كثير من الثعالبة الى أبي حمو مستأمنين، وانتقل سالم الى بني ميسرة من جبال صنهاجة وبعث أخاه ثابتا الى أبي حمو فاقتضى منه العهد ونزل الى ابنه ابي تاشفين أواخر رمضان، فتقبض عليه أبو حمو ولم يراع عهده ولا ذمة ابنه، واستولى على الجزائر وقفل الى تلمسان فقتل سالما في شوال وتتبع اخوانه وقبيلته بالقتل والسبي والنهب حتى دثروا، ثم قتل الاتراك منهم لاول استيلائهم على الجزائر مقتلة عظيمة ضاعفته ضعفهم. واذا لم يظهر من الثعالبة امراء عظام فاكفاهم فخرا عبد الرحمن الثعالبي دفين الجزائر وعالم القرن التاسع، وأبو مهدي عيسى عالم القرن الحادي عشر، ولعل الشيخ عبد الرحمن من فرع محمد بن سباع ولكن الناس يرفعون نسبه الى علي بن ابي طالب (رض) كأنهم لم يكتفوا بشرف العلم. وقد حكى الاخباريون ان الشيخ محمد المقري التلمساني كان يحضر مجلس السلطان ابي عنان فاذا دخل مزوار الشرفاء قام له السلطان فمن دونه الا المقري فقال له المزوار ذات يوم ما لك لا تقوم لي مثل السلطان اكراما لجدي فأجابه اما شرفي فمحقق بالعلم الذي ابثه، واما شرفك فمن لنا بصحته بعد مضي أكثر من سبعة قرون؟ ولو تحققناه لاقمنا هذا السلطان من مجلسه واجلسناك مكانه! وبقية المعقل غير الثعالية ذوو كثرة وانتجاع، ومواطنهم بين

6 - زغبة

زناتة فكانوا أحلافا لهم، وأكثر انجياشهم الى مرين، وكان المنبات من ذوي منصور أحلافا ليغمراسن بن زيان، وذوو عبيد الله محاربين له، ثم خضع الخراج منهم لبني عبد الواد اذ كانت مواطنهم في مملكتهم فأدوا لهم الخراج وعسكروا معهم. ولما أخذت الدولة في الضعف منحت الخراج خفارة وجدة وندرومة وبني يزناسن ومديونة وبني سنوس. ثم اقطعتهم اياها. فتملكوها. وتملكوا ايضا هنين ووضعوا على المجيز منها الى تلمسان ضريبة فصارت جباية معظم مملكة تلمسان الغريبة لهم. ولما تملك ابو الحسن المريني تلمسان استخدم ذوي عبيد الله، وانتزع منهم كثيرا من أملاكهم بالصحراء فثار عليه شيخهم يعقوب بن يغمور بن عبد الملك من العثامنة، ولكن لم يفعل أكثر من تشرده بالصحراء وولي مكانه منصور بن يعقوب بن عبد الملك ثم ابنه رحو، ولما عادت تلمسان لبني عبد الواد صدق يعقوب بن يغمور في ولائهم، ورأس على قومه ومات فخلفه ابنه طلحة، وكان لرحو مقامات في خدمة ابي حمو الثاني. فولاه رئاسة قومه. وجعل طلحة رديفه، ويظهر ان رئاسة الخراج مغمورة برئاسة عامر وسويد من زغبة. 6 - زغبة تمتد مواطن زغبة غربي مواطن رياح على جنوب عمالتي الجزائر ووهران وتقدموا مع احلافهم بني بادين الى التل أواخر الدولة المؤمنية، ونقل يغمراسن بن زيان بني عامر من نواحي زاغز الى جنوب تلمسان أشجاء للمعقل الذين كثر عيشهم هنالك. وتبعت حميان بني عامر، وصارت في عدادهم ثم خشي يغمراسن على دولته من زغبة

فحجرهم بالصحراء وأذلهم بالمغرم والعساكرة في جنده. واستمروا على ضعفهم المالي والسياسي مدة عظمة دولة تلمسان. وكانت بين قبائل زناتة حروب خاضت زغبة غمارها توسلا الى دخول التل، فلما تمكن الضعف من بني عبد الواد ايام ابي حمو الثاني نزل ابو زيان ابن جبل تيطري سنة 767 وقام بدعوته حصين وسويد وبعض بني عامر، وكاد يتغلب على تلمسان ودامت ثورته نحو اثنتي عشرة سنة توالت فيها على ابي حمو الهزائم وتغلبت زغبة على كثير من التلول، ولم تنجل هذه الغمرة عن ابي حمو الا باقطاعه زغبة كل ما تغلب ضعليه أعداؤه منها او طمع فيه أولياؤه. تقوت زغبة بهذه الاقطاعات ووضعت عنها ذل المغرم وجبت من في أراضيها من البربر وحرمت عروة لضعفها من الاقطاع، وقعدت حصين واكثر بني يزيد عن الضعن. ولزغبة حروب مع جيرانها فكانت بين بني يزيد والذواودة حروب وتغلبت الذواودة على الدهوس. فاستنجد بنو يزيد بعامر وهم يومئذ جوبهم فانجدوهم، وأخرجوا رياحا عنهم. ففرض لهم أبو بكر بن زغلي رئيس بني يزيد على قومه الف غرارة من الحبوب يأخذونها كل سنة وعرفت هذه الضريبة بالغرارة وكانت حروب ايضا بين عروة وجيرانهم من العمور ومسلم وسعيد، وبين سويد وبني عامر مع جيرانهم من المعقل وكانت فتن بين بطون زغبة المتجاورين. وتنقلت رئاسة بني يزيد في كثير من بطونهم ثم استقرت في بني زغلي. فوليهم زيان بن زغلي ثم أخوه ديفل ثم أخوهما ابو بكر ثم ابناء ساسي فمعتوق ثم موسى بن ابي الفضل بن زغلي كان ايام ابي الحسن المريني، ثم أخوه أحمد ثم اخوهما علي ثم ابو الليل بن موسى وتوفي سنة 791 فخلفه ابنه.

ومن رؤساء حصين لعهد ابن خلدون علي بن صالح بن دياب ابن مبارك بن محيا بن مهلهل بن شكر بن عامر بن محمد بن خشعة. ومن رؤساء عروة لعهده محمد بن زيان بن عسكر بن خليفة بن النظر ويرادفه سمعون بن ابي يحي بن خليفة بن عسكر. وأقوى بطون زغبة سويد احلاف مرين وبنو عامر احلاف بني عبد الواد. ويحالف سويدا محيا من العمور والعطاف والديالم وبنو يقظان وعبيد الله من زغبة. ويحالف يني عامر أولاد زكرير من العمور والنضر من زغبة. وموطن بني عامر تسالة وملاتة الى هيدور جبل وهران. وموطن سويد ما بين وانشريس وتلمسان عرضا وخليج رزيو والشط الشرقي طولا. وينحدرون شتاء الى مزاب فيمرون بافلو وتاجموت. وموطنهم اغنى مواطن زغبة واكثرها سكانا ومع ذلك لم يبلغ بنو عامر ولا سويد عظمة الذواودة لكثرة الفتن بالمغرب الاوسط وخلوه من امارة كامارة بني مزني تؤيد اخوانها من العرب ولعدم اجتماع كلمة زغبة على هذين البطنين. وكانت سويد موالين لعبد الواد قبل تملكهم تلمسان، ورئاستهم لاولاد عيسى بن عبد القوي، وكان رئيسهم لعهد يغمراسن مهدي بن عيسى ثم ابنه يوسف واقطعه ببلاد سيرات والبطحاء وأقطع ابن عمه عنتر بن طراد بن عيسى قرارة البطحاء ورأس بعد يوسف أخوه عمر، وادناه يغمراسن، فربما استخلفه في خروجه للحرب على تلمسان ومملكتها الشرقية، ثم كانت بينهما فتنة هلك فيها عمر، وتأخر قومه فنزلوا خلف مواطن توجين وحالفوهم على حرب عبد الواد. ورأس طغون سويد عثمان بن عمر وترك من الابناء ميمونا وسعيدا ويحي، فخلفه ميمون ثم تغلب عليه سعيد، فلحق ببني مرين وتوفي بسجلماسة ايام الامير ابي علي أخي السلطان ابي الحسن،

ووفد سعيد بن عثمان على السلطان يوسف المريني وهو محاصر لتلمسان فاكرمه ثم أجمع قتله، ففر الى قومه واجلب أثناء ذلك الحصار على أطراف التلول فملك السرسو وجبل كريكرة، وعادت تلمسان لعبد الواد وافضى أمرها الى أبي تاشفين الاول، وكانت بينه وبين عريف بن يحي مودة، فقربه اليه ثم سخطه فلحق ببني مرين سنة 720 وانتقم منه ابو تاشفين بسجن عمه سعيد. فلم يزل مسجونا حتى توفي حوالي سنة 737. وخلف سعيدا ابنه سبعون، وهلك سنة 32 فخلفه أخوه عطية، وهلك بعد فتح تلمسان، فعقد ابو الحسن مكانه لونزمار بن عريف، فغضب المسعود بن سعيد ولحق ببني عامر. واجلب على ابي الحسن بالدعي بن هيدور. ففرق ونزمار جموعهم، ثم رقى أبو عنان ونزمار الى مجلسه وعقد على بادية سويد لاخيه عيسى وقتله ابو حمود الثاني في زحفه الى تلمسان وعقد مكانه على سويد لميمون ابن سعيد. فدس عليه محمد وابو بكر ابنا عريف من اغتاله. وخلفاه في رئاسة قومهما. وغمسا ايديهما في ثورة ابي زيان واطمع محمد ابا حمو في استصلاح أخيه وطالت تمنيته اياه. فاتهمه بالمراوغة واودعه السجن سنة 70 فلق ابو بكر باخيهما ونزمار. فحمل عبد العزيز المريني على فتح تلمسان. وبعد وفاة عبد العزبز كاد ابو حمو الى تلمسان. واستقام معه ونزمار وحمل اخويه على مصافاته. فاقطع ابو حمو ابا بكر كلميتو ومحمدا مازونة. وأعظم رؤساء سويد هما عريف بن يحي بن عثمان وابنه ونزمار. فقد اتخذ أبو الحسن المريني عريفا خليلا ووزيرا مشيرا وسفيرا بينه وبين ملوك مصر وتونس وغرناطة ورفع مقامه على كل عربي في ممالكه، وهو الذي كان يغريه بفتح تلمسان، وحضر معه فتحها وفتح تونس، وكان على يمينه في موكب دخوله تونس وعاد لحرب عبد الواد لما

ملكوا تلمسان، فهزموه ولم يجد السبيل للعود الى تونس، فلحق بفاس، وأكرمه ابو عنان الثائر يومئذ على ابيه. وتوفي ايامه وكان منجبا، فاشتهر من ابنائه ونزمار ومحمد وابو بكر وعيسى. وكان ونزمار أكبرهم، وعقد له ابو الحسن بعد فتح تلمسان على قبيلة بني مالك وجعل له رئاسة البدو بجميع ممالكه وأخذ الصدقات والضرائب منهم. فعكف على بابه كبراء العرب وشيوخهم ونزلوا على اشارته، ولما اوقعت مغراوة بابي الحسن سنه 50 انجاه الى جبل العمور. والحقه بسجلماسة. فبعث اليه ابوه عريف بالرجوع عنه ارضاء لابي عنان. فلما خلص الامر لابي عنان اقطع ونزمار قلعة تاوغزوت والسرسو وكثيرا من بلاد توجين وهلك عريف فاستقدمه واجلسه مجلس ابيه حذو ارياكته. وبعد موت ابي عنان كثرت الاضطرابات بالمغربين الاوسط والاقصى فنبذ ونزمار مجلس الساطان. وانتبذ بوادي ملوية. وبنى هنالك قصر مرادة وغيره وتوجهت اليه ملوك مرين وغيرهم وشيوخ العرب ورؤساء الاقطار مستشيرين صادريرن عن رأيه. وكان يحاول استئصال دولة عبد الواد وهو علة ضعفهم ومحرك الحروب والثورات عليهم. وخرب أبو حمو قصر مرادة من منتزهاته سنة 85 فانتقم منه ونزمار بادخال مرين تلمسان وتخريبهم قصور الملك بها ولم أعلم متى مات؟ ويظهر ان سويدا بعده تلاشى أمرها، ولم يبق لرؤسائهم كبير اعتبار. وبنو عامر كانت رئاستهم في بني يعقوب ويرادفهم بنو حميد. ثم سخط عثمار بن يغمراسن بني يعقوب ورضي بني حميد لاستقامتهم على طاعته. فاستشاط بنو يعقوب غيرة لتقديم بني عمهم. ووصلوا

أيديهم بمرين ثم حالفوا سويدا. وعظمت رئاسة بني حميد. وتعددت بطونهم، فعد منها الشيخ عبد القادر المشرفي سبعا وستين ولم يسلم بنو حميد بعد من الخلاف على دولة عبد الواد فكان من رؤسائهم من وصلوا أيدهم بمرين أو بالحفصيين. ثم كان بين أبناء أبي حمو الثاني نزاع شديد على الملك كان لبني عامر فيه ايدد الطولى، ثم أصبحوا بعد سقوط دولة بني عبد الواد بعضهم جند الاسبان وبعضهم رعية لهم. وكان رئيس بني يعقوب امرة يغمراسن وابنه داود بن هلال بن عطاف بن رداد بن كريش بن عياد بن منيع بن يعقوب. وكان أبو زكريا بن أبي اسحق الحفصي لدى عثمان بن يغمراسن. ورام امتلاك بجاية على عمه أبي حفص فمنعه. فتظاهر بالصيد. ولحق بداود ابن هلال. فأمره عثمان برده عليه. فأبى. وأوصله الى عطية بن سليمان الذوادي. فتغلب على بجاية. وأقطع داود أرض كدارة من بسيط حمزة. وسخطه عثمان بن يغمراسن فلحق بالصحراء. وكان حصار يوسف بن يعقوب لتلمسان. فوفد عليه داود برسالة من ابي زكرياء. فكان ليوسف في تلك الرسالة ريبة. فلما قفل من عنده بعث أثره من قتله في سيق. وخلفه ابنه سعيد، وانجلى الحصار عن تلمسان، فرضي عنه عبد الواد لقتل مرين اباه، ثم دفعته الغيرة من مكانة بني حميد الى الوفود على السطان ابي ثابت المريني، فرده بخفي حنين، وقتله بنو حميد ايام ابي حمو الاول، فخلفه ابنه عثمان واختلفت أيامه مع بني حميد سلما وحربا، ثم حالف سويدا، ولحق في قومه بالمغرب احتماء بعريف ابن يحي السويدي، ثم عادوا الى مواطنهم لما زحف ابو الحسن الى تلمسان، فقتل بنو حميد عثمان، وخلفه رديفه هجرس بن غانم بن هلال

الى أن مات، فخلفه سليم بن داود، ثم ابنه ساسي، فلم يزل ساسي ابن سليم في خلافه على عبد الواد، وانتقل الى النضر من عروة. وكان رئيس بني حميد لعهد يغمراسن معروف بن سعيد بن رباب ثم ابنه يعقوب، وكان مع داود بن هلال في انجاد عامر لابي بكر بن زغلي على رياح، ثم ابنه ابراهيم، وهلك بعد مقتل سعيد بن داود، فخلفه ابنه عامر، وكان شهما حازما حسن السمعة، ووفد على ابي سعيد سلطان مرين قبل سنة 720 وخطبه بنته، فأنكحه عامر اياها، ووصله السلطان بمال خطير، وقتله عثمان بن سعيد اليعقوبي غدرا. وخلفه ابنه صغير وفر في قومه الى الصحراء لما ملك ابو الحسن تلمسان ونزل القليعة جنوب مزاب، ثم جاءه تائبا، وصحبه الى تونس وحضر معه وقعة القيروان وعادت تلمسان لعبد الواد. فاخلص لهم الطاعة. وملك ابو عنان تلمسان فاصحر كعادته. وردد الغارات على أطراف ممالك مرين. ووصل يده باعدائهم. وبلغه خلاف يعقوب ابن علي الذوادي على ابي عنان. فوفد بقومه عليه. وابو حمو الثاني يومئذ بتونس. فاتفق يعقوب وصغير على تجهيزه لطلب ملك سلفه بتلمسان. فعاد به صغير في جمع من الذواودة أبلغوهم تخوم بلادهم. ولقيتهم سويد فهزموها. واحتلوا تلمسان بعد وفاة ابي عنان. ومات صغير سنة 769 ودفن بالعباد. واحتفى ابو حمو بجنازته. وخلف صغيرا اخوه خالد. ويرادفه عبد الله بن صغير. وكان ابو حمو قد قرب اليه عبد الله بن عسكر بن معرف بن يعقوب بن معروف ابن سعيد فحملت الغيرة خالدا على الخلاف، ووصل يده بعبد العزيز سلطان مرين. وحارب ابا حمو ونال منه ثم غمس يده في ثورة ابي زيان، فاخرج له ابو حمو ابنه ابا تاشفين في جموع سويد والديالم والعطاف وغيرهم، وكانت جموع خالد عظيمة لكن ابو تاشفين هزمه

وقتل عبد الله وملوك ابني اخيه صغير على وادي مينة سنة 777 وهلك خالد على فراشه سنة 78. وخلقه المسعود بن صغير، فكان دون عمه، وافترقت عنه الجموع وتخلى عنهم ابو زيان، وضاقت به السبل فاستأمن لابي حمو هو وساسي بن سليم، فأمنهما وقومهما. وعزم على استئصالهم فتقبض ذات يوم على المسعود وعشرة من بني عامر بن ابراهيم وصبح ابو تاشفين احياء بني يعقوب بسيرات. ثم اعترض فلهم ببني راشد فعظمت النكاية. ونجا ساسي الى النضر وشفع ابو العباس سلطان مرين بسعي ونزمار بن عريف في المسعود وجماعته. فسرحهم ابو حمو وعادوا الى الخلاف، وضعفت مرين عن صريخهم. فاستصرخوا صاحب تونس ابا العباس الحفصي. فوعدهم. ووفد عليه علي بن عمر بن ابراهيم كبير الثائرين على ابي حمو بعد ابن عمه خالد. فلم يزده على المواعيد. وهنالك خضع لابي حمو فقدمه على بني عابر. وكان قد استبد برئاسة عامر بعد خلاف خالد بن عامر عمه سليمان ابن ابراهيم ويادفه عبد الله بن عسكر الى أن عزله ابو حمو بعلى ابن أخيه فلحق ببني يعقوب النازلين على أبي بكر بن عريف. هذا ما أفادنا به ابن خلدون من أخبار العرب وانا لنأسف لاغفال من بعده هذا الشأن. فلم نجد حديثا نصله بحديثه الا نتفا لا تجلي غامضا وقد تكون رسائل صغيرة مبعثرة في زوايا الوطن لو جمعت لتكونت منها حلقات لهذه السلسلة غير انا لم نسمع بها ولعل الله يبعث في الامة روحا علمية فيظهر كل ما لديه من حلقات ولعل الله ييسر لنا جمع هذه الحلقات من بعد فنلحقها بالكتاب الرابع ان شاء الله.

الباب السادس في الدولة الحفصية

الباب السادس في الدولة الحفصية

1 - تأسيس الدولة الحفصية

1 - تأسيس الدولة الحفصية للموحدين دولتات المؤمنية والحفصية. والحفصيون ينسبون الى أبي حفص عمر بن يحي الهنتاني أحد العشرة من أصحاب ابن تومرت. وينسبه ابن نخيل الى عمر بن الخطاب (رض). وفيه بعد. وكان أبو حفص معظما في الدولة المؤمنية. وتوفي سنة 571 وولي للناصر ابنه عبد الواحد على تونس سنة 603 فكان له غناء في دفاع ابن غانية. وتوفي سنة 618. واشتهر من أبنائه عبد الرحمن وعبد الله المدعو عبو أبو زكريا مؤسس الدولة ومحمد اللحياتي. وولي تونس بعده السادة من بني عبد المؤمن. وفي سنة 23 ولى العادل بتونس عبو وقدم معه أخوه أبو زكرياء فولاه قابس. ودعا المأمون لنفسه. فأبى بيعته عبو. وقبلها أخوه أبو زكرياء وتغلب على تونس في رجب سنة 25. ثم نقض بيعة المأمون سنة 27 لسبه مهديهم ابن تومرت وقتله رجال هنتاته وشيوخ الموحدين الذين كانوا سبب الفتن بين أبناء عبد المؤمن. واقتصر أبو زكرياء على ذكر المهدي ولقب الامير. ولم يزل ذكر المهدي في سكة خلفه الى آخر الدولة. وفي سنة 28 فتح أبو زكرياء قسنطينة وبجاية. ثم فتح سنة 32 الجزائر وشلف والبطحاء وسائر مواطن مغراوة وتوجين. وذكر اسمه في الخطبة بعد المهدي سنة 34 وبايعته الاندلس الشرقية سنة 35 وفتح تلمسان سنة 40 وتتابعت عليه البيعات من المغرب والاندلس. وتم ارث الحفصيين للدولة المؤمنية ببيعة مرين لهم لما فتحوا مراكش سنة 668. ولم يحقق الحفصيون هذا الارث لضعف القوة الحربية عن حماية

2 - الحكومة الحفصية

الممالك النائية. فانسلخت عنهم أكثر الجهات. وكانوا يصبون الى مراكش. فتمسكت بها مرين. وبقيت عاصمتهم بتونس على أنهم غلبوا عليها أحيانا. وأول من غلبهم عليها الدعي. وهو أحمد بن مرزرق بن أبي عمارة المسيلي. ولد بها سنة 642 ونشأ ببجاية وسيما خياطا معنيا بالتنجيم. يخط الرمل. فيحدثه خطه بالملك. ثم لحق بعرب المعقل من صحراء سجلماسة. وادعى نقل المعادن الى الذهب وأنه المهدي المنتظر. ففضحه العجز. وانتقل الى عرب طرابلس. وادعى أنه الفضل بن الواثق. وكان الفضل قد قتله السلطان أبو اسحق. ولكن أكثر العرب اذا وجدوا سبيلا للثورة خانتهم أحلامهم. فصدقوه. وبايعوه سنة 81 ونزع اليه مرضى القلوب من كبار الدولة. فدخل تونس لاشهر من بيعته. وفر السلطان ابو أسحق إلى بجاية. وحاول حربه. فلم ينجح. وكان الدعي سفاكا للدماء. قتل كثيرا من شيوخ العرب وجند زناتة والنصارى. وبسط العذاب على آخرين. فسئمته الرعية. وتطلب العرب أميرا حفصيا. وكان ابو حفص أخو السلطان ابي اسحق بقلعة سنان. فقصدوه. وبايعوه. ودخلوا به تونس سنة 83 واختفى منه الدعي حتى أخذ وقتل. وكانت بيعته كما قال لسان الدين ابن الخطيب. غريبة من لعب الليالي … ما خطرت لعاقل ببال 2 - الحكومة الحفصية الدولة الحفصية مستقلة استقلالا تاما وحكومتها بيد كبار الموحديق وعظماء الجاليات الاندلسية وكلا الفريقين متدرب على قلب الحكومات تخلصا من منافس وطلبا للتمكن في الرئاسة. فشا فيهم

هذا الخلق أواخر الدولة المؤمنية. فشقيت به الدولة الحفصية واصبح ملوكها العوبة بايديهم الا قليلا منهم. وكان أبو زكريا الاول وابنه المستنصر ملكين عظيمين اخضعا الثوار وحفظا الامن فتقدمت الدولة أيامهما في الحضارة تقدما عظيما وعاش الناس في رفاهية. وغمرت من بعدهما الفتن حتى ضعفت دولتا زناتة بعد ابي عنان وابي حمو الثاني وفنيت البيوت الكبيرة من الموحدين والاندلسيين ويومئذ أصبح الملك الحفصي آمرا ناهيا آمنا في سربه ولكن مالية الحكومة في ضعف لتغلب العرب على البوادي وتقوي الاروبيين بالبحر. وكان ملوك الحفصيين يدعون أمير المؤمنين لارثهم الخلافة عن بني عبد المؤمن وسقوط بغداد أيامهم حتى بايعهم بالخلافة أهل الحجاز سنة 659 ويتلقبون بالقاب الخلفاء من مستنصر وواثق وغيرهما وكانت علامتهم (الحمد لله والشكر لله) لها كاتب خاص وقسمها المستنصر الى كبرى ترسم بعد البسملة اول الصحيفة عن أمر الخليفة والى صغرى ترسم اسفل المنشور عن أمر نائب الخليفة في الامور الصغيرة وربما استضعف الملك نفسه فترك شعار الخلافة واقتصر على لفظ الامير وكان الملك يعهد لمن بعده واحيانا يتغلب على الملك أحد القرابة ويبعد عنه ولي العهد. والحفصيين مع ملوك مصر والسودان علاقات حسنة، وحاولوا تحسين علاقتهم مع ملوك أروبا لكن هؤلاء لا عهد لهم يحفط فمتى وجدوا غرة في الساحل ملكوها وكثيرا ما ينزلون بالمدينة تجارا فان وجدوها خالية من الحامية انقلبوا حربيين وعلاقتهم مع زناتة تختلف حربا وسلما وكانت زناتة ظاهرة عليهم ثم ضعفت فظهروا عليها وخطبت لهم بتلمسان وفاس منذ سنة 827. وللدولة جيش من زناتة وصنهاجة والنصارى وتستنفر في الحرب

أولياءها ورعاياها من العرب والبربر وحالها في البحر ضعيف لضعف ماليتها باقطاعات العرب وابو زكرياء الاول الذي لم تكن ايامه اقطاعات وكان مقتصدا يلبس الصوف، قال ابن قنفد: "بلغ جيشه سبعين ألف فارس وماليته تسعة عشر بيتا والبيت ألف ألف،) اهـ. وما أحسن الاستغناء ببيت عن عجمة مليون. واقتدت الحكومة الحفصية بالمؤمنية في جميع انظمتها. ونقل الزركشي ان الحفصيين كانوا قديما لا يتركون القاضي في قضائه أكثر من عامين لوصية عمر بن الخطاب (رض) بذلك وليكثر المتدربون على القضاء ويكونوا الى العدل أقرب اهـ. وهذا جدول الملوك الحفصيين بحذف كناهم الكثيرة الاستعمال كتكنية يحي بابي زكريا وابراهيم بابي اسحق وعمر بابي حفص وخالد بأبي البقاء: الملك … الولاية … هـ … م يحي الاول … 627 … 1230 ابنه محمدا الأول المستنصر … 647 … 1249 ابنه يحي الثاني الواثق … 675 … 1277 ابراهيم الاول بن يحي الأول … 678 … 1279 اعتراض الداعى … 681 … 1283 أخوه عمر الاول … 683 … 1284 أبو عصيدة محمد الثاني بن الواثق … 694 … 1295 خالد الأول بن يحي بن ابراهيم … 709 … 1309 زكربا بن احمد بن اللحياني … 711 … 1311 ابنه ابو ضربة محمد الثالث … 717 … 1317 ابو يحي ابو بكر اخو خالد الاول … 718 … 1318 ابنه عمر الثانى … 747 … 1347 اعتراض مرين … 748 … 1347 الفضل بن ابي يحي ابي بكر … 750 … 1350 أخوه ابراهيم الثاني … 751 … 1350 ابنه خالد الثاني … 770 … 1369 أحمد الأول بن محمد بن ابي يحي … 772 … 1370 ابنه ابو فارس عزوز … 796 … 1394 محمد الرابع بن محمد بن عزوز … 837 … 1434 أخوه ابو عمر عثمان … 839 … 1435 يحي الثالث بن محمد بن عثمان … 693 … 1488 محمد الخامس بن الحسن بن محمد بن عثمان … 899 … 1494 ابنه الحسن … 932 … 1526 ابنه أحمد الثاني … 943 … 1536 أخوه محمد السادس … 977 … 1569 انقراض الدولة … 981 … 1573

نقود الحفصيين 21 - نقود أبي زكريا يحي الاول 22 - 23 - نقود االمستنصر بن أبي زكريا - ضرب بجاية 24 - نقود أبي اسحق ابراهيم الأول

25 - نقود ابي حفص عمر الاول- ضرب تونس 26 - نقود أبي زكريا يحيى المنتخب 27 - نقود أبي البقاء خالد الاول 28 - نقود ابي يحي ابي بكر- ضرب بجاية

29 - نقود ابي يحي ابي بكر- ضرب قسنطينة 30 - نقود ابي العباس احمد الاول 31 - ضرب بجاية عن أمر عبد الله المستنصر بن محمد بن ابي زكريا بن ابي يحي ابي بكر (لا أعلم من حال هذا الامير غير كونه عاش آخر القرن الثامن). 32 - نقود ابي فارس عزوز

33 - نقود ابي عمر عثمان- ضرب تنس 34 - نقود ابي عمر عثمان- ضرب الجزائر 35 - نقود محمد بن الحسن بن محمد المسعود 36 - نقود الحسن بن محمد بن الحسن

3 - ولاة الجزائر الحفصية

3 - ولاة الجزائر الحفصية الجزائر الحفصية هي عمالتا قسنطينة والجزائر الى ما بعد مليانة شمالا غربيا، وما بعد ورقلة جنوبا إلا ما تغلبت عليه زناتة من بعد. وكانت عاصمة هذه المملكة الغربية بجاية حتى أكثرت زناتة من الغارات على ساحتها فصارت الاهمية لقسنطينة واكثر ولاة بجاية وقسنطينة وبونة حفصيون وقد يليهن مواليهم، وبقية المدن يليها أولياؤهم وصنائهم أو شيوخ من أهلها. وكثيرا ما تستقل هذه المملكة عن تونس، وقد يستقل مدنها بعضها عن بعض. والولاة الحفصيون يتخذون الحجاب والوزراء والكتاب كالملوك. وأولهم أبو يحي زكريا. أنرله أبوه أبو زكريا يحبى الاول ببجاية سنة 633. وجعل وزارته ليحي بن صالح بن ابراهيم وشوراه لعبد الله بن ابي تهدي وجبايته لعبد الحق بن ياسين. وكلهم من هنتانة. ثم ولاه عهده سنة 38 وكتب له وصية طويلة جامعة لمحاسن الدين وسياسة الملك. نقلها ابن خلدون وسقطت من نسخته المطبوعة بمصر. وكان عالما دينا جليل القدر ضابطا لأموره عدلا في أحكامه. وتوفي سنة 46، وكان ابو زكريا لما فتح قسنطينة ولى بها بني النعمان من هنتاتة. فقويت شوكتهم وغمسوا أيديهم في بعض الثورات على المستنصر. فنكبهم واباد رؤساءهم قتلا ونفيا سنة 54 وولى بها ابن كلداسن من مشيخة الموحدين فاقام بتونس واناب عنه أبا بكر بن موسى بن عيسى الكومي المعروف بابن الوزير، فكان ذا غناء وصرامة. ثم سماه المستنصر حافطا عليها. فلم يزل بها إلى ايام ابي اسحق. وفي سنة 59 جهز المستنصر أخاه عمر لاخضاع مليانة، فلما قفل

من فتحها وافاه بطريقه عقد الولاية على بجاية، فرغب في المقام بتونس، فاعفاه المستنصر وولى عليها ابا هلال عياد بن سعيد الهنتاتي، فلم يزل بها الى ان توفي بقرية بني ورار سنة 73، فخلفه ابنه محمد، وضايقه الواثق بتولية ادريس بن عبد الملك الغافقي الاندلسي على اثسغال بجاية، فتخلص منه بقتله سنة 77 وخشي انتقام الواثق، فبايع عمه ابا اسحق ابراهيم. وكان ابراهيم ثار على أخيه المستنصر ولم يفلح. ففر الى الاندلس فلما بلغته وفاته أجاز الى تلمسمان. ونزل على يغمراسن حتى جاءته بيعة ابن عياد. فدخل بجاية في ذي القعدة وخشيه الواثق فبعث لضبط قسنطينة عبد العزيز بن عيسى بن داود الهنتاتي قائدا فصد عنها ابراهيم ولكنه تغلب على تونس بمساعدة أخيه عمو في ربيع الاول سنة 78. وفي سنة 39 ولى ابراهيم الاول على بجاية اكبر بنيه عبد العزيز وحجبه محمد بن ابي بكر بن خلدون الاندلسي. وابقى بقسنطينة ابا بكر بن الوزير. فثار بها في شعبان سنة 79 وكاتب ملك ارغون من ارض الاندلس مستمدا اسطوله فخرج اليه عبد العزيز بعد خمسة عشر شهرا من ثورته فلما بلغ ميلة وفدت عليه رسله معتذرين، فاعرض عنهم وتقدم الى قسنطينة ث فحاصرها حتى فتحها في رمضان سنة 81 وقتل ابن الوزير وعاد اسطول ملك ارغون من القل خائبا، ورم عبد العزيز ما أفسدت الحرب من أسوار المدينة وقناطرها، وولى عليها ابا محمد بن بوفيان الهرغي ولم يزل عبد العزيز عزيزا في مملكته الى ان ظهر الدعي وفر منه ابوه ابراهيم اليه. وانخلع له، فبويع عبد العزيز بالخلافة، وتلقب المعتمد على الله. وصمد الى تونس. فتلقاه الدعي

بمرماجنة قرب قلعة سنان في ربيع الاول سنة 82 فقتل عبد العزيز، ثم ابوه، ونجا أخوه يحي الى تلمسان. ولما ملك عمر الاول تونس عاد يحي لامتلاك بجاية، فملكها بمساعدة الذواودة سنة 84 واستقل بالمملكة الغربية، وتلقب المنتخب لاحياء دين الله، وحجبه أبو الحسين بن سيد الناس الاشبيلي الى أن توفي سنة 90 فحجبه ابو القاسم بن ابي حي الاندلسي، وعهد لابنه خالد سنة 98 وولاه قسنطينة وتوفي ببجاية سنة 700. ويحي المنتخب أول من قسم الدولة الحفصية شطرين. وأجلب على تونس مرارا. فنهض اليه أبو عصيدة سنة 95 حتى بلغ ميلة. وانكفأ منها الى تونس. فاقصر يحي عن طلب تونس. ولم يدع الخلافة. وكان حازما يقظا سري الهمة متقشفا متواضعا يرقع ثوبه بيده محبا لاهل العلم مشرفا على ممالكه بنفسه مقسما سنته بين بجاية وقسنطينة ذا آثار صالحة منها توسيع قصبة قسنطينة وجامعها. نعي الى خالد أبوه وهو بقسنطينة. فانتقل الى بجاية. واستوزر يحي بن ابي الاعلام. وقدم عله الموحدين يحي بن زكريا الحفصي وعلى صنهاجة كبيرها يعقوب بن خلوف الى ان مالت فخلفه ابنه عبد الرحمن. وابقى على حجابته ابن ابي حي. فولى هذا الحاجب صهره علي بن الامير الهمذاني على قسنطينة. واتهم بمولاة أبي عصيدة. فعزله عن حجابته سنة 705 وحجبه بعده ابو عبد الرحمن يعقوب بن غمر (بالغين سمي السحاب) السلمي الشاطبي. فحول ابن الامير الدعوة الى ابي عصيدة. فنهض اليه خالد وفتح قسنطينة وقتله. وخشيه أبو عصيدة. فاصطلحا على ان المملكة لمن بقي بعد صاحبه. وتوفي أبو عصيدة سنة 709 فانتقل خالد إلى تونس وجمع بين المملكتين الشرقية والغربية. ثم تغلب عليه ابن اللحياتي سنة 11 فانخلع له ومات سنة 713.

ولما انتقل خالد الى تونس انتقل معه حاجبه ابن غمر واستخلف على بجاية عبد الرحمن بن يعقوب بن خلوفه الصنهاجي. وبينه وبين الحاجب تنافس. وخشي الحاجب تغير خالد عليه. فدبر في الابتعاد عنه. وخوفه من ابن خلوف. فعقد خالد لاخيه أبي بكر على قسنطينة. وسرح معه حاجبه ابن غمر مشرفا على بجاية. وفي سنة 711 دعا ابو بكر لنفسه باشارة ابن غمر. وتلقب المتوكل على الله. وخا لف عليه ابن خلوف. فقتله غدرا. واحتل بجاية سنة 12 وبعث ابن غمر الى ابن اللحياتي قبل تغلبه على تونس مظاهرا له. فلما دخل تونس عقد معه سلما. وقفل الى أميره أبي بكر ببجابة. وعادت الدولة الى انقسامها شرقية وغربية. ثم تغلب على تونس سنة 18 فجمع بين المملكتين وطالت مدته وغالب الخطوب حتى توفي في رجب سنة 747. وكانت ولادته ونشأته وقراءاته بقسنطينة. وله رياض بظاهرها. وكان كثير التردد عليها. ولما انتقل ابو بكر الى تونس بقي الحاجب ابن غمر ببجاية مستقلا بهذه المملكة الغربية ليس لابي بكر فيها غير السكة والخطبة. ثم توفي في شوال سنة 19. فولى ابو بكر ابناءه محمدا بقسنطينة ويحي ببجاية والفضل ببونة. وبعث معهم الحجاب والوزراء والقواد. وفي سنة 33 توفي الامير محمد بقسنطينة وترك ابناء خلفه منهم عبد الرحمن وكان محمد مرضي السيرة حسن الإدارة ذا علم وذكاء وجود وحياء. وكانت ولادته ونشأته وقراءته كأبيه بقسنطينة. وفي ربيع الاول سنة 47 توفي الامير يحي. فقدم البجائيون ابنه محمدا ووافقهم جده على توليته. ثم مات ابو بكر واستولى ابو الحسن المريني على الممالك الحفصية. فابقى الفضل ببونة لان أخت

الفضل تحته. ونقل محمدا الى ندرومة وعبد الرحمن واخوته الى وجدة. وفي سنة 49 استرجع الفضل من مرين قسنطينة وبجاية. وثار ابو عنان بالمغرب على ابيه ابي الحسن وهو بتونس. فسرح محمدا وعبد الرحمن الى ولايتيهما ليكونا سدا بينه وبين ابيه. فانقبض الفضل الى بونة. ثم ملك تونس سنة 50. وفي سنة 53 أخذ أبو عنان بجاية من الامير محمد. ونقله الى تلمسان. ثم تغلب عليها عمه ابراهيم الثاني سنة 61 فسرح مرين الامير محمدا لاسترجاعها. فمانعه عمه. حتى دخلها عليه سنة 65 فعاد ابراهيم الى تونس. وكان عبد الرحمن بن خلدون المؤرخ الشهير بالاندلس، فاستقدمه الامير محمد، فوفد عليه سنة 66 وولاه حجابته. وفي سنة 56 خرج عبد الرحمن من قسنطينة مجلبا على تونس، واستخلف أخاه أحمد، فدعا لنفسه بالخلافة، وعاد عبد الرحمن الى بونة طامعا في قسنطينة. فتمسك أهلها باخيه، فاصطلح عبد الرحمن مع عمه ابراهيم الثاني بعدما كان منازعا له، وسلم له بونة على ان يأذن له في المقام بتونس. وفي سنة 58 دخل ابو عنان قسنطينة، ونقل الامير احمد الى سبة، ثم سرحته مرين الى ولايته لسنة 61 فبعث أخاه زكريا لفتح بونة فاسترجعها من عمه ابراهيم، وحارب ابن عمه محمدا على بجاية فقتله واستولى عليها سنة 67 وعادت المملكة الغربية تحت أمير واحد كما كانت أمرة يحي المنتخب، ثم ملك تونس سنة 72 وبها توفي سنة 96. وكان دينا عاقلا شجاعا سمحا، ولد بقسنطينة سنة 729 وكان يقرب القسنطينيين ويوليهم المراتب السامية في دولته بتونس. ولما انتقل السلطان أحمد الى تونس ولى حجابته أخاه زكريا،

ونقله معه من بونة، فاستخلف بها ابنه محمدا وبعث السلطان ابنيه محمدا على بجاية وابراهيم على قسنطينة، وبعث معهما الحجاب والقواد من الموالي وتوفي محمد سنة 85 فخلفه ابنه أحمد، وتوفي ابراهيم سنة 93 فخلفه كاتبه ابراهيم بن يوسف الغماري وكان الامير ابراهيم محجوبا للقائد بشير المتوفي سنة 79 فاكتسب منه صفات حميدة، وكان دينا محسنا متواضعا اداريا حازما. وكان ولي عهد السلطان أحمد ابنه ابا بكر. فلما حضرت الوفاة اباه بعثه أخوته لحفظ قسنطينة. وقبضوا على عمهم زكريا. فلما توفي السلطان بويع ابنه عبد العزيز المدعو عزوز. فخالف عليه ابو بكر. ودعا لنفسه. وعكف على لذاته. فتوجه الكاتب احمد بن الكماد مع العرب الى بونة. فحضوا صاحبها الامير محمد على ملك قسنطينة. فنازلها في ذي القعدة سنة 96 وحاصرها شهرين ونصفا. ثم أقلع عنها. وعاد اليها سنة 97 وكثر عيثه في ساحتها. فنهض اليه السلطان عزوز في رمضان. والتقى الجمعان بتبرسق. فانهزم الامير محمد الى سيبوس. ودخل بونة موقنا بعجزه. فركب البحر الى فاس مستصرخا صاحبها. ودخل عزوز بونة. ووفد عليه بها أخوه أبو بكر مبايعا. وكتب الى الخطباء ببيعته لاخيه. ثم أعقبه بكتاب يمنعهم من الدعاء لاخيه. وكل ذلك في رمضان سنة 97. توقف الخطباء فلم يدعوا لاحد حتى جبرهم ابو بكر على الدعاء له في صفر سنة 98 ثم كتب لاخيه بالبيعة في جمادى الثانية ثم هم بنقضها. فاستقدم القنطينيون عزوزا. فنازلها في شعبان وحاصرها نحو شهر لم يضر فيه بزرع ولا شجر، واسمه يذكر على المنابر، وفتح المدينة في رمضان، وأقام بها ممهدا للاحوال، وعاد الى تونس آخر شوال ومعه ابو بكر، وقدم لقيادة قسنطينة القائد نبيلا ولقصبتها الشيخ قاسم بن احمد بن تافراقين التينمللي، وتداول أمرها الموالي.

عظم أمر عزوز بفتح قسنطينة، فنازل أوراس، وضل هو وجنوده السبيل وكادوا يهلكون، وخشي أحمد أمير بجاية سطوة السلطان فوفد عليه في هذه السنة سنة 98 مبايعا منخلعا. ولى السلطان عزوز أخاه زكريا على بونة، وفي سنة 810 وفد عرب افريقية على صاحب فاس ليرسل معهم الامير محمدا المنهزم اليه ويمده على السلطان عزوز. فخرج الامير محمد في جموع مرين والعرب. وما بلغ أطراف عمل بجاية حتى كثرت جموعه من العرب ووفد عليه المرابط ابن ابي صعنونة. فسرح جيش مرين. وخشيه عزوز على بجاية. فنقل اليها أخاه زكريا من بونة. ولكن البجائيين ادخلوا الامير محمدا فركب زكريا البحر مشرقا. وعقد الامير محمد على بجاية لابنه المنصور وتوجه للقاء عزوز فخالفه الى بجاية فدخلها. وقبض على المنصور واعيانها. فاعتقلوا بتونس. واعاد الى ولايتها صاحبها أحمد ابن اخيه محمد. ونهض لقتال الامير محمد. فلما ترائ الجمعان انخزل المرابط الى عزوز. فانهزم الامير محمد. وادرك في بتيتة جيوفي تامغزة. فقتل وقبر هناك. وذلك في المحرم سنة 812. ثم ولى على بجاية أبو البقاء خالد وعزل سنة 24 بالمعتمد ابن السلطان. ثم عزل المعتمد سنة 34 فصارت ولاية بجاية الى الموالي. وفي سنة 37 ولى محمد الرابع على قسنطينة أخاه عثمان، وعلى بجاية عمه علي بن عزوز. ثم قلد عثمان حرب ابي زكريا بن الامير محمد دفين بتيتة الذي أثار عليه العرب بوطن تونس فأناب عثمان مواليه بقسنطينة الى ان أفضت اليه الخلافة سنة 39. ونافس عثمان عمه علي أمير بجاية. فدعا لنفسه. وحاصر قسنطينة نحو شهر. امتنعت عليه وتوجه نحو تونس. ومعه عيسى ابن محمد شيخ الذواودة فوفد على السلطان عثمان سباع بن محمد من

شيوخ الذواودة ايضا. وكثرت جموع الامير علي والتقى بالسلطان على سراط شرقي سوق هراص في ربيع الاول سنة 840 وكان النصر في جانب الامير علي، ثم انهزمت جموعه ونجا بنفسه الى بجاية وغنم معسكره وعاد السلطان من المعركة الى تونس. وفي آخرا العام قصد بجاية، فرده بنو سيلين. وعاد اليها سنة 43 فدخلها في جمادي الثانية بعدما فر منها الامير علي. فولى عليها عبد المؤمن ابن عمه أحمد. واغتاله بنو سيلين سنة 46 فخلفه أخوه عبد الملك. وفي سنة 50 دخل الامير علي بجاية على حين غفلة من قائدها. وأقام بها عشرين يوما وازعجه السلطان عنها الى الجبال. فبقي يجلب عليها الى سنة 56 فاستراب بأهل وطن حمزة. وتحول عنهم الى سعيد ابن عبد الرحمن السيليني صهر محمد بن عبد كبير بني سيليين. وخرج السلطان لحسم دائه. فاتفق محمد بن سعيد مع احمد بن علي الذواوي على الغدر بالامير علي. وأخبر قائد قسنطينة. فالتزم له قبول كل ما يطلبه ان هو قبض عليه، ثم أعلم صهره بما عقده مع القائد. فكبر عليه الغدر بنزيله. فلم يزل به حتى وافقه. فقبضا عليه وبعثا الى قائد قسنطينة. فأتاهما. وامكناه منه. فارسل الى السلطان وهو في طريقه. فبعت شيخ الموحدين محمد بن ابي هلال ليتسلم الامير عليا من القائد. فتسلمه بايكجان يوم عيد الفطر، وتوجه به الى السلطان. ثم خشي هذا الشيخ ان يفتك العرب منه الامير. فقتله ليلة الثالث من شوال ودفن جثته. وبعث برأسه الى السلطان. واستمر السلطان في سيره الى بجاية، وارسل الى صاحبها عبد الملك بمقابلته، فتلكأ وخشي السلطان ثورته، فتلطف له. وأرسل اليه قاضي المحلة والفقهاء والمرابطين، فقدم معهم الى السلطان وهو بابي بحاب قريبا من جبل أولاد رحمة، ومن الغد قيده، وانصرف به الى تونس وولى على بجاية قائدا من الموالي، واصبحت الجزائر الحفصية للموالي.

وفي سنة 59 توجه السلطان الى بجاية لتمهيد ساحتها وقبض قرب ميلة على ابي بكر بن الامير عبد المؤمن لأن أهل بجاية قصدوا تقديمه عليهم لسابقة ولاية ابيه وعمه، فرده الى تونس، وتوجه نحو بجاية، فتلقاه اعيانها بالطاعة، فولى عليهم ابنه عبد العزيز، وانصرف الى حضرته، فلما بلغ قسنطينة اضاف الى قائدها بسكرة وتقرت. وفي سنة 66 خرج السلطان الى تلمسان. واستولى في طريقه على قلعة حليمة من جبل أوراس. وقفل من تلمسان في صفر سنة 67. فعقد في طريقه على قسنطينة لحافده محمد المنتصر بن محمد المسعود. وبقي عبد العزيز والمنتصر على ولايتهما سنين ولكنا نجهل خاتمتهما ومن خلفهما. وآخر وال حفصي بالجزائر الحفصية- فيما أعلم- هو أحمد بن الحسن. ولي بونة ايام أبيه الى أن نبذ أهل تونس للحسن عهده، فبايعوه مكانه سنة 943 ولا نعلم للحفصيين بعده نفوذ اداري بالجزائر. وان من ولاة الجزائر الحفصيين من ارتقى الى عرش تونس أو ادعى الخلافة فتغلب على تونس او عجز عنها، وهذا جدول الاقسام الثلاثة: المرتقون الى تونس عمر الاول خالد الاول ابو عمر عثمان احمد الثاني المتغلبون على تونس ابراهيم الاول ابو يحي ابو بكر ابنه الفضل احمد الاول المبايعون بالجزائر فقط عبد العزيز بن ابراهيم الاول ابو بكر بن احمد الاول علي بن السلطان عزوز

4 - رؤساء القبائل

4 - رؤساء القبائل كانت رئاسة البوادي بالجزائر الحفصية لشيوخ من القبائل القوية، وقد مرت أخبار العرب في بابها، وأظهر المعاصرين لهم من البربر هم مليكش وزوارة وصنهاجة وسدويكش وبنو تليلان وريغة وورقلة. وكان مليكش مستعلين بمتيجة على الثعالبة، وهم تابعون لوالي الجزائر يستقيمون باستقامته وينحرفون بانحرافه، ورفع منزلهم ابو زكريا يحي الاول فعقد لشيخهم منصور سنة 640 ومنحه ابهة الملوك مزاحمة ليغمراسن بن زيان، ومر به العبدري سنة 89 فرماه باللؤم والبخل وكل نقيصة ولكنه شاعر لا يؤخذ عنه الحقائق التاريخية ولم تزل رئاسة متيجة لبني منصور حتى غلب على الجزائر ابو حمو الزياني سنة 712 ففروا الى الحفصيين، وأخذ االثعالبة بعدهم في الظهور. وكان من زواوة بنو يراتن ذوي سيادة، ورئاستهم في بني عبد الصمد، وشاخت منهم عجوز اسمها شمسي، لها عشرة بنين عظم أمرها بهم، ونزل عليها ابن هيدور من خدام ابي عبد الرحمن ابن ابي الحسن المريني مدعيا انه أبو عبد الرحمن وداعيا الى الثورة على أبيه، وابو الحسن يومئذ بمتيجة، فسرب الاموال في بنيها وقومها، فأجارته وقامت بدعوته حتى تبين كذبه، فنبذقه ولحق بالذواودة. وكانت عمدة بجاية جنود صنهاجة، ولها اقطاعات بنواحيها ولكبرائها مكانة في الدولة، فكان يعقوب بن خلوف منهم يلقب المزوار ويستخلفه ببجاية ابو زكريا المنتخب، ومات فخلفه ابنه عبد الرحمن واستخلفه خالد الاول لما نهض الى تونس سنة 709 فثبت على ولائه له لما دعا ابو بكر بقسنطينة لنفسه، فزحف له ابو بكر وكانت بينهما

معركة، وعاد ابو بكر الى قسنطينة مفلولا. وانتهبت صنهاجة معسكره واتبعته الى ميلة وحاصرته بقسنطينة اياما ثم عادت الى بجاية. وفي هذه المدة ظهر ابن اللحياني بطرابلس محاربا لخالد الاول فوصل ابو بكر يده به وأوفد عليه حاجبه ابن غمر. وتظاهر بنكبته، فصادر منازله وسطا بحاشيته، فعل ذلك كيدا لابن الخلوف، واستيقن ابن الخلوف اختلال امر خالد وطمع في حجابة ابي بكر، وسفر بينهما عثمان بن سباغ الذوادي وغيره فاحكموا السلم بينهما وعهد ابو بكر بحجابته لابن الخلوف، وارتحل الى بجاية سنة 712 فلقيه ابن الخلوف بفرجيوة، ومن الليل غدر به ابو بكر، فقتله وأخذ السير الى بجاية، فدخلها على حين غفلة، وغضب عثمان بن سباع وصنهاجة لهذه الخيانة فوصلوا ايديهم بابي حمو الاول الزياني. ومن زعماء صنهاجة منصور بن ابراهيم بن الحاج. ثار سنة 753 على مرين المحتلين ببجاية ولكن كبار البجائيين خشوا سطوة ابي عنان فبعثوا اليه بطاعتهم واخرجوا منصورا وحزبه من المدينة فتفرقوا في الجهات ولحق كبراؤهم بتونس، ثم كانت لصنهاجة كرة أخرى على يد أحمد بن القاضي لما تقلص ظل الدولة الحفصية عن الجزائر وظهر بها الاتراك. وكان بنو تليلان ممتنعين بجبلهم الممتد شمال ميلة وقسنطينة الى أن غلب الموحدون على افريقية فوفد شيخهم ابو بكر على الخليفة بمراكش وتقرب اليه بفرض المغرم على جبل قومه وثبت عقبه على الولاء لدولتي الموحدين وبقوا على رئاستهم بالجبل. وعرفوا باولاد ثابت وسمي الجبل بهم. ويظهر ان جبلهم هو المدعو اليوم سقاو، بقاف بدوية مخففة قبالة ميلة. فان سقاو كثير المياه والثمار وبه آثار حصون مدهشة، وقد قال يحي بن خلدون: "فتح ابو حمو الزياني

ميلة آخر شوال سنة 758 واصمد قومه رابع يوم فتحها الى جبل بني ثابت " اهـ. ومن بني ثابت حسن بن ابراهيم بن ابي بكر بن ثابت. ولاه أبو بكر حجابته لما خرج الى بجاية سنة 712 واناب بقسنطينة أخاه عبد الله. ثم عاد ابن غمر من وفادته على ابن اللحياتي. فسعى فبهما لدى أبو بكر كي يخلو له وجهه فقتل عبد الله بفرجيوة سنة 13 وكان أخوه حسن قد خرج لجباية الوطن. فاوعز ابو بكر بقتله الى عبد الكريم ابن منديل السدويكشي، فقتله بوادي القطن. وهو واد شرقي ميلة قريب منها يصب في وادي قسنطينة. قال ابن خلدون: وكان آخرهم رئاسة بالجبل علي. أدرك دولة بني مرين بافريقية وولى بعده ابنه عبد الرحمن ووفد على ابي عنان بفاس ولما استجد السلطان احمد حفيد ابي بكر دولته بافريقية استولى عليهم ومحى أثر مشيختهم ورياستهم وصيرهم ي عداد جنده وحاشيته واستعمل في الجبل عماله " اهـ. وبقية بني ثابت مساكنون اليوم لقبيلتنا اولاد مبارك. وهم قليلون يدعون الشرف الشرعي شأن الاسر التي فقدت الشرف الحربي. وكانت رئاسة سدويكش في أولاد سواق ثم في بني سيلين. ومواطنهم في عمل بجاية. وقريتهم بنو ورار بتخفيف الراء هي آخر ذلك العمل. وربما دعيت بني وراء او بني ياورار أو تاوريرت. وهي في آخر وطن فرجيوة غربا بقربها انقاض مدينة ايكجان وبمقربة من انقاضها اليوم قرية بني عزيز وكانت تمر بها الطريق من قسنطينة الى بجاية فذكرها اديب قسنطينة علي بن الفكون في نظم رحلته الى مراكش بقوله: وكم أورث ظباء بني ورار … أوار الشوق بالريق الشهي

وجمع العبدري بينها وبين ميلة. فقال في رحلته: "ثم وصلنا الى بني ورار ثم الى ميلة فلم نر الا رسوما بحوادث الدهر محيلة. وكلاهما على شكل مدنية ليست بثمينة ولا متينة عمل البلى فيهما وفي السكان وأدخل الجميع في خبر كان. وفي كلتيهما عين تسح وعنصر يجود ولا يشح وبنو ورار أعمر المحلين وعينهما أغزر العينين " اهـ. واليوم بنو ورار خراب وميلة لم تزل عامرة. وكان رئيس أولاد سواق علي بن علاوة بن سواق ثم أبناءه طلحة فيحي فمنديل الذي عزله أبو بكر، وأدال من بني علاوة بني عمهم أولاد يوسف بن حمو بن سواق. فلحق بنو علاوة بجبل عياض. ثم كانت لهم كرة ايام أبي عنان. فعقد على سدويكش لمهنا بن تازير ابن طلحة. ولكن قتله أولاد يوسف. فعاد بنو علاوة الى جبل عياض. ورأس عليهم عدوان بن عبد العزيز بن زروق بن علي بن علاوة. ثم هلك وافترق بعده أمرهم. وبقيت رئاسة سدويكش لاولاد يوسف. قال ابن خلدون: "ويرادف أولاد سواق في الرئاسة على بعض احياء سدويكش بنو سكين. ومواطنهم جوار لواتة بجبل بابور وما اليه من نواحي بجاية. ورئاستهم في بني موسى بن ثاير. أدركنا ابنه صخر بن موسى. واختصه السلطان ابو يحي بالرئاسة على قومه. وكان له مقامات في خدمته. ثم عرف بالوفاء مع ابنه الامير ابي حفص. فلم يزل معه الى ان اوقع به بنو مرين بناحية قابس. فقطعه السلطان ابو الحسن من خلاف. وهلك بعد ذلك. فخلفه ابنه عبد الله. وكان له شأن في خدمة صاحب بجاية وهلك اعوام الثمانين. فخلفه ابنه محمد. وهو لهذا اعمهد " اهـ. ويظهر ان سكين محرف سيلين. فان الوطن لبني سيلين، وبني

صخر معروفون برئاستهم. وكان لهم أيام السلطان ابي عمر عثمان تغلب على وطن بجاية. واعفوا ذكر اولاد يوسف. ففي سنة 840 نازل السلطان نفسه عبد الله ين عمر بن صخر. ولم ينل منه حتى قتل غدرا سنة 43 وحملت رأسه الى السلطان. وفي سنة 46 قتل محمد ابن يحي السيليني عبد المؤمن بن احمد والي بجاية. وعظم صيت محمد بن سعيد من بني صخر من بعد. واختلفت حاله مع السلطان ولاء وعداء. فنقله وأهله سنة 64 الى تونس. ثم سرحه سنة 67 فأثار عليه محمد المتوكل سلطان تلمسان سنة 70 وكان يدعو له من قبل. وقد انقطعت عنا اخبار شمال الجزائر الحفصية بعد المراكشي الذي انتهى الى ايام ابي عمر عثمان. اما الجنوب فكانت به لورقلة وريغة رئاسة. وربما قطعتها الدولة. فتجددت بعد حين. ولم تزل الامارة بورقلة وتقرت حتى العصر التركي. قال ابن خلدون ما ملخصه: "اختطت ريغة ما بين الزاب وورقلة قرى كثيرة في عدوة وادي ينحدر من الغرب الى الشرق منها المصر الكبير والقرية المتوسطة والاطم. قد نضدت حفافيها النخيل وانساحت خلالها المياه". "وكان وادي ريغ من عمل الزاب وفي اقطاع الذواودة. فكثيرا ما يعسكر عليهم ابن مزني أو الذواودة لاقتضاء الجباية، وأكبر تلك الامصار تقرت. مصر مستبحر العمران بدوي الاحوال كثير المياه والنخل، وكانت رئاسته لعبيد الله بن يوسف بن عبد الله ثم لابنائه داوود فيوسف فمسعود ثم الحسن بن مسعود ثم ابنه احمد شيخها اليوم، وتماسين دون تقرت في العمران والخطة، ورئاسته لبني ابراهيم من ريغة ايضا وسائر امصار ريغة كل مصر منها مستبد بأمره وحرب لجاره". "وورقلة اختطوا المصر المعروف بهم، ودخله ابو زكرياء الاول

5 - الحفصيون وزناتة

في مطاردته لابن غانية، فزاد في تمصيره، واختط مسجده العتيق ومأذنته المرتفعة، ونقش في الحجارة اسمه وتاريخ وضعه، وهو باب أهل الزاب الى السودان". " ويعرف رئيسه باسم السلطان شهرة غير نكيرة بينهم، وهو اليوم ابو بكر بن موسى بن سليمان من بني ابي غبول، فخذ من بني واكير احدى بطون بني ورقلة، ورئاستهم متصلة في عمود هذا النسب، وكان يوسف بن عبيد الله صاحب تقرت تغلب على ابي بكر أزمان حداثته " اهـ. وقال الزركشي ما ملخصه: "كان يوسف بن حسن من بيت مشيخة تقرت قد منع جبايته لاول دولة أبي عمر عثمان، فخرج اليه سنة 53 وحاصره وقطع النخيل، ودافعه يوسف اياما حتى عجز، فدخل عليه المدينة، وقدم عليها قائدا من قبله، وأخذ يوسف وولده واخاه وعمه وأهله فاعتقلهم بتونس. ثم بلغه خلاف أهل تقرت، فخرج اليهم آخر سنة 69 واغرمهم مالا وهدم سور البلد، وقدم عاملا بورقلة، وأخذ منها ومن مزاب مالا جليلا، وقفل فدخل تونس في رجب سنة 870 " اهـ. 5 - الحفصيون وزناتة أهل الشوكة من زناتة لاول القرن السابع هم مرين وعبد الواد وتوجين ومغراوة، والعداوة بين المتجاورين منهم متأصلة، ولتوسط عبد الواد بينهم وعلو كعبهم في الملك تواطؤا على عدائهم. ولما استقل الحفصيون بتونس ودوا لو يملكون مراكش فيكونوا بين قومهم المصامدة، ولكن دون ذلك زناتة ذات الكثرة والميزة الحربية. فأخذ أبو زكريا الاول يستميلهم بالرغبة والرهبة، وبايعته مغراوة سنة 32 وحاربته توجين. ففتح حصونها، وأسر

أميرها عبد القوي بن العباس، فاعتقله بتونس، ثم من عليه استئلافا له. وبهذا الفتح جاور أبو زكريا بني عبد الواد. فضاعف الرشيد خليفة مراكش احسانه ليغمراسن واتحفه بأنواع الهدايا، فخلصت موته له وأصبح شجا في حلق التوسع الحفصي وعقبه كأداء في سبيل الخطة التي رسمها أبو زكريا لفتح مراكش. وفي سنة 39 وفد على ابي زكرياء عبد القوي التوجيني وبعض بنو منديل المغراويين، واستحثوه لحرب يغمراسن، فسرحهم امامه لاحتشاد زناتة واحلافهم من زغبة. وجمع هو جموعه عربا وبربرا. فبلغت فرسانه اربعة وستون الفا. وخرج في شوال. فوافته زغبة بزاغر. ووجه من مليانة الى يغمراسن يطلب بيعته فابى، فنزل على تلمسان آخر المحرم سنة 40 وعجز يغمراسن عن دفاع ذلك الجيش العرمرم، فخرج في أهله وذويه وخاصته من باب العقبة، وأجلى الموحدين من سبيله، ولحق بالصحراء. ودخل ابو زكريا تلمسان في ربيع الاول وقبض ايدي الجند عن النهب. وعرض ولايتها على شيوخ الموحدين وكبراء زناتة، فتدافعوها خشية مق يغمراسن. وجاءته الرسل ببيعة يغمراسن ومظاهرته له على بني عبد المؤمن على أن يترك له تلمسان، فقبل مسرورا، وأوفد يغمراسن أمه سوط النساء لاحكام العقد. فتمت السلم على يدها بعود ابنها الى تلمسان مستقلا بماليتها ومعانا بجباية بعض أعمال افريقية مبلغها السنوي مائه الف دينار. ولكي يحافظ أبو زكرياء على خضوع يغمراسن اقام في قفولة من منافسيه عبد القوي التوجيني والعباس المغراوي ومنصور المليكشي ملوكا مناهضين وولى المستنصر بمليانة محمد بن منديل المغراوي سنة 59 بعدما فتحها من يد ابي علي بن أحمد الملياني الثائر بها، ثم خرج

المستنصر الى المسيلة سنة 64 فوفد عليه محمد بن عبد القوي التوجيني مجددا طاعته، فنصب له فساطيط القطن والكتان وجنب له جياد الخيل بمراكبها المذهبة ولجمها المحلاة وأكثر من المال والظهر والكراع والسلاح واقطعه جباية مقرة واوماش. وبقيت عبد الواد على مبايعتها للحفصيين، وفي باطنها ما فيه لتقديتهم أعداءها مغراوة وتوجين عليها، ففي سنة 666 فرت رياح أمام المستنصر الى عبد الواد. فأعانوها على استرجاع وطنها، ورددوا الغاراث على توجين ومغراوة. ففتحوا مليانة سنة 68 ولمدية سنة 87 واستولوا على مواطنهم تدريجا. فلحق اعيانهم ببجاية وتونس، وكان منهم جند هو شوكة الجيش الحفصي، وما اتى القرن الثامن حتى انحصرت شوكة زناتة في عبد الواد ومرين. فاما مرين فقد خشيت من مبايعة يغمراسن لابي زكريا سنة 40 ان يظاهره عليها، فبعثت له بالطاعة وبيعة ما تفتحه من المدن ووعدته العون على فتح مراكش وامدها المستنصر لما توجهت الى مراكش بالمال والخيل والسلاح، فلما فتحتها خطبت له بها زمنا، ثم استغلظ ملكها فقطعت الدعوة الحفصية، وبقي بين الدولتين مهاداة وروابط ودية، وتأكدت بالمصاهرة، ففي سنة 730 اوفد ابو يحي ابو بكر ابنه ابا زكرياء وشيخ الموحدين عبد الله بن تافراقين على ابي سعيد سلطان مرين مستنجدا به على ابي تاشفين الاول، فوعده المظاهرة. وخطب فاطمة شقيقة ابي زكرياء لابنه ابي الحسن. فزفت اليه سنة 31 وقتلت في وواقعة طريف سنة 41 فخطب ابو الحسن بعدها لنفسه اختها شقيقة الفضل سنة 46 وزفت اليه سنة 47. واضعف الحفصيين الثورات والفتن والحت عليهم عبد الواد بالغارات. فتحركت مرين لنصرة الحفصيين حتى اذا غلبت على تلمسان وحاورت الحفصيين اربى اضرارها بهم على عبد الواد. ففي سنة 699

كانت واقعة جبل الزان بين مرين وابي زكريا المنتخب انهزم فيها. ومات بها خلق كثير حتى سمي المعترك "مرسى الرؤوس". وفي سنة 701 خرج أبو يحي أخو السلطان يوسف المريني الى بجاية. فضايقها. وبلغ تاقرارت من وطن سدويكش. وخشي أبو عصيدة على ممالكه. فصانع السلطان يوسف. وأوفد عليه رسله سنة 703 لتجديد عهد الصلة بين الدولتين. واقتفى أثره خالد أمير بجاية. وأوفد رسله أيضا سنة 704 فانقبضت مرين يومئذ عن بجاية الى سنة 48 حيث استولى ابو الحسن على تونس ومحا الدولة الحفصية. ثم ثار عليه العرب بافريقية وابنه ابو عنان بالمغرب. فاضطر لتسليم الممالك الحفصية فعادت الى أهلها سنة 750. وفي سنة 53 ملك أبو عنان تلمسان. ونزل لمدية فوفد عليه أمير بجاية أبو عبد الله محمد. وكانت بينهما صداقة منذ كان في منفاه بندرومة. فشكا اليه سوء طاعة جنده وبطانته وامتناع رعيته من الجباية، فكلف ابو عنان من يزين له النزول عن بجاية واستبدال بعض ولايات المغرب بها، فتنازل عنها لابي عنان على ان يلي مكناسة فلم يف له بعهده. وبامتلاك أبي عنان بجاية فتح باب شر على قسنطينة فوالى عليها غاراته الى ان اشتد مرضه بفاس وظن وزراؤه هلاكه منه. فكتبوا الى عبد الله الياباني سنة 57 بالاقلاع عن قسنطينة وارجف بموت السلطان فأحرق عبد الله مجانيقه. وارتحل لا يلوي على شيء، وكان القائد موسى بن ابراهيم بوادي القطن. فسرح اليه ابو العباس أحمد أمير قسنطينة أخاه زكريا. فبيته في ذي الحجة وقتل طائفة من اركان جيشه، وأبل ابو عنان من مرضه، فآسفته هذه الواقعة، وخرج بنفسه الى قسنطينة، فاستولى عليها، وفتحت قواده تونس، وخرج سلطانها

ابراهيم الثاني، فجمع جموعه، وقصد ابا عنان، فبلغ فحص تبسة، ولكن مرين تسللت الى مغربها، فاضطر ابو عنان الى العهود، فانكفأ ابراهيم الى تونس، وطرد منها مرين، وكل ذلك سنة 58 وأعاد ابو عنان جيوشه الى افريقية سنة 59 فلم تتجاوز عمل بونة، وبعد موته خرجت مرين من الممالك الحفصية، فلم تطأها بعد، وعادت الكرة للحفصيين، فطمع سلطانهم عزوز سنة 827 في فاس حتى دافعه صاحبها عبد الحق ببيعته. واما عبد الواد فقد أغضبها الحفصيون بتقوية مغراوة وتوجين عليها وأطمعها الجوار في ممالكهم، فأخذت تدبر لهم الثورات وتردد عليهم الغارات حتى ملكت عليهم كثيرا من أعمال بجاية، وطمعت في فتح بجاية نفسها، وحافظت أولا على الدعاء لهم حتى والى ابو عصيدة السلطان يوسف وهو محاصر لها بتلمسان. فقطع ابو زيان الاول دعوتهم الى ان دخل السلطان عزوز تلمسان سنة 827 فبايعه صاحبها. وفي سنة 677 قدم ابراهيم بن ابي زكرياء الاول من الاندلس طالبا للخلافة بتونس، فنزل على يغمراسن، فبايعه ووعده المظاهرة على شأنه، وخطب منه ابنته لابنه عثمان، فزفت اليه من تونس سنة 81 ولما قتل ايام الدعي فر ابنه ابو زكريا الى صهره عثمان، فأكرم مثواه، ثم بويع بتونس عمر الاول، فوفد على ابي زكريا من حرضه على الثورة عليه، فلم يأذن له صهره عثمان. فتظاهر ذات يوم بالصيد. ولحق بالعرب الذين أعانوه على امتلاك بجاية. وأصبح يغير على تونس. فاستاء عثمان. وجدد بيعته لابي حفص عمر فطلب منه اشغال ابي زكريا عنه بالغارة على بجاية. فحاصرها عثمان سنة 86 سبعة أيام، فاضطر أبو زكريا لترك افريقية. واقلعت جيوش عثمان الى تلمسان. فلما ولي ابو عصيدة أجلب على ابي زكريا. فتوسل الى عثمان بالصهر. وعقد معه سلما. وتفرغ لدفاع ابي عصيدة.

واشتد طلب عبد الواد لبجاية ايام ابي حمو الاول وابنه ابي تاشفين. وانتهى ايام أبي حمو الثاني. ففي سنة 709 استخلف خالد الاول على بجاية عبد الرحمن بن خلوف. فحاربه ابو حمو. واستولى على دلس سنة 12. وارسل اليه سنة 710 صاحب قسنطينة ابو بكر مولاه سعيد بن يخلف في اتصال اليد على ابن الخلوف. تم قتله ابو بكر ودخل بجاية. فوفد على ابي حمو صنهاجة واولاد سباع بن يحي مغرين له بابي بكر. فادعى عليه انه شرط بجاية لنفسه لما وفد عليه مولاه سعيد. وجهز الجيوش لحصارها. ثم جاوزها ففتحوا جبل ابن ثابت سنة 13 وبلغوا بونة. وحاصروا قسنطينة. وشيدوا في قفولهم حصنا بأصفون لحصار بجاية. فهدمه ابو بكر سنة 14. وأعاد غارته سنة 15 لكن ثورة ابن عمه محمد بن يوسف بن يغمراسن اضطرته الى استرجاع جنوده. فشغل بها حتى هلك. ووصل ابو بكر يده بمحمد بن يوسف وسوغه سهام يغمراسن بافريقبة. ثم قتله ابو تاشفين الاول سنة 19 وتفرغ للغارة على بجاية وما وراءها شرقا كل عام فيما بين سنتي 19 - 32 وابتنى في طريقها على واديها الحصون. وشغل ابا بكر باطماع ذوي قرابته في ملك تونس. فأسس حصن بكر سنة 21 ونزل عليه أبو ضربة سنة 32 طامعا في استرجاع ملكه. فجهزه بما يحتاج اليه. فهزمه ابو بكر برغيس بين بونة وقسنطينة. فعاد الى تلمسان وبها مات. ثم نزل عليه ابراهيم بن ابي بكر بن عبد الرحمن الحفصي سنة 24 فاعانه ايضا بالجنود والقواد وانحصر منهم ابو بكر في قسنطينة. فدخل ابراهيم تونس في رجب سنة 25 واقلعت عبد الواد عن قسنطينة فخرج ابو بكر واسترجع تونس في شوال. وفي سنة 26 اختط بخميس تيكلات حصنا أعظم من حصن بكر واقرب منه الى بجاية. وسماه تيمززدكت

باسم الحصن الذي قتل عليه الخليفة السعيد سنة 646 وشحنه بالرجال والاقوات والذخائر. وقصدته جيوش أبي بكر سنة 27 فانهزمت شر هزيمة. وبنى سنة 29 حصنا آخر بالياقوتة قبالة بجاية. وسرح سنة 30 محمد بن ابي بكر بن ابي عمران الحفصي لامتلاك تونس. فهزم ابا بكر بالرياش من ناحية مرماجنة. ودخل تونس في صفر. ونجا ابو بكر الى بونة. وركب البحر الى بجاية، واوفد ابنه ابا زكريا على ابي سعيد المريني. فوعده الاعانة. ولكن ابا بكر استعاد تونس في رجب ثم توفي ابو سعيد وخلفه ابنه ابو الحسن. فخاطب ابا تاشفين في الاقلاع عن بجاية. فرد شفاعته فنهض اليه سنة 32 ونزل بتسالة وبعث المدد في البحر الى بجاية. وجاء ابو بكر من تونس وسرح السرايا من بجاية لتخريب الحصون المقامة لحصارها وقد انقبضت عنها الحامية الى تلمسان، فخربها وغنم ذخائرها وزحف الى المسيلة موطن اولاد سباع شيعة عبد الواد. فخرب أسوارها. وقفل الى تونس في شوال ولم يجتمع بابي الحسن الذي شغل عن تلمسان بثورة أخيه أبي علي. ولما استولى أبو عنان على تلمسان سنة 53 نجا ابو حمو الثاني الى تونس وصحب ابراهيم الثاني واعانه على اخراج مرين من ميلة وجبل بني ثابت في شوال سنة 58 ثم استقر ابراهيم ببجاية وملك أبو حمو تلمسان ففر بعض مغراوة الى ابراهيم وحماهم من ابي حمو فساء ما بينهما فاغار ابو حمو على بجاية سنة 63 وفتح تدلس وحمزة وبني حسن ثم جهز أبا عبد الله أمير بجاية الاقدم سنة 64 ففتح بجاية سنة 65 ونكر جميل أبي حمو وهو يومئذ مشغول بالفتن. فاخرج قائده من تدلس فسرح اليه جنده سنة 66 فعجزوا عن فتحها. ولكن الامير محمدا جدبه ابن عمه أحمد صاحب قسنطينة من خلفه وأغار على عمله. فاضطر الى موالاة أبي حمو وأعاد له تدلس. وزوج منه

ابنته، فزفت اليه سنة 67 وفيها قتل أحمد الأمير محمدا وملك بجاية. فتظاهر أبو حمو بالانتصار الى صهره وخرج الى حربه في جموع من قبائل بعضها منحرف عنه. وكان مع الامير أحمد أبو زيان بن عم ابي حمو. فأثاره عليه. ومالت اليه مرضى القلوب. فانهزم ابو حمو شر هزيمة خامس ذي الحجة. وشغل بثورة ابن عمه. فلم يطأ جيشه تراب بجاية بعد. وضعفت زناتة آخر القرن الثامن. فعادت الكرة للحفصيين. وفر ابو حمو من ابنه ابي تاشفين وطلب من قائد اسطول بجاية النزول. فأنزله ببستان الرفيع سنة 89 وجاء الامر من الخليفة احمد الاول محاربه بالامس باكرامه وامداده على استرجاع ملكه من ابنه. فاسترجعه سنة 90 وفتح عزوز تلمسان سنة 827 وولى بها محمد بن ابي تاشفين الثاني. فقطع بيعته من بعد. فحاربه واعان عليه عمه عبد الواحد فاخرجه من تلمسان سنة 31 ثم قتل الامير محمد عمه سنة 33 فخرج اليه عزوز سنة 34 ففتحها وولى بها أحمد بن ابي حمو. ونقل معه الامير محمدا. فاعتقله بقصبة تونس الى أن توفي ونقض أحمد بيعته فخرج اليه سنة 37 ولكنه توفي أثناء سيره بولجة السدرة حيث عين الزال قرب وانشريس. فعاد جيشه بشلوة. وفي ايام ابي عمر عثمان تكررت الهدايا بينه وبين صاحبي فاس وتلمسان. ثم تغلب على تلمسان محمد المتوكل سنة 66 فخرج اليه ابو عمر. وعاد ببيعته. ثم تقضها ووصل يده باعداء ابي عمر من الذواودة وبني سيلين. فخرج اليه أبو عمر سنة 70 وخضعت له في طريقه المدن والبوادي. وبلغ تلمسان في ربيع الثاني سنة 71 وبعد قتال شديد عاد المتوكل الى الطاعة وأنكح ابنته دون خطبة حافد السلطان ابا زكريا يحي بن محمد المسعود وقفل السلطان الى تونس في شعبان. وضعفت بعده الدولة الحفصية فلم يكن بين الحفصيين والزيانيين ولاء ولا عداء الى

6 - سقوط الدولة الحفصية

أن ملك الاتراك الجزائر. فعادت بين الدولتين المحتضرتين مخاطبات في الاتحاد على الاتراك لم تأت بثمرة. والاخبار التي قصصناها تدل على أن عظمة زناتة اضرت بالحفصيين وعظمة الحفصيين أضرت بزناتة وان قوتيهما لم تجتمعا في عصر واحد. ولعل السر في ذلك أن افريقية الشمالية لا تحتمل اكثر من دولة واحدة، ولا تصلح الا بادارة قوية متحدة مثل الادارة المؤمنية. 6 - سقوط الدولة الحفصية عرفت الدولة الحفصية في حياتها دور الصعود والعظمة الى خلع الواثق. ثم دور الاضطراب والفتن الى خلافة أحمد الاول. ثم دور الانتعاش الى موت ابي عمر عثمان. ثم دور الاحتضار الى قبض الاتراك على محمد السادس. ومن غرائب الاتفاق ان الدولة العثمانية التي حلت محل الحفصيين انتهت ايضا بخلع محمد السادس وحيد الدين. وليس لخلفاء هذا الدور الاخير كبير نفوذ بالجزائر. وكان من امرائهم بقسنطينة عبد العزيز. وعلى عهده احتلت اسبانيا بجاية ودلس والجزائر سنة 915 (1510 م) من غير مقاومة حفصية. وانتقل عبد العزيز الى قلعة بني عباس لمضايقة بجاية. وبها توفي سنة 966 وهي قلعة حصينة جنوبها سهل مجانة الغني وتهيمن على الطرق الرابطة بين بجاية وقسنطينة والجزائر. وقلعة بني حماد بعيدة عنها الى الجنوب الشرقي من برج بوعريريج. وهي في الشمال الغربي منه. وقد غلط صاحب تحفة الزائر. فظنها اياها. وفي سنة 919 ملكت اسبانيا جيجل. والامير الحفصي يومئذ بقسنطينة ابو بكر. وفي سنة 41 تنازل الحسن لها عن بونة. فتم خروج الجزائر من ايدي الحفصيين، ومدتهم بها

ما بين سنتي 628 - 941 ثلاث عشرة وثلاثمائة سنة. ومدتهم بتونس ما بين سنتي 627 - 981 اربع وخمسون وثلاثمائة. وعلة سقوط دولتهم امتناع بداة العرب والبربر من الجباية، وقلة اهتمام الخلفاء بالدولة، وانقطاعهم الى لذاتهم الشخصية، ووقوعهم بين دولتين عظيمتين هما اسبانيا غربا والعثمانيون شرقا. ورائد العثمانيين الى المغرب هو بربروس، كان معنيا بغزو مراكب النصارى البحرية ومدائنهم الساحلية، واعجبه موقع تونس، فاستمال صاحبها محمد بن الحسن بالهدايا ومنحه خمس الغنائم، ونزل عليه. ولحق به أخوه خير الدين، وكثرت أمواله وجنوده فهاجم بجاية وبقية السواحل التي ملكتها اسبانيا، وسر به الحفصيون والامة، فوصل يده بابي بكر وعبد العزيز أميري قسنطينة والقلعة واستدعته كتامة لاسترجاع جيجل، فملكها سنة 20 واتخذها مركز حركته ثم ملك الجزائر سنة 22 وبعث بفتحها الى السلطان سليم العثماني، فولاه بها، وكان ذلك أول قدم للدولة العثمانية بالجزائر، واغضب صنيع بربروس الحفصيين، فوصلوا ايديهم بملوك تلمسان واستمالوا أحمد بن القاضي أعظم زعماء البربر يومئذ، ولم تفدهم هذه السياسة غير التشويش على الاتراك وتعطيل هجومهم على تونس. وهنا نلخص عن القيرواني والدمشقي ما بين حياة الخلفاء المتأخرين وموقفهم بين الاتراك والاسبان قال القيرواني ما ملخصه: " لما ولي يحي بن محمد المسعود جاءته بيعة بلد العناب وقابس وصفاقس، ودانت له البلاد، وخرج أكثرها عن محمد بن اخيه، وملك الاتراك الجزائر واضطربت على ابنه الحسن البلاد، وخرجت عنه سوسة والقيروان، وملك الاتراك قسنطينة ودخلوا عليه تونس سنة 935 فاحتمى بملك اسبانيا، فأخرجهم عنه سنة 41 واستقدمت

بطانة ابنه أحمد علي باشا الجزائر، فملك تونس سنة 77 واستنجد أحمد اسبانيا، فاشترطت عليه شروطا اباها. وقبلها أخوه محمد، فأدخلوه تونس وفر عنها الأتراك ثانية الى أن قدم الوزير سنان باشا من الأستانة في ربيع الأول سنة 81 واجتمع اليه الاتراك والعرب والبربر من الجزائر وتونس وطرابلس، ففتح برج الاسبان بحلق الوادي سادس جمادى الأولى ثم قلعة البستيون المتحكمة في تونس في الخامس والعشرين منه " اهـ. وقال الدمشقي في أخبار الدول ما خلاصته: "كان محمد بن الحسن مشتغلا باللهو والخمر مهملا لأمور الملك، وترك خمسة واربعين ذكرا، خلفه منهم الحسن فقتل أخوته لم ينج منهم الا الرشيد وعبد المؤمن لغيبتهما، واشتغل بالخمور والفجور وجمع حوله أكثر من أربعمائة أمرد، فمالت عنه الأمة الى الرشيد. " ولجأ الرشيد الى خير الدين صاحب الجزائر. واستعان به على حرب أخيه. فشكاه الحسن الى سلطانه سليمان. فاستقدمه، وأمره باستصحاب الرشيد ليمسكه عنده. ولكن خير الدين لما وفد عليه زين له امتلاك تونس ليتمكن من التحكم في البحر، وعرفه سخط الامة على الحسن. فاذن له. " وجاء خير الدين تونس. فكاد أهلها بانه آتى بالرشيد. فملك المدينة. وفر الحسن الى اخواله من العرب. ثم شعروا بالمكيدة. فأغار الحسن على تونس من غير طائل. ثم لحق بملك اسبانيا مستنجدا. فاستقبحت الامة فعل الحسن. واخلصت لخير الدين. ولكن قوة اسبانيا كانت فوق الطوق. فانهزم خير الدين بعد حروب. ودخل ملك اسبانيا والحسن تونس حوالي سنة 40 ثم عاد الملك بنفائس الذخائر. وكثر عدد الاسبان بتونس، وابتنوا مدينة مسورة، وتضرر بهم عامة المسلمين.

"وثارت القيروان على الحسن. فخرج لاخمادها. فقدم الناس بعده ولده حميدة (أحمد) ولحق هو باسبانيا. واتى منها بعمارة حاصرت تونس. وبعد حروب انتصر حميدة. وأسر اباه. ثم تغيرت سيرته. فمد عينه الى الحريم، وجمع حوله أكثر من ثلاثمائة بنت، فنكرته الامة، وانتظرت خروجه لقتال العرب فاستقدمت علي باشا الجزائر. فاستولى على تونس في شوال سنة 78 (في غيره 77 (. " واستنجد حميدة اسبانيا. فأنجدته. وفتحت تونس، لكنها ولت مكانه أخاه محمدا صورة من غير مال ولا رجال. والامر كله للاسبان، وعاود الاتراك غزو تونس، فنزلوا عليها في ربيع الاول سنة 82 (في غيره 81) وبعد حروب شداد استولوا على تونس، وأسروا قائدها الاسباني وبعثوا بالسلطان محمد الى الاستانة فانتهى به أمر الحفصيين " اهـ.

الباب السابع في دولة بني مرين

الباب السابع في دولة بني مرين

1 - بنو مرين

1 - بنو مرين بنو مرين قوم بداة كانوا أعزاء على الدولة المؤمنية. ودخل بهم كبيرهم عبد الحق بن محيو تل المغرب الاقصى سنة 610 على حين ضعف الدولة، وأعلن الحرب عليها سنة 13 وقتل سنة 14 فخلفه ابنه عثمان، وتغلب على الضواحي وكثير من القبائل، واغتيل سنة 37 فخلفه أخوه أبو معرف محمد، وقتل في حرب الدولة سنة 42 فخلفه أخوه أبو يحي ابو بكر، فبايع أبا زكريا الحفصي. واستولى على فاس. ومات سنة 56 فخلفه ابنه عمر. وخلع سنة 57 وبويع عمه يعقوب ابن عبد الحق. ففتح مراكش سنة 68 وتلقب بامير المسلمين. فكان هو أول ملوك هذه الدولة المرينية. واصبح لقبه شعار ملوكها. وكانت مملكة بني مرين تشتمل على المغرب الاقصى وجهات من الاندلس الاسلامية غير تابعة لبني الاحمر ملوك غرناطة. وعاصمتها فاس. وعني الملوك الاولون برفاهيتها وسعادتها، فأقاموا العدل ورفعوا المكوس. وأعانهم غنى المملكة الطبيعي واتصالها بالاندلسيين العريقين في التمدن. وللحكومة علاقات ودية ومهاداة مع دول مصر والسودان وتونس ولكن جوارها لدولتي تلمسان وغرناطة كان يحدث لها معهما مشاكل. وقربها من تلمسان جعل ايام السلم معها قليلة وكان بغرناطة جيش عظيم

من مجاهدي زناتة يرأسه بنو عبد الحق من مرين. فربما تحكمت في دولة فاس. بما لديها من القرابة المرشحين للملك. واقتفت الحكومة آثار الدول قبلها في النظم الادارية والقضائية والمالية والحربية. وأيامها ظهر البارود. واستعمله يعقوب بن عبد الحق في حصار سجلماسة سنة 672 وصنع لابنه يوسف في حصاره تلمسان سنة 697 قوسا عظيمة بعيدة النزع توقر على احد عشر بغلا. سموها قوس الزيار. ولم يزل ملوك هذه الدولة عظاما حتى هلك ابو عنان منهم. فاختلفت حال من بعده قوة وضعفا. وربما تغلب على الامر الوزراء، وقدموا الملك الصبيان صورة. وربما استقل عن صاحب فاس بعض منازعيه بسجلماسة ومراكش، فاختلت الاحوال واعتلت الدولة حتى افضى الامر الى عبد الحق بن ابي سعيد عثمان فاقصى عن الحكومة بني وطاس. وولى رئاسة دولته هارون اليهودي وساء أثره في المسلمين فثاروا به وبسلطانه، وقتلوهما سنة 869 (1465 م) وبايعوا محمد بن علي الادريسي، فانقرضت بذلك دولة بني عبد الحق، واومض برق الخلافة الادريسية، لكنه كان خلبا. فان محمدا الشيخ الوطاسي استولى على فاس سنة 876 وأعاد اليها ملك بني مرين. فلم يزل الامر للوطاسيين الى أن تغلب على فاس محمد الشيخ السعدي سنة 961) 1554 م) فانقرضت دولة مرين. وخلفتها دولة السعديين. ولو دامت الدولات كانوا كغيرهم … رعايا .. ولكن ما لهن دوام

بنو عبد الحق الملك … هـ ...... م يعقوب بن عبد الحق ابنه يوسف … 657 … 1259 عامر بن عبد الله يوسف 685 … 1286 أخوه سليمان 706 … 1307 عثمان بن يعقوب بن … 708 … 1308 عبد الحق … 710 … 1310 ابنه ابو الحسن علي … 731 ... 1331 ابنه ابو عنان فارس … 749 … 1348 ابنه ابو بكر السعيد 759 … 1358 عمه ابرهيم بن ابي الحسن … 760 … 1359 أخوه تاشفين … 762 … 1361 ابو زيان محمد بن يعقوب بن ابي الحسن 763 … 1361 عبد العزيز بن ابي الحسن … 768 … 1366 ابنه ابو زيان محمد الثاني … 774 … 1372 احمد بن ابرهيم بن ابي الحسن … 776 … 1374 موسى بن ابي عنان 786 … 1384 ابو زيان الثالث بن احمد … 788 … 1386 أبو زيان الرابع بن أبي الفضل بن ابي الحسن 788 … 1386 عود احمد بن ابرهيم 789 … 1387 ابنه عبد العزيز الثان … 796 … 1393 اخوه أبو عامر عبد الله … 799 … 1396 أخوهما عثمان الثاني … 800 … 1398 ابنه عبد الحق … 823 … 1320 السقوط … 869 … 1465 بنو وطاس محمد الشيخ بن ابي زكر يا … 876 … 1472 ابنه محمد البرتقالي … 910 … 1540 اخوه أبو حسون علي … 931 … 1525 احمد بن محمد البرتقالي … 932 … 1526 الاستيلاء السعدي الاول … 956 … 1549 عود ابي حسون … 961 … 1554 20 - نقد مضروب بتامسان في أحد وجهيه اسم " أمير المؤمنين ابو الربيع سليمان " وفي الآخر "المتوكل على الله أمير المسلمين ابو عبد الله محمد".

2 - بنو مرين بالجزائر

2 - بنو مرين بالجزائر الضغائن بين مرين وعبد الواد قديمة، ناشئة عن الجوار في الوطن ثم في الملك وعن المنافسة في الاستقلال برئاسة زناتة، فكثرت الحروب بينهما، وكان ملك مرين أعظم، فكان الفوز لهم غالبا، فلما احتضر يغمراسن اوصى خلفه بمسالمة مرين والتوسع في مملكة الحفصيين، لكن مرين التي لا يرضيها مقاسمة عبد الواد لها رئاسة زناتة كانت تتجنى عليهم تارة بانهم آووا ثائرا عليها، ولم يكن يومئذ تسليم المجرمين السياسيين من الحقوق المقررة بين الدول، وأخرى بأنهم ردوا شفاعتها في مجرم سياسي من رعاياهم أو في تخلية سبيل الممالك الحفصية، فلم يكن في اماكان عبد الواد ارضاؤها، وكانت أيام السلم بينهما هي أيام اشتغالهما بفتن داخلية. وقعت بين يغمراسهن وابي يحي واقعتا اسلي قرب وجدة سنة 648 وابي سليط سنة 55 ثم وقعت بينه وبين يعقوب واقعه ناحية تازا سنة 57 واصطلحا سنة 58 ثم تحاربا بوادي تلاغ قرب ملوية سنة 666 وعزم يعقوب بعدها على فتح تلمسان، فتهيأ له يغمراسن، فمال الى الصلح، لكن يغمراسن كتب اليه: فلا صلح حتى نروي السيف والقنا … وتأخذب الواد منكم بثارها وأشفي غليلي من مرين التي طغت … بسبي غوانيها وقتل خيارها فكانت بينهما واقعة اسلي سنة 70 انتصر فيها يعقوب، وحاصر تلمسان ثلاثة أيام وثلاثة أشهر، ووفد عليه محمد بن عبد القوي التوجيني، فاختلفت أيدي مرين وتوجين على العيث في ساحة تلمسان،

ثم أقلعوا عنها، وانعقد الصلح بين الفريقين سنة 73 وانتقم يغمراسن من توجين. ثم ان يعقوب عزم على الجواز الى الاندلس، فارسل الى يغمراسن في تأكيد الصلح رسالة منها هذان البيتان: فلتترك الناس الى جهادهم … مؤملين في حمى بلادهم واقعد ولا تنهض الى توجين … فانها في العهد مع مرين فأحفظ يغمراسن حمايته لتوجين وهي من رعيته. ونقض الصلح. فكانت بينهما واقعة الملعب سنة 80 والملعب ميدان لعب الخيل باحواز تلمسان. وانهزم يغمراسن فانحصر بتلمسان أياما. وشاركت توجين مرين ايضا في اعمال الفساد، ثم عاد كل الى مقره. وانتقم يغمراسن من توجين. وتوفي، واوصى ابنه عثمان بمسالمة مرين، فعقد السلم مع يعقوب سنة 84. ثم آوى عثمان بعض الثوار على يوسف بن يعقوب، فخرج يوسف سنة 89 الى تلمسان، وحاصرها ستة عشر يوما اصابت فيها ايدي الجيش نواحيها بالنهب والتخريب، ووفد ثابت بن منديل المغراوي على يوسف سنة 94 مستصرخا به على عثمان، فارسل اليه بالشفاعة فيه، فردها عثمان، وخرج يوسف منتقما منه سنة 95 فحاصر ندرومة اربعين يوما، ثم حاصر تلمسان سنة 96 اياما ثم نصب عليها قوس الزيار في رجب سنة 97 وحاصرها سنة أشهر، وانزل جيوشه بوجدة للغارة على مملكة تلمسان. وفي رجب سنة 98 خضعت ندرومة لبني مرين لاضرار غارات العسكر بها وفي شعبان نزل يوسف على تلمسان، واقام محاصرا لها الى ان قتله احد خصيانه في ذي القعدة سنة 706. وأعظم آفات الملوك عبيدها وملكت مرين في هذه المدة كل مملكة تلمسان ما عدا المدينة

ودخلت جيوشها مملكة بجاية، فملكت ندرومة وهنين سنة 98 ووهران ومستغانم ومزغران وتنس ومليانة سنة 99 والقصبات وبرشك وشرشال ووانشريس ومازونة والبطحاء وتامزقدت سنة 700 وتفرقينت ولمدية سنة 703 ولما قتل يعقوب رغب في الملك كل من أخيه ابي يحي وابنه ابي سالم وحافده ابي ثابت عامر، فراسل عامر بني عبد الواد في تخلية ممالكهم على ان يؤيدوه، ففعلوا، وتم له الامر، ووفى لهم بالعهد، وبقيت السلم بين الدولتين الى أن نقضها ابو سعيد عثمان، فأغار سنة 714 على تلمسان وبلغ الملعب، وعاثت جيوشه في الجهات قتلا ونهبا، وفتحوا معاقل بني يزناسن ثم عادوا الى فاس. واستولت مرين من بعد على تلمسان ست مرات وعلى الجزائر الحفصية مرتين وتداخلت بعد ابي حمو الثاني في أمر العرش ونصبت حمايتها على المستعينين بها على الملك، ثم ضعفت عن ذلك حتى انها احتمت بالدولة الحفصية. ولم تجن الجزائر من تداخل مرين في أمرها غير تخريب قصور ونسف عمران الى تعطيل حركة الانتاج وسير الاقتصاد الى افساد الرعايا ونشر الفوضى الى اضعاف الحكومة الشرعية وشغلها عن ترقية ممالكها. وقد ترك يوسف بن يعقوب وابو الحسن ابن أخيه بالجزائر آثارا، منها ابتناء قصبة لمدية سنة 704 ومنها تأسيس المنصورة سنة 700 حيث المعسكر المحاصر لتلمسان، بني اولا قصر السلطان بمضرب قبابه وبازائه جامع كبير ومنارة عظيمة على رأسها تفافيح من ذهب بسبعمائة دينار، وادير على القصر والجامع سور وابتنى الناس حوله المنازل والقصور وغرسوا البساتين وأجروا المياه وادير على ذلك سور سنة 702 فكانت مصرا من أعظم الامصار عمرانا ونفاق أسواق، ذات حمامات وخانات ومارستان، وخربها من بعد بنو عبد الواد وطمسوا معالها.

ومنها البرج الاحمر وبرج المرسى بوهران بناهما ابو الحسن سنة 748 وبني في حصاره لتلمسات مدينة غربيها سماها ايضا المنصور. وخربت ايضا وبقي بعض آثاره المدهشة. وما هدمت مرين من المجتمع الجزائري لا تجبره أمثال تلك البناءات قال تعالى- ومن أصدق من الله قيلا-: {ان الملوك اذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلكيفعلون}. ـ[صورة]ـ (ش 41) داخل الجامع الأعظم في تلمسان

ـ[صورة]ـ (ش 42) الجامع الأعظم في تلمسان. ـ[صورة]ـ (ش 43) ضريح السلطان في تلمسان.

3 - استيلاء أبي الحسن على الجزائر

3 - استيلاء أبي الحسن على الجزائر كان أبو تاشفين الاول يكثر الاغارة على الممالك الحفصية ويحاول فتح بجاية. فخشيت مرين عاقبة تغلبه على الحفصيين. واوفد ابو يحي ابو بكر الحفصي وفد على أبي سعيد المريني مستغيثا سنة 730 فتظاهرا على أبي تاشفين. وأحكما التظاهر بالتصاهر. وعزما على استئصال دولة عبد الواد. ومات أبو سعيد دون أمنية. وخلفه ابنه أبو الحسن فخاطب ابا تاشفين في الرجوع الى حدود مملكته القديمة وتسليم ما تغلب عليه لصاحب تونس. فأبى ونهض ابو الحسن الى تلمسان. فجاوزها الى تسالة. ونزل هنالك في شعبان سنة 32 واغارت أساطيله على السواحل. وارسل الى أبي يحي في الملاقاة وجمع قوة الدولتين على فتح تلمسان. فاسترجع ابو يحي ممالكه ولم يتقدم إلى تلمسان. واثار أبو تاشفين ابا علي أمير سجلماسة على أخيه الحسن. فارتحل ابو الحسن لاطفاء ثورته. وفي سنة 35 عاد ابو الحسن الى تلمسان. فحاصر وجدة. واستولى على ندرومة وهنين. ونزل تسالة وبايعته توجين ومغراوة وانبثت سراياه في الجهات. فاخضعت له سنة 36 وهران وتنس ومليانة والجزائر ولمدية ووانشريس وشلف وسائر المغرب الاوسط. فولى بها العمال. وتوجه لحصار تلمسان. فخندق على معسكره وابتنى المنصورة لسكناه وسكنى جيوشه. وبعد وقائع تمكن من فتح تلمسان. فدخلها في رمضاتن سنة 37 ونزل بالجامع. وقبض أيدي الجند عن الفساد ورفع القتل عن بني عبد الواد. واستلحقهم بجيشه. وابقاهم على مراتبهم. وفرض لهم العطاء. فاذعنوا وصدورهم تكاد تميز من الحقد. وبلغ أبا الحسن ان ابا يحيى وافد عليه للتهنئة. فلاقاه سنة 38

الى متيجة وطال مقامه بها حتى مرض. وحذر أبا يحي وزراؤه من هذه الوفادة. فانقبض عنها. وظن عبد الرحمن يعقوب بن ابي الحسن ان اباه هالك. فتوثب على الامر منافسة لاخيه ابي مالك. فتدارك ابو الحسن الامر، وفر ابنه الى موسى بن ابي الفضل أمير بني يزيد بسهل حمزة. فرده عليه، وحبس بوجدة. ثم قتل سنة 742 وأيس أبو الحسن من وفادة ابي يحي. فعاد الى منصورته. وكان بنو عامر منحرفين عن الطاعة لمكان سويد منافسيهم. ففر اليهم ابن هيدور جازر الى عمد الرحمن، وادعى انه هو، فبايعه شيخهم صغير بن عامر، وزحف به على لمدية، فهزم قائدها، وجهز ابو الحسن ونزمار بن عريف في قومه سويد. فقضى على الثورة. ولحق ابن هيدور الدعي بزواوة فافتضح. فانتقل الى الذواودة فبعث ابو يحي الحفصي خدمة لابي الحسن الى يعقوب ابن علي من كشف له أمر الدعي. فأشخصه الى أبي الحسن سنة 40 وهو يومئذ بسبتة. فقطعه من خلاف. وهلك سنة 68. وعني ابو الحسن بالجهاد وفي نفسه تشوقا الى امتلاك تونس. وانما أقعده عنها مكان صهره ابي يحي. ففي سنة 747 مات ابو يحي، وتغلب على الامر ابنه عمر، وقتل أخاه أحمد ولي العهد، فتعلق ابو الحسن بهذا السبب، وعقد على تلمسان والمغرب الاوسط لابنه ابي عنان، وفوض اليه ادارتها، وفصل منها في صفر سنة 48 فأتته بوهران بيعات أمراء الجريد وجربة وقابس وطرابلس، ووفد عليه بارض بني حسن من نواحي البرواقية اعيان الجزائر ويعقوب ابن علي الذوادي ومنصور بن مزني، فولى على جباية الجزائر مسعود ابن ابرهيم اليرنياني من طبقة الوزراء، وتلقاه بساحة بجاية أميرها محمد لما لم يجد نصيرا، فنقله عزيزا مكرما الى ندرومة واوصى ابنه ابا عنان بالاحسان اليه.

دخل ابو الحسن بجاية، فوضع عن أهلها ربع المغرم وولى عليها محمد بن النوار من طبقة الوزراء، وترك له حامية، وتقدم الى قسنطينة، فتلقاه أميرها ابو زيد في أخوته مبايعين. فنقلهم الى وجدة. واقطعهم جبايتها، وولى على قسنطينة محمد بن العباس. وانزل ممه بني عسكر. واقر صهره الفضل على بونة. وتقدم الى تونس فملكها وأقام بها الى شوال سنة 50 وفي هذه المدة اجتمع له ملك المغرب. ولم يجتمع لاحد بعد بني عبد المؤمن غيره. وفي محرم سنة 49 هزم العرب ابا الحسن على القيروان هزيمة منكرة. وكان بعسكره بنو عبد الواد وتوجين ومغراوة. فكانت لهم يد في جر الهزيمة عليه لسلبه اياهم ملكهم. وارجف بموته. فدعا ابنه ابو عنان لنفسه وثار عليه صهره الفضل بن ابي يحي الذي أقره على بونة وكان الفضل يرى أنه سينزل له عن ملك تونس، ولا يغتصبه عرش سلفه، فاستولى على قسنطينة وبجاية، واخرج منها مرين واخذ يجلب على تونس. وارتحل ابو عنان الى فاس، وترك على تلمسان عثمان بن جرار من أولاد طاع الله من بني عبد الواد، واجتمع بظاهر تونس بنو عبد الواد، فبايعوا عثمان بن عبد الرحمن. وتحالفوا مع مغراوة وتوجين، وهدروا ما بينهم من دماء، وارتحلوا في زهاء خمسمائة فارس الى مواطنهم، فقتلوا عمال مرين، ودعا عثمان بن جرار لنفسه. فنكر الناس دعوته لكونه لا سلف له في الملك، فكان ذلك مما أعان عثمان ابن عبد الرحمن عليه، فغلبه على تلمسان. ودخلها في جمادى الثانية سنة 49 وقتله غريقا. وعقد سلما مع ابي عنان على أن يمنع اباه عنه. ولم يبق بعد واقحة القيروان على بيعة ابي الحسن غير مدينة

4 - استيلاء أبي عنان على الجزائر

الجزائر ووهران ووانشريس. فسرح اليها ابنه الناصر مع يعقوب بن علي وعريف بن يحي. فاطاعته حصين والعطاف والديالم وسويد. وتجهوا نحو منداس. فلقيهم الزعيم بقومه عبد الواد. وقد أمده ابو عنان بالمال والرجال. فانهزم الناصر على وادي ورك من أرض العطاف آخر ربيع الاول سنة 50 وانقلب الى تونس. وخضع العرب للزعيم فتوجه الى وهران. وقد امتنع بها قائدها عبو بن سعيد بن اجانا حتى مات وخلفه أخوه علي. فدخلها الزعيم عنوة في جمادى الاولى. وعفا عن علي. وفي شوال خرج ابو الحسن الى الجزائر بحرا. وترك بتونس ابنه ابا الفضل فغرق اسطوله بساحل زواوة. ونجا في بعض رجاله عراة الى جزيرة. فأدركه بعض اجفانه. ولحق بالجزائر. وامد ابو عنان ابا ثابت الزعيم. فخرج في ربيع الاول سنة 51 الى منداس والسرسو وتيطري وحمزة. فاخضعها. وقفل فدخل تلمسان في رجب. ونهض أبو الحسن بعد قفوله. وامامه ابنه الناصر. فاستولى على لمدية ومليانة وتيمزوغت. فاتحدت مغراوة مع عبد الواد. وتكفل الزعيم بلقاء ابي الحسن وعلي بن راشد المغراوي بلقاء الناصر. فالتقى الجمعان بتيغر متين عند شدبونة من وطن شلف في شعبان. فقتل الناصر. ونجا ابو الحسن الى جبل العمور. وأصحر الى سجلماسة. واستولى الزعيم على الجزائر سنة 52 وصرف من بها من مرين الى فاس. وهكذا عادت الجزائر الى اربابها. 4 - استيلاء أبي عنان على الجزائر لم يتنازل ابو عنان لأبيه بعد تحقق حياته خشية أن يحرمه ولاية عهده فوصل يده بأمراء تلمسان وبجاية وقسنطينة ليكونوا سدا

دون نفوذ ابيه اليه فلم يخلص اليه الا وهو مهيض الجناح. ولكنه شغل به حتى مات سنة 52 فاستقام له الامر. واستعد لاسترجاع ما استولى عليه أبوه. ففي سنة 53 زحف الى تلمسان. وكان ابو دينار سليمان بن علي الذوادي مع أبيه ووفد عليه بعد وفاته. فسرحه بين يديه لحشد رياح. وخرج عثمان من تلمسان بجموعه، فكان اللقاء بسهل انكاد في جمادى الاولى، فانهزم بنو عبد الواد. وأسر ابو عنان سلطانهم عثمان، وقتله لما احتل بتلمسان، ونجا اخوه ابو ثابت من المعركة. فاحتمل الحرم وما خف من الذخيرة. ونزل بشلف على مغراوة، وأخذ في الحشد، فسرح له ابو عنان وزيره فارس بن ميمون. فكانت على شلف معركة شديدة في رجب، ثم هزم الوزير ابا ثابت واستولى على معسكره بما فيه من نساء وأموال ودواب، وقصد الجزائر، فخضعت له، وذهب ابو ثابت في فل من أصحابه مشرقا، وجاء ابو عنان الى لمدية، فأرسل الى أمير بجاية يترصده فقبض عليه وعلى ابي زيان ابن اخيه عثمان ووزيرهم يحي بن داود. وبعثهم الى ابي عنان. فقتلهما في رمضان بتلمسان. واستحيا ابا زيان وانتهت الدولة الثانية لبني عبد الواد. فكانت حياتها على يد أبي حمو الذي نجا الى تونس. ووفد محمد بن يحي أمير بجاية في شعبان على ابي عناد بلمدية لما بينهما من قديم الود. وطمع ان يعينه على تعنت رعيته. فاشار اليه بتسليم بجاية اليه. فأعين للملأ تسليمه. وكتب الى عامله ببجاية بتمكين عمال أبي عنان منها ولسان حاله يقول مكره اخاك! وكان الصنهاجيون أهل الشوكة ببجاية. فولى ابو عنان بها عمر بن علي الوطاسي. وبنو وطاس بنتسبون الى يوسفه بن تاشفين

الصنهاجي. فلم ينخدع الصنهاجيون لهذه المجاملة السياسية. وثاروا بالعامل ومن معه من مرين لكن أعيان بجاية خشوا ابا عنان. فاستدعوا عامله بتدلس يحي بن عمر الونكلسني ليقوم بأمرهم ريثما يولي عليهم ابو عنان. بلغ الخبر ابا عنان. فانهض حاجبه محمد بن أبي عمر في خمسة آلاف فارس في ذي الحجة. وقصدت صنهاجة الى لقاء الحاجب ببني حسن. ثم خامت عن اللقاء ولحق أثافي الفتنة منها بقسنطينة فتونس. ولقي مشيخة بجاية الحاجب بتكلات. فأشخص أهل الظنة منهم الى ابي عنان بتلمسان. ودخل بجاية في المحرم سنة 54 وسكن الاحوال. ووفد عليه يوسف بن مزني والذواودة. ورجع بمن وفد عليه من العرب الى تلمسان في جمادى الاولى. قال ابن خلدون: " وكنت يومئذ في جملتهم. وقد خلع علي الحاجب وحملني واجزل صلتي وضرب لي الفساطيط. فجلس السلطان للوفد واعترض ما جنب له من الجياد والهدية. وكان يوما مشهودا. ثم أسنى جوائز الوفد. واختص يوسف بن مزني ويعقوب بن علي بمزيد البر والكرامة. وائتمرهم في شأن افريقية ومنازلة قسنطينة وانصرف الحاجب بي وبالوفد لاول شعبان " اهـ. واطلق السلطان يد الحاجب في المال والجيش، وولاه حرب قسنطينة وانزل معه موسى بهن ابرهيم اليرنياني من طبقة الوزراء بقرية بني ورار تحت نظره وفي سنة 55 هزم الحاجب أمير قسنطينة. وانتهى الى ميلة. فترك بها موسى بن ابرهيم. وتقلب في عمله حتى بلغ المسيلة وهلك ببجاية فاتح سنة 56 فنقل الى تلمسان. وكان حميد السيرة. وجمع له ابو عنان قبل ولاية بجاية بين العلامة والقيادة والحجابة والسفارة وديوان الجند والحساب والقهرمة وسائر

ألقاب دولته وخصوصيات داره. وأصله تميمي كان سلفه بالمهدية. وانتقلوا الى تونس وتقلبوا في وظائف الدولة. ثم ساءت أحوالهم. فخرج ابوه الى القل. واتصل بالحاجب ابن غمر بالاعجام. فاستعمله في شهادة الديوان بتدلس. ثم لحق بأبي حمو. فاستعمله على قضاء تلمسان الى أن ملكها أبو الحسن. فعزله وعهد اليه بتأديب ابي عنان فنشأ ابنه محمد هذا مع ابي عنان. وكان ذلك سبب نعمته. وولي بجاية بعد ابن ابي عمر الوزير عبد الله بن علي بن سعيد الياباني. فلما كانت وقعة وادي القطن على موسى بن ابرهيم اتهمه بالتقصير في امداده. فعزله ابو عنان واعتقله. وولى مكانه يحي بن ميمون بن أمصمود. وخرج بنفسه الى قسنطينة. ففتحها سنة 58 وولى عليها منصور بن خلوف الياياني المريني. وبايعته بونة. وفتح جيشه تونس في رمضان. فطمع في اللحاق بها شأن ابيه. لكنه لم يحسن سياسة العرب وأراد ارتهان ابنائهم على الطاعة وانتزاع اقطاعاتهم، فخالف عليه يعقوب بن علي، وخشيت مرين ان يلحقها معه في دخول افريقية ما لحقها مع ابيه قبل، فانفضت من حوله واضطر الى الرجوع بعدما تم استيلاؤه على الجزائر وكادت قدمه تثبت بتونس وبقية المغرب. فدخل فاسا في ذي الحجة. ومات بها في السنة التالية. وكان ابو عنان كثيرا ما ينزل بتلمسان. وولى عليها ابنه محمدا المهدي فأخرجه منها ابو حمو الثاني سنة 60 واخرج ابراهيم الثاني الحفصي مرين من بجاية بمساعدة أبي حمو ويعقوب بن علي سنة 61 وافضى أمر مرين الى أبي سالم ابراهيم. فنفض يده من هذه الممالك. وكتب الى منصور بن خلوف والى قسنطينة بتسليمها الى ابي العباس احمد الحفصي، فسلمها له في رمضان سنة 61 فتم أخراج مرين من

5 - الاستيلاءات الاخيرة على تلمسان

الجزائر بعدما استولت على تلمسان سبع سنوات وعلى بجاية ثمانيا وعلى قسنطينة وبونة ثلاثا. 5 - الاستيلاءات الاخيرة على تلمسان لما توفي ابو عنان بويع ابنه السعيد طفلا خماسيا مستبدا عليه. فثارت لبيعته قلاقل شغلت مرين عن تلمسان وانتهت بتغلب ابي سالم ابراهيم على الامر. وعامل درعة يومئذ عبد الله إن مسلم الزردالي. فخشي ابا سالم لانه كان مخلصا لاخيه ابي عنان وتحيل في إشخاص أخيهما ابي الفضل اليه لما ثار عليه. فقتله سنة 75 واحتمل أهله وذخائره. ولحق بابي حمو في شوال سنة 60 لقديم حلف بينه وبين عبد الواد، ونقل أو لياءه عرب المعقل الى صحراء تلمسان، فنبذوا مرين وحالفوا عبد الواد. وساء ذلك أبا سالم، فطلب من أبي حمو اسلام الزردالي ورجع المعقل الى مغربه، فأبى، فزحف اليه في رجب سنة 64 وبعد حرب شديدة دخل ابو سالم تلمسا ن سادس شعبان، فاجلب ابو حمو على قرسيف وانكاد. فعاد ابو سالم لحفظ مملكته، وترك تلمسان لابي زيان الفتى من بني عبد الواد وهواه مع مرين لانه نشأ في نعمتهم، فعاد اليها ابو حمو ودخلها ثامن رمصان، وفر منه ابو زيان، وانعقدت السلم بين الممكلتين، فكانت مدة هذا الاستيلاء شهرا وأياما. ولما ملك عبد العزيز أحيا قضية المعقل الذين استكثر بهم ابو حمو واستعان بهم على سويد، فلم يجد لدى ابو حمو اذنا صاغية، ثم وفد عليه أهل الجزائر وسويد ساخطين على ابي حمو لجبره اياهم على اداء المغرم، فتقوى عزمه، وزحف الى تلمسان آخر سنة 71

ومال اليه ذوو عبيد الله، فلما يسع أبا حمو الا الفرار، ودخل عبد العزيز تلمسان في المحرم سنة 72 واستولى على مملكة عبد الواد، وفرق العمال في الجهات، وانتزع من العرب اقطاعاتهم، فثاروا عليه في كل ناحية، واضطرهم المغرب الاوسط نارا، فاضطر سنة 73 لامضاء اقطاعات العرب، وأخرج الجنود لاخضاع بقية الثوار من مغراوة وحصين وغيرهم، وأقام بتلمسان حتى توفي بها سنه 74 فنقل شلوه الى فاس، وبويع ابنه. فولى على تلمسان ابراهيم بن ابي تاشفين الاول كان مكفولا لمرين منذ مقتل أبيه، واستدعى ابا حمو أولياؤه من منتبذة بتيقوارارين، وردوا ابراهيم على عقبه الى فاس، ودخل أبو حمو تلمسان في جمادى الاولى، فكانت مدة هذا الاستيلاء عامين وأشهرا. وفي سنة 76 انقسمت دولة مرين بين أحمد بن أبي سالم بفاس وابن عمه عبد الرحمن بمراكش، ثم كانت بينهما حروب، فمال ابو حمو الى صاحب مراكش لبعده عن جوار مملكته، وأراد أن يرغم أحمد على الافراج عنه سنة 84 فاجلب بجموع العرب وزناتة على مملكة فاس، وقام بدفاعه ونزمار بن عريف وعامل فاس، ثم ورد الخبر بفتح مراكش منتصف السنة، فانقبض ابو حمو الى تلمسان وعاد احمد بن ابي سالم من مراكش، فاخرج ابا حمو من تلمسان سنة 85 وهدم قصور الملك بها. وكان الغني بالله بن الاحمر صاحب غرناطة وليا لابي حمو، ولديه كثير من بني عبد الحق المرشحين للملك، فكان يمنع أبا العباس أحمد من حرب تلمسان متى هم بها. فلما فتح مراكش ظن قوته لا يؤثر فيها بن الاحمر. وأجلى أبا حمو فانتقم منه بن الاحمر بتسريح موسى بن ابي عنان لفاس، واعانه على شأنه، فغادر ابو العباس تلمسان أوائل سنة 86 ولكن موسى ابن عمه قد سبقه الى فاس وعاد طريده

موسى ابو حمو الى تلمسان. واصبج السالب مسلوبا، ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، وكانت مدة هذا الاستيلاء نحو سنة. ثم عاد ابو العباس الى ملك فاس. وأعان ابا تاشفين الثاني على قتل ابيه ابي حمو. وسجن لديه أخاه ابا زيان ليهدده به وقت الحاجة. وتوفي أبو تاشفين سنة 95 فملك ابو العباس تلمسان، وأقام بها ابنه عبد العزيز لاخضاع ممالكها، بعض سنة، وتوفي أبوه سنة 96 وبويع مكانه. فعاد الى فاس. وأطلق من السجن ابا زيان. فملك تلمسان. ولم تدخل الراية المرينية الجزائر بعد. وهكذا كان القرن الثامن قرن عراك بين مرين وعبد الواد. وانتهى بضعفهما معا، وجروا معهم في الضعف دولة غرناطة اذ كانت تستمد منهم عسكريا وماليا وادبيا. فتقوى عليها الاسبان حتى قضى عليها سنة 897 واشتدت وطأته على سواحل المغرب أجمع. وما ذلك الا لاهمال العمل بمثل قوله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}.

الباب الثامن في دولة بني زيان

الباب الثامن في دولة بني زيان

1 - تأسيس الدولة الزيانية

1 - تأسيس الدولة الزيانية هذه الدولة تضاف الى عبد الواد الذين بسيوفهم قامت وبابطالهم حميت، وتنسب الى زيان بن ثابت بن محمد من بني طاع الله لان ملوكها من عقبة. وبنو طاع الله من بطون بني القاسم من عبد الواد. وزعموا ان القاسم هذا هو ابن ادريس او ابن محمد بن ادريس او ابن محمد بن عبد الله أو محمد ابي القاسم بن ادريس وفي بني محمد ابن سليمان الذين كانوا بتلمسان القاسم بن محمد أيضا. قال ابن خلدون: وهو أشبه بهذه الدعوى من القاسم بن ادريس. ولقد كان بنو عبد الواد اجلاس خيل وابطال هيجاء يرون المعالي منوطة بالعوالي لا يخنعون الى مناهض ولا تكسر من شبانهم الشدائد. يغالبون النوائب ويصابرون الخطوب. وبمثل هذه الاخلاق أسسوا دولتهم. وبها حافظوا على حياتها رغم ضيق المملكة واتساع مطامع جيرانهم الاقوياء من مرين وبني ابي حفص. وكان دخول عبد الواد تلمسان امرة جابر بن يوسف منهم. فناب امرأؤهم بها عن خلفاء مراكش حتى ولي يغمراسن بن زيان سنة 633 فأحسن سياسة قومه وأحلافهم من زغبة وبني راشد، وجمع كلمتهم، فاشتد ساعده وتوطد أمره. فاتخذ ابهة الملك وشعاره من جند وتولية عمال ولم يبق لخليفة مراكش الا الدعاء على المنابر وتقلد العهد من يده تأنيسا للعامة ومرضاة للاكفاء من قومه. فكان يغمراسن أول ملوك هذه الدولة. وقد قاست من الحروب الخارجية والفتن الداخلية ما قصصنا بعضه في البابين قبل هذا وسنقص منه في هذا الباب، وان تعجب فعجب حياتها مع تلك الحروب المبيرة حتى سقطت مع منافسيها المرينيين والحفصيين.

2 - المملكة الزيانية

2 - المملكة الزيانية مملكة آل زيان الاصلية هي مواطن عبد الواد واحلافهم بني راشد الممتدة طولا من البحر الى الصحراء وعرضا من ناحية وادي مينة، وجبال سعيدة حيث يجاورون توجين ومغراوة الى ملوية وفيقيق حيث يجاورون مرين واحلافها. وملكوا سجلماسة بين سنتي 62 - 673 وغلبت مرين على وجدة، فاستقرت الحدود بين الدولتين على تاوريرت بجانبها الغربي عامل مرين وبالشرقي عامل بني زيان. ثم يمر خط الحدود جنوب وجدة الى فيقيق وتيقورارين جنوبا والى غربي ندرومة شمالا. فيشمل مواطن ذوي عبيد الله غربي حدود الجزائر الحديثة. ثم ملكوا مواطن توجين ومغراوة وفتحوا الجزائر ودلس سنة 712 وبلغوا تيكلات قرب بجاية. ومنها يذهب الخط جنوب جرجرة الى البويرة الى دلس شمالا. ويمر مصحرا شرقي حمزة والمسيلة ومزاب الى تيقورارين. وبهذه المملكة من قبائل العرب المعقل وزغبة وأولاد سباع بن يحي من رياح، وتقدمت أخبارهم في الباب الخامس، ومن قبائل البربر التي كان لها ظهور قوي أو ضعيف مطغرة وكومية وبنو راشد وهوارة وتوجين ومغراوة. وقبائل المملكة الشرقية أقوى وأكثر خلافا لكثرة جبالهم ويسر مسالك الصحراء عليهم وضعف دولة الحفصيين المجاورة لهم وبعد عاصمتهم عنهم بخلاف أهل المملكة الغربية فان خلافهم على آل زيان يدخلهم في قبضة مرين الاشداء، فضعفوا لذلك وقلت ثوراتهم. أما مطغرة فكان رئيسهم في الدولة المؤمنية خليفة. وله على ساحل البحر حصن تاونت كان مؤسسا من قبله، فقد ذكره البكري

بقوله: "وهو على ساحل ترنانا في جبل منيف. به معدن الأثمد، ويحيط به البحر من ثلاث جهات، وله مرتقى وعر من شرقيه لا يطمع فيه أحد، وله بساتين وشجر كثير وأهله من البربر يعرفون ببني منصور" اهـ. وبقيت الرئاسة في عقبة وبايع هرون بن موسى بن خليفة يعقوب ابن عبد الحق وتغلب على ندرومة. فاسترجعها منه يغمراسن وغلبه على تاونت. ثم تغلب يعقوب بن عبد الحق على ندرومة واعاد الهيا هرون. فاستبد بها. وقطع دعوة الدولتين منها خمس سنين حتى غلبه يغمراسن سنة 72 فلحق بيعقوب بن عبد الحق وأجار الى الاندلس واستشهد هنالك. وخلفه على مطغرة أخوه تاشفين. وهلك سنة 703 وبقيت الرئاسة في عقبة. هذا ما حدث به عبد الرحمن بن خلدون. وقال أخوه يحي: في ربيع الاول سنة 98 شرق عثمان الاول الى توجين وأطال المغيب في تدويخ بلادهم. فخلع زكريا بن يخلفتن المطغري قائده بندرومة طاعته. وبايع لمرين. فاضطرمت أرجاء حضرته نار فتنة. فأخذ السير الى تلمسان. وكان أثر ذلك الحصار الطويل. وأما كومية فقد بقيت منهم بعد الدولة المؤمنية علالة في بني عابد قوم عبد المؤمن متخدة مع ولهاسة. كان من رؤسائهم ابراهيم بن عبد الملك، نسبه ابن خلدون مرة الى ولهاصة وأخرى الى بني عابد، وكان آخذا بدعوة ابي الحسن بعد تغلبه على تلمسان، فلما وقعت عليه واقعة القيروان واشتد الهرج في الاوطان حدثته نفسه باحياء الدعوة المؤمنية، فدعا لنفسه، وأضرم بلاد كومية وسواحل تلمسان نار فتنة، وعاد آل زيان الى تلمسان فخرج اليه ابو ثابت الزعيم عاشر رجب سنة 749 فاقتحم هنين وندرومة وأسره واعتقله

بتلمسان حتى قتل. وكانت هنين فرضة تلمسان المعتبرة حتى خربها شرلكان، قال البكري ما خلاصته: " حصن هنين على مرسى جيد مقصود، وهو أكثر حصون ساحل تلمسان بساتين وضروب ثمر، تسكنه كومية، وبينها وبين ندرومة ثلاثة عشر ميلا، يفصل بينهما جبل تاجرا، وندرومة في طرف الجبل، غربيها وشمالها بسائط طيبة ومزارع، وبينها وبين البحر عشرة أميال، وهي مسورة جليلة بها نهر وبساتين فيها من جميع الثمار،) اهـ. وأما بنو راشد فكانوا أحلافا لعبد الواد، وربما نبذوا عهدهم، وكانت رئااستهم لعهد يغمراسهن لونزمار بن ابراهيم بن عمران، وهلك سنة 690 فخلفه غانم بن محمد بن ابراهيم، ثم موسى بن يحي بن ونزمار، ثم ابو يحي بن موسى بن عبد الرحمن بن ونزمار، وكان أيام تغلب ابي الحسن على تلمسان، ونقله في رؤساء زناتة الى المغرب الاقصى. فمات هنالك وخلفه ابنه زيان. وملك أبو حمو الثاني تلمسان. فوفد عليه. واتهمه بمشايعة مرين. فحبسه بوهران. وفر منها بعد مدة الى مرين وتظاهر بالاخلاص لابي حمو. فأعاده. وولاه على قومه. ثم اعتقله حتى قتله سنة 768 وبه انقرضت رئاسة بني راشد. وكانت في مواطنهم مدينتا معسكر وايفكان. والمعسكر اليوم من المدن الشهيرة. وذكره الادريسي في النزهة بقوله: "قرية عظيمة لها أنهار وثمار". اهـ. ويقال أنها كانت معسكرا للايمة الرستميين واتخذها بنو زيان معسكرا للاجلاب على توجين. ولم يعتنوا بتمدينها حتى مصرها الاتراك. وايفكان ويقال ايضا فكان جنوب المعسكر. قال البكري: "كانت سوقا لزناتة. فمدنها يعلى بن محمد بن صالح اليفرني.

وكان ابتداء تأسيسه لها سنة 338 وارتحل اليها أهل المعسكر من أهل تاهرت ويلل وشاطئي بني واطيل ووهران وقصر الفلوس. فعمرت وتمدنت وعظمت. وهي في سفح جبل اوشيلاس. وهو بجوفيها ذو شعراء غامضة وقبليها نهر سيره ينبعث من عيون شرقيها، عليه الارحاء والبساتين من كلتي ضفتيه، وغربي فكان اسفل بساتينها مجمع وادي سيرة ووادي سي ووادي هنت. وعلى المدينة سور طوب، وبها جامع وحمام وفنادق" اهـ. ولعل لفظ من في قوله من أهل تاهرت محرف عن الواو. واما هوارة فكانت رئاستهم في بني اسحق. واختص كبيرهم محمد بن اسحق القلعة المعروفة بقلعة هوارة. ومات. فخلفه اخوه حيون. وصارت في عقبة ووالوا آل زيان. فاستعمل منهم ابو حمو الاول يوسف بن حيون على توجين سنة 715 الى أن خلفه على توجين ابنه يعقوب امرة أبي تاشفين الاول. ثم غلب ابو الحسن على تلمسان، فاستعمل عبد الرحمن بن يعقوب على قبيله ثم عبد الرحمن ابن يوسف. ثم ابنه محمدا. ثم تلاشت هوارة. وخف ساكن القلعة فانقرض بيت بني اسحق. واما مغراوة وتوجين فكانوا مناهضين للدولة. وتكررت فتنهم حتى إن ابا حمو موسى الاول اقام سنة 711 لحربهم بوادي نهل من شلف. وابتنى هنالك قصره المعروف باسمه قرب مازونة. وهو المعروف اليوم بعمي موسى. وكانت مدينة الجزائر للحفصيين. ويدير أمرها مشيخة من أهلها. فنبذوا دعوتهم سنة 669 ونازلتهم العساكر مرارا. فامتنعوا عليهم. ثم فتحوها سنة 74 واعتقل مشيختها بتونس حتى سرحهم الواثق ثم قطعوا دعوتهم ثانيا حوالي سنة 98 واستبد بها محمد بن

3 - عاصمة المملكة الزيانية

علان. وبايع بني مرين لما نزلوا على تلمسان في الحصار الطويل. ونازلته عساكر بجاية مرارا. فامتنع عليهم حتى فتحها ابو حمو الاول سنة 712 ونقل ابن علان الى تلمسان. وعادت للحفصيين سنة 813 ثم فتحها عبد الواحد بن ابي حمو. وتغلب عليها المستعين حافد ابي تاشفين سنة 842 واستقل بها عن تلمسان. وقتله أهلها سنة 43 وأدار شؤونها مشيختهم يرأسهم الشيخ عبد الرحمن الثعالبي حتى توفي سنة 75 وصار أمرها الى أولاد سالم بن ابرهيم من الثعالبة وكان منهم سالم التومي الذي خضع مضطرا الى الاسبان لما ملكوا بجاية. فلما ظهر عروج بربروس بجيجل استنجده. فانجده، ودخل الجزائر سنة 922 وندم سالم على استدعائه. فغدر به عروج وتغدى به قبل ان يتعشى هو به، فقتله وفتك برؤساء الثعالبة تمكينا لسلطته، ومن ذلك الحين أصبحت الجزائر تركية. وكانت الجزائر تدعى جزائر بني مزغنة اضافة الى أهلها من صنهاجة، قال البكري: "وهي مدينة جليلة قديمة ذات آثار وأزاج محكمة تدل على انها كانت دار مملكة للاول وصحن دار الملعب فيها مفروش بحجارة ملونة صغيرة مثل الفسيفساء فيها صور الحيوان باحكم عمل لم يغيرها تعاقب القرون. ولها أسواق ومسجد جامع. وكانت بها كنيسة عظيمة. بقي منها جدار مدير من الشرق الى الغرب مفصص كثير النقوش والصور وهو اليوم قبلة الشريعة للعيدين " اهـ. 3 - عاصمة المملكة الزيانية عاصمة هذه المملكة هي تلمسان بكسرتين فسكون، علم زناتى مركب من تلم بمعنى تجمع وسان بمعنى اثنين يعنون انها تجمع بين اثنين التل والصحراء وهي في سفح جبل بني ورنيد المار جنوبها،

ويسمى قبالتها بالصخرتين، ينحدر منه نهر سطفسيف المار شرقيها. الى ان يلتقي بنهر يسر ثم بنهر تافنا. وتنحدر منه أيضا ساقية النصراني، وعلى الساقية والنهر مبان وجنات وارحاء. وبقرب المدينة عينا الفوارة وام يحي يدخل ماؤها اليها. ويجري الى الدور والحمامات والخانات وغير ذلك. وحولها فحوص أشهرها العباد حيث ضريح ابي مدين الشهير، وكان قرية كبيرة ذات مساجد ومدارس وخانات، ثم تراجعت عمارتها حتى اضمحلت في العهد الفرنسي. وتلمسان مدينتان احداهما قديمة تعرف بأقادير أسسها بنو يفرن قبل الاسلام والثانية احدثها يوسف بن تاشفين سنة 474 بمعسكره المحاصر لاقادير، وسماها تاقرارت باسم المعسكر في لسانهم وفي عهد الادريسي صاحب النزهة كانتا يفصل بينهما سور، ويحيط بهما سور حصين متقن الوثاقة. وقد عني البكري بوصف تلمسان القديمة وما بساحلها من سهول وحصون ومراسي، نقتصر من ذلك على قوله ملخصا: "هي قاعدة المغرب الاوسط ودار مملكة زناتة وموسطة قبائل البربر ومقصد تجار الآفاق، لها أسواق ومساجد ومسجد جامع وأشجار وأنهار، وكان الاول قد جلبوا اليها ماء من عيون تسمى لوريط بينها وبين المدينة ستة أميال. ولها خمسة أبواب، في القبلة باب الحمام وباب وهب وباب الخوخة، وفي الشرق باب العقبة، وفي الغرب باب ابي قرة، وفيها للاول آثار قديمة، وأكثر ما يوجد الركاز بتلك الآثار، وبها بقية من النصارى الى وقتنا هذا، ولهم بها كنيسة معمورة" اهـ. ولم تزل تلمسان منذ الفتح الاسلامي عاصمة مملكة معتنى بعمارتها وتحصينها ولا سيما ايام الموحدين وفتنة ابن غانية حتى

اقتعد كرسيها آل زيان. فشادوا بها القصور الجميلة. واغترسوا الرياض والبساتين، وأجروا خلالها المياه، وبلغ من عمرانها ان عد برجيص المسيحي في كتابه "تلمسان" من المساجد التي شاهدها قائمة في هذا العصر الفرنسي أحدا وستين مسجدا. قال عبد الرحمن بن خلدون: "فأصبحت أعظم أمصار المغرب، ونفقت بها أسواق العلوم والصنائع. وضاهت أمصار الدول الاسلامية والقواعد الخلافية " اهـ. وقال العبدري في رحلته: "تلمسان مدينة كبيرة سهلية جبلية جميلة المنظر مقسومة باثنتين بينهما سور. ولها جامع عجيب مليح متسع، وبها أسواق قائمة، وأهلها ذوو ليانة ولا بأس باخلاقهم وبظاهرها في سند الجبل موضع يعرف بالعباد هو مدفن الصالحين وأهل الخير .. والدائر بالبلد كله مغروس بالكرم وانواع الثمار. وسوره من اوثق الاسوار وأصحها، وبه حمامات نظيفة. أشهرها حمام العالية قل ان يرى له نظير، وبالجملة هي ذات منظر ومخبر وانظار متسعة ومبانيها مرتفعة" اهـ. وقال يحي بن خلدون ما خلاصته: "خمسة أبواب، قبلة باب الجياد وشرقا باب العقبة وشمالا باب الحلوى وباب القرمدين وغربا باب كشوط، وهي مؤلفة من مدينتين ضمهما الآن سور واحد. أحدهما أقادير والاخرى. تاقرارت. وهي الآن أكبر وأشهر من الأولى. والجامع الاعظم وقصور الملك ونفيس العقار بها والناس اليها أميل وبها أشد عناية " اهـ. وذكرها ابو الفداء في تقويم البلدان، فقال ان لها ثلاثة عشر بابا وهو معاصر لآل زيان لكنه بعيد عنها، وقد عارضه يحي كاتب حكومتها.

4 - الحكومة الزيانية ومشاهير من رجالها

وقد اختلفت على تلمسان أيدي الحفصيين ومرين والاسبان فطمسوا كثيرا من معالمها واعفوا معظم آثارها، وأشار الى علة ذلك لسان الدين بن الخطيب في وصفه لها بقوله: " تلمسان مدينة جمعت بين الصحراء والريف، ووضعت في موضع شريف. كأنها ملك على رأسه تاجه وحواليه من الدوحات حشمه واعلاجه. عبادها يدها، وكهفها كفها، وزينتها زيانها، وعينها أعيانها، هواها المقصور بها فريد، وهواؤها الممدود صحيح عتيد، وماؤها برود صريد حجبتها ايدي القدرة عن الجنوب، فلا تحول بها ولا شحوب، خزانة زرع، ومسرح ضرع، فواكهها عديدة الانواع، ومتاجرها فريدة الانتفاع، وبرانسها رقاق رفاع، الا أنها بسبب حب الملوك مطمعة للملوك ومن أجل جمعها الصيد في جوف الفرا، مغلوبة للامراء أهلها ليست عندهم الراحة الا فيما قبضت عليه الراحة، ولا فلاحة، الا لمن أقام رسم الفلاحة، ليس بها لسع العقارب الا فيما بين الاقارب، ولا شطارة الا فيمن ارتكب الخطارة " اهـ. وللادباء في وصفها ومدحها نثرا ونظما ما لا يسعه ديوان، ومن أطولهم في ذلك باعا وابرعهم تصويرا واصدقهم وصفا شاعرها النازح عنها الى غرناطة محمد بن خميس، قال في مطلع قصيدة طويلة جدا: تلمسان لو ان الزمان بها يسخو … منى النفس لا دار السلام ولا الكرخ 4 - الحكومة الزيانية ومشاهير من رجالها الدولة الزيانية مستقلة داخليا وخارجيا غير انها لم تدع أولا الخلافة، فكانت تدعو لدولتي الموحدين الى سنة 703 واودعت الخلافة الى سنة 791 فأصبحت تدعو لمرين، ثم تمشت حسب الظروف: تعلن

الخلافة أياما، وتدعو للحفصيين أو المرينيين أخرى الى أن ظهر على مسرح السياسة الجزائرية الاسبان والاتراك. فاختلفت ايديهم على هذه الدولة كل يجذبها لحمايته. وحكومتها ملوكية استبدادية مطلقة غير جارية على قواعد سياسة الخلافة كالحكومات المعاصرة لها شرقا وغربا، وسياستها مع جارتيها الحفصية والمرينية عدائية كسياستهما معها. وقد أوصى يغمراسن ابنه عثمان بمسالمة مرين لقوتهم واتقاء مقابلتهم بالانحصار، وانتهاز الفرص في ممالك الحفصيين واتخاذ بعض الثغور الشرقية موئلا لحفظ دخائر الحكومة. وعلى هذه الوصية سارت الحكومة الا انها عجزت عن اتخاذ معقل بالمشرق لصعوبة بجاية عليها. فاتخذ ابو حمو الثاني من الصحراء معقلا. ومد بنو الاحمر ملوك غرناطة ايديهم الى يغمراسن لما خشوا من مزاحمة مرين لهم بالاندلس وان يعيدوا معهم مأساة ابن عباد، فاستمرت العلاقات بين الحكومتين حسنة. وكان أبو حمو الثاني يمد أهل غرناطة كل سنة، بالزرع والمال والخيل، وييسر لهم اسباب وسق الطعام. ويرى ذلك من الجهاد ويحمل عليهم حديث الطائفة التي لا تزال بالمغرب ظاهرة على الحق. وفي ذلك يقول لسان الدين الخطيب: لقد زار الجزيرة منك بحر … يمد فليس نعرف منه جزرا اعدت لنا بعهدك عهد موسى … سميك. فهي تتلو منه ذكرا أقمت جدارها وافدت كنزا … ولو شئت اتخذت عليه أجرا وكانت الحكومة ترفع منازل الاشراف والفقهاء وتداري الاعيان من رؤساء القبائل والتجار واشباههم، وتجري في سياسة العامة على

قول الحكماء: "العامة اذا قدرت ان تقول قدرت ان تصول " فتضؤب بين زعماء القبائل ليكونوا في حاجة اليها وتأخذ من ابنائهم رهنا على الطاعة واتخذ لهم أبو حمو الاول عصبة واذن لهم في النكاح والبناء واختط لهم المساجد جمعوا فيها للجمعة ونفقت بها الاسواق والصنائع قال ابن خلدون: " فكانت تماثل بعض الامصار العظيمة وهي من أغرب ما حكي عن سجن " اهـ. ومالية الحكومة تجمع من المغارم المفروضة على الرعية ومن الغنائم الحربية فان هذه الحكومات المتعاصرة لا تبالي- على اسلامها- بأخذ ما غلبت عليه من أموال محاربتها. وتوزع في مصالح الحكومة وجوائز الأعيان وعطاء الموظفين ورزق الجند، وكانت تطبع السكة. وكتبت فيها بعد انتهاء الحصار: "ما أقرب فرج الله! " ولها نفائس تذخرها مما يخف حمله وتعظم قيمته غنم يغمراسن أهمها من الخليفة السعيد الذي قتله بتامززدكت. منها الثغبان عقد منتظم من خرزات الياقوت الفاخرة والدرر. يشتمل على مئتين كثيرة من حصبائه. وأعظمها مصحف عثمان بن عفان (ض) يقال ان عبد الرحمن الداخل حمله من خزائن قومه الى الاندلس ثم صار الى المرابطين ثم الموحدين. وحديث المصحف طويل يطلب في نفح الطيب. وقد أخذه والثعبان في نفائس ابو الحسن المريني لما استولى على تلمسان. وللحكومة جند مؤلف من أربعة أقسام، تستعين بمجموعهم في حروبها وتدرأ أقسامهم بعضها ببعض الاول الخاصة، وهم من وجوه القبائل، ومنهم قواد بقية الاقسام، والثاني القبيل، وهم بنو عبد الواد قرابة الملك، ورئيس فرقتهم يدعى شيخا، والثالث الانصار، وهم نخبة من الجند يكونون محدقين بالملك في الحرب، والرابع

المماليك، وهم اخلاط من السودان والاعلاج وغيرهم، ولكل قسم رايات يمتاز بها، ولهم أعطية حسب اقدارهم الا المماليك فحسب حاجتهم لقوتهم ونفقة عيالهم وعلف مركوبهم، وللملك ايام في السنة يستعرض فيها الجند، ويتفقد العدد الحربية، ويرقي من يستحق الارتقاء. وكان يغمراسن قد استخدم جند النصارى الذين كانوا مع السعيد في وقعة تامززدكت وهم زهاء ألفي فارس، ورفع من قدرهم حتى استعجل أمرهم واجمعوا قتله لما استعرض الجند بباب القرمدين سنة 652 فشعر بهم، وقتلوا أخاه وأحاطت بهم الدهماء من الجند والرعية، فاستلجموهم، ولم يستخدم بعدها جند النصارى بهذه الحكومة. ويقسمون الجيش عند التبعية الى مقدمة امام الملك او نائبه وميمنة عن يمينه وميسرة عن يساره وساقة يكون الملك فيهم ويسمون أيضا قلبا وأهل الدخلة، ومنهم من يجعل الاقسام خمسة ويباين بين القلب والساقة، وبذلك سمي الجيش خميسا. ولم يكن ملوك آل زيان يتلقبون بألقاب الخلفاء كالمنصور والمستعين الا بعض ذرية ابي حمو الثاني، وكانوا يلون الامر بالبيعة الشرعية الا ابا تاشفين الاول وسميه الثاني وأكثر ذرية ابي حمو، فانهم تغلبوا على الامر بقوة عصبية أو مدد خارجي .. والملك مصدر كل السلط. وولي عهده رديفه ومظهر سلطانه ونائبه في قيادة الجيوش. وله حاشية وبطانة ربما نافست بطانة الملك. فافضت الحال الى منافسة ولي العهد للملك نفسه، وللملوك وزراء وحجاب وكتاب وأصحاب اشغال وقضاة بالحضرة ومفاتي يبينون لهم ما أشكل عليهم من الاحكام ويتعهدونهم بالموعظة وقواد وعمال وأصحاب شرطة.

فالوزير واسطة بين الملك والعامة ومعينه بالرأي ونائبه في قيادة الجيش ان لم يركب هو ولا ولي عهده. والحاجب هو صاحب الباب يأذن بالدخول للملك عن أمره. ويلقب بلسان زناتة المزوار. والكاتب يعرض على الملك كل يوم ما ورد من الرسائل ويتلقى أوامره بالجواب عنها وبعقد الولايات وغيرها من شؤون الحكومة. وصاحب الاشغال له النظر المطلق في الدخل والخرج. والعمال نوابه في الجهات يؤدون اليه جبايات أعمالهم ولكن توليتهم من الملك. والقواد رؤساء فرق الجند. وصاحب الشرطة يتولى النظر في التهم على الجرائم ومباشرة تنفيذ الحكم على أهلها. فالحكومة الزيانية تتألف من عناصر السيف والقلم والمال والعلم. فمن مشاهير رجال السيف غير بني زيان هلال القطلوني وموسى بن علي الكردي ويحي بن موسى السنوسي وعبد الله بن مسلم الزردالي وبنو مقن. فاما هلال فعلج اهداه ابن الاحمر الى عثمان الاول. وصار الى ابي حمو. فاعطاه وولده ابا تاشفين، فكان من خواصه ومن كبار المغرين له بابيه. فلما قتله ولاه حجابته، وكان مهببا فظا غليظا استولى على أمر السلطان وزحزح منافسيه عن مناصبهم، ثم أخذ السلطان يخفض من صوت صولته حتى عزله سنة 29 واعتقله الى ان هلك سجينا قبيل فتح ابي الحسن تلمسان. واما موسى فمن بيت نبيه في الاكراد، فروا أمام التتر، ونزلوا على المرتضى بمراكش، فأكرم مثواهم، وبعد دخول مرين مراكش تفرقوا في تلمسان وتونس، وبقي جمع منهم مع مرين، ونشأ موسى هذا بين حرم السلطان يوسف حتى اذا نزل محاصرا لتلمسان أغضبه ذات يوم، فلحق بعثمان الاول. فعرف فضله، وبالغ في اكرامه،

وتولى قيادة جيوش ابي حمو، وثبت ابا تاشفين لما دهش لمقتل أبيه. واخذ له البيعة، وشقي بهلال الذي أغرى به السلطان فنفاه الى غرناطة، ثم استقدمه وولاه حرب بجاية، واتهمه بالتقصير فعزله سنة 17 ولحق بسليمان ويحي ابني علي بن سباع بن يحي، ثم استقدمه وسجنه بالجزائر، فلما سخط هلالا ولاه مكانه واخرجه من ذل السجن الى عز الحجابة، ولم يزل عزيزا حتى هلك مع سلطانه يوم الفتح. ونجا ابنه سعيد من الملحمة جريحا. فعفا عنه ابو الحسن. وكان له من بعد ذكر بالحكومة الزيانية. واما يحي بن موسى فمن بني سنوس بطن من كومية كانوا في حلف بني كمي من عبد الواد. وخدموا يغمراسن. وظهر فضل يحي هذا أيام الحصار الطويل. فولاه ابو حمو مراقبة الحرس الليلي وضبط الابواب وقسم القوت بمقدار على المقاتلة: وكان له اقدام في الحرب. فرفعت منزلته بعد الحصار. واستعمله ابو تاشفين الاول بشلف. ثم ولاه عمل القاصية وحرب بجاية بعد عزل الكردي. وكان هذا العمل من دلس الى لمدية. ولما نزل ابو الحسن على تلمسان بايعه. فرفع مجلسه وهلك بعد الفتح. واما الزردالي فكان قومه أخوة عبد الواد من بني بادين. واندرجوا فيهم لقلتهم. وكان عبد الله هذا مشهورا بالبسالة والاقدام. فاعجب به ابو الحسن بعد دخوله تلمسان. فبعثه الى درعة. وولاه بها أبو عنان. فاستألف عرب المعقل. وقطع الثوار. وقبض على أبي الفضل الثائر هناك. وبعث به الى أخيه ابي عنان. فقتله. فلما ملك أخوهما ابو سالم خشية عبد الله. فلحق بابي حمو الثاني في ثروة من المال وعصبة من العشير واولياء من العرب. فقلده لحينه وزارته. وفوض اليه تدبير ملكه. ولم يزل في عظمته حتى توفي بالوباء سنة 765.

واما مقن فهم أخوة بني زيان من أولاد طاع الله. استوزر منهم يغمراسن يحي بن مقن، ثم أخاه عمروش، ومات سنة 36 فخلفه ابنه عمر. ونفي يحي وابنه الزعيم الى الاندلس. ثم عادا اليه فاستعمل الزعيم بن يحي على مستغانم سنة 81 وما كاد يستقر بها حتى ظاهر مغراوة. وثار على يغمراسن فحاصره حتى دخلها ونفاه ثانيا الى الاندلس، فلحق به أبوه يحي. وبقي أخوه علي بن يحي بتلمسان. وله ابن علمه داوود صار كبير مشيخة بني عبد الواد وصاحب شوراهم. وولد لداوود يحي. فكان وزير عثمان الثاني. ومن مشاهير رجال القلم ابو بكر محمد بن عبد الله بن داود بن خطاب ومحمد بن عمر بن خميس ويحي بن خلدون، فاما ابن خطاب فهو مرسي اندلسي، وفد على يغمراسن مع جالية شرق الاندلس، فاستكتبه، وصدرت عنه رسائل في مخاطبات خلفاء مراكش وتونس تنوقلت وحفظت، واستقدمه المستنصر الحفصي وبعث اليه بمال، فرده عليه، وأقام بتلمسان على خطته الى أن توفي يوم عاشوراء سنة 681 قال في الاحاطة: "كان كاتبا بارعا شاعرا مجيدا له مشاركة في أصول الفقه وعلم الكلام وغيرهما " اهـ. واما ابن خميس فتلمساني، استكتبه عثمان الاول، ثم انتقل الى غرناطة فقتل بها سنة 708 وكان شاعرا مجيدا طويل النفس، أثنى عليه العبدري في رحلته على شحه بالثناء، وروى له قصائد، وشعره كثير. واما يحي فأخو المؤرخ الكبير استكتبه ابو حمو الثاني، والف في دولته بغية الرواد في ذكر الملوك من بني عبد الواد، وكاد كاتبا شاعرا، له قصيدة في السيف والقلم ومراسلات مع لسان الدين بن الخطيب، وقتله ابو تاشفين في رمضان سنة 780 لمماطلته بعقد ولاية وهران، وكانت المماطلة عن أمر ابي حمو.

5 - ملوك آل زيان

ومن مشاهير رجال المال بنو الملاح، قرطبيون معروفون بالامانة والدين حرفتهم سكة الدينار والدرهم، ووفدوا على يغمراسن، وعنوا بالفلاحة، فولى منهم على اشغاله عبد الرحمن بن محمد بن الملاح. ثم كانوا أصحاب دولة ابي حمو الاول وأضاف اليهم حجابته فتولاها محمد بن ميمون بن الملاح ثم ابنه محمد الاشقر ثم ابنه ابراهيم ومعه علي بن عبد الله بن الملاح. وقتلوا مع ابي حمو سنة 718 وانتهت أموالهم. 5 - ملوك آل زيان كان ملوك آل زيان يفوقون بني مرين والحفصيين حربيا وسياسيا. ولكنهم يفوقونهم كثرة. فظل الصراع مستمرا بين القيوتين المعنوية والحسية بهجمات دولية أو اثارة قبائل قوية. حتى أن يغمراسن بلغت حروبه مع العرب خاصة اثنتين وسبعين. وعنوا بتحصين تلمسان وشحنها بالاقوات والمؤن حتى انهم صبروا على الحصار الطويل الذي دام ثماني سنين وثلاثة أشهر وأياما. مات فيها من رجالهم زهاء عشرين ألفا ومائة ألف. ونالهم من الجهد وغلاء الاسعار ما لا نظير له في التاريخ. أكلوا القطوط والفيران وأشلاء الموتى. وبلغ ثمن الفار عشرة دراهم والبيضة ستة دراهم والتينة درهمين. وقد أطال عبد الرحمن بن خلدون في بيان أسعار بقية المقتاتات. وأخيرا نفدت مدخراتهم. ولم يبق من المقاتلة الا نحو الالف مشاة. فوطنوا أنفسهم على الاستماتة. ولكن الله فرج عنهم بقتل سلطان مرين. قال عبد الرحمن بن خلدون: "حدثني شيخنا محمد ابن ابراهيم الابلي- وكان قهرمان دارهم- ان السلطان ابا زيان سأل صبيحة يوم الفرج خازن زرعه عما بقي. فقال له قوت اليوم

فقط. ودخل أخوه ابو حمو فأعمله. وبينما هم مطرقون اذ دخلت دعد وصفية زوج عثمان الحفصية. فقالت: لم يبق لمصارعكم غير فواق ناقة وبنات زيان يقلن لكم لا خير في العيش بعدكم. فاريحونا من معرة السبي! فامتنع ابو زيان- وكان شفوقا- من قتلهن- وراجعه ابو حمو فيه فقال لعل الله يجعل بعد عسر يسرا. فأرحئني ثلاثا وسرح بعدها اليهن اليهود والنصارى وتعال نخرج في قومنا فنستميت وأجهش بالبكاء واذا برسول مرين ينعى له سلطانهم! " اهـ بايجاز. والى جانب ما لهم من شجاعة حربية وادبية نرى شهادة عدوهم عريف بن يحي شيخ المجالس الملوكية لهم بالسبق في ميدان السياسة. قال ابن خلدون: "سمعته يقول موسى بن عثمان هو معلم السياسة الموكية لزناتة وانما كانوا رؤساء بادية فحد حدودها وهذب مراسمها واقتدى به اقتاله وانظاره منهم" اهـ. وكان ابو تاشفين الاول اوسعهم مملكة واغناهم خزائن واكثرهم آثارا. وابو حمو الثاني أعظم قدرا وأوفاهم من الخطوب كيلا. وعلو كعبه في الحرب والسياسة والعلم والادب يظهر لمن درس كتابه " واسطة السلوك في سياسة الملوك" وأيامه تكفل بتفصيل حوادثها صاحب زهر البستان. وخصها يحي بن خلدون بالجزء الثاني من كتاب بغية الرواد. وكانوا أيام عظمتهم متحدين لا يتنازعون أمرهم بينهم. فأبو حمو اول من بايع أخاه ابا زيان. وقال يحي بن خلدون يذكر عثمان الثاني وأخاه ابا ثابت: "استشعرا كلاهما ابهة الملك. ودان له الناس بالبيعة. ومضت اوامره في الاحكام والجبايات الا ان السرير والمنبر والدينار للسلطان عثمان، والجيوش والالوية والحروب للسلطان ابي ثابت مع تعظيمه لاخيه وبروره به، ورضي يوسف أخوهما الاكبر

سكنى ندرومة للعبادة. ولم أقف بتاريخ على مثل هذه الاخوة " اهـ. واول من شرع العقوق منهم ابو تاشفين الاول، فكان هو سبب ثورة محمد بن يوسف على أبيه. ثم أقدم على قتله وسلك سبيله سميه بن أبي حمو الثاني. وكان اكبر أبنائه، منافسا لاخوته كثير الشكوك في أبيه، ولي عهده في جمادى الاولى سنة 774 واشتدت غيرته من المنتصر وابي زياد وعمير، أمهم ميلية، وتولى ابو زيان منهم وهران، فطلبها ابو تاشفين من أبيه مزاحمة له، وماطله بها، فعدا على الكاتب ابن خلدون، ووضع على ابيه العيون خائفا ان يخلعه من ولاية عهده. ولم يطب لابي حمو المقام معه، فحرج الى الجزائر موريا باصلاح العرب. فرده أبو تاشفين من أسافل البطحاء، ثم ارسل الى ابنه المنتصر عامل مليانة بولاية الجزائر واحمال من المال وانه لاحق به متى وجد فرصة، فاطلع ابو تاشفين على ذلك ايضا، واستشاط غيظا، وخلعه سنة 88 واعتقله بقصبة وهران، واعتقل بتلمسان من بها، من اخوته، وتوجه نحو مليانة فاستولى عليها. وتحصن منه المنتصر بحصين. فاقام محاصرا له بتيطري وخشي أن يكيده ابوه وأخوته من خلفه. فبعث من يقتلهم. وبلغ أبا حمو مقتل اولاده. فصعد على سور القصبة مستغيثا بالوهرانيين. فاغاثه خطيبهم. وقام ببيعته. وتدلى اليهم بحبل وصله بعمامته! ودخل قصر الملك بتلمسان اوائل سنة 89. وبلغ الخبر ابا تاشفين. فأخذ السير الى تلمسان. فدخلها. وكانت يومئذ عورة لهدم مرين أسوارها وحصونها. فالتجأ ابو حمو الى مأذنة الجامع الاعظم. فاستنزله ورق له وبكى. وقبل يده. فاستأذنه ابو حمو في الحج. فأركبه من وهران ولكنه نزل ببجاية.

وأمده الحفصيون على استرجاع ملكه وطاف على العرب بصحرائهم. حتى جمع قوة دخل بها تلمسان في رجب سنة 90. ولحق أبو تاشفين بمرين مستنجدا ابا العباس احمد. فاوعز ابو حمو الى خليله الغني بالله محمد بن ابي الحجاج بن نصر بطلب ابي تاشفين من ابي العباس. فالح في طلبه. ولكن ابا تاشفين استهوى الوزير. فغلب على هوى ابي العباس. وأمده أواخر سنة 91 بجيش. فخرج أبو حمو الى الغيران جنوب تلمسان ناحية سبدو. وارهقته مرين عن الاصحار كعادته وكبا به فرسه. فانقضى نفسه. واتى برأسه الى ابنه. واسر له اخوه عمير. فقتله. واستحكمت القطيعة بين ابناء ابي حمو فاصبح بأسهم بينهم شديدا. واول ملوك آل زيان ابو يحي يغمراسن. ولد سنة 603 وبويع في ذي القعدة سنة 33 ومات برهيو منقلبه بعرس ابنه عثمان الحفصية آخر ذي القعدة سنة 81 ومن آثاره بناء باب كشواط سنة 68 وصومعتي جامعي تلمسان القديمة والحديثة. ومنعه اخلاصه ان يكتب اسمه بهما. وكان آية في الجراءة والدهاء جليلا مهيبا حليما جوادا متواضعا مؤثرا لاهل العلم. وخلفه ابنه ولي عهده ابو سعيد عثمان الاول ولد سنة 639 وتوفي بذي القعدة سنة 703 ويقال سم نفسه. وكان شهما مقداما محبوبا ذا سياسة وصبر. وقدم بعده ابنه ابو زيان محمد الاول. ولد سنة 659 وتوفي في شوال سنة 707 وقال لسان الدين: أثناء الحصار. ونقله التنسي عن صاحب درر الغرر من الشاهدين للحصار. وكان رقيق القلب فاضلا مباركا حسن الملكة. وخلفه اخوه ابو حمو موسى الاول. ولد سنة 665

وقتله ابنه في جمادى الاولى سنة 718 ومن آثاره تأسيس مدينة أقبو وبناء القصر المعروف باسمه على وادي تهل قرب مازونة، ويعرف اليوم بعمي موسى. وكان صارما حازما يقظا داهية ذا حدة وغلظة. وتغلب على الملك قاتله ابو تاشفين عبد الرحمن الاول ولد سنة 692 ودخلت عليه مرين المدينة في رمضان سنة 737 فوقف بباب قصره. وقال: يا من لا يزول ملكه ارحم من زال ملكه! وقاتل حتى قتل هو وابناؤه عثمان ومسعود ويوسف وكبار دولته. وفي واسطة السلوك ان سبب الكائنة عليه اعتماده على حصانة المدينة وامساكه عن العطاء. فلما كاد العدو يدخل عليه طلب من يأخذ ماله فلم يلقه. وقال ابن مرزوق: توطدت دولة عبد الواد بقتلهم ابا الحسن السعيد. وكان اسمر لام ولد. وختمت بقتل ابي الحسن المريني لهم. وهو بصفته حذو النعل بالنعل وكان ابو تاشفين فاضلا حميد السيرة رحب الجناب عظيم الخلق جميل الخلق. ذا آثار عظيمة. أخذت الدولة أيامه زخرفها وازينت. فأصبحت بسيوف مرين حصيدا كأن لم تغن بالامس. وجددها ابو سعيد عثمان الثاني بن عبد الرحمن بن يحي بن يغمراسن. انخزل بقومه من جيش ابي الحسن في واقعة القيروان الى العرب. وبايعه قومه ظاهر تونس آخر ربيع الاول سنة 749 فاتحد مع مغراوة وتوجين وارتحلوا الى بلادهم في زهاء خمسمائة فارس، وقد انتثر سلك الامن فخلصوا من غارة بني ونيفن ناحية باجة، وثربة ناحية بونة، وبني ثابت بجبلهم، وزواوة بجبل الزان وبلغ عثمان وقومه تلمسان في جمادى الثانية، فولى شؤون دولته أخاه ابا ثابت الزعيم فمهد المملكة، وما كاد يستريح حتى قصدهم ابو عنان، فاستولى على دولتهم وقتل عثمان في جمادى الاولى سنة 53

ـ[صورة]ـ منارة سيدي ابراهيم

ثم أدرك أخوه ابو ثابت وقتل، فكان من حديثه مع ابي عنان: " اننا غلبناكم رجلة فغلبتمونا بخنا". وكان معروفا بالبسالة والفتوة، وكان عثمان شيخا محنكا داهية ذا عبادة ونسك. وجدد الدولة ابو حمو موسى الثاني بن يوسف أخي عثمان الثاني قبض على عمه ابي ثابت بليزر من ساحة تلمسان، ونبت عنه العيون، فنجا الى تونس، وأكرم مثواه عبد الله بن تافراقين وزير ابي اسحق الثاني، ولما دخل جيش ابي عنان تونس خرج هو مع ابي اسحق جتى نزلوا ساحة تبسة، فارتد ابو عنان الى مغربه، وردد ابو حمو الغارة على نواحي قسنطينة، وفتح ميلة ونزلها، وتزوج منها، واخرج مرين من جبل بني ثابت وقرية بني ورار، ثم ارتحل منها سنة 59 لما قدم الوزير سليمان بن داود بجيش لا قبل له به، فجهزه الحفصيون الى وطنه ليشغل عنهم مرين، فسلك على عين السمارة قرب قسنطينة وجبل عياض وثنية غنية، وتزوج بالزاب، ودخل تلمسان في ربيع الاول سنة 60 وبويع بالخلافة وابوه حي، ونهضت اليه مرين. فأجفل أمامها الى الصحراء. واجلب على ممالكها حتى عادت الى مغربها، فعاد هو الى تلمسان بعد شهر، وقطعت دولته مرين ثم ابنه سبع مرات. وكانت الصحراء حصنه الحصين، وخاطر بنفسه مرارا في طلب سلطانه، ومدح هذه المخطرة في واسطة السلوك، وتمثل بقول أمرئ القيس: بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه … وايقن انا لاحقان بقيصرا فقلت له لا تبك عينك انما … نحاول ملكا او نموت فنعذرا ولد بالاندلس أيام مقام أبيه بها سنة 723 وقتل غرة ذي الحجة سنة 91 وكان ممدوح لسان الدين واضرابه، وجمع الحافظ التنسي كتابا

سماه "راح الارواح فيما قاله المولى ابو حمو من الشعر وما قيل فيه من الامداح". وخلف ابنه قاتله ابو تاشفين عبد الرحمن الثاني، ولد بندرومة أيام كان ابوه وجده بها سنة 752 وتوفي في ربيع الثاني سنة 95 وقضى أيامه في دعة وهناء قائما بدعوة مرين مؤديا لهم ضريبة سنوية، فقويت مطامعهم وكثر تحكمهم في عرش تلمسان. ولو طالت ايامه لرفع عن الدولى هذا الكابوس. وخلفه ابنه ولي عهده أبو ثابت الاول وقتل لاربعين يوما. وخلفه قاتله عمه ابو الحجاج يوسف بن ابي حمو في جمادى الاول. ولاشهر ملكت عليه مرين تلمسان. وقتله أخوه ابو زيان سنة 96 وحلاه التنسي بقوله: "جند الجنود وعقد الالوية والبنود. وامر الايام فائتمرت وطافت بكعبته الآمال واعتمرت، الى بيان جبل عليه وفصاحة ورحب جناب للوافدين وساحة " اهـ. وسلمت مرين تلمسان لاخيه ابي زيان الثاني، كان ثائرا على أخيه أبي تاشفين مطالبا بدم أبيه، واضطره العجز الى الوفادة على مرين، فادخرته لعاقبة سياسية، وسرحه سلطانها عبد العزيز الى تلمسان، فدخلها غرة ربيع الثاني سنة 96 ونشط العلوم والآداب، وكان عالما شاعرا، ألف كتاب " الاشارة في حكم العقل بين النفس المطمئنة والنفس الامارة" وكانت بينه وبين برقوق صاحب مصر مهادات وتنكرت له مرين. فاعانت عليه أخاه عبد الله، فأخرجه سنة 801 واغتيل سنة 805. وخلفه أخوه ابو محمد عبد الله الاول فباشر أموره بنفسه، ونهض بدولته نهوضا خشيته مرين، فأغارت عليه سنة 804 وأسرته. وخلفه باعانة مرين اخوه ابو عبد الله محمد الاول المعروف بابن

خولة. ويلقب بالواثق بالله، وكان أمثل الملوك المتأخرين رحب الفناء جزيل العطاء حليما عن الدماء محبوبا من الرعية. فاستراحت الامة ايامه وكاد يعيد للدولة شبابها ومات سابع ذي القعدة سنة 813. وخلفه ابنه عبد الرحمن وخلع لشهرين وايام. وخلفه خالعه عمه السعيد بن ابي حمو اواخر المحرم سنة 814 وعاثت منه يد الاسراف في أموال الدولة. وامدت مرين عليه أخاه عبد الواحد فخلعه منتصف رجب، وذهب على وجهه. وخلفه خالعه أخوه ابو مالك عبد الواحد. وكان شجاعا متناهيا في الحزم والجد مقتفيا آثار أبيه، استرجع الجزائر من الحفصيين. وحارب مرين في عقر دارها ونصب على كرسيها بعض حفدة ابي عنان. وأخذ منها بثأر آل زيان فاشتدت بذلك صولته وامتدت دولته. وانتهى به تداخل مرين في عرش تلمسان ولكن هذه الدولة لا تخرج من أزمة الا الى أخرى فثار عليه محمد ابن اخيه ابي تاشفين. واستمد الحفصيين. فنهض سلطانهم عزوز في جموعه معه، وبعد معارك دخلوا تلمسان. وفر عبد الواحد الى فاس. وانتصب بتلمسان سنة 827 ابو عبد الله محمد الثاني بن ابي تاشفين الثاني المدعو بابن الحمرة. وعاد عزوز الى تونس بعدما انفق أكثر من عشرة احمال مالا في هذه الحركة. وحاول عبد الواحد استرجاع ملكه. وعجزت مرين عن مظاهرته. فتوجه شطر تونس. وارسل ابنه المستنصر الى سلطانها عزوز. فرجع منه بكتاب يعده الاعانة على أن يقدم بنفسه الى تونس. فقبضت علا المستنصر عيون ابن الحمرة فقتله. وقطع ذكر عزوز بن الكتب والخطبة. ولحق عبد الواحد بتونس. وعاد منها بجيش هزمه ابن الحمرة. فخرج عزوز نفسه معه. وفتح تلمسان في رجب سنة 31 وعاد عبد الواحد الى ملكه.

وخرج ابن الحمرة الى جبال بني يزناسن. ثم انتقل الى جبال برشك وتنس واستألف عربها. وفتح تلمسان رابع ذي الحجة سنة 33 وقتل عمه عبد الواحد. فنهض اليه عزوز. واخرجه الى جبال بني يزناسن ثانيا. وحاصره بها. فزين له بعض أصحابه النزول اليه ليلين له. فرفعه معه الى تونس. واعتقله بقصبتها حتى مات سنة 840. وخلفه عمه احمد العاقل بن ابي حمو. نصبه على كرسي أسلافه عزوز غرة رجب سنة 834 فضبط الامور وأظهر العدل واحسن السيرة. فطالت مدته وانتزع منه بعض آله وهران والجزائر. واستقل عن عزوز فخرج اليه. ولكن مات في طريقه. فعاد الجيش الى تونس، وكفى الله المؤمنين القتال، وهادى حافده ابا عمر عثمان سنة 62 فكافاه، وتغلب عليه المتوكل غرة جمادى الاول سنة 66 واجازه الى الاندلس، فعاد لطلب ملكه، وحاصر تلمسان اسبوعين، ثم مات في ذي الحجة سنة 67 ودفن بالعباد. وخلفه خالعه ابو ثابت الثاني محمد المتوكل بن ابي زيان محمد المستعين بن أبي ثابت الاول، فجمع آل زيان المشتتين شرقا وغربا، وأحسن معاملتهم وأدر عليهم الارزاق، ومهد المملكة واخضع الرعية، وخرج اليه ابو عمر عثمان الحفصي سنة 66 فخضعت له سويد وعامر، واقتضى بيعة المتوكل وتهاديا سنة 68 ثم استقل عنه المتوكل سنة 70 فخرج اليه واخضعه ثانيا، ومات سنة 890. فخلفه ابنه تاشفين نحو اربعة اشهر أو أقل. وخلفه أخوه ابو ثابت الثالث محمد، وعجز عن ضبط ممالكه الشرقية، فاضطرمت فتنة، ومات سنة 902. وخلفه أكبر بنيه أبو عبد الله محمد الثالث المعروف بالثابتي نسبة إلى جده ابي ثابي. وزاد ما بين سنتي 904 - 906 في احباس ابي مدين ما قيمته مائتا دينار. ومات سنة 909.

وخلفه اخوه ابو زيان الثالث المسعود، فخلعه عمه ابو حمو الثالث، الملقب عند ابي راس بابي قلمس، وفي تحفة الزائر بابي كلمون، وسجن المسعود، وملكت عليه اسبانيا المرسى الكبير سنة 911 ثم وهران سنة 14 وقيل 15 وثار عليه يحي اخو المسعود، واستبد بتنس تحت حماية اسبانيا، وحاربها ابو حمو مرارا، واستأصل جيشها سنة 12 ثم ضعف عن مقاومتها. فاحتمى بها. وادى لها ضريبة سنوية مبلغها اثنا عشر الف دوقة واثنا عشر فرسا وستة بزاة. وغضبت الامة عليه لاهانته الاسلام باحتمائه بالنصارى ولاثقاله كاهلها بالضرائب لضيق مملكته. فاستدعت عروج بربروس. فدخل تلمسان سنة 23 وفر ابو حمو الى وهران. وارتقى على العرش. سجينه ابو زيان المسود. وبعد ايام قلائل اخرج الاتراك من تلمسان محاولا للاستقلال. فعاد اليه عروج. وقتله في سبعة من قرابته ونحو الستين بن عامة عبد الواد وزهاء الف من التلمسانيين. وزحف على الاتراك ابو حمو بنجدة اسبانية. فحاصر تلمسان ستة أشهر. ثم احتلها في جمادى الاولى سنة 24 وفر عروج فأدرك وقتل ومات ابو حمو سنة 24 نفسها. وخلفه اخوه ابو محمد عبد الله الثاني بن المتوكل. وحاول قطع طمع اسبانيا وتركيا في تلمسان وابعد أخاء ابا سرحان مسعودا الى فاس. ثم استرجعه. فعدل عنه الى خير الدين بالجزائر. واستعانه على اخيه مقابل ضريبة سنوية ومبايعة سليم الاول العثماني. فأمده بالمال والجيش واخرج اخاه الى وهران. وملك مسعود تلمسان، ونقض طاعة خير الدين، فدعاه الى الوفاء. فأساء الجواب، واستثمر ذلك اخوه ابو محمد، فلحق بخير الدين وضمن له البيعة والضريبة فأيده. عاد أبو محمد الى تلمسان، ففر مسعود، وأخذ يغير عليه،

فأمده خير الدين وانجلت الفتنة بالقبض على مسعود، واختلت احوال خير الدين. فقطع ابو محمد طاعته، ثم صلحت أحواله، فعاد الى طاعته، ومات سنة 930. وخلفه ابنه ابو عبد الله محمد الرابع، واشتدت ايامه شوكة اسبانيا. وفتحت تونس، فخضع لها، واشترطت عليه ضريبة سنوية وتسريح أسارى النصارى وعدم منازعتها الاستيلاء على الجزائر وشرشال وتنس لكن الظروف حالت دون تنفيذ هذه الشروط. وفي سنة 49 خلعه احوه ابو زيان احمد باعانة الاتراك واقام جند منهم بتلمسان. فلحق ابو عبد الله بوهران. واتى بنجدة اسبانية استأصلها ابو زيان بشعبة اللحم في شوال ثم أعادوا الكرة. ودخلوا تلمسان في ذي الحجة وفعلوا بأهلها الافاعيل قتلا ونهبا واعتداء على الحرم. عاد ابو عبد الله الى عرشه. وهجم عليه اخوه ابو زيان سنة 50 وبعد معارك خذل ابو عبد الله لجنايته على تلمسان بادخال النصارى اليها. وعاد ابو زيان الى عرشه. فلحق اخوه بوهران. واسرع العود بنجدة اسبانية. فقتل. وهزمت نجدته شر هزيمة. وفي أواسط شعبان سنة 52 استولى حسن بن خير الدين على تلمسان. فلحق ابو زيان بدبدو. وغدر به صاحبها عمر بن يحي الوطاسي. فاعتقله ووزيره منصور بن ابي غانم ومن معه من آل زيان. ونهب أموالهم. لم سرح منصور في محرم سنة 53. وفي جمادى الاولى سنة 57 اخرج السعديون المتغلبون بفاس ابا زيان احمد من تلمسان. فلحق بوهران. ولا أدري كيف كان خلاصة من صاحب دبدو ويظهر ان السعديين لما دخلوا فاس سنة 56 سرح الوطاسيون ابا زيان ليحفظ تلمسان منهم. واخرج الاتراك السعديين من تلمسان في نفس سنة 57 ودخلت حكمهم.

ملوك تلمسان الملك … الولاية … هـ … م يغمراسن بن زيان … 633 … 1236 ابنه عثمان الاول … 681 … 1283 ابنه ابو زيان الاول … 703 … 1304 اخوه ابو حمو الاول … 704 … 1308 ابنه ابو تاشفين … 718 … 1318 استيلاء مرين الاول … 737 … 1337 عثمان الثاني … 749 … 1348 استيلاء مرين الثاني … 753 … 1352 ابو حمو الثاني … 760 … 1359 ابنه ابو تاشفين الثاني … 791 … 1389 ابنه ابو ثابت الاول … 795 … 1393 عمه يوسف … 795 … 1393 اخوه ابو زيان الثاني … 796 … 1394 اخوهما عبد الله الاول … 801 … 1398 اخوهم أبو عبد الله الاول … 804 … 1402 ابنه عبد الرحمن … 813 … 1411 عمه السعيد … 814 … 1411 أخوه عبد الواحد … 814 … 1411 ابو عبد الله الثاني بن ابي تاشفين … 827 … 1424 عود عبد الواحد … 831 … 1428 عود ابي عبد الله … 833 … 1430 احمد العاقل بن ابي حمو … 834 … 1431 ابو ثابت الثاني المتوكل … 866 … 1462 ابنه تاشفين … 890 … 1485 اخوه ابو ثابت الثالث … 890 … 1485 ابنه ابو عبد الله الثالث … 902 … 1496 عمه ابو حمو الثالث … 909 … 1503 ابن اخيه ابو زيان الثالث … 923 … 1517 عود ابي حمو … 924 … 1518 اخوه عبد الله الثاني … 924 … 1518 أخوهما مسعود … 925 … 1519 عود عبد الله ...... ؟ …؟ ابنه ابو عبد الله الرابع … 930 … 1524 اخوه ابو زيان الرابع أحمد … 949 … 1542 عود أبى عبد الله … 949 … 1543 عود احمد … 950 … 1543 الاستيلاء التركي … 957 … 1550 37 - نقود المعتصم بالله ابي العباس احمد

38 - من نقود المتوكل بن ابي زيان محمد. 39 - من نقود ابي عبد الله محمد، ضرب تلمسان. 40 - من نقود المتوكل، ضرب تلمسان. 41 - من نقود أبي عبد الله المتوكل، ضرب تلمسان.

6 - مغراوة وبنو زيان

6 - مغراوة وبنو زيان موطن مغراوة شمال وانشريس ووادي شلف الى البحر. ينتهي شرقا الى وادي السبت قرب متيجة وغربا الى البطحاء ناحية نهر مينة. يشتمل على جبال شاهقة وسهول خصبة ومدن عامرة. منها مليانة وواجر شرقيها ومازونة وتنس وبرشك وشرشال. وغلبوا ايام منديل بن عبد الرحمن على وانشريس ولمدية. واختطوا قصبة سيرات. وخربوا عمران متيجة. وكان أهلها على ما يحكى يجمعون في ثلاثين مصرا. ثم ظهرت توجين بوانشريس ومليكش والثعالبة بمتيجة. فانقبضوا الى وطنهم القومي. ولم تفارق مغراوة ورؤساؤها حياة الظعن. فكانوا بداة وأمر المدن الى مشائخ من أعيانها. وربما استبد بعض الشيوخ بمدينته. ففي سنة 659 استبد بمليانة ابو علي الملياني حتى أخرجه الحفصيون من سنته. وفي سنة 683استبد ببرشك زيري بن حماد المكلاتي المدعو زيرم. وشغلت عنه الدول حتى قتله بنو عبد الواد سنة 708. وقد دخل العبذري مليانة سنة 689 فكتب عنها ما خلاصته: " مدينة حصينة مجموعة مختصرة. وليست عن أمهات المدن مقصرة اشرفت من كثب على وادي شلف في روضة جمة الازهار والطرف وفرعت في سفح جبل حمى حماها ان يرام وشرعت في أصل نهر يشفى من الهيام وبها جامع مليح عجيب " اهـ. ثم أخذ يندب أفول نجم العلم والادب بها بقصيدة على لسان حالها، مطلعها: زمان لذي عهد الشبيبة قد عسا … أعلل فيه النفس علي او عسى لعل ربوعا من حلاها عواريا … تعود لها تلك المفاخر ملبسا لعل نجوما كنت هالة بدرها … ستجلو ظلاما حل افقي فالبسا

وبرشك بين تنس وشرشال. قال الادريسي: " هي مدينة صغيرة على تل بضفة البحر عليها سور تراب. وشرب أهلها من عيون عذبة. وبها فواكه وجمل مزارع وحنطة كثيرة وشعير " اهـ. وقال الدمشقي: " بلدة صغيرة كثيرة الانجاص والتين والعنب الاسود " اهـ. ومازونة اختطها ابو منديل عبد الرحمن من رؤساء مغراوة سنة 565 قال الادريسي: "هي على ستة اميال من البحر شرقي حوض فروخ بين أجبل ذات أنهار ومزارع وبساتين وأسواق عامرة ومساكن مؤنقة من أحسن البلاد بقعة وأكثرها فواكه والبانا وسمنا وعسلا" اهـ. وكانت مغراوة كبني عبد الواد على الدعوة المؤمنية حتى وطىء ارضها أبو زكريا الحفصي سنة 632 فبايعته. وخالفت بذلك سياسة عبد الواد. فأوجدت السبيل عليها ليغمراسن بن زيان، ونهض اليها. فعجزت عن مقاومته. واستصرخت ابا زكريا فأصرخها. واحتل تلمسان سنة 40 فبايعه يغمراسن. وعقد ابو زكريا على مغراوة لرئيسها العباس ابن منديل، ومنحه الاستقلال الداخلي. واتخذ بحضرته الآلة وشارة الملك. ولكن هذه القوة الادبية أم تثبت أمام قوة يغمراسن الحقيقية. فاجلب على مغراوة حتى استقامت على ولائه. ولم تنتفع ببيعة الحفصيين الذين كانوا في شعل عنها، وانما عقد لها خالد بن ابي زكريا المنتخب- وهو ببجاية- حلفا مع صنهاجة فصار رؤساؤها يلتجئون الى جبال صنهاجة متى غلبوا على بلادهم، وشعرت بضعف فائدة هذه البيعة فحولت وجهها شطر مرين فكانت كالمستجير من الرمضاء بالنار، ولم تكن لسياستها هذه من نتيجة خارجية غير شغل آل زيان، ولا داخلية ىبر تشتيت شملها، فقد لحق كثير من أبطالها بغرناطة مرابطين للجهاد ومنهم من لحق بالحفصيين أو مرين. ابتدأ يغمراسن حربه لمغراوة بالتضريب بين بني منديل رؤسائها

فقتل عابد وثابت ابنا منديل اخاهما محمدا سنة 662 بالخميس من بسائطهم. فاختلفت كلمة مغراوة بعده. وجاس يغمراسن خلال معاقدهم سنة 66 حتى بلغ متيجة وأمكنه عمر بن منديله من مليانة سنة 68 على ان يعينه على رئاسة قومه. فخرج لاعانته سنة 72 وباع منه عابد وثابت بعد حروب تنس باثني عشر الف دينار. ومات عمر. واجاز عابد الى الاندلس. وخلا وجه مغراوة لثابت. فاسترجع مليانة وتنس. وغلبه يغمراسن على تنس سنة 81. وخلف يغمراسن ابنه عثمان. فاثخن في بلاد مغراوة. وملك مازونة سنة 86 وتنس سنة 88 وأعان ثابت سلطان مرين في حصار تلمسان سنة 89 فانتقم منه عثمان خنى ألجأه الى جبال صنهاجة ثم عاد اليها سنة 93حتى الجأه الى برشك، فحاصره بها اربعين يوما، ثم ركب البحر في أهله وولده الى يوسف سلطان مرين، فأكرم مثواه، وقتله بعض مرين سنة 94 فكفل الساطان أهله وولده، وتزوج حافدته، وبقي ابنه محمد أميرا في قومه، ومات بعده بقليل. واستكانت مغراوة لبني زيان ثم. لمرين أثناء حصارهم الطويل لتلمسان، وبعد تغلبهم عليها، وولي يوسف بن يعقوب منهم عمر بن ويعزن بن منديل ثم ابنه محمدا، وكان راشد بن محمد بن ثابت يأمل من صهره ان يؤثره بامارة قومه، فلما خاب ظنه- كما سيخيب ظن الفضل الحفصي في صهره ابي الحسن- ثار عليه، وملك مازونة سنة 700 وشغل مرين حتى ألحقوه بزواوة سنة 704 وعاد بعد مقتل صهره الى قومه، فأجلاه ابو حمو الاول الى زواوة ايضا سنة 708 فلحق بالجيش الحفصي. وكان ذا مكانة في الدولة لفضل شجاعته وكرم أصله وقتله عبد الرحمن بن خلوف الصنهاجي في ملاحاة بينهما حوالي سنة 711 ولحق ابنه علي بعمته لدى سلاطين مرين. وبعد واقعة القيروان على ابي الحسن سنة 749 تحالفت مغراوة

وعبد الواد بظاهر تونس على التناصر واحترام الحدود الوطنية، وبايعت مغراوة علي بن راشد فدخل وطنه واخرج عمال مرين من مدنه، ثم خرج ابو ثابت من تلمسان لحرب الناصر بن ابي الحسن سنة 50 وبقتضى المعاهدة ارسل الى علي بن راشد في اجتماع اليد. فقعد عنه، فلما هزم الناصر نهض الى مغراوة في شوال، وهزمهم بوادي رهيو. وملك مازونة ثم اجتمعوا لحرب ابي الحسن حتى هزموه سنة 51 ثم اجتاز بمغراوة احد بني كمي من عبد الواد، فقتلوه، فاوجدوا السبيل عليهم لابي ثابت. فنهض اليهم فاتح سنة 52 وبقي موافقا لهم حتى ألجأ عليا الى تنس، ودخلها عليه منتصف شعبان، فانتحر، وانتهت به امارة مغراوة ثانيا. وكان علي قد استشفع بابي عنان، فرد ابو ثابت شفاعته، وكان ذلك مما دعاه الى فتح تلمسان، فكان عود دولتي مغراوة وعبد الواد وسقوطهما معا. وكان لعلي ابن اسمه حمزة نشأ بين ابناء سلاطين مرين، وفي نفسه تشوف لاسترجاع ملك سلفه فلما دخلت مرين تلمسان سنة 72 لحق بقومه، وجدت مرين في حربه حتى قتلته، ثم ولت على مغراوة سنة 74 علي بن هرون بن ثابت بن منديل، وكان وليا لها عدوا لعبد الواد، فبادر ابو حمو الثاني بحربه حتى أجلاه الى جبال صنهاجة، وعاد سنة 75 فحصره ابو تاشفين بن ابي حمو بجبل زاتيمة، واخرجه من ارض مغراوة في ربيع الاول سنة 76 فلحق ببجاية. وركب منها الى فاس. ونامت بعده امارة مغراوة نومها الاخير. أمراء مغراوة الامير … ولاية … نهاية هـ … م … هـ العباس بن منديل … 640 … 1242 … 647 اخوه محمد … 647 … 1249 … 662 اخوهما عابد … 662 … 1264 … 672 اخوهم عمر … 668 … 1269 … 676 اخوهم ثابت … 676 … 1277 … 694 ابنه محمد … 694 … 1294 … 694 اخوه علي … 694 … 1295 …؟ عمر بن ويعزن … 699 … 1299 … 700 ابنه محمد … 700 … 1300 … 707 راشد بن محمد بن ثابت … 700 … 1300 … 708 ابنه علي … 749 … 1348 … 752 ابنه حمزة … 772 … 1370 … 772 علي بن هرون … 774 … 1372 … 776

7 - توجين وبنو زيان

7 - توجين وبنو زيان موطن توجين شرقي عبد الواد وجنوب مغراوة فيما بين سعيدة ولمدية، وحياتهم بدوية كمغراوة يبلغون في رحلة الشتاء مزاب والزاب الغربي، وبموطنهم جبل وانشريس وسهل منداس ووزينة والسرسو، وبه من القلاع الحصينة تاوغزت وتاقدمت وتافرقينت ولمدية، وغلبهم بطون من زغبة على السهول فانقبضوا أخيرا الى وانشريس. وجبل وانشريس جبل عظيم شماله نهر شلف وغربه سهل منداس وجنوبه سهل وزينة غربا وسهل السرسو شرقا، قال الادريسي: " يسكنه قبائل بربرية منها مكناسة وحرسون وواربة وبنو ابي خليل وكتامة ومطماطة وبنو مليلة وبنو وانجان وبنو ابي خليفة ويصلان ورولات وبنو تمسوس وزوارة ونزارة ومطغورة ووارترين وبنو ابي هلال وايزكرو وبنو ابي حكيم وهوارة، وطوله اربعة ايام ينتهي طرفه الى قرب تاهرت " اهـ. وينسب اليه علماء كثيرون، منهم أبو علي عمر بن عثمان ويونس ابن عطية والحسن بن عثمان بن عطية، لقيهم لسان الدين بن الخطيب بالمغرب، وعدهم من شيوخه، ومنهم محمد بن ابي بكر خطيب جامع الزيتونة المتوفي سنة 853، ومنهم احمد بن يحي صاحب المعيار المتوفي سنة 914 وابنه عبد الواحد القتيل بفاس سنة 955. وتاوغزوت قلعة منيعة قرب فرندة، حصنها سلامة بن علي بن نصر شيخ بني يدللنن على عهد عبد القوي بن العباس، وتداول رئاستها بنوه من بعده، فدعيت قلعة ابن سلامة، وخربها أبو حمو الثاني سنة 770. وتاقدمت قرب تاهرت، خربت بتوالي الفتن، وعمرها الامير عبد القادر عمارة بسيطة، ذهته بعده. وتافرقينت ذكرها ابنا خلدون عاصمة لمحمد بن عبد القوي وسمى غيرهما عاصمته تاقدمت.

وقد كانت توجين مشاقة لبني عبد الواد. فاخذت بالدعوة الحفصية، وعقد ابو زكرياء الاول عليها سنة 640 لعظيمها عبد القوي ابن العباس من بني منكوش وربما نسب في آل البيت، وسلك بها سبيل العباس بن منديل. وامتنعت توجين على آل زيان مدة عبد القوي وابنه ابي زيان محمد. فنازلوها مرارا من غير طائل، ووالى عبد القوي يغمراسن آخر حياته، ومات سنة 647 فخلفه ابنه محمد، وعظم سلطانه، وولى بلمدية حسن بن يعقوب بن عزيز من توجين وبوانشريس أخاه شريطا وبرهيو علي بن عشيرة، وبتاوغزوت سلامة بن علي شيخ بني يدللتن، وقدم على بني يرناتن شيخهم ابن اخته نصر بن مهيب بن نصر بن علي، ووفد على المستنصر الحفصي بالمسيلة سنة 666 ثم ذهب لاعانته على دفاع لويس التاسع، وأعان يعقوب بن عبد الحق على حصار تلمسان والعيث في ساحتها سنتي 70 - 80 واستفاد من هذين السلطانين أموالا جمة، وسعدت به توجين حتى مات سنة 684. وخلفه ابنه سيد الناس. وكان دونه قيمة، فاختلفت عليه توجين، وضرب عثمان الاول من آل زيان بين رؤسائها، فقتل بنو عبد القوي بعضهم بعضا. واستبد بنو نصر بن مهيب برئاسة قومهم يرناتن وأولاد عزيز بلمدية واولاد سلامة برئاسة قومهم يدللتن. وبهذا الخلاف اوجدوا السبيل عليهم لعثمان الاول فملك وانشريس سنة 87 ولمدية سنة 88 وكرر غاراته على محاولي الثورة منهم. وقتل شيخ يدللتن يغمراسن بن سلامة سنة 98 فبايعه أخوه محمد، وحوصرت تلمسان الحصار الطويل فلم تسع توجين في توحيد كلمتها بل ازدادت تفرقا وأمكن شيخ بني تيغرين يحي بن عطية مرين من وانشريس. فملكته سنة 703 بعد حروب.

ففي سنة 85 قتل موسى بن محمد بن عبد القوي أخاه سيد الناس. وانتصب مكانه، وحارب مشيخة توجين بسيرات، فقاتلوه، وتردى به فرسه، فهلك لنحو عامين من أمارته، وخلفه عمر ابن أخيه اسماعيل، وبعد اربعة ايام اغتاله ابناء عمه زيان بن محمد. وقدموا كبيرهم ابراهيم بن زيان، وكان حسن الولاية عليهم. وكاد يحي عهد جده محمد، فقتل باغراء عثمان الأول سنة 90 وبايع بنو تيغرين ابن عمه موسى بن زرارة بن محمد. فاجلاه عثمان الى نواحي لمدية. وهلك هناك. وحوصر عثمان بعد. فملك وانشريس ابو بكر بن ابراهيم بن محمد بن عبد القوي نحو عامين. وهلك. فبايع بنو تيغرين اخاه عطية الاصم. وخالفهم اولاد عزيز وبقية توجين. فبايعوا ابن عمه يوسف بن زيان بن محمد. وحاصروا بني تيغرين بوانشريس عاما وأزيد. فملك العرب السرسو. ولحق يحي ابن عطية بالسلطان يوسف. فأغراه بوانشريس أنفة من غلبة بني عمه. ولما ملك مرين توجين ولت بوانشريس علي بن الناصر بن عبد القوي وأمره بيد يحي بن عطية شيخ بني تيغرين، بتاوغزوت سعد ابن سلامة، ولحق أخوه محمد بجبل راشد، ثم هلك علي بن الناصر، فخلفه محمد بن عطية الاصم. وانتفض على مرين سنة 706 قبيل مهلك سلطانهم. وعاد الامر لبني زيان. فاخضعوا توجين. وأجلوا آل عبد القوي. فلحقوا بالحفصيين. ففي سنة 710 جاس ابو حمو الاول خلال معاقلهم. ورفع منزلة بني تيغرين وأولاد عزيز. وكانوا خولا لآل عبد القوي يعرفون بالحشم. فعقد على وانشريس ليحي بن عطية بن يوسف بن المنصور. وعلى لمدية ليوسف بن حسن بن يعقوب العزيزي. وابقى سعد بن سلامة على بني يدللتن. وجعل أمر توجين راجعا لعامله يوسف بن

حيون الهواري. وهلك يحي بن عطية. فخلفه أخوه عثمان ثم عمر ابن عثمان. وكانت ثورة محمد بن يوسف من آل زيان. فخبت فيها توجين ووضعت ثم استقام يوسف بن حسن على طاعة ابي حمو سنة 17 ووالى عمر بن عثمان ابا تاشفين الاول. واعانه على قتل محمد بن يوسف سنة 19 فأبقاه على رئاسته. وعزل عن تاوغزوت سعد ابن سلامة باخيه محمد. وانحصرا معه سنة 35 وماتا في بعض ايام الحصار. وملك أبو الحسن المريني توجين سنة 36 فاستعمل على وانشريس نصر بن عمر بن عثمان. واعاد الى تاوغزوت سعد بن سلامة الى ان مات في طريق عوده من الحج. فخلفه ابنه سليمان. وبعد نكبة أبي الحسن على القيروان ظهر بنو محمد بن عبد القوي طامعين في استرجاع امارتهم لكنهم اختلفوا. فبايع أولاد عزيز وبنو يرناتن بنواحي لمدية عدي بن يوسف بن زيان بن محمد. وبايع بنو تيغرين وشيخهم نصر بن عمر مسعود بن ابي زيد بن خالد بن محمد. وكانت وقائع بين الفريقين. ولم يتم أمر عدي فلحق بابي الحسن لما نزل الجزائر. وعادت تلسمان لآل زيان. وملكوا توجين فأبقوا على رؤسائهم. وفي سنة 53 ملكهم ابو عنان. فالحق مسعود بن ابي زيد وسليمان بن سعد بوجوه جنده. وأفرد نصر بن عمر بأمر وانشريس. واقطع تاوغزوت ونزمار بن عريف. ثم ملك ابو حمو الثاني فأعاد سليمان بن سعد الى عمله. وكانت ثورة ابي زيان. فغمست توجين يدها فيها. ومات نصر بن عمر أثناءها. فخلفه اخوه يوسف وقتل ابو حمو سليمان. واقطع تاوغزوت اولاد عريف. وانقرضت الرئاسة من سائر بطون توجين الا بني تيغرين بجبل وانشريس. قال ابن خلدون: " ويوسف بن عمر لهذا العهد وهو سنة 783 صاحب جبل وانشريس. وحاله مع ابي حمو مختلف في الطاعة والخلاف ".

8 - الثوار من بني زيان

8 - الثوار من بني زيان كان ملوك بني زيان أولي حزم وضبط متى رأوا بأحد من اقربائهم مخايل المزاحمة في الدولة أشخصوه الى الاندلس ليشتغل بالجهاد ويستريحوا من فتنته. وفي سنة 714 نزل ابو حمو الاول بوادي تهل موافقا لمغراوة. وترك ابنه ابا تاشفين على تلمسان وسرح للغارة على بلاد الحفصيين محمد بن يوسف بن يغمراسن قائد مليانة في قواد آخرين منهم موسى ابن على الكردي ومسعود بن ابراهيم بن يغمراسن. فتفرقوا في البلاد. واجتمعوا بظاهر بونة. ثم قفلوا. فتنافسوا، وتنازعوا. وسبق الكردي الى ابي حمو. فاغراه بابن عمه محمد بن يوسف وبقي مسعود بن ابراهيم محاصرا لبجاية. ولما بلغ محمد بن يوسف وادي تهل عزله السلطان، فسأله زيارة ابن أخته ابي تاشفين، فأذن له، وكتب الى ابنه بالقبض عليه، فابى، وعاد محمد بن يوسف الى السلطان، فأهانه، فخشي على نفسه وفر الى لمدية، فاعتقله عاملها يوسف بن حسن التوجيني، ولكن قومه اشربوا في قلوبهم الفتنة، فحملوه على بيعته وخرجوا فيمن انضم اليهم من العرب، فهزموا ابا حمو الى تلمسان. ونزل محمد بن يوسف مليانة. واجتمعت اليه توجين ومغراوة، وعاد اليه ابو حمو واستقدم مسعود ابن عمه ابراهيم من حصار بجاية، فترك محمد بن يوسف بمليانة يوسف بن حسن، ولقي مسعودا بمتيجة. فانهزم الى جبل موصاية وحاصره مسعود به أياما. ثم لحق بابي حمو وهو محاصر مليانة. فدخلها عنوة ثم فتح لمدية. وقفل الى تلمسان. وعاد سنة 17 لتمهيد مغراوة وتوجين، وترك بلمدية

يوسف بن حسن - وقد استقاء على طاعته- مواقفا لمحمد بن يوسف. وبايع محمد بن يوسف ابا يحي الحفصي. فوعده المظاهرة. وبايعه بنو تيغرين. فانتقل الى وانشريس. ولحق به سماسرة الفتن من مغراوة وغيرهم. حتى قتل أبو تاشفين اباه. ونهض اليه سنة 719 فمال إليه عمر بن عثمان صاحب وانشريس وانحصر محمد بن يوسف فيمن معه بربوة توكال منه حتى اقتحمها عليه ابو تاشفين وقتله، ولو امتثل أمر ابيه اولا بالقبض عليه ما كانت هذه الثورة. وفي سنة 761 تكدر جو السياسة بين ابي حمو الثاني وابي سالم المريني وكان بنو عبد الحق قد كفلوا أبا زيان محمد بن عثمان بن ابي تاشفين الاول بعد قتلهم جده واباه، فسرحه أبو سالم لطلب ملكه، فنزل فيمن معه من المعقل وغيرهم على جبل بني يزناسن، وبايعه بنو راشد شرقا. فنهض ابو تاشفين الى بني راشد غرة ربيع الاول، وحصرهم بجبل أوشيلاس من غربس. وخرج اثره الوزير عبد الله ابن مسلم الزردالي الى بني يزناسن فأجلى ابا زيان الى المغرب. وفي شعبان دخل ابو سالم تلمسان، وغادرها بعد ايام الى مغربه، وترك بها ابا زياد في جند من مغراوة وتوجين، فأخرجهم منها ابو حمو في رمضان. ولحق ابو زيان باولاد عريف، وثبت على بيعته الهداج وسويد وتوجين وبنو راشد وبعض بني عبد الواد، فانتقل اليهم، ولم يمهلهم ابو حمو، فخرج في رمضان الى تسالة ثم منداس ثم السرسو، فاصحر ابو زيان وشيعته في ذي القعدة، ثم عاد الى ارض حصين في ذي الحجة، وابو حمو بشلف، فاجلاه عنها، وعاد الى حضرته فاتح سنة 62 وغرب ابو زيان الى ذوي عبيد الله بانقاد، فطرده الوزير الزردالي الى تاوريرت، وانعقد الصلح بين ابي سالم وابي حمو، فانتهت الفتنة.

وفي سنة 65 اعادت مرين ابا زيان لطلب مكله، فاضرم الممالك الشرقية والغربية فتنة، وكاد يفتح تلمسان وهزم ابا حمو بوادي مينة. فاعتمد التضريب بين جموعه حتى اختلفت كلمتهم، وراجع طاعته اركان الفتنة عمر بن محمد بن مقن وسعيد بن موسى بن علي الكردي وغيرهما، فنزل ابو زيان بقصر مرادة على ونزمار بن عريف مذكي هذه النيران. وفي سنة 763 ثار أيضا ابو زيان محمد بن السلطان عثمان الثاني وكان ابو عنان قد استحياه بعد قتل ابيه وعمه الزعيم، وبقي تحت أيدي بني عبد الحق، حتى انفلت منهم. ونزل على خالد بن عامر من شوخ بني عامر، فبايعه. وزحف ابو زيان الى تلمسان، ونزل جبل بني ورنيد، فاجلي في شوال الى رياح، ووفد به يعقوب بن علي على ابرهيم الثاني الحفصي ببجاية، ففر سنة 64 الى ابي الليل شيخ بني يزيد فبايعه. وخرج اليه الوزير الزردالي فاخضعه، ولحق ابو زيان بتونس. ثم استقدمه سعاة الفتنة من تونس، فأسره أمير قسنطينة أحمد، وملك هذا الامير بجاية سنة 67 فخرج ابو حمو لحربه، فارسل عليه ابا زيان، ومال اليه أكثر جيش ابي حمو، فكانت عليه أشنع هزيمة، وعظمت فتنة ابي زيان بمبايعة أكثر بطون زغبة، وملك الجزائر ولمدية ومليانة. وشغل به ابو حمو اربع سنين كانت أشد عليه من سني يوسف واوقع به ابو زيان على تيطري في شعبان سنة 69 وقيعة استأصلت قوته وكاد هو نفسه يؤسر، وشهد هذه المعركة يحي بن خلدون ووصف انكسارهم وما لقوا في قفولهم من شدائد تفيض لسماعها نفس الجبان واقترب ابو زيان من تلمسان سنتي 68 - 69 ثم ملكها عبد العزيز سنة 72 فاصحر ابو زيان وابو حمو كلاهما. وعاد ابو حمو الى تلمسان بعد موت عبد العزيز فعاد ابو زيان

الى تيطري فى صفر سنة 75 عادت الحرب جذعة. وكاد اولاد عريف من سويد ذوي نفوذ في العرب والبربر. وبهم تقوى ابو زيان. وبهم فتح عبد العزيز تلمسان ففي سنة 76 استقاموا لأبي حمو وتعهد لهم بمنح ابن عمه جراية سنوية. فانتهت الفتنة ثم ان ابا حمو أراد الانتقام من اركان هذه الثورة، فعزم على عزل يوسف بن عمر صاحب وانشريس. وكان أبو بكر بن عريف خليلا له، فنبذ طاعة أبي حمو. واستقدم ابا زيان سنة 777 فاسترضى ابو حمو ابا بكر. وانقبض ابو زيان الى سهل حمزة نازلا على أبي الليل اليزيدي، ثم استقدمته الثعالبة سنة 78 فأجلاه أبو حمو، ولحق بوادي ريغ فنقطة فتوزر فتونس. وفي سنة 838 ثار على احمد العاقل اخوه ابو يحي، وعجز عن فتح تلمسان ولكنه ملك وهران، فكانت بينه وبين أخيه حروب الى أن غلب على وهران في شعبان سنة 52 فركب البحر الى بجاية فتونس، وبها مات سنة 55. وفي سنة 838 ثار على أحمد العاقل اخوه ابو يحي، وعجز عن تاشفين الثاني فبايعه أولاد ابي اليل أهل حمزة ثم أهل متيحة ونواحي لمدية، وحاصر الجزائر مدة طويلة حتى فتحها في رجب سنة 42 ثم ملك لمدية ومليانة وتنس، واستقل بهذه الناحية الشرقية، وتلقب المستعين وعظم امره على عم أبيه احمد العاقل، وثقلت وطأته على أهل الجزائر ونواحيها، فقتلوه في جملة من أصحابه ثاني شوال سنة 43 وكان ابنه المتوكل عاملا بتنس، فضبط وطن مغراوة حتى ملك تلمسان سنة 866. وقد أضربنا عن ذكر ثورات ضعيفة، وقدمنا الثوار الناجحين في فصل الملوك.

(ش 44) جامع الصيد (الجامع الجديد) الجزائر

(ش 45)

(ش 46) منبر الجامع الكبير في الجزائر

(ش 47)

9 - الاقتصاد والعمران والحضارة

9 - الاقتصاد والعمران والحضارة المملكة الزيانية فلاحية بطبيعة ارضها تجارية بطبيعة موقعها صناعية بطبيعة سكانها والقاح الجاليات الاندلسية والاسرى الاروبيين. وقد هضمت حضارات الدول الجزائرية الاولى. واخرجت بعناية ملوكها ونشاطهم حضارة زيانية ذات صبغة ممتازة. وبها ختمت الحضارات الجزائرية المحلية. ولقد كان حبل الامن بالبوادي مضطربا لا يستقر غالبا على حال من الفتن غير أن المدن سائرة قي سلم رقيها تغتذي بفترات السلم القصيرة. وقد شكا العبدري سنة 689 فقد الامن من فاس الى الاسكندرية. واعتبر ابن قنفذ نجاته من تلمسان إلى قسنطينة سنة 776 من خوارق العادات. ولكن يحب ان نقصر حكمها على ما ماثل سنتيهما في الجوائح السياسية والحربية. وكانت الفلاحة بهذه المملكة أهم منابع الثروة. وفلاحة القمح في الدرجة الاولى ويليها غراسة الزيتون. قال يحي ابن خلدون: " ربما بلغت اصابة الزوج الواحدة كما في سنة 758 اربعمائة مد كبير من القمح سوى الشعير والباقلاء. والمد ستون برشالة زنة البرشالة ثلاثة عشر رطلا" اهـ. وكان من أنواع الفلاحة القطن والكتان وقصب السكر وسائر الحبوب والثمار والفواكه والبقول والرياحين، مع عناية بترقية اساليب الفلاحة واستخراج المياه واستجلابها. ولهذه المملكة مواصلات تجارية أهمها أروبا والسودان. فقد كانت لها مراس كثيرة عني البكري بتعدادها ووصفها وذكر ما يقابلها من مراسي الاندلس. وكانت مدينة تيزيل جنوب تلمسان أول الصحراء ومنها تخرج القوافل الى سجلماسة وورقلة، وهما بابا السودان.

وأول شركة صحراوية عرفناها هي شركة المقريين الذين استوطن تلمسان جدهم عبد الرحمن بن ابي بكر صاحب ابي مدين، نقل لسان الدين في الاحاطة عن شيخه ابي عبد الله المقري انه كان لجده ابي بكر بن يحي بن عبد الرحمن اربعة اخوة اشتركوا في التجارة. ومهدوا طريق الصحراء بحفر الآبار وتأمين التجار، واتخذوا طبلا للرحيل وراية تقدم عند المسير، وكان ابو بكر ومحمد بتلمسان وعبد الرحمن بسجلماسة وعبد الواحد وعلي بايوا لاتن الواقعة في الشمال الغربي لتنبكتو على بعد اربعمائة ميل، فكان التلمساني يبعث الى الصحراوي بما يرسم له من السلع، وذاك يرسل له بالجلد والعاج والجوز والتبر، والسجلماسي بينهما كلسان الميزان يعرفهما بقدر الرجحان والخسران ويكاتبهما باحوال التجار والبلدان فاتسعت أموالهم وعظم شأنهم اهـ. وقد دخل ليون الافريقي تلمسان اواخر القرن التاسع، فوصف تجارها وارباب الحرف بالنشاط والعفة ورغد العيش. وفضل لباسهم على لباس الفاسيين ولباعة الاقمشة ذراع سلطاني يوجد اليوم بدار الآثار منقوشا على رخامة. ورقي الفلاحة والتجارة يستدعي رقي الحرف والصناعات وتعدد أنواعها فاختصت كل حرفة بسوقها، واشتهرت تلمسان بالمنسوجات. فعرف قماش بالتلمساني وهو صوف خالص او حرير خالص مختم وغير مختم. وكان كساء الصوف او البرنوس من ثماني أواق لرقته. وذكر يحي بن خلدون من انواع الملبوسات الثوب المرعز والقهزي والحرير والملف والذرايع والعمائم والاحاريم. اهـ. ولسعة الثروة اتسع نطاق المدن. واتخذ الناس حولها القصور تحفها الحدائق تجري من تحتها الجداول. ذكر ليون الافريقي ان

تلمسان بلغت على عهد ابي تاشفين ستة عشر الف منزل. وذكر غيره ان وهران كان بها اوائل القرن العاشر خمسمائة والف حانوت وعشرة آلاف دار. واتساع ثروة الامة يفيد الحكومة. فقد كان آل زيان على ما منوا به من الحروب جادين في انشاء القصور الضخمة والمدارس الفخمة واقامة المصانع والمنتزهات وادرار الرزق على رجال السيف والقلم. وقد عرف ليون الافريقي الحكومة ايام ضعفها. فذكر ان عطاء ادنى جندي ثلاثمائة دينار شهريا. وحكي أن أحد متاخري بني زيان أهدى لملك اسبانيا فرديناند دجاجة وستة وثلاثين نقفا كلها من الابريز الخالص. قال عبد الرحمن بن خلدون: " وكانت قصور الملك بتلمسان لا يعبر عن حسنها. اختطها ابو حمو الاول وابنه ابو تاشفين. واستدعيا الصناع والفعلة من الاندلس. فبعث اليهما ابو الوليد بن الاحمر بمهرة البنائين استجادوا لهم القصور والمنازل والبساتين بما أعيا عن الناس بعدهم أن يأتوا بمثله ". " وكان أبو حمو الثاني قد خرب قصر ملك مرين بتازا وقصر مرادة لونزهار بن عريف. فلما دخل احمد المريني تلمسان سنة 786 أغراه ونزمار بتخريب قصور الملك" اهـ. وكان مقر الحكومة يدعى المشوار. وجددت قصوره من بعد. وادار عليه أحمد العاقل سورا سنة 850 وهي اليوم مقر السلطة العسكرية الفرنسية. وكان ابو تاشفين الاول بصيرا بالتشكيل والاختراع. وله آلاف من أسرى الاروبيين. فيهم النجارون والزلاجون والزواقون وغيرهم. فاستظهر بهم على تحضير الدولة. وابتنى قصورا منهما

دار الملك ودار السرور وابو فهر. ولعله ضاهى بابي فهره ابا فهر المستنصر الحفصي بتونس. ومن آثاره الصهريج الاعظم لم يزل الى اليوم قائما. ومنها بناء مدرسة جليلة عديمة النظير ازاء الجامع الاعظم. ولم يترك شيئا مما اختص به قصره الا وضع مثله بها. قال احمد المقري في نفح الطيب: " رأيت مكتوبا على دائرة مجرى الماء بمدرسة تلمسان التي بناها أمير المسلمين ابن تاشفين الزياني (صوابه ابو تاشفين) وهي من بدائعه الدنيا- هذه الابيات: انظر بعينك بهجتي وسناءي … وبديع اتقاني وحسن بناءي وبديع شكلي واعتبر فيما ترى … من نشاتي بل من تدفق ماءي جسم لطيف ذائب سيلانه … صاف كذوب الفضة البيضاء قد حف بي أزهار وشي نمقت … فغدت كمثل الروض غب سماء ومن آثاره احاطة الجزائر بسور عظيم وانشاء قصبة سيدي رمضان جوار الجامع المعروف اليوم بجامع سيدي رمضان وتوسيع الجامع الاعظم وبناء منارته، وبالجامع اليوم رخامة فيها ان بناء المنارة شرع فيه يوم الاحد 17 ذي القعدة سنة 722 وتم غرة رجب سنة 723 اما الجامع الاعمظ فأسس ايام الحماديين، ومن الغلط ما يشاع من ان مؤسسه يوسف بن تاشفين او ابنه علي، فان المرابطين لم يملكوا مدينة الجزائر، قال التنسي: " وكانت له شجرة من فضة على أغصانها اصناف الطيور واعلاها صقر. ينفخ في أصلها. فتصوت الطيور بصوت اشباهها. ثم يبلغ الريح الصقر. فيصوت. فتنقطع أصوات الطيور كلها " اهـ. وابتنى ابو حمو الثاني بناءات جميلة غير ان ايامه كانت حربية أكثر منها سلمية. قال يحي بن خلدون: " فكانت دار الصنعة السعيدة

تموج بالفعلة على اختلاف أصنافهم وتباين لغاتهم واديانهم فمن دراق ورماح ودراع ولجام ووشاء وسراج وخباء ونجار وحداد وصائغ ودباج وغير ذلك " اهـ. ومن دلائل رقي الصناعة أيامه الساعة المشهورة بالمنقانة. وهي خزانة ذات تماثيل من اللجين بأعلاها ايكة تحمل طائرا فرخاه تحت جناحيه. يخاتله فيهما أرقم خارج من كوة باكصل الايكة. وبصدرها ابواب مرتجة ازاء كل باب ساعة من ساعات الليل. وبصاقب طرفيها بابان أطول من الاولى واعرض. ودوين رأس الخزانة قمر أكمل يسير على خط استواء سير نظيره في الفلك. وينقض من البابين الكبيرين عقابان بفي كل منهما صنجة صفر يلقيها الى طست من الصفر مجوف بوسطه ثقب يفضي بها الى داخل الخزانة فيرن. وينهش الارقم احد الفرخين. فيصفر له ابوه. ويفتح باب الساعة الراهنة فتبرز جارية محتزمة كاظرف ما انت راء. بيمناها رقعة. فيها اسم ساعتها منظوما. ويسراها على فيها كالمبايعة. وكان يقيم بمشوره ليلة المولد النبوي احتفالا شيقا تحضره الخاصة والعامة، فما شئت من زرابي مبثوثة وبسط موشاة ونمارق بالذهب مغشاة، وشموع كالاسطوانات قائمة على مراكز الصفر المموهة ومباخر كالقباب كانها تبر مذاب. يجلس الخليفة صدر المجلس. وامامه خزانة المنقانة وحفا فيه الملأ من قومه ووجوه دولته مرتبين على مراتبهم. وترى ولدانا باقبية الخز الملون يطوفون بمباخر العنبر ومرشات الورد. والمسمع على بعد مقدر من الخليفة يردد نغمات الالحان منتقلا من فن الى فن منشدا مدائح في النبي الكريم مفتتحا بقصيدة من انشاء الخليفة ثم قصائد شعرائه.

10 - سقوط الدولة الزيانية

وآخر الليلة يؤتى بموائد كالهالات من خرس شهي وانواع من المطاعم تعقبها الفواكه والحلواء. فيطعم الناس بين يدي الخليفة، ويصلي معهم الصبح، وهكذا كانت تمر المواليد مدته، واقتفى أثره خلفه، وزاد ابنه ابو تاشفين احياء ليلة السابع على هذا الوصف. واول ما حدث الاحتفال بالمولد اواخر القرن السادس او اوائل السابع احدثه بالمشرق مظفر الدين ابو سعيد كوكبوربي التركماني الذي كان واليا باربل بين سنتي 586 - 630 واحدثه بالمغرب، أبو العباس احمد العزفي من بيت علم ورئاسة بسبتة، ولد سنة 557 وتوفي سنة 633، وأمر السلطان يوسف المريني باقامة هذا الموسم في جميع ممالكه سنة 671. 10 - سقوط الدولة الزيانية في أواخر القرن التاسع اشتد الضعف بالحكومات الزيانية والمرينية والحفصية وعظم النزاع بين ملوك غرناطة، فاعان الاسبان محمد بن ابي الحسن بن سعد على خلع عمه محمد بن سعد، فارتحل هذا المخلوع سنة 895 الى وهران. واستقر بتلمسان. قال في نفح الطيب: " ونسله بها الى الآن يعرفون ببني سلطان الاندلس " اهـ، ثم ملك الاسبان غرناطة في ربيع الاول سنة 897 فاصبحت منهم العدوة الافريقية على طرف الثمام. وفي سنة 911 ملك الاسبان المرسى الكبير بعد حصار خمسين يوما، وعاثوا فيما حولهم سلبا ونهبا، وتكررت المعارك بينهم وبين المسلمين حتى انحصروا داخل أسوار المرسى سنة 913 وحاولوا فتح وهران، فامتنعت عليهم لحصانتها حتى داخلوا ستورا اليهودي ورجلين من المسلمين، فادخلوا بعض الاسبان المدينة. وفتحوها لاخوانهم،

فذبحوا اربعة آلاف مسلم، وأسروا ثمانية آلاف، وانقذوا ثلاثمائة أسير مسيحي، وغدا جاءت الجموع الاسلامية لاغاثة المدينة، فوجدوا يد الخيانة قد فنحتها!. وأخذت اسبانيا المتسلحة بالنفاقين المسيحي والسياسي تستولي على السواحل لضعف الحكومات عن حمايتها، واضطر ابو حمو الثالث سنة 918 الى الاحتماء بها فأبت الامة هذه الاهانة، وكان بربروس قد ملك الجزائر، فاستنجدته، وأصبح آل زيان بين الاتراك والاسبان. ونفر التلمسانيون من فساوة الاتراك، فاداروا وجوههم شطر فاس. واستنجدوا محمد الشيخ السعدي، فاحتل تلمسان، واخرج ابا زيان احمد، وكانت اضطرابات حاول أثناءها أخوه مولاي الحسن استرجاع ملك سلفه، فلم يحسن السيرة، وخلعه العلماء، فلحق بوهران حوالي سنة 961 ثم مات بالطاعون سنة 964 وثبتت قدم الاتراك بتلمسان بعدما احتلوها سنة 957 وقال ابو راس: سنة 956 وهكذا انتهت دولة آل زيان بعدما عاشت ما بين سنتي 633 - 957 اربعا وعشرين وثلاثمائة سنة، ويقول ابو راس: أن أمدها: 291 وقيل 295 وليس بشيء. وقد افترق بنو عبد الواد بعد ذهاب ملكهم في الاوطان، قال أبو راس: " ويقال ان منهم بني شعيب وشوشاوة واولاد موسى في العطاف وفرقة بجبل اوراس" اهـ. والمطلع على فصول هذا الباب وما قبله لا يحوجنا الى بسط اسباب سقوط هذه الدولة العامة وعللها الخاصة، فانها لم تزل منذ نشأتها تصطلي بنار الحروب الداخلية والخارجية، فمن غارة مرينية الى حرب حفصية ومن مناهضة مغراوية أو توجينية الى منافسة زيانية ومن

11 - الحركة العلمية والادبية بالجزائر البربرية

دسيسة سويدية الى مشاقة عامرية ومن نفاق اسباني الى غلظة تركية، ولا ظل في التاريخ العام لدولة صغيرة كهذه منيت بمثل ما منيت به وامتدت حياتها مثلها؟ وآخر هذه الدولة جدير بقول محمد الفازازي يصف حياة الاندلس في القرن السابع: الروم تضرب في البلاد وتغنم … والجور يأخذ ما بقي والمغرم والمال يورد كله قشتالة … والجند يسقط والرعية تسلم وذو والتعين ليس فيهم مسلم … الا معين في الفساد مسلم أسفي على تلك البلاد وأهلها … الله يلطف بالجميع ويرحم! 11 - الحركة العلمية والادبية بالجزائر البربرية نهضت الدول البربرية بالعلوم والآداب نهوضا رغب المفكرين في الرحلة الى ملوكها، وكانت الدول الاوربية قد ملكت على المسلمين صقلية واغلب الاندلس، فارتحل رجالها الى تونس وبجاية وتلمسان وفاس، وبعد بني عبد المؤمن ظهر الحفصيون والزيانيون والمرينيون، فكانت منافستهم في تقريب العلماء من مجالسهم تساوي منافستهم في ضخامة السلطان وامتلاك الاوطان فعمت المعارف المدن والقرى وكرع من مناهلها العربي والبربري، ومن تصفح كتب التراجم ورأى كثرة المنسوبين الى القرى الصغيرة والقبائل البدوية حكم بعموم هذه النهضة واتنظام سيرها في طريق الرقي غير متأثرة بالانقلابات السياسية والنتائج الحربية، فما استجدت دولة الا واستجدت قوى هذه النهضة، وقد بلغت غايتها في القرن الثامن، واخذت تتقهقر منذ القرن التاسع. ذكر ابن قنفذ في الفارسية ان ابا زكريا الاول ترك من الكتب

ستة وثلاثين ألف سفر، هذه عناية مؤسس الدولة فما بالك بمن بعده؟ وذكر ابن ابي زرع ان سانجة ملك الاسبان وفد سنة 684 على يعقوب ابن عبد الحق يخطب سلمه فصالحه على ان يبعث له بما في بلاده من كتب المسلمين، فبعث اليه بثلاثة عشر حملا. وقد ابتنى سلاطين هذه الدول المدارس ووقفوا عليها الاوقاف. وجعلوا من مجالسهم حظا لمناظرة العلماء بين أيديهم، واتخذوا الاطباء والمفاتي والشعراء فنهضوا بجميع فنون العلم وظهرت المؤلفات في مختلف المواضيع، وقلد المغاربة الاندلسيين في موسيقاهم وموشحاتهم وأزجالهم، فاحسنوا التلقيد. وانشأ بتلمسان مدارس ابو حمو الاول وابنه ابو تاشفين وابو حمو الثاني وابنه احمد العاقل، وانشأ خامسة بالعباد ابو الحسن المريني، واول مدرسة أسست في الاسلام كانت بنيسبور اواخر القرن الرابع، واول من عمم بناء المدارس في المدن الوزير نظام الملك المتوفي سنة 485. وذكر ابن خلدون في المقدمة صناعة التعليم، فاستحسن تعليم تونس وبجاية وتلمسان، وانتقد تعليم فاس بأنه لا يكسب ملكة ولا يفتق لسانا ولا يقرب مطلوبا. قال الغبريني في ترجمة ابي بكر بن سيد الناس الاشبيلي نزيل بجاية المتوفي بتونس سنة 659: " كان اذا قرأ الحديث يسنده الى النبي (ص) ثم يأخذ في ذكر رجاله من الصحابي الى شيخه كل واحد باسمه ونسبه وصفته وولادته ووفاته وحاكايته ان عرفت له ثم يشرح الحديث ويتعرض لما فيه من فقه وخلاف عال ودقائق ورقائق، كل ذلك بفصاحة لسان وجودة بيان " اهـ. ووصف اقراء ابي القاسم ابن اندراس المرسي نزيل بجاية المتوفي

بتونس سنة 674 لكتب الطب، فقال: "وكانت الابحاث في كل ذلك جارية على القوانين النظرية والاستدلالات الجلية" اهـ. وانتقد القاضي ابو عبد الله المقري التلمساني المتوفي بفاس سنة 759 تعليم زمانه فنقل عن شيخه الابلي قوله: " انما أفسد العلم كثرة التواليف وانما أذهبه بنيان المدارس". وشرحه بما محصله ان كثرة التآليف تجعلها سهلة التناول، فتضعف الرغبة ويقل التحصيل، وحياة المدارس يأباها كبار العلماء. فيخسرهم الطلبة، ثم قال: "وقد اقتصر أهل هذه المائة على حفظ ما قل لفظه ونزر حظه، وافنوا أعمارهم في فهم رموزه وحل لغوزه. ولم يصلوا الى رد ما فيه الى اصوله بالتصحيح فضلا عن معرفة الضعيف من ذلك والصحيح" اهـ. ومن أراد الوقوف على الكتب المقروءة يومئذ فعليه بمجاميع الاسانيد. وقد ذكر الغبريني طائفة منها آخر عنوان الدراية. ولا نقر الابلي على انكار فضل المدارس. فان التعليم لم يكن قاصرا عليها حتى يخسر الطلبة مواهب من لم يوظف بها. وما دام التعليم الحر في الامة فلن يضيرها التعليم الحكومي. وفحول العلماء ونبغاء الادباء بهذه القرون السابع والثامن والتاسع متفرقة أخبارهبم في الرحلات وكتب التراجم والسير. والاسفار عن مبلغ المعارف في هذه الاعصار يحتاج الى أسفار. ناهيك بوسط يخرج أمثال لسان الدين بن الخطيب وعبد الرحمن بن خلدون وابي جبان النحوي وابن عصفور واكثر ايمة العلوم انما هم من أهل هذه القرون. انجبت تنس مثل ابراهيم بن يخلف الذي استقدمه يغمراسن مرارا الى تلمسان وبلغه وفادته عليها ذات يوم فركب اليه بنفسه ورغبه في المقام لديه. واقطعه اقطاعات. قال العبدري: "وكان شيخنا

زين الدين ابو الحسن بن المنير. يثني عليه كثيرا. وسألني عن الغرب فذكرت له قلة رغبة أهله في العلم. فقال لي اما بلاد يكون فيها مثل ابراهيم التنسي فما خلت من العلم" اهـ. وانتهت رئاسة الحديث وسائر الفنون في القرن التاسع الى محمد ابن عبد الله بن عبد الجليل الحافظ التنسي المتوفي سنة 899 نقل عن احمد بن داود الاندلسي انه سئل عن علماء تلمسان. فاجاب: " العلم مع التنسي والصلاح مع السنوسي والرئاسة مع ابن زكري" اهـ. والف للمتوكل "نظم الدر والعقيان في ذكر شرف بني زيان" وهو في جزءين كبيرين. من تامله علم مكانة الرجل في العلم والكياسة ونصح سلطانه وتنبيهه الى ما فيه صلاح الدولة باسلوب لا يشعر معه السلطان بتداخل في شؤنه أو انتقاد لحكومته. واسم الكتاب قاصر جدا عن مغزاه. ولعل قصوره مما اقتضته كياسة المؤلف. وانجبت برشك ابا زيد عد الرحمن واخاه ابا موسى عيسى ابني محمد بن عبد الله بن الامام. ارتحلا الى المشرق. وتركا به صيتا. واستقرا بتلمسان. فبنى لهما ابو حمو الاول المدرسة المعروفة بهما داخل باب كشوط. وعنهما اخذت صناعة التدريس بتلمسان. وكان ببقية المدن اسر تتوارث العلم كالمقريين والمرزوقيين والعقبانيين بتلمسان وكالبادسيين والقنفذيين بقسنطينة. ذكر العبدري في رحلته حسن بن بلقاسم بن باديس واثنى عليه، وولي القضاء هو وحسن بن خلف الله بن باديس واشتهر من بني قنفذ ابو العباس احمد بن حسين بن علي الخطيب المتوفي سنة تسع او عشر وثمانمائة، كان قاضيا خطيبا كثير التآليف في مختلف الفنون، منها الوفيات والفارسية، وقد أخذ الزركشي في كتابه تاريخ الدولتين كتاب الفارسية بنصها لم يحذف منها الا قليلا، ولم يصرح بالعزو اليها الا

12 - الحياة الدينية بالجزائر البريرية

نادرا، ومع ذلك لما ذكر وفاته عرفه بقوله: "شارح رسالة الشيخ ابن ابي زيد وشارح جمل الخونجي وغيرهما " اهـ. هكذا اغفل ذكر الفارسية وهي بين يديه! وكان حظ زواوة من هذه الحركة وافرا جدا، فكان من مليكش كاتب الحكومة الحفصية محمد بن عمر بن علي بن ابراهيم المتوفي بتونس سنة 740 أثنى عليه لسان الدين بن الخطيب في الاكليل. وأثبت له شعرا جيدا، وكان من مشدالة ناصر الدين منصور بن احمد المتوفي سنة 734 له رحلة الى المشرق، وكان يحمل العلوم العقلية والنقلية، وانشد فيه بعض من لقيه متمثلا: ليس على الله بمستنكر … ان يجمع العالم في واحد وذكر ابن خلدون في المقدمة انه مجدد صناعة التدريس ببجاية، وقال فيها أثناء حديثه عن الموشحات والازجال: " واشتهر ابن خلف الجزائري صاحب الموشحة المشهورة: يد الاصباح قدحت زناد الانوار من مجامر الزهر وابن خزر البجائي وله من موشحه: ثغر الزمان موافق … حياك منه بابتسام " اهـ. 12 - الحياة الدينية بالجزائر البريرية نصر عبد المؤمن وبنوه عقيدة الاشعري. فثبت أهل المغرب بعدهم عليها. وحملوا الناس على الكتاب والسنة في أخذ الاحكام والوعظ والتذكير. فعادوا بعدهم الى مذهب مالك (رض) والى طرق الصوفية متناسين النظر في الكتاب والسنة على وجه الاستقلال في الاستدلال والاهتداء بهما في مكارم الاخلاق وفضائل الاعمال.

ولم تزل بقية في القرن السابع لا تهتدي بغير الكتاب والسنة مباشرة. منهم في الفروع ابو زكريا يحي بن علي بن سلطان اليفرني تلميذ ابن عصفور واحد شيوخ ابني الامام. ذكر له المقري في نفح الطيب مسائل خالف في بعضها مالكا وفي بعضها الاجماع. ووفاته بتونس سنة 700 ومنهم في التصوف عبيد الله بن احمد الازدي الرندي نزيل بجاية المتوفي بها سنة 691. قال الغبريني: " وكان عبيد الله متنزها عن مقالة المتلبسين وشعوذة المشعوذين غير مسامح في شيء مما يخالف ظاهر الشريعة ولا عامل على شطحات المتصوفة. ولقد مضى بمسجده ابو الحسن الفقير المعروف بالطيار مع صحب له من الفقراء. ودخلوا عليه في وقت يحيا فيه المسجد. فجلسوا من غير تحية، فأمرهم بالتحية، فقال له الطيار ولذكر الله أكبر، وامتنع من الركوع، ووقع بينه وبينهم في هذا كلام، فأصروا على مقالهم وحالهم، فنفوا الى المغرب، والنفي في أمثال هؤلاء قليل، وانما الواجب أن يعاملوا باسوا التمثيل، وهؤلاء جملة أغبياء لا علم ولا عمل ولا تصوف ولا فهم. وهم مع ذلك يجهلون الناس ويعتقدون ان مبناهم على اساس " اهـ. ونقل صاحب نفح الطيب عن القاضي أبي عبد الله المقري ان العلماء كلما ابتعدوا عن عصر السلف اقتربوا من الامراء حتى صار جمهورهم يتطارحون عليهم. وهم يبتذلونهم في خدمة أغراضهم. ثم قال يصف الحياة الدينية: " وقد قص علينا القرآن والاخبار من أمر اليهود والنصارى ما شاهدنا أكثره أو أكثر منه فينا. سمعت العلامة الابلي يقول لولا انقطاع الوحي لنزل فينا أكثر مما نزل فيهم لانا أتينا أكثر مما أتوا. يشير الى افتراق هذه الامة على أكثر مما افترقت عليه بنو اسرائيل. واشتهار بأسهم بينهم الى يوم القيامة حتى

ضعفوا بذلك عن عدوهم، وتعدد ملوكهم لاتساع اقطارهم واختلاف انسابهم وعوائدهم حتى غلبوا بذلك على الخلافة. فنزعت من أيديهم وساروا في الملك بسير من قبلهم مع غلبة الهوى واندراس معالم التقوى " اهـ. وهذه أخبار ترشد الى أن من العلماء من دينه ارضاء شهوات السلاطين، وان من السلاطين من دينه احترام ما تحترمه العامة من عادة أو قبر أو شيح مشهور بالولاية، وغرضنا التنبيه لا الاستقصاء: كان من مشاهير صلحاء تونس ابو محمد المرجاني المتوفي سنة 699 فكان ابو حفص عمر يخدمه. ورام ان يلي عهده ابنه عبد الله وهو صغير. فنكر عليه الموحدون ذلك. فاستشار المرجاني فاشار عليه بتولية أبي عصيدة محمد بن الواثق. فقبل اشارته وكانت أم أبي عصيدة قد فرت حاملا به يوم مقتل الواثق الى زاوية المرجاني. فولد في بيته. وعق عنه، واطعم عصيدة الحنطة يوم سابعه. ولولا مكانة المرجاني ما نزل ابو حفص على حكم اشارته. ولما نزل يوسف المريني على تلمسان في حصاره الطويل خرج اليه ذات يوم برسالة من صاحبها ابو الحسن علي بن يخلف اخو الامام ابراهيم بن يخلف، فأقام لديه، ومات، فشهد السلطان يوسف جنازته، ونكر وصول الخيل التي خرجت معه الى ضريح ابي مدين، وأمر بوضع خشبة تنتهي اليها الخيل، وهكذا الافراط في احترام الاموات في حين أن التلمسانيين يموتون كل يوم جوعا وقتلا بغير حق. وذكر صحاب الفارسية ان ابا يحي ابا بكر كان في نزهة في رياضه الكبير سنة 747 فادخل عليه رسم رؤية هلال رجب على عادة قضاة الحضرة، فقال لا اله الا الله، دخل رجب، وكرر ذلك، ثم قام وتطهر واخلص التوبة، وهذا من احترام العادة دون الدين، لانها حرمت شرب الخمر في رجب وشعبان ورمضان خاصة.

وقال ابن خلدون: "ان ابا عنان لما احتل تلمسان واسر عثمان الثاني احضر الفقهاء وارباب الفتيا، فافتوا بحرابته وقتله، فامضى حكم الله فيه" اهـ. وهذا حكم الدينار لا حكم الله، ويرحم الله القائل: بنو الدهر جاءتهم احاديث جمة … فما صححوا الا حديث ابن دينار وفي سنة 757 زار ابو عنان أحمد بن عاشر نزيل سلا المتوفي بها سنة 765، فامتنع من رويته، فحزن ابو عنان لحرمانه من الاجتماع بالشيخ، وهو الذي أصر على محاربة ابيه السلطان ابي الحسن، وتغلب على ملكه، وعد عثمان الثاني من أهل الحرابة مع انه بايعه قومه واعترف هو بسلطنته. وفي سنة 767 كانت على ابي حمو الثاني الهزيمة الشنعاء ناحية بجاية، وسبيت حظاياه منهن ابنة يحي الزابي، وكانت أعلقهن بقلبه، قال ابن خلدون: " وخرجت في مغانم الامير ابي زيان، فتحرج من مواقعتها، حتى اوجده أهل الفتيا السبيل الى ذلك لحنث زعموا وقع من ابي حمو في نسائه " اهـ. وكان من صلحاء تلمسان الحسن بن مخلوف المزيلي الراشدي المتوفي سنة 857 قال التنسي: فكان السلطان أحمد العاقل. يكثر من زيارته، ويعتمد عليه في أموره، وحكى ابن مريم في البستان انه كان يكثر الشكاية اليه بعمارة الزردالي الثائر عليه، فقال له ذات يوم اذهب الى موضعك، فقد قضى الله الحاجة فلما عاد السلطان أتي له برأس عمارة. ومن جزئيات الحياة الدينية ما حكاه صاحب نفح الطيب عن القاضي ابي عبد الله المقري. قال: انشدت يوما الابلي قول ابن الرومي:

أفنى وأعمى ذا الطبيب بطبه … وبكحله الاحياء والبصراء فاذا مررت رأيت من عميانه … أمما على أمواته قراء فاستعادني حتى عجبت منه مع ما اعرف من عدم ميله الى الشعر، فقال أظننت اني استحسنت الشعر؟ فقلت مثلك يستحسن مثل هذا، فقال انما تعرفت منه قدم قراءة العميان على المقابر، وكنت أراها حديثة العهد" اهـ. وههنا يتذكر المرء قول ابي مدين: " بفساد العامة تظهر ولاة الجور وبفساد الخاصة تظر دجاجلة الدين الفتانون " اهـ ولا يتسع للتدجيل غير ميدان التصوف المبني على الدعاوي والنواميس الظاهرية فكثر المنتمون لطريقتي ابي مدين وابي الحسن الشاذلي. على ان الشاذلية تفرعت عن المدينية. وسند المدينية عندهم هو ابو مدين عن ابي الحسن بن حرزهم عن القاضي ابي بكر بن العريي عن الغزالي عن امام الحرمين عن ابي طالب المكي عن ابي محمد الجريري عن الجنيد عن سري السقطي عن معروف الكرخي عن داود الطائي عن حبيب العجمي عن الحسن البصري عن علي بن ابي طالب (ض) عن النبي (ص) وهذا السند مشتمل بزعمهم على المصافحة ولباس الخرقة، وسواء كان السند صحيحا أم مفترى فان العبرة بالاقتداء لا بالانتماء. وانتشار طرق الصوفية بين العامة في عصر دليل على تقصير علمائه في احياء كتاب الله وعلى ضعف الحكومة عن بسط نفوذها في الامة مباشرة، أو نقول ان سيادة المتصوفة دليل على انحطاط الامة سياسيا وعلميا ودينيا. وفي الصحف السابقة ما يجلي لك هذه الحقيقة. قال ابو بكر الشاشي: لحا الله دهرا سدتمو ميه أهله … وأفضى اليكم فيهم النهي والامر فلم تسعدوا الا وقد أنحس الورى … ولم ترأسوا الا وقد خرق الدهر

13 - سيادة البربر بالبحر الرومي

وفي القرن التاسع انتشرت بالمغرب الطريقة اليوسفية المنسوبة الى الشيخ احمد بن يوسف الهواري وطنا الوابودي نسبا الملياني وفاة. كان في حياته ممن يعتقد فيه الصلاح والخير يلقن الاسماء للعامة والنساء، وكان أشد أصحابه غلوا فيه رجلا يدعى بن عبد الله. ادعى فيه النبوة وتابعه الاجلاف من البوادي وأهل الاهواء من الحواضر. وخشيت الحكومة الزيانية من اتساع نفوذ الشيخ ابن يوسف. فأمر السلطان بقتله أو اشخاصه اليه. وكتب عامل وهران الى قائد هوارة بذلك فأبى القائد حمله الى العامل. وأمره بالخروج. قال ابو راس: " فلما ارتحل الشيخ من وطنه قال شوشوا علينا شوش الله عليهم من البر والبحر. فلم يكن الا قليل حتى أخذ الكفرة وهران والاتراك تلمسان. واعترض الشيخ في طريقه محاربون من سويد. فأخذ ثلاثة أحجار. وحكها بيده فصارت رمادا. وقال لهم ان تعرضتم لنا يسحقكم الله مثل هذه الاحجار. فأتوه تائبين. وكراماته لا تحصى وتوفي سنة 931 وقبره بمليانة من أعظم المزارات " اهـ. واذا كان تغلب الكفرة على المسلمين كرامة فما هي الاهانة؟ نسأل الله فكرة تلزم العقـ … ـل الى حشمة تحوط المروة 13 - سيادة البربر بالبحر الرومي في القرن الخامس أخذت القوة الاسلامية البحرية تتراجع بالمشرق لضعف دولة مصر الفاطمية بخروج المغرب عنها وضعف دولة بغداد باستبداد سلاطينها عليها وتحارب المتجاورين منهم. وكان السلاطين السلجوقيون معنيين بالجهاد فضايقوا ملك القسطنطينية الكسيس كمنانس، فاستنجد أروبا. ولكن أخلاق ملوكها كانت أسوأ من أخلاق

سلاطين المشرق فلم ينجدوه. فاتخذ الدين آلة وأثار الحمية المسيحية على الاسلام. وهنالك قام بابا رومة ورؤساء الكنائس بخطب اجادوا فيها وضع الروايات عن اضطهاد المسلمين للمسيحيين بالمشرق، وحثوا أممهم على امتلاك بيت المقدس. فتجندوا. وشعارهم صليب أحمر في صدورهم وعلى أسلحتهم وأمتعتهم وراياتهم، وتواعدوا في ربيع الاول سنة 489 اللقاء بالقسطنطينية، ومنها ركبوا الى آسيا واشتبكوا مع المسلمين بحروب عرفت بالحروب الصليبية. ثم ظهر التتر، فاتحدوا مع الصليبيين على الاسلام، وانتهت هذه الحروب بخروج الصليبيين من سواحل الشام سنة 690 ملكوا بيت المقدس فيما بين سنتي 492 - 583. واحتفط البربر بسلطانهم على ناحية البحر الغربية حتى تضاءل نفوذهم بالاندلس منتصف القرن الثامن، فأخذت كفة أروبا البحرية في الرجحان، واقتسم الاسبان والبرتغال سواحل المغرب أوائل القرن العاشر، فكان للاسبان سواحل الجزائر وما يليها شرقا، فتغلبوا عليها حتى أخرجهم الاتراك، وسنفرد بابا لسلطة الاسبان بالسواحل الجزائرية في الكتاب الرابع ان شاء الله. قال ابن خلدون آخر حديثه عن الاساطيل في الفصل الثالث من الكتاب الاول: " بطلت وظيفة قيادة الاساطيل من المشرق، وبقيت مختصة بالمغرب. فكان الجانب الغربي من هذا البحر موفور الاساطيل لم يتحيفه عدو، وبلغت الاساطيل ايام لمتونة الى الماية، وقيادتها لبني ميمون، ومنهم أخذها عبد المؤمن بتسليمهم، واقام هذه الخطة على اتم ما عرف واعظم ما عهد، وكانت قيادتها ايام ابنه يوسف لاحمد الصقلي، واصله من سدويكش المستوطنين جربة، فجلى في جهاد

النصارى، وكانت له آثار وأخبار ومقامات مذكورة في دولة الموحدين، وانتهت الاساطيل على عهده في الكثرة والاستجادة الى ما لم تبلغه من قبل ولا بعد فيما عهدناه، ولعدم عناية دول مصر والشام بالاساطيل اوفد صلاح الدين بن ايوب على يعقوب المنصور عبد الكريم ابن منقذ برسالة يستمده الاساطيل لمنع نصارى أروبا عن امداد اخوانهم بثغور الشام، لكن لم يخاطبه بلقب أمير المؤمنين، فخابت الرسالة ". "ولما هلك يعقوب المنصور واعتلت الدولة بعده استولت أمم البحر، وملكوا الجزائر التي بالجانب الغربي من هذا البحر. فكثرت الجلالقة على الاكثر من بلاد الاندلس، والجؤا المسلمين الى سيف فيه أساطيلهم. واشتدت شوكتهم. وتراجعت قوة المسلمين فيه. وتساوت القوتان ايام ابي الحسن المريني. ثم تراجعت عن ذلك قوة المسلمين لضعف الدولة وغلبة البداوة وانقطاع العوائد الاندلسية. فرجع النصارى الى دينهم المعروف من البصر باحوال البحر وغلب الامم فى لجته. وصار المسلمون فيه كالاجانب الا قليلا من أهل البلاد الساحلية لهم المران عليه او وجدوا كثرة من الانصار والاعوان او قوة من الدولة تستجيش لهم أعوانا وتوضح لهم في هذا الغرض مسلكا. وبقيت الرتبة لهذا العهد في الدولة الغربية محفوظة والرسم في معاناة الاساطيل بالانشاء والركوب معهودا لما عساه تدعو اليه الحاجة من الاغراض السلطانية في البلاد البحرية. والمسلمون يستهبون الريح على الكفر وأهله " اهـ بتصرف. وكانت بجاية أهم الثغور البحرية بالجزائر البربرية. قال الغبريني في عنوان الدراية: "كانت بجاية بلدة غزاة. وكان غزاة قطعها يدخلون الى دواخل الجزر الرومانية وغيرها. ويسوقون السبي الكثير منها. وينزل الناس لشرائه بحومة المذبح من جهة ربضها.

وهناك يخمس ويقع الفصل فيه. ولم يزل الحال على ذلك، وبلغ الحال من كثرة سبي الآدميين ان يباع بيضا وان من الروم بسوداء من الوخش " اهـ. وقال ابن خلدون اواخر حديثه عن الدولة الحفصية ما ملخصه: "ملك الافرنج جزائر البحر مثل دانية وسردانية وميورقة وصقلية ثم سواحل الشام وبيت المقدس، وعادت سورة التغلب لهم، وزاحمتهم أساطيل بني مرين اياما. ثم فشل ريح الفرنجة. وافترقوا طوائف في أهل برشونة وجنوة والبنادقة وغيرهم. فتنبهت عزائم كثير من المسلمين بسواحل افريقية لغزو بلادهم. وشرع في ذلك أهل بجاية منذ ثلاثين سنة فيجتمع النفير والطائفة من غزاة البحر، ويصطنعون الاسطول ويتخيرون له الابطال، ثم يركبونه الى سواحل الفرنجة وجزائرهم على حين غفلة، فيخطفون ما قدروا عليه ويصادمون ما يلقون من أساطيل الكفرة، فيظفرون بها غالبا، ويعودون بالغنائم والسبي والاسرى حتى امتلأت سواحل الثغور الغربية من بجاية باسراهم وتضج طرق البلد بصخب السلاسل والاغلال عندما يتنشرون في حاجاتهم، ويغالون في فدائهم بما يتعذر منه او يكاد، فشق ذلك على أمم الفرنجة وملأ قلوبهم ذلا وحسرة، وعجزوا عن الثأر به، وصرخوا على البعد بالشكوى الى السلطان احمد الحفصي، فصم عن سماعها. فتداعوا للأخذ بثأرهم، واجتمعت أساطيل جنوة وبرشلونة ومن وراءهم أو يجاورهم من أمم النصرانية، وأقلعوا من جنوة، فحطوا بمرسى المهدية منتصف سنة 792 وطرقوها على حين غفلة. ونصبوا عليها الحصار. فأمد المدينة السلطان حتى انجلى عنها الحصار " اهـ. وقائد اساطيل بجاية لعهد احمد الاول محمد بن ابي مهدي.

كان زعيم البلد متقدما على أهل الشطارة والرجولية من رجل البلد ورماتهم. واسند اليه السلطان وزارة ابنه محمد لما وليه ببجاية. فاحسن القيام بها حتى مات الامير محمد وخلفه ابنه احمد. فكفله القائد مستبدا عليه. ومات هذا القائد ابن أبي مهدي سنة 805 فخلفه ابن اخته القلسطوني بامر السلطان عزوز. وهذا آخر اخبار كتاب الفارسية. وكان لدولتي الموحدين المؤمنية والحفصية علاقات تجارية مع اروبا الجنوبية. ولما ملك الامير أحمد بجاية سنة 767 هنأه حاكم ولايات ايطاليا المتحدة وطلب منه تجديد المعاهدة التجارية مع دولته. فاسعفه بها. وفي سنة 844 كان لجمهورية البندقية خط مواصلة مع المغرب. صنعت له مراكب خاصة سميت " مراكب بلاد البربر " تخرج منتصف يولية كل سنة. فتقيم ثمانية ايام بطرابلس ومثلها بجربة ونصف شهر بتونس. واربعة ايام ببجاية ومثلها بالجزائر وعشرة ايام بوهران واياما بهنين. وكان التجار الاروبيون علة الاضرار بالسواحل المغريية. ففي سنة 668 نزل لويس التاسع ملك فرنسا على تونس مدعيا ان لتجار مملكته قبل عامل المهدية ثلاثمائة الف دينار من غير مستند شرعي. وفي بعض نسخ ابن خلدون ثلاثمائة دينار وكانت لذلك أهوال مشروحة في غير ما كتاب. وفي سنة 679 ثار بقسطينة عاملها ابن الوزير. وكاتب ملك ارغون يستمده ويعده القيام بدعوته. فانتهز الملك الفرصة. ونزل اسطوله مرسى القل بعد قتل ابن الوزير فارتد على عقبه. وفي سنة 686 غدر النصارى بالقالة. فثلموا اسوارها. ونهبوا أموالها واسروا أهلها. واحرقوا بيوتها. وفي سنة 689 حصروا بونة.

واسروا من ضاحيتها اشخاصا. وفي سنة 801 نزلوا عليها في نحو سبعين قطعة. واقلعوا خائبين. ودخلوا مرسي القل فسلم الله منهم ونهبوا دلس. ومن غدر النصارى ما حكاه الزركشي. قال ما ملخصه: " في سنة 827 بعث ملك النصارى القطلاني يطلب الصلح من السلطان عزوز، فوجد الرسول السلطان بالمغرب. فاخبر ملكه. فبعث اليه بعمارة ملكت قرقنة. وجاء السلطان ففاوضهم في افتدائها. ونزل بعضهم بعد الامان لمفاوضته. فقال المرابط بن ابي صعنونة: ليس لخائن أمان. فابى السلطان نقض عهده. ولم يتفقوا على ثمن الفدية، فأقلع النصارى الى بلادهم بأهل قرقنة مأسورين " اهـ. وحديث غدر النصارى بالسواحل وعبثهم بالمساجد طويل عريض، واذا اكثر الاروبيون من تنقيص المسلمين في غزواتهم البحرية ورموهم باللصوصية فذلك مضرب المثل: "رمتني بدائها وانسلت" واذا جاراها كثير من اغرار شبابنا في هذه السبة فهو كما قيل: الناس اعوان من واتته دولته … وهم عليه اذا خاتنه اعوان ***** تم تحرير الكتاب الثالث والحمد لله في رمضان سنة 1350 هـ. ***** انتهى كتاب تاريخ الجزائر في القديم والحديث.

بعض ما في الفصول من رجال ونساء

_ 441 محكم الهواري 452 البزار، ابو سهيل، ابو عبيدة 453 ابن الصغير، ابن قريش 498 ابن قاضي ميلة 504 السفياني، الحلواني 504 ابو عبد الله الشيعي 517 صاحب الحمار 520 الصوفي القيرواني 527 ابو القاسم بن هاني 536 حكاية السلجلماسي 539 ابراهيم الشيباني محمد بن يوسف 539 ابن عمران ابن سليمان ابن الجزار 540 يحي بن عمر. سعيد بن محمد 540 ابن خيرون. زيد بن سنان 541 متنبي تلمسان 567 الجازية 611 فتاة باغاية 612 ذات الكلب 627 امراة تاشفين 638 ابن النحوي. المخزومي. الر يغي 644 ابو محمد الاشيري 649 فيونتشي الايطالي 653 عبد الله بن يس 658 زينب الهوارية 673 محمد بن تومرت 674 البيذق 683 ابن طاهر البجاءي 694 ابن فرسان 709 الحفيد بن رشد. ابو عبد الله الكومي الندرومي 710 الفقون 711 الاشعري 715 الجنيد ابو القاسم 720 ابو مدين شعيب الاندلسي 721 ابن عربي. الشاذلي. ابن سبعين 735 سعادة 736 ابن الازرق 758 ابن مرزوق المسيلي 802 ابن هيدور 825 هلال القطلوني 825 موسى بن علي الكردي 825 السنوسي. الزردالي 827 ابناء مقن. ابن خطاب. ابن خميس. ابن خلدون 845 طائفة من الونشريسيين 867 التنسي، باديس، قنفذ 868 المليكش، المشدالي 869 ابناء الامام 869 الفرني، الرندي 873 احمد بن يوسف الهواري

بعض ما في الفصول من مدن وقرى

_ 434 تامغيلت. ايزمامة. كرام 435 يلل. تامزغران. قلغة هوارة قلعة دلول. ازكى. 451 تيلغت 458 تابغليت. سكيدال. تاسلونت 461 تيارات تاقدمت (374 ايضا) 476 البويرة. هاز. بورة الصحاري 477 موزية. الرمانة. تاورست 478 متيجة. قزرونة 478 مدكرة. الخضراء. واريفن 481 قارية. مليانة 370 (ايضا) 482 جليداسن شلف تاجنة غليزان 482 سوق ابراهيم. تنس 483 العلويين، ترناتا، ارشقول 484 جراوة 495 مجانة. بشرة. تيفاش. باغاية 496 تيجس، بلزمة 496 نقاوس، مقرة، ادنة، طولقة 497 بادس، الغدير، بسكرة 280. 497 سطيف، ميلة 504 ايكجان 508 مرماجنة، الاربس 513 وهران 519 باتنة 525 المسيلة 542 عنابة، القلة 554 ماوس، دار ملول، الباب. 555 الخميس، الاثنين 584 الاغواط 596 عين مليلة 644 اشير 645 القلعة 647 بجاية 674 ملالة 665 تاقورت 706 706 البطحاء 733 فرفار 776 بنو ورار 778 تقرت، تماسين، ورقلة 787 قلعة بني عباس 814 تاونت 815 هنين، ندرومة 816 المعسكر، فكان 817 عمي موسى، الجزائر 818 تلمسان 842 برشك، مازونة 845 تاوغزوت، تافرقينت 857 تيزيل

مآخذ الكتاب نثبت هنا للقارئ بعض الكتب التي استمددنا منها هذا الكتاب مقتصرين على اهمها، غير مطيلين بذكر كل الكتب التي التقطنا منها عند المطالعة بعض الفوائد العزيزة الوجود. ما كان في هذا الكتاب من رسوم فبعضه مأخوذ من بعض الكتب الفرنسية المذكورة من بعد. والبعض الآخر مأخوذ من دار الآثار بالجزائر. ونقود ملوك البربر ارسل الينا بطوابعها السيد احمد توفيق المدني شكر سعيه. المآخذ العربية 1 - الاخبار الطوال … لابي حنيفة الدينوري 2 - اخبار الائمة الرستميين … لابن الصغير 3 - الازهار الرياضية في أئمة وملوك الاباضية … لسليمان الباروني 4 - أخبار ملوك بني عبيد … لمحمد بن علي بن حماد 5 - اخبار المهدي بن تومرت … للبيذق 6 - المعجب في تلخيص اخبار المغرب … لعبد الواحد المراكشي 7 - الكامل … لابي الحسن بن الاثير 8 - الانيس المطرب القرطاس … لمحمد بن أبي زرع 9 - الذيخرة السنية في تاريخ الدولة المرينية 5 - واسطة السلوك في سياسة الملوك … لابي حمو الثاني 11 - اعلام الاعلام … للسان الدين بن الخطيب 12 - الاحاطة في اخبار غرناطة … // 13 - اللمحة البدرية في الدولة النصرية … // 14 - الحلل الموشية في ذكر الاخبار المراكشية … // 15 - رقم الحلل في نظم الدول … // 16 - بغية الرواد في ذكر الملوك من بني الواد … ليحيى بن خلدون 17 - الفارسية في مبادي الدولة الحفصية … لابن قنفذ 18 - الوفيات … // 19 - تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية … لمحمد الزركشي 20 - تاريخ الموحدين والحفصيين … لابن الشماع 21 - نظم الدر والعقيان في ذكر شرف بني زيان … للحافظ التنسي

22 - الحلل السندسية في الاخبار التونسية … لأبي عبد الله الوزير 23 - الخلاصة النقية في أمراء افريقية … لمحمد الباجي 24 - اخبار الدول وآثار الاول … لاحمد بن يوسف الدمشقي 25 - نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب … لاحمد المقري 26 - بهجة الناظر … لعبد القادر المشرفي 27 - تحفة الزائر … للامير محمد 28 - خلاصة تاريخ العرب (مترجم) لسيديو 29 - نزهة الانظار في عجائب التواريخ والاخبار … لمحمود مقديش 30 - فتوح البلدان … لاحمد البلاذري 31 - البلدان … لاحمد واضح اليعقوبي 32 - معجم البلدان … لياقوت الحموي 33 - الاستبصار في عجائب الامصار 34 - تقويم البلدان لأبي الفداء 35 - الرحلة العبدرية … لمحمد العبدري 36 - الرحلة العياشية … لأبي سالم العياشي 37 - الرحلة الورتلانية … للحسين الورتلاني 38 - الاحكام السلطانية … للماوردي 39 - تقييد في الانساب … لعبد القادر الراشدي 40 - طبقات علماء افريقية … لابي العرب التميمي 41 - طبقات علماء افريقية … لمحمد بن الحارث الخشني 42 - عنوان الدراية … لابي العباس الغبريني 43 - التكملة لكتاب الصلة … لابي عبد الله بن الابار 44 - الديباج المذهب في معرفة اعيان المذهب … لابراهيم بن فرحون 45 - نيل الابتهاج بتطريز الديباج … لاحمد بابا التنبكتي 46 - البستان في ذكر الاولياء والعلماء بتلمسان … لمحمد بن مريم 47 - طبقات الشافعية الكبرى … لعبد الوهاب السبكي 48 - اخبار العلماء بأخبار الحكماء … للوزير علي القفطي 49 - عيون الانباء في طبقات الاطباء … لابن أبي اصيبعة 50 - الرسالة القشيرية … لابي القاسم القشيري 51 - رسائل اخوان الصفاء 52 - التصوف الاسلامي العربي … لعبد اللطيف الطيباوي 53 - شرح مقصورة حازم … للشريف الغرناطي 54 - سلافة العصر في محاسن الشعراء بكل مصر … لعلي بن معصوم

55 - شرح قصيدة نفسية الجمان في فتح وهران … لمحمد ابي راس 56 - نحلة اللبيب باخبار الرحلة الى الحبيب … لاحمد بن عمار 57 - المغرب في ذكر بلاد افريقية والمغرب … لعبد الله البكري 58 - العبر وديوان المبتدأ والخبر 59 - المؤنس في اخبار افريقية وتونس … بن ابى دينار القيرواني 60 - الترجمان المعرب عن دول المشرق والمغرب … لأبي القاسم الزياني 61 - الاستقصاء لاخبار دول المغرب الاقصى … لاحمد الناصري السلاوي 62 - تاريخ دول الاسلام … لرزق الله منقريوس 63 - موجز التاريخ العام للجزائر … لعنمان الكعاك المآخد الفرنسية 1 - Kitab El Adouani (traduction) … Féraud 2 - Tlemcen … L'Abbé Bargès 3 - Le Djurjura … S.A. Boulifa 4 - Guide de Constantine … P Alquier 5 - Les siècles obscurs du Maghreb … e. F. Gautier 6 - Histoire d'Algérie … S. Gsell - G. / Marçais-G Yver 7 - Les Arabes en Berberie … G. Marçais 8 - Histoire de l'établissement des Arabes dans l'Afrique septentrionale … E. Mercier 9 - Recherche sur l'origine des peuples … Carette 10 - Description générale de l'Afrique … Marmol 11 - Traités de Paix concernant les relations avec les Chrétiens … D. Mas. Latrie 12 - Catalogue des monnaies Musulmanes … h. Lavoix 13 - Histoire de l'afrique septentrionale … par Mercier 14 - Les origines berbères … - Rinn 15 - Cirta … - Vars 16 - Histoire générale de l'Algérie … - Garrot 17 - L'antiquité … - Malet 18 - L'algérie dans l'antiquité … - Gsell 19 - Campagne de J. César en afrique … - le Colonel Moinier 20 - Le problème nord-africain … - Peyronnet

خريطة الجزائر ومراكز القبائل في القرن الثامن للهجرة

خريطة الجزائر طبيعية وتاريخية

فهرس

_ الكتاب الثاني- في العصر العربي الباب الاول - في غزو العرب لافريقية وتأسيس امارتهم فيها جزيرة العرب … 9 العرب قبل الاسلام … 10 العرب بعد الاسلام … 15 العرب في افريقية … 21 العرب في الجزائر … 24 الجزائر تحت ملوك البربر … 28 الفتح العربي … 34 البربر والاسلام … 36 الفتح العربي والحضارات القديمة … 40 العرب والبربر بعد الفتح … 43 ولاة المغرب من قبل الحلفاء … 47 الباب الثاني - في الدولة الرستمية تمهيد … 53 الخوارج … 57 الخوارج بالمغرب … 57 الامارات الاباضية … 61 تأسيس الدولة الرستمية … 63 المملكة الرستمية … 65 الحكومة الرستمية … 68 الايمة الرستمية … 71 الاقتصاد والحضارة … 75 العلوم والآداب … 77 ابو عبد الرحمن بكر بن حماد التاهرتي … 80 الحروب والفتن … 82 سقوط الدولة الرستمية … 86 تيهرت … 88 الباب الثالث - في الدولة الادريسية تمهيد … 93 تأسيس الدولة الادريسية … 96 الحكومة الادريسية … 98 العلويون بالمغرب الاوسط … 101 ممالك بني محمد بن سليمان … 105 سقوط الدولة الادريسية … 112 الباب الرابع - في الدولة الاغلبية كلمة عن الدولة العباسية … 118 تأسيس الدولة الاغلبية … 119 الحكومة الاغلبية … 121 الجزائز الاغلبية … 122 سقوط الدولة الاغلبية … 126 الباب الخامس - في الدولة العبيدية تمهيد … 130 الشيعة الاسماعيلية بالجزائر … 131 تأسيس الدولة العبيدية … 134 الحكومة العبيدية … 137 تيهرت العبيدية وزناتة … 141 العبيديون وجبل اوراس … 144 الجزائر بين العبيديين والامويين … 149 امارة بني حمدون بالمسيلة … 153 الجزائر الصنهاجية … 157 الحالة السياسية والمالية بالجزائر العربية … 163 الحالة العلمية والدينية … 166 سيادة العرب بالبحر الرومي … 170 الباب السادس - في نزوح الهلاليين الى المغرب تمهيد … 178 نزوح الهلاليين الى افريقية … 179

_ الهلاليون بالجزائر … 182 نتائج النزوح الهلالي … 184 الحياة الهلالية … 187 الهلاليون ومواطنهم بالجزائر … 192 الكتاب الثالت- في العصر البربري الباب الاول- في القبائل البربرية الحزائرية تمهيد … 208 زناتة … 208 صنهاجه … 215 كتامة وزواوة … 216 لواتة وتفزاوة … 219 بنو فاتن … 222 هوارة … 224 مصمودة وبقية القبائل … 226 الباب الثاني- في الدولة الحمادية تمهيد … 230 تأسيس الدولة الحمادية … 231 المملكة الحمادية … 234 الحكومة الحمادية … 236 ملوك الدولة الحمادية … 238 العرب ايام الحماديين … 247 زناتة ايام الحماديين … 251 الحماديون والمسيحيون … 256 العمران والحضارة … 259 العلوم والآداب … 265 سقوط الدولة الحمادية … 267 العواصم الصنهاجية بالجزائر … 272 الباب الثالث- في دولة المرابطين تمهيد … 280 المرابطون … 281 المرابطون بتلمسان … 282 حكومة المرابطين … 284 أمراء المرابطين … 286 سقوط دولة المرابطين … 288 الباب الرابع- في الدولة الموحدية المؤمينة تمهيد … 300 تأسيس الدولة الموحدية المؤمنية … 303 الحكومة الموحدية المؤمنية … 306 عبد المؤمن وبنوه … 309 ولاة الجزانر المؤمنية … 314 ثورة ابن غانية … 317 العرب في الدولة المؤمنية … 322 البربر في الدولة المؤمنية … 326 المسيحية والاسرائيلية … 330 الاقتصاد والعمران والحضارة … 332 العلوم والآداب … 335 الاعتقادات والمذاهب الفقهية … 337 التصوف والصوفية … 340 سقوط الدولة المؤمنية … 349 الباب الخامس- في احوال العرب لعهد الحفصيين والزيانيين والمرينيين تمهيد … 354 رياح والاثبج وسليم … 356 اماره بني مزني ببسكرة … 364 رئاسة الثعالبة بمتيجة وأخيار المعقل … 670 زغبة … 373

_ الباب السادس - في الدولة الحفصية تأسيس الدولة الحفصية … 383 الحكومة الحفصية … 384 ولاة الجزائر الحفصية … 391 رؤساء القبائل … 400 الحفصيون وزناتة … 405 سقوط الدولة الحفصية … 413 الباب السابع- في دولة بني مرين بنو مرين … 419 بنو مرين بالجزائر … 422 استيلاء ابي الحسن على الجزائر … 427 استيلاء ابي عنان على الجزائر … 430 الاستيلاءات الاخيرة على تلمسان … 434 الباب الثامن - في دولة بني زيان تأسيس الدولة الزيانيه … 439 المملكة الزيانية … 440 عاصمة المملكة الزيانية … 444 الحكومة الزيانية ومشاهير من رجالها … 447 ملوك آل زيان … 454 مغراوة وبنو زيان … 470 ملوك تلمسان … 470 توجين وبنو زيان … 471 الثوار من بني زيان … 473 الاقتصاد والعمران والحضارة … 483 سقوط الدولة الزيانية … 488 الحركة العلمية والادبية بالجزائر البربرية 490

§1/1