تاريخ الجزائر المعاصر

الزبيري، محمد العربي

الباب الأول: دراسة

الدكتور: العربي الزبيري تاريخ الجزائر المعاصر (الجزء الأول) - دراسة - من منشورات اتحاد الكتاب العرب 1999

تاريخ الجزائر المعاصر

الحقوق كافة محفوظة لاتحاد الكتّاب العرب البريد الالكتروني: E - mail :[email protected] [email protected] موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة الإنترنت: www.awu - dam.com تصميم الغلاف للفنان: اسمايل نصرة ••

تقديم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ تقديم قال أبو حاتم الرازي المتوفى سنة 277هـ: "إذا كتبت فقمش، وإذ حدثت ففتش". وعندما نرجع إلى طرق البحث المعاصرة نستسمحه لإضافة "وإذا ألفت فهمش". لأن الخائض في علم التاريخ مطالب أكثر من غيره بتقديم الدليل القاطع على صحة ما يورده من معلومات، والإتيان بالحجة الدامغة لتبرير ما يطرحه من أفكار وآراء وما ينشره من قضايا أساسية حول موضوعات قد تتعدد فيها الروايات وتتكاثر الأقلام لقرع أبوابها بحثاً عن الحقيقة أو عملاً على تغييبها لسبب من الأسباب وما أكثرها كما سنرى فيما بعد. وإذا كان التاريخ علماً في تحريه الحقيقة والعمل على تسليط الأضواء عليها وتقديمها، كما هي، فإن الباحث في هذا العلم، مطالب، إضافة إلى تمكنه من العلوم الموصلة، بإعطاء قيمة بالغة الأهمية للأصول التي هي صلته الوحيدة بالموضوع المزمع دراسته والتي هي جميع الآثار التي خلفتها عقول السلف أو أيديهم، وإذا ضاعت ضاع التاريخ معها وفقاً لنص القاعدة العامة. وفي أثناء الاهتمام بتلك الأصول وهو ما يسميه المؤرخون بمرحلة التقميش، فإن الباحث لا يمكنه إلا أن يستفيد من الاسترشاد بما جاء في مقدمة المقدمة حيث يؤكد مؤسس علم التاريخ وموجد علم الاجتماع إن الكتابة في التاريخ تحتاج إلى "مآخذ متعددة ومعارف متنوعة وحسن نظر وتثبيت يفضيان بصاحبهما إلى الحق وينكبان به عن المزلات والمغالط، لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق، وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً، ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلوا عن الحق وتاهوا في بيداء

الوهم والغلط. انطلاقاً من هذا التقديم المقتضب واقتناعاً بقول موسى بن سعيد الأندلسي: ما كل ما قيل كما قيل ..... فقد باشر الناس الأباطيل رحت أقرأ تاريخ الجزائر في جميع مراحله قراءة متأنية فاحصة، ولكن أدهشني وأفجعني ما وقفت عليه من تخطيط تضليلي تفنن في إحكامه مؤسسو المدرسة الاستعمارية للتاريخ والمشرفون عليها طيلة الليل المظلم الذي داهم الجزائر سنة 1830 وظل، إلى يومنا هذا، يحجب عنها الحقيقة العارية خاصة بالنسبة للعهد العثماني والحركة الوطنية وثورة نوفمبر 1954. ففيما يخص القرون الثلاثة التي تمثل واحداً من أمجد عصورنا من حيث التعمير والإنشاء وتنظيم المدن وتخطيط شوارعها ومن حيث الحفاظ على الأمن والاستقرار وتوطيدهما والعناية الفائقة بالعلم والعلماء، إن الكتابات الاستعمارية قد تمكنت، بأساليب مختلفة، من ترسيخها في أذهان الجزائريين أنفسهم، بما في ذلك الأغلبية الساحقة ممن ينعتون بالمثقفين والسياسيين، على أنها عهد الاحتلال وسيطرة تركية وحكم أجنبي، ضاربين عرض الحائط التعليل الحقيقي للحدث التاريخي ومغفلين النظام الهيكلي للدولة الإسلامية ومتجاهلين الإنجازات العظيمة التي حققتها البلاد في تلك الفترة والتي يمكن الاستدلال عليها، بكل بساطة، من خلال المعاهدات السبعين التي أبرمت بين الجزائر وفرنسا فيما بين 1535و 1830، والتي تتعلق خاصة بما قامت به الأولى نحو الثانية من إنجازات عسكرية بحرية وإسعافات مالية واقتصادية واستراتيجية ومساعدات غذائية، كما أننا نجد دليلاً على عظمة الجزائر، يومها، في ذات الرسائل التي كانت توجه إلى حكامها من طرف ملوك فرنسا وأباطرتها حيث نقرأ في مستهل أغلبها: "إلى السيد الأمجد الأعظم الأفخم Illustre et magnifique seigneur de la ville et du royaume dalger وعلى سبيل المثال نورد فقرة من رسالة نابليون بونابرت إلى مصطفى باشا بتاريخ 20/ 07/1800. Illustre et Magnifique seigneur, "LEtat de guerre survenu entre la Rèpublique Francaise et la règence dAlger ne prit point sa source dans les rapports directs des deux Etats. Il est aujourdhui sans motif" Contraire aux intèrets des deux peuples, il le fut toujours aux inclinations du gouvernement Francais, persuadè quil lest pareillement aux votres, je nhèsite point a donner au citoyen du bois Thainvill les relations politiques et commerciales des deux ètats sur le meme pied lordre de se rendre près de vous avec des pleins pouvoirs pour rètablir elles ètaient avant la rupture. jai la

confiance que vous fairez ace nègociateur le meme accueil que jaurais fait a celui de vos sujets que vous auriez auriez chargè dune semblable mission près de moi." فبدلاً من دراسة المعاهدات وغيرها كثير مما أبرم مع إنكلترا وأمريكا وهولندا وروسيا وإلى آخر القائمة، وبدلاً من معالجة تاريخ هذه الحقبة بالموضوعية التي يستعملونها شعاراً لتنويمنا وبالحياد الإيجابي الذي هو مفتاح الباب المؤدية إلى الحقيقة في التاريخ، فإن المؤرخين والقياديين الفرنسيين قد وظفوا كل مالهم من عبقرية لتسوية تاريخ الجزائر وتصويرها - في جميع عصورها - خصوصاً في العصر العثماني - بأقبح الصور في الكتب التي تدرس في المكاتب الفرنسية وتدرس - يا للبلية ويا للحسرة - لأبنائنا على حد تعبير الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس في عدد الشهاب الصادر بتاريخ سبتمبر سنة 1937 إن المؤرخين والساسة الفرنسيين لم يكتفوا بإهمال الأصول المذكورة والتنكر لمحتوياتها، بل تجاوزوا ذلك إلى تلفيق الروايات من أجل تثبيت الإلغاء المطلق لوجود الجزائر شعباً ودولة قبل "الفتح الفرنسي المنقذ من الظلام". فهذا GAUTIER يجزم في كتابه "ماضي شمال إفريقيا "ص9و 10 إن التضاريس تتحكم في التاريخ وهي التي يعود إليها عجز المغرب على تكوين دولة دائمة وعلى التوصل إلى إقامة وحدة سياسية. "ويرى شارل أندري جوليان في تاريخ شمال إفريقيا "ص 14: أن الدولة المغاربية مثل الفقاع: ينبت في ليلة ويتعفن في صبيحة "وفي مكان آخر يؤكد أن "إفريقيا الشمالية الفرنسية التي تشمل المغرب والجزائر وتونس ليست لها حالة مدنية دقيقة "أما موريس توراز وادقارفور وشارل ديغول فإنهم لم يخجلوا حتى من كتابات أسلافهم واعترافاتهم وراح كل منهم، بطريقته الخاصة، يرفع صوته عالياً ومدوياً يقولون للرأي العام العالمي، في أوقات مختلفة، إن الجزائر لم تكن أبداً أمة ولا دولة في التاريخ". وتبنت دائرة المعارف العالمية الفرنسية هذه المزاعم التي لا أساس لها من الصحة وكتبت في مادة الجزائر: "إن هذا الاسم فرنسي ويرجع تاريخه إلى سنة 1831، ومن البداية يطرح السؤال المتعلق بالتاريخ الذي وجدت فيه هذه الأرض الصحراوية بالنسبة لتسعة أعشارها "وفيما يتعلق بالحركة الوطنية، فإن التزييف لصيق بالحديث عن ميلادها إذ بذل المؤرخون الفرنسيون كل ما في وسعهم لإقناعنا بأن ظهورها يرجع إلى ما بعد الحرب الإمبريالية الأولى ثم ربطوا ذلك بحركة الأمير خالد، وهم في ذلك يطبقون على تاريخنا المقاييس المعتمدة في الغرب الاستعماري الذي لا علاقة لواقعه بواقعنا. إن الموسوعات العلمية في الغرب الاستعماري نفسه تعرف الحركة

الوطنية بما ينفي مزاعم المؤرخين الفرنسيين ومن حذا حذوهم من الجزائريين. إنها كما جاء في الموسوعات: "حركة الأشخاص الذين يدركون ضرورة تكوين مجموعة أساسها الروابط العرقية واللغوية والثقافية وغيرها. وهي تنطلق من إيديولوجية ترمي إلى تمكين الأمة من حق ممارسة سياسة لا تأخذ في الاعتبار سوى قدراتها الخاصة وترفض كل ما من شأنه الحد من حريتها في العمل". ونحن نعتقد أن هذا التعريف يجعلنا نجزم أن الحركة الوطنية الجزائرية ولدت مع لحظات الغزو الأولى عندما تحركت جحافل الشعب الجزائري وطلائعه تتصدى لقوات الاحتلال بجميع الوسائل والإمكانيات. إن الأمثلة على تشويه المفاهيم والمصطلحات كثيرة، لكن التزييف لم يقتصر عليها بل امتد إلى الوثيقة نفسها أي إلى الأصل الذي يتحكم في معالجة الموضوع، وعلى سبيل المثال فقط نتوقف عند معاهدتي دي ميشال والتافنة. فالمعاهدة الأولى تحمل اسم الجنرال دي ميشال الذي كان قد جاء بقوة عسكرية هائلة لفك الحصار المضروب على وهران من طرف الجيش المحمدي، ولما يئس من تحقيق ذلك جنح إلى السلم ولجأ إلى كثير من الحيل للتوصل إليه. إن هذه الوثيقة موجودة بين أيدينا في الكتابات الرسمية التي تبنتها الدولة الجزائرية بعد استرجاع الاستقلال وهي، مع ذلك، وثيقة مزيفة لأنها لا تحمل توقيع الأمير عبد القادر ولم تعرض عليه في شكلها النهائي، بل إن الأمير عبد القادر قد صادق ووقع على المعاهدة المكونة من جزأين مستقلين أحدهما عن الآخر واللذين جاءت صياغتهما كالآتي: أ - جزء مكتوب بلغة ضعيفة وهو من إعداد الجانب الفرنسي ومقبول من قبل الأمير الذي وقع عليه بخطه، وهو مكون من ست نقاط جاءت على النحو التالي: أولاً: إن العداوة من هذا اليوم، تبطل بين الفرانساوية والعرب. ثانياً: إن الفرانساوية تلتزم بتكريم ديانة الإسلام مع عوائدهم. ثالثاً: إن العرب تلتزم برد الأسرى الفرانساوية. رابعاً: أن تكون السوق حرة. خامساً: إن العرب تلتزم برد من يهرب من الفرانساوية إليهم.

سادساً: من أراد السفر في الداخلية من الفرانساوية يجب أن يكون بيده رخصة مختومة من قنصل الأمير ومن قنصل الجنرال. ب - جزء مكتوب بلغة أرقى وهو من إعداد الأمير عبد القادر وموقع عليه من طرف الجنرال دي مشال قبل تسلمه الجزء الأول، ويتكون هذا الجزء من أربع نقاط فقط جاءت كما يلي: أولاً، يكون للعرب الحرية في أن يبيعوا ويشتروا كل ما يتعلق بالحرب. ثانياً، يكون متجر مراسي أرزيو تحت ولاية الأمير، كما كان قبلاً، بحيث لا يصح شحن شيئ إلا منه وأما وهران ومستغانم فلا يرسل لهما سوى البضائع اللازمة لأهلها. ثالثاً، يلتزم الجنرال بترجيع كل من يهرب إليه من العرب مقيداً، مع أنه لا تكون له سلطة على المسلمين الذين يحضرون عنده برضاء رؤسائهم. رابعاً، لا يمنع مسلم عن الرجوع إلى بيته متى أراد. وهكذا، فإن الذي يقرأ الجزأين يلاحظ بكل سهولة أنهما متكاملان، وما الغموض الذي أحيط بمعاهدة دي مشال وكل ما نسج حولها من مزاعم وإدعاءات، سوى أكاذيب من صنع المؤرخين الفرنسيين الذين أرادوا أن يجدوا للسلطات الفرنسية منفذاً يخول لها التحلل، بنوع من الشرف، من عهد ضرب باسم الأمة الفرنسية جمعاء وليس نكث العهد أمراً جديداً بالنسبة لحكام فرنسا. أن المتفق عليه بالنسبة لهذه المعاهدة والذي يمكن استخلاصه من دراسة وبحوث كل المؤرخين هو أنها كانت نتيجة لرغبة الطرفين في إقامة سلم مؤقت، وخلق جو يساعد على التأمل والتخطيط، قبل مواصلة السير بالنسبة للأمير عبد القادر، وعلى كسب الرأي العام في فرنسا وتدعيم وضعه الاستقلالي عن القيادة العليا في الجزائر بالنسبة لدي ميشال. ولقد عمل كل من الجانبين لتكون بنود المعاهدة لصالحه دون الجانب الآخر. وذلك بالإضافة إلى أن المفاوضات كانت، في أساسها مغشوشة بسبب تدخل اليهود المحتوم، وعملهم على استغلالها للحصول على الاحتكارات التجارية ولتحقيق الفوائد والأرباح الطائلة. ونقول تدخلاً محتوماً لأن المتفاوضين كانوا في حاجة ماسة إلى من ينقل أفكار هذا لذاك لتبحث وتناقش.

وكان مردوخي وبوشناق الوحيدين اللذين يستطيعان ذلك في المنطقة، خاصة وأن سلك المترجمين الذي كان نابليون قد سهر على تكوينه أثناء حملته المشهورة على مصر قد زال ولم يعد له أثر في أوساط الجيش الفرنسي، كما أن الأمير لم يهتم بهذا الجانب عندما أنشأ حكومته نظراً لتركيز جهوده على الكفاح المسلح. والمتفق عليه كذلك، هو أن الصحافة الفرنسية في ذلك الحين، قد رحبت بالمعاهدة نيابة عن الرأي العام بمختلف اتجاهاته ومشاربه، واعتبرتها نصراً حققه ميشال لصالح الأمة الفرنسية التي لم تكن موافقة على إرسال أبنائها: يموتون، ويعطبون من أجل قضية لا ناقة لها فيها ولا جمل، وفي أرض يفصلها عنها كل شيء. لكن أعداء دي ميشال ودعاة الاستمرار في استعمال الجزائر سرعان ما تمكنوا من تحويل ذلك الترحيب وتلك المساندة إلى موجة من السخط والاستنكار، ساعد على نشرها ما يلي: 1) أن دي ميشال لم يطلع حكومته على الجزء الثاني من المعاهدة والمتضمن الشروط الجزائرية، بل أكثر من ذلك، فإنه استعطف الأمير وطلب منه أن يتظاهر بتعيين وكيل له في مدينة أرزيو يكون هو الحاكم الحقيقي كما جاء في الشرط الثاني ولكنه يبدو للعموم في نفس وضع الوكلاء الجزائريين بوهران ومستغانم والعاصمة. ولقد تعهد دي ميشال لوزير الخارجية ابن عراش أنه يسهر بنفسه على تسهيل مهمة الوكيل المذكور، ويمنع الجيش الفرنسي من التدخل في شؤونه مهما كانت الظروف. وحينما استجاب عبد القادر لذلك وعين أحد أعوانه البارزين وكيلا في أرزيو، وبدأ هذا الأخير ينشط وفقاً للشرط الثاني كما ذكرنا، استاء التجار الفرنسيون في كل من مستغانم ووهران وأيدهم شركاؤهم وزملاؤهم على الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط ورفعت الشكاوى إلى وزارة الحرب التي اعتبرت ذلك تعدياً من حكومة الأمير وذلك لأنها لم تكن على علم بشروط عبد القادر التي وقع عليها دي ميشال. وسارت الصحافة في نفس التيار. وتألب الرأي العام الذي اعتبر صمت دي ميشال نوعاً من الخيانة لوطنه. 2) إن النص الموحد الذي نقله دي ميشال إلى حكومته كان مزيفاً في نقطة أساسية من بنده الأول. ذلك، أن وزارة الحرب الفرنسية كانت أمرت [أن

يصرح في المعاهدة عن تبعية الأمير للدولة الفرنسية، وعن تعيينه بايا بنفس الشروط المعروفة قبل الغزو. ونظراً إلى أن دي ميشال كان متؤكداً من رفض الأمير لذلك، فإنه لم يعرض عليه الفكرة إطلاقاً، وتعمد تزييف النص الذي جاء كالآتي: إن قائد الجيش الفرنساوي، المقيم في وهران، الجنرال دي ميشال، والأمير عبد القادر بن محيي الدين اعتمدا واتفقا على ما يأتي ذكره من الأمور: الأول: منذ يوم تحريره يصير ترك الحروب والخصومات بين الفرنساويين والعرب، وكل من الجنرال دي ميشال والأمير عبد القادر يجتهد في إلقاء الألفة بين شعبين اقتضت الإرادة الإلهية أن يكونا تحت سلطة واحدة. إن الجملة الأخيرة تعد نوعاً من الاعتراف بخضوع الشعب الجزائري لفرنسا وهو ما لا يمكن أن يوافق عليه الأمير عبد القادر. وبالفعل فإن كتاب تحفة الزائر يوردها، على العكس من ذلك، بكيفية تدل على اعتراف الجنرال دي ميشال، ومن خلاله فرنسا، باستقلال الحكومة الجزائرية، إذ تقول الجملة: "وكل من الجنرال دي ميشال والأمير عبد القادر يجتهد في إلقاء الألفة بين شعبين اقتضت الإرادة الإلهية، لا يكونا تحت سلطة واحدة. 3) إن دي ميشال قد أخفى على حكومته توقيعه على شروط الأمير عبد القادر القاضية بإعطاء الاحتكار التجاري لممثلي الحكومة الجزائرية دون غيرهم، ويحصر النشاط التجاري كله في ميناء أرزيو الذي يدخل، وفقاً للشروط، تحت ولاية الأمير وحده. 4) إن دي ميشال لم يخف الحقيقة عن حكومته فحسب، بل إنه كتب إلى الأمير في شهر ذي الحجة سنة أربعين ومائتين وألف يخبره بأن ملك الفرنسيين لويس فليب قد أطلع على جزأي المعاهدة وصادق عليها. ومن ثمة فإنه لم يعد هناك ما يمكن أن يعرقل حسن سير تنفيذ المعاهدة. وعلى الرغم من ذلك الغموض كله، ومن المناورات الدنيئة، والمشاكل والصعوبات، فإن معاهدة دي ميشال قد دخلت حيز التنفيذ في الوقت المحدد لها، وحسب الشروط المنصوص عليها في الجزائر، ومن واجبنا، كباحثين أن نؤكد هنا، أن الجنرال دي ميشال قد بذل كل ما في وسعه

لكي يرضى في آن واحد الجانب الجزائري الذي وعده بالوفاء، ووزراء الحرب الفرنسية الذين وعدهم بأن يكون السلم لصالح الأمة الفرنسية. وحينما تكاثرت الضغوط على السلطات الرسمية في فرنسا وفي الجزائر، وجد دي ميشال نفسه المدافع الوحيد عن المعاهدة التي لم يبرمها في الواقع إلا بإذن وتشجيع من وزير الحرب آنذاك. أما المعاهدة الثانية فهي معاهدة التافنة التي لا يمكن قبول نصها الموجود بين أيدينا كعمل أصلي وذلك لأسباب عديدة أهمها ما يلي: 1 - إن الوثيقة العربية المتداولة والمجمع على أنها معاهدة التافنة والتي تبنتها وزارة الإعلام والثقافة في الجزائر بدون نقاش، ونشرتها ضمن وثائقها الرسمية لتكون واحداً من المصادر الرئيسية في كتابة تاريخ تلك الفترة، هي مزيفة لأنها جاءت مكتوبة على صفحتين كاملتين بلا ختم ولا توقيع، في حين أننا نعرف أن المعاهدة الحقيقية كتبت باللغتين على الصفحة الواحدة بحيث يقرأ على اليمين نصها العربي وعلى اليسار نصها الفرنسي، ثم إن كلا من الأمير عبد القادر والجنرال بيجو قد وضع ختمه وتوقيعه في نهاية النص المعد بلغته. 2 - إن الأمير عبد القادر كان قد خابر بيجو وأعلمه أن المسلمين لا يرضون أن يكونوا تحت حكم الأفرنج، ولذلك فمن المستحيل أن يوقع على وثيقة ينص شطرها الأول على الاعتراف "بحكم سلطنة فرنسا في إفريقيا". 3 - إن الوثيقة مكتوبة بلغة عامية لا يرضى الأمير عبد القادر ونحن نعرف بأنه الطويل في مجال العلم والمعرفة، أن تصدر باسمه، ولا أن يوقع عليها، خاصة وأنه كان يعلم أنها ستوجه للاطلاع عليها إلى ملك فرنسا وإلى فطاحل العلماء. 4 - إن المعاهدة مشتركة، ومع ذلك فإنها لا تحمل التاريخ الميلادي الموافق للتاريخ الهجري. هذا بالإضافة إلى أنه لم يذكر، في نهاية النص، أسماء وصفات المتفقين على الشروط. 5 - إن الورق المستعمل لكتابة المعاهدة غير رسمي كما أن ذكر الأمير عبد القادر الوارد في مستهل النص بدون صفة أمير المؤمنين وبدون ذكر اسم والده كما تعودنا أن نرى ذلك في كل مكتوب داخلي أو خارجي، يدل دلالة قاطعة على أن الوثيقة التي بين أيدينا ليست هي

الأصلية التي صادق عليها الطرفان. أما عن تاريخنا المعاصر وعن ثورة نوفمبر بالذات فإن عمليات التشويه والتزييف والتحريف فيه قد اتخذت أشكالاً وأنواعاً متعددة حتى إننا أصبحنا مكتوفي الأيدي أمام كثرة ما نشر بلغات متعددة وحسب نظريات مختلفة. وإذا كان من الصعب حصر كل المجالات وكل الموضوعات التي تعرضت للتشويه في هذه العجالة، فإننا لا نجد مفراً من ذكر بعض المحاور التي ركز عليها قادة الاستعمار ومؤرخوه ووظفوا كل إمكانياتهم الاعلامية والتربوية والثقافية لتعميمها وإضفاء طابع المصداقية عليها. هكذا، إذن، فإن المدرسة الاستعمارية للتاريخ قد استعملت كل الأساليب لتشويه التاريخ الجزائري وإفراغه من محتوياته الإيجابية وذلك لتتمكن السلطات الفرنسية، في مرحلة أولى، من فصل المجتمع الجزائري عن قاعدته المتينة التي يرتكز عليها والمتمثلة في ثقافتنا الوطنية وما تشتمل عليه من ثروات هائلة هي دروع واقية وأسلحة فتاكة عندما يحين الأوان، ولتتوصل في مرحلة ثانية، إلى فرض حلولها الكثيرة التي من بينها الاندماج المزيف والمسخ والتذويب. ففي هذا الإطار هدمت الأوابد وأزيلت الآثار، وضاعت الوثائق الأصلية لتحل محها كتابات تتماشى مع أفعال وتصرفات المستعمر وتخدم في نفس الوقت، أغراضه وأهدافه. وفي هذا الإطار أيضاً، جُرِّد تاريخنا من أبطاله ومآثره النبيلة الخالدة، مما كان حافلاً به من بطولات ومكارم وأخلاق، وإسهامات حضارية ومواقف إنسانية تشهد كلها على العظمة والعز والقدرة الفائقة على الأخذ والعطاء اللذين هما مقياس البقاء والخلود. وبعد هذا وذاك، جاء الاستعمار بالمرحلة الثالثة التي مازلنا نعاني منها إلى يومنا هذا، وتمتاز تلك المرحلة بظهور من يوصفون ظلماً وبهتاناً، بالتحرر والتقدمية: مؤرخون ومفكرون من الدرجة الأولى، ما في ذلك شك، ولكنهم غير مجردين من عواطفهم الوطنية فاشرفوا على دراسة العديد من أبناء الجزائر الذين بهرتهم التعابير الرنانة الجوفاء، وخدعتهم المفاهيم السطحية والمصطلحات الشكلية والسلوكات المظهرية إلى درجة أن معلومات الأساتذة صارت قرآناً لا تقبل شكاً ولا تكذيباً. وانطلاقاً من هذه المعطيات أصبح الجزائريون يزيفون تاريخهم بأنفسهم أو يحافظون على واقعه المشوه ويعملون ما لا يستطيع المستعمر فعله لإقناع المواطنين البسطاء بموضوعية ذلك الواقع، بل أكثر،

لقد اتخذوا من أساتذة الاستعمار أئمة وأغلقوا، بأيديهم أبواب الاجتهاد فلم تعد ذهنياتهم قابلة للثورة على الجمود والرجوع إلى الشك في كل شيء للتوصل إلى الحقيقة الضائعة. ولأجل ذلك كله، فإن المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر، بالطريقة التي وجد عليها والرعاية التي يحظى بها خاصة من معالي وزير المجاهدين، إنما يعتبر فتحاً مبيناً وخطوة ثاتبة في الطريق المؤدية إلى تكوين المدرسة الجزائرية للتاريخ، تلكم المدرسة التي نأمل أن تستقطب جميع الطاقات الوطنية المؤهلة لإعادة كتابة تاريخ الجزائر بعد تخليصه علمياً وأكاديمياً، ومن كل ما علق به من تشويه وتحريف وتزييف؛ وإنما تشكل لمهمة شاقة لا تكتفي بصبر الباحثين وإرادة السياسيين ولكنها تتطلب فوق كل شيء وزيادة على الثقة في النفس، إيماناً صادقاً بالمسؤولية وقدرة فائقة على كسر الحواجز الوهمية التي أقامها المستعمر بيننا وبين ماضينا التليد الذي ما أحوجنا إلى توظيف جوانبه الإيجابية والسلبية على حد سواء. وبهذه المناسبة أستسمحكم لحظة واحدة للترحم على روح صديقنا الباحث العلامة مولود قاسم الذي نفض الغبار عن شخصية الجزائر الدولية وهيبتها العالمية قبل سنة 1830م. وفي الختام، أشكر مرة أخرى مديرية المركز وكافة العاملين به وأتمنى من جديد أن يتواصل هذا الجهد الذي أرى من خلاله نوراً هو الذي سيهدي خطانا في طريق إعادة كتابة التاريخ التي يتوقف عليها استرجاع الجزائر سيادتها واستقلالها كاملين. ••••

الفصل الأول: الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الجزائر قبيل نوفمبر 1954

الفصل الأول: الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الجزائر قبيل نوفمبر 1954

الجزائر بلد زراعي، هذه حقيقة قديمة، لا تحتاج إلى تدعيم، ولكن الجديد في الأمر هو أن مؤرخي الاستعمار يدعون بأن المعمرين الفرنسيين هم الذين استصلحوا الأراضي، وصيروا ترتبها طيبة (1). إن هؤلاء المؤرخين يتناسون أو يتجاهلون ما ورد في تقرير السيد "تادنة" الذي قدمه لسلطات الإمبراطورية الفرنسية في أيام عزها، والذي جاء فيه: "إن مناخ الجزائر جميل وأرضها طيبة، توجد بها مراع شاسعة، وسهول فسيحة: تكثر فيها منتوجات أمريكا والهند، بالإضافة إلى ما ينبت في أراضي أوربا، كما أنها تنتج كميات هائلة من القمح والشعير والصوف والجلود والشموع. أما مراعيها فتزخر بأنواع الحيوانات المختلفة مثل الأبقار والأغنام والماعز والبغال والحمير الممتازة" (2) ويبدو كذلك أن هؤلاء المؤرخين لم يطلعوا على ما أورده السيد (شالر) في كتابه "لمحة تاريخية عن الدولة الجزائرية" إذ يؤكد بأن سهول متيجة تعتبر من أحسن الأراضي وأوسعها في العالم، وذلك نظراً لمناخها وخصوبتها وموقعها، وهي تمتد على مساحة قدرها بالتقريب 330 ميلاً مربعاً (3). صحيح أن سلطات الاحتلال قد استصلحت بعض المستنقعات القريبة من العاصمة لكنها لاتمثل شيئاً بالمقارنة مع ملايين الهكتارات من الأراضي الخصبة التي اغتصبتها سواء من أملاك الدولة الجزائرية أو من أملاك الأعراش والخواص ثم وزعتها على الكولون المرحين من الجيش أو المرافقين له وعلى عدد من الشركات الفلاحية التابعة لمختلف المؤسسات الفرنسية في "المتروبول" (4). وكانت معظم الأراضي في الجزائر، قبل الاحتلال الفرنسي، ملكاً مشاعاً للأعراش (5) التي كانت تستثمرها جماعياً لتحقيق الاكتفاء الغذائي الذاتي وتصدير الفائض من الإنتاج إلى المشرق وإفريقيا السمراء وإلى بلاد جنوب أوربا على وجه الخصوص (6) ثم جاءت قرارات القادة العسكريين االفرنسيين ومراسيم السلطات الاستعمارية فأباحت اغتصاب تلك الأراضي بسبب مشاركة أصحابها في الانتفاضات الشعبية المختلفة (7) وتسليمها بالمجان إلى المعمرين الأوربيين. وبفعل عمليات الاغتصاب تلك تحول الفلاحون الجزائريون الذين كانوا، قبل الاحتلال، يمثلون الأغلبية الساحقة من السكان، إلى مجرد خماسين أو أوأجراء موسميين أو إلى أناس عاطلين تماماً عن العمل يعيشون من التسول أو

من الأعشاب والنباتات التي تجود بها الطبيعة. وما كاد يحل الاحتفال بمرور قرن على الاحتلال حتى فقدت الجزائر قدرتها على تحقيق الاكتفاء الغذائي الذاتي وتحولت من منتج للحبوب ومصدر لها إلى بلد مضطر لاستيراد المواد الغذائية الضرورية لحاجات سكانه (8). مثل هذه الحقائق تفرض علينا طرح أسئلة كثيرة، وفي مقدمتها: كيف انقلبت الأوضاع بهذه الصورة وبتلك السرعة؟ والجواب يكون سهلاً ومعقولاً، إلا على الفرنسيين، ويكمن في التالي: إن المهاجرين الأوربيين كانوا يجهلون طريقة الاعتناء بالفلاحة، ولم يكونوا يهدفون لغير الإثراء بأية طريقة كانت، لأجل ذلك، ركزوا مجهوداتهم على استنزاف الثروات، وتسخير الأرض بدون حساب، كما أنهم لم يهتموا باستصلاح الأراضي البور، أو الأراضي الموات الممتدة على ملايين الهكتارات جنوب التل شرقاً وغرباً. وبالإضافة إلى إهمال العمليات الاستصلاحية التي كان من الممكن أن تقلب الجنوب الجزائري جنة خضراء، قادرة على تغذية عشرات الملايين من البشر، فإن المستعمرين قد وجهوا ضربة قاسية ما زالت بصماتها واضحة المعالم على فلاحتنا، وتتمثل في تخصيص حوالي نصف مليون هكتار من أحسن الأراضي لغراسة الكروم المنتجة لعنب الخمور، مع العلم أن الجزائريين مسلمون ولا يستهلكون المشروبات الكحولية (9). وعلى حساب الحبوب أيضاً اهتم الكولون بالحوامض التي كانت تدر عليهم أضعاف أضعاف ما كانوا يجنونه من القمح والشعير (10). ولقد تطور منتوجها من سبعمائة ألف قنطار سنة 1931م إلى مليونين وسبعمائة وستة عشر ألف قنطار سنة 1950م (11) وأصبح بذلك يحتل المرتبة الثانية في قائمة الصادرات بعد الخمور التي كانت تنتج بمعدل 16 مليون هكتار سنوياً عندما اندلعت الثورة الجزائرية. ولصالح الكروم والحوامض قضي، في ضواحي معسكر، على زراعة الأرز (12) وكذلك الأمر في شمال شرقي الجزائر، حيث أهملت زراعة القمح وسائر أنواع الحبوب الغذائية والفول والعدس وغيرها. وإذا كانت مغارس الكروم والحوامض قد أنشئت على حساب زراعة القمح والشعير، فإن اقتصار المعمرين على استغلال المساحات التي وجدها عند الغزو، وعدم التفاتهم إلى الجنوب حيث تتكاثر المياه الجوفية، قد أديا، بسبب ارتفاع عدد السكان وبالتالي تزايد الحاجيات، إلى تحويل الجزائر من بلد مزدهر إلى مستعمرة لا يستفيد منها سوى الكولون الذين اجتمعت بين أيديهم حوالي

ثلاثة ملايين هكتار من أخصب الأراضي (13). وعلى هذا الأساس فإن سنة 1954، قد وجدت الفلاحة الجزائرية متقهقرة بالنسبة لما كانت عليه قبل الغزو: وإن تعسفات الاستعمار، وعمليات الاغتصاب التي قام بها، والتي تعرضت لها كافة أنحاء الوطن، وكذلك روح المستعمرين الانتهازية الاستغلالية، كل ذلك ترتب عنه إبعاد الفلاحين الجزائريين عن التسيير في مجال الزراعة، لتحويل معظمهم إلى آلات تسخر لخدمة المستغليين الأوربيين من جهة، ولتزويد الفلاحين الفرنسيين بما يحتاجون إليه لتحسين منتوجاتهم (14)، ولتنمية طاقاتهم الإنتاجية من جهة ثانية. وتجمع الإحصائيات بالنسبة للعشرية التي سبقت الثورة، أن الأراضي الصالحة للفلاحة، تبلغ مساحتها أحد عشر مليون هكتار: منها ثمانية بيد الجزائريين الذين يمثلون تسعة أعشار السكان، وثلاثة ملايين هكتار بيد حوالي خمسة وعشرين ألف مستعمر، لأن الباقي يحتكرون التجارة الخارجية والصناعة الهامة ويشغلون مناصب القيادة على اختلاف أنواعها في جميع الميادين. ولئن كان ممكناً الحديث بإسهاب عن الفلاحة الجزائرية قبل اندلاع الثورة، والإيفاء بذلك الحديث يتطلب عشرات المجلدات، خاصة إذا أردنا التعرض للتفاصيل، فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة للتجارة الخارجية والصناعة لأنهما تكادان تكونان وقفاً على المعمرين الذين يحتكرون كما ذكرنا، عمليات التصدير والتوريد، واستغلال المناجم على اختلاف أنواعها. فالصناعة (15)، قبل الاحتلال، كانت أكثر تقدماً وأحسن تنظيماً، تشهد بذلك مختلف المصادر التي تجمع أن الحرفيين، في الجزائر، كانوا يجمعون في نقابات حسب التخصص بحيث تجد النجارين في شارع، والحدادين في آخر، والشواشين (16) في ثالث، والصباغين في رابع، والدباغين في خامس، إلخ ... وكانت كل نقابة تسير من قبل أمين ينتخب بديمقراطية ويختار لما له من خبرة وحكمة وحسن سلوك، وللأمناء مجتمعين مكانة مرموقة لدى الحكومة المركزية، أما أمين الأمناء، فإنه يحضر الاجتماعات مع السلطات العليا، ويشارك، فعلياً، في اتخاذ القرارات، سواء منها الاقتصادية أو السياسية (17). وإلى جانب هذه الصناعة التقليدية، كانت الدولة الجزائرية تهتم كثيراً بمناجم المعادن المختلفة، وتولي رعاية خاصة لصناعتين كانتا أساسيتين في ذلك الحين، وهما صناعة الأسلحة والذخيرة الحربية، وصناعة السفن (18). وبعد الغزو، وبالتدريج، أهملت الصناعة في الجزائر، لتتخصص البلاد شأن جميع بلدان العالم الثالث، في تصدير المواد الأولية وقد نجحت السطات

الاستعمارية في مهمتها، إذ ما كادت الثورة تندلع حتى اختفت صناعتنا التقليدية، وصارت الجزائر تستورد كل شيء تقريباً، واختفت مصانع الأسلحة والبارود، وورشات البحرية الخاصة بصناعة السفن. وبالمقابل تضاعفت كميات المعادن المنجمية المستخرجة، والتي أصبحت سنة 1954، حوالي ستمائة ألف طن من الفوسفات، وثلاثة ملايين ونصف مليون طن من الحديد، وأربعمائة ألف طن من الفحم، إلخ ... (19). وبقدر ما أنهك الاستعمار صناعتنا، قبل أن يقضي عليها، فإنه خنق التجارة الخارجية التي كانت، هي الأخرى، مزدهرة قبل الغزو الفرنسي. قد يبدو أن قولنا هذا مجرد إدعاء، ولكن المصادر، على اختلاف لغاتها، تثبت بأن الجزائر، قبل الاحتلال كانت تقيم علاقات تجارية مكثفة مع افريقيا جنوب الصحراء، ومع البلاد العربية وأوربا الغربية خاصة (20)، وبأن تجارتها تلك كانت مخططة وتدر على البلاد أرباحاً كثيرة، تستثمر في سائر الميادين. ثم جاءت آفة الاستعمار، وما كادت تمر السنوات الأولى من الغزو حتى أصبح ميزان التجارة الخارجية الجزائرية خاسراً لأن كل عمليات التصدير والتوريد صارت مقصورة على فرنسا. وفي العشرية التي سبقت ثورة نوفمبر سنة 1954، لم يعد في استطاعة أي عاقل الحديث عن تجارة الجزائر الخارجية، بل كل ما هناك عمليات احتكارية تقوم بها كمشة من المستعمرين، يجمعون الأرباح لأنفسهم على حساب فرنسا والجزائر في آن واحد (21). وفي المجال الثقافي، فإن الثورة قد اندلعت عندما كان الاستعمار قد انتهى تقريباً من مهمته الأساسية، الخاصة بالمسخ والتشويه والتجهيل (22). ففي السنوات الأولى من الاحتلال وبالتوازي مع ما كان به من نهب للثروات الوطنية واستيلاء على الأراضي الخصبة الشاسعة، يوزعها على الكولون الجدد وعلى المؤسسات الاستعمارية المختلفة، راح يوظف كل ما لديه من قوة، ظاهرة أو باطنة، للقضاء على مصادر الثقافة الوطنية. فهدم كثيراً من المساجد (23)، وحول أعداداً كثيرة منها إلى كنائس أو ثكنات أومستوصفات (24) وحتى إلى ملاهي لأجناده وماخورات عمومية. وفي نفس السياق وجه ضربات قاسية للمثقفين الجزائريين فقتل من قتل ونفى من نفى وزج في السجون بمن شاء وظل يطارد ويضطهد كل من بقي طليقاً قصد منعه من القيام بواجبه نحو المجتمع وبذلك صارت الإحصائيات تشير قبل اندلاع ثورة نوفمبر إلى أن حوالي 19% فقط، من الجزائريين متعلمون، يدخل في هذه النسبة المئوية من

يحسن القراءة والكتابة سواء بالعربية أو بالفرنسية، وكانت جامعة الجزائر التي تعد، نظرياً، من أكبر جامعات فرنسا تجمع في مدرجاتها حوالي ستة آلاف طالب، لا يزيد عدد الجزائريين منهم عن خمسمائة طالب، معظمهم من أبناء الطبقات التي صنعها الاستعمار لخدمة مصالحه (25). ولكن ماذكرنا، أعلاه ليس هو وجهة نظر المؤرخين الغربيين الذين على غرار السيد هورن (26) يشيدون بما حققته فرنسا، في الجزائر، من منجزات تتمثل في: "شبكة الطرقات والسكك الحديدية والمطارات والمدن الكبرى والمواني، إلى جانب الغاز والكهرباء والمواصلات السلكية واللاسلكية والمنشآت الصحية والخدمات الطبية المتعددة" (27) والحقيقة، أن ذلك ليس مجرد ادعاء، لقد أنجزت فرنسا، ولا يمكن للمؤرخ النزيه أن ينكر ذلك، لكن كل الإنجازات كانت موجهة لخدمة مصالح الأوربيين. وحيث لا وجود للمستعمر، فإن تلك الإنجازات لم تصل ولم تتحقق. ففي مجال التعليم الابتدائي، مثلاً، نجد أن الأطفال الفرنسيين الذين هم في سن الدراسة كلهم يقبلون في المدارس التي تطبق البرامج السارية المفعول في "الوطن الأم"، وبواسطة معلمين أكفاء تعطى لهم كافة الوسائل الضرورية لأداء رسالتهم على أحسن وجه. أما الأطفال الجزائريون، فإن المصادر المتزمتة نفسها تذكر بأنهم عندما يبلغون سن الدراسة، لا يجدون سوى مقعد واحد لكل خمسة ذكور، ومقعد آخر لعدد يتراوح ما بين ست عشرة وست وسبعين فتاة (28)، معنى ذلك أن طفلين جزائريين فقط من جملة حوالي ثلاثين كان يمكن لهما أن يدخلا المدرسة في سنة 1954 (29)، الأمر الذي يسمح لنا أن نؤكد بأن حوالي 7% فقط من أبناء الجزائر كانت لهم فرصة التعليم، أضف إلى ذلك نسب الفشل والعجز عن مواصلة الدراسة نتيجة الفقر والاحتجاج خاصة. ولم تكتف السلطات الاستعمارية بسد أبواب التعليم الفرنسي في وجه الجزائريين، بل إنها بذلت كل ما في وسعها لمحاربة اللغة العربية سواء في المدارس أو في الكتاتيب (30). ولقد نجحت في ذلك إلى أقصى الحدود حتى إن الجزائر التي كانت قبل الاحتلال، توفر لكافة أبنائها جميع الشروط اللازمة للحصول على نصيبهم في العلم والمعرفة، قد أصبح شعبها أمياً بنسبة حوالي ثمانين بالمائة سنة اندلاع الثورة (31). وهكذا، فبقدر ما كانت الجالية الأوربية تستفيد من بناء المدارس ونشر المعرفة، كان الجزائريون يعانون من سياسة التجهيل التي نجح الاستعمار نجاحاً

باهراً في تطبيقها على سائر الفئات الاجتماعية. إن الإحصائيات الرسمية (23) تنص بكل بساطة على أن الجزائر كانت سنة 1944 تشتمل على 6.500 قسم مدرسي في الابتدائي نصيب المسلمين منها حوالي 1000 لاستقبال 108.000 تلميذ أي بمعدل 108مدرس للقسم الواحد. وفي المقابل فإن عدد التلاميذ الأوربيين قد بلغ بالنسبة لنفس السنة 118000 موزعة على 5.500 قسم أي بمعدل 22 مدرساً للقسم الواحد. أما في التعليم الثانوي، فإن عدد التلاميذ الجزائريين سنة 1951 لم يكن يمثل سوى 6و11% من مجموع المسجلين في الثانويات. وفي سنة 1954 بلغ عدد الثانويين الجزائريين 6.260 من جملة 35.000 تلميذ، علماً بأن عدد السكان الأوربيين كان في ذلك الوقت أقل من عشر العدد الإجمالي للسكان. وفي التعليم العالي، كان عدد الطلبة الجزائريين سنة 1948 لا يزيد عن 6 من بين حوالي600 أوربي. ومع اندلاع الثورة ارتفع ذلك العدد ليصل إلى 589 طالباً من بينهم 51 طالبة. أما الطلبة الأوربيون فقد كان عددهم 7800. إن هذه الاحصائيات لا تكون كاملة إلا إذا أضفنا لها عدد الأطفال الجزائريين الذين كانوا يتعلمون بالمدارس الحرة والكتاتيب والتي كانت تستقبل منهم سنة 1954 حوالي 200000 تلميذ. أما جامعات الزيتونة في تونس والقرويين في المغرب الأقصى والأزهر في مصر فإن عدد الطلبة الجزائريين بها في تلك السنة قد يكون وصل إلى 1270 رحلوا إليها من مختلف جهات الوطن (33). ويدعي بعض المحللين السياسيين (34) أن الانفجار الديمغرافي واستفحال الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في الجزائر، خاصة في الربع الثاني من القرن العشرين، هما اللذان كانا في أساس اندلاع ثورة نوفمبر سنة 1954. ويذهب أحدهم وهو السيد فريديريكس الذي يعتبره السيد أوبرمان (35) واحداً من كبار العارفين بقضايا شمال افريقيا إلى حد القول: "إن الوطنية هي بالنسبة للجماهير الجزائرية رد فعل شعب ينجب من الأطفال أكثر مما يستطيع بلده أن ينتج لهم من الغذاء (36). صحيح أن الجزائر عرفت في الفترة المذكورة، تطوراً ديمغرافياً خطيراً ومرت أزمات اقتصادية تسببت في مجاعة السكان الجزائريين مرات عديدة، لكن ذلك كله لا يشكل سوى عامل مساعد على توعية الجماهير الشعبية بالواقع الذي فرضه عليها الاستعمار. أما الوطنية كما نستخلصها من النصوص

الأساسية وفي مقدمتها بيان أول نوفمبر سنة 1954 فهي النضال بجميع الوسائل وبلا هواده من أجل هدم النظام الاستعماري واسترجاع السيادة الوطنية المغتصبة بواسطة تحرير الأرض وتحرير الإنسان بأتم ما في كلمة تحرير من معنى. أما إذا رجع الدارس إلى المسألة الاجتماعية والاقتصادية في الجزائر قبل سنة 1954 وأخضعها للبحث الموضوعي فإنه يكون مضطراً للتوقف عند مجموعة من الملاحظات أهمها ما يلي: أ - إن الإحصائيات الخاصة بعدد السكان الجزائريين غير قابلة للتوظيف رغم كل العمليات الرسمية التي قامت بها الإدارة الاستعمارية والتي كانت دائماً تتوج بنشر أرقام تدعي أنها تعبر بصدق عن الواقع الديمغرافي (37). ويرجع عدم قابليتها للتوظيف إلى كونها كانت تقريبية فقط بحكم عدم توفر الهياكل اللازمة لإجراء عمليات الإحصاء وبسب فقدان مصالح الحالة المدنية في كثير من أنحاء الجزائر في ذلك النصف الأول من القرن العشرين. ب - إن الحديث عن طبقة الشغيلة في الجزائر قبل ثورة نوفمبر 1954 في غير محله لأن أربعة أخماس اليد العاملة التي لها شغل دائم أو مؤقت مرتبطة بالأرض. أما عمال الصناعة والتجارة الذين يمثلون الخمس الباقي فأغلبيتهم من الأوربيين. وإذا أردنا الحديث عن العمال الجزائريين كقوة سياسية فينبغي التفتيش عنهم في فرنسا ذاتها حيث وصل عددهم سنة 1954 إلى حوالي 300 ألف أغلبيتهم في عز الشباب. ج - إن الحديث عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الجزائر لا يكون جدياً إلا إذا فصلنا بين مجتمعين متمايزين: المجتمع الأوربي الذي يمثل حوالي عشر السكان ويملك تسعة أعشار الإنتاج الإجمالي والمجتمع الجزائري الذي يمثل تسعة أعشار السكان ولا يملك سوى عشر الإنتاج الإجمالي، وعندما تؤخذ هذه الحقيقة في الاعتبار فإن كل الإحصائيات المقدمة من طرف السلطات الاستعمارية تصبح غير قابلة للتوظيف. د - إن الأرقام المتعلقة بالبطالة في الجزئر قبل سنة 1954م تحتاج إلى مراجع كلية. فمذكرات الدراسات الوثائقية رقم: 1963 (24. 12. 1954) تشير إلى أن الجزائريين البالغين سن الشغل كان عددهم 3.500.000سنة 1948م ومن بين هذا العدد هناك 2.800.000 يشتغلون في الزارعة

والغابات والصيد البحري والباقي موزع على قطاعي الصناعة والتجارة. معنى ذلك أن الجزائر لم تكن فيها بطالة وهذا غير صحيح وإلا فقدت الهجرة إلى فرنسا أحد مبرراتها الأساسية ولم يعد للمحللين السياسيين ما يركزون عليه ادعاءاتهم الآنفة الذكر. فالجزائر، فعلاً، كانت في نظر السلطات الاستعمارية قسمان: قسم الأوروبيين ويعتبرون رغم اختلاف أجناسهم، فرنسيين لهم وعليهم ما للمواطن في فرنسا. وما عليه ولهم، زيادة على ذلك، حق استغلال "الأهالي" واضطهادهم قانونياً. هؤلاء الأوربيون جاء أجدادهم إلى الجزائر بطرق مختلفة، فقلة منهم صاحبت عملية العدوان سنة 1830م كتجار وأصحاب مهن حرة ورهبان في خدمة الغزاة أو لتنصير الجزائريين. وبعد الاستحواذ على خزينة الدولة الجزائرية والاطلاع على خصوبة سهل المتيجة المحيط بالعاصمة شرع الجنرال كلوزيل في تسريح بعض الأجناد وتمكينهم من مزارع البايلك يستغلونها لحسابه في شكل شركة سميت: مزرعة إفريقيا التجريبية (38) وحذا حذو كلوزيل ضباط سامون آخرون حتى إن كل الساحل والمتيجة تحول إلى الأوربيين في ظرف عشر سنوات فقط (39). وتمركزت مجموعة الكولون الأولى التي وصل عددها حوالي خمسين ألف نسمة بالنسبة لتلك الفترة (40) وبعد إلحاق الجزائر بفرنسا وتناقلت وسائل الإعلام أخبار المستعمرة الجديدة وما تزخر به من ثروات، وبعد أن أعلن الجيش الاستعماري عن استعداده لاستقبال كل الراغبين في تجسيد فكرة الاستعمار الاستيطاني، بدأ الكولون يصلون من مختلف أنحاء أوربا حتى أن جاليتهم أصبحت تتكون من حوالي150.000 في ظرف عشرين سنة فقط (41). ثم راحت تتكاثر بنفس الوتيرة إلى أن قاربت المليون نسمة عشية اندلاع ثورة نوفمبر سنة 1954م وأصبحت تملك أخصب ما في الجزائر من أراضٍ صالحة للزراعة وتسيطر، فعلياً، على إدارة البلاد وصناعتها وتجارتها بجميع أنواعها. أما القسم الثاني فهم أبناء الوطن الذين تسميهم الإدارة الاستعمارية بأسماء متعددة غير الاسم الصحيح. فهم أحياناً: الأهالي الذين يحكمهم قانون تعسفي يسمى قانون الأهالي الذي يكاد يحرمهم من حق التنفس، وهم العرب في نظر الكولون، والمسلمون في نظر المؤرخين أمثال روبرت آجرون، وهم يمثلون عشرة أضعاف الجالية الأوربية لكنهم لا يملكون شيئاً بالمقارنة مع ما هو في حوزة الكولون وليس لهم حقوق المواطنة ولا يتمتعون بأي نوع من أنواع الحرية.

إن هذا القسم، في مأساته، يشتمل على فتئتين اجتماعيتين. تتشكل الأولى من العائلات المقربة من السلطات الاستعمارية نتيجة ما تقدمه لها من خدمات في مجال تسيير شؤون "الأهالي" وهي رغم ما تحظى به من امتيازات وما تملكه من متاع لا ترقى إلى مستوى أحط الأوربيين شأناً وأقلهم ثروة. ومن الناحية العددية، فإن هذه الفئة قليلة جداً حتى عندما تضم إليها من كانوا يسمون بالنخبة ولذلك، ولأنها غير متجانسة، فإنها لا تُكِّون طبقة مستقلة بذاتها، أما الفئة الاجتماعية الثانية فتتشكل من باقي السكان الذين يعيشون أوضاعاً متقاربة جداً ويتعرضون لنفس أنواع الاستغلال والاضطهاد والعسف. انطلاقاً من هذه الحقائق، نستطيع القول إن الحديث عن تطور الجزائر وما عرفته من انجازات اقتصادية واجتماعية وثقافية لا يكون صحيحاً إلا إذا ظل مقصوراً على الأوربيين فقط، وعلى سبيل المثال نتوقف عند القرار الذي سن المنح العائلية سنة 1941 وتضمن في مادته الأخيرة أن تطبيقه يمتد أيضاً إلى الجزائر. إن ذلك التمديد قد وقع بالفعل ولكنه لم يتعد الجالية الأوربية ولم يستفد منه، كما ينبغي، حتى أبناء الجزائريين المغتربين في فرنسا (42). وعندما نريد تقييم الإنسان الجزائري، تقييماً مطلقاً، فإننا نجد أن قيمته عشية اندلاع الثورة لم تكن أفضل من قيمة البهائم (43). فالإدارة الاستعمارية لا توليه أي اهتمام إلا عندما يتعلق الأمر بفرض مختلف أنواع الضرائب عليه. ونقول مختلف أنواع الضرائب لأن "الأهالي" في الجزائر، لم يكونوا يحكمون بقانون، بل أن حياتهم اليومية تسير وفقاً لمشيئة المستعمر الذي يخطط للمداخيل والمصاريف، والذي يوزع المهام ويخلق الأوضاع حسب إرادته وتماشياً مع مصالحه الخاصة. إن الشرطة، في المدن، والحراس والشواش، في الأرياف، وكذلك القواد والباشغوات كلهم يأتمرون بأوامر غلاة المعمرين الذين لهم اليد الطولى في التعيين والترقية والعزل، لأجل ذلك، كثيراً ما نرى فلاحاً جزائرياً يُغرَّم لأنه ركب حماره، أو وُجِدَ يأكل الخبز والعنب في الغابة، أو أن أخباراً أفادت بأنه ذبح خروفاً أو ديكاً دون رخصة خاصة (44). إن هذا التعسف، وعدم وجود السلطة المستقلة التي يحتكم إليها هما اللذان جعلا معظم أبناء الجزائر يفضلون العزلة والعيش على الهامش موكلين كل ما يتعلق بمصيرهم للقضاء والقدر، راضين بحياة البهائم المفروضة عليهم. وكانت المرأة، بالإضافة إلى ما يعاني منه الرجل، تخضع لظروف قاسية نتيجة التأويل الخاطئ لمبادئ الإسلام السمحة (45).

ولقد كانت وظيفتها تكاد تكون منحصرة في الطبخ والإنجاب، لذلك فإنها لم تكن في حاجة إلى العلم والمعرفة اللذين كان الرجل يعتبرهما معرة بالنسبة إليها، بل سُبَّة حتى بالنسبة للواحد منهم، إذ الرجل الحقيقي، في ذلك الحين، هو الفلاح والتاجر وكل من هو قادر على جلب قوته، وسد حاجيات عياله بواسطة عضلاته. أما "الطالب" أو المتعلم فيحترم حقاً، ولكنه يعيش دائماً في احتياج، وعالة على غيره (46). ومن الجزائريين، رغم كل شيء، من يوفر لبناته تعليماً قرآنياً وقلة قليلة جداً منهم من يرضى بإرسالهن إلى المدرسة الفرنسية. وسواء تعلمت الجزائرية في هذه أو في تلك من المدرستين، فإنها تلازم البيت، نزولاً عند رغبة العائلة ووفقاً لما تنص عليه عادات البلاد وتقاليدها (47). إن هذا التجهيل المخطط له، في الواقع، قد أدى إلى خلق مجتمع ساذج في أغلبيته، له نحو المستعمر شعور مزدوج بالإعجاب والكراهية: أما الإعجاب ففيما توصل إليه الأجنبي من معرفة، وما حققه من تقدم وازدهار، وما حاز عليه من ثروة ورفاهية وسيطرة على التقنيات العصرية، وأما الكراهية فناتجة عن الإحساس بكون ذلك الأجنبي يمتص خيرات البلاد، وينهب أهلها دون أن يجد من يقف له بالمرصاد، وما من شك أن هذا الشعور المزدوج هو الذي ساعد، مع مر الأيام، على ميلاد ثم تطوير وتدعيم الحركة الوطنية في الجزائر. ولكن الغريب في الأمر، أن المؤرخين الفرنسيين لم يعيروا الاهتمام لذلك الواقع الصارخ، وضربوا عرض الحائط بكل حقيقة يمكن أن تنقص من قيمة الأمة الفرنسية المتحضرة التي حملت نفسها، ظاهرياً، رسالة تمدين الجزائريين وإخراجهم من طور التوحش والهمجية. وفي ميدان النقل والمواصلات، فإن فرنسا لم تزد على كونها وسعت وعبدت بعض الطرقات الرابطة بين أهم مراكز الإنتاج والمدن الكبرى أو الموانئ، لتسهيل عمليات التصدير والتوريد، وإن كتب الرحالة ودراسات المؤرخين التي عالجت أوضاع الجزائر قبل الاحتلال كلها تثبت بأن الشبكة البرية الموجودة سنة 1954 لا تختلف كثيراً في أساسها عن الشبكة التي كانت الأيالة تتوفر عليها عندما بدأت عمليات الغزو الفرنسي (48). وإن الذين كانت لهم فرصة التجول، وزيارة مختلف مناطق البلاد، وكذلك المناضلين الذين كان إيمانهم بالوطن يدفعهم للتنقل، راجلين أو على متن حيوان إلى كل مكان تشتم فيه رائحة السكان، إن هؤلاء وأولئك ما زالوا يذكرون اليوم، بأن السيارة لم تكن قبل اندلاع الثورة بقليل، ذات فائدة كبرى في التوجه إلى

الأرياف وفي قطع أكثر المسافات الرابطة بين بعض المدن والقرى في داخل البلاد. هناك إنجاز واحد جديد في ميدان النقل ويتمثل في خط السكة الحديدية الذي بلغ طوله عشية اندلاع الثورة: 4500 كلم يربط أهم مدن الشمال بعضها ببعض (49). وبالنسبة للخدمات الطبية والمنشآت الصحية، أيضاً فإن السلطات الاستعمارية لم تهتم بها إلا في المراكز الآهلة بالمستعمرين. لذلك اندلعت ثورة نوفمبر سنة 1954 والأغلبية الساحقة من الجزائريين لا تعرف الطبيب أو المستشفى أو المستوصف، ولا تستعمل الأدوية، بل إن التداوي، في أريافنا، مع العلم أن معظم الأهالي في الأرياف وفي القرى، إنما كان يتم بالطرق التقليدية، مثل استعمال العشب باختلاف أنواعه وسائر الحبوب النشوية، واللجوء في كثير من الأحيان، إلى الرقيا والنار والتمائم. ولن أكون مغالياً إذا قلت: إن المواطنين الجزائريين صاروا، نتيجة ذلك، يؤمنون بتلك الطرق أكثر من إيمانهم بفعالية الطب الحديث. وإلى يومنا هذا، مازال هناك، وهم كثرة، ومن مختلف الفئات الاجتماعية، من يفضل زيارة قبر مهجور أو شجرة متآكلة، أو تعليقاً لتمائم على المثول أمام أشهر الأخصائيين في جميع مجالات الطب. وبإيجاز، فإن سنة 1954، عندما تطل على الجزائر سوف تجد الطليعة فيها مشمرة على سواعدها قصد التصدي للفتور الذي أصاب الأمة، ونفض الغبار الذي حجب الرؤية، والعمل من أجل إزالة التشويه ومحاربة التزييف والانحراف وسائر الأمراض التي نفثها المستعمر داخل مختلف فئات المجتمع. وبفضل مجهودات تلك الطليعة، صار الأطفال الجزائريون يستنكرون أن يكون أجدادهم الغال (50) ويفتخرون بانتسابهم للعروبة والإسلام، وصار الأهالي، في معظمهم، يدركون التمايز بينهم وبين المستعمرين وأبناء ما يسمى بالوطن الأم، وبعبارة أوضح، صار الوضع مناسباً والظروف ملائمة لإشعال فتيل الثورة التي سيكون لها الفضل في تقويض أركان الاستعمار الفرنسي. •• • الهوامش:

_ 1 - Tripier (philipe pe), Autopsie de la guerre d'Algèrie, paris 1972p: 23, La Terririguèe N offre que 100,000 km2, de surface arable,

هوامش

_ dont la portion la plus fèconde a ètè arrachèe par les colons europèens aux marais et aux maquis imptoductifs. 2 - قدم هذا التقرير إلى السلطات المختصة بتاريخ 19/ 08/1802، وقد أطلعنا على الأصل في دار المحفوظات بباريس ويحمل رقم: 304. 3 - شالر - لمحة تاريخية عن الدولة الجزائرية، تعريب وتحقيق العربي الزبيري ص108. 4 - وكذلك أجرون ص 481 حيث يؤكد أن السلطات الاستعمارية اغتصبت في ظرف ست سنوات (1928 - 1934) 1.055.500 هـ من أراضي الأعراش الجزائريين. 5 - ملكية الأرض، كانت قبل الاحتلال أربعة أنواع: أ - أملاك الدولة أو البايلك، ب - الأملاك المشاعة للقبيلة وهي ما يسمى بأرض العرش، ج - الأوقاف، د - الأملاك الخاصة وكانت قليلة جداً بالمقارنة مع الأنواع الأخرى. 6 - محمد العربي الزبيري، التجارة الخارجية للشرق الجزائري ص85. 7 - انظر خاصة الأمرية الصادرة بتاريخ: 22 جويلية 1834م. 8 - انظر خاصة جريدة الأخبار في عددها الصادر بتاريخ 7 أفريل 1930م. 9 - أوبرمان، ص53 المصدر السابق. 10 - مذكرات ودراسات وثائقية رقم: 1926 (22 - 12 - 1954)، وما بعدها، لقد ورد في تلك المذكرات أن المستعمر كان يجني 320.000 ف من هكتار الحوامض بينما لاتزيد فائدته على 1.5.000ف من هكتار الحبوب. 11 - المصدر السابق ص486. 12 - تذكر المصادر التاريخية أن أرز معكسر كان من أجود الأنواع في العالم، أنظر شالر، ص 169. 13 - مذكرات ودراسات وثائقية رقم: 1962، (22 - 12 - 1954) ص16 وما بعدها وكذلك أجرون، ص495 وأبرمان ص54. 14 - مذكرات ودراسات وثائقية رقم: 1963، (24 - 12 - 1954) ص17 وما بعدها. 15 - المصدر السابق أجرون ص495 وكذلك شالر، ص108. 16 - الشواشون هم صانعو الشواشي ومفردها شاشية وهي مقابل القلنصوة 17 - حمدان خوجة، المرأة تقديم وتعريب محمد العربي الزبيري، الجزائر 1972م ص 81 وما بعدها. 18 - المصدر نفسه وكذلك فيروشارل "النقابات الحرفية في قسنطينة قبل الاحتلال الفرنسي" (المجلة الإفريقية ج16 سنة 1872م، ص70 وما يليها). 19 - المصدر السابق، أبرمان ص55. 20 - محمد العربي الزبيري، المصدر السابق، التجارة الخارجية للشرق الجزائري قبيل الاحتلال، انظر الفصول الخاصة بموضوع العلاقات مع البلدان المذكورة، ص: 117وما بعدها. 21 - Schutze (G), Le Situation Dèmographique et Economique de I'Algèrie en 1953, Bulletin de Statistiques Gènèrales, trimestre de 1954 p: 175 et suivant 22 - لقد ابتدأ الاستعمار بضرب المثقفين ومصادر الثقافة، فسجن العديد من العلماء ونفى كثيرين منهم ثم هدم المساجد أو حولها إلى كنائس ومستوصفات واصطبلات، وانتهى قبل نهاية القرن إلى اعتبار العربية لغة أجنبية.

هوامش

_ 23 - يذكر نوشي اندريا في كتابه: "قسنطينة عشية الاحتلال" ص: 186 وما بعده أن قسنطينة وحدها كانت تشتمل على 42 مسجداً و 90 مدرسة ابتدائية يدرس بها 700 تلميذ في الثانوي و 1350 في المرحلة الابتدائية، وبعد قرن من الاحتلال صار عدد تلاميذ الثانوية في كامل أنحاء القطر الجزائري يبلغ 776 فقط أنظر في هذا الموضوع كذلك أمري مارسيل: "الوضع الثقافي والمعنوي في الجزائر سنة 1830" مجلة التاريخ الحديث والمعاصر، العدد الأول الصادر بتاريخ جوليت/ سبتمبر سنة 1954، ص 199 وما بعدها وأجرون، ج2 ص536. 24 - نوع من العيادات الطبية المخصصة للعلاج الخفيف. 25 - ميشال هابار، تاريخ نكث العهد، باريس 1960، ص 138 وكذلك قرار الولاية العامة الصادر بتاريخ 18 أكتوبر سنة 1892. 26 - السيد الستار هارون مؤرخ انكليزي له عشرة مؤلفات، آخرها تاريخ حرب الجزائر الذي نشره سنة 1977، ويشتمل على حوالي ستمائة صفحة. 27 - الستار هارون، تاريخ حرب الجزائر، لندن 1977، ترجم إلى الفرنسية ونشر بباريس سنة 1980 ص: 61. 28 - من المعلوم أن الفتاة في الجزائر، لم يكن يسمح لها بالخروج سافرة ولا بالذهاب إلى المدرسة. 29 - هذه هي الإحصائيات التي جاءت في التقرير الأدبي الذي صادق عليه سنة 1963، مؤتمر الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين المنعقد بنادي الصنوبر في ضواحي الجزائر العاصمة. 30 - المصدر السابق، ميشال هاربار، تاريخ نكث العهد، ص 138. 31 - آجرون، تاريخ الجزائر المعاصر، ج2 ص534 وما بعدها. 32 - مذكرات ودراسات وثائقية رقم 1963 (24 - 12 - 1954) ص11. 33 - نفس المصدر 34 - نذكر على سبيل المثال Blanchard (I) Le problème Algèrien, paris 1955, p:54 et suivantes - Aron (raymond), La tragedie Algèrienne, paris plon, 1957, p. 40 et suivantes. - philpe (Andrè), Le socialisme trahi, paris 1957, p 166. 35 - أوبرمان، ص 41. 36 - Frederix (P), Le nationalisme Algèrien, le monde du 05. 04. 1952. 37 - رسمياً فإن الإدارة الإستعمارية قد أحصت سكان الجزائر تسع مرات في الفترة ما بين 1901و 1953 كما يظهر ذلك من خلال مذكرات ودراسات وثائقية رقم: 1962 (24 - 12 - 1954) التي نستخرج منها الجدول التالي: السنة ... السكان المسلمين ... السكان غير المسلمين ... سكان آخرون ... المجموع 1901 ... 4089150 ... 633850 ... 16331 ... 4739331 1906 ... 4447788 ... 680263 ... 73799 ... 5231850 1911 ... 4740526 ... 752043 ... 71259 ... 5563828

هوامش

_ السنة ... السكان المسلمين ... السكان غير المسلمين ... سكان آخرون ... المجموع 1921 ... 4923186 ... 791370 ... 89719 ... 5804275 1926 ... 5150756 ... 833359 ... 82265 ... 6066380 1931 ... 5588314 ... 861584 ... 83553 ... 6553451 1936 ... 6201144 ... 946013 ... 87527 ... 72346 1948 ... 7679078 ... 922272 ... 80435 ... 8681785 1953 ... 823200 ... 1019000 ... / ... 9251000 38 - جليان، تاريخ الجزائر المعاصرة ص 76 وما بعدها. 39 - Berthezene (Le Baron pierre), dix huit mois à Alger ou recit des èvenements qui su sont passès de puis le 14 juin 1830 jusqua la fin de decembre 1831, Montpellier 1834, p. 65, BNA 52285. ويذكر الجنرال أنه راسل وزير الدفاع الفرنسي المارشال سولت في الموضوع وأخبره أن كلوزيل اغتصب أملاك ورثة حسن باشا وبابا علي وواعلي عدة لفائدته الخاصة. 40 - مذكرات ودراسات وثائقية رقم: 1963 (24 - 12 - 1954) 41 - نفس المصدر. 42 - أبرومان، ص57. 43 - نتيجة التجهيل والتفقير وتطبيق قانون الإنديجينا 44 - هذه ممارسات يعرفها جميع الجزائريين ولم تختف إلا مع اندلاع ثورة نوفمبر 45 - لقد كانت المرأة مستغلة أبشع الاستغلال ومحقرة إلى درجة أن الرجل كان يقول "المرأة حاشاك" "أو عفاك اللَّه" أو" أكرمك الله" 46 - هناك مثل شعبي يقول: "شوف لبنتك طالب حتى تجد لها راجل". 47 - يقولون في مدن الجزائر خاصة: إن المرأة كنز وككل الكنوز يجب سترها والمحافظة عليها. 48 - لمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع يمكن الرجوع إلى فانتور دي بارادي: "الجزائر في القرن الثامن عشر" المجلة الإفريقية رقم2 الفصل الرابع من سنة 1895، ص 286، وكذلك الأرشيف الوطني بباريس، الملف رقم ف1970280، اللجنة الإفريقية، التقرير رقم 2، ص10 والملف رقم أو ب 3304، تقرير السيد تادنة، ص12. 49 - مذكرات ودراسات وثائقية رقم 1962 (22 - 12 - 1954) ص35 وما بعدها. 50 - إن كتب التاريخ المقررة في المدارس الابتدائية تؤكد على أن بلاد الغال هي بلاد أجدادنا وأن الجزائر أرض فرنسية لا يمكن أن تكون غير ذلك. ••••

الفصل الثاني: الحركة الوطنية الجزائرية في مرحلة النضج

الفصل الثاني: الحركة الوطنية الجزائرية في مرحلة النضج

الحدث التاريخي يلد الحدث التاريخي، ولا يمكن للدارس الجاد أن يحيط بأي حدث تاريخي مالم يهتد إلى الحدث أو الأحداث التي كانت في أساسه والتي انطلقت منها بوادره. إن الحدث التاريخي المعزول عن غيره لا وجود له في تاريخ الإنسانية جمعاء. ومن هذا المنطلق سوف نحاول من خلال هذه الدراسة، إيجاد الخيط الرابط بين مختلف المحطات التاريخية التي ساعدت على تطوير الحركة الوطنية الجزائرية خاصة في الأربعينات من هذا القرن، ومباشرة قبل اندلاع ثورة الفاتح من نوفمبر سنة 1954. إن أبرز حدث تاريخي يجب الرجوع إليه لفهم هذه الفترة وما عرفته من تحركات سياسية إنما يتمثل في إنزال الحلفاء قواتهم على الساحل الجزائري ابتداء من الثامن من نوفمبر سنة اثنتين وأربعين وتسعمائة وألف. إن ذلك الحدث قد حتم على قادة الساحة السياسية الوطنية الجزائرية الإسراع في التلاقي من أجل التشاور حول ما ينبغي القيام به لحماية الشعب الجزائري وتمكينه من تقرير مصيره بنفسه واسترجاع سيادته التي كانت قد اغتصبت سنة 1830. وعلى الرغم من الظروف الصعبة التي أوجدتها الحرب الإمبريالية الثانية (1) التي لم يكن من شأنها المساعدة على تسهيل الاتصالات بين أولئك القادة الذين كان منهم من يعيش في الإقامة الجبرية (2) ومنهم من كان متخفياً ويعيش حياة سرية (3) في حين كان بعضهم يتحايل للبقاء طليقاً (4) ليكون همزة الوصل التي لا بد منها لتبادل الأراء والأفكار ولمحاولة إيجاد الأرضية الملائمة لتوحيد الجهود النضالية وتقريب وجهات النظر حول كيفية التصدي للغزو الأجنبي بجميع أنواعه؛ على الرغم من تلك الظروف الاستثنائية، وفي واقع الأمر، فإن الطاقات الفكرية الوطنية قد وجدت طريقها إلى صياغة ما سوف يصطلح على تعريفه ببيان الشعب الجزائري الذي، رغم توقيعه فقط من طرف مجموعة من المنتخبين الجزائريين، فقد كان تعبيراً عاماً عن كثير من المواقف السياسية والإيديولوجية والفكرية التي كانت حتى ذلك التاريخ حكراً على مناضلي الحركة المصالية في الجزائر. لقد جاء البيان تقييماً موضوعياً لمختلف المراحل التي قطعها الاستعمار الفرنسي في الجزائر والتي جعلت غلاة الغزاة يقولون "لقد سيطرنا على البلاد بالقوة، لأن الاحتلال لا يكون إلا كذلك، وهو يستلزم غالبين ومغلوبين، وعندما

تم ترويض هؤلاء الأخرين تمكنا من تنظيم البلاد بالكيفية التي تشهد بتفوق الغالب لا المغلوب، والمتحضر على الرجل الأدنى، إننا نحن المالكون الشرعيون للبلاد) مجلة إفريقيا اللاتينية الصادرة بتاريخ مايو (أيار) 1922. وبعد تقييم مراحل الاستعمار، توقف البيان عند أهم المقاومات الشعبية وما ترتب عنها من تصميم وعزم في صفوف الجزائريين ومن إفقار وتهميش لهم بسبب اغتصاب أراضيهم وانتزاع سائر ممتلكاتهم قبل إخضاعهم لقوانين الاضطهاد والاستبداد (6) التي يعتبر قانون الأنديجينا واحداً من أفضلها وأكثرها رحمة. ولم ينس البيان مجموعة مشاريع الإصلاح والوعود الرامية إلى تمكين الجزائري من أسباب الرقي والتقدم، بدءاً من اقتراح المارشال بيجو الموجه لحكومته سنة 1844 والقائل: "إننا أبدينا قوتنا وعظمتنا للقبائل الإفريقية، وأصبح علينا الآن، أن نظهر لها طيبتنا وعدلنا"، ومروراً باقتراح ميشلان وقوتي Michelin et Gautier سنة 1887 حول إمكانية منح صفة المواطنة الفرنسية لمسلمي الجزائر، ومشاريع مارتينو Martineau سنة 1890 وجان جوريس سنة 1898 وكليما نسوسنة 1915، وانتهاء بمشروع فيوليت Violette الذي يعطي حق المواطنة الفرنسية لحوالي ثلاثين ألف جزائري. وبعد التأكيد على أن كل تلك المشاريع وتلك الوعود لم تجد طريقها إلى التنفيذ وظلت حبرا على ورق بسبب تعنت الكولون الذين كانوا يتعاملون مع القضية الجزائرية على أساس عرقي قومي وديني، خلص البيان إلى القول: "لقد فات الآوان الذي كان المسلم الجزائري يطلب فيه أن يكون شيئاً آخر غير جزائري مسلم، وبعد إلغاء مرسوم كريمو Grèmieux خاصة، فإن الجنسية والمواطنة الجزائرييين قد أصبحتا ملاذه الأفضل باعتبارهما تتضمنان الحل الأكثر وضوحاً ومنطقية لمسألة تطوره وتحرره". إنطلاقاً من كل ما تقدم وتماشياً مع الواقع الجديد الذي أوجده ذلك البيان الذي أصدره الرئيس روزفلت Roosevelt باسم الحلفاء والذي يضمن احترام حقوق كافة الشعوب الصغيرة والكبيرة، فإن بيان الشعب الجزائري قد حدد الأهداف الأساسية في خمس نقاط هي: 1 - إدانة الاستعمار وإلغائه؛ ومعنى الاستعمار هو إلحاق واستغلال شعب من طرف شعب آخر، وهو شكل جماعي للاستبداد الذي كان يمارس على الأفراد في العصور الوسطى، وعلاوة على ذلك، فهو واحد من الأسباب الرئيسية للتنافس والتطاحن بين الدول العظمى.

2 - تطبيق جميع البلدان الصغيرة والكبيرة لحق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها. 3 - تزويد الجزائر بدستور خاص بها يضمن: أ - الحرية والمساواة المطلقة بين سائر سكانها دون أي تمييز عنصري أو ديني. ب - إلغاء الملكية الاقطاعية وذلك بواسطة إصلاح زراعي واسع وتمكين أغلبية الفلاحين المعدمين من حقهم في العيش الرغيد. ج - الاعتراف باللغة العربية لغة رسمية على غرار اللغة الفرنسية. د - حرية الصحافة وحق إنشاء الجمعيات. هـ - مجانية التعليم وإجباريته لجميع الأطفال من الجنسين. و- حرية التدين بالنسبة لجميع السكان وتطبيق مبدأ فصل الدين عن الدولة فيما يخص جميع الأديان. 4 - مساهمة جميع الجزائريين المسلمين مساهمة فورية وفاعلة في تسيير بلادهم اقتداء بما فعلته حكومة الجلالة البريطانية والجنرال كاترو Catroux في سوريا، وحكومة المارشال بيتان pètain والألمان في تونس. إن هذه الحكومة الجزائرية وحدها هي التي تستطيع تحقيق اشتراك الشعب الجزائري في الكفاح المشترك وذلك في جو من الوحدة المطلقة. 5 - إطلاق سراح جميع المحكوم عليهم والمعتقلين السياسيين على اختلاف أحزابهم. إن هذا البيان، في الظاهر، من وضع السيد فرحات عباس الذي يجمع المؤرخون الغربيون خاصة، أنه هو الذي أقنع المنتخبين بمعقولية ما ورد فيه من آراء وأفكار، ثم جعلهم يتحملون مسؤولياتهم في التوقيع عليه وفي تقديمه إلى الحلفاء وإلى ممثل السلطات الاستعمارية في الجزائر. لكن قراءة فاحصة ومتأنية تقودنا حتماً إلى ضبط المواطن المعبرة عن تأثير سائر التشكيلات الوطنية وإلى كشف بصمات أمثال الدكتور محمد الأمين دباغين وحسين عسلة اللذين شاركا مشاركة فعلية في الصياغة كي تكون مقبولة من طرف القواعد المناضلة في صفوف الحركة المصالية ومن طرف المعتدلين في باقي التشكيلات السياسية والاجتماعية العاملة بالجزائر. وعندما يتوقف القارئ عند سائر الأفكار الرئيسية التي تضمنها البيان فإنه

لا يجد بداً من الاعتراف بأنها في معظمها، مستوحاة من البرنامج السياسي الذي وضعه نجم شمال إفريقيا سنة 1933، لأن السيد فرحات عباس لم يكن متعوداً على مجموعة المفاهيم والمصطلحات التي بني البيان على أساسها والتي كان مناضلو حزب الشعب الجزائري يحملون وحدهم لواء نشرها في أوساط الجماهير الشعبية والعمل على جعل هذه الأخيرة تتبناها عن وعي وتتجند قصد الإسهام في إدخالها حيز التنفيذ، ونذكر من جملة تلك المفاهيم والمصطلحات، "البرلمان الوطني الجزائري المنتخب بواسطة الاقتراع العام" و "إلغاء الملكية الاقطاعية بواسطة الإصلاح الزراعي الواسع" ومجانية التعليم وإجباريته بالنسبة لأبناء الجزائر"و "المواطنة والجنسية الجزائريتان". ومهما يكن من أمر، فإن البيان قد شكل، في وقته، همزة وصل ثابتة بين طموحات مختلف التيارات السياسية الوطنية في الجزائر وكان كما قال السيد أحمد بومنجل: "تعبيراً عن مصالحة أملتها التجربة والظروف "أما السلطات الاستعمارية، في الجزائر وفرنسا على حد سواء، فإنها قد ارتاعت للحدث وساءها خاصة أن يكون كل الموقعين من غير المعروفين بميولهم الوطنية، بل كان جميعهم من المنتخبين الذين اشتهروا بموالاتهم لفرنسا وحبهم لها وإذا كان السيد بايورتون peyourthon قد استقبل السيد فرحات عباس وأبدى له استعدادات فرنسا المبدئية للتعامل مع البيان حيث التمس إجراء بعض التعديلات التي من شأنها صيانة الشرف الفرنسي، فإن الجنرال كاترو Catroux قد أدار الظهر لموقف سلفه، وعندما زاره السيدان عباس وطمزالي يوم 11/ 06/1943 قصد تسليمه ملحق البيان الذي وقعت صياغته استجابة لرغبة الوالي العام السابق، أعلن لهما عن رفضه للوثيقتين مدعياً أن متطلبات الحرب تقتضي السكوت عن المطالب أي كان نوعها. إن كاترو، الاشتراكي المذهب (7)، لم يتمكن من تجاوز عواطفه الوطنية للاعتراف بحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره، بل إنه فضل نكث عهد الحاكم العام المستقيل وراح يضاعف المساعي الرامية إلى إيجاد الشروط اللازمة لتمكين بعض آلاف الجزائريين من المواطنة الفرنسية ولمحاربة بعض أنواع العسف والاستبداد المسلطة على أبناء المستعمرة. لكن فرحات عباس لم ينخدع لتلك الإجراءات الصبيانية، واستطاع تعبئة الأغلبية الساحقة من المنتخبين الجزائريين الذين رفضوا معه المشاركة في اجتماعات المندوبيات المالية ثم وجهوا نداء إلى الجنرالين ديغول وكاترو ويؤكدون، من خلاله، التزامهم المطلق بما ورد في البيان وفي ملحقه.

وكان رد فعل الجنرال كاتروا عنيفاً، لجأ إليه من أجل الضغط على المنتخبين الذين كان يعرف أن عدداً ممن وقع منهم مع عباس لم يفعلوا ذلك عن قناعة ولكنهم تبعوا الحركة آلياً حتى لا يقال، مستقبلاً، إنهم تخلفوا. وتمثل رد الفعل ذاك في الإعلان يوم 23/ 09/1943 عن حل الفرعين الجزائريين للمندوبيات المالية وفي فرض الإقامة الجبرية على السيدين فرحات عباس وعبد القادر سائح متهماً إياهما بتحريض المنتخبين على العصيان في وقت الحرب. وكجواب على هذه الاجراءات التعسفية، نظم حزب الشعب الجزائري، المحلول رسمياً، مظاهرات شعبية في مدن الجزائر وبسكرة وسكيكدة وقسنطينة رفعت فيها اللافتات المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وفي مقدمتهم مصالي وعباس وسائح، لكن مدير الشؤون الإسلامية في الولايات العامة (8)، استطاع بمساعدة الدكتور طمزالي أن يقنع المنتخبين بالتراجع عن توقيعاتهم. ففي الخامس عشر من شهر أكتوبر استقبل الجنرال كاترو مجموعة من المندوبين الماليين مكونة من اثني عشر شخصاً، وفي اليوم الموالي أصدرت اللجنة الفرنسية للتحرير الوطني بياناً جاء فيه أن اللقاء حضره إلى جانب الجنرال كل من السيدين قونون Gonon الأمين العام للولاية العامة وأوغستين بارك مدير الشؤون الإسلامية، وناب عن مجموعة المندوبين الرئيس عبد النور طمزالي فوضح أن زملاءه يتأسفون عما حدث يوم 22/ 09/1943 ويؤكدون رغبتهم في أن تتم الإصلاحات بسرعة وفي إطار الشرعية والاستقرار داخل المجموعة الفرنسية ووفقاً لمثل فرنسا الديمقراطية، كما أنهم يعربون بكل صدق عن وطنيتهم ووفائهم لفرنسا التي يتمنون لها تحريراً عاجلاً وكاملاً، وللجنة التحرير الوطني وللجنرال كاترو، فإنهم يعلنون عن ولائهم الشديد وإراداتهم في المساهمة في مجهود الحرب من أجل تحرير الوطن وانتصار الديمقراطيات (9). وعلى إثر هذا التراجع المزري والمخطط له في آن واحد، أعلن الجنرال كاترو بتاريخ 30/ 10/1943 أنه سيسمح للمندوبيات المالية باستئناف نشاطها لكنه لم يفرج عن السيدين عباس وسائح إلا في يوم 02/ 12/1943. هكذا، جعل كاترو قرار الإرجاع مربوطاً بإعلان المندوبين عن توبتهم والتزامهم بعدم الخروج عن الصف ثانية، لكن الحقيقة لم تكن كذلك، فالمظاهرات الشعبية المشار إليها أعلاه مضافة إلى ريح التحرر التي بدأت تجتاح مختلف العالم المتخلف قد شكلت نوعاً من الضغط على لجنة التحرير الوطني التي أعلنت، بواسطة خطاب ألقاه ديغول في قسنطينة يوم 02/ 1943، أنها تمنح، حيناً، حقوق

المواطنة الفرنسية كاملة لعدة عشرات الآلاف من المسلمين الفرنسيين في الجزائر .. وفي نفس الوقت سوف ترتفع نسبة المسلمين الفرنسيين في الجزائر داخل سائر الجمعيات التي تنظر في القضايا المحلية" (10) وإذا كان عدد من المنتخبين وممن يسمون بالنخبة قد ابتهج لخطاب قسنطينة واعتبره بداية طيبة في طريق الإصلاحات المطلوبة والمنتظرة منذ عقود بأكملها، فإن فرحات عباس والعلماء والمصاليين قد رأوا في ذلك طبعة جديدة لمشروع فيولات، وراحوا يؤكدون من جديد أن الحل الوحيد يكمن فقط في إعادة إقامة الدولة الجزائرية المستقلة وما يصحب ذلك من برلمان ومواطنة وألوان وطنية. وتطبيقاً لما جاء في خطاب الجنرال ديغول، أصدرت اللجنة الفرنسية للتحرير الوطني يوم 14/ 12/ 1943 (11) قراراً، كلفت بموجبه المندوب السامي الجنرال كاترو بتشكيل لجنة تسند لها مهمة وضع برنامج للإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لفائدة المسلمين الفرنسيين. ولقد تكونت اللجنة المذكورة بالفعل (12) وشرعت في عملها يوم 21/ 12/ 1943 ولم تتوقف عن سماع آراء الزعماء السياسيين والأعيان الجزائريين إلا يوم 08/ 07/ 1944، ثم جمعت كل محاضرها في مجلدين يمكن الرجوع إليهما اليوم في أرشيف آكس آن بروفانس Aix En Provence. إن المطلع على ما تضمنته تلك المحاضر يستطيع تصنيفها إلى ثلاثة أنواع هي: 1 - إدلاءات الأوربيين الذين كانوا جميعهم رافضين لتوحيد هيئة المنتخبين لكنهم غير متفقين فيما يخص منح المواطنة الفرنسية للمسلمين الجزائريين. ومن بين أولئك الأوربيين تجدر الإشارة إلى رئيس فيدرالية رؤساء البلديات السيد عبو (Abbo) وعامل عمالة وهران السيد باتيستيني Battistini ورئيس بلدية تلم السيد فالور (Valleur) وقد أشار كلهم على اللجنة بعدم تجاوز خمسين ألف مواطن جديد، ويبدو أن أمرية الجنرال ديغول قد أخذت ذلك في الاعتبار. 2 - إدلاءات الجزائريين الموالين لفرنسا والمدافعين عن حق المواطنة الفرنسية دون التخلي عن الإطار الإسلامي للأحوال الشخصية. ومن بين هؤلاء، تجدر الإشارة إلى السادة: شيخ العرب ابن قانة والشيخ ابن تكوك شيخ الزاوية السنوسية، والشيخ الساحلي أمقران الناطق باسم أعيان منطقة القبائل والآغا سليمان رئيس الفرع العربي للمندوبييات المالية، وكذلك الدكاترة عبد السلام طالب وابن جلول وخضري وعبد

النور طمزالي وروني فضيل والشيخ الطيب العقبي وعمار أوزقان الأمين الوطني للحزب الشيوعي الجزائري. 3 - إدلاءات الوطنيين وقد جاءت ضمن ثلاث وثائق هي حسب ترتيبها الزمني: أ - تصريح السيدين فرحات عباس وعبد القادر سائح جاء في هذا التصريح أن مبادرة اللجنة الفرنسية للتحرير الوطني، المعلن عنها بواسطة رئيسها الجنرال ديغول، ليست إلا إعادة لمشروع فيولات الذي أدت معارضته، في الجزائر وفي فرنسا، إلى إقصائه نهائياً، مع العلم أن الأوضاع اليوم قد تغيرت عما كانت عليه سنة 1937. فالأمر لم يعد يتعلق بتوسيع امتيازات طبقة إلى واحدة أو أكثر من فئات الأهالي، وإنما أصبح الهدف هو إلغاء تلك الامتيازات وهدم كل دكتاتورية في الجزائر. لأجل ذلك، فإن الإصلاحات التي يمكن أن تكون في مستوى فرنسا الجديدة يجب أن تتم في إطار المبدأين التاليين: المبدأ الأول: إن الناس يولدون ويعيشون أحراراً وسواسية في الحقوق. المبدأ الثاني: كل شعب حر في تقرير مصيره بنفسه. وبعد التعرض من جديد إلى محتوى بيان الشعب الجزائري، أكد السيدان عباس وسائح أن الاستقلال الداخلي الذي ينبغي أن يحل محل النظام الاستعماري المتوحش يشكل قاعدة التجديد بالنسبة لفرنسا وللجزائر، وعليه يتوقف ميلاد نظام جديد. فالاستقلال الداخلي يضبط العلاقات بين فرنسا والجزائر منطقياً وعقلانياً بحيث تكون علاقات شعب بشعب. إنه يترك لفرنسا حق النظر في عملية تطوير الجزائر. إنه يضع حداً للغموض وللتحليلات التي يلجأ إليها النظام الاستعماري لتأييد سيطرته. إنه يقضي على مصادر الخلاف حول ممارسة المواطنة في الجزائر واحترام العادات والديانة الإسلامية، كما أنه يحول دون مخاطر مغامرة مثل تلك التي يعيشها يهود الجزائر بعد إلغاء مرسوم كريميو (13) Dècret Crèmieux الذي يحترم مبدأ اللامركزية الذي هو مصدر حياة أو موت بالنسبة للجزائر ولغيرها من البلدان، وذلك لأن الاستقلال الداخلي يبقي المجالس الجزائرية ويجعلها ديمقراطية، ويحول الولاية العامة إلى حكومة جزائرية.

إنه يعطي إمكانية تكوين فدرالية شمال إفريقيا مع تونس والمغرب، تحت إشراف فرنسا. إنه يرضي كل السكان المسلمين الذين عندما يستشارون بواسطة الاستفتاء، سوف يوافقون عليه بالإجماع. ب - شهادة الشيخ البشير الإبراهيمي. في اليوم الثالث من شهر كانون الثاني سنة 1944 وهو نفس اليوم الذي سلم فيه عباس وسائح تصريحهما تقدم الشيخ البشير الإبراهيمي إلى أعضاء اللجنة وعبر لهم، أصالة عن نفسه ونيابة عن العلماء الجزائريين، عن رفض مشروع الإصلاح المقدم من قبل اللجنة الفرنسية للتحرير الوطني والذي هو فقط محاولة لإحياء مشروع فيولات الذي كانت جمعية العلماء قد وافقت عليه، في حينه، لكن "من الناحية التكتيكية وللتمكن من الوصول إلى ما هو أفضل". وقبل الاستئذان بالخروج سلم الشيخ البشير الإبراهيمي لمكتب اللجنة مذكرة مطولة عالج، من خلالها، نقاطاً ثلاثاً هي صلب برنامج عمل الجمعية التي يرأسها وجاء يتحدث باسمها. ولقد حرص الشيخ، في مقدمة المذكرة، على تأكيد دور الجمعية الإصلاحية الديني مبيناً أن هذا الدور لن يكتمل إلا في جو من إصلاح التعليم والإصلاح السياسي لأجل ذلك، وعلى الرغم من كون العلماء لم يسطروا برنامجاً سياسياً خاصاً بهم، فإنهم لم يخفوا قناعاتهم بخصائص الشعب الجزائري الذي لا تربطه بفرنسا سوى مجموعة من المصالح. وهم إذ يعتبرون أن "الإصلاحات الإسلامية" كل لا يتجزأ وينبغي أن تشمل كافة المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية، فإنهم يركزون في مرحلة أولى، على ضرورة الإسراع بإصلاح القضاء الإسلامي والمساجد والأوقاف والتعليم العربي. فبالنسبة للقضاء الإسلامي، ترى مذكرة الشيخ الإبراهيمي أنه في وضع يرثى له من الناحيتين النظرية والعملية، وأن تصريحات الجنرال ديغول فيما يخص الإبقاء على الأحوال الشخصية لا معنى لها، لأن الموضوع أفرغ من محتواه الحقيقي ولم تترك الإدارة الاستعمارية للقاضي المسلم سوى النظر في مسألتي الزواج والطلاق اللتين يمكن للقضاء الاستعماري التدخل فيهما على مستوى الاستئناف. ومن الناحية النظرية، فإن تكوين القضاة مدعاة للتأسف الشديد حيث لا يشتمل "على تعليم الشريعة الإسلامية التي هي أساس القضاء في الإسلام" وهو يفتقر إلى المنهجية السليمة التي من شأنها أن تجعل الطالب قادراً على تأدية

الأغراض المسطورة له، وحائزاً على الكفاءة اللازمة والضرورية للقيام بوظيفة القاضي. وعندما يحصل كل ذلك بواسطة تطوير برامج التعليم وحسن اختيار الأساتذة المقتدرين، فإن الشيخ البشير الإبراهيمي يرى من الضروري تشكيل هيأة يرجع إليها في اختيار القضاة وتعطى لها سلطة مراقبة أحكامهم. وفيما يخص التعليم العربي الحر، فإن الشعب الجزائري ما فتئ يحتج على إجراءات الاضطهاد المسلطة على لغته التي تصله بدينه وتاريخه وثقافته، علماً بأن تعليمها في المدارس الحكومية يكاد يكون بدون معنى وتعليمها في المدارس الحرة معرض للقمع الإداري. فعلى هذا الأساس يجب أن تخصص الإصلاحات مكانة مرموقة للتعليم العربي بحيث "تعطى الحرية المطلقة للشعب الجزائري المسلم لكي يعلم أبناءه لغة الدين والثقافة .. علماً بأن الحكومة الفرنسية لن تتحمل أي مصروف في الموضوع، لأن المسلمين مستعدون للتبرع بالأموال اللازمة لذلك" (14). وعن المساجد وأوقافها والعاملين بها، فإن مذكرة الشيخ البشير الإبراهيمي تتوقف عند ممارسات الولاية العامة التي تحتكر تسيير المساجد وتعيين أئمتها ومؤذنيها والإشراف المطلق على أوقافها والتي تسعى بجميع الوسائل لمنع تطبيق القانون الخاص بفصل الدين عن الحكومة طبقاً لمرسوم السابع من سبتمبر سنة سبع وتسعمائة وألف، ليس حباً في الإسلام وعملاً على رعايته كما تزعم الإدارة الاستعمارية، ولكن عملاً على منع المسجد من تأدية الدور الحقيقي الذي وجد من أجله وتهميش الإسلام بعد تزييفه وتحريفه وإغراقه في متاهات الخرافة والشعوذة. من هذا المنطلق، فإن الإصلاحات يجب أن تمكن الشعب المسلم في الجزائر من تولي تسيير مساجده وأوقافه بنفسه "لأنه هو الوحيد المؤهل لذلك، ولأن ذلك يتوقف فقط على السماح له بتشكيل لجنة دينية من الأشخاص الذين يثق في عملهم وسلوكهم تتولى الإشراف على الممتلكات وكذلك اختيار الأئمة والمؤذنين" (15). إن ممثلي جميع اللجان الدينية التي تكون قد تشكلت بعيداً عن نفوذ الإدارة الاستعمارية يجتمعون في العاصمة، دورياً، تحت إشراف هيأة عليا يختارونها بأنفسهم، للنظر في جميع القضايا الدينية وبحث كل ما يستعسر من شؤونها مع ممثلي الحكومة الفرنسية. وفيما يتعلق بالإصلاحات السياسية أشارت المذكرة إلى أن "الإعلان الرسمي عن منح المواطنة الفرنسية لبضع عشرات الآلاف من المسلمين

الجزائريين دون الاستشارة المسبقة للشعب المعني مباشرة، قد أعاد إلى الأذهان ذكرى مشروع فيولات الذي ذهب ادراج الرياح لأنه لم يكن صالحاً .. إن الشعب الجزائري المسلم يعتبر أن مثل هذا المسعى يقود إلى الاندماج الذي يرفضه كما يرفض بشدة استبدال هويته وشخصيته الإسلامية" (16). وإذا كانت فرنسا ترغب، فعلاً، في إجراء الإصلاحات السياسية فإن عليها أن تأخذ في الاعتبار مصلحة الجزائريين الأولى التي تكمن في العمل على إبعاد الشبح المخيف المتمثل في استعمارهم من طرف جنس آخر واستقلالهم من طرف فئة من الأجانب. وتسهيلاً للوصول إلى هذه النتائج التي لا بد منها لنجاح الإصلاحات الجديدة، يعدد الشيخ الإبراهيمي ما يلي: - إنشاء المواطنة الجزائرية التي تستفيد منها مختلف عناصر سكان هذا البلد بدون تمييز عرقي أو ديني والتي تنشأ معها نفس الحقوق للجميع ونفس الواجبات عليهم. - استبدال الميكنزمات الاستعمارية بنظام حكومي، أي بحكومة جزائرية تكون مسؤولة أمام البرلمان الجزائري. - السماح لجميع الجزائريين بالارتقاء إلى جميع المناصب الوظيفية بدون شرط آخر غير الكفاءة المهنية اللازمة لذلك. - اعتبار اللغة العربية رسمية على قدم المساواة مع اللغة الفرنسية. - حرية التدين، وحرية كل مجموعة دينية في الإشراف على أوقافها ومؤسساتها الدينية. - إخضاع الأحوال الشخصية الإسلامية لقضاء إسلامي محض. ج - تصريح الحاج مصالي كتبه في الشلالة يوم 7/ 1/1944 وسلمه إلى اللجنة بعد ذلك بأسبوع. لقد كان خطاب الجنرال ديغول في نظر الحاج مصالي مجرد تخريجة جديدة لمشروع فيولات الذي حاربه حزب الشعب الجزائري بكل قواه سنة 1937 والذي لم يجد أنصاره من الجزائريين إلا بسبب اليأس من الحصول على شيء آخر. لكن ست سنوات من خبرة الاستعمار قد غيرت الأوضاع ومكنت من ظهور تطور ملحوظ على الساحة السياسية في الجزائر، أما فيما يخصنا، فإن موقفنا لم يتبدل:

لقد عارضنا مشروع فيولات ونحن نعارض مشروع 1943 للأسباب التالية: - لأنه مناف للديمقراطية إذ يحدث فئة من ذوي الامتيازات ويبقي الأغلبية الساحقة خاضعة للسياسة الاستعمارية. - لأنه يتناقض مع طموحات الشعب الجزائري المسلم الذي هو وَفيٌّ للغته ودينه وماضيه التاريخي. - لأن سياسة الاندماج قد فشلت وأصبح من الضروري استبدالها بسياسة تحررية لحل المشكلة الجزائرية. - لأن المسلمين الجزائريين لم يعودوا يقبلون المعاملة، في بلدهم، كأناس دون الأقليات التي تعيش معهم وهي تتمتع بجميع الامتيازات. - لأن الجزائري المسلم يريد بإلحاح المواطنة الجزائرية التي تضمن له احترام لغته ودينه وحقوقه السياسية والاجتماعية والاقتصادية الضرورية لتقدمه. - لأن الإنسان الجزائري يرى أن الديمقراطية تكمن في حريات الإنسان وفي حرية الشعوب في تقرير مصيرها. - لأنه لا يمكن الاستمرار بواسطة نظام استعماري، في حرمان ثمانية ملايين عربي من تسيير بلادهم وترك ذلك لأقلية تتحكم في كل صغيرة وكبيرة. ولتجاوز هذه الأوضاع اللاطبيعية، قال السيد الحاج مصالي أنه يطالب بممارسة الديمقراطية في جميع المجالس الجزائرية وبتحويل المندوبيات المالية إلى برلمان جزائري ينتخب بواسطة الإقتراع العام من طرف كافة الجزائريين بدون أي تمييز عرقي أو ديني. وقبل الانتهاء من عرضه لفت السيد مصالي انتباه أعضاء اللجنة إلى أمرين اثنين عبر عنهما كالآتي: 1 - أن الأفكار السياسية التي أوردتها أمامكم ليست جديدة، بل دافعت عنها في فرنسا وفي الجزائر أمام المحاكم التي كان لي شرف المثول أمامها من أجل نفس هذه الآراء. معنى ذلك، أيها السادة، أنني لم أنتظر استسلام فرنسا سنة 1940 لإبداء عواطفي تجاه المشكل الجزائري. 2 - أرجو من اللجنة أن تقدم للحكومة مشروع عفو عام على جميع

المعتقلين السياسيين سواء كانوا محبوسين أو في الإقامة الجبرية، لأن التقاليد الجمهورية، في فرنسا، تقتضي أن يسبق كل إنجاز تحرير الذين سجنوا من أجله. لقد ظلت اللجنة تستمع إلى أعيان الجزائريين وشخصياتهم طيلة الفترة الممتدة ما بين 21/ 12/1943 و 8/ 7/1944، لكن اللجنة الفرنسية للتحرير الوطني لم تعر كثير اهتمام لمحاضرها، بل إن الجنرال ديغول لم يحاول حتى تطوير خطابه الذي كان في أساس تشكيل اللجنة المذكورة، وبدلاً من أن يأخذ في الاعتبار التوجه الوطني الجديد الذي أجمع قادته على ضرورة تجاوز الماضي العقيم لفتح آفاق المستقبل الواعد، فإنه لم يجد غير نص أمرية أصدرها على عجل بتاريخ السابع مارس سنة أربع وأربعين وتسعمائة وألف دون أن يجهد نفسه لإزالة ما تميز به من غموض وتناقض. فالمادة الأولى من تلك الأمرية تنص صراحة على أن المسلمين وغير المسلمين في الجزائر فرنسيون، يتمتعون بنفس الحقوق ويخضعون لنفس الواجبات. لكن المادة الثالثة تؤكد أن المواطنة الفرنسية لا تعطى إلا للمسلمين الذكور الذين يتجاوز سنهم واحدة وعشرين حجة والذين ينتمون إلى مجموعة من الفئات الاجتماعية التي تتوفر فيها شروط ذكر مدير الشؤون الأهلية، بعد الإحصاء، أنها تجعل المستفيدين من تلك المواطنة لا يزيد عددهم عن 65.285 شخص. أما المادة الرابعة، فإنها تشير إلى بقاء الهيأتين الانتخابيتين وتؤكد تمثيل الجزائريين في المجالس العامة والمندوبيات المالية بنسبة خمسي (2/ 5) أعضائها. وتنص المادة السادسة على أن سكان وادي ميزاب وسكان سائر المناطق الصحراوية يخضعون لقانون خاص. إن هذه الأمرية، زيادة على التناقض الحاصل بين موادها، تتناقض من حيث مضمونها مع خطاب الموقع عليها الذي ألقاه بمناسبة انعقاد ندوة برازفيل في الفترة ما بين 30/ 1/ و 8/ 2/1944 والذي جاء فيه على الخصوص: "إنه لن يكون هناك تقدم بمعنى الكلمة إذا كان أبناء البلد لا يستفيدون منه معنوياً ومادياً" (17) وعلى الرغم من ذلك فإنها صدرت باسم اللجنة الفرنسية للتحرير الوطني وحظيت بمساندة المجلس الاستشاري وجميع الأحزاب المشاركة في المقاومة بما في ذلك الحزب الشيوعي الفرنسي الذي صرح ممثله قائلاً: "إن الجمهورية الفرنسية، الميتروبول وما وراء البحار، واحدة ولا تتجزأ" (18).

وإذا كانت وحدة الفرنسيين قد تجلت في تصميمهم على منع شعوب المستعمرات من ممارسة حقها في تقرير مصيرها بنفسها، متجاوزين، في ذلك، كل القناعات الفكرية والتوجهات الأيديولوجية، وضاربين عرض الحائط سائر المثل والمبادئ والشعارات التي كانت، يومها، تشكل أساس الخطاب السياسي في فرنسا وفي العالم أجمع، فإن الطاقات الوطنية الجزائرية، أيضاً، قد وجدت طريقها إلى التوحد حول برنامج سياسي أدنى ألقت به إلى الشارع في إطار تنظيم اتفقت على تسميته "أحباب البيان والحرية". إن السيد فرحات عباس هو الذي صاغ القانون الأساسي للتنظيم الجديد بعد أن أخذ موافقة قطبي الحركة الوطنية في ذلك الوقت: السيد الحاج مصالي والشيخ محمد البشير الإبراهيمي. وفي اليوم الرابع من شهر افريل سنة أربع وأربعين وتسعمائة وألف، قدم الوثيقة إلى المصالح المختصة لدى عمالة قسنطينة من أجل الحصول على الترخيص الرسمي الضروري لانطلاق النشاط الميداني في كافة أنحاء التراب الوطني. إن "أحباب البيان والحرية" تجمع يهدف إلى التعريف ببيان الشعب الجزائري والدفاع عنه أمام الرأي العام الجزائري والفرنسي، كما أنه يرمي إلى المطالبة بحرية التعبير لجميع الجزائريين. ولقد تفنن السيد فرحان عباس أثناء صياغة القانون الأساسي، في اختيار الكلمات والتعابير التي لا تثير حساسية السلطات الفرنسية. وعلى هذا الأساس فإن التجمع الجديد لن يستعمل سوى سلاح القول والكتابة لمحاربة الاستعمار وللتصدي إلى عنف القوات الإمبريالية واعتداءاتها في افريقيا وآسيا ضد الشعوب الضعيفة. وبالنسبة للعمل داخل الجزائر، فإن التجمع قد حصر مجالات نشاطه في مساعدة ضحايا قوانين الاستثناء والقمع الاستعماري، وتعميم فكرة الأمة الجزائرية وتحبيذ إقامة جمهورية مستقلة ذاتياً ومتحدة مع الجمهورية الفرنسية المتجددة والمناهضة للاستعمار والإمبريالية. ويرى التجمع أن هذه الأهداف يمكن تحقيقها بواسطة المحاضرات والندوات في جميع الأوساط والأوساط الفرنسية على وجه الخصوص بغرض محاربة الامتيازات التي تستحوذ عليها الطبقات المسيطرة، والدعوة إلى تحقيق المساواة بين الناس وتمكين الشعب الجزائري من حقه في ممارسة الحياة الوطنية مع التذكير بتاريخه العريق وإسهاماته في إثراء الفكر الإنساني وتضحياته في سبيل تحرير فرنسا ومن أجل انتصار الشعوب الأوروبية وقضايا الديمقراطية (19).

وعلى الرغم من أن القانون الأساسي لأحباب البيان والحرية قد اكتفى فقط بملامسة الأفكار الرئيسية التي تضمنها البيان الذي كان في أساس التجمع، فإن هذا الأخير قد عرف إقبالاً منقطع النظير من طرف مختلف الفئات الاجتماعية الجزائرية التي شعرت، لأول مرة، أن ثمة حركة وطنية قادرة على إخراج البلاد من حالة الاستعمار والتبعية. ومما لا شك فيه أن للإقبال المذكور دوافع متعددة لكننا نعتقد أن أهمها ما يلي: 1 - تمكن أكثر الزعماء شهرة في أوساط الجماهير الشعبية من الالتقاء حول الخطوط العريضة لبرنامج واسع جاء، رغم بساطته، معبراً تعبيراً صادقاً عن طموحات أغلبية أفراد الشعب الجزائري. وبالفعل فإن قراءة فاحصة للبيان وملحقة تقودنا، حتماً، إلى التعرف على مختلف التنازلات التي قدمها كل واحد من الأطراف الرئيسية الثلاثة على الأقل. فالسيد فرحات عباس وافق على أن تقبر إلى الأبد قناعاته الخاصة بإمكانية الحصول على المساواة التي يتوقف عليها الارتقاء إلى المواطنة الفرنسية التي كان يعتقد أنها تفتح أبواب الرقي والتقدم لأبناء جلدته ممن كانوا يسمون بالأهالي. وأكثر من ذلك، أصبح يؤمن بضرورة إقامة الجمهورية الجزائرية والبرلمان الجزائري الذي يتم انتخابه بواسطة الاقتراع العام المفتوح لجميع سكان الجزائر بدون أدنى تمييز في أي مجال كان، أما السيد الحاج مصالي فإنه أغمض عينيه عن أنجح وسيلة تمكن الجزائر من استرجاع استقلالها وهي: العنف الثوري كما أنه وافق السيد عباس على العمل من أجل جمهورية جزائرية متحدة مع فرنسا (20). وأما الشيخ البشير الإبراهيمي فإنه أعلن صراحة أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين مستعدة لخوض المعارك السياسية على أساس ما ورد في بيان الشعب الجزائري وملحقه وذلك بالإضافة إلى الدور الثقافي والتعليمي والديني المذكور في قانونها الأساسي الصادر بتاريخ الخامس مايو (أيار) سنة واحدة وثلاثين وتسعمائة وألف. 2 - نشاط مناضلي حزب الشعب المحلول رسمياً والمنتشر فعلياً عبر مختلف أنحاء الوطن. لقد استطاع المناضلون توظيف خبرتهم الواسعة في تعميم الأفكار الجديدة وجعلها في متناول الجماهير الشعبية الواسعة. 3 - إزالة جميع الحواجز البيروقراطية التي من شأنها الحد من رغبة المواطنين وجعلهم يترددون أو يحجمون عن الالتحاق بالصفوف.

وبالفعل، فإن الانضمام إلى التجمع لم يكن مشروطاً بتقديم أي ملف ما عدا تصريح على ورق عادي يعبر فيه صاحبه البالغ من العمر أكثر من 18 سنة، عن إرادته في الالتحاق بأحباب البيان والحرية. 4 - إنشاء لجان محلية للتجمع في سائر أنحاء الوطن والعمل على ربطها بسرعة بلجان العمالات التابعة مباشرة إلى اللجنة المركزية (21). إن هذه الدوافع مجتمعة قد جعلت تجمع أحباب البيان والحرية، يتحول، بسرعة فائقة، إلى أكبر تجمع وطني في الجزائر مقبول من جميع أصناف الشعب ومشتمل في صفوفه على أكثر من نصف مليون منخرط بعد سنة واحد من ميلاده فقط (22). وعلى الرغم من أن تجمع أحباب البيان والحرية لا يذكر إلا مقروناً باسم السيد فرحات عباس والدكتور سعدان بدرجة أقل، فإن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وحزب الشعب الجزائري قد شكلا منذ اللحظات الأولى، قلبه النابض، وبدونهما ما كان يمكن له أن يتجذر بتلك السرعة، في أوساط جماهير الشعب الجزائري. فقادة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين قد تحركوا مع حلول شهر أفريل 1944، في جميع اتجاهات الوطن يدعون الناس إلى الالتفاف حول المولود الجديد مركزين على ضرورة التمسك بالإسلام وبلغة القرآن ومؤكدين على أن الوقت قد حان لتوحيد الجهد الوطني في سبيل تقويض أركان الاستعمار. وكانت تلك الجولات مناسبة لتحريض المواطنين على الالتزام بمبادئ الإسلام، وعلى التبرع بما يستطيعون من أموال لبناء المدارس الحرة وللمساعدة على توفير الشروط اللازمة لنشر التربية الإسلامية الصحيحة. ولقد كانت لهذا المسعى آثاره الإيجابية يمكن استشفاف بعضها من خلال ارتفاع عدد المصلين وظهور جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وانتشار نشيد الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس: "الشعب الجزائري" الذي أصبح على ألسنة الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب. وعبأ حزب الشعب الجزائري المحظور كل طاقاته النضالية لهيكلة التجمع الجديد ولإعطائه نفسا وطنياً قادراً على سد الطريق في وجه السلطات الاستعمارية التي صارت تسعى بكل الوسائل لاسترجاع ثقة من كانوا يسمون بالمعتدلين ولفصل العلماء عن الحركة المصالية. ومن جهة أخرى، اتخذت قيادة الحزب من أحباب البيان والحرية غطاء للقيام بنشاطها السري في اتجاه الشباب الجزائري المتعلم حيث تمكنت من

تأسيس جمعية التلاميذ المسلمين في الثانوي (23) ورابطة الطلبة المسلمين الجزائريين في الجامعة (24) ومن تعميم الشعارات والمبادئ الثورية في سائر الأوساط الشعبية. وعندما يرجع الدارس، اليوم، إلى نشرية اللجنة الفرنسية للتحرير الوطني في أعدادها الصادرة ما بين شهري افريل وديسمبر سنة 1944 يدرك مدى فعالية التنظيم الذي كان عليه حزب الشعب الجزائري المحلول الذي تمكن، في الفترة المشار إليها، من تحويل حيطان الجزائر إلى لافتات عملاقة يقرأ عليها الصغير والكبير: "حرروا مصالي والمعتقلين السياسيين" "الجزائر أمة حرة" "ليس في الدنيا ما يمكن أن يحول الإنسان العربي إلى إنسان فرنسي" عاش بيان الشعب الجزائري "كلنا فداء الجزائر" وفي النشرية الإعلامية التي أصدرتها الولاية العامة في شهر افريل سنة 1944 يجد القارئ إشارات كثيرة إلى وجود "قوات الداخل العربية" التي هي تنظيم سري أوجده الحزب لإشعال فتيل الثورة عندما يحين أوانها وعندما ترفض السلطات الاستعمارية تمكين الشعب الجزائري من ممارسة حقه في تقرير مصيره. وفي نشرتي اللجنة الفرنسية للتحرير الوطني الصادرتين في شهر أكتوبر ونوفمبر سنة 1944 تركيز على اشتراك حزب الشعب الجزائري مع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في تنظيم حملة واسعة النطاق لمقاطعة دور سينما الأوربيين ومقاهيهم ومتاجرهم ولمحاربة الخمارات بجميع أنواعها. ولكي يحقق حزب الشعب الجزائري أهدافه البعيدة المتمثلة في الاستعداد للمعركة الكبرى من أجل استرجاع السيادة الوطنية، أسس جريدتين إحداهما بالفرنسية وهي: L,Action Algèrienne" والثانية باللغة العربية وهي: الجزائر الحرة "وقد ظلتا تصدران إلى ما بعد حركة مايو 1945 الثورية، دون أن تتمكن السلطات الاستعمارية لا من العثور على مكان طباعتهما ولا من التعرف على أعضاء هيأة تحريرهما وذلك رغم كل ما استعملته من وسائل وما جندته من إمكانيات (25). ولضمان استمرارية التوجه الوطني لأحباب البيان والحرية، يذكر السيد محمد السعيد معزوزي (26) إن الحاج مصالي أصدر تعليمات صارمة إلى مناضلي القواعد الحزبية في كل أنحاء البلاد كي يشغلوا منصبي المالية والسكرتارية في جميع الفروع المحلية. وإضافة إلى ذلك تجدر الإشارة إلى أن مكتب اتحادية عمالة قسنطينة تشكل كله من مسؤولين قياديين في حزب الشعب الجزائري المحلول (هؤلاء المسؤولون هم: الشاذلي مكي، مسعود بوقدوم

تطبيق مبدأ فصل الدين الإسلامي عن الإدارة

وجمال دردور). أما جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فإنها هي الأخرى، قد استعملت غطاء أحباب البيان لتقييم مسيرتها وبلورة أفكارها وآرائها من خلال مذكرة مفصلة وجهتها بتاريخ 15/ 8/1944 إلى السلطات الفرنسية. إن جمعية العلماء، تقول المذكرة، ترى أن تسيير المساجد وسائر المؤسسات الإسلامية يجب أن يكون من اختصاص الجماعة الإسلامية، وأن الأوقاف ينبغي أن تخرج من قبضة الإدارة الاستعمارية حتى يتسنى للمشرفين عليها أن ينفقوا مدخولاتها في سد الحاجات الدينية والاجتماعية بعيداً عن كل تدخل أجنبي مهما كان نوعه - والشعب المسلم في الجزائر أولى من غيره باختيار أئمته ودعاته وأساتذته وقضاته وبما أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين مسؤولة على رسالتها أمام الله وأمام كافة أفراد الشعب، فإنها ترفع إلى السلطات الفرنسية، فيما يلي، موقفها من الموضوعات الحيوية الثلاثة التالية: 1 - تطبيق مبدأ فصل الدين الإسلامي عن الإدارة. في مرحلة الاستعمار الأولى قامت الحكومة الفرنسية باتخاذ عدد من الإجراءات والتدابير استحوذت، بموجبها، على المساجد والأوقاف التابعة لها، موهمة الناس بأنها تسعى إلى توفير الشروط اللازمة ليكون الإسلام محترماً طبقاً لمعاهدة الاستسلام، غير أن التاريخ بين عكس ذلك وأثبت أن الإدارة الفرنسية لم تترك أي مجال لتنفس المسلمين وحينما جاءت الجمهورية الثالثة ورفعت شعار فصل الدين عن الدولة، فإن المؤسسات الإسلامية لم تستفد من ذلك، وحتى عندما صدر مرسوم 27 سبتمبر 1907، فإن الإدارة الاستعمارية لم ترفع يدها عن تلك المؤسسات بل إنها صارت تتفنن في إذلال المسلمين وإهانتهم إلى درجة أنها لم تعد تستحي من تشكيل الجمعيات الدينية وتعيين المشرفين عليها من بين المسيحيين والأميين. وعلى إثر الحرب الإمبريالية الأولى أصبحت المناصب المالية في المساجد خاصة. تسند إلى قدماء المحاربين بقطع النظر عن تكوينهم وانتماءاتهم ثم جاء بيان الجنرال كاترو المؤرخ بيوم 4/ 8/1944 والمبشر بتطبيق المرسوم المذكور أعلاه، فاستبشر المسلمون خيراً لكنهم سرعان ما خاب ظنهم عندما أقدمت الإدارة في نفس الإسبوع على تعيين مفتي الجزائر بالطريقة القديمة ووفقاً للمعايير الاستعمارية المعهودة.

تعليم اللغة العربية، المدارس والمعلمون الأحرار

إن التمعن في مختلف هذه المراحل هو الذي جعل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تقترح على الحكومة الفرنسية برنامج عمل من شأن تطبيقه أن يقود إلى تحرير الإسلام وتمكين المسلمين، في الجزائر، من ممارسة دينهم كما ينبغي ويتكون البرنامج المذكور من المراحل الأساسية الآتية: أ - يؤسس في الجزائر العاصمة مجلس إسلامي أعلى مؤقت يكون مكوناً من عناصر ثلاثة هي: - بعض العلماء الأحرار المعروفين في الأوساط الإسلامية. - بعض الأعيان المسلمين المعروفين بتدينهم وبعدم تقلدهم لأية وظيفة رسمية. - بعض الموظفين المسلمين شريطة ألا يتجاوز عددهم نصف أعضاء المجلس. ب - يتولى المجلس المذكور تكوين الجمعيات الدينية عبر مختلف أنحاء البلاد على أساس المقدرة والكفاءة وحيث تكون هذه الجمعيات موجودة مع توفر المعايير المطلوبة، فإنه يرسمها. ج - بعد تنصيب مكاتب الجمعيات ينظم مؤتمر يحضره، زيادة على أعضاء المجلس الإسلامي الأعلى المؤقت، رؤساء الجمعيات الدينية وبعض الأعضاء البارزين. د - تكون قرارات المؤتمر ملزمة وتظل كذلك إلى أن يفسخها مؤتمر لاحق، علماً بأن المؤتمر ينعقد سنوياً طبقاً لقانونه الأساسي ونظامه الداخلي. هـ - مع انعقاد المؤتمر الأول، يحل المجلس الإسلامي الأعلى المؤقت ويترك مكانه للمؤتمرين الذين ينتخبون مجلساً إسلامياً أعلى تسند له مهمة تطبيق القرارات المصادق عليها. 2 - تعليم اللغة العربية، المدارس والمعلمون الأحرار. قبل الحرب الإمبريالية الأولى، كانت الإدارة الاستعمارية تبدي نوعاً من التسامح إزاء وجود الكتاتيب القرآنية لأن التعليم فيها لا يؤثر على المحيط، وعندما شرع العلماء في تعليم اللغة العربية التي لا بد منها لفهم الدين، وتأسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لتقود عملية الإصلاح ولتطور التعليم المذكور، فإن السلطات الفرنسية قد قابلت ذلك باتخاذ مجموعة من الإجراءات

القضاء الإسلامي

والقوانين التعسفية الرامية كلها إلى إجهاض الحركة الإصلاحية وتهميش لغة القرآن باعتبارها وسيلة أساسية للتبحر في الدين ولإحداث النهضة الفكرية التي تسبق كل ثورة. ومن جملة القوانين المزرية ذلك الذي يجعل اللغة العربية لغة أجنبية في الجزائر، الأمر الذي ترتب عليه ملاحقة معلميها وتغريمهم وحبسهم بعد غلق مدارسها. لأجل ذلك، فإن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تطالب، اليوم، بما يلي: أ - إلغاء جميع الإجراءات والتدابير القمعية إدارية كانت أم وزارية. ب - إصدار نص يضمن حرية تعليم اللغة العربية في المدارس، ويكون ذلك على النحو التالي: - يحق لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين ولسائر الجمعيات الدينية إنشاء المدارس حيث يكون لهم ذلك ممكناً ودون استرخاص الإدارة. يكفي فقط أن يقدم طلب يكون متضمناً اسم المدرسة وعنوانها. - يتضمن النص المطلوب إصداره ضمانات تكفل للمدارس الحرة حماية من تعسف الإدارة وللمعلمين الأحرار عدم الملاحقة والمتابعات القضائية الظالمة. - لا يكون للإدارة الاستعمارية حق لا في اختيار المعلمين ولا في وضع برامج التعليم أو تعيين الكتاب المدرسي. - تخضع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وسائر الجمعيات الثقافية الأخرى إلى ما تتطلبه الرقابة الصحية وتقبل في مدارسها التفتيش الرسمي الذي يقوم به موظفو التعليم العمومي. 3 - القضاء الإسلامي ترى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أن القضاء في الجزائر يجب أن يكون صادراً عن الكتاب والسنة. وحيث أن السلطات الفرنسية تمكنت على مر السنين من تهميش القضاء الإسلامي، وحيث أن أمر إعادة تأهيل هذا الأخير لن يكون إلا تدريجياً، فإن الجمعية تقترح الإجراءات التالية: أ - إعادة النظر في برنامج تكوين القضاة بحيث تعطى مكانة واسعة للغة العربية وللشريعة الإسلامية وعلم النفس وتاريخ القضاء في الإسلام، هذا من جهة، ومن جهة ثانية يتحتم فتح مؤسسات تكوين القضاة إلى

المعلمين الأحرار خريجي الزيتونة وغيرها من الجامعات الإسلامية وألا يكون هناك معيار آخر في الاختيار غير مقياس الكفاءة والمقدرة. ب - إنشاء مجلس أعلى للقضاء يكون مشكلاً فقط من القضاة وتكون مهمته تعيين القضاة ومراقبتهم، ويكون مستقلاً عن أجهزة القضاء الفرنسي. ج - إنشاء محاكم الاستئناف الإسلامية بحيث لا يؤيد ولا يلغى الحكم الصادر عن القاضي المسلم إلا من طرف قضاة مسلمين. وبالإضافة إلى هذه الموضوعات الرئيسية الثلاثة، تلفت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين انتباه الحكومة الفرنسية إلى ضرورة تسهيل مهمة الدعاة وعدم مضايقتهم أثناء تأديتهم لمهمة الوعظ والإرشاد عبر مختلف أنحاء البلاد، وإلى رفع الحصار المضروب على النوادي التي هي، في واقع الأمر، مؤسسات مكملة للمدرسة وللمسجد. وفي هذا الإطار، فإن الجمعية تطالب بإلغاء المرسوم الصادر بتاريخ الثامن من مارس (آذار) سنة ثمان وثلاثين وتسعمائة وألف. لكن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لم تكتف بالمواقف المكتوبة للتعبير عن التزامها بما ورد في البيان وملحقه بل إن دعاتها كانوا، حيثما يحلون، يرفعون نفس الشعارات ويؤكدون للناس أن الالتحاق بأحباب البيان والحربة "واجب كل مسلم" حتى يشرق فجر الخلاص من ربقة الاستعمار، وكانت آذان الشعب صافية خاصة وأن الحاج مصالي وجه، هو الآخر، من منفاه، وبصياغة أخرى نفس الدعوة لتعزيز صفوف المولود الوطني الجديد. واستمعت جحافل مناضلي حزب الشعب لنداء الزعيم وتعانق لأول مرة، في تاريخ الجزائر، تيار العلماء وتيار المصاليين فتغير وجه الجزائر السياسي وفاض الشارع حماساً، كان على فرحات عباس أن يبذل جهوداً جبارة للتمكن من توظيفه لإقناع الحلفاء والسلطات الفرنسية بأن الجماهير الشعبية قد اختارت طريق الجمهورية الجزائرية المستقلة. وفي إطار هذا الجو الجديد الذي وجد امتداداً له وغذاء نافعاً في المبادئ الجديدة التي شاعت في مختلف أنحاء المعمورة والتي تدعو إلى تمكين سائر الشعوب من حقها في تقرير مصيرها بنفسها، عرف برنامج أحباب البيان والحرية تطوراً سريعاً وملحوظاً. ففي فترة لا تتجاوز شهرين، تشكلت اتحادية عمالة قسنطينية وعقدت مؤتمرها الأول يوم 22/ 5/1944، وقد توجت أشغال هذا الأخير بلائحة كان التركيز فيها على المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وفي مقدمتهم الحاج مصالي، وكذلك رفع الحصار المضروب على الشيخ البشير الإبراهيمي

والتنديد بعملية الاندماج التي بشرت بها أمرية الجنرال ديغول لأنها تتناقض مع طموحات الجزائريين. وفي انتظار الحلول النهائية المنتظرة للمشكل الجزائري بعد أن تضع الحرب أوزارها، طالب المؤتمرون بحرية الرأي وحرية الصحافة وحرية العبادة وحرية تعليم اللغة العربية، وبذلك يكونون قد تجاوزوا كثيراً فحوى بنود القانون الأساسي لأحباب البيان والحرية المشار إليه آنفاً. لكن التحول الجذري في برنامج التجمع الجديد لم يظهر إلا من خلال اللوائح التي صادق عليها أول مؤتمر وطني جرت أشغاله بالجزائر العاصمة أيام 2 - 3 - 4 مارس (آذار) سنة 1945 أي بعد تاريخ التأسيس بأقل من عام. لقد استعمل المؤتمرون أسلوباً مباشراً حيث جددوا قناعتهم بأن بيان الشعب الجزائري هو الوثيقة الوحيدة التي يمكن اعتمادها في كل عمل يكون الهدف منه تسوية المشكل الجزائري بكيفية جدية. أما تجاهلها بعد قبولها كما فعلت الحكومة الفرنسية، فإنه لا يقود سوى إلى التمادي في الخطأ وإلى محاولة فرض سياسة تتناقض كلية مع طموحات الشعب الجزائري. ومن جهة ثانية، أكد المؤتمرون أن السياسة الواقعية الوحيدة هي التي تأخذ في الاعتبار الإرادة الشعبية وتنطلق من كون بناء مستقبل شعب لا يمكن أن يتم بدون استشارته. ولأجل ذلك، فإن المؤتمر طالب بأن تنجز حينا الإجراءات التالية: 1 - استبدال الجمعيات الجزائرية ببرلمان منتخب. 2 - استبدال الولاية العامة بحكومة جزائرية 3 - الاعتراف بالألوان الوطنية وإذا كانت حركة أحباب البيان والحرية ترى أن مستقبل الشعب الجزائري يكمن في استرجاع سيادته وإقامة جمهورية جزائرية مستقلة، فإن الحزب الشيوعي الجزائري على غرار نظيره الفرنسي، يرفض الاعتراف بوجود الشعب الجزائري الذي تزعم أدبياته أنه ما زال في طور التكوين، وهو، وفي تلك المرحلة، عبارة عن تلاحم عدد من العناصر أهمها: العربي والقبائلي والميزابي والشاوي واليهودي والأوربي الخ .. لأجل ذلك فإن القيادة قد أبدت، منذ اللحظات الأولى، مناهضتها للحركة الوطنية الفتية، ولتجسيد تلك المناهضة على أرض الواقع قررت تأسيس حركة منافسة أسمتها: "أحباب الديمقراطية". إن بيان أحباب الديمقراطية يدعو الجزائريين إلى المساهمة في مجهود

الحرب وفي بناء فرنسا الجديدة التي سوف يترتب على قيامها تخليص الجزائر من النظام الاستعماري وأعوانه المرتشين والرجعيين والقواد (32). أما المطالب التي ينبغي أن يناضل المسلمون من أجل تحقيقها في القريب العاجل فتتعلق جميعها بتحقيق المساواة مع الأوربيين في مجالات التموين والكساء والتنظيم الإداري، وقد وضع لبلوغ هذه الأهداف برنامج من تسع نقاط هي: 1 - تمكين كل الجزائريين من تموين عادي، أي 300 غ خبز يومياً أو 10كغ قمح شهرياً مع مضاعفة الكمية بالنسبة للعمال اليدويين أمثال عمال السكة الحديدية والمواني والفلاحة. 2 - تطبيق الأجر الأدنى المحدد من طرف الولاية العامة، أي 10 ....................... ........................ (*) 7 - إلغاء البلديات المختلطة بواسطة إرجاع مراكز الدواوير البلدية التي علقت في عهد فيشي. 8 - إعادة فتح جميع المدارس الموجودة وإيجاد أخرى جديدة في محلات تؤمم للضرورة وتزود بمعلم يقدم للأطفال مبادئ التعليم بالفرنسية والعربية في انتظار حل شامل لمليون من الأطفال غير المتمدرسين. 9 - الاعتراف باللغة العربية لغة رسمية إلى جانب اللغة الفرنسية. كان الشيوعيون، بهذه المطالب البسيطة، يعتقدون أنهم وجدوا أفضل الوسائل لتعبئة الجماهير الشعبية بقصد سد الطريق في وجه أحباب البيان والحرية، لكن التربة الجزائرية كانت ترفض الغرس الشيوعي ولذلك فإن الإقبال على حركة أحباب الديمقراطية كان معدوماً. وأمام ما كان لأحباب البيان والحرية من شعبية ومن إبداء الجزائريين استعداداتهم المطلقة للانخراط فيها ولتبني برنامجها الذي ما فتئ يتطور إيجابياً، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وعلى الرغم من المساعي المختلفة التي قامت بها السلطات الاستعمارية لدعم الشيوعيين من أجل تثبيت حركتهم الجديدة فإن هذه الأخيرة لم تعمر طويلاً وسرعان ما تركت المجال للحزب الشيوعي الجزائري فراح يستعمل كل الوسائل لإيقاف الزحف الوطني الذي وجد في محاربة ¬

_ (*) - ثمة نقص في مخطوطة المؤلف المودعة لدى اتحاد الكتاب العرب، وتعذر الحصول عليها ..

الشيوعيين له قوة مكنته من التجذر بسهولة في أوساط سائر فئات الشعب الجزائري. إن الحزب الشيوعي الجزائري في مصارعته لأحباب البيان والحرية كان يعتقد أن وصف القياديين الوطنيين بدعاة الانفصال عن الميتروبول سوف يقلل من شأنهم لدى مواطنيهم، زاعماً أن الاستقلال أمر مستحيل "أنه لا يخدم الجزائر ولكنه يكون في صالح غلاة الكولون والإمبرياليات الأجنبية الأخرى التي ليس لها من هم سوى آبار البترول (33). لقد كان الحزب الشيوعي الجزائري يرى أن الذين يعملون على استرجاع الاستقلال الوطني "هم عصابة من المفسدين في ركاب الفاشية، يتسترون بالدين لمحاربة المشروبات الكحولية" (34) إنهم "وطنيون مزيفون يسعون بدافع إمبريالي أجنبي، لفصل الجزائر عن فرنسا الجديدة" وعلى الرغم من هذه المواقف العدوانية ومن قناعة السيد فرحات عباس بأن "أحباب الديمقراطية صنيعة للشيوعية المقصود منها هو خلط الأوراق وذبذبة الضمائر (36)، فإن المكتب المركزي لأحباب البيان والحرية قد وجه نداء إلى أحباب الديمقراطية من أجل التعاون على أساس شرط واحد هو أن يدرج الشيوعيون ضمن مطالبهم إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وحرية الصحافة بالنسبة لجميع الأحزاب والمنظمات الجزائرية، لأن برنامج أحباب الديمقراطية بجميع نقاطه المسطورة أعلاه لا يشتمل على أي عنصر جدي يمكن الأخذ به لتعبئة جماهير الشعب الجزائري، لكن الشيوعيين، من خلال قيادة أحباب الديمقراطية، رفضوا عرض الوطنيين لسبب أيديولوجي واضح هو: عدم إيمانهم بالوطن الجزائري ككيان واحد ومستقل عن فرنسا. ولم يتوقفوا عند رفض العرض، بل إنهم جندوا كل آلياتهم واستنجدوا بالسلطات الاستعمارية لإقامة العراقيل في طريق أحباب البيان والحرية. هكذا، إذن لم تمض سوى ستة أشهر على تأسيس أحباب البيان والحرية حتى وجد هذا التجمع الوطني الجديد نفسه أمام عدد من الصعوبات والمخاطر كان أهمها ما يلي: 1 - رفض الإدارة الفرنسية لبيان الشعب الجزائري بعد أن كان الوالي العام السيد بايروتون قد أفهم السيد فرحات عباس أن الاقتراحات الواردة ضمنه مقبولة لكنها تتطلب قليلاً من المراجعة وهوما تم بموجب الملحق الذي سبقت الإشارة إليه. وجاء الرفض مصحوباً بإجراءات بعضها قمعي والآخر يتعلق بدس أعوان مقنعين في صفوف المناضلين ينشطون لفائدة مصالح

المخابرات والاستعلامات العسكرية. 2 - حرب بلا هوادة يغذيها الشيوعيون الجزائريون بدعم من الحزب الشيوعي الفرنسي من أجل إفشال الجبهة الوطنية التي استطاعت أن تعبئ الجماهير الشعبية حول مطلبي الجمهورية والبرلمان الجزائريين، أي تجنيد مختلف فئات الشعب لفائدة الانفصال عن فرنسا. ولقد كانت الحرب تجري نيرانها على ثلاث جبهات هي: أ - الجبهة الخاصة بإبراز نواقص الحركة المصالية التي يتمثل انحرافها وتزمتها، حسب المنطق الشيوعي، في رفعها لراية الاستقلال. ففي هذه الجبهة يسعى الشيوعيون إلى محاولة إقناع قواعد حزب الشعب الجزائري بالتخلي عن قيادتها وضمها، بشتى الوسائل (37) إلى أحباب الديمقراطية. وطبيعي أن في ذلك إضعاف لأحباب البيان والحرية. ب - الجبهة المخصصة لتهميش المثقفين الإسلاميين الذين يستعملون العاطفة الدينية لحمل الجماهير الشعبية على الالتحاق بصفوف أحباب البيان والحرية، ومما لا شك فيه أن تحييد هؤلاء العناصر سيفسح المجال لأحباب الديمقراطية من أجل التحرك بحرية في أوساط الجماهير الإسلامية. ج - الجبهة المخصصة للتنديد بالمنتخبين وأعضاء النخبة الذين تخلوا عن فكرة الاندماج وتحولوا إلى "وطنيين مزيفين" ومناهضين للفرنسة وللفرنسيين. 3 - وجود الفارق الكبير في أسلوب العمل الذي تمارسه اطارات ومناضلو أحباب البيان والحرية من أجل تحقيق الأهداف الوارد تعدادها في بيان الشعب الجزائري، فبينما يكتفي المنتخبون والعلماء بالقلم والكلمة، فإن عناصر الحركة المصالية ينادون بالعنف الثوري انطلاقاً من كون ما أخذ بالقوة لا يسترجع إلا بالقوة. ولتجاوز هذه الأوضاع الصعبة، ولتعميم الفكر السياسي الجديد وتمكين الجماهير الشعبية من التفاعل مع برنامجها فإن جمعية أحباب البيان والحرية قد أصدرت لساناً مركزياً بعنوان Egalitè وظفت له كثيراً من الإمكانيات المادية والأقلام الوطنية بحيث استطاع، في فترة وجيزة جداً، أن يحتل مكانة مرموقة بين نشريات ذلك الوقت وأصبح رغم كل المنافسات، الجريدة المحببة التي تنتظرها بلهفة أعداد غفيرة من الجزائريين في مختلف البلاد. غير أن ذلك لا

يعني أن سحبها كان مرتفعاً، بل ضعيفاً لم يتجاوز ثلاثين ألف نسخة بسبب أزمة الورق. (39). وعندما نعود اليوم، إلى مختلف أعداد الجريدة، فإننا نلاحظ بكل سهولة الدور الإيجابي الذي أدته سواء بالنسبة لإنجاح عملية التعبئة الشاملة حول برنامج الحركة أو فيما يتعلق بمحاورة الأوربيين الذين كانوا متخوفين من فكرتي الأمة الجزائرية والبرلمان المنتخب بواسطة الاقتراع العام، أو فيما يخص تعرية أمرية الجنرال ديغول التي قال عنها السيد فرحات عباس: أنها لم تأخذ في الاعتبار تاريخ الجزائر وتطور ذهنيات أبنائها" (40). وبالإضافة إلى الدور الإعلامي الذي كانت الجريدة تقوم به على أحسن وجه فإن أعمدتها كانت مفتوحة لبرامج التوجيه والتكوين الأيديولوجيين وللتحقيقات التي كانت تعالج موضوعات أساسية في مجالات الدين والتربية وحول أوضاع المرأة والطفل المسلمين إلى غير ذلك مما له علاقة بتطوير المجتمع وإعداده لمستقبل أفضل. ولم يكن نشاط الجريدة ليرضي الإدارة الاستعمارية ولا ليطمئن الحزب الشيوعي الجزائري. فأما الأولى فإنها راحت تقابله بتقليص كمية الورق المخصصة للحركة وبعرقلة عملية التوزيع التي كانت تعتمد أساساً على مبادرات المناضلين، وأما الثاني فإنه جعل من صحافته منبراً للتنديد بمحرري الجريدة والمشرفين عليها مع التركيز على رئيس التحرير السيد عبد العزيز كسوس. وفي مجال آخر، ورغم ظروف الحرب الصعبة، كان السيد فرحات عباس ينتقل من مكان لآخر عبر مختلف أنحاء الوطن: يخطب ويحاضر تارة ويحاور ويناقش مرة. وفي جميع الحالات، كان يسهم بفعالية في شق طريق الحركة نحو التجذر والانتشار. ومما يستحق الذكر أن تلك الاتصالات المباشرة والمكثفة، وبقدر ما أفادت أحباب البيان والحرية، فإنها سمحت للرجل أن يثبت أقدامه في عالم الوطنية الجزائرية وأن يتخلى نهائياً، عن قناعات ظل بها متمسكاً إلى أن كانت صياغة البيان. وإذا كانت الحركة المصالية قد هللت لهذا التحول الإيجابي لدى أهم أقطاب المنتخبين الجزائريين، فإن الإدارة الاستعمارية لم تخف استياءها وراحت تعبر عنه بالعمل ميدانياً وبشتى الوسائل، على إحداث التصدع في البناء الجديد وزرع الشقاق بين سائر الأطراف المكونة له. لكن حزب الشعب الجزائري المحظور فوت عليها الفرصة بفضل ما أصدره من تعليمات لإطارته ومناضليه يدعوهم من خلالها إلى إحاطة السيد فرحات عباس بكل أنواع الرعاية والعناية وإشعاره

بأنه قائد أساسي إلى جانب الزعيم الذي كان يحرك الخيوط من إقامته الجبرية. وبينما كانت حركة أحباب البيان والحرية تواصل العمل الهادف إلى تطبيق برنامجها، كان حزب الشعب الجزائري ينشط في السرية وفقاً لإيديولوجيته المعبر عنها رسمياً سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة وألف وكما سبقت الإشارة لذلك في بداية هذه الدراسة. كان حزب الشعب الجزائري، في مؤتمره المنعقد بالجزائر يوم 24/ 7/1938 قد قرر باجماع المؤتمرين تأسيس هيأة أسماها "اللجنة الخضراء" وأسند لها مهمة التكوين العسكري استعداداً للكفاح المسلح في سبيل استرجاع الاستقلال الوطني، وقبل نهاية نفس الشهر قامت الهيأة المذكورة بتكوين لجنة شمال افريقيا للعمل الثوري" (41) التي اختارت من بين أعضائها مجموعة سيرتها إلى برلين قصد التدرب على استعمال الأسلحة وممارسة النشاط السري. صحيح أن السلطات الألمانية قد استقبلت المجموعة التي كان يرأسها السيد محمد طالب (42) وصحيح، أيضاً، أنها أولت عناية كبيرة بتدريب أفرادها، لكنها أرجأت البت في موضوع الاستعمار إلى ما بعد نهاية الحرب ولم تبد كثير استعداد عندما نشرت أمامها قضية التسليح. لأجل ذلك، فإن لجنة شمال افريقيا للعمل الثوري قد فضلت إنهاء العلاقة معها وولت وجهها نحو إيطاليا التي لم يكن موقفها أكثر التزاماً مع مسألة تحرير الشعب الجزائري. غير أن كل ذلك لم يمنع بعض أعضاء اللجنة وبعض المسؤولين الآخرين أمثال بلقاسم راجف وسي جيلاني (43) من الاستمرار في محاولة الاستفادة من دول المحور بصفة عامة. وعلى الرغم من معارضة الحاج مصالي لفكرة التعاون مع الألمان وإقدامه، وهو سجين، على فصل أعضاء لجنة شمال افريقيا للعمل الثوري من صفوف حزب الشعب الجزائري بسبب اتصالاتهم ببرلين وتعاونهم مع مصالح الجيش الألماني، فإن محاولات التقارب مع دول المحور لم تنقطع طيلة سنوات الحرب. ومن الجدير بالذكر أن بعض مساعي الوطنيين قد أثمرت خاصة في مجال الاستفادة من تقنيات التنظيم السري واستعماله الأسلحة بجميع أنواعها. انطلاقاً من كل ما تقدم، وعندما نريد ضبط الأوضاع التي كان عليها حزب الشعب الجزائري، فإننا نخلص إلى ما يلي: 1 - كان الحزب ينشط في السرية نتيجة حله بموجب قرار إداري صدر بتاريخ 26/ 7/1939.

2 - كان معظم قادته وفي مقدمتهم الحاج مصالي (44) محبوسين بمقتضى أحكام تتراوح ما بين 16 و3 سنوات، صدر معظمها يوم 28/ 3/1941. 3 - فرضت طبيعة النضال السري ومقتضيات تلك المرحلة الصعبة ظهور قيادة جديدة من الشباب (45) معظمهم من المثقفين، في مقدمتهم الدكتور محمد الأمين دباغين (46). 4 - تبلور النشاط السري خاصة في مجالين: التنظيمي حيث أعيدت هيكلة الحزب بكيفية تتلاءم مع الأوضاع الجديدة، والإعلامي الذي تميز بالكتابات الحائطية وحملات التوعية والتربية الدينية (47) وبصدور جريدتي L,Action Algèrienne والجزائر الحرة. 5 - ظهور "منظمة الشباب" (48) "ومنظمة الجيش الثامن" (49) اللتين كانتا تدعوان إلى عدم الالتحاق بصفوف الجيش الفرنسي قبل أن تتضافر جهودها لتأسيس منظمة عسكرية تكون "قادرة على رفع لواء الكفاح المسلح عندما تفتح الجبهة الثانية أو يتم إنزال قوات الحلفاء، وتكون هي الممثل الشرعي للشعب الجزائري عند اقتضاء الحاجة" (50). 6 - إطلاق سراح الحاج مصالي يوم 24/ 4/1943 ووضعه في الإقامة الجبرية بالشلالة. ومن هناك صار يوجه نشاط الحزب المحظور رسمياً، ومما يستحق الذكر أنه قرر السماح لأعضاء لجنة شمال افريقيا للعمل الثوري المفصولين بالعودة إلى صفوف الحزب كما أنه قرر عدم إبقاء أي تنظيم خارج الإطار النظامي. 7 - إن الحزب، نتيجة كل هذه العوامل، قد أصبح تنظيماً سياسياً أكثر قدرة على تعبئة الجماهير وتوعيتها، وأكثر دقة في العمليات التي يقوم بها من أجل تجسيد إيديولوجيته على أرض الواقع. وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أن هياكل الحزب العادية قد تعززت، عبر مختلف أنحاء الوطن، بآليات متخصصة في التوثيق والإحصاء والنشاط السري والعمل السيكولوجي، كما أنها تدعمت بتنظيمين أساسيين أحدهما مسؤول عن الأمن والمراقبة بجميع أنواعها والثاني مكلف بالدراسات ومتابعة الأحداث وتوظيفها لفائدة الحزب. وكان التنظيمان، على غرار الآليات الأخرى، ممثلين في جميع مستويات الهيكلة الحزبية، لكن نشاطهما كان يتم في سرية مطلقة. 8 - استطاع الحزب، بفضل مساعي تنظيماته المختلفة، أن يجمع كمية معتبرة من

الأسلحة والذخيرة اشترى بعضها من جيوش الحلفاء ووصله بعضها الآخر عن طريق مناضليه ومحبيه العاملين في صفوف الجيش الفرنسي. وزعت كل المعدات الحربية على سائر الاتحاديات والدوائر ووقع خزنها في انتظار يوم المعركة الذي أصبح متداولاً لدى العام والخاص أنه سيحل مع نهاية الحرب الامبريالية الدائرة رحاها في أوربا وشمال افريقيا وبعض مناطق آسيا. 9 - استطاع الحزب، بفضل تجربة مناضليه الواسعة، أن يسيطر بكيفية شبه كلية على حركة أحباب البيان والحرية، وتمكن، في ظرف قصير جداً، من إدخال تغييرات جذرية على برنامجها السياسي كما أشرنا إلى ذلك آنفاً. 10 - إن فكرة الكفاح المسلح قد نضجت بما فيه الكفاية، ووجد في داخل الحزب تيار قوي من المناضلين الشباب الذين التحق معظمهم بالصفوف فقط في الفترة ما بين 1939 - 1944، لكنهم يرفضون تكتيك القيادة الذي كان الحاج مصالي قد لجأ لمحاولة التقرب من باقي أطراف التيار الوطني، والذي جعل الحزب يتنازل عن هدف الانفصال عن فرنسا ويعوضه بالشعار الغريب "لا اندماج ولا انفصال، ولكن ترشيد وتحرر" (51). إن أولئك الشباب الذين اكتسبوا خبرة واسعة من خلال نشاطهم السري ضمن "منظمة الشباب" و"الجيش الثامن" قد أصحبوا على كامل الاستعداد لإشعال فتيل الثورة والانتقال إلى المرحلة الحاسمة من الكفاح التحريري. ••••

الفصل الثالث: حركة مايو الثورية

الفصل الثالث: حركة مايو الثورية

هناك كتابات كثيرة عالجت هذا الموضوع لكنها لم تشبعه بحثاً، وحتى الآن، فإن الآراء لم تنفق حول المسائل الأساسية التي تتحكم في كل دراسة علمية والتي بدون الفصل فيها لا يمكن التوصل إلى حقيقة ما وقع في ذينك الاسبوعين الأول والثاني من شهر مايو (أيار) سنة 1945. فالمؤرخون الفرنسيون والمتأثرون بهم من الجزائريين يتجنبون الحديث عن الثورة ويركزون على مصطلح الأحداث او المظاهرات، بعد ذلك يتعمدون الضبابية حتى يظل المصدر مجهولاً وتبقى الأهداف المسطورة من طرفه غير واضحة وقابلة للتفسيرات المغرضة والتآويل المختلفة. وزيادة في التعتيم، يؤكد أولئك المؤرخون أن "حوادث مايو" كانت عفوية ولا يوجد أي تنظيم. وإذا كانت السلطات الاستعمارية قد اتهمت أحباب البيان والحرية معتمدة على كون العديد من القتلى والمعتقلين الجزائريين كانوا يحملون بطاقات العضوية في تلك الحركة (52)، فإن الحزب الشيوعي الجزائري، فيما يخصه، قد وجه أصابع الاتهام إلى من أسماهم بالوطنيين المزيفين الذين يعملون في ركاب "الفاشية الهتلرية" و"الفاشية الإيطالية" وإلى الأوربين الاقطاعيين والمسؤولين الإداريين تحت سلطة حكومة فيشي. ونحن عندما نعود إلى تلك الفترة الزمنية نستنطقها، وإلى النصوص المعاصرة نحللها ونفحص المعلومات الواردة فيها، وحينما نتوقف عند الشهادات التي أدلى بها المسؤولون السياسيون الذين كانوا يصنعون الحدث التاريخي في ذلك الوقت، وعندما نعيد قراءة الجرائد والمجلات التي عالجت الموضوع في وقته، فإننا لا نستطيع سوى الاعتراف بأن ما وقع في شهر مايو سنة خمس وأربعين وتسعمائة وألف إنما هو حركة ثورية أعدت لها قيادة حزب الشعب الجزائري التي كانت قد أخذت كل الاحتياطات لتكون النتيجة الحتمية هي إقامة الجمهورية الجزائرية وما يتبعها من مؤسسات وطنية. إن ما وقع في شهر مايو سنة 1945 يجب البحث عن أسبابه القريبة في شهر مارس (آذار) من نفس السنة. ففي اليوم الثالث من ذاك الشهر، وبينما كان طريح الفراش، أرسل السيد فرحات عباس لائحة إلى مؤتمر أحباب البيان والحرية، غير أنها لم تلق قبولاً ورفض المؤتمرون المصادقة عليها، رغم ما كان لعباس من مكانة، لأنها تدعو إلى إدراج الجزائر في نظام اتحادي مع

فرنسا. وفي نفس الفترة صرح الشيخ البشير الإبراهيمي، في تلمسان، أن الرئيس روزفالت وعد باستقلال الجزائر عن طريق ندوة سان فرانسيسكو (San Francisco) المزمع عقدها في نهاية أفريل (نيسان) سنة 1945) (54). وإذا كنا في غير حاجة إلى التذكير "بمنظمة الشباب" والجيش الثامن وما كان يجري فيهما من إعدادات واستعدادات، فإننا لا نستطيع إغفال بعض الأحداث المعبرة التي وقعت في شهر أفريل وهي تحمل في طياتها دليلاً قاطعاً على أن الجانبين الجزائري والاستعماري كانا يعملان: الأول من أجل خرق الموانع التي تحول بينه وبين سيادته المغتصبة، والثاني من أجل تأبيد حالة السيطرة والاضطهاد والتبعية حتى ولو كان ثمن ذلك هو إبادة الشعب الجزائري بأكمله، ومن جملة تلك الأحداث المعبرة نذكر ما يلي: 1 - إن المكتب المركزي لأحباب البيان والحرية قد أصدر نشرة بتاريخ 2/ 4/1945 دعا من خلالها إلى التمسك بالمطالب الواردة في بيان الشعب الجزائري وإلى العمل بجميع الوسائل في سبيل تحرير المعتقلين السياسيين وحمل الحكومة الفرنسية على الاستجابة لطموحات الجزائريين في تحقيق الأهداف المسطورة في الوثائق المرفوعة إليها عن طريق الوالي العام السيد بايروتون. 2 - في شهر افريل أيضاً، قامت الجماهير الشعبية في قصر الشلالة بمنع السلطات الفرنسية من اعتقال أربعة مناضلين مسؤولين في صفوف حزب الشعب الجزائري المحظور وتصدت لعامل ولاية الجزائر ومرافقيه بالرجم والشتم، هاتفة باستقلال الجزائر وحياة زعيمها الحاج مصالي مما استدعى تدخل القوات العسكرية. 3 - في يوم 24/ 4/1945 قام ستة مندوبين عامين أوروبيين (55) بتوجيه بيان إلى عامل ولاية قسنطينة دعوه فيه إلى اتخاذ إجراءات صارمة تمنع ما قد يقع من أحداث نتيجة ما لاحظوه لدى الأهالي من سلوكات حاقدة على فرنسا والفرنسيين. ومما جاء في ذلك البيان "إن ذهنية الأهالي قد تغيرت، وصار الموظفون والتجار المسلمون متجبرين، ويعلنون لمن يريد السماع أنهم عازمون على البقاء، وحدهم، في أرض أجدادهم وأنهم سوف يسترجعون استقلالهم الكامل .. أما العمال، فإنهم أصبحوا يرفضون الاشتغال في الحظائر الخاصة وفي ملكيات الفرنسيين" (56).

4 - في يوم 26/ 4/1945 قال عامل عمالة قسنطينة للدكتور سعدان" اضطرابات سوف تقع، وعلى إثرها يحل حزب عتيد" (57) وفي نفس اليوم أعلن رئيس بلدية abbo (سيدي داوود حالياً) إن أحداثاً لآتية ومعها ستضطر الحكومة للتراجع على أمرية السابع مارس" (58). 5 - في نفس شهر أفريل استقبل الحاج مصالي كلاً من الدكتور محمد الأمين دباغين وحسين عسلة فاطلعاه على مشروع إشعال فتيل الثورة مباشرة بعد أن تضع الحرب أوزارها. ووافق زعيم حزب الشعب الجزائري على المشروع كما وافق على أن يهرب إلى ناحية سطيف حيث يعلن عن تأسيس الحكومة الجزائرية المؤقتة التي يكون مقرها بمزرعة المناضل الأستاذ معيزة. (59). لكن الإدارة الاستعمارية كانت أسرع فبادرت إلى نقل الحاج مصالي إلى المنيعة يوم 23/ 4/1945 قبل أن تنفيه في نهاية الشهر، إلى برازافيل. 6 - في شهر افريل نفسه كتب الجنرال Henry Martin (هنري مارتان) بات مؤكداً نقلاً عن مصادر مختلفة في سطيف، أن حزب الشعب الجزائري يعمل على تنظيم الثورة الشاملة" (60). 7 - إن الأمين العام للولاية العامة السيد Gazagne قد وجه إلى باريس تقريراً مفصلاً يحمل تاريخ أفريل 1945 جاء فيه على الخصوص" يجب علينا اتخاذ الإجراءات الملائمة لإيقاف الحركة، ولكي تعلم الجماهير أننا غير مستعدين لغض الطرف .. ولقد علمنا من جهات مختلفة أن عملية ما، يجري تنظيمها بمناسبة انتهاء الحرب، وسوف تكون عامة. أما مناطقها الحساسة فكثيرة ومنها: سطيف، تبسة، بسكرة، الأوراس، الجزائر، تلمسان، وهران، ومعسكر" (61). 8 - إن الحركة الوطنية الجزائرية التي وجدت طريقها إلى التوحد حول عدد من المحاور الرئيسية في إطار" أحباب البيان والحرية"، لم تتوقف عن إرسال الوفود الواحد بعد الآخر، إلى ممثلي الحلفاء قصد إطلاعهم على حقيقة الواقع الاستعماري في البلاد وتحميسهم لمساعدة الشعب الجزائري على ممارسة حقه في تقرير مصيره. وإذا كان السيد فرحات عباس، في لقاءاته المتعددة مع السيد روبرت مرفي (Robert Murphy) قد حصل على وعد صريح من هذا الأخير مفاده أن أميريكا ستعمل، في الوقت المناسب، على جعل فرنسا

تنهي حالة الاستعمار في الجزائر، فإن ممثلي حزب الشعب الجزائري الذين قاموا بنفس المهمة قد قوبلوا ببرودة من طرف نفس المسؤول الأمريكي الذي قال لهم: "إن المعلومات المستقاة من مصادر مختلفة تدل على أن حركتكم لا تمثل أغلبية الشعب الجزائري، وإن هذا الأخير لن يتبعكم ولن يعطيكم ثقته في حالة استشارته (62). فأمام هذه اللغة المزدوجة، أصبح على قادة الحركة الوطنية أن يقوموا بنشاط علني يثبتون، من خلاله، سوء تقدير الحلفاء، ويبرهنون به على أنهم الناطق الشرعي باسم جماهير الشعب الجزائري الذي صار هدفه الأسمى هو استرجاع السيادة الوطنية وإقامة الجمهورية الجزائرية بجميع مؤسساتها. 9 - إن أخباراً متواترة قد بدأت تصل إلى أسماع قادة الحركة الوطنية مفادها أن اللجنة الفرنسية للتحرير قد تمكنت من إقناع الحلفاء بأن الجزائر جزء لا يتجزأ من فرنسا، وبأن دعاة الانفصال لا يمثلون إلا أنفسهم، وهم منبوذون من الشعب الحقيقي ونتيجة ذلك الإقناع صرح السيد مرفي أن" السلطات الأمريكية لن تتدخل في الشؤون التي هي من اختصاص الإدارة الوطنية أو التي لها علاقة بالسيادة الفرنسية" ((63). 10 - إن حزب الشعب الجزائري المحظور قد تمكن بالموازاة مع نشاط اطاراته ومناضليه داخل صفوف أحباب البيان والحرية، من تحقيق نتائج باهرة في مجالات التنظيم والتكوين والتسليح، وأصبح واضحاً للعيان أن تلك النتائج تؤهله لجر الحركة الوطنية إلى ثورة شعبية مسلحة من أجل استرجاع الاستقلال الوطني كاملاً وبالشروط الواردة في برنامج نجم شمال افريقيا المشار إليه سابقاً. ولقد أدركت قيادة أحباب البيان والحرية من غير عناصر حزب الشعب الجزائري ذلك الواقع وارتاعت لما يمكن أن تكون عواقبه، خاصة وأنها لا تؤمن بالكفاح المسلح كوسيلة لحمل فرنسا على الاستجابة لطموحات الشعب الجزائري. لأجل ذلك فإن السيد فرحات عباس قد جعل المكتب المركزي للحركة يتوج اجتماعه المنعقد بنداء إلى المواطنين جاء فيه" أن أحباب البيان والحركة لن تتحمل أية مسؤولية فيما تقوم به بعض العناصر المشبوهة من أحداث .. وبالتالي فهي تدعو كافة المناضلين إلى تسليمها كل مشاغب تشتم فيه رائحة العمل في غير الإطار المعلوم" (64).

أحداث الفاتح من مايو 1945

إن التمعن في كل هذه النقاط، والتوقف ملياً عند سائر جزئياتها يدعون الدارس بالضرورة إلى إعادة النظر في كيفية تعامل المؤرخين الفرنسيين وتلامذتهم من الجزائريين مع ما وقع في شهر مايو 1945 هل كان بالفعل مظاهرات استفزازية وعفوية؟ أم هي أحداث دامية تسبب فيها المتطرفون الجزائريون والفرنسيون على حد سواء؟ أم هي تمردات عشوائية سببها الجوع والحرمان فقط؟ أم هي انتفاضة شعبية فشلت بسبب عدم وجود القائد والمخطط؟ وهل يمكن التحدث عن فاتح مايو بمعزل عن ثامنه؟ وهل إن ما جرى قد اقتصر على يومي الفاتح والثامن مايو سنة 1945؟ وهل يمكن القول: إن مايو 1945 هو أساس ثورة 1954؟ كل هذه الأسئلة طرحناها بإلحاح على عدد كبير من مسؤولي الحركة الوطنية ممن كان بيدهم الحل والربط في ذلك الوقت (65)، ثم عدنا بها إلى مختلف النصوص المعاصرة بقطع النظر عن الجهات الصادرة عنها، وانتهينا، بعد بحث وتمحيص إلى أن ماجرى في شهر مايو 1945 كان حركة ثورية جاءت تتويجاً لعمل نضالي تواصل بدون انقطاع طول المدة التي دامتها الحرب الامبريالية الثانية. وإذا كان يوما الفاتح والثامن من مايو يرمزان إلى محطتين رئيسيتين في مسار تلك الحركة، فإن الشهر كله قد تميز بالنشاط الثوري الذي فتحت له الجماهير الشعبية أحضانها المتينة والذي تطور بسرعة فائقة عبر مختلف أنحاء شمال شرقي البلاد وكان من الممكن أن يمتد إلى سائر أرجاء الوطن لولا إحجام القيادة وترددها أمام عمليات القمع الأعمى التي قامت بها سلطات الاستعمار على مسمع ومرأى ممثلي الحلفاء المنتصرين الذين كان سكوتهم دليلاً قاطعاً على تبنيهم للجريمة الفرنسية وارتياحهم لوقوعها. أحداث الفاتح من مايو 1945: إن اللجنة المديرة لحزب الشعب المحلول هي التي قررت بالإجماع تنظيم مظاهرات شعبية بمناسبة الاحتفالات بعيد الطبقة الشغيلة، ولقد اتخذت قرارها ذلك عشية الفاتح من مايو نفسه ووجهت تعليماتها في تلك الليلة إلى كافة الهيآت الحزبية وهي تهدف من وراء ذلك، إلى التدليل على نفاذها المحكم في أوساط الجماهير الشعبية، وعلى أنها محل ثقة الشعب الجزائري الذي تتحدث باسمه وتعمل من أجل تحريره وتمكينه من ممارسة حقه في تقرير مصيره بنفسه.

ويذكر المسؤولون السياسيون (66) الذين باشروا الأعمال التحضيرية وأشرفوا على سير الأحداث فيما بعد، أن المدن الجزائرية الكبرى ومدينة العاصمة على وجه الخصوص قد عاشت ليلة بيضاء وتحولت إلى ورشات كبيرة للإنجاز، وما كاد الصباح يلوح حتى وجدت الأعلام الوطنية بالمئات، وكتبت اللافتات باللغتين العربية والفرنسية، وتم تعيين فرق التأطير والإسعاف والإسناد والتحريض، وضبطت مراكز انطلاق المتظاهرين، وحددت نقاط التقاط الروافد الشعبية والمحطات النهائية. كل ذلك في سرية تامة تدل، بما لا يدع أي مجال للشك، على قدرة فائقة في التخطيط والتسيير، وعلى سيطرة القيادة على قواعدها وتفاعلها مع إطاراتها ومناضليها. لم تكن قيادة حزب الشعب الجزائري تريد، فقط، المشاركة في احتفالات أول مايو بل إنها كانت ترمي إلى توظيف تلك المناسبة من جهة لتختبر مدى قدرتها على تعبئة الجماهير وتجنيدها، ولتعلم إلى أي حد تستطيع هذه الأخيرة أن تسير وراءها بكل الثقة التي لا بد منها لنجاح المشاريع الحيوية، ومن جهة أخرى، فإن اللجنة المديرة كانت تسعى إلى اجتياح الشارع بقوتها الحقيقية حتى يتغير رأي الحلفاء ويتأكدوا من التفاف أغلبية الشعب الجزائري حول الحركة المصالية في نضالها من أجل استرجاع السيادة الوطنية وإقامة الجمهورية الجزائرية المستقلة عن فرنسا. على هذا الأساس، سهرت قيادة الحزب السرية على أن تكون المظاهرات التي تنظمها مغايرة تماماً، شكلاً ومضموناً، للمظاهرات التي تعودت النقابات تنظيمها بتلك المناسبة. أما من حيث الشكل فإنها قررت أن تجعل منها نموذجاً للعلم المتقن وللجدية والانضباط اللذين ينمان عن وعي المشاركين بخطورة الموقف وقدرتهم الفائقة على تطبيق التعليمات، وأما فيما يخص المضمون، فإنها، رغم احترامها للمطالب العادية التي ينادي بها العمال في مثل تلك التجمعات، قد قررت أن يرفع المتظاهرون شعارات وطنية فيها مطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وفي مقدمتهم زعيم الشعب الجزائري السيد الحاج مصالي، وبحق الجزائر في تقرير مصيرها بنفسها وفي استرجاع سيادتها وإقامة المؤسسات الوطنية المستقلة. ولإعطاء كل تلك الشعارات وزناً أثقل وقيمة أعظم كان لا بد من رفع الأعلام الوطنية التي صدرت تعليمات صارمة برعايتها وحماية رافعيها والاستماتة في الدفاع عنها كي لا تقع في أسر الشرطة الاستعمارية.

وتمهيداً للمظاهرات، وفي نفس ليلة الفاتح من مايو، تم توزيع آلاف المنشورات عبر مختلف أنحاء الوطن لتكون مرشداً سياسياً بما تضمنته من تذكير بالمطالب التي يجب التركيز عليها أثناء المسيرات الشعبية وبالشعارات التي ينبغي رفعها حتى يضفي على المظاهرات، في جميع المدن والقرى الجزائرية، طابع الشمولية والوحدة، وليدرك الملاحظ، الأجنبي خاصة، أن المنطلق أيديولوجي ولا علاقة له بالخبز ولا بالوضعين الاقتصادي والاجتماعي المترديين. لقد كانت تلك المنشورات مصاغة بأسلوب تلغرافي حتى يسهل توظيفها والاستفادة من محتواها إلى أقصى الحدود، وإذا كان كل ما جاء فيها من شعارات ومطالب لا يتجاوز ما هو معمم بالفعل في أوساط الجماهير الشعبية الواعية، فإن ثمة جديداً لا بد من التوقف عنده لما له من دلالة سياسية، ويتمثل ذلك في كون تلك المنشورات لم تكتب فقط باللغتين العربية والفرنسية ولكن جزءاً منها جاء مكتوباً باللغة الانكليزية وهي دعوة صريحة للحلفاء كي يعيدوا النظر في مواقفهم الأخيرة التي حادت عن الوعود المشار إليها أعلاه. إن كل من كتبوا حول هذا الموضوع يتفقون على أن تعليمات اللجنة المديرة لحزب الشعب الجزائري قد اتبعت بدقة شديدة، وخرج المتظاهرون في هدوء ونظام مثاليين سواء كان ذلك في سائر مدن الشرق الجزائري أو في مدن تلمسان والجزائر العاصمة ووهران. وفي كل مدينة كانت المواكب تضم أعداداً من المواطنين تفوق بكثير الأعداد التي تمكنت النقابات المختلفة من جمعها للاحتفال بعيد الطبقة الشغيلة. وتنفيذاً لما جاء في المنشورات رفع المتظاهرون لافتات كتبت عليها سائر الشعارات المحددة من طرف قيادة الحزب، وكانت الأعلام الوطنية تتقدم الأمواج البشرية التي كانت تهتف بحياة الجزائر وتنادي باسترجاع سيادتها وإقامة مؤسساتها المستقلة وإطلاق سراح معتقليها السياسيين وفي مقدمتهم الزعيم الحاج مصالي. وعلى الرغم من أن القمع الاستعماري كان وحشياً ضد المشاركين في جميع المسيرات التي وقعت في كافة أنحاء البلاد، وعلى الرغم من أن الشرطة أطلقت النار على المتظاهرين في كثير من المدن الجزائرية وخاصة منها وهران حيث استشهد مواطنان وجرح أكثر من عشرين شخصاً، (67) فإن مظاهرات العاصمة هي التي، أكثر من غيرها، قد استوقفت الكتاب والمؤرخين. انطلقت مظاهرات العاصمة من محطات ثلاث هي: بلكور، القصبة وباب

الوادي (68)، على أن تكون ساحة البريد المركزي هي نقطة التجمع العام الذي كان من المقرر أن يتناول فيه الكلمة عدد من أعضاء اللجنة المديرة لحزب الشعب الجزائري المحظور (69). وبالفعل اجتمعت جماهير غفيرة في باب الوادي ثم تكاثرت أعدادها بانضمام المتجمعين في ساحة الحكومة (ساحة الشهداء حالياً) إليها، وسلك الموكب نهج باب عزون ليمر أمام مبنى المسرح الوطني قبل أن يدخل إلى نهج علي بومنجل حيث يلتقي في نهايته مع الموكب الذي انطلق من جامع سيدي عبد الرحمن ومر جزء منه بنهجي عمار القامة وذبيح الشريف حالياً. أما الجزء الثاني فإنه سلك نهج ذبيح الشريف صعوداً وتبع نهج موقادور) (Mogador ليصل إلى ساحة الأمير عبد القادر حالياً ومنها التحق بالبريد المركزي. أما الموكبان الملتحمان في نهاية نهج علي بومنجل (ديمون ديرفيل سابقاً) فإنهما دخلا في مظاهرة صاخبة إلى شارع العربي بن مهدي (إيزلي سابقاً) وراحا يتقدمان بنظام وانتظام في اتجاه البريد المركزي. غير أن سكان الشارع كانوا كلهم أوروبيين فاستنجدوا بالشرطة التي وصل رجالها بسرعة كبيرة وبدأ الرصاص يطلق على المتظاهرين من شرفات المنازل ومن قبل عناصر الشرطة. وفي مستوى الكازينو. سقط الشهيدان غزالي الحفاف وعبد القادر زياد. (70). لقد كان أول مايو سنة 1945 امتحاناً عسيراً بالنسبة لجميع القرى والمدن الجزائرية التي أقدم فيها حزب الشعب المحظور على تنظيم مسيراته الاستظهارية، وفي نهاية اليوم، عندما اجتمعت القيادات الحزبية محلياً ووطنياً، كانت النتيجة إيجابية إذ ثبت أن الجماهير الشعبية في الجزائر حينما يطلب منها الإقدام على التضحيات القصوى فإنها لا تتأخر وهي على استعداد لاتباع الحركة الوطنية في طريق النضال بجميع الوسائل من أجل استرجاع السيادة الوطنية المغتصبة. وبالنسبة للأوروبيين، فإن أول مايو 1945 كان يوماً مرعباً، ليس لما وقع فيه من مظاهرات شعبية وقمع وحشي، ولكن لأنه كان تعبيراً قوياً على المستوى العالي من النضج السياسي الذي وصلت إليه أغلبية جماهير الشعب الجزائري، لأجل ذلك فإنهم بجميع مشاربهم السياسية وانتماءاتهم الفكرية والأيديولوجية، راحوا يطالبون السلطات الحاكمة باتخاذ جميع الإجراءات لإقامة سد منيع بين الحركة الوطنية في الجزائر وأهدافها الخاصة باسترجاع الاستقلال

الوطني، ولكي لا يتكرر مثل ذلك اليوم في حياة البلاد التي يريدونها، فقط، حقلاً واسعاً وهادئاً للاستغلال بسائر أنواعه. وأما بالنسبة للإدارة الاستعمارية ذاتها، فإن أول مايو 1945 كان دليلاً قاطعاً على أن أعداداً كبيرة ممن كانوا يسمون بالمعتدلين والموالين لفرنسا قد قطعوا الحبال التي كانت تشدهم إلى "الميتروبول" والتحقوا رغم كل شيء بصفوف الوطنيين العاملين على استرجاع السيادة الوطنية بجميع الوسائل ومهما كان الثمن. معنى ذلك، أن الحلول الاستعمارية الجاهزة مثل الاندماج والالحاق والمساواة كلها أصبحت معرضة للاختفاء والزوال. لأجل ذلك، فإن المشرفين على تلك الإدارة قد أرهفوا السمع لأصوات الكولون والشيوعيين المطالبة بإحكام التصدي للحركة الوطنية الجزائرية باعتبارها وكراً لمناهضي الديمقراطية وكابحاً قوياً يمنع قطار الحرية والسلام من التقدم. من هذا المنطلق، وعلى هذا الأساس، ألقي القبض على مجموعة كبيرة من الإطارات القيادية في حزب الشعب الجزائري المحظور (71)، بينما لجأت مجموعة أخرى منهم إلى الحياة السرية في المدن والقرى الجزائرية أو إلى الجبال تحتمي بقممها ووديانها وشعابها. واغتنم الحزب الشيوعي الجزائري هذه الفرصة فوزع منشوراً (72)، يتهم فيه الحركة المصالية بأنها "لوثت انتصارات الطبقة الشغيلة بدماء الأبرياء "في حين كان يجب أن تتحد جهود المحرومين من أجل تحقيق انتصارات جديدة. وفي اليوم الموالي جاء جواب حزب الشعب الجزائري بواسطة منشور يحمل تاريخ 4/ 5/1945 وهو موجه إلى جميع الفرنسيين وخاصة منهم إلى العمال المنخرطين في صفوف الكنفدرالية العامة للشغيلين وإلى الحزبين الاشتراكي والشيوعي الفرنسيين وكذلك إلى منظمة فرنسا المكافحة. ومما جاء في ذلك المنشور: "أن الهتليريين الحقيقيين إنما هم أولئك الذين سلحوا الشرطة لتقتل إخوان وآباء وأقارب الأجناد الذين ساهموا لتحرير فرنسا وحاربوا في ألمانيا جحافل الفاشية والنازية" (73). واجتمع المكتب المركزي لحركة أحباب البيان والحرية برئاسة السيد فرحات عباس في نفس اليوم الذي وزع فيه منشور حزب الشعب الجزائري، وصادق بالإجماع على نشرة موجهة إلى جميع الفرنسيين (74) فيها تنديد بالقمع الذي تعرض له المشاركون في مظاهرات فاتح مايو 1945، واحتجاج على حملات الاعتقال الموجهة ضد الوطنيين الجزائريين ومطالبة بإطلاق سراح

أحداث ثامن مايو

الحاج مصالي وسائر المعتقلين السياسيين وفي اليوم الموالي للاجتماع، أصدر المكتب المركزي بياناً ندد فيه بالاتهامات القائلة إن منظمي مظاهرات أول مايو في مختلف مدن الجزائر وقراها كانوا هتليريين يهدفون إلى إفساد الاحتفالات بعيد الشغل العالمي. (75). أحداث ثامن مايو: وفي نهاية الإسبوع الأول من شهر مايو سنة 1945 استسلمت ألمانيا أمام ضغط الحلفاء والاتحاد السوفياتي وتقرر أن يكون اليوم الثامن من الشهر المذكور موعداً للاحتفال بالنصر المبين، وإذا كانت قيادة حزب الشعب الجزائري قد قررت المشاركة الفعلية في تلك الاحتفالات من أجل تأكيد رغبة .............. ................ (*) العسكرية التي قادت الأول إلى السجن ووجهت الثاني إلى مستشفى "مايو" للعلاج" (78). والحرية قد أقدمت، في الشرق الجزائري خاصة، على تنظيم مسيرات مستقلة عن المظاهرات الرسمية، وتمكنت في بعض المدن والقرى من إنجاز ذلك في إطار قانوني بعد أن حصلت على ترخيص من السلطات المعنية (79). لكن ذلك لم يحل دون القمع البوليسي وإراقة دماء الأبرياء. أما فيما يخص قرار المشاركة الذي اتخذته قيادة حزب الشعب الجزائري، فإن السيدين أحمد بوده وعبدون يزعمان، من خلال الشهادات التي أعطياها لعدد من الكتاب والجامعيين (80)، أنه نقل بدون تعليق إلى القواعد الحزبية ثم تركت المبادرة إلى المناضلين ينفذونه كيفما شاؤوا وطبقاً لإمكانياتهم وحسبما تمليه الظروف المحلية، ويضيف المسؤولان أن الأمر بالتظاهر قد صدر، فقط، عن قيادة حركة أحباب البيان والحرية. إن هذا الإقرار غير صحيح، لأن السيد شوقي مصطفى، الذي كان من القياديين الوطنيين الأساسيين، يذكر أنه تولى بنفسه صياغة التعليمات التي أرسلت إلى القواعد من أجل تجسيده قرار القيادة على أرض الواقع (81). وأن القارئ ليجد تأكيداً لذلك في شهادة السيد السعيد عمراني التي قدمها إلى الرئيس ¬

_ (*) - نقص صفحة كاملة من المخطوط غير موجودة.

ابن يوسف بن خدة والتي جاء فيها أن التعليمات المذكورة تضمنت أمر المناضلين برفع الأعلام الوطنية وكذلك أعلام الحلفاء بما في ذلك العلم الفرنسي (82)، ومهما يكن من أمر، فإن كل المسؤولين والمناضلين يؤكدون أن حزب الشعب الجزائري قد أعد منشوراً في الموضوع ووزعه يوم 6/ 5/1945 في الجزائر العاصمة وفي أهم مدن البلاد وقراها. ولقد تضمن المنشور المذكور دعوة جميع المناضلين إلى رفع الأعلام الوطنية وكذلك عدداً من اللافتات التي تعبر عن المطالبة بتحرير الشعب الجزائري وإطلاق سراح الحاج مصالي وسائر المعتقلين السياسيين، وعن التنديد بالاستعمار والامبريالية بجميع أشكالها. وفي الواقع، فإن جميع المسيرات الشعبية بما في ذلك تلك التي أشرفت على تنظيمها فروع حركة أحباب البيان والحرية، قد وظفت نفس الشعارات لأن مناضلي حزب الشعب الجزائري كانوا، في كل الحالات، هم المحرك الرئيسي للمظاهرات. على هذا الأساس، ومن هذا المنطلق، نستطيع الجزم بأن قيادة حزب الشعب الجزائري السرية هي مصدر الأمر بتنظيم المسيرات الشعبية والمشاركة فيها بمناسبة الاحتفالات بعيد الانتصار على النازية، وإذا كانت القيادات المحلية لحركة أحباب البيان والحرية، في جل الأماكن، هي التي أشرفت مباشرة على العملية، فلأنها كانت، في معظمها، مكونة من إطارات قيادية من الحزب المذكور وهي، في تحركها، إنما كانت تطبق التعليمات الصادرة عن قيادتها الأساسية، لأن القيادة العليا لحركة أحباب البيان والحرية لم تتلق موافقة السلطات الاستعمارية ولم تكن مستعدة لخرق القانون. ولقد كان حزب الشعب الجزائري يهدف، من خلال تنظيم المسيرات الشعبية، إلى لفت انتباه الحلفاء عامة وحكومة الجنيرال ديغول بصفة خاصة، إلى الواقع الجديد الذي آل إليه الشعب الجزائري وهو واقع الاستعداد المطلق لتحمل مسؤولياته كاملة في تسيير شؤونه بنفسه. ومن الجدير بالذكر، أن ذلك الواقع الجديد لم يتشكل دفعة واحدة بل هو حصيلة كل الأحداث والتطورات التي وقعت خاصة أثناء الحرب الامبريالية الثانية، والتي تعرضنا إليها بإيجاز كبير في الصفحات السابقة، ويمكننا، بعد التدقيق والتمحيص، أن نقول عنها إنها ممهدات الثورة من أجل استرجاع السيادة الوطنية.

المؤامرة الاستعمارية

المؤامرة الاستعمارية: ولقد كانت السلطات الاستعمارية التي عايشت عن كثب تلك الأحداث والتطورات، تعرف أنها أمام حركة سياسية نوعية استطاعت أن تنفذ بسرعة وبحكمة إلى جميع الأوساط الشعبية، وتمكنت من نشر الوعي اللازم لجر الجماهير الواسعة إلى العمل الثوري بجميع أنواعه ومن إقناعها بالإقدام على التضحية القصوى في سبيل استرجاع الاستقلال الوطني الكامل. لأجل ذلك، فإنها لم تبق مكتوفة الأيدي. وبقدر ما كانت تعمل على خرق الصفوف الوطنية ومضايقة الإطارات القيادية وملاحقتهم، فإنها كانت تستعد الاستعداد اللازم لاقتلاع جذور الحركة الاستقلالية في أول فرصة تتاح لها. ويتمثل استعداد تلك السلطات الاستعمارية في العمل على جبهتين أساسيتين هما: 1 - الجبهة السياسية التي خصصتها لزرع بذور الشقاق في صفوف حركة أحباب البيان والحرية بقصد فصل من كانوا يسمون بالمعتدلين والمنتخبين عن مناضلي الحركة المصالية. وقد استعملت الإدارة الفرنسية في هذه الجبهة، جميع مالديها من وسائل الترغيب والترهيب (83) كما أنها لم تتردد في اللجوء إلى توظيف الجهوية والعشائرية والانتماءات الفكرية والثقافية. 2 - الجبهة المادية التي خصصتها لإعداد وسائل القمع الضرورية لإنجاز مهمة الاستئصال ولتوفير الإمكانيات العسكرية والأمنية اللازمة لخنق بوادر الثورة في الوقت المناسب. ومن جملة الإجراءات التي اتخذتها الإدارة الاستعمارية بهذا الصدد نذكر على سبيل المثال: أ - حصر المناطق التي تجمع التقارير المخابراتية على أنها أوكار للحركة المصالية العاملة على تحقيق الانفصال عن فرنسا بواسطة استرجاع السيادة الوطنية المغتصبة سنة 1830. وحسب تلك التقارير، فإن المناطق الأكثر خطورة هي: الجزائر العاصمة، الشمال القسنطيني، القبائل الكبرى والقبائل الصغرى، وهران، تلمسان والأوراس. ب - تدريب قوات الجيش الفرنسي المرابطة بالمناطق المذكورة على التصدي لحرب العصابات. ويذكر بايا (84) (Paillat) إن تلك القوات كان تعدادها يزيد عن ستين ألف جندي وضابط، وأن أول تدريب

ميداني شارك فيه القادة العسكريون والمدنيون إنما وقع في شهر يناير (كانون الثاني) سنة 1945. ج - إقدام عامل عمالة قسنطينة السيد لاستراد كربونال (Carbonnel Lestrade) على تكوين فصائل الميليشيا بنواحي برج بوعريريج، وذلك ابتداء من شهر ديسمبر (تشرين ثاني) سنة 1944. وعلى إثر فترة التدريب تم تعين القادة ووزعت الأسلحة وأعطيت التعليمات التي كانت تتلخص في العمل من أجل هدف واحد هو إبادة إطارات ومناضلي حزب الشعب الجزائري (85). إن بعض المحللين السياسيين، اليوم، يلقون باللائمة على قيادة حزب الشعب الجزائري متهمين إياها بالتهور وعدم الوعي بالأخطار التي عرضت لها عشرات آلاف الجزائريات والجزائريين. إن هذا الموقف، مهما كانت دوافعه، غير سليم خاصة عندما نعرف أن القيادة المذكورة كانت، فعلاً، مصممة على إشعال فتيل الثورة كإجراء أخير من أجل إرغام فرنسا على التسليم بحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره بنفسه؛ لكن الثامن من مايو لم يكن هو اندلاع الثورة بل إنه، على غرار الفاتح من نفس الشهر، كان، فقط استظهاراً لما تتوفر عليه الحركة الوطنية الجزائرية من قدرة على تعبئة الجماهير الشعبية وتجنيدها، ومنبهة للحكومة الفرنسية وللحلفاء على درجة النضج التي بلغها الجزائريون الذين أصبحوا تواقين للحرية والانعتاق. ومما لاشك فيه أن الإدارة الاستعمارية كانت تدرك كل ذلك، كما أنها كانت تعلم أن قيادة حزب الشعب الجزائري التي أمرت بتنظيم المسيرات الشعبية تخليداً لانتصار الديمقراطية في العالم، قد أصدرت في ذات الوقت تعليماتها الصارمة لجميع المناضلين كي لايحملوا معهم أي نوع من أنواع السلاح حتى يظل التظاهر سلمياً وللغرض المشار إليه أعلاه فقط لكن الأهداف الاستعمارية كانت مسطورة من قبل وكانت المسيرة هي المصيدة على حد تعبير السيد فرحات عباس (86). لقد كان الثامن من مايو سنة خمس وأربعين وتسعمائة وألف يوم ثلاثاء، وبحكم تواجد معظم الميليشيات في المحور الرابط بين برج بوعريريج ومدينة سطيف، فإن هذه الأخيرة قد اختيرت من طرف الإدارة الاستعمارية لتكون منطلق المجزرة الرهيبة التي لاشك في أنها كانت من تخطيط وتنفيذ السلطتين المدنية والعسكرية في الجزائر، وبمباركة حكومة باريس التي كانت برئاسة

الجنرال ديغول في ذلك الوقت (87). إن كل المصادر التاريخية بما في ذلك تقرير الجنرال تيبار (Tubert)(88)، يثبت أن نائب عامل الولاية في سطيف قد أبدى موافقته الشفاهية للوفد الذي ذهب إليه يلتمس الإذن لتنظيم مسيرة شعبية تتوج بوضع أكليل من الزهور على قبر الجندي المجهول. وفي مدينة قالمة، أيضاً، حصل فرع حركة أحباب البيان والحرية على ترخيص من نائب عامل العمالة. وللتذكير، نشير إلى أن عامل الولاية هو لاستراد كريونال، المشرف العام على فرق الميليشيا. وبالموازاة مع الترخيص فإن نائبي عامل الولاية قد أمرا محافظي الشرطة وضباطها بخلق الفرص لإطلاق النار قصد تفجير الأوضاع وتمكين الكولون والأجناد من ارتكاب الجريمة. ولم يكن عامل ولاية قسنطينة هو المهندس الوحيد لعمليات القمع الإجرامية رغم أنه كان، بواسطة نائبيه في سطيف وقالمة، معلناً على بداياتها ومسؤولاً على تأجج نيرانها، ولكن مصادر التاريخ فيما بعد، قد أثبتت أن كربونال كان ينشط تحت الإشراف المباشر لسكرتير عام الولاية العامة السيد روني قازان (Rene Gazagne) الذي كان واحداً من دعاة اللجوء إلى العنف لاستئصال الحركة الوطنية في الجزائر (89) والذي كان، إلى جانب غلاة الكولون، قد قام باتصالات واسعة النطاق في فرنسا من أجل ضمان مساندة مجموعة من أصحاب الحل والربط في حكومة باريس. ولقد كان الكولون وأعوانهم يعتقدون أن التقتيل الأعمى سيمكنهم من القضاء نهائياً على قواعد حزب الشعب الجزائري، ومن زرع الرعب في نفوس كل الجزائريين، قصد صدهم عن مجرد التفكير في محاولة العمل على ضرب المصالح الاستعمارية في الجزائر. ومن الغريب أنهم استطاعوا، بكل سهولة، أن يرسخوا ذلك الاعتقاد في أذهان عدد كبير من أصحاب القرارومن القريبين منهم في أوساط الحكم الفرنسي على اختلاف أنواعه. فن هذا الباب كان التخطيط للجريمة محكماً، تبناه الجنرال ديغول في أعلى قمة الهرم، وأشرف على تنفيذه من بعيد وزير الحرب الفرنسي آنذاك، السيد تييون (Tillon) الذي كان من الأعضاء البارزين في قيادة الحزب الشيوعي الفرنسي (90). ومما يدل دلالة قاطعة على أن القمع كان مبيتاً وأن الإدارة الاستعمارية

كانت في أتم الاستعداد له وأن التدخل العسكري جاء سريعاً للغاية حتى في القرى والمداشر النائية. وعلى سبيل المثال، فإن المسيرة التي انطلقت في الأوريسية بالقرب من مدينة سطيف على الساعة الثانية والنصف من زوال اليوم الثامن من شهر مايو قد اصطدمت بفرق من الجيش الفرنسي على الساعة الرابعة أي فقط بعد ساعة ونصف من انطلاقها وهو أمر مستحيل في الظروف العادية. وفي اليوم التاسع من شهر مايو وفي مدينة لافاييت (بوقاعة حالياً) وصل الأجناد إلى مكان المسيرة في ظرف ساعة فقط (91). على هذا الأساس، وتنفيذاً للتعليمات الصادرة عن عامل ولاية قسنطينة ومساعديه في كل من سطيف وقالمة، أقدم ضباط الشرطة في هاتين المدينتين الأخيرتين على استفزاز المتظاهرين من أجل إيجاد الظروف التي تسمح بإطلاق النار؛ وفي المدينتين كانت تلك الظروف هي محاولة انتزاع العلم الجزائري من أيدي المناضلين الذين رفضوا الامتثال لأوامر ممثلي السلطة الاستعمارية الذين لم يترددوا في اللجوء إلى أسلحتهم (92). وبسقوط الضحايا الأوائل أخذت المسيرات الشعبية السلمية طابعاً آخر جعلها تتحول بالتدريج إلى حركة ثورية ظلت متواصلة طيلة ماتبقى من شهر مايو سنة 1945. وفيما يخص الاستفزازات البوليسية هناك شهود عيان (93) يذكرون أن المسيرة في مدينة سطيف انطلقت هادئة من ناحية المسجد الجديد، وظلت كذلك حتى قطعت حوالي ألف متر ووصلت إلى مقهى فرنسا على الشارع الرئيسي حيث كان يجلس المفتش لافون Laffont مرتدياً الزي المدني. إن هذا الأخير غادر مكانه بسرعة وراح يخرق صفوف المتظاهرين محاولاً افتكاك اللافتات المنادية بحياة الحلفاء وسقوط الامبريالية من حامليها. وأمام رفض المناضلين ومقاومتهم الشديدة أطلق الرصاص عليهم فكان ذلك إيذاناً ببدء المجزرة على أيدي أفراد الشرطة الذين كانوا يؤطرون المسيرة. وإن وزير الداخلية الفرنسي نفسه قد أكد أن جميع التقارير التي وصلته لم تتضمن "أي دليل على أن القادة الوطنيين كانوا يريدون إشعال فتيل الثورة الشاملة يوم 8/ 5/1945. بل إنها (أي التقارير) شكلت لديه قناعة مطلقة بأنهم فقط كانوا يهدفون إلى استظهار قوتهم وإخراج مناضليهم قصد عدهم ودعم انضباطهم ونشر قوتهم أمام السلطات الفرنسية وحكومات الحلفاء" (94).

رد الفعل الوطني والثورة الشاملة

رد الفعل الوطني والثورة الشاملة: إن ماأورده السيد أدريان تيكسي هو الحقيقة، وهو الدليل على أن التقارير الواردة إليه كانت صحيحة: لكن الذي ينعدم في شهادة السيد وزير الداخلية هو أن استفزازات الشرطة التي كانت بأمر من مسؤولي الإدارة الاستعمارية هي التي كانت السبب المباشر في إشعال فتيل الثورة الشاملة. وبالفعل، فإن سقوط الضحايا الأوائل قد أحدث في أوساط المتظاهرين ضجة وارتباكاً كبيرين قادا، في غمرة المفاجأة، إلى مجموعة من ردود الفعل منها على سبيل المثال: 1 - ارتفاع الأصوات المنادية ببدء الجهاد في سبيل الله، والداعية إلى العودة إلى المنازل وإخراج مافيها من أسلحة ثم الرجوع إلى الشارع للاقتصاص من الأوروبيين بصفة عامة. 2 - مغادرة المتظاهرين المدن وأطرافها واللجوء إلى القرى والمداشر، وفي الطريق كانوا يخبرون الناس بأن الجهاد قد أعلن وأن المعارك الطاعنة تدور رحاها في شوارع المدن التي هم منها قادمون. 3 - اجتماع القيادات المحلية لحزب الشعب الجزائري. وبعد دراسة الأوضاع رفعت التقارير في حينها إلى اللجنة المديرة المؤقتة في العاصمة التي عقدت جلسة عاجلة في تلك الليلة لم ترفعها إلا بعد أن حصل الإجماع على الإجراءات اللازم اتخاذها لحماية الجماهير الشعبية في الشرق الجزائري خاصة من عمليات التقتيل الجماعي التي انتشرت بسرعة فائقة تحت إشراف قائد القوات المسلحة الجنرال ديفال (Le General Duval) وبمشاركة الكولون المسلحين والشرطة ورجال الدرك والأجناد من مختلف الأسلحة. 4 - سجلت اللجنة المديرة المؤقتة لحزب الشعب الجزائري نبأ اعتقال السيدين عباس وسعدان ثم ناقشت جميع المعطيات المتوفرة لديها وقررت أن تكون بداية الثورة الشاملة عند منتصف الليل بين يومي 23و24 مايو 1945، ووزعت المهام على الطريقة التالية: - يتولى الإشراف على العاصمة وضواحيها السيد محمد بلوزداد. - توكل مسؤولية الغرب الجزائري للسيدين محمد محفوظي وعبد الله فيلالي.

- تسند مسؤولية الشرق الجزائري للسيدين مسعود بوقادوم والشاذلي مكي. - يتولى مسؤولية الجنوب الجزائري السيد أمحمد بن مهل. - تسند مسؤولية منطقة القبائل للسيد علي حاليت، ومنطقة شرشال للسيد جيلالي رقيمي بينما يتولى السيد أحمد بوده مسؤولية منطقة الأربعاء وتابلاط. وبدون أدنى تردد أو انتظار شرع في تطبيق القرار الذي وجد كل الترحاب في أوساط القواعد المناضلة، لكن السلطات الاستعمارية لم تتوقف عند الجرائم المرتكبة في ذلك اليوم الرهيب، بل إن القوات الفرنسية المسلحة قد استمرت، خلال الأيام الموالية وبكيفية تصاعدية في ممارسة القمع الأعمى تجاه المداشر والقرى وفي سائر الشرق الجزائري، ولم تترك سلاحاً واحداً بعيداً عن العملية ونظيفاً من دماء الجزائريات والجزائريين الأبرياء. إن المؤرخين الفرنسيين، وتباعاً الغربيين بصفة عامة يتجاهلون الحقيقة عندما يتحدثون عن رد فعل السلطات الاستعمارية، ولو كانوا موضوعيين لكتبوا عن أفعالها الوحشية واللاإنسانية التي أدت إلى رد فعل جماهير الشعب الجزائري بقيادة طلائعه الوطنية. فالجزائريون لم يلجأوا إلى العنف إلا بعد أن بدأت الشرطة الفرنسية تطلق الرصاص على المتظاهرين بدون تمييز. عندها فقط ارتفعت أصواتهم مدوية تدعو إلى الاقتصاص وإلى الانضواء تحت لواء الجهاد في سبيل الله ومن أجل تحرير البلاد والعباد. وأمام عمليات التقتيل المنظمة والمستهدفة إبادة أكبر عدد ممكن من الجزائريين، وتصدياً لتحركات فيالق الجيش الفرنسي المدعمة بوحدات إفريقية (95)، وللقصف المكثف الذي كانت تقوم به أسراب الطائرات وقطع البحرية العسكرية، اضطر الجزائريون إلى الهجوم على المراكز الإدارية الرسمية وعلى ثكنات العدو وحصونه حيثما وجدت مستعملين في ذلك كل ماتوفر لديهم من أسلحة بدءاً من السلاح الأبيض وانتهاءاً بالأسلحة الأوتوماتيكية مروراً ببنادق الصيد والمتفجرات التقليدية. في هذا الإطار، وعلى سبيل المثال فقط، تجدر الإشارة إلى تقرير قائد الدرك الوطني في قرية بني عزيز (شوفراي سابقاً) الذي جاء فيه: "يوم 9/ 5/45 في الساعة الثانية صباحاً أطلق الرصاص في القرية وتعرضت المنازل

عمليات الإبادة وتشغيل الأفران

إلى الرشق بالحجارة. وعند الساعة السابعة قام أكثر من ألف رجل بتطويق الثكنة وأمطروها بوابل من نيران الأسلحة الفردية والأوتوماتيكية. ثم أتلفوا قنوات المياه وخط الكهرباء. وقد كان عملهم يتميز بانضباط عسكري بحت. وفي الساعة العاشرة وعشرين دقيقة تدخلت مجموعتان من الطائرات المطاردة، لكن المهاجمين بادروا إلى إطلاق نيران مكثفة على جميع فتحات الثكنة. وفي نفس الوقت قام حوالي مائة منهم بالدخول إلى الطابق الأرضي مضطرين المدافعين على اللجوء إلى الطابق الأول. وأشعلت النار في الأسطبل وفي المخازن ... وفي يوم 10/ 5/1945 تدخلت وحدات عسكرية متنقلة لتشتيت المحاصرين الذين كانوا يستعدون لتفجير الثكنة بواسطة ما اقتنوه من متفجرات" (96). عمليات الإبادة وتشغيل الأفران: كانت عمليات القمع رهيبة. ونحن نعتقد، رغم كل مانشر، أن نتائجها لم تضبط حتى الآن، ولايمكن أن تحصر بصفة دقيقة ونهائية، لكن الذي لايعتريه أدنى شك هو أنها تأتي في مقدمة جرائم الحرب المرتكبة ضد الإنسانية، قبل كل الجرائم التي تحظى اليوم بعناية المؤرخين ورعاية الدول العظمى والمنظمات الدولية وخاصة منها منظمة الأمم المتحدة. فالأفران المحرقة شغلت نواحي مدينة قالمة: ومازال الشعب يذكر، بألم وحسرة، كيف كانت تبتلع بنهم مئات الجثث الطاهرة البريئة. غير أن العالم، اليوم، لايتحدث إلا عن الأفران التي قد يكون الألمان استعملوها لحرق اليهود أثناء الحرب الامبريالية الثانية. كما أن وسائل الإعلام الدولية ترفض أن تتوقف عند الأفران الأولى التي أقامها الجيش الاستعماري في منطقة الضهرة ليحرق قبيلة أولاد رياح مع معظم حيواناتهم الأليفة. إن الوحشية الاستعمارية لم تتغير كثيراً خلال قرن كامل من السيطرة والاضطهاد والاستغلال، ولم تتغير كذلك سلوكات الضباط الفرنسيين وتصرفاتهم إزاء الجزائريين. ويكفي للتدليل على مانقول أن نسوق فيما يلي اعترافات الجنرال كافينياك (Cavaignac) حول مافعله لإبادة قبيلة بني صبيح سنة 1844. قال الجنرال: "لقد تولى الأجناد جمع كميات هائلة من أنواع الحطب ثم كدسوها عند مدخل المغارة التي حملنا قبيلة أولاد صبيح على اللجوء إليها بكل ماتملك من متاع وحيوانات. وفي المساء أضرمت النيران وأخذت الاحتياطات كي لايتمكن أي كان من الخروج حياً" (97).

وبالنسبة لبقايا بني صبيح الذين نجوا من فرن كافينياك بسبب وجودهم خارج أراضي القبيلة، فإن العقيد كانروبار (Canrobert) لم يدخر أي جهد للبحث عنهم، ولما تسنى له جمعهم بعد حوالي عام من حرق أهاليهم، فإنه قادهم مقيدين إلى مغارة ثانية ثم أمر ببناء جميع مخارجها ليجعل منها على حد تعبيره "مقبرة واسعة لإيواء جثث أولئك المتزمتين. ولم ينزل أحد إلى تلك المغارة، ولايعرف أحد غيري أنها تضم تحت ركامها خمسمائة من الأشرار الذين لم يقوموا، بعد ذلك، بذبح الفرنسيين". وفي تعليقه على هذه الجريمة قال السيد برار: (Berard) لقد ظلت تلك المقبرة مغلقة وبداخلها جثث رجال ونساء وأطفال وقطعان تتآكل أويأكلها التراب" (98). أما الرائد مونطانياك (Montagnac) الذي كان يقود الجيش الاستعماري بنواحي سكيكدة سنة 1843، فإنه لم يكن من هواة الأفران المحرقة أو المقابر الجماعية، لكنه كان عندما يجتاحه القلق يلجأ إلى "قطع رؤوس العرب" لاعتقاده بأن العرب بدءاً من خمس عشرة سنة يجب أن يقتلوا. أما النساء والأطفال فيشحنون إلى جزر المركيز أوغيرها، وبتعبير آخر، يجب أن نبيد كل من يرفض الزحف كالكلاب عند أرجلنا" (99). إن أحفاد يبليسي وكافينياك وكانروبار ومونطانياك وبيجوقد استنطقوا التاريخ وتعلموا من دروسه كيف يتعاملون مع الإنسان العربي في الجزائر؛ فالجنرال ديفال القائد الأعلى للقوات المسلحة في الجزائر والجنرال فايس (Weiss) قائد القوات الجوية والبحرية في ذلك الأسبوع الثاني من شهر مايو 1945 قد أصدرا تعليماتهما لتشغيل الأفران المحرقة في نواحي قالمة ولكي تقنبل الدواوير والمداشر حتى في رؤوس الجبال وتطلق أيادي الكولون والأجناد تعبث كيفما شاءت بحياة الجزائريين ومصائرهم. ففي هذا السياق كتب الضابط بارجوري (Bergeret) في مذكراته "لقد كانت قنبلتنا للمداشر المحيطة بخراطة لاتتوقف أثناء الليل وأثناء النهار، ولدفن جثث المسلمين، فإن الأجناد كانوا يأتون بالأسرى الذين، بعد الانتهاء من مهمتهم، توجه إليهم المدافع الرشاشة" (100). أما "بريد الجزائر" (le courier algerien)، فإنه أورد على أعمدته ما يلي "منذ سنة 1842 والمارشال سانتارنو، وحتى في أحلك أيام تاريخها، فإن الجزائر لم تعرف أبداً قمعاً أكثر وحشية ضد شعب أعزل" فعلى الطرقات وعبر الدروب وفي الحقول والوديان والكهوف، لاترى سوى جثث مبتورة تلتهمها الكلاب

الجائعة: جثث نتنة تحوم عليها الكواسر .. وفي أماكن متعددة أطلال لقرى مدكوكة" (101). لقد اختلف المؤرخون وشهود العيان حول تقدير الخسائر البشرية. فالقنصل الأمريكي بالجزائر يرى أن عدد القتلى يتراوح مابين أربعين وخمسين ألف، بينما يحدد الجزائريون قتلاهم بخمسة وأربعين ألف وهو الرقم الذي تبنته الجامعة العربية في ذلك الوقت. أما السلطات العسكرية الفرنسية فتجعل عدد القتلى بتراوح مابين ستة وثمانية آلاف يضاف إليهم نفس العدد من الأسرى ... (102). وإذا كانت سائر الكتابات قد سجلت أرقاماً متباينة من القتلى والجرحى والأسرى، وتحدثت طويلاً عن المحاكمات التي أسفرت عن كثير من الإعدامات والأشغال المؤبدة والنفي خارج الوطن والحرمان من الحقوق المدنية، فإن السكوت كان عاماً ومطلقاً بالنسبة للخسائر وللأضرار المعنوية. ولقد كان من المفروض أن يتعرض المؤرخون وغيرهم ممن عالجوا حركة مايو الثورية إلى كل تلك المداشر والقرى التي نسفت عن آخرها وإلى كل تلك الحيوانات الأليفة والدواجن التي لم يكن يخلو منها بيت ريفي، وإلى كل تلك الغابات التي تلقت آلاف الأطنان من القنابل التي تساقطت عليها من الجو ومن البحر، كما أنهم لم يتعرضوا لآلاف المصابين نفسياً وعقلياً نتيجة عملية القمع والتعذيب وبسبب المطاردات والملاحقات. إن الإدارة الأمريكية، في ذلك الحين، قد نشرت على أعمدة الصحافة أن الطيران الفرنسي نفذ في ظرف أسبوعين 4500 غارة جوية لتدمير 44 مشتى حسب الإحصاء الاستعماري نفسه فإذا كانت كل مشتى تأوي فقط 500 ساكن، فإن عدد القتلى بواسطة القصف الجوي لن يكون أقل من 22.500 أما عن البحر، ست عشرة سفينة قامت، لمدة أسبوعين كذلك، بقصف الأرياف المجاورة لموانئ بجاية وجيجل والقل وسكيكدة وعنابة، وليس من السهل تقدير الخسائر البشرية والمادية التي ترتبت عن ذلك القصف. إن الدارس المحقق يرفض التسليم بعدد القتلى المتداول اليوم والذي تستبعده المصادر الرسمية الفرنسية التي تجد دعماً لها في منشورات الحزبين الشيوعي والاشتراكي الفرنسي بالإضافة إلى كتابات الشيوعيين الجزائريين. إن استنطاق مختلف التقارير المعاصرة والكتابات المنشورة على أعمدة الصحافة أو المرسلة في طي الكتمان إلى قيادات الجيش الفرنسي أو إلى سائر الجهات الحكومية الفرنسية، وكذلك التمعن في شهادات المعاصرين وفي القصائد الشعرية

والأغاني والأهازيج التي خلدت ماوقع في ذلك الشهر المبارك، كل ذلك يقود إلى تصديق ماجاء في تصريح الدكتور ابن جلول أمام نواب المجلس الوطني التأسيسي الفرنسي بتاريخ 28/ 2/1946 من أن عدد القتلى المسلمين بلغ في ذلك الشهر ثمانين ألفاً (104). ولقد كان السيد فرحات عباس في مقدمة المحللين لما وقع في شهر مايو 1945، ساعده على الارتقاء إلى تلك المكانة ماكان يتمتع به من أفق واسع واطلاع كبير على المعطيات الحقيقية بالإضافة إلى تلك العزلة الطويلة التي فرضت عليه ابتداء من الثامن من مايو 1945 إلى السادس عشر من مارس 1946. يقول الأمين العام السابق لحركة أحباب البيان والحرية في نداء وجهه إلى الشبيبة الجزائرية والفرنسية: "لقد كانت مغامرة سطيف وقالمة الفظيعة موجهة ضدنا وضد أحباب البيان والحرية، ضد طموحات شعبنا الشرعية .. ضد الديمقراطية الفتية في الجزائر. شرع في تنفيذها بينما كان الوئام يسود العلاقات القائمة بين حركتنا وسائر التنظيمات الديمقراطية. وكان الغرض هو عزلنا وإثارة أوربي الجزائر والشعب الفرنسي ذاته ضد إصلاحاتنا وكان المقصود (أيضاً) هو القضاء علينا وتنظيم الانتخابات بدوننا وتحضير الرجوع إلى الوراء ... إلى عهد الاستعمار. المطلق ... إنها جريمة شنعاء ارتكبتها الإدارة، وبشر بها كثير من المغرضين، خاصة منهم لاستراد كربونال (Lestrade Carbonnel) عامل الولاية الذباح الوصولي الذي صرح يوم 20/ 4/1945 قائلاً: "إن عمليات كبيرة ستحدث ضد حزب سياسي يقع حله فيما بعد". فللقضاء علينا، ذهبوا إلى حد ارتكاب الجريمة. وضد شعب أعزل، سلحوا وجمعوا في شكل مليشيات عصابات من الأوغاد والرجعيين. إن لاستراد كربونال - درناند الجزائر - (105) وكذلك عملية أشياري (Achiary) وغيرها ممن زرعوا في أريافنا رعباً هتليرياً بشعاً عليهم، اليوم، أن يدفعوا مقابل الجرائم التي ارتكبوها .. إن ملف الثامن من مايو لم يغلق بعد". تراجع القيادة الثورية وموقف التشكيلات السياسية: إن رأي عباس، في هذا الموضوع، هو عين الصواب. وليس ملف الثامن من مايو، وحده، هو الذي لم يغلق ولكن الملف الإجمالي لكامل الحركة الثورية كله لم يزل مفتوحاً، إلى غاية هذا اليوم، وهو ينتظر اهتمام المؤرخين الوطنيين

ورعاية المؤسسات الرسمية في بلادنا لأن جهد الأفراد وحده غير كاف للفصل في كثير من القضايا بكيفية تضمن الوفاء لأرواح شهداء وضحايا القمع الاستعماري في الجزائر. وعندما نقول: إن جهد الأفراد وحده لايكفي، فإننا لانصدر حكماً انطلاقاً من فراغ، ولكننا نعتمد في منطوق حكمنا على أحداث وقعت بالفعل وهي كثيرة وإن كنا نكتفي، هنا، بالإشارة إلى اثنين منها فقط على سبيل المثال. 1 - في شهر مايو 1985 ألقيت محاضرة أمام طلبة المدرسة العليا للتجارة بدعوة من مديرها العام صديقي الدكتور سيد علي بوكرامي. ونظراً للمكان والزمان وجدتني مساقاً للتركيز على مسألتي الديون الجزائرية المترتبة على حكومة فرنسا قبل الاحتلال، والتعويض عن جرائم الحرب التي ارتكبتها الإدارة والجيش الاستعماريين في بلادنا خلال الفترة الممتدة من سنة 1830 إلى سنة 1962، وبعد تحليل الوثائق الرسمية الموجودة بدور المحفوظات، والتوقف طويلاً عند شهادات المعاصرين لعمليات الإبادة التي تعرضت لها جماهير الشعب الجزائري، خلصت إلى توجيه نداء إلى السلطات الجزائرية المعنية كي تنشر أمام محكمة العدل الدولية دعوى من أجل الحكم على حكومة فرنسا بأن تدفع للشعب الجزائري جميع مستحقاته التي قدرتها في ذلك الوقت بمبلغ 132 ألف مليار فرنك فرنسي. ونشرت أسبوعية الجزائر الأحداث، يومها، ملخصاً عن المحاضرة ترتب عليه احتجاج من السفارة الفرنسية تسبب لي في مجموعة من المشاكل ليس هذا مكان سردها. 2 - ومن غريب الأمور أن السلطات الفرنسية مازالت، إلى يومنا هذا، تلاحق مجرمي الحرب من الألمان ومن الفرنسيين، وعندما تعثر عليهم في أي مكان من الدنيا، فإنها تلجأ إلى جميع الوسائل والحيل من أجل استقدامهم ومحاكمتهم في جو إعلامي وطني وعالمي رغم مرور أكثر من خمسين سنة على الأفعال المرتكبة ورغم تقدم المتهمين في السن ولجوئهم إلى الاغتراب والتستر بأسماء مستعارة أمثال كلوز باربي ويول توفي وغيرهما. وعلى غرار السلطات الفرنسية، فإن الكيان الصهيوني لم يتوقف، منذ أن وضعت الحرب الامبريالية الثانية أوزارها، عن مطاردة المشتبه في أنهم

شاركوا من قريب أو من بعيد في تعذيب اليهود واضطهادهم، كما أنه يغتنم جميع الفرص لإشعار السلطات الألمانية بالذنب وجعلها لاتتوقف عن تقديم المبالغ الباهظة والمساعدات المختلفة تعويضاً عن الأضرار التي قد يكون الجيش الألماني قد ألحقها بأبسط يهودي في أقصى مكان من أنحاء العالم. وعندما يتعلق الأمر بالجرائم المرتبكة ضد الإنسانية في الجزائر، فإن المسؤول الأول عن وقوعها لايتردد في الحديث عنها بكل استخفاف ولايوجد من الجزائريين من يتجرأ حتى على توجيه التهمة إليه. لقد كان الجنرال دي غول يتابع عن كثب عمليات التقتيل الجماعي التي تعرضت لها الجماهير الشعبية في الشرق الجزائري، وعلى الرغم من ذلك، فإنه كتب إلى الوالي العام بتاريخ 12/ 5/1945 يأمره باتخاذ "جميع الإجراءات الضرورية لقمع كل الأعمال المناهضة لفرنسا والتي تقوم بها أقلية من المشاغبين" (107). وعندما نشرت مذكراته سنة سبعين وتسعمائة وألف جاء فيها بالحرف الواحد: "وفي نواحي القسنطينية وبالتزامن مع اضطرابات شهر مايو الثورية، ظهرت بداية ثورية قضى عليها في المهد الوالي العام شاتينيو" (108). وعلى أي حال، فإن شدة القمع واتساع عمليات الإبادة بكيفية يصعب على العقل تصويرها قد أجبرا قيادة حزب الشعب الجزائري (109) على البقاء في اجتماع متواصل تدرس التقارير المرفوعة إليها من سائر أنحاء الشرق الجزائري الذي كان يعيش حالة الحرب الطاحنة، ومن باقي جهات الوطن التي نقلت إليها الأوامر الخاصة بإشعال فتيل الثورة ليلة الرابع والعشرين من شهر مايو كما أشرنا إلى ذلك سابقاً. وفي يوم 18/ 5/1945 خلصت القيادة المذكورة إلى أن الاستعدادات اللازمة للكفاح المسلح غير كافية، وأن شروط الانتصار على العدو غير متوفرة، وبالتالي فإن الاستمرار في تعميم الثورة سوف لن يزيد إلا في مضاعفة التقتيل والقمع بجميع أنواعه، ومن ثمة اتخذ القرار بالإجماع على تسيير رسل تحمل لكافة القيادات المحلية في مختلف أنحاء الوطن أوامر الكف عن القتال حيث تدور المعارك وعدم البدء فيه حيث لم تنشب المعارك بعد. ومن المتفق عليه، اليوم، أن الأوامر المضادة قد وصلت في وقتها إلى جميع القيادات المحلية لكن بعض المسؤولين (110) رفضوا تطبيقها ليس عصياناً أو تقصيراً ولكن لأن التحضيرات في مناطقهم أوشكت على الانتهاء، ولأن حماس المناضلين والمواطنين لم يعد ممكناً معه التراجع والعودة إلى

الوراء. هكذا، شهد صباح الرابع والعشرين مايو 1945 عمليات فدائية استهدفت أعمدة الهاتف والكهرباء وبعض مراكز الشرطة والدرك الوطني والسكة الحديدية في عدد من جهات الوطن، غير أن ذلك ظل مقتصراً على مناطق محدودة ولم يدم سوى أيام معدودة (111) تفرقت بعدها جحافل المناضلين وتمكن بعضهم من اللجوء إلى الجبال في نواحي الأوراس والقبائل والنونشريس، في حين وقع في الأسر بعضهم الآخر وعدد من الإطارات القيادية. أما الإدارة الاستعمارية، فإنها لم تتوقف عند حد، ولم يؤثر في مسؤوليها على اختلاف مشاربهم، مابلغه القمع من وحشية؛ بل إن قادة الميليشيا وضباط الأمن والجيش كانوا يتنافسون حول من يتألق أكثر من غيره في ممارسة أنواع التعذيب والإهانات والاعتداء على الحرمات وفي التمثيل بقتلى المسلمين. وأصبحت "مودة" أن يجمع المسؤولون الأوربيون آلاف الجزائريات والجزائيين في الساحات العمومية ثم يأمرونهم بالسجود للعلم الفرنسي بعد أن يكونوا أرغموهم على ترديد عبارات بذيئة مثل: "نحن كلاب .. وفرحات عباس ... كلب" (112). إن السلطات الاستعمارية لم تراع حتى أكثر الجزائريين موالاة لها، ولم ينج من القمع الشديد حتى أكبر عملائها أمثال ذلك الباشاغا الذي صرح لمراسل بريد الجزائر قائلاً: "إنني، ماحييت، لن أنسى تلك الاغتصابات والحرائق وتلك المدافع والمدافع الرشاشة والجيوش المدججة بالسلاح والاعتقالات والإعدامات الجماعية" (113). ومما لاشك فيه أن القمع الأعمى هو الذي جعل الطلقاء من مسيري حركة أحباب البيان والحركة يقدمون، رغم حل الحركة رسمياً يوم 14/ 5/1945، على توقيع نشرة بتاريخ 18/ 5/1945 يدينون فيها، باسم المكتب المركزي، "كل الذين جاؤوا، من داخل الحركة أو من خارجها، تشويه النوايا الحسنة وفعل وضع لتحقيق أغراض سلمية وجمهورية" (114). لقد كانوا يعتقدون أن مثل ذلك الموقف يكفي لإقناع الإدارة الاستعمارية بعدم مسؤوليتهم عما يجري؛ ولو فكروا قليلاً ورجعوا أسبوعاً واحداً إلى الوراء لفضلوا الصمت لأنهم كانوا سيتأكدون من أن المسؤول الأول عن الجريمة إنما هم أنفسهم الذين وجهت إليهم النشرة وهم ذات الأشخاص الذين كانوا قد استدعوهم بواسطة عامل ولاية الجزائر، يوم 9/ 5/1945 وحملوهم مسؤولية ماقد يحدث في العاصمة. وكما أن النداء الذي وجهه المكتب المركزي إلى الجزائريين قصد "إدانة العناصر الذين يزرعون الرعب ويرتكبون الأعمال الإجرامية ويلبسون

الجزائر ثوب الحداد" (115)، لم يؤخذ في الاعتبار من أي طرف كان، فإن النشرة قد ظلت على ورق ولم يستفد منها سوى العقيد شون (116) (Schoen) في تقريره إلى وزارة الداخلية. كان يرى الوالي العام، السيد شاتينيو، أن عدم الإكتراث بالمواقف الجديدة الصادرة عن القياديين القدامى لأحباب البيان كان خطأ فادحاً لأنه، إذا أرضى كبار الكولون، فإنه ضيع فرصة ثمنية على الإدارة الاستعمارية التي كان يمكن، بواسطتهم أن تطبق مجموعة من الإصلاحات، بالنسبة للوالي العام، كفيلة بأن "يجعل السكان الأهالي يدخلون بصدق إلى المجموعة الفرنسية. أما حرمانهم من ذلك، فإنه سيدفعهم إلى الانزواء على النفس في انتظار فرصة سانحة لمحاربة التخلص من سادتهم الفرنسيين" (117). ولم يكن موقف الجنرال ديفال، قائد عمليات القمع والإبادة، مختلفاً عن موقف السيد شاتينيو، بل كان فقط، أكثر دقة عندما ذكر في تقريره: "إن وقع سيتكرر بأكثر فظاعة وبكيفية لن تكون قابلة للمعالجة" (118). وسوف يظل موقف الحزب الشيوعي الفرنسي أكثر مواقف التشكيلات السياسية وضوحاً لسببين رئيسيين هما: أ - اشتراكة الفعلي في ارتكاب الجريمة بواسطة إطاراته السامية الذين كانوا يشغلون مجموعة من مناصب الحل والربط في الحكومة الفرنسية المؤقتة. وفي مقدمة تلك الإطارات لابد من التركيز على السيد تيون المشار إليه أعلاه. ب - أيديولوجيته التي ترفض الاعتراف بوجود الشعب الجزائري ككيان مستقل أو قابل للاستقلال عن الشعب الفرنسي، بل أن السيد موريس توريز، الأمين العام، الذي قضى كل سنوات الحرب في موسكو عاد إلى باريس في نهاية عام 1944 وهو أكثر تمسكاً برأيه القائل إن الأزمة الجزائرية في طور التكون وإن عدد عناصرها المكونة عشرون كما سبق الحديث عن ذلك في مستهل هذه الدراسة. فمنذ اللحظات الأولى، بادر الحزب الشيوعي الفرنسي إلى المطالبة "بتسليط أشد العقوبات على منظمي التمرد وأعوانهم ممن قادوا المسيرات" (119) كما أنه لم يتردد في اتهام قادة الحركة الوطنية بالعمالة للنازية ولغلاة الكولون لأنهم "خدعوا جماهير المسلمين بسعيهم إلى إحداث القطيعة بين السكان الجزائريين وشعب فرنسا" (120).

وركب الحزب الشيوعي الجزائري موجة رائده الحزب الشيوعي الفرنسي فراح يكيل الاتهامات لإطارات حزب الشعب الجزائري محملاً إياهم مسؤولية إراقة الدماء ومدعياً أنهم يعملون في ركاب النازية ويطبقون تعليمات هتلر "التي لاتخدم سوى مصالح الاقطاعيين الذين ينادون بالانفصال عن فرنسا" (121). وإذا كان السيد عمار أوزقان، الذي كان أميناً وطنياً للحزب في ذلك الوقت قد كتب في Liberte يصف قادة حزب الشعب الجزائري بالمجرمين عملاء الفاشية والمغامرين الذين أسقطوا قناع المسلمين والوطنيين المزيفين (122)، "فإن السيد كاباليرو (Caballero) وهو أمين وطني آخر لم يجد مانعاً من اتهام المطالبين باسترجاع الاستقلال الوطني بالعمالة للامبريالية عن وعي أوبكيفية غير واعية" (123). من هذا المنطلق، فإن قيادة الحزب الشيوعي الجزائري تنكر على حركة مايو 1945 طابعها الثوري وتحصرها، فقط، في إطار التظاهر من أجل الخبز، وعليه فهي ترى أن الجرائم المرتكبة من طرف أمثال أشياري نائب عامل العمالة بقالمة إنما هي دفاع عن النفس وحماية لأمن السكان، وتقر أن الميليشيا ومصالح الشرطة والأجناد على اختلاف وحداتهم لم يتجاوزوا حدود ماكان مطلوباً منهم. وحتى بعد مرور الزمن، فإن الشيوعيين ظلوا متمسكين. بموقفهم الخاطئ والقائل: "إن حزبنا كذب وجود ثورية عربية: لاوجود لثورة عربية، ولكنها مؤامرة فاشية، ولقد أشار الحزب يومها، إلى مايجب فعله ليعم الأمن في الجزائر: تزويد السكان المسلمين بالغذاء وتشديد العقاب على المقاتلين الهتليريين الذين ساهموا في أحداث الثامن من مايو، واعتقال المسؤولين الحقيقيين الذين كانوا، بالأمس يزودون "رومل" وطرد الموظفين السامين من مناصبهم" (124). وعلى الرغم من هذه المواقف المتفرقة، فإن الحزب الشيوعي الجزائري قد تأثر إلى حد بعيد بكل ماجرى في إطار حركة مايو الثورية، وتأكد من خلال التضحيات التي أقدمت عليها جماهير الشعب الجزائري، أن تحليلاته خاطئة بالنسبة لواقع الجزائر ومستقبلها، ولذلك، بادرت قيادته إلى اتخاذ عدد من التدابير الرامية إلى تقليص الهوة الفاصلة بين أيديولوجيتها والأيديولوجية الوطنية .. وتعود بدايات هذا التوجه الجديد إلى مستهل شهر يوليو 1945، عندما أصبحت أدبيات الحزب تقتصر على إدانة القادة الوطنيين وتطالب بضرورة العفو عن "الجحافل المغرر بها من الجزائريين"، ثم تطورت تلك الأدبيات مع

حلول شهر أغسطس (آب) الذي شاهد، في يومه الثاني عشر، صدور بيان عن اللجنة المركزية تضمن على وجه الخصوص المطالبة بإطلاق سراح ضحايا القمع الأعمى وإعادة النظر في الأحكام الصادرة عن المحاكم الاستثنائية وبإلغاء المندوبيات المالية واستبدالها بمجلس جزائري (125). لكن الإشارة إلى ذلك التطور الذي يمكن اعتباره إيجابياً بالمقارنة مع المواقف الشيوعية السابقة لاتعني، أبداً، أن قيادة الحزب الشيوعي الجزائري قد ابتعدت، كلية، عن المحاور الأساسية التي تبنى عليها توجهات الحزب الرئيسية، بل أن بيان شهر أغسطس المذكور نفسه قد استلهم في جل عناصره فكرة "الأمة الجزائرية التي في طور التكوين" وتوقف، طويلاً، عند ضرورة اتحاد الأوربيين والمسلمين واليهود، لمواصلة السير الحثيث في الطريق المؤدى إلى تشكيل مجموعة وطنية جزائرية تكون قادرة على أن تعيش حياتها الخاصة" (126). لا يهم أن تكون تلك "المجموعة الوطنية" مكونة من الكولون المتوسطين والصغار (العنصر الأوربي) والفلاحين والخماسين (العنصر الإسلامي) والموظفين والتجار (العنصر اليهودي) مادام الهدف ليس هو استرجاع السيادة المغتصبة وإقامة الجمهورية الجزائرية المستقلة، وإنما هو "دعم التحالف المثمر مع الشعب الفرنسي في كفاحه من أجل إقامة جمهورية حقيقية" (127). •• • الهوامش:

_ هوامش 1 - نحن نفضل هذه التسمية على "الحرب العالمية الثانية"، "لأن الدول الامبريالية هي التي أشعلت فتيلها لأسباب توسعية في أساسها أو لتصفية حسابات بينها. أما بقية العالم المستعمر (بفتح الميم) بطريقة أو بأخرى، فإنه يحمل أعباءها مرغماً، ولذلك من اللامعقول أن نظل تابعين لمؤرخي الاستعمار فيما وضعوه من مصطلحات ومفاهيم تقوم بأدوار حاسمة في تعليل التاريخ. 2 - تعني بذلك خاصة السيد الحاج مصالي الذي كان مجبراً على الإقامة بقصر الشلالة (ريفيل سابقاً) والشيخ محمد البشير الإبراهيمي الذي كان بنفس الصفة في قرية أفلوفي الجنوب الغربي من البلاد. 3 - المقصود بهؤلاء هم إطارات حزب الشعب الجزائري وهم كثر. 4 - نذكر على وجه الخصوص السيد فرحات عباس. 5 - تم تحرير هذا البيان يوم 10/ 2/1943 وسلم مباشرة إلى ممثلي الحلفاء في الجزائر العاصمة ثم نقل بطريقة خاصة يوم 31/ 3/1943 إلى السيدة بايروتون

هوامش

_ (Peyrouthon) الحاكم العام الذي استنكر بعض أجزائه وطلب ملحقاً تصحيحياً فسلم إلى خلفه الجنرال كاترو (catroux) يوم 11/ 6/1946. 6 - في هذا المجال ينبغي الرجوع خاصة إلى القانون الصادر بتاريخ 24/ 4/1833، والأمرية المؤرخة بيوم 22/ 7/1834 والمرسوم الموقع بتاريخ 23/ 8/1898 وكذلك قانون فيفري سنة 1919 والأمرية الصادرة بتاريخ 15/ 12/1945. 7 - جورج كاترو، من مواليد ليموج سنة 1877، كان حاكماً عاماً للهند الصينية سنة 1940، انضم إلى الجنرال ديغول فعينه سنة 1941 مندوباً سامياً على سوريا ثم خلفاً للسيد بيروتن في جوان 1943. وعندما وضعت الحرب أوزارها عين سفيراً لفرنسا لدى الاتحاد السوفياتي، عينه في مولي وزيراً مكلفاً بالجزائر سنة 1956 لكن المعمرين رفضوه فلم يلتحق. 8 - هو أوغستين بارك والد جاك بارك، وقد أدى دوراً في تجذير الاستعمار ببلادنا. 9 - كانت المجموعة مشكلة من: الدكتور عبد النور طمزالي، الدكتور ابن جلول، الدكتور لخضاري، والسادة: عبد السلام طالب، خيار غراب، خليل طمزالي، شنتوف عده، أحمد فرنسي، روني فضيل، حسان باشترزي، عباسة وابن علي شريف. 10 - يزعم الجنرال ديغول في "مذكراته عن الحرب" أنه بينما كان يلقي خطابه كان الدكتور ابن جلول ومعه عدد من المسلمين يبكون من الفرح. 11 - لكن كلوه كالووجان روبرت هنري في "نصوص الحركة الوطنية الجزائرية 1912 - 1945" ص:171 يشيران إلى أن القرار مؤرخ بيوم 19/ 12/1943. 12 - تكونت اللجنة من اثني عشر عضواً نصفهم من المسلمين وهم: شيخ العربي بوعزيز بن قانة، الشيخ الطيب العقبي، قاضي عبد القادر، الدكتور ابن جلول، الدكتور عبد النور طمزالي، روني فضي. 13 - مرسوم اقترحه وزير العدل الفرنسي أدولف كريميو (Adolphe Cremieux)، وصدر في شهر أكتوبر سنة 1870 لتمكين يهود الجزائر من الجنسية الفرنسية. ألغي سنة 1940 بعد انهزام فرنسا. 14 - commission chargee d'etablir un programme de reformes politiquesociales et economiques en faveur des musulmans francais s'Algerie Alger imprimerie officelle, 1944 Tome 2 page 66 et suivants. 15 - نفس المصدر. 16 - نفس المصدر. 17 - M GAZEF, a la recherche d'une nouvelle politique coloniale en 194 paris, 1972, page 271 et suivants. 18 - كان ذلك أمام المجلس الاستشاري، وكان ممثل الحزب الشيوعي هو السيد أندريمارسي (Andre Mercier)، انظر جريدة لييرتي (liberte) الصادرة بتاريخ 20/ 1/194 19 - Akrouf (Daoud) aux origines su FL.N. les amis du manfiest, et de liberte, Alger, 1967, page 105.

هوامش

_ 20 - يذكر السيد فرحات عباس بهذه المناسبة أن الحاج مصالي، بعد أن أعطاه موافقته، حذره قائلاً: "أن فرنسا لن تعطيك شيئاً. إنها لاتخضع إلا للقوة، ولاتسلم إلا ماينتزع منها انتزاعاً". انظر: Lanuit coloniale ص152 - 21 جاءت هيكلة "أحباب البيان والحرية" على النحو التالي: المكتب المركزي أو المكتب السياسي المؤتمر اللجنة المركزية اتحادية عمالة قسنطينية اتحادية عمالة الجزائر اتحادية عمالة وهران الفروع 21 - 22 - قرأت في أرشيف السيد فرحات عباس التقرير المقدم للمؤتمر المنعقد بالجزائر أيام 2 - 3 - و4 مارس 1945. أن عدد المنخرطين بلغ نصف مليون موزعين على 163 فرعاً أكثر من نصفها في عمالة قسنطينية. 23 - تشكل مكتب الجمعية في ذلك الوقت من أمثال عبد الرحمن كيوان ومراد بن أونيش ومحمد ساطور وبسرعة كبيرة أنشأت الجمعية بمساعدة الحزب، فروعاً لها في سائر كبريات مدن الجزائر. 24 - تكون مكتب الرابطة من مناضلين في مقدمتهم ابن يوسف بن خدة وشوقي مصطفاي وعمر بن مبخوت. 25 - كانت الطباعة تتم في بيت المناضل لزرق في Fontaine Franiche تحت المسؤولية السياسية للمناضل محمد طالب الذي كان عضواً بالمكتب السياسي لحزب الشعب الجزائري المحلول. أما الأقلام فكانت كثيرة ومن أبرزها: حسين عسله، مفدي زكريا، محمد الأمين دباغين، محمود عبدون ... 26 - انظر الجزائر الأحداث الصادرة بتاريخ 4 - 9 مايو 1969. 27 - انظر نص المذكرة مترجماً إلى الفرنسية في Claude collot - Jean Robert Henry Le 28 - mouvenent nationl Algerien, Textes 1912 - 1954, OPU Alger SD P191 et suivants. دامت الجمهورية الثالثة في فرنسا من يوم 4/ 9/1870 إلى يوم 10/ 7/1940 كان أول رئيس فيها هو أدولف تيار (Adolphe Thiers) الذي حكم من يوم 30/ 8/1871 ليوم 24/ 5/1873، أما آخر رئيس فيها فكان ألبار لويران (Albert Lebrun) الذي حكم يوم 15/ 4/1939 إلى يوم 10/ 7/1940. 29 - انظر نص اللائحة في كولو المصدر السابق، ص187. 30 - المصدر نفسه، ص203. 31 - انظر نص البيان في نفس المصدر، ص:188 ومابعدها.

هوامش

_ 32 - انظر جريدة لبيرتي (Liberte) في عددها الصادر بتاريخ 14/ 9/1943 33 - انظر نص التقرير العام الذي قدمه السيد عمار أوزقان إلى الإطارات المشاركة في الندوة المركزية للحزب الشيوعي المنعقدة بقاعة الماجستيك (الأطلس حالياً) يومي 23و 24/ 9/1944. 34 - انظر جريدة لومانيتي Lhumanite في عددها الصادر بتاريخ 25/ 10/1935 35 - المصدر نفسه. 36 - بغول (يوسف)، "بيان الشعب الجزائري. مساهمته في الحركة الوطنية "المجلة الجزائرية للعلوم القانونية والاقتصادية والسياسية، ج11، الصادر في شهر ديمسمبر 1974 ص215 ومابعدها. 37 - لقد استغل الشيوعيون نفوذ الحزب الشيوعي الفرنسي، في ذلك الحين، ليلتمسوا تسليط القمع البوليسي على الإطارات القيادية لحزب الشعب الجزائري، كما جاء ذلك في تقرير السيد عمار أوزقان إلى الندوة المركزية التي عقدها الحزب الشيوعي بالجزائر العاصمة يوم 23/ 9/1944. 38 - كان السيد فرحات عباس هو المدير المسؤول، أما رئاسة التحرير فقد أسندت إلى السيد عبد العزيز كسوس الذي كان يتمتع بتكوين سياسي كبير وتجربة نقابية واسعة بالإضافة إلى قلم طبع وأفكار واضحة. 39 - هناك من يدرك أن السحب، في نهاية الفصل الأول من سنة 1945، بلغ 130.000 عدد، لكننا نستبعد ذلك لأن الأمية المتفشية في ذلك الوقت لم تكن تسمح بوجود مثل هذا العدد من القراء لجريدة واحدة. 40 - انظر نشرة اللجنة الفرنسية للتحرير الوطني الصادرة بتاريخ 1/ 10/1944. 41 - رئيس هذه اللجنة هو محمد طالب، عضو اللجنة المديرة للحزب، أما أعضاؤها فكثر وتتفق معظم الروايات على الأسماء التالية: عبد الرحمن ياسين، موسى بوالكروا، رشيد وأعماره، مسعود بوقدوم، علي زاوي، عمر حمزة، عمار مسعودي وأحمد فايته. 42 - انخرط في صفوف نجم شمال إفريقيا سنة 1933، وعين عضواً باللجنة المديرة لحزب الشعب الجزائري منذ تأسيسه لكنه استقال في بداية سنة 1939 استجابة لطلب الحاج مصالي الذي كان قد قرر فصل أعضاء كل المجموعة "حفاظاً على الحزب "خاصة بعد أن علمت السلطات الاستعمارية بوجود لجنة شمال أفريقيا للنشاط الثوري". عاد إلى العمل الحزبي مباشرة بعد اندلاع الحرب الامبريالية الأولى. يعود الفضل إليه في إصدار (L'caction Algerienne) سنة 1944 توفي يوم 15/ 2/1952. 43 - تجدر الإشارة إلى أن الرجلين اللذين كانا عضوي اللجنة المديرة لحزب الشعب الجزائري قد توليا تسيير البرامج التي كانت "الإذاعة الدولية" Radio Mondial تبثها في اتجاه شمال أفريقيا. وبفعل تلك البرامج أعلن الأجناد المسلمون، المتمركزون بالحراش، عن تمردهم يوم 25/ 1/1941. 44 - كان الحاج مصالي سجيناً عندما اندلعت الحرب الامبريالية الثانية، وقد أطلق سراحه يوم 27/ 8/1939 ثم أعيد إلى السجن صحبة سبعة وعشرين إطاراً قيادياً يوم 4/ 10/1939.

هوامش

_ وفي يوم 8/ 6/1940، ألقى القبض على ثلاثين إطاراً آخر. 45 - نذكر من بين هؤلاء الشباب الذين فرضوا أنفسهم على ساحة النضال: "محمد طالب، حسين عسله، عبد الحكيم بن الشيخ الحسين، محمود عبدون، محمد شرشالي، عبد الحميد سيد علي، عبد المالك تمام وعلي حليت. 46 - من مواليد شرشال سنة 1917، التحق بصفوف حزب الشعب الجزائري سنة 1939، بعد حله وقد استطاع بحكم ثقافته ونشاطه أن يصبح الرئيس الفعلي له في غياب الحاج مصالي ورفاقه من المؤسسين. عرضت عليه قيادة الثورة قبل اندلاعها بأيام قلائل لكنه رفض العرض وألقي عليه القبض يوم 5/ 11/1954 وبعد إطلاق سراحه استدعته جبهة التحرير الوطني ليكون مسؤولاً على مندوبيتها في الخارج عضواً للمجلس الوطني للثورة الجزائرية ثم عضو لجنة التسويق والتنفيذ سنة 1957 وعندما تأسست الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية أسندت له وزارة الخارجية في سنة 1963 فتح عيادة طبية بمدينة العلمة واعتزل كل نشاط سياسي. 47 - كانت الكتابات المذكورة تجسد المطالبة بإطلاق سراح الحاج مصالي وتحرير الجزائر ودعوة الجماهير الشعبية إلى الالتفاف حول حزب الشعب الجزائري. وفي إطار حملات التوعية والتبرية كان الشباب يحاربون الخمر والقمار ويدعون إلى تعمير المساجد والنوادي والمدارس. 48 - من أبرز قادتها، في ذلك الوقت، محمد بلوزداد، سعيد عمراني، مراد ديدوش، عبد الرحمن سماعي وعبد الرحمن طالب. 49 - من بين قادة هذا التنظيم تجدر الإشارة إلى محمد طالب، عبد الرحمن ياسين، حموبوتليليس والشاذلي المكي. 50 - انظر الحديث الذي أجراه الدكتور محمد شفيق مصيلح مع كل من السيدين سعيد عمراني وعبد الحميد سيد علي والمنشور موجزاً في: Ideologie politeque et mouvement national en Algere, p15. 51 - لمزيد من المعلومات حول هذا الموضوع، انظر كتابنا جبهة التحرير الوطني الجزائرية (1954 - 1964) المسار والفكر، ص:47 ومابعدها. 52 - بغول، ص:152. 53 - ليبرتي (Liberte) في عددها الصادر بتاريخ 7/ 6/1945 تؤكد على أن ماوقع في عام 1945 إنما هو "مؤامرة فاشية حبكها الخونة من كل جنس ودين أي حزب الشعب الجزائري، حزب الشعب الفرنسي، الموظفون السامون في حكومة فيشي الذين ظلوا في مناصبهم بمساعدة الإقطاعيين". 54 - انعقدت ندوة سان فرانسيسكو ابتداء من يوم 24 أبريل، فوضعت ميثاق الأمم المتحدة لكنها لم تنظر في القضية الجزائرية. 55 - هؤلاء المندوبون هم Vallet: من وادي العثمانية، Lavie من قالمة، Fournier من خراطة، Mayer من أولاد رحمون، Deyron من سوق أهراس و Cusin من عزابة. 56 - SARRASIN (P.E) la crise Algerinne, Paris 1949, p: 203

هوامش

_ 57 - عباس، (فرحات)، حزب الجزائر وثورتها - ليل الاستعمار نقله إلى العربية: أبو بكر رحال، ص185. 58 - المصدر نفسه .. 59 - في نهاية المقابلة أخبر الحاج مصالي أن المناضل: بناي واعلي هو المكلف بتهريبه فأعطى موافقته وشرع في الاستعداد لذلك، لكن السلطات الاستعمارية داهمته وأفشلت العملية. 60 - PAILLAT (claude), vingt ans qui dechirerent la france, t1, Le Guepier, Paris 1967, P.54. 61 - انظر تقرير السيد كازان أمين عام الولاية العامة المؤرخ بيوم 17/ 5/1945 والموجود في محفوظات أكس بروفانس تحت رقم 9465، وكذلك السيد Paillat المصدر السابق. 62 - محاضرة السيد الشاذلي مكي في النفق الجامعي بالعاصمة يوم 8/ 5/1969. ولقد أكد المحاضر أنه كان شخصياً ضمن الوفد الذي كان يضم إلى جانبه كلاً من حسين عسله والحاج شرشالي. 63 - PAILLAT (Claude), Lechiquier d'Aler, Avantage a vichy, t1, p.337. 64 - يبدو من خلال الوثائق المعتمد عليها من طرف الكاتب أن مرفي في الحقيقة، لم يقم سوى بتأكيد الشرطين اللذين وضعهما الجنرال جيرو مقابل تعاون فرنسا مع الأمريكان. 65 - انظر لائحة المكتب المركزي في Egalité الصادرة بتاريخ 10/ 4/1945. 66 - حديث أجريته في بيت الشيخ الحسين بن الميلي يوم 1/ 5/1981 مع كل من السادة: محمد الأمين دباغين وأحمد بوده ومسعود بوقموم وكلهم مسؤولون قياديون في حزب الشعب الجزائري. 67 - حسب اللقاء الذي أجريناه مع المناضل سويلح الهواري الذي كان من القادة البارزين في ذلك الوقت، والذي أكد لنا أن مظاهرة وهران لم تكن أقل قيمة من مظاهرة العاصمة. 68 - بعض الكتاب أو المؤرخين الذين عالجوا الموضوع لايذكرون محطة بلكور، لكن ذلك خطأ، لأن معظم المؤطرين وفي مقدمتهم محمد بن الوزداد كانوا من هناك، وقد عمل هذا الأخير على أن ينطلق عن بلكور موكبان حتى تنشغل الشرطة الاستعمارية بالأول الذي قصد ساحة أول مايو الحالية ويتمكن الثاني من التوجه بسهولة إلى ساحة البريد المركزي 69 - نورد هذه العمليات من الحديث الذي أجريناه مع السيد أحمد بوده بتاريخ 8/ 12/1985. 69 - يذكر السيد أحمد بوده أن الشهداء في ذلك المكان كانوا أربعة مضيفاً. أحمد بوعلام الله وعبد القادر قاضي. 70 - من بين القياديين الذين ألقى علهيم القبض تجدر الإشارة إلى: أحمد مزغنه وحسين عو محمد هني وعبد الرحمن صفير. 71 - كان المنشور مؤرخاً بيوم 3/ 5/1945 ومما جاء فيه "إن الاستفزاز صادر عن حزب

هوامش

_ الشعب الجزائري الذي يأتمر بأوامر هتلر من برلين. نفس هتلر الذي يذبح ويعذب الجنود الأشاوس العاملين في صفوف الجيش الفرنسي وذلك دون تمييز بين المسلمين والأوروبيين ... حزب الشعب الجزائري، إذ ينشر في العمالات الثلاث شعارات استغلال الجزائر والجيش الجزائري وإذ أقدم على تنظيم هذه الاضطرابات إنما ذلك على أنه الحزب الذي يطبق التعليمات التي يبثها الهتليريون بواسطة الإذاعة النازية. 72 - Bulletin mensuel 73 - 74 انظر نص المنشور في مركز دراسات الحرب العالمية الثانية بباريس، ملف تيبار. dinformation, Prefecture dAlger, mai 1945" 75 - لقد كانت قيادة حزب الشعب الجزائري تدرك أن السلطات الاستعمارية لن تسمح لها بالمشاركة في الاحتفالات نظراً لكون الحزب ينشط في السرية فقط ولأن مواقفه متشددة ومطالبه مرفوضة مسبقاً. أما المؤسسات المقصودة فهي: البرلمان الوطني، والجيش الشعبي على وجه الخصوص. 76 - " Bulletin mensuel dinformation" Prefecture dAlger, mai 1945. 77 - لقد قال الحاكم العام إلى السيد فرحات عباس فيما بعد: "إنني سلمتكما إلى الجيش لحمايتكما من انتقام الكولون" انظر: 78 - Benyoucef, Benkhedda, Les origines du ler november 1954, Edition Dahleb Alger 1989, P101. نذكر على سبيل المثال: سطيف سكيدة وبسكرة. 79 - انظر خاصة: عياد ثابت في: in RASJPE, n:4, 1972 pp "Le 08 mai 1945: Jaquerie ou revendicatiagraire" 1007 - 1016 وكذلك محفوظ قداش في: LE 08 mai 1945, Paris Ed du centenaire 1975. 80 - ابن يوسف بن خده، نفس المصدر، ص100. 81 - نفس المصدر. 82 - في إطار إجراءات الترهيب، أقدمت السلطات الاستعمارية على اعتقال أعداد كبيرة من المناضلين بتهمة المساس بأمن الدولة من خلال توزيع البيانات والمنشورات بدون ترخيص. وفي نفس الإطار، أيضاً، ألقي القبض على مجموعة من صف الضباط الجزائريين بتهمة المشاركة في الاعداد للتمرد. 83 - بايا (كلوه)، نفس المصدر، ص52. 84 - جاء في جريدة الحرية (Liberte) الصادرة بتاريخ 21/ 2/1946 أن الحركة الجمهورية الشعبية الفرنسية قد احتجت على عمليات الإبادة التي تعرض لها الجزائريون في شهر مايو 1945، وذكرت في لوائحها أن "كاربونال بدأ يعد فرق الميليشيا ستة أشهر قبل الثامن من مايو 1945". 85 - عباس (فرحات)، ليل الاستعمار الطويل، ص154. 86 - نفس المصدر. 87 - " Rapport Tubert" in reve Algerienne des Sciences juridiques

هوامش

_ economiques et politiques (rasjep), volune 9 n4 december 1974, P288 - 289. 88 - بغول (يوسف)، "بيان الشعب الجزائري" نفس المصدر، المجلد 11، ديسمبر 1974، ص262 ومابعدها. 89 - مع العلم أن موريس توريز (Maurice Thorez) الأمين العام للحزب الشيوعي الفرنسي كان نائباً لرئيس الحكومة في ذلك الوقت. 90 - ابتدأت المسيرة على الساعة الخامسة بعد الظهر، أما فرق الجيش فإنها وصلت إلى عين المكان على الساعة السادسة. ففي ظرف ساعة فقد أعطيت الأوامر واستشيرت القيادات وتم الاستعداد ووقع الخروج من الثكنة. 91 - عباس (فرحات) نفس المصدر، ص154، كذلك Tixier Adrien في كتابه Un Programme, des reformes pour l'Algerie, Paris,1947, P.6. 92 - Yousfi (mhamed), l'Algrie en marche, t1, Alger 1985, P59. وكذلك شهادة السيد إبراهيم حشاني التي استثنيناها منه يوم 25/ 4/1979 عندما كنا نعد دكتوراه الدولة حول "جبهة التحرير الوطني الجزائرية": المسار والفكر. 93 - تيكسي، نفس المصدر. 94 - نعني بذلك خاصة الطابور المغربي والوحدات المكونة في أغلبها من السينغاليين. وفي هذا الإطار لابد من التذكير بما أورده السيد أحمد بوده من أن الطابور المغربي المكون من 200 جندي والمعسكر بنواحي مدينة الأربعاء كان قد وعد بالانضمام كاملاً إلى القوات الوطنية عندما تنفجر الثورة "لقاء أجريناه مع السيد بوده في بيت الشيخ الحسين بن لميليوم 8/ 12/1985. 95 - انظر ملف قازان: التقرير رقم 12/ 4 الصادر بتاريخ 11/ 5/1945 عن قائد مجموعة الدرك الوطني ببني عزيز. 96 - Bernard (jh.pil), Les deux villes de tenes et de Boumaza, Alger 1864, P.166. 97 - نفس المصدر. 98 - مستعمرة فرنسية تقع شرقي أوستراليا. استولت عليها فرنسا في القرن 18. 99 - بيرار، نفس المصدر. 100 - يايا، ص35. 101 - البريد الجزائري (le courrier algerien) الصادر بتاريخ 26/ 5/1945. 102 - انظر تقرير الجنرال تيبار، ص22. 103 - ذي ستارز آند ستربز (the stars and stripes) العدد الصادر بتاريخ 31/ 5/1945. 104 - أورد الزميل علي تابليت، خطأ، في مجلة الذاكرة، عددها الثاني بتاريخ مايو 1995، ص:68 أن المجاهد الاسبوعية هي التي قدرت الضحايا بعدد ثمانين ألف، وذلك في عددها الصادر بتاريخ 8 مايو 1985. 105 - دارناند جوزيف (Dernand Joseph) سياسي فرنسي من مواليد 1897 وضع تحت

هوامش

_ تصرف القوات الألمانية، إبان احتلال فرنسا، فأسس المليشيات المناهضة للمقاومة سنة1943 وحينما تم تحرير فرنسا نفذ فيه حكم الإعداد في يوم النصر. 106 - مقتطف من المنشور الذي وزعه السيد فرحات عباس بمناسبة فاتح مايو 1946. انظر النص الكامل في كولو، ص:219. وذلك في بريد الجزائري الصادر بتاريخ أول مايو 1964، وفي صارزان: الأزمة الجزائرية، ص:208، ومابعدها. 107 - كلود يايا، المأزق (le guepier) ج1، ص:56. 108 - مذكرات الأمل، ج1، ص:58. 109 - كانت القيادة مكونة من: الدكتور محمد الأمين دباغين، محمد طالب، أحمد بزغنة، محمود عبدون والحاج شرشالي. 110 - مثل زروالي محمد في منطقة القبائل وأحمد بن مهل في ناحية الجنوب. 111 - ظلت المعارك تدور رحاها إلى غاية منتصف شهر جوان سنة 1945. 112 - بريد الجزائري، العدد الصادر بتاريخ 2/ 4/1946. 113 - بريد الجزائري، العدد الصادر بتاريخ 26/ 5/1946. 114 - ابن عامل عمالة الجزائر قد استدعى، في الواقع، كلاً من السادة: الشيخ البشير الإبراهيمي، الشيخ العربي التبسي، عبد العزيز كسوس، أحمد بومنجل، قدور ساطور، عبد القادر ميموني ومحمد خير الدين، لكن النص الذي لم يكن طويلاً، إنما كان من صياغة أحمد بومنجل وعبد العزيز كسوس. 115 - انظر نص النداء في النشرية الإخبارية الشهرية الصادرة بتاريخ مايو 1945، عن عمالة الجزائر. 116 - كان شون هو المسؤول عن التجسس على الجزائريين والمكلف بخرق صفوف الحركة الوطنية. 117 - انظر تقرير الوالي العام في يايا، ص:78. 118 - نفس المصدر. 119 - لومانيتي، عددها الصادر بتاريخ 12/ 5/1945. 120 - LHUMANITE، عددها الصادر بتاريخ 16/ 5/1945. 121 - انظر ليبرتي وألجي ريبيبلكان في عدديهما الصادرين بتاريخ 12/ 5/1945. 122 - ليبرتي، عددها الصادر بتاريخ 16/ 5/1945. 123 - جاء ذلك في خطاب ألقاه بمناسبة انعقاد المؤتمر في شهر جوان 1945، وقد قال بالحرف الواحد: "إن الذين يطالبون باستقلال الجزائر إنما هم، بوعي أو بغير وعي، عملاء امبريالية أخرى ونحن لانريد استبدال حصاننا الأعور بحصان أعمى". 124 - PCA, histoire de huit annees de combat, 1937 - 1946, Alger 1946, P.128. 125 - انظر كولووهنري (Collot et Hinry)، ص: 210. 126 - 127 - نفس المصدر.

ـ[تخطيط]ـ

ـ[تخطيط]ـ

تطور التشكيلات السياسية الجزائرية في الفترة ما بين 1946و1954

تطور التشكيلات السياسية الجزائرية في الفترة ما بين 1946و1954 يرى معظم المؤرخين وجميع الذين كتبوا في تاريخ الجزائر المعاصر، حتى اليوم، أن حركة مايو 1945 هي التي أنضجت فكرة الكفاح المسلح في أواسط الحركة المصالية وشكلت القاعدة الأساس لانطلاق ثورة نوفمبر 1954. إن هذا الرأي - المنقول والمتناقل - بعيد كل البعد عن أن يكون هو الصواب، بل أن إخضاعه للمقاييس العلمية التي تتحكم عادة في البحوث الجادة، سوف يبين بكل سهولة أن فيه إجحافاً كبيراً لجهد الرواد من المناضلين الذين آمنوا مبكرين، بفكرة الكفاح المسلح كأفضل وسيلة لاسترجاع الاستقلال الوطني، وبذلوا كل مافي وسعهم من أجل تجسيدها على أرض الواقع. فالقرن التاسع عشر، في ثلثيه الأخيرين، قد شاهد مقاومة شعبية مسلحة في أماكن متعددة من البلاد وفي فترات زمنية مختلفة، وإذا كنا، هنا، في غير حاجة إلى تعداد تلك المقاومة، فإننا، بالمقابل، نعتقد مفيداً الإشارة إلى أنها كانت تندلع، دائماً، تحت إشراف وبقيادة الطلائع المثقفة، الأمر الذي جعل الإدارة الاستعمارية تبذل كل ما في وسعها من وسائل القمع والإبادة من أجل القضاء على مصادر الثقافة الوطنية التي كانت تتولى نشر الوعي في أوساط الجماهير، وتؤمن للإنسان الجزائري مناعة تحميه من إصابات الاعتداءات العقائدية والفكرية التي كانت جزءاً مهماً من مخطط الغزو الاستعماري. لقد كان الجيش الفرنسي، كلما خرج منتصراً من معركة، وكلما تمكن من إخماد مقاومة، يوجه آلته التدميرية إلى المدرسة الجزائرية بجميع أنواعها وإلى المسجد الجامع خاصة، بعد أن يتولى قادته نهب المكتبات وإتلاف ماتعذر حمله من نفائس المخطوطات والكتب، وفي ذات الوقت، تشن حملة واسعة النطاق قصد التنكيل بالأحياء من المثقفين الذين كثيراً مايرغمون على الهجرة إلى البلاد العربية الإسلامية أويساقون إلى سجون فرنسا في سائر مستعمراتها النائية إلى جانب كل ذلك، تؤمم الأوقاف، في جميع المستويات ثم توزع الغنائم على الغزاة وعلى من تميز بالعمالة من أعوانهم.

ومما لاريب فيه تلك الأعمال التخريبية التي كانت تبدو، في الظاهر، موجهة ضد أعداد معلومة من الأفراد أو ضد أشياء تكاد تكون غير ملموسة، إنما هي في الواقع أخطر من العمل العسكري الذي كان يأتي على الأخضر واليابس بالإضافة إلى مايتسبب فيه من قتلى ومعطوبين وأرامل وأيتام. وتكمن تلك الخطورة في القضاء على المصادر الثقافية وإلغاء المثقفين بشتى الوسائل إنما تظهر نتائجه في الأمد البعيد وهي تتمثل في حرمان البلاد من الإنتاج الفكري الأصيل الذي يكون في أساس تكوين المواطن الصالح الذي لابد منه لبناء المجتمع القادر على بناء الدولة القوية وحمايتها. هكذا، تمكن التخطيط الاستعماري، بالتدريج وطيلة عشرات السنين، من تغييب المثقف الجزائري وتهميشه، وبالموازاة مع ذلك راح يصنع مصادر جديدة لثقافة غربية لاعلاقة لها بواقع المجتمع، وهي الثقافة التي شرع في توظيفها ابتداء من مطلع القرن العشرين قصد تكوين من سوف يطلق عليهم تسمية النخبة التي ستؤدي دوراً أساسياً في محاولة ترسيخ قواعد الاستعمار وإعداد الأرضية الملائمة لنشر منظومة الأفكار التي أوصلت البلاد إلى ماهي عليه اليوم. فالفكر والثقافة الاستعماريان قد استطاعا التغلب على الأصالة في الجزائر، وبفضلهما تخلصت الإدارة الفرنسية من بقايا الحراس أمثال الدكتور محمد بن العريبي الشرشالي، وتمكنت، من غرس المفاهيم والمصطلحات التي سوف تكون في أساس تكوين الإنسان الجزائري القابل للأمر الواقع والمستعد للتكيف معه بدون عقدة. وشيئاً فشيئاً ظهر على الساحة السياسية خاصة عدد من الأقطاب الذين لم يترددوا، نتيجة جهلهم، في التنكر لتاريخهم، متحمسين لتاريخ الآخرين وعاملين بجد على الذوبان في صفوف الشعب الفرنسي الذي لم يكن مستعداً لذلك، ولامرتاحاً حتى لمجرد السماح لهم بممارسة بعض الحريات التي قد تجعل منهم أناساً قد يطمحون إلى المطالبة بالمواطنة ومايتبع ذلك من حقوق في المساواة بجميع أنواعها. وإذا كان هذا النهج الاستعماري قد حقق كثيراً من النتائج التي خططت لها فرنسا قصد التوصل إلى استئصال الشعب الجزائري، فإنه لم يتمكن من القضاء، نهائياً، على المقاومات الأساسية للشخصية الوطنية التي ظلّت رغم كل الإصابات، ثابتة في جزئها الشكلي على الأقل، وقادرة على تأجيج روح المقاومة لدى عدد لايستهان به من الإطارات الطلائعية الذين استطاعوا التموقع

في المجالين السياسي والثقافي ثم راحوا يعملون بشتى الوسائل على استنهاض الهمم ونشر الوعي في أوساط الجماهير الشعبية الواسعة. ومما لاشك فيه أن أولئك الطلائعيين قد نجحوا في جل مساعيهم، واستطاعوا، رغم العنف والإرهاب الاستعماريين، أن يحافظوا على تقاليد النضال بسائر أنواعه وأن يضمنوا تواصل حلقات المقاومة المسلحة التي يزعم تلاميذ المدرسة الفرنسية للتاريخ أنها انتهت مع نهاية القرن التاسع عشر، واضعين في طي النسيان دماء الشهداء الذين سقطوا في الأوراس والهقار سنة 1916 وفي الأوراس والشمال القسنطيني سنتي 1934 و 1935. على هذا الأساس، ومن هذا المنطلق نؤكد أن فكرة الكفاح المسلح في الجزائر ليست وليدة مابعد الحرب الامبريالية الثانية بل وجدت منذ اللحظات الأولى للعدوان الفرنسي وظلت طوال الفترة الاستعمارية هي الوسيلة المفضلة لاسترجاع السيادة الوطنية المغتصبة؛ ولم تكن حركة مايو الثورية إلا واحدة من حلقات المسلسل الطويل الذي يروي للعالم جهاد شعب لم يتوقف عن دفع قوافل الشهداء إلى أن استرجع استقلاله سنة اثنين وستين وتسعمائة وألف. وعندما يتوقف الدارس عند تلك الحلقات يجد أن كل واحدة منها متميزة عن الأخرى لكنها تلتقي جميعها حول الوسيلة والهدف؛ وكلما مرت حلقة استفادت التالية من إيجابياتها وسلبياتها. وظل الأمر كذلك إلى أن كان نوفمبر عام أربعة وخمسين وتستعمائة وألف. ويعنينا في هذا الفصل، أن نمسح الفترة الممتدة من شهر مارس سنة ست وأربعين وتسعمائة وألف إلى شهر نوفمبر سنة أربع وخمسين وتسعمائة وألف. وسوف نركز على تاريخ سائر التشكيلات السياسية وتطورها في جميع الميادين. ••••

الفصل الرابع: الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري

الفصل الرابع: الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري

في إطار العفو الشامل، الذي قررته الإدارة الاستعمارية، تم الإفراج عن السيد فرحات عباس يوم 16/ 3/1946 وقد كانت الفترة التي قضاها بالسجن والتي دامت واحداً وأربعين أسبوعاً كافية ليعيد النظر في تجربة حركة أحباب البيان والحرية وليتوقف، ملياً، عند مقررات مؤتمره الأول والوحيد. وإذا كان الاعتقال التعسفي قد ساهم في حد الانطلاقة الثورية لدى ذلك الزعيم الذي ارتبط اسمه ببيان الشعب الجزائري، فإنه، بالمقابل، قد رسخ قناعته بضرورة بعث الجمهورية الجزائرية المستقلة استقلالاً داخلياً في إطار الاتحاد الفرنسي. وبمجرد خروجه من السجن راح يكثف الاتصالات بالإطارات القريبة منه سياسياً يطرح أمامهم أفكاره الجديدة ويسترشدهم من أجل ضبط الخطوط العريضة لكيفية إنشاء حزب جديد ووضع برنامجه السياسي الذي يجب أن يكون قادراً على تعبئة جزء كبير من الطاقات الحية في أوساط المجموعتين الفرنسية والإسلامية على حد سواء. ولكي يعطي لنشاطه إطاراً قانونياً، رحل إلى فرنسا يطلب رأي ذائع الصيت Achille Mestre مدرس الحقوق بكليتي تولوز وباريس (1) حول موقف دستور الجمهورية الرابعة من إمكانية تحويل ولايات الجزائر إلى دولة تحتفظ فيها فرنسا بشؤون السيادة. وعلى الرغم من قناعات الأستاذ أشيل اليمينية، فإنه اعترف، بعد فحص دقيق لنصوص الدستور الجديد، بعدم مخالفة الفكرة لروح النص. وكان ذلك أيضاً هو رأي السيد Charlier، أستاذ القانون العام بجامعة الجزائر (2). هكذا، إذن، أخذ السيد فرحات عباس جميع الاحتياطات السياسية والفنية قبل أن يقوم بصياغة ذلك النداء الذي وجهه إلى الشبان المسلمين والفرنسيين بمناسبة عيد الطبقة الشغيلة في فاتح مايو سنة 1946 أي بعد خروجه من السجن بستة أسابيع فقط. لقد كان النداء، في مقدمته، تدليلاً على براءة عباس وسعدان مما وقع في شهر مايو 1945 حيث أن الرجلين لم يطلعا على حقيقة ماحدث في شهر سبتمبر بعد أن قضيا كل ذلك الوقت في عزلة مطلقة. وتوسعا في المقدمة، قدم صاحب النداء لمحة سريعة وموجزة عن حياته السياسية التي يقول حولها: "إنه خصصها لتجسيد روح التعاون الفرنسي الإسلامي ولنشر الثقافة العصرية باعتبارها القاعدة الأساسية لذلك؛ ثم يؤكد عدم تمييزه بين المسلمين واليهود

والمسيحيين لأن عقيدته السياسية كانت تأمره بذلك وتدعوه إلى النضال المتواصل في سبيل الوحدة ضمن الديمقراطية والأخوة في إطار العدالة. إن هذه العقيدة السياسية نفسها التي ظلت تقود خطاه منذ ثلاثينات هذا القرن. ويرى أنه استطاع، بفضل صدقه في العمل وإخلاصه للمبادئ والمثل العليا، أن يحقق الكثير في مجال تقريب وجهات النظر وميادين الترقية الاجتماعية وتهدئة الخواطر وتوحيد معظم ذوي الإرادة الخيرة في البلاد، لكن الإدارة الاستعمارية بتآمرها مع الرجعية والامبريالية حالت دون تواصل المسعى واتخذت من مايو 1945 وسيلة لتوسيع الهوة بين المجموعتين الإسلامية والفرنسية، وذريعة للقضاء على حركة أحباب البيان والحرية التي أجمع قضاة التحقيق على أنها بالإضافة إلى كونها لم تنظم أية مظاهرة، قد اكتفت بالدعوة إلى الهدوء والانضباط في إطار الشرعية الجمهورية" (3). ولئن كانت سياسة التوحيد قد انهارت ومعها جهود المصالحة الوطنية، ووقع حل حركة أحباب البيان والحرية، فإن روح البيان، يقول عباس، لم تمت وبفضلها اتضحت الرؤية وأصبحنا قادرين على التمييز بين ما كان عليه من حالة القبول الإمعي المعمي ومايجب أن نرقى إليه وصولاً إلى الوطن الجزائري الذي تتوفر فيه شروط المساواة والحرية للجميع (4). والوصول إلى الوطن الجزائري يستلزم سياسة ترتكز على برنامج جعل في مقدمته: لا للاندماج، لا لسادة جدد ولا للانفصال، وعلى الرغم من أن هذه اللاءات لا تتضمن الشحنة الثورية اللازمة لاسترجاع الاستقلال الوطني، إلا أن تبنيها، في ذلك الوقت، من طرف السيد فرحات عباس كان يعتبر انتصاراً كبيراً بالنسبة للحركة الوطنية خاصة وأن حزب الشعب الجزائري كان عند تأسيسه، قد رفع نفس الشعار من أجل استمالة من كانوا يسمون بالمعتدلين، علماً بأن ذلك اعتبر في وقته، انحرافاً وقاد إلى استقالة السيد عمار عيمش الذي كان مساعداً للسيد الحاج مصالي (5). أما تبني السيد عباس لذات الشعار، فإن المقصود منه لم يكن سوى مراعاة الرأي العام الفرنسي، كان مناهضاً لفكرة الكفاح المسلح كوسيلة وحيدة لتقويض أركان الاستعمار. ومن جهة أخرى تضمن البرنامج المذكور مجموعة من المحاور ارتأى عباس أنها ضرورية لتشييد الجزائر "على أسس واقعية وتاريخية تكون كفيلة بأن تعبد لها طريق الديمقراطية العالمية" (6). ومن أهم تلك المحاور ما يلي: 1 - المساواة المطلقة: ويكون ذلك بواسطة القضاء على الاختلافات العرقية

وعلى الأحقاد التي تنخر في جسم المجتمع، وعلى واقع التحقير الذي كان مسلطاً على الجزائريين. والمقصود من واقع التحقير تلك القوانين والمراسيم والإجراءات العسفية التي كانت تحمل أسماء متعددة لكنها ترمي في مجملها إلى تهميش الشعب الجزائري وإبقائه في حالة التبعية الدائمة. 2 - التربية التي تستهدف الإنسان من أجل تكوين مواطن حر يكون متشبعاً بالواجب الاجتماعي ومدركاً لمهمته الحضارية. وفي هذا المجال يكون التركيز على تعميم الفكرة القائلة: "إن أبناء الوطن الواحد لايكونون بالضرورة على دين واحد" (7). 3 - العلم والتكنولوجيا اللذان لايمكن، بدونهما، أن ترقى الجزائر إلى مصاف الأمم المتقدمة، لأجل ذلك، فإن أبوابهما يجب أن تفتح واسعة لجميع أبناء الجزائريين بدون أي تمييز عرقي أو ديني كما ينبغي أن يعاد للغة العربية اعتبارها كلغة وطنية ورسمية في البلاد. ويرى السيد فرحات عباس أن تجسيد برنامجه السياسي على أرض الواقع ممكن تحقيقه بدون عوائق تذكر شريطة أن يكون منطلق النشاط هو بيان الشعب الجزائري وأن توظف التجارب التي خاضتها حركة أحباب البيان والحرية. ولقد كان السيد فرحات عباس، قبل نشر النداء وتوزيعه، في سائر أنحاء البلاد قد تمكن من أن يجمع حوله كوكبة من الإطارات المؤمنة بأفكاره والمستعدة للنضال في سبيلها (8)، واتفق معهم على بعث حزب جديد أسماه "الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري" وقدم قانونه الأساسي إلى المصالح المختصة في النصف الثاني من شهر أبريل قصد الاعتماد والحصول على الترخيص القانوني. ومباشرة بعد الاعتماد قررت قيادة الحزب المشاركة في الانتخابات التشريعية الفرنسية التي تحدد إجراؤها يوم 2/ 6/1946 لتعيين المجلس التأسيسي الثاني الذي خصص فيه للجزائريين ثلاثة عشر مقعداً. في نفس تلك الفترة، كان حزب الشعب الجزائري الذي ينشط في السرية التامة، قد أصدر أوامره إلى القواعد المناضلة كي تتحرك في اتجاه مقاطعة الانتخابات (9). حول هذه الفترة من تاريخ الحركة الوطنية نشرت بعض المعلومات المتناقضة في أساسها لكنها وجدت مكانها في كتابات المعاصرين الفرنسيين والجزائريين على حد سواء. فالسيد محفوظ قداش ينقل على سبيل المثال أن

عن مشروع الدستور الجزائري

تأسيس الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري إنما جاء نتيجة تخطيط الإدارة الاستعمارية التي "أعدت عشية العفو الشامل عملية واسعة لتقسيم حركة أحباب البيان والحرية إلى كتلتين متعارضتين الأمر الذي جعل حزب الشعب الجزائري يكلف فرقة خاصة يرأسها السيد حسين عسله (10) من أجل خرق مصالح الولاية العامة والتصدي لمناورة الإدارة الفرنسية. غير أن هذه الفرقة لم تتمكن من تغيير وجهة نظر عباس ورفاقه" (11). فمثل هذا الادعاء باطل في أساسه ولايمكن إخضاعه لأي معيار علمي خاصة في الصيغة التي ورد بها، ذلك أن حركة أحباب البيان والحرية قد وقع حلها رسمياً بموجب قرار حكومي يحمل تاريخ 14/ 5/1945 وإلى جانب قرار الحل حجبت Egalite وتم حجز سائر أملاك الحركة وسحب الاعتماد من "مدينة الأطفال" التي كانت قد أنشئت لتسوية مشاكل الطفولة المشردة والمتسكعة في شوارع المدن الكبرى خاصة، بعد كل هذا، كيف يمكن الحديث عن تآمر الإدارة الاستعمارية لتقسيم قيادة حركة ليس لها وجود رسمي ولا فعلي لأن المنتخبين ومن كانوا يسمون بالإطارات المعتدلة قد انسحبوا، تلقائياً، على إثر ما اصطلحنا على تسميته بحركة مايو الثورية. ومهما يكن من أمر، فإن عباس ورفاقه قد حصلوا على اعتماد الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، وتحت عنوانه وضعوا قوائم المرشحين لانتخابات المجلس التأسيسي الثاني في التاريخ المشار إليه أعلاه. عن مشروع الدستور الجزائري: لقد تعود المؤرخون، عند الكتابة عن الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، أن يقولوا عن السيد فرحات عباس وأتباعه أنهم يمثلون التيار البورجوازي الإصلاحي في الجزائر (21). ونحن نعتقد في ذلك خلطاً وتمويهاً يتطلبان وقفة جدية فاحصة؛ ذلك أن البورجوازية بمفهومها التاريخي، لم تكن موجودة في الوسط الجزائري بجميع ميولاته السياسية والثقافية، لأن الحديث عنها لايكون إلا في إطار المجتمع الفرنسي الذي يعيش الجزائريون على هامشه في أحسن الحالات. وعلى فرض أن جل الأعضاء القياديين وجزءاً كبيراً من المناضلين يمارسون مهناً حرة أوهم من المتعلمين الذين يشتغلون خاصة بسلك التدريس، فإن ذلك لايعني أنهم اندمجوا في شرائح المجتمع الفرنسي الذي ظل، في أغلبيته

الساحقة، ينظر إليهم نظرته إلى سائر أبناء المستعمرات؛ ولو كانوا بورجوازيين بالفعل، لوجدوا مكانتهم في صفوف الطبقة البورجوازية الفرنسية التي كانت أسسها ثابتة في أوساط المجتمع الفرنسي (13). إن المتتبع لمختلف المراحل التي مر بها الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري خلال عشر سنوات من الوجود الفعلي يكتشف بكل سهولة، أن أعضاءه لم يكونوا سوى جزء لايتجزأ من أولئك الذين كانوا يسمون بالأهالي الذين تتحكم فيهم فقط إرادة الكولون والحاكم العام؛ ولأنهم أدركوا ذلك، وعز عليهم أن تتواصل حالة الاضطهاد والتهميش والتبعية، فإنهم سلكوا طريق النضال في سبيل التصدي للهيمنة الاستعمارية ومحاربة النظام الاجتماعي وقوانين العسف والاستبداد المفروضة على الشعب الجزائري بأكمله ومن أجل إقامة جمهورية جزائرية متحدة مع فرنسا بمحض إرادتها، لها ألوانها الوطنية وتسيرها حكومة مستقلة. وهذا الطريق المعبر عنه بكل وضوح خاصة في مشروع الدستور الذي قدم للمجلس التأسيسي الثاني بتاريخ 9/ 8/1946 لم يتم الوصول إليه هكذا صدفة، بل تطلب الأمر أكثر من عشر سنوات قضاها السيد فرحات عباس في خبرة سائر توجهات الحركة الوطنية وفي محاولة إيجاد ثغرة تمكنه من الوصول إلى إقناع السلطات الاستعمارية بضرورة الاهتمام بمصائر أبناء الشعب الجزائري الذين أثقلت كواهلهم إجراءات الاستغلال والتهميش. وعندما يجرأ الدارس، اليوم، على العودة إلى تلك الفترة والتأمل بموضوعية في مختلف القناعات التي مر بها زعيم الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، فإنه يلحظ أهمية الجهد المبذول ويعترف بأن الطرح الجديد الذي اهتدى إليه عباس وأتباعه إنما هو انتصار كبير بالنسبة للحركة الوطنية وذلك رغم كل ماتضمنه من هنات ومواطن ضعف ورغم مايبدو للمحلل، اليوم، من أنه كان من دون مستوى التضحيات التي قدمها الشعب الجزائري من خلال سلسلة المقاومات التي لم تتوقف أبداً. وكان دخول الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري معركة الانتخابات التشريعية قراراً وجد معارضة لاجدال فيها من طرف حزب الشعب الجزائري ومناضليه الذين رفعوا شعار: من انتخب كفر، ثم راحوا ينعتون كل من خالفهم الرأي بالغدر والخيانة؛ وسوف يشكل ذلك عقبة كأداة في طريق السيد الحاج مصالي عندما يخرج من السجن ويقرر لأسباب متعددة، المشاركة في انتخابات

الاتحاد والعمل الميداني

المجلس الوطني الفرنسي التي كان قد تحدد إجراؤها بتاريخ 10/ 11/1946. وإذا كان تأثير حزب الشعب الجزائري قد بلغ أقصى مايمكن أن يبلغه تأثير حزب محظور وملاحق، إذ امتنع عن التصويت حوالي نصف عدد الناخبين من المجموعة الثانية، فإن الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري قد فاز بحصة الأسد بالأصوات المعبر عنها إذ نال أحد عشر مقعداً من جملة ثلاثة عشر كانت هي نصيب الشعب الجزائري بأكمله. ومن ثمة نستطيع القول: إن هاتين التشكيلتين السياسيتين تمثلان، بالفعل، الرأي العام الجزائري حتى ولو أن الإحصائيات تدل على أن الحركة المصالية هي الأكثر تجذراً في أوساط الشعب وأن أعداداً كبيرة من مناضليها لم يلتزموا بأوامر قياداتهم وصوتوا إلى جانب مرشحي الاتحاد. وسواء كان الاختلاف أو الاتفاق بين تلك التشكيلتين الوطنيتين، فإن السيد فرحات عباس ورفاقه النواب قد أحدثوا المفاجأة الكبرى بمشروع الدستور الآنف الذكر (14) خاصة وأن الرأي العام الفرنسي قد تعود على سماع "المعتدلين الجزائريين" يدعون إلى تحقيق المساواة وبعض الحقوق الاجتماعية والسياسية. فالمادة الأولى من مشروع القانون تنص على أن فرنسا تعترف بالجمهورية الجزائرية وحكومتها وألوانها الوطنية، وذلك على الرغم من أن المادة الثانية تجعل السياسة الخارجية والدفاع مشتركين مع فرنسا. أما المادتان الثالثة والرابعة فتنصان على أن للجمهورية الجزائرية كامل السيادة على ترابها الوطني وأن هذه السيادة يمارسها النواب الذين تنتخبهم الأمة الجزائرية بواسطة الاقتراع العام والذين يشكلون البرلمان الجزائري. إن مجرد تقديم مثل هذه الوثيقة إلى مكتب المجلس التأسيسي الفرنسي يعتبر انتصاراً ثانياً بالنسبة للحركة الوطنية الجزائرية. وتعد انتصاراً كذلك، استماتة منتخبي الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري في الدفاع عن مشروعهم الذي استبعد، في النهاية، لفائدة مايسمى بالقانون الأساسي الذي تمت المصادقة عليه من طرف البرلمان الفرنسي يوم 20/ 9/1947 والذي سنعود إليه فيما بعد. - الاتحاد والعمل الميداني: إن هذه الوقفة الخاطفة مع مشروع الدستور الجزائري لم تكن لتنسينا الحديث عن بدايات الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري الذي شرع منذ تأسيسه

ينشط على ثلاث جبهات متكاملة هي على التوالي: 1 - جبهة التنظيم الحزبي حيث شرعت القيادة مباشرة إثر الحصول على الاعتماد، في تنصيب الخلايا والقسمات والاتحادات مستثمرة رصيد حركة أحباب البيان والحرية ومستغلة حالة السرية التي كان يمر بها حزب الشعب الجزائري. وفي يوم 13 أكتوبر سنة 1946 عقد الاتحاد مؤتمراً تحضيرياً (15) قيم فيه سير الانتخابات ونتائجها ثم حدد استراتيجية المستقبل على ضوء الأفكار الأساسية الواردة في مشروع الدستور، وعين لجنة مديرة مكونة من السادة: عباس، فرانسيس، طالب، بويجر، وابن خداش. 2 - الجبهة الأيديولوجية قصد ضبط منظومة الأفكار التي كانت تشكل مشروع المجتمع الجزائري كما كان يتصوره قادة الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري وفي مقدمتهم السيد فرحات عباس. لقد استفاد السيد فرحات عباس من تجربته النضالية الخاصة واقتنع، بعد لأي، أن فكرة دمج الشعب الجزائري في الشعب الفرنسي غير قابلة للتنفيذ لأنها لم تأخذ في الاعتبار واقع الشعبين ولأن الكولون يرفضونها دفاعاً عن مصالحهم الخاصة، ويحاربها الوطنيون الجزائريون لأنها تتنافى مع مقومات الأمة وثوابتها. واستفاد، أيضاً، من تجربة العلماء والمصاليين في مجالي الفكر والنضال، واستطاع، بذكاء فائق، أن يحوصل ناتج التجربتين مركزاً على محاور أساسية هي: أ - تحرير الجزائر من النظام القديم للسيطرة الاستعمارية أي كان نوعها، مع احترام مبدأ الجنسيات، وبتعبير آخر، بناء مستقبل البلاد على أسس الواقع والتاريخ (16). ب - إقامة جمهورية جزائرية مستقلة استقلالاً ذاتياً ومتوحدة مع الجمهورية الفرنسية المتجددة، والمناهضة للاستعمار وللامبريالية. وكان يرى السيد فرحات عباس أن ذلك يأتي نتيجة منطقية لتطور التاريخ إذ يقول: "لقد استعمرت الجزائر وهذه حقيقة وفي أوساطنا زرع الاستعمار مليون أوروبي مسيحي وهذه حقيقة ثانية. وتعايش المسلمون والمسيحيون مدة أكثر من قرن وهي حقيقة ثالثة وكل هذه المعطيات هي التي أسست الجمهورية الجزائرية التي فرضت وتفرض نفسها على جميع الملاحظين" (17). ج - الدولة الجزائرية يجب أن تكون متعددة المجموعات لأن السيد فرحات

عباس لايرى لزاماً على جميع أبناء الوطن الواحد أن يكونوا على دين واحد، وأن الجزائري المسيحي أو اليهودي يجب أن يكون أخاً للجزائري المسلم بعيداً عن كل عمليات الاستغلال والإقصاء والاستعباد (18). د - التعليم الإجباري والمجاني بالنسبة لجميع أطفال الجزائر، والنضال من أجل ترقية اللغة العربية باعتبارها اللغة الوطنية والرسمية ولأنها بالنسبة للإسلام "مثل الكنيسة بالنسبة للمسيحية فالمسجد، يقول السيد فرحات عباس، لايعني شيئاً عندنا ولكن تلاوة القرآن هي كل شيء" (19) لأجل ذلك، يرى الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري أن الاهتمام باللغة العربية أساسي لأنه يشكل قاعدة الإيمان. هـ - تخليص الإسلام من الواقع الذي آل إليه بفعل اعتداءات الإدارة الاستعمارية عليه، وهو واقع يصفه السيد Lechatelier مدير مجلة العالم الإسلامي بقوله: "لقد أوجدنا، في الجزائر، إسلاماً وحيداً من نوعه: الأوقاف منعدمة والمساجد خاضعة للإدارة بواسطة أئمة مأجورين، والقضاة موظفون والحج بإذن والقانون عبارة عن نتاج هجين لالتقاء الشريعة الإسلامية بالعرف الفرنسي" (20). و- إلغاء الملكية الإقطاعية والتركيز على إصلاح زراعي واسع لفائدة الخماسين المعدمين من سكان الريف ومما لاريب فيه أن هذه الفكرة مقتبسة مباشرة من البرنامج السياسي الذي كان نجم شمال أفريقيا قد صادق عليه سنة 1933، هذا في الظاهر لكن الواقع غير ذلك لأن نصوص الاتحاد الرسمية تؤكد بما لايدع أي مجال للشك أن "الحكومة الجزائرية تضمن الملكية العقارية الإسلامية والفرنسية على حد سواء، ولايمكن أن يلجأ إلى التأميم إلا إذا كان للصالح العام في إطار القانون وبعد تعويض عادل" (21). 1 - الجمهورية الجزائرية علمانية، وعلى هذا الأساس فإن موقفها حيادي من جميع الأديان، وهي إذ تضمن حرية العبادة لكل مواطنيها، فإنها تخضع النظر في منازعاتهم إلى المحاكم المدنية التي تطبق القانون الفرنسي. إن هذه النقطة تتناقض مع موقف الاتحاد من الإسلام لكننا نعتقد أنها مستمدة من الرغبة في الالتزام بما جاء في النقطة الثالثة. 2 - نبذ العنف كوسيلة لتقويض أركان الاستعمار، وحمل فرنسا على تلبية مطلب

الشعب الجزائري كما هو مسطور في نصوص الاتحاد، والاكتفاء، فقط، بالنضال السياسي في إطار ما يسمح به القانون الفرنسي. في هذا الإطار كتب السيد فرحات عباس يوم أول مايو 1946: "على الرغم من جرائم الاستعمار وعلى الرغم من تجافي بعض النفوس الكريمة والتي ماتزال مكدورة، وعلى الرغم من الانتفاضات الأخيرة لنظام يحتضر، فإن الجزائر الجديدة، المتحدة بحرية مع فرنسا الجديدة، سوف ترى النور بفضل تضافر جهود الديمقراطيين الفرنسيين والمسلمين" (22). 3 - جبهة النشاط السياسي وتتميز خاصة بعمل القيادة الحثيث على إعادة الربط مع الشركاء في حركة أحباب البيان والحرية من جهة، وعلى محاولة إقناع الرأي العام الفرنسي بسلامة توجه الحزب الجديد من جهة ثانية. وإذا كانت قيادة الاتحاد لم تجد أدنى صعوبة لاستمالة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين خاصة بعد أن تبنت أهم مطالبها وثبتت عدداً من أهدافها في النصوص الأساسية للحزب (23)، فإن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة للعلاقة مع حزب الشعب الجزائري وسيلته الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية. وعلى الرغم من أن السيد الحاج مصالي بادر، أثناء أول مهرجان شعبي حضره في باريس مباشرة بعد إطلاق سراحه يوم 11/ 8/1946 إلى الدعوة للاتحاد حول حزب الشعب الجزائري، فإنه لم يقدم أي اقتراح ملموس للسيدين سعدان وبومنجل اللذين قصداه في نفس المناسبة ملتمسين توضيح الفكرة (24). وكان إحجام السيد مصالي مدفوعاً برغبته في عدم تجاوز موقف القيادة المؤقتة التي كانت تشرف على أجهزة الحزب أثناء غيابه والتي سبق لها أن عابت على السيد فرحات عباس وجماعته عدم التزامهم بمحتوى بيان الشعب الجزائري وبروح النشرة التي صادق عليها مؤتمر مارس سنة 1945. لكن الاتحاد لم يقف مكتوف الأيدي أمام ذلك التردد، واغتنم السيد فرحات عباس فرصة انعقاد المؤتمر التأسيسي في نفس اليوم الذي وصل فيه السيد مصالي إلى الجزائر فجعل المؤتمرين يصادقون على نشرة يدعون فيها إلى الاتحاد مع حزب الشعب الجزائري وأخرى يرحبون فيها بعودة الزعيم إلى أرض الوطن ويطالبون بتمكين حزبه من العودة إلى الحياة العلنية في إطار النضال الشرعي (25). وكان من الممكن أن يساعد ذلك المسعى على تقريب وجهات النظر وفتح طريق التعاون من جديد بين الجناحين الرئيسيين في الحركة الوطنية الجزائرية،

لكن الاستقبالات الشعبية التي لاقاها السيد الحاج مصالي حالت دون ذلك بطريقة غير مباشرة إذ جعلت الزعيم يعتقد أن حزبه هو الأقوى وأنه، والحال هذه، ليس في حاجة إلى الاتحاد مع أية قوة سياسية أخرى لربح معركة الانتخابات التشريعية التي كان قد تقرر إجراؤها بتاريخ 10/ 11/1946. وعندما يعود الدارس اليوم إلى الحجج الذي تذرع بها حزب الشعب في ذلك الوقت ليفرض عرض الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، فإنه لا يجد لها أساساً سليماً لأن الاختلاف الإيديولوجي الذي قيل، يومها، إنه يحول دون اتحاد التشكيلتين السياسيتين لم يكن مطروحاً بفعل قبول الطرفين المشاركة في انتخابات المجلس الوطني الفرنسي. ومعلوم أن مجرد المشاركة في تلك الانتخابات تعتبر اعترافاً بالسيادة الفرنسية على الجزائر. وعلى الرغم من أننا لا نريد مناقشة هذا الموقف ولانرغب في التوقف عند الذرائع التي يستظهر بها كل جانب لتبرير إقدامه على المشاركة في الانتخابات، فإننا لا نرى بداً من التأكيد على أن رفض مصالي عرض عباس لم يكن بدافع إيديولوجي. ولم يكتفِ الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري بتسجيل ذلك الرفض، بل إنه قرر الامتناع عن المشاركة في انتخابات المجلس الوطني الفرنسي ليس لتوجه إيديولوجي ولكن، فقط، ليترك المجال فسيحاً أمام الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية وحتى يتجنب الصراع بين قوتين سياسيتين هدفهما الأساسي هو تحرير الشعب الجزائري. في هذا الصدد كتبت " Egalité" تحت عنوان: "لن يكون هناك تنافس بين مصالي وعباس". إن مصالي ورفاقه قد أبدوا رغبتهم في خوض المعركة دون الاشتراك مع أي حزب سياسي آخر. وقد رأينا أنه ليس من حقنا الاعتراض على هذه التجربة أو الإنقاص منها خاصة وأنها شرعية تماماً ومليئة بالعبر للجميع". (26). أما فيما يتعلق بمحاولة إقناع الرأي العام الفرنسي بسلامة توجه الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، فإن السيد فرحات عباس قد جند لها وسيلتين كانتا، يومها، في منتهى الأهمية وهما: الصحافة ومنبر كل من المجلس التأسيسي ومجلس الجمهورية. ولقد كانت المهمة شاقة وتحتاج إلى كثير من المهارة السياسية والثقافية الواسعة والإيمان الراسخ بالقضية العادلة. وعلى الرغم من ذلك، فإن ممثلي الاتحاد لم يهنوا واستطاعوا، في مناسبات عديدة، أن يقوموا بأكثر مما كان ينتظر منهم. فعلى مستوى الصحافة، وظفت أعمدة اللسان المركزي للحزب من أجل

التعريف بمشروع الدستور الجزائري والدفاع عنه والعمل على تعميمه، فكرة وهدفاً، في أوساط الجماهير الشعبية ولدى الرأي العام الفرنسي بجميع مكوناته، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن الأعضاء القياديين كانوا يلجأون إلى علاقاتهم الشخصية قصد النفاذ إلى ميادين الإعلام الفرنسي. وفيما يخص منبر المجلس التأسيسي، فإن الصراع كان مريراً بسبب نشاط غلاة الكولون الذين تمكنوا، بفضل إمكانياتهم المادية، من تعبئة جميع الأوساط السياسية الفرنسية كي تغلق جميع الأبواب في وجه نواب الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، وأن إطلالة سريعة على فحوى المداولات المنشورة على أعمدة الجريدة الرسمية للجمهورية الفرنسية خلال السداسي الأخير من سنة 1946 والسداسي الأول من عام 1947، تكفي وحدها للتدليل على ماكان يلقاه عباس ورفاقه من معاناة للتعبير عن آرائهم المجسدة لفكرة الجمهورية الجزائرية المستقلة. فعلى سبيل المثال، فقط، نذكر أن الدكتور سعدان، في جلسة المجلس التأسيسي الثاني المنعقدة بتاريخ 22/ 08/1946، قد حاول الحديث مطولاً عن الظاهرة الوطنية في الجزائر لكنه منع من ذلك بواسطة المقاطعات ووسائل الإزعاج المختلفة. وفي اليوم الموالي تدخل رئيس الجمهورية المؤقتة السيد جورج بيدو (27) Georges Bidault وختم مداخلته قائلاً: "إن فرنسا ستبقى في الجزائر، لأنها فرنسا ولأنها إنسانية" (28). وبعد انتخابات المجلس الوطني الفرنسي وما تخللها من عمليات التزييف والتحليل في تفسير القوانين ابتكرت الإدارة الاستعمارية أسلوباً جديداً في التعامل مع الحركة الوطنية التي أصبحت، بالفعل، تحظى بتأييد أغلبية الشعب الجزائري، وقد تميز ذلك الأسلوب بقرار اتخذته وزارة الداخلية يلغي انتخاب أعضاء مجلس الجمهورية بواسطة الاقتراع العام، ويسند تلك المهمة الخطيرة إلى المستشارين في البلديات كاملة الصلاحيات ورؤساء الجماعات في البلديات المختلطة الذين كانوا قد انتخبوا في شهري يوليو وأغسطس (تموز/يوليو/آب/)، سنة 1945 (29). وبما أن الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية كانت تعرف أن أولئك المنتخبين موالون، في أغلبهم للإدارة الاستعمارية، فإنها فضلت عدم تقديم مرشحين عنها للمجلس الجمهوري، الأمر الذي فسح المجال للسيد فرحات عباس فبادر إلى دخول المعركة وخرج منها منتصراً حيث انتزع حزبه أربعة مقاعد من جملة السبعة المخصصة للمجموعة الثانية. (30).

موقف الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري من قانون الجزائر التنظيمي

ومن الجدير بالذكر أن ممثلي الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري لدى مجلس الجمهورية هم الذين تولوا إثراء مشروع الدستور الذي كان قد عرض على المجلس التأسيسي الثاني بتاريخ 09/ 08/1946 ثم صاغوه في شكل مشروع قانون لم يحظ إلا بأصوات أصحابه. موقف الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري من قانون الجزائر التنظيمي: لقد كان لتحركات ممثلي الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري في المجلس التأسيسي الثاني وفي مجلس الجمهورية تأثير بالغ الأهمية على منتخبي المجموعة الثانية الذين استطاعوا بدورهم أن يتخلوا عن فكرة الاندماج والمساواة والمطالبة بالحقوق الاجتماعية، بل إن بعضهم مثل السيد ابن شنوف الذي صرح أمام نواب المجلس الوطني الفرنسي قائلاً: "أعترف أن الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، من بين جميع الأحزاب، هو الوحيد الذي أجاد عرض الطرح الاتحادي .. وأعترف أيضاً، أن برنامجه هو الذي قدمته للمواطنين أثناء الحملة الانتخابية إذ لم يكن لمجموعتي أفضل من تبني مقترحاته مع تعديلات طفيفة. إن هذا المشروع المتعلق ببعث الجمهورية الجزائرية هو الذي سوف أدافع عنه في إطار لجنة الشؤون الداخلية وفي سائر أشغال المجلس الوطني. وبكل راحة ضمير، أعتبر أن الجزائر قادرة، ابتداءً من اليوم، على الارتقاء إلى وضع الدولة المشاركة (المتحدة مع فرنسا). فكل مؤسسات هذه الدولة قائمة ولم يبق سوى العمل على تسييرها. (31). لكن نشاط ممثلي الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري لم يحرك همم المنتخبين الجزائريين فقط، بل إنه زرع الرعب في أوساط الكولون الذين راحوا يلتفون حول غلاتهم لتهديد الحكومة الفرنسية بالتمرد على قراراتها التي قد لا تكون لصالح الجزائر الفرنسية. (32). ففي هذا الإطار، مثلاً، نشرت جريدة " Démocratie" في عددها الصادر بتاريخ 09/ 08/1947 مقالاً بعنوان: " Un brelan de trait M. Depreux, Chataigneàu Aldhuy" جاء فيه على الخصوص: "ليس ثمة قوة بشرية ولا غيرها باستثناء كفن الموتى تستطيع حماية هذا الثالوث الخائن من عدالة الشعب الجزائري"، أما السيد Boyer Bance المدير السابق بالولاية العامة والكولون المسيطر على أغلبية أراضي ناحية بابا علي، فإنه وجه رسالة إلى وزير

الخارجية الفرنسي جاء فيها:"إذا كانت فرنسا، بالتخلي عنا، سوف تتسربل بالعار، فإننا فيما يخصنا سنكون مضطرين لمطالبة الأمم المتحدة بحقنا كشعب تخلت عنه فرنسا، ويومها سيكون عليكم أنتم وزير الشؤون الخارجية واجب تقديم الأسباب التي قد تكون دفعت فرنسا لخيانتنا". (33). وفي نفس هذا السياق التمردي، نشر رئيس مجلس العموم لعمالة الجزائر رسالة موجهة إلى باريس وعليها توقيع ثلاثة وعشرين من رفاقه جاء فيها على الخصوص:"لوأن المجلس الوطني يزود الجزائر بقانون لا يخدم مصالح الاستعمار، فإن ممثلي الأقلية الأوربية لن يترددوا في التوجه إلى غير الميتروبول" (34). وفي رحاب المجلس الوطني الفرنسي تعرض النائب جاك شوفالي Jacques Chevalier إلى مشروع القانون الذي تقدم به ممثلوا الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري وتوقف طويلاً عند إجبارية تعليم اللغة العربية حيث قال: "إن جعل تعلم اللغة العربية إجباري يعني دفع المسلمين (35) أكثر فأكثر إلى الإسلام، ويعني ذلك، نشر الإسلام وتمتين العلاقة مع الجامعة العربية وكل الذين يريدون استقلال الجزائر. وأخيراً، فإن ذلك يعني إدخال البربر تحت سلطة الإسلام عن طريق اللغة العربية" (36). ومما لاشك فيه أن تهديدات الكولون قد أثمرت لأن الحكومة الفرنسية جندت كل طاقاتها لاستبعاد مشروع قانون الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري وجعل المجلس الوطني الفرنسي يهتم فقط بالمشروع المقدم من قبلها وهو عبارة عن وثيقة مستمدة في أساسها من مشروع كانت حكومة Bidault قد أعدته في شهر سبتمبر 1946 بواسطة الأستاذ Viard(37) ثم لم تقدمه للمناقشة. لقد عرف المشروع الحكومي المذكور باسم La statut de L'algérie ونحن نعربه بعبارة: قانون الجزائر التنظيمي. أما عند غيرنا فله تسميات متعددة منها: دستور الجزائر، والقانون الأساسي أو قانون الجزائر ... الخ ومهما كانت التسمية فإنه يبقى وثيقة لا يمكن القول عنها إنها جاءت بجديد للخروج من الأزمة السياسية أو لامتصاص غضب النواب الجزائريين الممثلين للمجموعتين الانتخابيتين على حد سواء، بل إن القانون جاء جامعاً وملخصاً لمحتويات المراسيم والقوانين والأمريات الاستعمارية التي فرضت على الجزائر منذ السنوات الأولى من الغزو. وللمتمتعين في ذلك القانون الذي وقع عليه الرئيس فانسان أوريول (38)، يرى أنه يشتمل على ثمانية أبواب وستين مادة، وأنه يهدف، بالدرجة الأولى،

إلى فصل من يسمون بالنخبة التي تتمتع بحق المواطنة عن الجماهير الشعبية التي ترغب سلطات الاستعمار في إبقائها في حالة التبعية الدائمة. لأجل ذلك فإنه لاقى معارضة مطلقة من جميع المنتخبين الجزائريين على اختلاف مشاربهم السياسية، وعلى الرغم من أنه لم يغير شيئاً من وضع المسلمين المزري، فإن ممثلي المجموعة الانتخابية الأوربية قد حاربوه بكل ما أوتوا من قوة، وعلى غرار النواب الوطنيين فإنهم رفضوا التصويت عليه. إن إقرار القانون التنظيمي والمصادقة عليه في غياب ممثلي الشعب الجزائري قد أحدثا رد فعل عنيف لدى الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري الذي أمر مستشاريه بالاستقالة من مجلس الجمهورية وقد تم ذلك بواسطة رسالة (39) تحمل تاريخ 31/ 08/1947 نورد نصها فيما يلي نظراً لأهميتها وعمّق ماجاء فيها من أفكار."، السيد رئيس مجلس الجمهورية، باريس". "مع كل الاحترام يشرفنا أن نحتج ضد قانون الجزائر التنظيمي الذي فرضه البرلمان الفرنسي على أغلبية السكان الجزائريين، وعلى هذا الأساس نوجه لكم استقالتنا من عضوية مجلس الجمهورية". "وبدون الإلحاح كثيراً على المساومات التي قامت بها الأحزاب الميتروبولوليتانية في غيابنا حول هذا القانون، فإننا نلحظ عليه العيوب الثلاثة التالية: 1 - لقد صوت عليه في غياب المنتخبين المسلمين ودون أن تؤخذ في الاعتبار طموحات شعب الجزائر الشرعية. فتآمر غلاة المعمرين من جهة وتأثير رئيس حكومة سابق (40) خارج البرلمان من جهة أخرى، قد حالا دون حرية سير المؤسسات الجمهورية. لقد وقع تحالف فعلي ضد الجزائريين المسلمين، وواجبنا هو التنديد بذلك. 2 - إن إلغاء قانون الخامس أكتوبر 1946 المجدد للقانون الصادر سنة 1940 فيما يخص مرسوم Crémieux يخرق الدستور الذي تنص مادته 82 في فقرتها الثانية على أن الأحوال الشخصية، "لا يمكن بحال من الأحوال، أن تشكل سبباً لرفض الحقوق والحريات اللصيقة بصفة المواطنة الفرنسية، أو الحد منها". والحال أن حقوقاً مكتسبة قد سحبت من المسلمين الحاصلين على الشهادة الابتدائية لسبب حالتهم الشخصية. إنه لخرق يجب التراجع عنه خاصة إذا علمنا أن عدداً كبيراً من المنتخبات والمنتخبين

الأوربيين لا يقرأون ولا يكتبون. لقد حاول السيد رئيس مجلس الوزراء أن يعطي التفسير التالي لهذا الخرق الذي تعرض له الدستور. أن هؤلاء المنتخبين المسلمين قد يكونون قد سجلوا أنفسهم في قوائم المجموعات الانتخابية الأولى فقط للمشاركة في الانتخابات التشريعية". وإنها لمفارقة أن يرى المرء في إطار الجمهورية الفرنسية الواحدة التي لا تتجزأ تقسيماً للمنتخبين إلى مجموعتين وفقاً لجنسهم وعقائدهم الدينية. لكن وبعد وضع هذه القوائم، إذا نقل المنتخب من قائمة إلى أخرى حسب نوع الاستشارة الانتخابية، فإن ذلك يخرج من إطار القانون ليسقط في دائرة النزوات والعسف الكولونيالي. 3 - إن الحكومة وبعض البرلمانيين قد استندوا إلى وجود ممثلين عن الجزائريين المسلمين في البرلمان الفرنسي لتجريد الجمعية الجزائرية من كل سلطة تشريعية. إن منتخبي البيان، سواء في المجلس التأسيسي الثاني أو في مجلس الجمهورية، لم يتوقفوا، أبداً، عن التأكيد على الطابع المؤقت لذلك التمثيل. لقد شاركنا ومازلنا نشارك في البرلمان الفرنسي، ليس للمساهمة في ممارسة السيادة الفرنسية ولكن للمشاركة في إنشاء وإقامة الهيئات الاتحادية يعني البرلمانات المحلية والحكومة الفدرالية ومجلس الاتحاد. ولم يخطر في بالنا أن نعتبر نهائية عهدة البرلمان الفرنسي الممنوحة للجزائريين على سبيل الأهلية. إن دورنا ليس هو أن نشرَع للميتروبول، وبالنسبة للبيان فإن كل ذلك يعتبر مبدأً مقدساً. فالجزائري يجب أن يمارس سيادته في الجزائر وفي مجلس الاتحاد. وباستقالتنا، فإننا نذكر بذلك المبدأ كما أننا نذكر بالطابع المؤقت للتمثيل الجزائري في البرلمان الفرنسي، وهو تمثيل يجب أن ينتهي بمجرد أن تكتسب الجمعية الجزائرية سيادتها الداخلية كاملة" (40). وقبل هذه الاستقالة، كان الدكتور سعدان قد تحدث في مجلس الجمهورية عن القانون التنظيمي فوصفه باللعب الصبياني الذي لا يمكن أن يكون إطاراً لحل معضلتي الحرية والديمقراطية اللتين يعاني منهما شعب الجزائر. وبعد أن أكد أن القانون المذكور مؤسس فقط على الكذب والغموض وهو من وضع رجال لم يتخلصوا، بعد، من التعصب الكولونيالي، والتقاليد الامبريالية التي تنمي في نفوسهم غريزة السيطرة على الآخر وتجعلهم لا يترددون في استعمال

القوة والعنف للاحتفاظ بمتاع الغير، ختم يقول: "إن المأساة، في هذه القضية، تتمثل في كوننا وفرنسا لا نتكلم لغة واحدة. فالحكومة الفرنسية والمجلس الوطني يشرعان لبلدنا الذي يعتبرانه مزرعة متجاهلين أنه وطن وأننا لم نعد خدماً ولا أقناناً" (42). وحول نفس القانون التنظيمي استقبل السيد فرحات عباس من طرف رئيس الحكومة الفرنسية السيد Paul Ramadier الذي كان يعتقد أن في استطاعته تغيير موقف زعيم الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري. خاصة بعد أن أطلعته مصالح المخابرات على محتوى المكالمات الهاتفية التي كان يجريها مع الجزائريين الممثلين للإدارة الاستعمارية في البرلمان الفرنسي والتي دلت في مجملها على أنه تمكن من التأثير عليهم وجعلهم، الواحد تلو الآخر، يتخلون عن قناعاتهم الأولى ويتبنون، عملياً، فكرة النضال من أجل إقامة الجمهورية الجزائرية المتحدة بمحض إرادتها مع فرنسا. ويذكر السيد عمار نارون أن المقابلة بين عباس ورمادي لم تطل كثيراً نظراً لتمسك كل منهما بموقفه وبسبب الكراهية التي كان رئيس الحكومة يضمرها لمؤسس الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري. ولقد احتفظ التاريخ، من ذلك اللقاء القصير، بحوار ممتع يدل دلالة قاطعة على ماكان للرجلين من ثقافة واسعة وقدرة فائقة على التعبير قال عباس: إن جسم الجزائر محصور في اللباس المفروض عليه. أنه في حاجة إلى التنفس. حاولوا، إذن، أن تخيطوا له لباساً عصرياً". وبدون تردد أجاب رمادي: "أجل، سيد عباس إننا سنخيط لكم لباساً جديداً لكن تفصيله سيكون دقيقاً على الطريقة الفرنسية" (43). هكذا، إذن، ناضل ممثلوا الجزائريين على اختلاف مشاربهم ضد القانون التنظيمي لكنهم فشلوا في كل ماقاموا به من مساعي ولم يستطيعوا منع البرلمان الفرنسي من تأبيد حالة الاستبداد على الشعب الجزائري، وكان من الممكن أن يؤدي ذلك إلى يأس قيادة الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري: غير أن السيد عباس ظل وفياً لمقولة رينان التي تؤكد: "أن العالم لا يعرف فتور الهمم، بل إنه يعيد العمل المجهض إلى مالا نهاية: فكل فشل يتركه شابا نشطا ومفعماً بالانبهارات"، والتي ضمنها بيانه الموجه إلى الشبيبة الجزائرية بمناسبة الفاتح مايو 1946 (44). لأجل ذلك فإن الاتحاد لم ير في الاستقالة من مجلس الجمهورية هزيمة كما أنّه لم يعتبر عدم التواجد في البرلمان الفرنسي خسارة، وراح ينفق طاقته في

مجالات أخرى مثل الربط مع الجماهير الشعبية والاستعداد لخوض المعارك الانتخابية، والعمل على إيجاد الظروف الموضوعية الملائمة لتوحيد سائر أجنحة الحركة الوطنية وفق تصوره للمجتمع الجزائري الجديد. العمل الميداني والمعارك الانتخابية مباشرة بعد المصادقة على القانون التنظيمي شرعت الإدارة الفرنسية في تطبيقه على الطريقة الاستعمارية: انتخابات بلدية في أكتوبر 1947 وانتخابات الجمعية الجزائرية في أفريل 1948 دائماً في إطار المجموعتين ووفقاً لما تتطلبه الحرية والمساواة كما يفهمها غلاة الكولون. رغم ذلك، فإن الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية والاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري قد قررا خوض تلك المعارك كل حسب ايديولوجيته. فالاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري رأى أن الانتخابات البلدية التي تقرر إجراؤها يومي 19 و26 أكتوبر 1947 يجب أن يكون الإعداد لها تحت شعار الترقية الاجتماعية للشعب الجزائري ومن ثمة ينبغي إقناع المنتخبين بأن اختيارهم لممثليه يعني الدعم المطلق للنضال ضد الجهل والأمية والأمراض بجميع أنواعها وللقضاء على الأكواخ والأحياء القصديرية، ومن أجل تنمية أفضل لمجالات الحياة اليومية مع التركيز على التعليم والتربية والتكوين المهني وتوفير مختلف حاجات الغذاء. وكانت هذه الرؤية في تناقض كلي مع تلك التي جاءت بها الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية، والتي رأى هذه الحركة، كانت ترى أن الحملة الانتخابية المذكورة يجب أن تتحول إلى تظاهرة سياسية وأيديولوجية يتم من خلالها. تجذير العداء للقانون التنظيمي الآنف الذكر إلى جانب تعميم فكرة اللجوء إلى جميع الوسائل من أجل استرجاع السيادة الجزائرية التي اغتصبتها الامبريالية الفرنسية والتي لم يتوقف الشعب الجزائري عن المقاومة بكل أنواعها في سبيل استعادتها. (45). إن هذا التباين في الموقف من الانتخابات البلدية هو الذي حال دون تحقيق: "الوحدة الوطنية والديمقراطية للدفاع عن مصالح الجزائريين"، التي نادى بها الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري مدعوماً بالحزب الشيوعي الذي كان يرى أن التركيز ينبغي أن يكون فقط على المطالب ذات الصبغة البلدية. ومما لاشك فيه أن تجاوب الجماهير الشعبية مع الحركة من أجل انتصار

الحريات الديمقراطية وما نتج عن ذلك من انتصار قوائمها رغم كل العوائق والتكتلات، وقد دفع عباس وجماعته للتأمل، مرةأخرى، في الواقع الاستعماري والتأكد من أن جماهير الشعب الجزائري لم تعد قادرة على تعبئتها سوى البرامج الداعية إلى التخلص النهائي من السيطرة الأجنبية. هذه النتيجة قد توصل إليها الحزب الشيوعي الذي لم يتردد في الاعتراف بها صراحة ضمن افتتاحية Alger Républicain الصادرة في عدد يوم 24/ 10/1947. حيث كتب السيد Rouzé: " لقد حققت قوائم الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية نجاحاً في عدد من النواحي: فالجماهير الشعبية التي خيبت آمالها فيما كانت تطمح إليه من حرية قد عبرت عن استيائها بتلك الطريقة ... وبديهي أن التفاعل مع برنامج الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية إنما يدل دلالة قاطعة على عمق التغيير الذي طرأ إيجابياً على فكرة الوعي الوطني في أوساط الجماهير الشعبية". وعلى الرغم من تسجيل الهزيمة أمام منافسة الأول، فإن الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري قد حاول، منذ الإعلان عن النتائج الأولى، التظاهر بروح رياضية حيث نشر على أعمدة لسانه المركزي مقالات متعددة فيها تأكيد على أن اختيار الجماهير الشعبية يعد ترسيخاً وتثبيتاً لفكرة الوطن الجزائري التي يتطلب انتصارها النهائي تضافر جهود كل الطاقات الحية في البلاد (46) .. وإذا كانت الخطوة الأولى في طريق توحيد الطاقات الوطنية قد بدرت عن الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية، فإن قيادة الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري لم تتردد في تقديم العربون على استعدادها لتحقيق الوحدة الجدية والدائمة. أما خطوة الحركة فتمثلت في كتاب وجهه السيد الحاج مصالي في اليوم الثامن من نوفمبر إلى اللجنة المركزية للاتحاد يدعوها فيه إلى الحوار قصد إيجاد السبيل الأمثل لإخراج البلاد من دائرة السيطرة الاستعمارية، وأما عربون الاستعداد الذي قدمه الاتحاد فقد جاء في شكل نشرة صادق عليه المكتب السياسي في اليوم التاسع من نفس الشهر وضمنها عزمه كقيادة عليا على: "العمل من أجل جمهورية جزائرية ديمقراطية واجتماعية بحكومتها وبرلمانها وألوانها الوطنية" (47). كانت تلك نشرة اللائحة إيذاناً ببدء الحوار بين الطرفين، ودليلاً واضحاً على أن تقارباً إيديولوجياً كبيراً قد وقع بين التشكيلتين السياسيتين اللتين أصبحتا بالفعل قادرتين على إبرام الاتفاق من أجل توحيد العمل في سبيل تقويض أركان الاستعمار وبعث الدولة الجزائرية من جديد.

وبالفعل، فإن المحادثات بين مندوبي التشكيلتين، قد جرت في جو يسوده كثير من الوئام والتفاهم وتوجت بتصريح مشترك مذيل ببرنامج عمل من ثلاث نقاط أساسية هي: أ - وحدة العمل من أجل التوحيد الإيديولوجي والتنظيمي للحركة في كفاحها ضد الامبريالية. ب - إلغاء كل أنواع الاستعمار. ج - دستور دولة جزائرية ذات سيادة مطلقة. أما التصريح فقد تضمن اتفاق الطرفين على ضرورة استرجاع السيادة الوطنية التي اغتصبتها الامبريالية الفرنسية، وفي نفس السياق رفض الاتحاد الفرنسي الذي يتناقض في أساسه مع ميثاق الأمم المتحدة الذي يقر لجميع الشعوب حقها في تقرير مصيرها بنفسها. من جهة أخرى فإن الطرفين قد اتفقا على تشكيل لجنة للتنسيق تتولى متابعة تطبيق برنامج العمل وتنشط، باسم التشكيلتين، من أجل توسيع الاتحاد إلى تنظيمات أخرى تكون مستعدة للمساهمة في الحركة الواسعة الرامية إلى إقامة الجمهورية الحرة الديمقراطية والاجتماعية. إن الذي يطلع على كل هذه النتائج الإيجابية، في واقع الأمر، لا يسعه سوى الإقرار بأن الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري قد اهتدى، عن وعي، إلى الطريق المؤدية إلى تحرير الوطن لكن ذلك لم يطل إذ أن اللجنة المركزية للاتحاد أعلنت أنها تخضع استمرار العمل الوحدوي إلى مجموعة من الشروط في مقدمتها عدم رفض التمثيل البرلماني وعدم إدانة الاتحادالفرنسي والتخلي عن دستور الدولة الجزائرية ذات السيادة المطلقة وهو ما رفضته الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية وجعل السيد الحاج مصالي يصف "الجمهورية الفدرالية" التي رفع شعارها السيد فرحات عباس بالمولود الامبريالي لأنها تترك الدفاع الوطني والشؤون الخارجية بين أيدي الامبريالية الفرنسية وتسوي مليون أوربي بعشرة ملايين من الجزائريين. (48). وفي نفس الوقت الذي كانت فيه قيادة الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري تدعو إلى الالتزام بالشروط المذكورة أعلاه كشرط أساسي لوحدة الصف الوطني، فإن السيد فرحات عباس كان يوظف أعمدة الجمهورية الجزائرية La République Algerinne" للتنديد بالحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية التي لم تأمر نوابها بالانسحاب من البرلمان الفرنسي، ولكتابة أشياء غير معقولة

المشاركة في انتخاب الجمعية الجزائرية

مثل: "أن سياسة الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية تشبه العنصرية التي لا تطاق والدكتاتورية الأكثر دناءة والفاشية الجديدة ذات الحظ الصاعد" (49). المشاركة في انتخاب الجمعية الجزائرية: هكذا، وبكل هذه السهولة، تحلل الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري من وثيقة الاتفاق الذي أبرمه مع الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية وراح يستعد لانتخابات الجمعية الجزائرية وفق البرنامج السابق المتأرجحة أهدافه بين السيادة المشروطة والجمهورية الجزائرية المتحدة مع فرنسا والرافضة في الحالتين للانفصال عن فرنسا وللاتحاد مع الحركة المصالية الداعية إلى تقويض أركان الاستعمار وبعث الدولة الجزائرية ذات السيادة المطلقة. وعلى الرغم من أن الرأي العام الوطني، في الجزائر، كان ينتظر من التشكيليتين موقفاً موحداً لمواجهة الجبهة الاستعمارية التي بدت متماسكة للاحتفاظ بالجزائر فرنسية ولإبقاء شعبها المسلم في حالة التهميش التي تمنعه من ممارسة حقه في الحرية والسيادة، فإن الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري والحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية قد قررا مواصلة السير منفردين، ودخول المعركة الانتخابية مشتتي الصفوف وببرامج متباينة إلى أبعد الحدود. إن مجرد المشاركة في انتخابات الجمعية الجزائرية كان يعتبر هزيمة للحركة الوطنية لما في ذلك من قبول بالعودة إلى ماقبل حركة أحباب البيان والحرية. فالمادة الثانية من القانون التنظيمي الذي أنشئت الجمعية بموجبه تؤكد إبقاء الجزائر في شكلها السابق لسنة 1947 أي مجموعة عمالات مزودة بالشخصية المدنية والاستقلال المالي" (50)، وفي المادة الواحدة والثلاثين من نفس القانون تثبيت للمجموعتين الانتخابيتين وعودة لمقاييس مشروع فيوليت من أجل تعيين المسلمين الذين يمكنهم الارتقاء إلى المجموعة الأولى أي مجموعة المواطنين الفرنسيين. ومن جهة أخرى، فإن التشكيلتين السياسيتين الوطنيتين، إذ تقدمان على المشاركة في انتخابات الجمعيةالجزائرية، فإنهما تتنكران لموقفهما من القانون التنظيمي الذي كانتا قد رفضتاه جملة وتفصيلاً واعتبرتاه اعتداء سافراً على سيادة الشعب الجزائري (51). بل إن مؤتمر البليدة الذي عقده الاتحاد

الديمقراطي للبيان الجزائري أيام 3 - 4 و5/ 10/1947 لم يتردد في التنديد: "بالاتحاد الفرنسي المؤسس على الإكراه والسيادة الأحادية"، وفي إدانة القانون التنظيمي المفروض على الشعب الجزائري الذي يسعى "لإقامة جمهورية جزائرية مزودة بألوانها الوطنية وبحكومة مسؤولة أمام برلمان جزائري" (52). في هذا الجو المليء بالتناقضات وعدم الاستقرار على موقف واحد، أعد الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري قوائم مرشحيه للجمعية الجزائرية التي قال عنها السيد فرحات عباس: "إنها غير مرضية ولا غير مجدية، وسوف تكون بين أيدينا أداة لتحسين وضعنا وتسليحنا لخوض معارك أخرى" (53). لقد كانت قيادة الاتحاد، في معظمها تعتقد أن الابتعاد عن الحركة المصالية بجميع تسمياتها سيساعدها على الفوز بثقة الإدارة الاستعمارية وتفهم الحكومة الفرنسية، ومن ثمة تعطي لها فرصة إيجاد ديناميكية جديدة لصالح حل لا يخرج عن إطار الاتحاد الفرنسي لكنه يمنح الجزائر نوعاً من الاستقلال الداخلي الذي يكون محطة في طريق الاستقلال الكامل. إن ذلك الاعتقاد لم يكن صحيحاً، لأن غلاة الكولون الذين لم يكونوا مستعدين للتعامل مع أي من أطراف الحركة الوطنية، قد تمكنوا من التغلغل بسهولة في أوساط الأغلبية الحاكمة في فرنسا، وزيادة على تجذيرهم، في تلك الأوساط، لفكرة الجزائر الفرنسية، فإنهم استطاعوا أن يكونوا ممثلين في حكومة السيد روبارت شومان Robert Schuman بواسطة واحد منهم وهو نائب قسنطينة Réné MAYER(54). الذي أدت ضغوطاته إلى استبدال السيد YVES Chataigneau بالسيد مارسيل ايدموند نيجلان Marcel édmond naegelen والياً عاماً للجزائر ابتداءً من يوم 11/ 02/1948. لقد كان نيجلان اشتراكياً في مذهبه السياسي، لكنه بالنسبة للجزائر كان يمينياً متطرفاً يرى في استقلالها، "نهاية للإنجازات الفرنسية وتوقفاً لبناء المدارس والطرقات والمستشفيات والقامرات الهاتفية ولتحسين المحصولات كما أنه يعني رحيل معلمينا وأطبائنا ومهندسينا وحكامنا" (55). وحتىلا تحدث "هذه الكارثة" فإنه شرع بمجرد تنصيبه في وضع أسس مدرسة تزييف الانتخابات التي سوف تعرف باسمه، وذلك رغم كل ماقام به من جهد ليقدم نفسه كمنقذ لتعليمات كان سابقه قد ضمنها نشرية تحمل تاريخ 28/ 08/1947. وتأمر بالقضاء على المشوشين الذين يتبين أن نشاطهم مضر، والحفاظ، من جهة أخرى، على هيبة السلطة بواسطة قمع مخالفات القانون والمس بالنظام

العام" (56). إن نايجلان لم يكن مخطئاً تماماً، لكنه لم يكن في مستوى ذكاء الوالي العام السابق إيف ستاتينيو الذي كاد، بفضل مرونته العجيبة، أن يقنع الجزائريين على اختلاف ميولاتهم ومستوياتهم بتعاطفه معهم في الوقت الذي توجد فيه أدلة ملموسة على محاربته للحركة الوطنية بكل الوسائل. نكتفي هنا، بالإشارة إلى تعليماته الصارمة بمنع منتخبي الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية من عقد مؤتمرهم يوم 25/ 01/1948، أي قبل تنحيته بأسبوعين فقط، وكذلك حملة الاعتقالات والاعتداءات على المرشحين والمقرات على حد سواء ابتداء من فاتح جانفي سنة 1948. مثل هذه الإجراءات التعسفية هي التي لجأ إليها السيد نيجلان لمنع تشكيلات الحركة الوطنية وحتى الشيوعيين من الفوز بمقاعد المجموعة الانتخابية الثانية في الجمعية الجزائرية. وأكثر من ذلك فإنّه جند الصحافة الاستعمارية الصادرة في الجزائر للتحذير من خطر الانتخاب على مرشحي الحركة المصالية "الذين لا يمكن إلا أن يكونوا قوة معرقلة ومعادية لكل ما هو فرنسي" (57). ولم يكتف نيجلان باضطهاد إطارات الحركة الوطنية موجهاً لهم تهمة المس بالسيادة الفرنسية والعمل على إرباك النظام العام، وإنما تجاوز ذلك إلى الأمر باعتقال المرشحين أنفسهم كما جاء في تقرير اللجنة المركزية للإعلام والتوثيق التابعة للحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية؛ ومن جهة أخرى صدرت الأوامر الصارمة إلى المصالح الإدارية بالبلديات كي لا توزع بطاقات الناخبين في المراكز التي شك في ميولات سكانها الوطنية. وعندما بدأت عملية الاقتراع، تضاعفت إجراءات التزييف مثل إسناد الإشراف على مكاتب التصويت إلى الأوربيين فقط أو إلى من يعينون من طرفهم. وفي بعض الحالات التي ذكرتها اللجنة المركزية للإعلام والتوفيق التابعة للحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية، فإن الإدارة الاستعمارية قد حولت عناوين المكاتب دون إخبار المواطنين، أو نقلتها إلى بيوت خاصة يغلقها أصحابها في وجه المنتخبين (58). وفي كثير من الحالات وبأمر من عامل العمالة، حجبت قوائم مرشحي الحركة الوطنية ومنع ممثلوهم من الدخول إلى المكاتب للمشاركة في الرقابة القانونية (59). وأحياناً، وربحاً للوقت، كانت

النضال داخل الجمعية الجزائرية

الإدارة الاستعمارية تملأ الصناديق كما تشاء أو تقيم محاضر النتائج عشية الانتخاب (60)، وحيث ظهرت المقاومة أو بدت علامات الاحتجاج، فإن الولاية العامة قد لجأت إلى الجيش أو إلى سائر قوات الأمن من تقوم، كعادتها، بأعمال القمع والترهيب (61). هكذا ورغم أن المنتخبين منحوا أصواتهم لمرشحي الحركة الوطنية، فإن الإدارة الاستعمارية العاملة تحت الإشراف المباشر للسيد نيجلان، قد ألغت الإرادة الشعبية وقررت بمفردها إعطاء تسعة مقاعد للحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية وثمانية للاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، بينما خصصت الباقي لعملائها الذين لم يكونوا ليفوزوا بمقعد واحد لولا إجراءات التزييف على الطريقة النايجلانية. النضال داخل الجمعية الجزائرية: لقد كان واضحاً منذ الإعلان عن النتائج، أن الإدارة الاستعمارية لم تكن مستعدة لتمكين الوطنيين الجزائريين من تأدية دورهم في التعبير عن إرادة منتخبيهم. وكان واضحاً، أيضاً، أن مندوبي التشكيلتين الوطنيتين لن يكتفوا، في أشغال الجمعية، بدور المتفرج السلبي. وكما كان متوقعاً، فإن الاصطدامات بدأت مع الاجتماع الأول. حدث ذلك على مرحلتين: الأولى: عندما طلب السيد فرحات عباس الكلمة ولم تعطِ له (62)، فاضطر إلى مغادرة القاعة متبوعاً بمندوبي حزبه، والثانية: بمناسبة التنصيب الرسمي لمكتب الجمعية من طرف الوالي العام السيد ناجيلان. فمندوبو الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري انسحبوا من القاعة بمجرد أن بدأ النشيد الوطني الفرنسي (63). وأثناء تكوين اللجان، وبحكم العدد، أقصي مندوبو الحركة الوطنية، وبذلك أصبح وجودهم شبه صوري ومقتصراً على بعض الاحتجاجات التي يعبر عنها من حين لآخر خلال الجلسات العمومية والتي لا يكون لها أي تأثير إيجابي على سير المداولات. وحينما فشل الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري في تغيير الوضع وإقناع الأغلبية بضرورة إشراك الأقلية في أعمال اللجان، فإنه قرر يوم 17/ 03/1950 سحب مندوبيه في انتظار تراجع الإدارة الاستعمارية الذي لم يحدث إلا في شهر نوفمبر 1951 وبكيفية لا تكاد تذكر، فغلاة الكولون، الذين عز عليهم أن يقطعوا شعرة معاوية، وبعد أن قررت الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية سحب كل مندوبيها، وافقوا على تمكين الاتحاد الديمقراطي

للبيان الجزائري من المشاركة كعضو أساسي في لجنتين ليس لهما أي تأثير على حياة الشعب الجزائري (64). إن سلوكات الإدارة الاستعمارية لم تكن غريبة بل هي امتداد طبيعي للخطة التي وضعت من أجل تزييف الانتخابات، إذ لا يعقل أن يجند الوالي العام كل إمكانيات فرنسا، في الجزائر، لإقصاء ممثلي الحركة الوطنية من الجمعية الجزائرية ثم يقبل هونفسه إشراك من وصل منهم، رغم أنفه، إلى تلك الجمعية في أعمال اللجان. صحيح أن القانون التنظيمي، في حد ذاته، والجمعية الجزائرية التي أنشئت بموجبه يتناقضان تماماً مع طموحات الشعب الجزائري المعبر عنها بواسطة كل من التشكيلتين الوطنيتين اللتين كانتا تدركان ذلك حق الإدراك، لكن القياديين، في التشكيلتين، كانوا يريدون، من خلال المشاركة في الانتخابات، التدليل على أن الجماهير الشعبية تسير وراءهم وهي تمنحهم كل الثقة لتمثيلها. لقد كانوا، بقرارهم ذلك، سذجاً، لم يأخذوا في الحسبان موقف الإدارة الاستعمارية التي لم توجد إلا لتنفيذ إرادة غلاة الكولون. ومن ثمة، كان عليهم أن يعلموا، مسبقاً، أن الطريق إلى قصر كارنو (65) سوف تكون مسدودة أمامهم وأن المقررين، باسم الكولون، لن يمكنوهم من استعمال منبر أعد للاحتفاظ بالجزائر فرنسية. ومن الممكن، في نظرنا، أن يكون تراجع الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري عن الخطوات التي كان قطعها في طريق توحيد الطاقة الوطنية، ناتجاً عن رغبة قيادته في تقديم تنازلات جوهرية للأوربيين الذين كانت تخيفهم فكرة الانفصال عن فرنسا وما يحيط بها من طروحات يزخر بها برنامج حزب الشعب الجزائري ... فالسيد فرحات عباس إذ تخلى فجأة، عن الدعوة إلى الجمهورية الجزائرية ذات السيادة المطلقة وعاد من جديد، إلى مشروع الاتحاد الفرنسي، لم يكن يقصد سوى طمأنة الحكومة الفرنسية وإقناع الرأي العام الفرنسي بأنه مختلف في نظرته إلى مستقبل الجزائر، عن الحاج مصالي الذي يسعى بجميع الوسائل إلى بنائه خارج دائرة النفوذ الفرنسي. ومع ذلك، فإن الكولون لم يقتنعوا بأن الاتحادالديمقراطي للبيان الجزائري يمكن أن يكون صادقاً في مواقفه، ولذلك، فإنهم وضعوه في نفس خانة الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية وراحوا يعملون على إقصائهما معاً. وكان رد الفعل الكولونيالي درساً ثميناً بالنسبة للاتحاد الديمقراطي للبيان

صراع الأشقاء وتدخل الحزب الشيوعي الجزائري

الجزائري الذي أيقنت قيادته أن الإدارة الاستعمارية مصممة على حرمان الشعب الجزائري من ممارسة حقه في تقرير مصيره بنفسه وتأكدت أن التنازلات التي قدمتها لم تجدِ نفعاً وأن الحلول الوسطى غير مفيدة مع من يدينون بالتطرف. كل هذه الحقائق عرضت على أعضاء المؤتمر الذي انعقد بمدينة سطيف أيام 25/ 26/27/ 9/1948 وبعد الدراسة المستفيضة والتحاليل المعمقة، جاءت اللائحة السياسية معبرة بوضوح عن موقف القواعد المناضلة من النقاط الهامة التالية: (66). 1 - إن الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري يندد بالاتحاد الفرنسي باعتباره امتداداً للامبراطورية القديمة، ويدين نظام العسف والاستبداد المفروض على الشعب الجزائري بعد ثلاث سنوات من تحرير فرنسا، ويعلن عن استعداده للنضال حتى يحقق الشعب الجزائري طموحاته الوطنية التي تجسدها الجمهورية الجزائرية الديمقراطية والاجتماعية. 2 - إن الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري يؤكد من جديد أن الجزائر لا يمكن فصلها عن جارتيها المغرب وتونس اللتين يربطها بهما التاريخ والجغرافيا واللغة والدين والاقتصاد. 3 - إن الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري يحتج على جو الرعب والقمع الذي سبق الانتخابات ومايزال مفروضاً على البلاد إلى غاية اليوم، كما أنه يطالب بإلغاء الانتخابات المذكورة وبضمان حرية التصويت وتحرير جميع المعتقلين السياسيين. وسوف يظل هذا الموقف ثابتاً لدى قيادة الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري التي راحت تبذل جهوداً معتبرة لتعبيد الطريق أمام القوى الوطنية الحية المستعدة للعمل من أجل تحرير البلاد من النير الاستعماري. صراع الأشقاء وتدخل الحزب الشيوعي الجزائري: لقد بدأت الجهود المذكورة تظهر في أعمال الجمعية الجزائرية حيث وجد مندوبو الحركة الوطنية أنفسهم عرضة لمناورات دنيئة تمنعهم أحياناً، من مجرد التدخل في الجلسات العمومية وتسد جميع المنافذ في وجه اقتراحاتهم. ولم يكن المندوبون الأوربيون وعملاؤهم من المسلمين يميزون، في ذلك، بين مندوبي الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري ومندوبي الحركة من أجل انتصار الحريات

الديمقراطية، بل إن الاعتداءات وإجراءات العسف لم تكن تحاشي أحداً، وكان مندوبو الكولون وعملاؤهم يقاطعون كل متحدث يحاول الخروج عن بيت الطاعة. بالإضافة إلى الموقف الرافض لمساهمة مندوبي الحركة الوطنية في أعمال الجمعية الجزائرية، وخوفاً من أن تتحقق الوحدة الفعلية بين التشكيلتين السياسيتين، شهرت الإدارة الاستعمارية سلاحها المعهود المتمثل في إذكاء نار الفتنة وزرع بذور الانقسام في صفوف الأشقاء مستعملة أوصاف الاعتدال والتطرف ومركزة على التلميح إلى إمكانية التفاهم مع ممثلي الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري باعتبارهم متحضرين ومتشبعين بالثقافة الفرنسية وقابلين لترقية الجزائر في إطار الاتحاد الفرنسي ووفقاً للخط الديمقراطي الذي لا يلغي الجالية الأوربية من الحياة السياسية. وكان لمسعى الإدارة الاستعمارية أثر في تدهور العلاقة بين التشكيلتين السياسيتين الوطنيتين، ثم تدخل الحزب الشيوعي الجزائري ليشجع الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري على الابتعاد عن "الثوريين المزيفين" (67)، والانضمام معه إلى لجنة العمل الثقافي التي يرأسها الأستاذ MANDOUZE. وفي نفس الوقت الذي كانت فيه "الجمهورية الجزائرية" تجند أقلامها الجيدة للحط من قيمة الحاج مصالي ولتقزيم الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية ووصف قيادتها بالعجز السياسي وعدم القدرة على معالجة قضايا الشعب الجزائري وانتهاج الديماغوجية التي تقود إلى الهاوية، فإن الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري كان يوجه النداء تلو الآخر إلى الحكومة الفرنسية كي تضع حداً لتزييف الانتخابات ولسياسة الاستبداد التي يمارسها الوالي العام وسائر المصالح التي يشرف عليها في الجزائر (68). وازداد الصراع المزيف بين الأشقاء حدة بمناسبة الانتخابات الجهوية التي جرت يومي 20 و27 مارس 1949. فالحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية قررت تجاوز الخلاف وعرضت على الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري تقديم قوائم مشتركة. وأمام رفض هذا الأخير أعلنت عن عدم مشاركتها، الأمر الذي جعل "الجمهورية الجزائرية"، تعنون "الامتناع انصياع"، مؤكدة أن مشاركة الاتحاد قد مكنته من أن يرفع إلى الإدارة الاستعمارية اقتراحات إيجابيةمثل:"ضرورة إلغاء البلديات المختلطة وإدانة الاندماج المبني على خرافة العمالات الثلاث، وكذلك الاتحاد الفرنسي الذي هو شكل من أشكال

الامبريالية الجديدة، وتزويد الجزائر بقانون تنظيمي جديد بالإضافة إلى إلغاء انتخابات الجمعية الجزائرية" (69). كل هذه الاقتراحات لم تجد طريقها إلى آذان ممثلي الكولون الذين حركوا ميكانزمات التزييف التي تم بموجبها إقصاء مرشحي الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري بكيفية يندى لها جبين كل عاقل. وعلى سبيل المثال نشرت "الجمهورية" النتائج المسجلة في بعض الدوائر فيها كثير من الغباء السياسي ومن التحدي الذي لا يعرف حدوداً (70)، ومن أغرب ما نشر أن ممثل الإدارة في عين تموشنت وهو السيد عبد القادر بن شيحة حصل على جميع الأصوات المعبر عنها بما في ذلك صوت منافسه من الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري وأصوات أقاربه وأحبائه وأصدقائه: وفي مدينة تبسة، كذلك، حصل مرشح الإدارة السيد مشري علي كافة الأصوات المعبر عنها (71). كانت هذه الانتخابات هي القطرة التي أفاضت الكأس والشعرة التي قصمت ظهر البعير، وكانت نتائجها سبباً كافياً لتراجع قيادة الاتحاد مواقفها السياسية وخاصة موقفها من الحركة المصالية: وساعد على تجاوز ماكان بينهما من صراع تأسيس اللجنة الجزائرية لتحضير المشاركةفي المؤتمر العالمي للسلم بتاريخ 19/ 04/1949. غير أن تجاوز الصراع، وحده، لم يكن كافياً للقضاء، نهائياً، على تخوف السيد فرحات عباس من تكرار تجربة "أحباب البيان والحرية". وإذا كان الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري مدركاً لصحة النهج المتبع من طرف الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية ومقتنعاً بأن ما يجمع بين التشكيلتين أكثر بكثير مما يفرق بينهما لكنه لم يقوَ على اجتياز الخطوة الحاسمة لتحقيق الوحدة الايديولوجية لأسباب انتهازية فقط، فإنه، على العكس من ذلك، لم يجد في عروض التحالف الصادرة عن الحزب الشيوعي الجزائري مايدعو إلى التوقف عندها نظراً لما تتضمنه من تنكر للسيادة الوطنية ومن نظرة خاطئة للنضال التاريخي الذي مافتئ الشعب الجزائري يخوضه ضد الامبريالية الفرنسية منذ سنة 1830. لقد بدأ الحزب الشيوعي يحاول ركوب قاطرة الحركة الوطنية منذ سنة 1946، يريد أن يكفر عن الجرائم التي شارك في ارتكابها خاصة في شهر مايو 1945 عندما كان الحزب الشيوعي الفرنسي شريكاً قوياً في الحكم بفرنسا، وكان وزير الحرب الفرنسي الذي أمر بقنبلة الجزائريين العزل شيوعياً، يومها

وقف الحزب الشيوعي الجزائري موقفاً متطرفاً في العداء للحركة الوطنية عامة وللحركة المصالية بصفة خاصة. لأجل ذلك، فإن الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية لم تكن مستعدة لتغفر له خطايا اقترفها متعمداً ومن منطلق ايديولوجي ولأجل ذلك، أيضاً، توجه إلى الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري معتقداً أن خلاف هذا الأخير مع الحركة المصالية يسهل التقارب معه، خاصة وأن السيد فرحات عباس صرح في مرات عديدة، أنه مستعد للعمل على تسوية القضية الجزائرية في إطار الاتحاد الفرنسي وبواسطة الجمهورية الجزائرية المتحدة مع فرنسا بمحض إرادتها. فالحزب الشيوعي الذي كان يتابع معاناة مندوبي الحركة الوطنية أثناء أشغال الجمعية الجزائرية والذي استخلص، بعد تجربة طويلة، أن الإدارة الاستعمارية في الجزائر ترفض اشتراكه في الحكم وتتعامل معه تماماً كما تتعامل مع الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري والحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية اختار مطلع السداسي الثاني من سنة 1948 لينظم حملة إعلامية واسعة يدعو، من خلالها، إلى توحيد القوى الوطنية والديموقراطية مع الطبقات الكادحة في فرنسا قصد المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وإبطال انتخابات الجمعية الجزائرية (72). وإذا كانت الحركة المصالية، بجميع أجنحتها، لم تكلف نفسها حتى مجرد دراسة العروض الشيوعية لاقتناعها بتناقضها، في الأعماق، مع طموحات الشعب الجزائري، فإن الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري قد توقف، ملياً، عند أدبيات الحزب الشيوعي يفحص ويتمعن قبل أن يجزم قولاً وكتابةً أن نقاطاً أساسيةً تمنعه من الاستجابة للعروض المذكورة، ومن الممكن تعداد أهم تلك النقاط كالآتي: 1 - إن الحزب الشيوعي يتصور الجمهورية الجزائرية في إطار الاتحاد الفرنسي وعلى غرار جمهوريات الاتحاد السوفياتي (73). 2 - إن الحزب الشيوعي يرفض اللغة العربية والعروبة والإسلام (74). بالإضافة إلى وحدة شمال إفريقيا. 3 - إن الحزب الشيوعي لم يتخل عن نظريته الخاصة بالأمة الجزائرية في طور التكوين (75)، ويرى أن الجزائر لا يمكن أن تكون محايدة بل لابد من التموقع "إلى جانب الحلفاء الطبيعيين، أي الاتحاد السوفياتي بقيادة

نحو جبهة وطنية موحدة

ستالين وخمسمائة مليون صيني والديموقراطيات الشعبية" (76). ولم يكتف الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري بذكر نقاط الاختلاف بل إنه وظف كل إمكانياته لنقدها وإبراز مواطن الضعف فيها حتى يدرك المواطن والمناضل على حد سواء لماذا تبقى نداءات الحزب الشيوعي صرخة في واد مهجور، فالامبريالية الأمريكية، في نظر قيادة الاتحاد، لا تشكل خطراً على بلدان شمال إفريقيا ... وخلاص الجزائر غير منتظر لا من الجامعة العربية ولا من روسيا السوفيتية ولا من أمريكا" (77). ومن جهة أخرى، فإن التموقع إلى جانب الاتحاد السوفياتي يتناقض مع مصلحة الشعب الجزائري إذا أخذنا في الاعتبار الموقف الشيوعي" من تقسيم فلسطين والعمل على فصل الجزائر المسلمةعن الوطن العربي" (78). أما فيما يخص الاتحاد الفرنسي ووحدة شمال إفريقيا واللغة العربية والأمة الجزائرية، فإن نظرة الحزب الشيوعي الجزائري إليها تختلف كلية عن الرأي الذي أبداه حولها المؤتمر الذي عقده الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري بمدينة سطيف أيام 25 - 26 - 27/ 09/1948 والذي تعرضنا له بإيجاز في الصفحات السابقة. نحو جبهة وطنية موحدة كان لابد من تفاعل عوامل كثيرة كي تعرف الساحة السياسية، في الجزائر، انقلاباً جذرياً، بعض هذه العوامل إيجابي من حيث منطلقاته الأيديولوجية وتأثيره الحسن على مسار الحركة الوطنية ونتائجه الخيرة بالنسبة لمستقبل الشعب الجزائري، وبعضها الآخر سلبي من حيث خلفياته السياسية وأهدافه التي رغم تباينها في الظاهر، كانت متحدة فيما يخص تعارضها بطريقة أو بأخرى مع استرجاع الجزائر سيادتها واستقلالها كاملين. 1 - العوامل الإيجابية: أ - إن قيادة الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري التي جربت المرونة بجميع أنواعها في التعامل مع الإدارة الاستعمارية لعلها تحظى باستمالتها إلى ضرورة العمل على إنهاء النظام الاستعماري القائم في الجزائر منذ سنة 1830، قد اقتنعت بأن الكولون يسيطرون فعلاً، على الحياة السياسية في باريس خاصة

فيما يتعلق بمصير الجزائر، وهم غير مستعدين للتنازل عن شيء يذكر يكون من شأنه تمكين الجزائريين من المشاركة الفعلية في تسيير شؤون البلاد، كما أنهم عازمون على استعمال جميع مالديهم من إمكانيات العنف والقمع واللجوء إلى كل أساليب التزييف لمنع الجماهير الشعبية من اختيار ممثليها الحقيقيين في جميع المجالس المنتخبة بما في ذلك الجمعية الجزائرية. وتأكد السيد فرحات عباس، من جهة أخرى، إن الإدارة الاستعمارية لا تنظر إلى المسألة الجزائرية إلا من زاويتها التي لا ترى من خلالها غير الجزائر الفرنسية. أما كل محاولاته لاقناعها بالسير معه في طريق الاتحاد الفرنسي الذي لا يقصي أحداً، أو في سبيل إقامة جمهورية جزائرية متحدة مع فرنسا بمحض إرادتها وحيث تبقى الخارجية والدفاع من اختصاص الحكومة الفرنسية، فإنها باءت بالفشل ولم تتمكن إلا من منع التلاقي بين الأشقاء وتأخير آجال التوحيد المنتظر واللازم لتخليص الوطن من السيطرة الأجنبية. وكان هذان الاستنتاجان كافيين ليشدد الاتحاد موقفه وليعيد النظر في برنامجه السياسي وفي علاقاته مع الحركة المصالية وحتى مع الحزب الشيوعي الذي كان السيد فرحات عباس، كغيره من مسؤولي الحركة الوطنية، ينظر إليه كتنظيم تابع للحزب الشيوعي الفرنسي ولا يتحرك إلا في إطار المخططات السوفيتية" (79). ب - إن الحركة المصالية التي كانت تعتقد أنها تستطيع وحدها تقويض أركان الاستعمار وتمكين الشعب الجزائري من استرجاع سيادته المغتصبة والتي كان قادتها يظنون أنهم يحتكرون الوطنية الحقة ويتهمون غيرهم بالعمالة للإدارة الاستعمارية وبالعجز عن الارتقاء إلى مستوى طموحات الجماهير الشعبية في الجزائر، قد اقتنعت بأن تحرير الجزائر يتطلب تضافر جهود جميع أبنائها المخلصين. ولقد كان في أساس هذا التحويل العقيدي عددمن الأزمات التي مرت بها الحركة (80)، وكثير من إجراءات العسف والاستبداد التي سلطتها الإدارة الكولونيالية على إطاراتها ومناضليها وهيآتها (81)، كما أن موقف الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين والحزب الشيوعي، خاصة بعد مؤتمره الخامس (82). من تدابير القمع الموجه ضد المناضلين الوطنيين ومن عمليات التزييف والإحباط التي كانت الولاية العامة تتفنن في وضعها وتنفيذها، كل ذلك ساهم في إقناع السيد الحاج مصالي ورفاقه

العوامل السلبية

بضرورة التفتح على سائر القوى الحية في البلاد قصد الاستفادة من جميع الطاقات لإرغام الحكومة الفرنسية على تلبية رغبة الشعب الجزائري في استرجاع سيادته واستقلاله. ج - لم تعد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تكتفي بالدعوة الدينية والعمل التربوي والنشاط التعليمي، بل إن تواتر الأحداث السياسية قد فرض على قيادتها تجاوز إطار قانونها الأساسي والدخول، علناً، إلى معركة النضال ضد الوجود الاستعماري وليتمكن الجزائريون من تقرير مصيرهم بأنفسهم. د - إن الحزب الشيوعي الفرنسي قد فقد كل أمل في استعادة مكانته في أعلى هرم السلطة الفرنسية بسبب موقف الاتحاد السوفياتي من مخطط مرشال سنة 1947، قد أشار على الحزب الشيوعي الجزائري بإعادة النظر في مواقفه من الحركة الوطنية الجزائرية التي برهنت الانتخابات على تجذرها في أوساط الجماهير الشعبية. فعملاً بنصيحة الأخ الأكبر، وابتداءً من سنة 1949، شرعت قيادة الحزب في الانفتاح على الإطارات الجزائرية وتخلت بالتدريج على كثير من قناعاتها حتى أصبحت، في نهاية سنة 1950، تطالب، هي أيضاً، بجمهورية جزائرية مستقلة وبتكوين جبهة وطنية ديموقراطية لتحقيق تلك الغاية (83). 2 - العوامل السلبية: أ - على الرغم من أن اسم السيد نايجلان قد أصبح، بالنسبة للجزائريين، رمزاً لتزييف الانتخابات، فإن تغييب إرادة الشعب الجزائري إنما تندرج في إطار استراتيجية إجمالية وضعتها الإدارة الكولونيالية وأشرف على تطبيقها، بنفس العزم والصرامة، كل الولاة بما فيهم السيدإيف شاتينيو الذي استطاع أن يصنع لنفسه مكانة الصديق والمتعاطف مع القضية الجزائرية. ولقد أدركت كل الأحزاب السياسية، خاصة بعد انتخابات افريل سنة 1948، أن الكولون هم الموجهون الحقيقيون لسياسة فرنسا في الجزائر: وإن هذه السياسة لا تخدم سوى مصلحة بعض غلاتهم كما جاء ذلك في وصية الرئيس Queuille للسيد روجي ليونار (85) قبل التحاقه بمنصبه الجديد خلفاً للسيد نايجلان: "عليك أن تعرف أن قسنطينة هي روني ميار، والجزائر العاصمة هي بورجو، أما وهران فيحتمل أن تبقى في يد عامل العمالة مالم يقترح غلاة الكولون واحداً من بينهم" (86). ولكي يوضح تعليماته أكثر، أضاف بلهجة متشددة: "أما لعباس ومصالي فقل لهما: القوة هي الفصل بيننا وبينكم" (87).

فالإدارة الاستعمارية كانت تعرف جيداً أن جماهير الشعب الجزائري تساند الحركة الوطنية بجميع قواها، استخلصت ذلك من نتائج الانتخابات البلدية التي جرت في شهر أكتوبر سنة 1947 والتي حققت فيها الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية فوزاً مطلقاً، وعليه فإنها أقرت التزييف وجعلت منه مؤسسة تسخرها، في جميع المستويات، لتعيين المندوبين الذين تراهم صالحين للسير في ركابها. وعلى الرغم من أن التشكيلات السياسية الوطنية لم تبق مكتوفة الأيدي، بل لم تترك باباً إلا وطرقته للتنديد بتلك الممارسات اللامشروعة، وعلى الرغم من ارتفاع أصوات بعض المنتخبين الفرنسيين لإدانة التزييف باعتباره منافياً للأخلاق الجمهورية ومرفوضاً رفضاً باتاً في عصر المطالبة بحق الشعوب في تقرير مصيرها" (88)، فإن المسؤولين الذين تعاقبوا علىولاية الجزائر، خاصة منذ شهر فيفري، سنة 1948، (89) قد جندوا كل إمكانيات الإدارة الكولونيالية لخنق أصوات الجزائريين ومنع الحركة الوطنية من ممارسة النضال السياسي بعيداً عن التفكير في وسيلة العنف الثوري. ب - إن تزييف الانتخابات لا يتم في أجواء الأمن والهدوء والاستقرار، بل لابد للقيام به على الطريقة الفرنسية، من إجراءات القمع والإرهاب والاعتقالات التي من شأنها شل نشاط الطاقات التي تعتمدها الحركة الوطنية في تطبيق برامجها. هكذا كانت جميع الانتخابات، على كل الأصعدة، تعرف مشادات عنيفة ومواجهات دموية في كثير من الأحيان، بين قوات الجيش والشرطة والدرك الفرنسية وبين ممثلي الأحزاب الوطنية وأنصارهم من أبناء الشعب الجزائري. وبديهي، كما جاء على أعمدة "المنار" أن القوات المتقابلة غير متكافئة ومختلفة السلاح. فالقوات التحريرية لا سلاح لها إلا التقيد بالقانون والإيمان بالإرادة الشعبية والمواثيق الدولية، والقوات الرجعية مع الإدارة سلاحها عدم المبالاة بالقانون، وهي الخصم والحكم، لا تخشى عقاباً على اعتداء، ولا تؤمن بالعدل ولا بالكرامة الإنسانية ولا بالمواثيق الدولية" (90). ج - إن غلاة الكولون، بعد أن أحكموا سيطرتهم على الإدارة الاستعمارية، استطاعوا النفاذ، بالفعل، إلى أوساط الطبقة الحاكمة في فرنسا، وتمكنوا عن طريق الرشوة، من جعل أبرز عناصرها لا يؤمنون، مثلهم، إلا بوجود الجزائر الفرنسية، المشكلة نظرياً، من عمالات ثلاث، وماعدا العمل من أجل هذه الجزائر، فإن كل مسعى مرفوض شكلاً ومضموناً، ويجب أن يحارب بجميع

الأعمال بنتائجها

الوسائل وفي مقدمتها القمع بسائر أنواعه. من هذا المنطلق، أصبحت باريس لا تتحرك إلا في الاتجاه الذي يحدده غلاة الكولون، وصارت محاولات الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري المعتدلة غيرمجدية تماماً مثل مساعي الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية. إذن، لم يعد هناك مايجعل التشكيلتين الوطنيتين تتأخران عن تحقيق الاتحاد الذي بات مطلباً جماهيرياً كما تدل على ذلك الآراء المعبر عنها على أعمدة "المنار" (91) والصادرة عن شخصيات تنتمي إلى كل التيارات السياسية وعن غيرها من الناطقين بأسمائهم الخاصة أو بأسماء الجمعيات الخيرية والرياضية والتربوية. كل هذه العوامل متضافرة هي التي قادت إلى تغيير الأوضاع السياسية في الجزائر وجعلت الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري يوجه نداء إلىكافة التشكيلات الوطنية يدعوها، من خلاله، إلى إقامة وحدة تعمل على تحقيق خمسة أهداف هي: (92): - إلغاء الانتخابات التي جرت يوم 17/ 06/1951. - التطبيق الفوري لقانون 1947. - تطبيق الديمقراطية في المجالس بجميع أنواعها. - استصدار قانون يقضي بتخصيص مبلغ 10 مليارات فرنك لبناء المدارس والطرقات في الريف الجزائري. ووجد النداء استجابة لدى الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين والحزب الشيوعي الجزائري. وبعد تشاور ونقاش وقع الاتفاق يوم 27/ 07/1951 على تكوين لجنة تحضيرية (93) لتأسيس جبهة جزائرية للدفاع عن الحرية واحترامها. الأعمال بنتائجها: ولم يمض سوى أسبوع واحد حتى أسفرت اللقاءات بين الأشقاء عن مؤتمر التأم في سينما دنيازاد (94)، بالجزائر العاصمة دعت إليه اللجنة التحضيرية المذكورة وحضره جمع غفير من الجزائريين وبعض الجزائريات يمثلون كافة أنحاء الوطن وينتمون إلى مختلف التيارات الفكرية والسياسية. ودامت أعمال المؤتمر يوماً واحداً هو اليوم الخامس من شهر أغسطس/آب وتوجت بالإعلان عن ميلاد الجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية واحترامها التي يشرف عليها

مجلس إداري مشكل من ثلاثين عضواً (95)، ويسيرها مكتب دائم من عشرة أعضاء (96). وبالإضافةإلى هذه الهيكلة صادق المؤتمرون على البرنامج المعد من قبل اللجنة التحضيرية وقوامه خمس نقاط مستوحاة في معظمها من مقترحات الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري المذكورة أعلاه (97). ويرى الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري أن الهدف من تأسيس الجبهة الجزائرية هو بالدرجة الأولى إيجاد الإطار الملائم لتوحيد الجبهة الوطنية من أجل التصدي "لمظالم الشرطة ومحركيها ولإحباط المؤامرات الحمقاء التي تعرض حياة شبابنا للخطر" (98). كما أن الجبهة سوف "لن تتوقف عن العمل حتى يتحطم القمع الأعمى الذي يقهر شعبنا وحتى يتمكن الجزائريون جميعهم من التمتع بحقهم في حرية الرأي وحرية التعبير وحرية التنقل" (99). هناك من يرى (100) أن الجبهة ولدت ميتة، لكن الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري له رأي آخر على الرغم من أنه لا ينكر، في أدبياته، أنها لم تكن في المستوى اللازم لدفع عجلة التقدم في طريق القضاء على النظام الاستعماري وأنها ضمنت منذ البداية، أطرافاً متناقضة يصعب على بعضها الارتقاء إلى واقع الشعب الجزائري العربي المسلم (101). وعندما وجه السيد فرحات عباس النداء المشار إليه أعلاه، فإنه إنما كان يبغي، في مرحلة أولى، إيجاد الأرضية التي يمكن أن تقف عليها جميع التشكيلات السياسية والهيئات الاجتماعية والثقافية إلى جانب أكبر عدد ممكن من الشخصيات المستقلة، وذلك من أجل الانتقال معاً إلى المرحلة الثانية التي يكون فيها العمل على إقامة الجمهورية الجزائرية وما يتبع من مؤسسات أصبحت مألوفة لدى المواطن الجزائري. ومما لاريب فيه أن الحركة الوطنية الجزائرية قد استطاعت، رغم كل شيء، أن توظف الجبهة إلى أبعد الحدود، وتمكنت من تسخير هياكلها لتحسيس الجماهير الشعبية بمعاناة المناضلين (102). ولتوفير المناخ الملائم لتقريب وجهات النظر السياسية عندما يكون صعباً توحيد المنطلقات الإيديولوجية. وبالإضافة إلى النشاط المكثف في إطار الجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية واحترامها، فإن الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري الذي تخلص نهائياً من قناعاته الفكرية التي كانت تشده إلى الاتحاد الفرنسي، لم يدخر جهداً للإسهام في معركة توحيد الطاقات الحية المغاربية في جبهة قوية تعمل بجميع

الوسائل على "إنهاء النظام الاستعماري وإقامة أنظمة مبنية على السيادة والديموقراطية تحرر شعوبها سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وتضمن لجميع السكان حقوقهم وحرياتهم" (103). لقد شارك الاتحاد مشاركة فاعلة في الاجتماع الذي عقدته الأحزاب الوطنية المغاربية في مقر إقامة الزعيم الحاج مصالي بحي شانتي الباريسي يوم 28/ 01/1952 قصد التشاور حول القضية التونسية، علماً بأن الاجتماع المذكور قد توجه ببيان معبرعن المساندة المطلقة للكفاح الذي يخوضه الشعب التونسي بقيادة زعيمه الأستاذ الحبيب بورقيبة. (104). وبعد ذلك بيومين فقط، وقع السيد فرحات عباس ميثاق الجبهة المغاربية إلى جانب رفاقه زعماء الأحزاب المعبرة عن رأي شعوب شمال إفريقيا. وبموجب التوقيع على ذلك الميثاق إثر اجتماع باريس المشار إليه أعلاه، تم تأسيس "لجنة شمال إفريقيا للاتحاد والعمل" Comitéd'union et d'action nord - africain وكذلك لجنة المتابعة التي أسندت لها مهمة الإشراف على حسن تنفيذ الميثاق (105). وهكذا، لم يتوقف الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري عن التطور والنمو السريع في الاتجاه الوطني السليم. وكلما تقدم خطوة تضاعفت الصعوبات وازدادت الإدارة الاستعمارية شراسة وحقداً على قيادته. وفي خضم التطور السياسي طفت على السطح كثير من القضايا الإيديولوجية التي ظلت تتراكم في انتظار الحلول الملائمة، وما كادت تحل سنة 1954 حتى أصبح الصراع الإيديولوجي حقيقة ملموسة في صفوف الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري. الأمر الذي سيمكن جبهة التحرير الوطني من الوصول، بسهولة، إلى أغلبية أنصاره ومناضليه كما سنرى ذلك في معالجتنا لفترة الكفاح المسلح. ••• • الهوامش:

_ هوامش 1 - Amar Naroun , Ferhat Abbas, ou les chemins de la souveraineté, Paris 1961, p12. (2) المصدر نفسه: 3 - Claude Collot - Jean Robert Henry , Le mouvement national Algérien - Textes, 1912 - 1954(2éme Edition)Alger OPU 1981, p221.

هوامش

_ (4) المصدر نفسه، ص 222. (5) انظر، آجرون، ص 355، لكن السيد الحاج مصالي في مذكراته، ص: 245، يؤكد أن السيد ميش كان من بين المؤسسين لحزب الشعب الجزائري. (6) كولو، المصدر نفسه، ص 222. (7) المصدر نفسه. (8) من بين هؤلاء الإطارات تجدر الإشارة إلى أن المحامين أحمد بومنجل، وقدور صاطور، والدكاترة، فرانسيس وسعدان وابن خليل وكذلك الأستاذ المبرز محداد. (9) رفع المناضلون بتلك المناسبة شعار من انتخب كفر، ويبدو أن ذلك كان واحداً من الأسباب التي دفعت قيادة الحزب إلى تأسيس الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية عندما قرر الحاج مصالي المشاركة في انتخابات المجلس الوطني التي جرت يوم 10/ 11/1946. (10) من مواليد سنة 1917 ببلدية فراع الميزان، انخرط في صفوف حزب الشعب الجزائري منذ تأسيسه كان كاتباً عمومياً وذا قدرة فائقة على تنظيم الجماهير وتعبئتها، شارك في قيادة الحزب من سنة 1943 إلى أن توفي في شهر جانفي 1948. 11 - Keddache (Mahfoud). Histoire du Nationalisme Algérien Question Nationale et politique Algérinne 1919 - 1951. Tome II , Alger 1980, p729. 12 - Mesbah (Med - Chalik) , Idéologie Politique et mouvement national en Algérie Thése Pour le doct2 - 06 - 1981p54 et Suivantes. (13) مع العلم بأن البورجوازية في فرنسا، كانت مهيكلة كما ينبغي وتتشكل من: البورجوازية العليا والبورجوازية الوسطى والبورجوازية الصغرى ولكل تعريفها ومميزاتها. (14) انظر النص الكامل للمشروع في كولو، ص:247، ومابعدها. (15) انظر المساواة في عددها الصادر بتاريخ 18/ 10/1996. (16) كولو، ص 222. (17) مصباح، ص83. (18) نداء إلى الشباب، كولو، ص: 235. (19) غمار نارون، ص163. (20) نفس المصدر، ص 173. (21) كولن، ص 259. (22) انظر نداء السيد فرحات عباس بمناسبة الفاتح ماي 1946 وكذلك مشروع الدستور المقدم للمجلس التأسيسي الفرنسي بتاريخ 09/ 08/1946 ومشروع القانون المقدم

هوامش

_ للبرلمان الفرنسي بتاريخ 21/ 03/1947 من طرف السادة: سعدان صحراوي، مصطفاي وابن خليل. (23) انظر جريدة "المساواة" Egalité عددها الصادر بتاريخ 10/ 10/1947. (24) انظر نص اللائحتين في Egalité عددها الصادر بتاريخ 18/ 10/1946. (25) Egalité عددها الصادر بتاريخ 23/ 10/1946. (26) أحد رجال السياسة في فرنسا ولد سنة 1899، حصل على التبريز في التاريخ وقام بدور أساسي في حركة المقاومة الفرنسية. يعتبر من المدافعين الشرسين على بقاء الجزائر فرنسية وقد عبر عن ذلك بتشكيله حركة " الديمقراطية المسيحية" في جوان 1958. (27) الجريدة الرسمية للجمهورية الفرنسية، مداولات جلسة يوم 23/ 08/1946. (28) تذكر الإحصائيات الرسمية أن نسبة امتناع المسلمين (أي الجزائريين) عن الانتخابات، يومها، بلغ في عمالة الجزائر 83% في حين تجاوز 70% في كل من قسنطينة ووهران، رغم ذلك اعتبرت نتائج صحيحة. (29) فاز بتلك المقاعد كل من السادة: سعدان، محداد، ابن خليل ومصطفاي، علماً بأن الانتخابات جرت يومي 24 نوفمبر و8 ديسمبر 1946. (30) الجريدة الرسمية للجمهورية الفرنسية، مداولات سنة 1947، ص 1696. (31) في إطار الحملة الانتخابية الخاصة بالمجلس الوطني الفرنسي وجه التجمع الجمهوري للدفاع عن الجزائر الفرنسية نداء جاء فيه:"إننا مستعدون للتضحية القصوى للاحتفاظ بالجزائر". (32) الجريدة الرسمية للجمهورية الفرنسية، سنة 1947، ص 4219. (33) المصدر نفسه، ص 4227. (34) كلمة "المسلمين" تعني هنا، الجزائريين تماماً مثل كلمة "العرب". (35) الجريدة الرسمية للجمهورية الفرنسية، سنة 1947، ص 4689. (36) كان السيد فيار نائباً في البرلمان باسم الحركة الجمهورية الشعبية وأستاذاً للحقوق بجامعة الجزائر إضافة إلى منصبه كمدير لجريدة الجزائر Journal d'Algér (37) من مواليد سنة 1884 توفي سنة 1966، مارس المحاماة قبل أن يتفرغ للسياسة، كان اشتراكي المذهب وقد عين وزيراً للمالية بحكومة الجبهة الشعبية سنة 1936 ثم وزيراً للعدل سنتي 37/ 38 ساهم في حرب التحرير الفرنسية وانتخب رئيساً للجمهورية سنة 1947. (38) نص الرسالة بالفرنسية في: عمار نارون، ص 174، ومابعدها. (39) المقصود هو الجنرال ديغول، الذي بذل كل مافي وسعه لإفشال فكرة الجمهورية الجزائرية.

هوامش

_ (40) وقع الرسالة كل من السادة، محداد، مصطفاي، سعدان وابن خليل. (41) عمار نارون، ص 170. (42) المصدر نفسه. ص117. (43) كولو، ص 222. (44) انظر اللائحة السياسية التي صادق عليها المجلس الوطني للحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية بتاريخ 07/ 09/1947. (45) Egalité عددها الصادر بتاريخ 22/ 10/1947. (46) Egalité عددها الصادر بتاريخ 14/ 11/1947. (47) المغرب العربي، العدد الصادر بتاريخ 26/ 03/1948. (48) الجمهورية "الجزائرية" عددها الصادر بتاريخ 01/ 04/1948. (49) الزبيري (محمد العربي) الثورة الجزائرية في عامها الأول، الملحق رقم 5، ص 225 ومابعدها. (50) الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري، لائحة السياسة العامة الصادرة بتاريخ 5/ 10/1947، لقد جاء في هذه اللائحة: "إن المؤتمر يندد بكون الحكومة الفرنسية فرضت على الشعب الجزائري قانوناً تنظيمياً يبقي النظام الاستعماري ولا يعترف للشعب الجزائري بأية سيادة. (51) نفس المصدر. (52) La République Algérienne عددها الصادر بتاريخ 01/ 04/1948. (53) من مواليد 1909 كان اشتراكي المذهب وقد انتخب نائباً سنة 1946، بعد أن شارك في المقاومة الفرنسية بقيت عهدته النيابية تتجدد إلى غاية عام 1958، عين وزيراً للشغل في حكومة روبارت شومان، ولم يغادر الحكومة إلا سنة 1949، في سنة 1958 انتخب على رأس رابطة حقوق الإنسان الفرنسية. 54 - Naegelen (ME) , Mission en Algérie, Paris 1965, p67. (55) المصدر نفسه، ص 130. 56 - I,Echo d'Algér, 18 mars 1948. (57) الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية، اللجنة المركزية للإعلام والتوثيق، انتهاكات حرية التصويت، ص: 92. (58) نفس المصدر، ص 64. (59) الجمهورية الجزائرية، عددها الصادر بتاريخ 9/ 4/1948. (60) انتهاكات حرية التصويت، ص: 99، أما صدى الجزائر الصادر بتاريخ 05/ 4/1948 فإنها قد تعرضت لنفس الأحداث لكنها قدمتها في صورة مغايرة ومتناقضة في نفس

هوامش

_ الوقت مثل قولها: "في أولاد فرحة على بعد 15 كلم من صور الغزلان هجم مابين 1000 - و1500 من أعضاء حزب الشعب الجزائري مكتباً للتصويت، وعندما توجهت دورية عسكرية للحفاظ على الأمن واعتراض سبيل حولي 2000 متظاهر فاعتدوا على الشاحنة وركابها، الأمر الذي جعل الحرس الجمهوري يتدخل ويطلق النار متسبباً في قتل سبعة أشخاص وعدد من الجرحى". (61) كان السيد فرحات عباس يريد الاحتجاج على عملية الاعتقال التي تعرض لها بعض مندوبي الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية. (62) أما مندوبو الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية، فإنهم لم يغادروا القاعة وانتظروا نهاية النشيد الوطني الفرنسي ليرفعوا أصواتهم عالية بنشيد الحزب، مما أحدث كثيراً من الفوضى وجعل الوالي العام ينسحب ومعه باقي المندوبين. (63) اللجنة الأولى خاصة بإعادة التأهيل المهني لمرضى السل وقد انتخب لها الدكتور قاضي. أما الهيأة الثانيةفهي مجلس تطوير معهد باستور وقد انتخب لعضويته الدكتور محمد فرانسيس. (64) (65) الجمهورية الجزائرية، عددها الصادر بتاريخ 01/ 10/1948. (66) عباس (فرحات) "نزع القناع عن الثوريين المزيفين" الجمهورية الجزائرية، عددها الصادر بتاريخ 10/ 12/1948. (67) الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري، "رسالة مفتوحة إلى رئيس الجمهورية الفرنسية" الجمهورية الجزائرية، عددها الصادر بتاريخ 27/ 05/1949. (68) الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري، "الإمتناع انصياع" الجمهورية الجزائرية، عددها الصادر بتاريخ 18/ 03/1949. (69) الجمهورية الجزائرية، عددها الصادر بتاريخ 25/ 03/1949. (70) المصدر نفسه. (71) الحرية Liberté ، عددها الصادر بتاريخ 17/ 06/1948. (72) الحرية، عددها الصادر بتاريخ 30/ 11/1950. (73) الحرية، عددها الصادر بتاريخ 09/ 06/1949. (74) الحرية، عددها الصادر بتاريخ 02/ 06/1949. وتجدر الإشارة إلى أن الحزب الشيوعي ظل متمسكاً بنظرية موريس توريز التي نقول: "هناك أمة جزائرية يجري تكوينها بواسطة عشرين جنساً". (75) الحرية، عددها الصادر بتاريخ 09/ 06/1949. (76) الجمهورية الجزائرية، عددها الصادر بتاريخ 07/ 04/1950. (77) الجمهورية الجزائرية، عددها الصادر بتاريخ 04/ 03/1950.

هوامش

_ (78) آجرون، ص 613، يذكر المؤلف أن السيد فرحات عباس صرح بتاريخ 17/ 09/1950، أنه "لا يريد التعاون مع حزب تابع لستالين". (79) مثل الأزمة البربرية وما اصطلح على تسميته بقضية تبسة. (81) الجمهورية الجزائرية، مداولات يوم 21/ 02/1951، ص: 1063. (82) انظر النداء الذي وجهه إلى الشعب الجزائري المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي الجزائري، يوم 29/ 05/1949. كولو، ص 278. (83) ليبرتي، عددها الصادر بتاريخ 30/ 11/1950. (84) طبيب فرنسي تحول إلى سياسي من مواليد سنة 1884 تقلد مناصب وزارية كثيرة وترأس الحكومة الفرنسية ثلاث مرات في الفترة مابين 1948 - 1951، وشغل مناصب نائب رئيس الحكومة من سنة 1952 إلى سنة 1954. (85) عمار نارون، ص 124. (86) المصدر نفسه. (87) انظر خاصة تصريحات السيدين Raymond laquiére و Fonlupt Esperaber في آجرون، ص 614. (88) تعيين نايجلان يوم 11/ 02/1948 خلفاً للسيد شاتينيو. (89) "المنار" عددها الصادر بتاريخ 30/ 07/1951، "ملاحظات حول المعركة الانتخابية"، بدون توقيع. (90) المنار، أعدادها الرابع ومابعده. (91) يحمل النداء تاريخ 29/ 06/1951، وقد نشرته الجمهورية الجزائرية في عددها الصادر بنفس التاريخ. (92) ضمت اللجنة التحضيرية الشيخ العربي التبسي والشيخ محمد خير الدين عن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين والدكتور أحمد فرانسيس والأستاذ قدور ساطور في الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري، وأحمد مزغنة ومصطفى فروخي عن الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية، ويوكاباليرو وأحمد محمودي عن الحزب الشيوعي الجزائري. (93) تقع هذه السينما في شارع عيان رمضان حالياً. (94) حسب ما نشر على أعمدة المنار في عددها الصادر بتاريخ 15/ 08/1951 فإن أعضاء المجلس الإداري هم: عن العلماء: الشيخ العربي التبسي، الشيخ محمد خير الدين، السيد أحمد بوشمال، السيد جمال سفينجة والسيد طاهر حدود، وعن الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية، الأستاذ كيوان والسادة، أحمد مزغنة، عمر سحبوب، صالح معيزة سويح الهواري والمسيري، وعن الاتحاد الديموقراطي للبيان

هوامش

_ الجزائري، الأساتذة: أحمد بومنجل، قدور ساطور، حاج سعيد الشريف، عبد الحميد بن سالم والدكتور أحمد فرانسيس والسيد أحمد مزيان، وعن الحزب الشيوعي الجزائري السادة، بول كاباليرو، أحمد محمودي، كوش يونس، أحمد بن خلاف، عبد الحميد بو الضياف والدكتور كاسي لاريبر، وعن الشخصيات المستقلة، الجنرال توبير، الأستاذ دوميرق، الأستاذ توفيق المديني، الأستاذ مندوز، الأستاذ العربي روله والسيد محمد الأبلق. (95) أعضاء المكتب الدائم هم: الشيخان العربي التبسي ومحمد خير الدين عن العلماء، وأحمد بومنجل وقدور ساطور عن الاتحاد، وأحمد مزغنة والأستاذ كيوان عن الحركة، وكاباليرو ويونس كوش عن الحزب الشيوعي وأحمد توفيق المدني والأستاذ مندوز عن المستقلين. (96) نشرت "المنار" النقاط الخمس كالآتي: - إلغاء الانتخابات التشريعية المزعومة التي جرت في 17/ 06/1951. - احترام حرية الانتخابات في القسم الثاني. - احترام الحريات الأساسية: حرية الضمير والفكر والصحافة والاجتماع. - محاربة القمع بجميع أنواعه لتحرير المعتقلين السياسيين ولإبطال التدابير الاستثنائية على الحاج مصالي. - إنهاء تدخل الإدارة في شؤون الديانة الإسلامية. (97) (98) بومنجل (أحمد)، "يوم مشهود في تاريخ النضال التحريري" المنار، عددها الصادر بتاريخ 15/ 08/1951، علماً بأن الأستاذ أحمد بو منجل كان أميناً عاماً مساعداً للاتحاد. (99) شفيق مصباح، ص: 418. (100) المقصود بذلك هم الشيوعيون واللائكيون لأسباب مختلفة سنتعرض لها بالتفصيل عندما نعالج المنطلقات الإيديولوجية لثورة نوفمبر 1954. (101) المكتب الدائم للجبهة "نشاط الجبهة" المنار، عددها بتاريخ 04/ 01/1952. (102) مقتطف من ميثاق الجبهة المغاربية الذي صدر بباريس يوم 02/ 02/1952 ووقع عليه من الجزائر كل من الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري والحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية، انظر نص الميثاق كاملاً بالعدد رقم 19 من "المنار" الصادر بتاريخ 28/ 03/1952. (103) تضمين البيان النقاط الأربع التالية: - الإيقاف العاجل للضغط في جميع صوره بالبلاد التونسية. - الإفساح عن الأستاذ الحبيب بورقيبة وجميع المعتقلين والمبعدين.

هوامش

_ - الاعتراف للشعب التونسي بسيادته واستقلاله طبقاً لمبادئ الأمم المتحدة. - تدخل الأمم المتحدة لتطبيق ميثاقها الذي هو عامل من عوامل السلم والطمأنينة بشمال إفريقيا. (104) انظر نص الميثاق في المنار، عددها الصادر بتاريخ 28/ 03/1952. ••••

الفصل الخامس: حزب الشعب الجزائري

الفصل الخامس: حزب الشعب الجزائري

الجزائرية، وكلما كان ذلك ضرورياً، كان يشرح موقف حزبه من الواقع الاستعماري ويدعو إلى تأييد مساعيه الرامية إلى استرجاع سيادة الجزائر واستقلالها كاملين. ونتيجة كل تلك التحركات المكثفة في تلك المدة القصيرة من الزمن، كتب بعض المؤرخين (1) أن الساسة الفرنسيين، سواء منهم الذين زاروا برازافيل أو الذين اكتفوا بمحادثات باريس، هم الذين اقنعوا زعيم حزب الشعب الجزائري بضرورة المساهمة في الحياة الانتخابية الفرنسية، لكن ذلك، بعد الدراسة المتمعنة، يبدو غير صحيح، لتناقضه مع شهادة السيد بلقاسم راجف (2) التي ذكرها الدكتور شفيق مصباح والتي تؤكد أن قرار المشاركة في الانتخابات "قد اتخذه الأعضاء القياديون الذين كانوا متواجدين في باريس" (3) ومهما يكن من أمر، فإن السلطات الفرنسية قد رخصت للسيد مصالي الدخول إلى الجزائر يوم 13/ 10/1946 وهونفس اليوم الذي جرى فيه الاستفتاء حول مشروع الدستور الفرنسي (4) الذي كان حزب الشعب الجزائري والاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري قد أعلنا عن قرارهما بمقاطعته. وفي الجزائر، وجد الحاج مصالي غلياناً كبيراً في صفوف حزب الشعب خاصة فيما يتعلق بمن يتحمل مسؤولية الأمر باشعال فتيل الثورة (5) والأمر المضاد الذي وصل بعض المناطق ولم يبلغ لبعضها الآخر. وكذلك فيما يخص الميل إلى الحياة الانتخابية الذي بدأ يتسرب بسرعة إلى الأوساط القيادية. وإلى جانب ذلك الغليان، وجد الزعيم أن مكانته عالية بين المناضلين ولدى جماهير الشعب في آن واحد. لأجل كل ذلك وافق على أن تعقد ندوة وطنية لإطارات الحزب دامت أعمالها ثلاثة أيام برهن خلالها رئيس الحزب على قدرة فائقة في التسيير والإقناع حتى إن الأغلبية الرافضة للدخول في الانتخابات قد تحولت، في آخر جلسة، إلى شبه إجماع على تقديم مرشحين لتمثيل الشعب الجزائري في البرلمان الفرنسي. وعلى هامش الندوة الوطنية للإطارات، التقى كل من السيدين الحاج مصالي وفرحات عباس واقترح هذا الأخير أن تضع الحركتان الوطنيتان استراتيجية مشتركة لمواجهة الانتخابات التشريعية المزمع إجراؤها يوم 10/ 11/1946، غير أن زعيم حزب الشعب رفض الاقتراح بسبب التباعد الإيديولوجي

بين التشكيلتين السياسيتين. ونحن نعتقد أن إثارة التباعد الإيديولوجي في ذلك الظرف بالذات لم يكن في محله لأن المشاركة في الانتخابات التشريعية الفرنسية تجعل الحزبين في مرتبة واحدة من حيث اعترافهما بسيادة فرنسا على الجزائر. وعلى أية حال، فإن موافقة الندوة الوطنية للاطارات، على الدخول إلى معركة الانتخابات في ظل الشرعية الفرنسية لم تكن سوى تنازل بمقابل، لأن الرافضين للأسلوب الجديد الذي هو في الواقع نقيض الأسلوب الذي ظلت الحركة المصالية تتمسك به منذ نشأتها والذي هو العنف الثوري أو الكفاح المسلح، قد حصلوا على قرار الندوة بعقد مؤتمر يتولى البت النهائي في التوجهات الأساسية للحزب. ومما لاشك فيه أن دعاة المشاركة في الانتخابات كانوا يدركون جيداً أن إرسال ممثلين عنهم إلى المجلس الوطني الفرنسي ليس هو الطريق الأسلم إلى شاطئ السيادة الوطنية. كما أنهم كانوا يعلمون أن الحياة البرلمانية عقيمة وأن "الشعب الجزائري يجب أن يعتمد على نفسه لإنجاز ثورته الوطنية" (6) ومن جهة أخرى، فإن حزب الشعب الجزائري "لا يرى في المشاركة أو في الامتناع عن الانتخاب إلا فرصة إضافية بالنسبة للشعب الجزائري كي يبرهن على دقة تنظيمه وانضباطه ونضجه السياسي". (7) وبقدر ما كان الصراع شديداً بين دعاة المشاركة في الانتخابات ودعاة المقاطعة بجميع أنواعها، كان التفاف جميع الأطراف قوياً حول قرار الندوة وذلك طبقاً لمبدأ المركزية الديموقراطية وحفاظاً على وحدة الحزب. وليس أدل على قوة انضباط الإطارات القيادية من امتشاق السيد حسين لحول قلمه السيال لإقناع القواعد المناضلة بسلامة القرار بينما كان هو الوحيد الذي ظل متماسكاً بموقفه الرافض المناهض لفكرة المساهمة باعتبارها تراجعاً خطيراً في سياسة حزب الشعب الجزائري. وتطبيقاً لقرار الندوة، وبتاريخ 23/ 10/1946، قدم السيد الحاج مصالي قوائم المرشحين، لكن الإدارة الاستعمارية رفضت ترشيحه شخصياً بالنسبة لدائرة العاصمة باعتباره من المحكوم عليهم قضائياً (8)، كما أنها رفضت قائمتي وهران وسطيف (9). وبديهي أن في مثل هذه الإجراءات التعسفية تكذيباً صارخاً للقائلين (10) أن الدخول إلى الانتخابات كان نتيجة اتفاق بين رئيس حزب الشعب الجزائري والسلطات الرسمية في فرنسا. وعلى الرغم من كل المضايقات والمناورات التي لجأ إليها ممثلوا الإدارة

الاستعمارية، فإن مرشحي حزب الشعب الجزائري قد فازوا بنصف المقاعد التي تنافسوا عليها (11). ذلك أنهم لم يدخلوا الانتخابات إلا في خمس دوائر فازوا فيها بخمسة مقاعد مقابل خمسة لممثلي الإدارة الاستعمارية. أما في دائرتي سطيف ووهران حيث لم يسمح لهم بالمشاركة، فإن المقاعد الخمسة المتبقية قد توزعها الشيوعيون وممثلوا الإدارة (12). وللتذكير، نشير إلى أن الذين ذهبوا إلى قصر البربون باسم حزب الشعب الجزائري هم: الدكتور محمد الأمين دباغين، الدكتور جمال دردور والمهندس مسعود بوقدوم عن قسنطينة والسيدان أحمد مزغنة ومحمد خيضر عن الجزائر العاصمة. ولما أدركت السلطات الاستعمارية أن جماهير الجزائر ملتفة حول حزب الشعب الجزائري فإن وزارة الداخلية قد أصدرت قراراً يغير طريقة انتخاب أعضاء مجلس الجمهورية، وبموجب ذلك القرار ألغيت الإدارة الشعبية وأسندت مسؤولية الاختيار إلى المنتخبين البلديين وأعضاء الجماعات ورؤسائها حيث البلديات المختلطة. ولقد لجأت وزارة الداخلية إلى هذه الطريقة لكون كل أولئك المنتخبين قد وقع اختيارهم على إثر حركة مايو الثورية عندما كان معظم القياديين الوطنيين في السجون، وكان حزب الشعب الجزائري قد دعا جميع الجزائريين إلى مقاطعة الانتخابات "من أجل المحافظة على مستقبل الوطن الجزائري وللتأكيد على التمسك بسياسة التحرير الوطني وعلى الوفاء لأرواح الشهداء وللمناضلين والزعماء المعتقلين" (13). وأمام هذه المناورة الاستعمارية، فضل حزب الشعب الجزائري الامتناع عن المشاركة في انتخابات مجلس الجمهورية تاركاً المكان للاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري الذي استطاع أن يفوز بأربعة مقاعد من جملة السبعة المخصصة للمجموعة الانتخابية الثانية كما أشرنا إلى ذلك في غير هذا المكان. ولم يكن قرار مقاطعة الانتخابات مفيداً للاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري فحسب، بل إنه شكل فرصة ثمينة لقيادة حزب الشعب الجزائري وظفها، إلى أقصى الحدود، من أجل تحضير وثائق المؤتمر وإعداد الترتيبات المادية والأدبية الضرورية لنجاحه. وبالفعل، فإن الفترة الممتدة إلى غاية الخامس عشر من شباط سنة 1947 قد تميزت بنشاط سياسي مكثف مكن القواعد المناضلة من التفاعل مع قياداتها في معالجة سائر القضايا المطروحة على الساحة السياسية في الجزائر، كما أنه أوجد أجواء من الحماس الذي كان لابد منه لمواجهة مثل ذلك الحدث الذي دعت إليه جميع التيارات - وكل منها -

يعتقد أن نتائجه سوف تكون لصالحه وحده. لم يكن المؤتمر تأسيسياً ولا مؤتمراً أول للحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية كما يذهب إلى ذلك جل المؤرخين والمهتمين بتاريخ الحركة الوطنية، لكنه كان المؤتمر الثالث لحزب الشعب الجزائري (14) كما تدل على ذلك الكتابات المعاصرة والشهادات التي لجأنا إليها لتسليط الأضواء على تطور الحياة السياسية في الجزائر خلال الفترة ما بين 1939 و 1947 (15). هذا من ناحية الشكل، أما من حيث الموضوع، فإن المؤتمر كان أخطر مؤتمرات حزب الشعب الجزائري لأنه جاء نتيجة ضغط الإطارات القيادية الواعية التي استنكرت على السيد الحاج مصالي قرار الدخول في المعركة الانتخابية رغم ما في هذا القرار من تناقض مع أيديولوجية الحزب، مع أنه أسفر عن إثراء أيديولوجي سمح بتجاوز الأمة وتجنب الانقسام الذي كاد أن يعصف بالحزب كله. قبل هذا المؤتمر، لم تشهد الحركة الوطنية معارضة بمثل قوة ما وقع في تلك الأشهر الأخيرة من سنة 1946. إطارات شابة مثقفة وواعية تعلن عن رفضها اتباع الزعيم وتشكل لجنة إنقاذ ويقظة توكل إليها مهمة تعبئة القواعد المناضلة ضد التوجه الجديد الذي لم يشارك أحد منهم في تحديده وإقراره. وقبل هذا المؤتمر، أيضاً، لم يحدث أن استمع المؤتمرون إلى مسؤولين قياديين يناقشون بصراحة، لا تعرف الحدود، برنامج الحزب ويبدون آراءهم بحرية مطلقة حول واقعه ومستقبله. وعلى الرغم من السرية التي أحاطت الاجتماعات (16)، وعلى الرغم من الجو المكهرب الذي سبق انعقاد المؤتمر، فإن هذا الأخير قد استمع إلى تقريرين في منتهى الأهمية. أما التقرير الأول فقد قدمه السيدان حسين لحول وشوقي مصطفاي وهو يتعلق بموقف الحزب من الانتخابات. فقيادة حزب الشعب الجزائري ظلت، طيلة سنوات الحرب الإمبريالية الثانية، تدعو إلى مقاطعة كل أنواع الاقتراع، وقد كانت، في تشددها، ترفع شعار: "من انتخب كفر". وبالتدريج، انتشرت الفكرة في أوساط القواعد المناضلة التي عممتها، بدورها، في أوساط الجماهير الشعبية. ثم هاهو الزعيم، وبدون سابق إنذار، يقرر المشاركة في المعركة الانتخابية. هنا يطرح السؤال نفسه: كيف يكون إقناع المناضلين بضرورة هذه الردة؟ وكيف يمكن للمناضلين أن يقنعوا جماهير الشعب بجدوى هذا التحول

السريع خاصة وأن الأوضاع السياسية لم تتغير؟ لكل هذه الأسئلة ولغيرها قدم التقرير إجابات اعتبرها السيد أحمد بودة سحرية (17) لأنها جعلت أغلبية الأعضاء يصفقون للنشاط السياسي في ظل الشرعية والقانون الاستعماريين. وكان التقرير الثاني من تقديم السيد حسين آيت أحمد الذي ضمنه آراء وأفكار مجموعة من الشباب المثقف والمتحمس للكفاح المسلح الذي كانت قواعده قد تبلورت في تلك العشيرة الممتدة من سنة 1937 إلى سنة 1947 بفضل التجارب والخبرات المتراكمة من جراء نشاط اللجنة الخضراء ولجنة شمال إفريقيا للعمل الثوري والجيش الثامن والقوات العربية في الداخل ومنظمتي الشباب في بلكور والقصبة. ومما لا شك فيه أن ذات التقرير الذي امتاز بالدقة في التعبير وبالتركيز الإيديولوجي سوف يكون هو الهيكل الذي سيعتمده السيد آيت أحمد في إعداد تقريره الشهير إلى اللجنة المركزية المنعقد اجتماعها الموسع بزدين والبليدة في الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر 1948. على ضوء ذينك التقريرين ناقش المؤتمر واقع الحزب وأعد مخططاً مستقبلياً وظفه، منذ البداية، للفصل في موضوع النزاع القائم بين الأطراف الثلاثة على النحو التالي: 1 - يتواصل نشاط حزب الشعب الجزائري رغم الحظر المضروب عليه ورغم رفض الإدارة الاستعمارية الترخيص له بالعمل في إطار الشرعية السياسية الفرنسية. 2 - استجابة لإلحاح دعوة الكفاح المسلح يتم تأسيس المنظمة الخاصة أو المنظمة السرية قصد مواصلة العمل الذي قامت به مختلف التنظيمات المشار إليها أعلاه. ومن الجدير بالذكر أن هذه المنظمة بهيكلتها وأعضائها هي التي سوف تكون منطلقاً لبناء جيش التحرير الوطني بعد إشعال فتيل الثورة ليلة الفاتح من نوفمبر 1954. 3 - الإبقاء على الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية كواجهة لممارسة العمل السياسي في إطار الشرعية والقانون الفرنسيين. وإذا كان المؤتمرون قد ألحوا على أن يختار للمنظمة الخاصة أكثر المناضلين حيوية وصلابة، وعلى أن تزود بأفضل الإطارات وعياً وتكويناً، فإنهم قرروا، بالنسبة للحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية، أن تستفيد من المنخرطين الجدد ومن المناضلين والإطارات التي اكتشفت أمرهم المصالح الاستعمارية وأصبحوا غير قادرين على حياة السرية التي يستوجبها العمل في

الواجهة السياسية أو الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية

إطار التنظيمين السياسي والعسكري. وانتخب المؤتمر بالإجماع السيد الحاج مصالي رئيساً للحزب وزكى السيد حسين لحول للاستمرار في منصب الأمين العام، كما أنه عين لجنة من ستة أعضاء (18) أوكل لها مهمة تعيين اللجنة المركزية والمكتب السياسي، ويذكر السيد ابن يوسف بن خدة (19) أن اللجوء إلى هذه الطريقة، إنما كان بدافع الحفاظ على أعضاء القيادة السياسية الذين يستدعي واقع الحزب أن تبقى أسماؤهم سرية بقدر الإمكان. أما من أعضاء المكتب السياسي، فإن السيد حسين آيت أحمد (20) يذكر أن عددهم كان اثني عشر، لكن السيدين مسعود بوقادوم وابن خدة، فإنهما يعددان أربعة عشر عضواً (21). وفيما يتعلق بتوزيع المهام، فإن كل المصادر متفقة على أن مسؤولية المنظمة الخاصة أسندت إلى السيد محمد بلوزداد والتنظيم السياسي إلى السيد أحمد بودة بينما كلف أحمد مزغنة بالحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية وتركت الشؤون الخارجية إلى الدكتور محمد الأمين دباغين. هكذا ختم المؤتمر أشغاله بقرارات مرضية لجميع الأطراف، وراح كل طرف يسعى بكل ما لديه من إمكانيات للتدليل على أن أسلوبه هو الأنجع وطريقته هي الأمثل لاسترجاع الاستقلال الوطني. ولكي نتمكن من فهم الفترة الفاصلة بين تاريخ ذلك المؤتمر وميلاد جبهة التحرير الوطني فإننا لا نجد بداً من التعرض لجميع المراحل التي قطعها حزب الشعب الجزائري بوسيلتيه العسكرية والسياسية. 1 - الواجهة السياسية أو الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية. هناك من يطلق على هذه التشكيلة السياسية تسمية: حركة انتصار الحريات الديموقراطية (22)، وهناك من يسميها: حركة الانتصار للحريات الديموقراطية (23) ونحن نعتقد، بعد التأمل في أصل التسمية الفرنسي، أن الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية هي أفضل ترجمة لعبارة: Mouvement pour le triomphe des libertés démocratiques التي تضمنها الملف الإداري الذي قدمه السيد الحاج مصالي لإضفاء طابع الشرعية على نشاطه السياسي وليتمكن، باسم حزب الشعب الجزائري، من المشاركة في الانتخابات التشريعية الفرنسية الثانية التي كان قد تقرر إجراؤها يوم 10 نوفمبر سنة 1946.

وليس الاختلاف حول التسمية، وحده، هو الذي يستدعي التأمل والتفكير ملياً، بل إن المؤرخين لم يتمكنوا، حتى الآن، من الفصل نهائياً، فيما إذا كان يمكن التعامل مع تلك التشكيلة السياسية ككيان مستقل جاء بديلاً لحزب الشعب الجزائري الذي حلته الإدارة الاستعمارية، رسمياً، بتاريخ السادس والعشرين من شهر سبتمبر سنة تسع وثلاثين وتسعمائة وألف (24)، أم هل يجب اعتبار الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية مجرد تسمية يلجأ إليها الحزب، فقط، لإضفاء طابع الشرعية على جزء مما يقوم به من نشاط يومي على مختلف الأصعدة وفي جميع الميادين. وفيما يخصنا، فإننا نرجح الافتراض الثاني، ونعتقد أن الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية لا يمكن التأريخ لها في معزل عن حزب الشعب الجزائري الذي لم يختف مثل نجم شمال إفريقيا الذي غادر الساحة السياسية نهائياً، يوم 11 مارس سنة 1937. فالحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية، إذن، وكما سبقت الإشارة إلى ذلك، لم تكن سوى واجهة استعملها حزب الشعب الجزائري لتقديم مرشحية إلى الانتخابات التشريعية الفرنسية ثم أبقاها قناعاً لممارسة النشاط السياسي العلني. وعلى هذا الأساس، فإن اعتبارها حزباً قائماً بذاته يكون مغالطة تاريخية. وحتى عندما يقرن ذكرها بحزب الشعب الجزائري، فإن ذلك غير معقول لأننا، عندها نقول كذلك: حزب الشعب الجزائري/ المنظمة الخاصة (OS/PPA) تماماً مثلما نقول: MTLD/ PPA ومهما يكن من أمر، فإن المشاركة في الانتخابات التشريعية الفرنسية كانت تجربة فاشلة لأن الإدارة الاستعمارية لم تكن مستعدة لتغيير نظرتها الاستعمارية للجزائر التي أدرجتها المادة ستين من دستور 13/ 10/1946 ضمن العمالات الفرنسية فيما وراء البحار. وطبقاً للمادة المذكورة وضعت السلطات الرسمية مشروعاً حكومياً أول بتاريخ 24 سبتمبر 1946 يهدف إلى ضبط القوانين التي تتحكم في تنظيم الجزائر وتسيير شؤونها. لكن المشروع لم يبرح قمطرات وزارة الداخلية بسبب تغيير الحكومة التي وضعته (25) ونظراً لما أبداه غلاة الكولون من معارضة له رغم كل ما تضمنه من تجذير لفكرة الجزائر الفرنسية. وفي التاسع والعشرين من شهر ماي سنة 1947 قام وزير الداخلية بإخراج المشروع من جديد إلى حيز الوجود وسلمه إلى اللجنة الدستورية ليأخذ طريقه الطبيعي من أجل أن يكون قانون الجزائر التنظيمي.

لم يكن ذلك المشروع الحكومي خطراً على الوجود الاستعماري في الجزائر، وعلى الرغم من ذلك، فإنه لاقى معارضة شديدة من طرف ممثلي الكولون الذين جندوا لمحاربته كل ما لديهم من إمكانيات. أما ممثلوا حزب الشعب الجزائري، فإنهم رفضوا مناقشته رفضاً مطلقاً لإيمانهم بأن مصير الشعب الجزائري لا يصنعه البرلمان الفرنسي، بل لابد من مجلس تأسيسي جزائري "ينتخب بواسطة الاقتراع العام من طرف كل المواطنين الجزائريين ويكون تعبيراً صادقاً عن إرادة الشعب الجزائري" (26). فمثل هذا المجلس وحده هو الذي يستطيع وضع دستور تحدد بمقتضاه منطلقات وأسس الدولة الجزائرية. لقد كان هذا هو موقف الحركة المصالية منذ مستهل الربع الثاني من القرن العشرين، ولم يتغير، في أساسه، حتى عندما كانت قيادة نجم شمال إفريقيا أو حزب الشعب الجزائري، فيما بعد تلجأ تكتيكياً، إلى مسايرة بعض التشكيلات الوطنية في دعوتها إلى تغليب الحل السياسي في ظل الشرعية الفرنسية. وكان ذلك الموقف مستمداً من إيمان تلك الحركة بأن الاستعمار لا يفهم سوى لغة العنف وبأنه لا يعطي للمستعمرين (بفتح الميم) إلا ما يؤخذ منه بالقوة. على الرغم من هذا الموقف الواضح المستمد من تلك القناعة الراسخة، فإن القيادة السياسية لحزب الشعب الجزائري قد وافقت، بالإجماع، على إرسال ممثليها إلى المجلس الوطني الفرنسي حتى تتمكن من إيجاد ظروف جديدة تساعدها على إعادة تنظيم الحزب بشقيه السياسي والعسكري. ولقد استغل نواب الحزب فرصة تواجدهم في البرلمان الفرنسي ليعلنوا من أعلى منبره عن إرادة الشعب الجزائري في استرجاع سيادته وبعث دولته من جديد (26). لم يكن حزب الشعب الجزائري ينتظر من نشاطه السياسي العلني أن يبلغ حد إقناع غلاة الكولون بالتخلي عن تمسكهم بفكرة الجزائر الفرنسية. فالأوربيون كانوا يؤمنون بأن القوة وحدها هي التي أكسبتهم حق الهيمنة وحق العسف والاستبداد التي استطاع، بالتدريج، أن يهمش جماهير الشعب الجزائري ويجعلها تعيش غريبة في وطنها. ولأنهم كانوا يدركون ذلك جيداً فإنهم لم يكونوا يترددون في توظيف جميع إمكاناتهم المادية والأدبية من أجل الضغط على الأوساط السياسية الفاعلة في فرنسا حتى يسدوا كل المنافذ في وجه عناصر الحركة الوطنية الجزائرية. هكذا، وفي الوقت الذي ظهر فيه نشاط الوطنيين الجزائريين داخل البرلمان الفرنسي وفي اتجاه التشكيلات السياسية المختلفة قصد إقناع الرأي

العام الفرنسي والرأي العام العالمي بضرورة تمكين الشعب الجزائري من انتخاب مجلس تأسيسي يكون منطلقاً لتسوية القضية الجزائرية التي ظلت قائمة منذ الخامس يوليو/ تموز سنة 1930، فإن النواب الكولون قد ضاعفوا من التصريحات المشتملة على كل أنواع الترهيب والتهديد، مؤكدين"أن الأقلية الأوربية قد لا تتردد في الاستنجاد بغير الميتروبول إذا وافق المجلس الوطني على منح الجزائر قانوناً تنظيمياً يتنافى مع مصالح الكولون" (27). وفي نفس السياق صرح السيد جاك جوفالي الذي سيكون فيما بعد رئيس بلدية الجزائر العاصمة: "إن أرض الجزائر هي أرضنا، وفيها نحن بين أهلنا .. إنها أرض فرنسية ومهما كان القول أو الفعل أو القرار من أية جهة كانت، فإن الجزائريين الفرنسيين لن يغادروها" (28). وكان حزب الشعب الجزائري يدرك، بدوره، أن ممثلي الكولون كانوا يسيطرون بالفعل على مصادر القرار في فرنسا، وعليه، وبالموازاة مع نشاطه السياسي في إطار الشرعية الفرنسية، فإنه خصص سنة 1947 لإرساء قواعد المنظمة الخاصة والحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية حتى تتمكن كلاهما من تأدية الدور المحدد لهما من طرف المؤتمر. وبينما كان الرأي العام منشغلاً بمشروع الحكومة الخاص بقانون الجزائر التنظيمي وبالمشاريع المضادة المقدمة من طرف الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري والحزب الاشتراكي الفرنسي والحزب الشيوعي الجزائري وبمعارضة الكولون المتزمتة لكل هذه المشاريع، كان حزب الشعب الجزائري يعمل على ترسيخ قواعده في أوساط الجماهير الشعبية، وقبل أن يصادق المجلس الوطني الفرنسي على قانون الجزائر التنظيمي استطاع أن يعقد أول مجلس وطني للحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية في الفترة ما بين 4 و 7 سبتمبر 1947 (29). إن بعض المؤرخين، على غرار السيد محفوظ قداش (30)، لم يضعوا ذلك الحدث في إطاره الطبيعي، واعتقدوا أن المجلس الوطني مؤتمر تأسيسي وكتبوا: "أن الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية قد نظمت نفسها كحزب سياسي" معتمدين في ذلك على كون أشغال المجلس قد أسفرت عن تعيين لجنة مديرة (31) وتوجت بالمصادقة على مجموعة من اللوائح (32) تماماً مثلما يقع في المؤتمرات. إن مثل هذا التقييم غير سليم لأن المنطق لا يقبل حزباً في حزب، ولأن انتخابات اللجنة المديرة المشار إليها لم تلغ المكتب السياسي لحزب

الشعب الجزائري، بل أن رئيس اللجنة السيد أحمد مزغنة ظل عضواً بالمكتب السياسي المذكور ومسؤولاً عن التنظيم السياسي العلني تماماً مثلما كان السيد محمد بن الوزداد عضواً بنفس المكتب السياسي ومسؤولاً عن المنظمة الخاصة. وحينما يتوقف الدارس عند اللوائحالمصادق عليها، فإنه يرى، بسهولة، أنها لم تكن سوى انعكاس مبسط للخط السياسي الذي ما فتئ حزب الشعب الجزائري يدعو إلى الالتزام به وللمنطلقات الإيديولوجية التي ظل يعتمدها في وضع سائر برامجه. فلائحة السياسية العامة ترتكز على كون الإمبريالية الفرنسية التي اعتدت على الأمة الجزائرية لم تتمكن من القضاء على هذه الأخيرة رغم نجاحها في إلغاء الدولة الجزائرية ورغم كل العسف والاستبداد المسلطين على جماهير الشعب الجزائري منذ سنة 1830. تعتمد اللائحة أيضاً، على كون الوطن الجزائري لم يستسلم أمام بطش الاستعمار وظل يقاوم بجميع الوسائل من أجل استرجاع الحرية والسيادة والكرامة. لأجل ذلك، فإن الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية مطالبة بالعمل في سبيل أهداف ثلاثة هي: 1 - إلغاء السيطرة الإمبريالية واسترجاع سيادة الشعب الجزائري. 2 - بعث الدولة الوطنية بكل مقتضيات السيادة ومتطلباتها، أي ممارسة السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية. 3 - تطبيق مبادئ الديموقراطية وفقاً للشعارات التالية: الكلمة للشعب، المجلس التأسيسي الجزائري المنتخب بواسطة الاقتراع العام والمباشر بواسطة هيأة انتخابية واحدة. وترى لائحة العلاقات مع التشكيلات السياسية الجزائرية أن الاتحاد أداة حاسمة في الكفاح ضد الإمبريالية وضمان أساسي لانتصار القضية الجزائرية. وعلى هذا الأساس، فإن الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية تلتزم بالترفع فوق كل الاعتبارات، مهما كان نوعها، في سبيل تحقيق الاتحاد الوطني حول الأرضية الأكثر عدلاً والأكثر فائدة للشعب الجزائري، أي حول العمل من أجل مجلس تأسيسي ذي سيادة كاملة. ومن خلال اللائحة الخاصة بقانون الجزائر التنظيمي، فإن الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية تذكر بأنها كانت قد حاربته في مستوى البرلمان الفرنسي عندما أنكرت على الأخير حق التشريع للشعب الجزائري.

وبما أن السلطات الاستعمارية لم تأخذ في الاعتبار موقف كل النواب الجزائريين الذين رفضوا مجرد المشاركة في مناقشة القانون المذكور، فإن الحركة قد حددت لمناضليها مجموعة من الأهداف العاجلة في مقدمتها: أ - تشجيع معاداة الشعب الجزائري للقانون المزعوم الذي صادق عليه المجلس الوطني الفرنسي دون استشارته. ب - تعبئة الجماهير الشعبية الواسعة ضد سياسة القوة والطغيان التي تمارسها الإمبريالية الفرنسية. ج - إيجاد اتحاد حقيقي في سبيل المجلس التأسيسي الجزائري. د - اعتبار محاربة قانون الجزائر التنظيمي مظهراً أساسياً من مظاهر الكفاح في سبيل الأمة الجزائرية ومن أجل الديموقراطية. وتجسيداً لهذه اللوائح، وجهت قيادة حزب الشعب الجزائري نداء إلى مؤتمر الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري المنعقد بمدينة البليدة في الفترة ما بين 3 و 5/ 10/1947 تدعو من خلاله إلى تحقيق "وحدة متينة مبنية على أسس أيديولوجية وبعيدة عن كل الاعتبارات الانتخابية وذلك من أجل تحرير الشعب الجزائري من الهيمنة الإمبريالية" (33). وكجواب على هذا الاقتراح ضمن المؤتمر برنامج السياسة العامة فقرة خاصة بقضايا الوحدة النضالية أكد فيها "أن الاتحاد يجب أن يشمل كل الأحزاب الديموقراطية دون تمييز عرقي، وأن تحرير الشعب الجزائري من نير الاستعمار إنما يتم في إطار سياسة ديموقراطية تستهدف الرقي الاجتماعي وإصلاح الهياكل إصلاحاً جذرياً" (34). وإذا كان هذا الجواب مشوباً بكثير من الغموض والتهرب من المسؤولية، فإن باقي اللائحة قد تضمن ما من شأنه أن يقرب بين التشكيلتين الوطنيتين. وبالفعل، فإن الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري قد أدان بكل صراحة الاتحاد الفرنسي والقانون التنظيمي المفروض على الجزائر، وأكد إيمانه بوحدة شمال إفريقيا وبضرورة إقامة الجمهورية الجزائرية بألوانها الوطنية وبرلمانها وحكومتها المسؤولة أمامه (35). وعلى الرغم من كل هذا التقارب الإيديولوجي، فإن حزب الشعب الجزائري قد دخل الانتخابات البلدية منفرداً بينما حاول الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري تشكيل قوائم مشتركة بينه وبين الحزب الشيوعي الجزائري في

الانتخابات وعواقبها

عدد من المدن وذلك تحت شعار "في سبيل اتحاد وطني وديموقراطي ومن أجل حماية المصالح البلدية" (36). الانتخابات وعواقبها: على خلاف التشكيلات السياسية الأخرى، دخلت الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية معركة الانتخابات البلدية بهدف توظيفها لتعميم إيديولوجية حزب الشعب الجزائري، لأجل ذلك ضبطت شعارات واضحة وقريبة جداً من فهم سائر الفئات الاجتماعية (37) وراحت تركز، من خلال الاجتماعات والتجمعات، على ضرورة التزام المواطن الجزائري ببرنامجها السياسي إذا كان يريد استرجاع حقوقه المغتصبة والخروج من دائرة التخلف والتهميش والحرمان. وبفضل وعي المناضلين وحماسهم، استطاع حزب الشعب الجزائري أن يحول المناسبة إلى عرس وطني كبير سادته روح الأخوة والتضامن وتجندت، من خلاله، جماهير الشعب لتقول "لا" لغير العمل من أجل استرجاع الاستقلال الوطني ولتعلن، أمام الملأ، أنها تتبنى في معظمها، مرشحي الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية، وأنها بذلك، تتحدى الإدارة الاستعمارية وترفض كل البرامج التي لا تدعو إلى محاربة قانون الجزائر التنظيمي ولا تهدف، أولاً وقبل كل شيء إلى بعث الدولة الجزائرية ذات السيادة المطلقة. وكانت نتيجة الانتخابات تعبيراً آخر عن تفاعل الجماهير الشعبية مع سياسة حزب الشعب الجزائري، فمرشحوا الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية فازوا بأغلبية المقاعد المتنافس عليها وسيطروا كلية على أكثر من مائة بلدية، ولم يتمكن ما سمي في ذلك الوقت بالتحالف الديموقراطي من الوقوف في وجه التيار الجارف الذي جعل الحزب الشيوعي يعترف على أعمدة ... صحافته بأن جماهير الشعب الجزائري قد اختارت قوائم الحركة في كثير من البلديات (38). وكان من الممكن أن يكون انتصار حزب الشعب الجزائري في الانتخابات البلدية حافزاً لتحقيق الاتحاد مع الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين غير أن ذلك لم يحدث رغم جميع المحاولات والمساعي التي توقفنا عندها في دراستنا الخاصة بحزب السيد فرحات عباس. ولأن التشكيلات السياسية الوطنية لم تجد طريقها للاتحاد، فإن الإدارة

الاستعمارية قد استطاعت، بكل سهولة، أن تحول انتصار الوطنيين إلى نوع من الهزيمة تمثلت في رفض منتخبي المجموعة الأولى التعامل معهم وتمكينهم من تأدية مهامهم كما هي محددة في القانون. واستخلص غلاة الكولون الدرس من تلك الانتخابات البلدية فتأكدوا أن معظم الجزائريين يؤيدون حزب الشعب في نشاطه الهادف إلى استرجاع الاستقلال الوطني، ولكي لا تتكرر نتائج الانتخابات البلدية في مستويات أخرى، عملوا بواسطة ممثلهم في حكومة باريس (39) على استبدال الوالي العام السيد ايف شاتينيو بوزير التربية السابق السيد ايدموند نايجلان الاشتراكي المذهب والذي جئ به خصيصاً لسد جميع الطرق وبكل الوسائل في وجه كافة التشكيلات السياسية الوطنية. ولقد استطاع الوالي العام الجديد، خلال الفترة التي قضاها في الجزائر، أن يربط اسمه بتزييف الانتخابات حتى صارت الطريقة النايجلانية مضرب الأمثال في سائر أنحاء البلاد. وكانت الانتخابات الأولى التي أشرف عليها هي تلك الخاصة بالجمعية الجزائرية التي نص على تأسيسها قانون الجزائر التنظيمي في مادته السادسة (40). ومرة أخرى لاحت في الأفق آمال الاتحاد بين التشكيلتين السياسيتين الوطنيتين لكن ذلك الأمل سرعان ما تلاشى بسبب موقف الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية التي اشترطت أن تكون الحملة الانتخابية تحت شعار: "الأمة الجزائرية ذات السيادة المطلقة" وأن تكون حصتها من المقاعد الثلثين غير أن ذلك لم يكن هو السبب الوحيد، بل لابد من الإشارة إلى رفض الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري ثنائية العمل وإلحاحه على ضرورة إشراك الحزب الشيوعي الجزائري في ما يمكن تسميته بالجبهة الديموقراطية التي تكون قادرة على التصدي للمناورات الاستعمارية التي يقوم بها "تجمع الشعب الفرنسي" (41) الذي جعل شعاراً له "الجزائر ووهران وقسنطينة عمالات فرنسية وستبقى كذلك" (42). إن السببين المشار إليهما أعلاه لم يكونا كافيين لإجهاض عملية الاتحاد بين التشكيلتين الوطنيتين لأن اشتراط العمل تحت شعار: "الأمة الجزائرية ذات السيادة المطلقة" يلتقي في الأعماق مع الدعوة إلى تشكيل جبهة وطنية تتصدى لبرنامج تجمع الشعب الفرنسي الذي يهدف إلى الإبقاء على الجزائر الفرنسية. ولو أن قيادتي الحزبين تحاورتا جدياً في الموضوع لوجدتا طريقهما إلى ضبط

إطار تتضافر فيه الجهود الرامية إلى تخليص الجزائر من السيطرة الأجنبية. إن هذا الافتراض لا يعني أن قيام الاتحاد بين الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية والاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري كان قادراً على تغيير نتائج الانتخابات. فهذه الأخيرة خطط لها بدقة كي تكون في غير صالح التوجه الوطني الذي ترى الإدارة الاستعمارية أنه "يهدد أمن الفرنسيين في الجزائر ويقضي على سمعة فرنسا ويؤدي إلى إلغائها نهائياً من شمال ... إفريقيا" (43). أما الموقف الأسلم بالنسبة للتشكيلتين الوطنيتين فكان هو المقاطعة، لأن الجمعية الجزائرية تتناقض كلية مع مشروع المجتمع الذي تدعو إليه كل واحدة منهما. ولأن الإدارة الاستعمارية كانت تدرك ذلك وتعلم أيضاً، أن انتخاب مرشحيهما سيمنع الجمعية المذكورة من أن تؤدي الدور المحدد لها في القانون التنظيمي ويسعى لتحويلها إلى مجلس تأسيسي يتنافى مع مصالح فرنسا في الجزائر، فإنها اختارت الحل الأسهل والأنجع بالنسبة إليها وهو التزييف بجميع أنواعه حتى يكون أعوانها هم الأغلبية الساحقة من بين ممثلي المجموعة الانتخابية الثانية. وكان حزب الشعب الجزائري يعرف ذلك، ويعرف، أيضاً، أنه لا يستطيع منع الإدارة الاستعمارية من القيام بما يحلو لها، لكنه رغم كل ذلك، أصدر تعليمات واضحة إلى الإطارات والمناضلين في القاعدة يأمرهم، من خلالها، باستعمال جميع الوسائل بما في ذلك العنف بسائر أنواعه، للتعبير عن رفض تلك الإجراءات التعسفية. ومن جملة ما أمر به المناضلون في صفوف المنظمة الخاصة أن يضرموا النيران في الصناديق وفي المكاتب ذاتها عندما تقدم الإدارة الفرنسية على منع المواطنين من ممارسة حريتهم في التصويت على من يريدون. (44) هكذا خيم على الحملة الانتخابية جو من الرعب، وعم الساحة السياسية كثير من الاضطهاد الذي لجأت إليه الإدارة الاستعمارية قصد ترهيب الوطنيين وحملهم على التخلي عن حزبهم. وقد شمل الاضطهاد جميع المجالات بدءاً من عدم الترخيص بعقد ندوة المنتخبين التي اعتزمت الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية عقدها بالعاصمة يوم 25/ 1/1948 وانتهاء باعتقال العديد من إطارات ومرشحي حزب الشعب الجزائري، مروراً بوقف "المغرب العربي" وتنظيم حملات التفتيش عبر مختلف أنحاء البلاد. وزيادة على كل ذلك،

أعطيت التعليمات للمسؤولين، على جميع المستويات، كي يمنعوا ممثلي الحركة الوطنية من مراقبة سير الاقتراع ومن المشاركة في عملية الفرز، وأذن لهم، في حالة ظهور أدنى مقاومة، أن يستعملوا ضدهم مختلف أنواع العنف بما في ذلك الضرب والاعتقال وحتى القتل في الحالات المعقدة. ففي هذا السياق، وضعت العدالة تهمتين يمكن إلصاقهما بكل من يراد حبسه. فهناك، أولاً، المساس بأمن الدولة وسيادتها إذا كان المتهم مناضلاً بارزاً أو إطاراً في حزب الشعب الجزائري. أما إذا كان مناضلاً بسيطاً أو من المحبين فقط فتهمته الإخلال بالنظام العام، وفي الحالتين يطبق القانون دون إعمال الظرف المخفف. وبالرجوع إلى "الجمهورية الجزائرية" في عدديها الصادرين بتاريخ 9 و 16/ 4/1948. يجد الدارس نماذج متعددة من الاعتداء على حرية الانتخاب. فأحياناً تفتح الإدارة المكاتب في بيوتات بعض الأعيان الذين يغلقون أبوابهم إلا على الأصدقاء. (45) وأحياناً أخرى تنقل المكاتب من أماكنها الرسمية دون إشعار المواطنين (46). وفي أثناء الفرز يؤتى بصناديق جديدة مملوءة بأصوات أغلبيتها الساحقة لفائدة مرشحي الإدارة. وبالإضافة إلى كل هذه الإجراءات الاستبدادية كان الأجناد وأفراد الشرطة بأنواعها والجندرمة ورجالات الإدارة يلاحقون المنتخبين ويستعملون شتى الوسائل لإرغامهم على عدم إعطاء أصواتهم لمرشحي الحركة الوطنية الذين هم "عملاء ستالين والشيوعية" (47) والذين لاهمَ لهم سوى "العمل على تحويل الجمعية الجزائرية إلى مجلس تأسيسي يرسي قواعد الدولة الجزائرية المستقلة" (48). كل هذه الإجراءات العسفية لم تنل من عزم المناضلين على الذهاب إلى أبعد الحدود في العمل من أجل تجسيد تعليمات الحزب على أرض الواقع، كما أنها لم تمنع إراقة الدماء بل إنها ساعدت كثيراً على تعبئة الطاقات الحية في البلاد كرد فعل للتدليل على أن جماهير الشعب في الجزائر تسير وراء حركتها الوطنية وأنها مستعدة للتضحية القصوى من أجل إقامة الجمهورية الجزائرية الديموقراطية الاجتماعية. ومن الجدير بالذكر أن المعارك التي طبعت يوم الانتخابات والتي جرت بين أفراد القوات المسلحة الفرنسية وجحافل المواطنين في أماكن عديدة من أنحاء الوطن قد أسفرت عن استشهاد كثير من الجزائريين وجرح أعداد كبيرة

منهم. ولقد عملت الصحافة الاستعمارية على تصوير بعض تلك الأحداث على طريقتها المتميزة بتناقض الأخبار وتزييف الحقائق وعلى سبيل المثال نورد نبأ ما وقع في قرية أولاد فرحة الكائنة على بعد 15 كلم من سور الغزلان نقلاً عن "ليكودلجي" في عددها الصادر بتاريخ 5/ 4/1948. "اجتاح مكتب الانتخاب ما بين 1000 و 1500 من مناضلي حزب الشعب الجزائري. فغادرت مجموعة من الحرس المتنقل سور الغزلان قصد استرجاع النظام والأمن، لكن حوالي 2000 متظاهراً استوقفوا شاحنتهم واعتدوا عليها وعلى ركابها مما جعل الحرس الجمهوري يطلق النار محدثاً سبعة قتلى وكثيراً من الجرحى". وعلى الرغم من يقظة المناضلين واستبسالهم في المقاومة وفي التصدي لاعتداءات الإدارة الاستعمارية، فإن هذه الأخيرة قد سيطرت كلية على عملية الفرز وزيفت النتائج بحيث أعطت لمرشحيها واحداً وأربعين مقعداً من جملة الستين المخصصة للمجموعة الانتخابية الثانية. أما الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية فإنها لم تأخذ سوى تسعة في حين كان ينبغي أن تفوز بالأغلبية الساحقة وذلك بشهادة السيد فرحات عباس نفسه (49). إن النتائج، في حد ذاتها، لم تكن هي المعنية بالنسبة لحزب الشعب الجزائري الذي لم يغير سياسته الرافضة للقانون التنظيمي نفسه والتي ظلت، منذ تأسيس نجم شمال إفريقيا، تهدف إلى تقويض أركان الاستعمار وبعث الدولة الجزائرية من جديد. أما ما عدا ذلك فوسائل لابد من توظيفها لتحقيق الغرض الأساسي. ومن هذا المنطلق، فإن الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية تكون، رغم قلة المقاعد التي منحت لمرشحيها، قد أحرزت نجاحاً باهراً تمثل خاصة في تعبئة جماهير الشعب حول البرنامج الإجمالي لحزب الشعب الجزائري وفي تأكد القيادة السياسية لهذا الأخير من ربحها ثقة الأغلبية الساحقة من الجزائريين. ولأن هدف الحزب السياسي لم يكن هو المشاركة في أشغال الجمعية الجزائرية التي كان يدرك جيداً أنها لن تكون سوى أداة طيعة في خدمة مصالح الكولون، فإن منتخبيه قد تلقوا تعليمات صارمة كي يبذلوا كل ما في وسعهم لتحويل جميع جلسات الجمعية المذكورة إلى مناسبات للتذكير بإرادة الشعب الجزائري في مواصلة النضال ضمن إطار الحركة الوطنية من أجل استرجاع السيادة الوطنية المغتصبة وإقامة الجمهورية الجزائرية الديموقراطية الاجتماعية ببرلمانها وحكومتها وألوانها الوطنية.

حزب الشعب الجزائري وما يسمى بالأزمة البربرية

ولأجل ذلك تجدر الإشارة إلى أن المؤرخين الذين يجعلون تزييف الانتخابات من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى إشعال فتيل ثورة نوفمبر 1954 مخطئون في تحليلهم، لأن الانتخابات في جميع مستوياتها إنما كانت تجري، فقط، في إطار السيادة الفرنسية التي هي إلغاء للسيادة الوطنية الجزائرية التي لم تبرح جماهير الشعب تناضل بقيادة الطلائع الواعية من أجل استرجاعها. إن هذه الحقيقة كلما تكررت ازدادت وضوحاً وتجلت الحاجة إلى تكرارها مرات ومرات. حزب الشعب الجزائري وما يسمى بالأزمة البربرية. يذكر السيد محفوظ قداش أن "الأمة البربرية ظهرت بعد انتخابات 1948 وهي وليدة النقاش الذي دار حول عدم جدوى سياسة المشاركة في البرلمان الفرنسي". (50) إن هذا الطرح لا يختلف في شيء عن رأي السيد روبرت آجرون الذي يزعم مثل السيد قداش، أن الأزمة المذكورة تندرج في إطار الانقسامات الداخلية التي تعرض لها حزب الشعب الجزائري ابتداء من شهر أغسطس سنة 1948 (51). وفي الواقع فإن الطرحين بعيدان كل البعد عن الحقيقة التي يلامسها كل من السيدين محمد حربي (52). وابن يوسف بن خدة (53) اللذين يرجعان المسألة إلى التناقض الإيديولوجي الذي تبلور، في تلك السنة، بسبب إقدام بعض العناصر المدسوسة في قيادة الحزب بفرنسا على الجهر بمعاداتها للعروبة والإسلام وعلى الدعوة الصريحة لبناء جزائر لائكية بروليتارية. ومن بين كل الذين عالجوا هذا الموضوع، فإن السيد ابن يوسف بن خدة هو الأكثر وضوحاً في الرؤية والأقرب إلى الحقيقة حيث يرجع المسألة إلى حجمها الطبيعي مؤكداً أن السياسة الاستعمارية هي التي مهدت لتلك الأزمة قصد توظيفها من أجل تقسيم أبناء الشعب الواحد وتعميم بعض المصطلحات المساعدة على تكريس "الأمة الجزائرية في طور التكوين" وهو الشعار الذي كان قد رفعه، في الثلاثينات السيد موريس توريز، الأمين العام للحزب الشيوعي الفرنسي وتبناه، بدون مناقشة، سائر الشيوعيين الجزائريين (54). ولتوضيح فكرته، يضيف السيد ابن خدة قائلاً: "يعود ظهور النزعة البربرية في صفوف الحزب إلى سنتي 1946 - 1947". وبالرجوع إلى كل هذه المعطيات والتوقف عندها ملياً، نستطيع التأكيد على أن ما يسمى بالأزمة البربرية إنما هي مؤامرة

خططت لها الإدارة الاستعمارية لزرع الشقاق في أوساط حزب الشعب الجزائري قصد منعه من توظيف الدروس المستخلصة من حركة مايو الثورية التي برهنت بما لا يدع أي مجال للشك على أن الشعب الموحد وراء قيادة متنورة قادر على صنع المعجزة. وقد استفاد من مراحل تنفيذ المؤامرة كل من الشيوعيين واللائكيين الذين يهمهم ضرب الإيديولوجية الوطنية في أعماقها. الشيوعيون وجدوا فيها ضالتهم التي ركبوها للتدليل على أن الأمة الجزائرية لم توجد بعد وما العرب والقبائل إلا بعض العناصر المكونة لها وهي ملزمة بالعمل على أن تتعايش مع بقية العناصر التي من جملتها: اليهود والفرنسيون والإيطاليون والمالطيون والإسبان والأتراك، وأما اللائكيون، فإنهم استغلوا الوضع الجديد للمطالبة بتحييد الإسلام عن كل نشاط سياسي خاصة وأن معظمهم من ضحايا حركة التنصير في الجزائر. ولقد كان السيد كريم بلقاسم (55) من المسؤولين الأوائل الذين تفطنوا للمؤامرة، وتصدوا لها بكل إمكانياتهم المادية والأدبية، يكفي أنه كان يردد في سائر الاجتماعات التي كان يترأسها عبر مختلف أنحاء ولاية تيزي وزو: إن النزعة البربرية لا يمكن إلا أن تضر مساعينا الوطنية. إنها سلاح فتاك نضعه بأنفسنا بين أيدي عدونا الاستعمار "وفي يوم من الأيام، سوف تقودنا هذه الفكرة إلى التناحر فيما بيننا نحن الذين توحدنا عقيدة واحدة" (56). لم يكن هذا الموقف الواعي وليد الصدفة ولا من محض تفكير السيد بلقاسم كريم، بل أن إيديولوجية الحزب وسائر برامجه السياسية هي التي فرضت ذلك وهي التي لم تتوقف الإدارة الاستعمارية عن السعي للقضاء عليها بجميع الوسائل. فالعروبة والإسلام يشكلان الأرضية الصلبة التي تتركز عليها مقومات الأمة، وقد كان حزب الشعب الجزائري يتخذ منهما تعبيراً عن الذاتية الجزائرية ويأتي بهما في مقدمة مقومات الأمة التي تترابط بها أجزاؤها وتتوحد ميولات أبنائها من أجل الاستماتة في سبيل استرجاع السيادة المغتصبة والكرامة المهدورة وبعث الدولة المغيبة. كل هذا، كان المناضلون يعرفونه ويؤمنون به ويعملون لنشره في أوساط الجماهير الشعبية، وكان القياديون، أكثر من غيرهم، يجهدون النفس في سبيل ذلك ويرفضون أن يعتدى عليه من أي كان. ولقد كانت الإدارة الاستعمارية تدرك جيداً الدور الإيجابي الذي تؤديه العروبة والإسلام في عملية التوعية والتجنيد الضرورية لتنظيم الشعب الجزائري وإعداده لخوض المعركة الحاسمة، ولأنها كانت تدرك ذلك، فإنها

ومباشرة بعد حركة مايو الثورية قد لجأت إلى اختيار عدد من العناصر (57) المتشبعة بالثقافة الغربية والمتنكرة بجهلها للحضارة العربية الإسلامية، فدفعت بها إلى صفوف حزب الشعب الجزائري تفجرها من الداخل، وساعدت على إنجاز تلك المهمة مجموعة من العوامل أهمها ما يلي: 1 - خيبة الأمل التي أصابت القواعد المناضلة في حزب الشعب الجزائري من جراء الأوامر المضادة التي منعت الثورة من الانتشار وفقاً للمخطط الذي وضع لها والذي تعرضنا له بالتفصيل في معالجتنا لحركة مايو الثورية. 2 - ملل الإطارات القيادية الشابة والمتعلمة منها على وجه الخصوص من الرتابة، وجنوحها إلى كل ما من شأنه أن يحدث الانقلاب الجذري في مناهج التسيير الحزبي التي طغى عليها القرار الفردي بحجة الالتزام بمبدأ الانضباط واحترام السلم التصاعدي. 3 - ضعف التكوين الأيديولوجي في أوساط القواعد المناضلة وذلك نتيجة اكتفاء القيادات، على جميع المستويات، باجترار بعض المبادئ والأهداف دون اللجوء، من حين لآخر، إلى عمليات الإثراء التي تأخذ في الاعتبار تطور واقع المجتمع وإمكانيات العمل من أجل تحسينه. 4 - تخاذل الأنظمة العربية أمام الهجوم المنظم الذي شنه الصهاينة على فلسطين، وتلاحق الهزائم العسكرية التي عزتها الدعاية الإمبريالية إلى تخلف الإسلام وعجزه عن مواكبة العصر وتمكين المسلمين من النفاذ إلى ميادين العلم والتكنولوجيا. وكان أكثر العناصر المدسوسة حقداً على العروبة والإسلام الطالب رشيد علي يحيى الذي لم يكن مناضلاً معروفاً، بل أن صلة الرحم هي التي جعلت عضو اللجنة المركزية واعلي بناي (58) يتدخل، من سجنه، لدى مسؤول التنظيم السيد أحمد بوده ملتمساً مساعدته على الالتحاق بصفوف فدرالية الحزب بفرنسا وهو ما وقع بالفعل. ربما أن المساعدة كانت مصحوبة بتوصية، فإن علي يحيى قد تمكن من المشاركة في الندوة الفدرالية التي انعقدت إثر وصوله إلى فرنسا في شهر نوفمبر سنة 1948، وليس ذلك فقط، بل أن التوصية قد فتحت له كذلك باب المسؤولية فعين من بين أعضاء اللجنة المديرة وأسندت له رئاسة تحرير جريدة النجم التي سارع إلى توظيف أعمدتها لنشر النظرية الاستعمارية كما وردت في

أدبيات الحزب الشيوعي. "فالجزائر ليست عربية .. وعروبتها ادعاء باطل يتنكر لوجود العناصر البربرية والتركية وغيرها .. وليس صحيحاً ما ينسب للإسلام من دور أساسي في تحديد الهوية السياسية الجزائرية .. ولأجل ذلك يجب أن تكون اللائكية هي السائدة في برنامج حزب الشعب الجزائري". (59). والحقيقة أن منظري الاستعمار الفرنسي يلتقون مع الشيوعيين الفرنسيين والجزائريين حول مكونات الأمة الجزائرية. فالأوائل يعتبرون شمال إفريقيا مهداً للكنيسة والبربر حماة لهم وهم، أي البربر يختلفون كلية عن العرب كما جاء ذلك في "رسالة الجزائر" التي كتبها Alexis de Tocqueville(60) يوم 23/ 6/1837. أما جول فيري Jules Ferry(61) فقد أمر الحاكم العام بضرورة الإسراع في فتح أكبر عدد ممكن من المدارس في منطقة القبائل الكبرى لأنها "الأكثر استعداداً للاندماج نظراً لطبع السكان وعاداتهم وتقاليدهم" (62) وبتاريخ 23/ 8/1898، عندما أنشئت المندوبيات المالية، قررت الإدارة الاستعمارية أن يكون هناك فرعان: عربي وقبائلي للتدليل على أن ثمة جنسين متعايشان في الجزائر. وأما الشيوعيون، فإنهم ظلوا، إلى نهاية الأربعينات من هذا القرن، متشبثين بنظرية أمينهم العام السيد موريس توريز التي سبقت الإشارة إليها ولا داعي إلى التوقف عندها هنا. من هذا المنطلق، نستطيع القول إن ما يسمى بالأزمة البربرية إنما هي تعبير، بأسلوب مغاير، عن موقف اللائكيين والشيوعيين المنادي بمحاربة العروبة والإسلام، ومما لا شك فيه أن ذلك الموقف ناتج أساساً عن تأثير الثقافة الغربية في أصحابه الذين زاد في تعصبهم جهلهم المطلق للدين الإسلامي. إن السيد محمد حربي في معالجته لهذا الموضوع يذكر أن من العوامل التي أنتجت "الأزمة البربرية" فشل حزب الشعب الجزائري والحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية في وضع إيديولوجية تتلاءم مع التنوع الجزائري، وخيبة الانتظار أمام التعبئة السياسية التي عرفتها سنوات 1945/ 1949 (63) فهذا الحكم غير صحيح لأنه يعتمد على واقع مزيف أوجده الاستعمار، في الأساس، لضرب دعائم المجتمع الجزائري، إذ أن التنوع الذي يتحدث عنه السيد محمد حربي ليس طبيعياً بل هو مصطنع والمقصود منه كما يعترف بذلك السيد Emil Masquray مدير مدرسة الآداب في الجزائر "وهو محاربة الإسلام عدونا الأبدي" (64) ولتجسيد التمايز في أوساط جماهير الشعب الجزائري، بادرت الإدارة الاستعمارية منذ سنة 1857 إلى ترسيم "العرف

القبائلي" كمصدر للتشريع في "القبائل الكبرى" عوضاً عن القرآن والسنة (65). مع العلم بأن مصطلحات "القبائل" و"القبائلي" و"القبائل الصغرى" و"القبائل الكبرى" كلها لم تكن معروفة قبل سنة 1830 حيث كان المجتمع في أغلبيته الساحقة قبلياً. فإذا كان هذا التنوع مصطنعاً وهو في أساسه من اختراع منظري الاستعمار الذين استهدفوا توظيفه لمنع الطاقات الوطنية الحية في الجزائر من أن تسلك طريق الوحدة النضالية في سبيل استرجاع الاستقلال المغتصب، فكيف يطلب من حزب الشعب الجزائري أن يكيف أيديولوجيته معه؟ ولو فعل، فإنه، إذن، يكون قد وقع في فخ الإدارة الكولونيالية. أما عن خيبة الانتظار التي جعل منها السيد محمد حربي العامل الثاني الذي أنتج "الأزمة البربرية" فإنها لم تكن خاصة بمناضلي منطقة دون أخرى، وإذا كانت فيما يسمى بمنطقة القبائل، قد أنتجت "الأزمة البربرية"، فماذا تكون قد أنتجت في المناطق الأخرى من البلاد؟ وبالإضافة إلى ذلك، فإن المدة المذكورة لم تكن فترة انتظار، بل كانت، على العكس، كلها إعداد واستعداد كما ذكرنا ذلك في الجزء المتعلق بالمنظمة الخاصة. وإذا كان لابد من تحديد فترة للانتظار الممل، فإنها تكون تلك الممتدة من سنة 1949 إلى غاية اندلاع ثورة نوفمبر سنة 1954. صحيح أن حزب الشعب الجزائري، مثل سائر التشكيلات السياسية في العالم، قد عرف، في بعض مراحل حياته صراعات داخلية حول موضوعات مختلفة، لكن ما يسمى بالأزمة البربرية لم يكن واحداً من تلك الصراعات التي هي ضرورية لتحقيق النمو والتطور، بل أن أدلة كثيرة تبرهن على أن التخطيط لها كان من خارج الصفوف وهو يهدف، بالدرجة الأولى، إلى خلق المشاكل المصطنعة التي تكون قادرة على عرقلة المسار النضالي الذي يتوقف نجاحه على وحدة التوجه ووحدة الهدف. وإذا كنا لا نستطيع، هنا، سرد جميع الأدلة، فإننا نرى ضرورياً التوقف عند ما يلي: 1 - إن الذين تصدوا للمؤامرة بشتى الوسائل كلهم من أبناء ما يسمى بمنطقة القبائل الذين لا يستطيع المزايدة عليهم أحد. فالسيد بلقاسم راجف، الذي قام بالدور الحاسم في تلك المواجهة، كان يحظى باحترام كبير في أوساط المغتربين الذين كان رشيد علي يحيى وجماعته يعتقدون أنهم يشكلون قاعدة متينة لحركتهم، لأجل ذلك فإن العملية سرعان ما خبت نيرانها ولم ينجح المتآمرون في إرساء قواعد ما أسموه يومها بحزب

الشعب القبائلي (66). 2 - إن إطارات حزب الشعب الذين وجدوا أنفسهم، لسبب أو لآخر، متورطين في العملية قد سارعوا إلى التراجع معبرين، على أعمدة الصحافة وبواسطة المنشورات، عن إدانتهم للمتطرفين ومؤكدين "إن حزب الشعب القبائلي لا وجود له ولا يمكن أن يرى النور لسبب واضح وهو عدم وجود غير شعب جزائري واحد" (67). 3 - إن المؤامرة لم تتجاوز ما يسمى بمنطقة القبائل وفي، فرنسا، ظلت محصورة في أوساط المغتربين منها دون أن تتمكن من الانتشار في صفوف المغتربين الآخرين وخاصة منهم القادمين من المناطق التي بقيت محافظة على الطابع البربري الأصيل مثل الأوراس النمامشة والهقار ووادي ميزاب. ولو كانت هناك قضية بربرية، كما يزعمون، لكانت المناطق المذكورة هي المهد لها والمنطلق. 4 - إن الذين أخبروا قيادة الحزب بما تدبره العناصر المتآمرة كلهم من أبناء ما يسمى بمنطقة القبائل، ولم يفعلوا ذلك إلا لتشبعهم بإيديولوجية الحركة المصالية التي لم تتوقف، أبداً، عن اعتبار العروبة والإسلام مقوماً حيوياً للشعب الجزائري. يكفي هنا، الإشارة إلى اندهاش السيد بلقاسم راجف عندما بلغه نبأ المؤامرة وقوله لمسؤول التنظيم السيد أحمد بوده: "إنني أرفض أن أتصور مجموعة من مناضلي حزب الشعب الجزائري يثمنون التمايز العرقي ويدعون إلى تشتيت جماهير الشعب" (68). وبمجرد انتشار نبأ تمرد فدرالية الحزب في باريس وظهور نزعة تساند ذلك داخل العاصمة خاصة، قررت القيادة إرسال السيدين شوقي مصطفاي والصادق سعيدي إلى فرنسا من أجل اجتثاث المرض. وكان اختيار الرجلين مقصوداً لانتمائهما معاً إلى ما يسمى بمنطقة القبائل. وقد كان الأول نائباً ثانياً لرئيس الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية، بينما كان الثاني عضواً بالمكتب السياسي المنتخب على إثر مؤتمر فيفري سنة 1947. وعلى الرغم من كل تلك المواصفات، فإن مبعوثي المكتب السياسي لم ينجحا في مهمتهما، الأمر الذي جعل الحاج مصالي يلجأ إلى السيد بلقاسم راجف الذي وظف كل الوسائل بما في ذلك العنف واستطاع أن يسترجع فدرالية الحزب في فرنسا على إثر مجلس اتحادي عقد في شهر أفريل سنة 1949

واختتم أشغاله بطرد المنشقين وبالمصادقة على لائحة تؤكد "التمسك بأيديولوجية حزب الشعب الجزائري وبالحاج مصالي" (69). وإذا كانت مهمة القضاء على حركة التمرد صعبة في فرنسا حيث تطلب ذلك استعمال العنف واللجوء إلى شتى وسائل الإقناع، فإن الأمر، في داخل البلاد، قد اقتصر على فصل العناصر المتورطة في العملية التي لم تتأثر بها "سوى قسمة عين الحمام من جملة القسمات الثلاث عشرة التي تشتمل عليها بلاد زواوة" (70). ومن خلال شهادات الأحياء من المسؤولين وبالرجوع إلى ما هو متوفر لدينا من وثائق، نستطيع القول إن الحاج مصالي قد وظف ما يسمى بالأزمة البربرية ليتخلص من منافسه الأول الدكتور محمد الأمين دباغين وعدد من أنصاره الفاعلين. وإذا كان صحيحاً أن حزب الشعب الجزائري قد تغلب بسهولة على محاولة التفجير التي أرادتها له الإدارة الاستعمارية، وإذا كان صحيحاً، أيضاً، أن الحاج مصالي قد حقق، بتلك المناسبة، انتصاراً شخصياً فإن صفوف الحزب قد أصيبت في أعماقها وخسرت، في ظرف قصير جداً، عدداً هائلاً من المناضلين الأكفاء الذين ينتمون، فعلاً، إلى ما يسمى بمنطقة القبائل لكنهم لم يكونوا، في ذلك الوقت، يحملون الفكرة البربرية المناهضة للعروبة والإسلام. وفي نظرنا، فإن السيد حسين آيت أحمد كان أكبر المتضررين شخصياً ووطنياً، لأنه أقصي عن مسؤولية المنظمة الخاصة قبل أن ينجز برنامجه الثوري الذي كان يطمح أن ينتهي به إلى إشعال فتيل الثورة، هذا من جهة، ولأنه، من جهة ثانية، تعرض إلى تقزيم عسفي مازال يلاحقه إلى يومنا هذا. لقد كان في استطاعة قيادة حزب الشعب الجزائري أن تتعامل مع الموضوع بأسلوب مغاير يمكن من اكتشاف المتسللين إلى الصفوف بغرض والمنحرفين عن الخط الإيديولوجي لسبب أو لآخر ومعاقبة كل منهم العقاب الذي يستحقه. وفي المقابل، كان ينبغي أن يفتح الحوار مع المناضلين الذين كانوا قد أبدوا كل الاستعداد للتعاون مع المكتب السياسي من أجل تصفية الأجواء ويأتي السيد حسين آيت أحمد في مقدمة أولئك المناضلين. ولأن قيادة الحزب لم تفعل ذلك، فإنها، رغم ما حققته من نتائج آنية، قد ساهمت في حرمان الحركة الوطنية، من طاقات ثورية برهنت على نجاعتها في الميدان، ودفعت، من حيث لا تدري، بكثير من الإطارات في أحضان الحزب الشيوعي

الحزب وسائر الفئات الاجتماعية

الجزائري الذي فتح لهم ذراعيه ورقاهم إلى كثير من مناصب الحل والربط في صفوفه. (71). الحزب وسائر الفئات الاجتماعية: كانت الحركة المصالية، في أساسها، تركز كل آمالها على فئة العمال والمعدمين من أبناء الشعب الجزائري، ثم جاءت حركة مايو الثورية فعززت قناعة قيادة حزب الشعب الجزائري بضرورة تنظيم كل الفئات الاجتماعية حتى تجعل منها امتداداً طبيعياً للتنظيم السياسي، ولكي يسهل تجنيدها وتأطيرها عند الحاجة. هكذا ومباشرة بعد مؤتمر شباط سنة 1947، شرع حزب الشعب الجزائري في إنشاء هيآت نقابية للحرفيين أسماها الاتحاديات مستفيداً، في ذلك، من التجارب السابقة التي حاول، من خلالها، تأسيس نقابة وطنية على غرار الاتحاد العام للعمال التونسيين والتي كانت في كل مرة، تصطدم بمعارضة النقابات الفرنسية التي كانت تعتبر الجزائر جزءاً لا يتجزأ من فرنسا. وبسرعة فائقة ظهرت إلى الوجود، وفي نفس الوقت تقريباً، اتحاد الخبازين واتحاد الخضارين واتحاد التجار الصغار واتحاد أصحاب المطاعم واتحاد الحلاقين وغيرها. وقد كانت كلها تسير من طرف مناضلين محنكين. وفي داخل الاتحاد العام للعمال نفسه زرع الحزب خلايا قوية أسند إليها مهمة تكوين المناضلين النقابيين. وقد برزت أسماء كثيرة قامت بأدوار ريادية في مجال التنظيم النقابي خاصة بعد إشعال فتيل ثورة نوفمبر سنة 1954 (72). وفي شهر حزيران (يوليو) سنة 1947، أسس الحزب جمعية النساء المسلمات الجزائريات بتنشيط ورئاسة السيدة مامية شنتوف (73) وعضوية كل من نفسية حمود (74) وسليمة بلحاف (75) ومليكة مفتي (76) وباية نوار (77) بالإضافة إلى السيدتين شرشالي وبومعزة (78). وعلى الرغم من أن هذا التنظيم النسوي لم يتجاوز نشاطه دائرة الجزائر العاصمة، فإن أهم عضواته قد تميزن بنفس نضالي طويل وبرهن على قدرة فائقة في تعبئة أعداد كبيرة من النساء وتوعيتهن بمتطلبات الكفاح التحريري. وبعد استرجاع الاستقلال الوطني كانت نفس السيدات شنتوب وحمود وبلحاف على رأس الاتحاد العام للنساء الجزائريات وذلك بعد أن قامت كل منهن بدورها في إطار جبهة وجيش التحرير الوطني.

وفيما يتعلق بالطلبة، فإن حزب الشعب الجزائري الذي كان قد تغلغل في أوساط جمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين بواسطة المناضل الطالب محمد يزيد (79) سنة 1944، وأنشأ، بواسطة خلاياه النشطة بالجزائر، عدداً من جمعيات التلاميذ في كثير من ثانويات الوطن (80)، فإنه التفت بحزم وعزم إلى جامع الزيتونة واستطاع، في شهر نوفمبر سنة 1947، أن يفوز بقيادة جمعية الطلبة الجزائريين التي كانت قد تأسست سنة 1934، وظلت حتى تلك السنة تنشط تحت إشراف ورعاية جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. وفي نفس سنة 1947، تمكن حزب الشعب الجزائري من السيطرة على منظمة الكشافة الإسلامية الجزائرية التي كانت قد تأسست بمناسبة مرور قرن على احتلال الجزائر، وظلت تنشط في إطار قريب جداً من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. أما في تلك السنة، فإن الجمعية العامة التي انعقدت بسيدي فرج في شهر سبتمبر، قد انتخبت قيادة جديدة كلها من مناضلي أو محبي الحركة المصالية (81). وإلى جانب هذه المنظمات الوطنية، فإن حزب الشعب الجزائري قد بذل جهوداً كبيرة لتأسيس جمعيات رياضية (82) ومراكز ثقافية ومجموعة من المدارس الحرة على غرار مدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. كل هذا النشاط التنظيمي قد مكن حزب الشعب الجزائري من الانتشار بقوة في أوساط سائر فئات المجتمع، مما دفع الإدارة الاستعمارية إلى تزييف الانتخابات على جميع مستوياتها وبالتالي من استعمال كل الوسائل لسد طريق السلطة في وجه كافة التشكيلات السياسية الوطنية، ولقد أدركت قيادة الحزب هذه الحقيقة وتيقنت القواعد الحزبية من أن مسلك ما يسمى بالشرعية السياسية لا يمكن أن يقود إلى تسوية القضية الجزائرية التي هي قضية استعمارية ليس لها حل غير الكفاح المسلح، لأجل ذلك فإن أنصار هذا الأخير قد عادوا، بقوة، للمطالبة بالتراجع عن السياسة التي أقرها مؤتمر فبراير سنة 1947. اجتماع زدين والبليدة ونتائجه: هكذا تعود المؤرخون والمهتمون بالحركة الوطنية الجزائرية أن يسمو الدورة الموسعة التي عقدتها اللجنة المركزية لحزب الشعب الجزائري في نهاية شهر ديسمبر سنة 1948. وكما يستنتج بسهولة من التسمية، فإن المجتمعين قد بدأوا أشغالهم بزدين (83) حيث مزرعة السيد جيلالي عبد القادر بلحاج (84)

المفتش العام للمنظمة الخاصة، وأنهوها بمدينة البليدة. كانت الدورة من أهم اللقاءات التي جمعت قيادة حزب الشعب الجزائري فمن خلال أشغالها تبين أن النشاط السياسي في إطار الشرعية الفرنسية ضرب من الأوهام، ولم يعد أمام الحزب سوى التركيز على تدعيم وتطوير المنظمة الخاصة التي تستطيع وحدها تقديم الحل الجذري للقضية الجزائرية والمتمثل حسب السيد حسين آيت أحمد في "تعميم فكرة الكفاح المسلح والعمل على إقناع جماهير الشعب بأن الأراضي المغتصبة بحد السلاح لن تسترجع إلا بالسلاح" (85). وعليه، أكد نفس المسؤول "أنه ينبغي الدخول، فوراً، في حرب عصابات تخوضها الطلائع التي تم تكوينها عسكرياً وجماهير الشعب التي وقعت تعبئتها سياسياً وتم تأطيرها على أحسن وجه" (86). وعلى الرغم من أن التقرير المطول والمركز الذي قدمه مسؤول المنظمة الخاصة لم يحظ بإجماع المشاركين في الدورة، فإن اللائحة الختامية التي صادقت عليها اللجنة المركزية قد أكدت ضرورة تزويد المنظمة الخاصة بكل الإطارات والمناضلين الذين تتوفر فيهم الشروط السياسية والعسكرية لخوض معركة التحرير التي "سوف تكون صعبة وطويلة" كما جاء في ختام التقرير المذكور. ولقد اعتبر السيد علي محساس اللائحة الختامية للجنة المركزية "تعبيراً واضحاً عن فشل تجربة النشاط السياسي في إطار الشرعية ... الفرنسية" (87). ودائماً في إطار هذا المسعى الثوري اقترح عضو اللجنة المركزية السيد عمار ولد حمودة (88) على الدورة أن تعطي السلطة المطلقة للدكتور محمد الأمين دباغين لتسيير سياسة الحزب الخارجية لكن أعضاء المكتب السياسي رفضوا ذلك وفضلوا الحل الذي جاء به الرئيس مصالي والقاضي بتعيين السيد حسين لحول أمينا عاماً. ورأى الدكتور دباغين في ذلك التعيين إدانة مقنعة للمشاريع التي كان يلوح بها من أجل تقويم الحزب وتطويره في جميع الميادين. لكن مسؤول التنظيم السري، السيد أحمد بودة في ذلك الوقت، يعطي تفسيراً مغايراً ويؤكد أنه كان أول من عارض منح الثقة المطلقة للدكتور رغم ما كان بينهما من صداقة متينة وتفاهم كبير حول أمهات القضايا. أما في تلك الأثناء، "فإن الوضع كان خطيراً وكان ينبغي الاهتمام، أولاً، بتصفية ما يسمى بالأزمة البربرية التي كان أبرز عناصرها من أقرب المقربين للدكتور وفي مقدمتهم

يأتي السادة عمار ولد حمودة وواعلي بناي وعمر أو صديق الذين كانوا من أكثر أعضاء اللجنة المركزية نشاطاً وحيوية والذين كانت الإدارة الاستعمارية تعتقد أنهم قادرون على تحقيق الانفصال وتشكيل حزب الشعب البربري الذي استطعنا أن نقضي عليه في المهد نظراً لما فيه من خطورة على وحدة الشعب الجزائرية" (89). فالدكتور محمد الأمين دباغين لم يدرك أن أعضاء المكتب السياسي إنما عارضوا اقتراح ولد حمودة لحمايته من أن يتحول إلى أداة مفجرة للحزب من الداخل، ولذلك فإنه غادر الاجتماع واعتزل النشاط السياسي ورفض الاستجابة لكل المحاولات التي قام بها رفاقه على اختلاف ميولاتهم، من أجل حمله على العودة إلى ممارسة مهامه. ولما لم تنجح كل المساعي، فإن اللجنة المركزية قد اتخذت، بالإجماع في جلسة يوم 10/ 8/1949 قراراً بطرده من الصفوف (90). وعلى الرغم من ذلك الحادث المؤلم الذي كان نتيجة سوء تفاهم، فإن دورة اللجنة المركزية لحزب الشعب الجزائري المنعقدة بزدين قد كانت إيجابية بالنسبة للتوجه الثوري وفسحت المجال للمنظمة الخاصة بتوظيف سائر إمكانيات الحزب من أجل الإعداد والاستعداد لمرحلة الكفاح المسلح، وقد كان قرارها ذلك بسبب ما لاحظه المشاركون من عدم جدوى الاستمرار في طريق ما يسمى بالشرعية السياسية. غير أن الإقرار بأولوية المنظمة الخاصة لم يمنع حزب الشعب الجزائري من مواصلة هيكلة صفوف الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية طبقاً لمقررات مؤتمر شباط سنة 1947، ونشر التكوين السياسي والأيديولوجي في أوساط المناضلين المكلفين بتنفيذ البرامج المختلفة. ففي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن الحزب تخلى نهائياً عن بعض التسميات مثل الفدرالية والجهة والقطاع والفرع التي حلت محلها على التوالي: الولاية والدائرة والقسمة والخلية. وفي المستوى الوطني، استحدث اللجان المختصة وحدد أعضاء اللجنة المركزية ما بين ثلاثين وأربعين وأعضاء المكتب السياسي ما بين ثمانية واثني عشر بالإضافة إلى الرئيس والأمين العام، وعندما نريد الاختصار نقول أن تنظيم الحزب ابتداء من سنة 1948 قد أصبح مطابقاً للرسم التالي، وهو الشكل الذي سوف يلازمه إلى غاية اندلاع الثورة في أول نوفمبر سنة 1954 (91).

ـ[تخطيط]ـ

التوجهات السياسية ووسائل العمل

ولم تقتصر التغييرات على الهيكل، بل أن عملية انتقاء المناضلين وإعدادهم هي الأخرى قد سجلت تحسناً ملحوظاً. وإذا كانت خلايا المحبين لا تخضع لأي نوع من أنواع الانضباط ولا يفرض على أعضائها دفع الاشتراك أو القيام بأدوار أساسية في أوساط الجماهير الشعبية، فإن خلايا المنخرطين تكون محاطة بكثير من العناية المتمثلة في رقابة اجتماعاتها التي تعقد بانتظام والتي توظف لخبرة أعضائها باستمرار وبكيفية تشبه الامتحانات المتواصلة. وعندما يرى المناضلون المسؤولون عن التكوين والمراقبة أن المنخرط أصبح أهلاً للتمتع بصفة المناضل، فإنهم يستدعونه لتأدية القسم الذي يقرأه أو يردد عباراته ويده اليمنى على المصحف (92). بعد ذلك تحدد له الخلية التي يناضل في إطارها. أ - التوجهات السياسية ووسائل العمل: على الرغم من كل ما قيل وكتب حول حزب الشعب الجزائري، فإن توجهاته السياسية والأيديولوجية لم تحد عن مشروع المجتمع الذي ورد بإيجاز في الوثيقة التي صادقت عليها بالإجماع قيادة نجم شمال إفريقيا وتلاها، نيابة عنها، السيد الحاج مصالي أمام المشاركين في مؤتمر بروكسل سنة 1927. "فالإمبريالية الفرنسية قد استعملت السلاح للقضاء على الدولة الجزائرية ومن أجل السيطرة على الثروات الطبيعية وعلى الأرض بواسطة النهب والاغتصاب. ونتيجة ذلك، فإن السكان الذين كانوا في أوضاع مزدهرة قد تحولوا إلى عبيد جياع معدمين .. وباسم الحضارة المزعومة، انتهكت العادات والتقاليد وتم القضاء على طموحات جماهير الشعب التي صار مصيرها المحتوم معاناة الاستغلال البشع والخضوع للاستبداد السياسي الرجعي الذي يحرمها كل حق في الحرية بجميع أنواعها ويمنعها من المشاركة في النشاط السياسي والتشريعي. "من هذا المنطلق، فإن نضالات الشعب الجزائري موجهة إلى تحقيق الأهداف الرئيسية التالية: - استرجاع الاستقلال الوطني.

- سحب قوات الاحتلال الفرنسية وتكوين جيش وطني. - استرجاع الملكيات الزراعية الكبرى التي استولى عليها الإقطاعيون من عملاء الإمبريالية والكولون والشركات الرأسمالية الخاصة، وتسليم كل تلك الأراضي إلى الفلاحين الذين اغتصبت منهم. - احترام الملكيات الصغيرة والمتوسطة. - استرجاع الدولة الجزائرية للأراضي والغابات التي استولت عليها الدولة الفرنسية. (93). من هذا المنطلق، فإن الدكتور محمد الأمين دباغين قد صرح من أعلى منبر البرلمان الفرنسي يوم 10/ 9/1947، قائلاً: "لقد كلفنا الشعب الجزائري، نحن المنتخبين الوطنيين، بأن نعلن للشعب الفرنسي وللعالم أجمع أن الجزائر لا تعترف بالأمر الواقع الذي أحدثه احتلال سنة 1830، وأن أي حل لن يكون مقبولاً ما لم يشتمل على الضمان المطلق لاسترجاع السيادة الوطنية". (94) وفي نفس السياق وبنفس المكان صرح السيد مسعود بوقادوم "أن الحل الوحيد المنطقي والإنساني إنما يكمن في السماح للشعب الجزائري بأن يعبر بحرية عن رأيه ويختار النظام الذي يحلوله، وذلك بواسطة مجلس تأسيسي منتخب". (95) لكن ثبات التوجهات الإيديولوجية لا يعني أن خط الحزب السياسي ظل مستقيماً بدون انحراف خلال فترات النضال، بل أن قيادة الحزب قد اضطرت، مرات عديدة، لتغيير مواقفها، سواء لضرورة التكيف مع الواقع أو من أجل تقديم تنازلات لأطراف وطنية أخرى أبدت استعدادها للتقارب أو لتحقيق الوحدة النضالية الرامية إلى تقويض أركان الاستعمار في الجزائر. هكذا، كان الحزب قد اضطر، سنة 1937، إلى رفع شعار "لا اندماج ولا انفصال ولكن دعوة إلى التحرر والتطور" وذلك رغم أن برنامج نجم شمال إفريقيا كان، منذ البداية، دعوة إلى النضال من أجل استرجاع الاستقلال الوطني الكامل والانفصال المطلق عن فرنسا، وفي سنة 1946 تخلت قيادة الحزب عن قناعتها بضرورة مقاطعة الانتخابات ودفعت قواعدها إلى قبول النشاط في إطار ما يسمى بالشرعية الجمهورية. وسواء كان الحزب في حالة الاضطرار التي يأتي معها التغيير التكتيكي والانحراف أو في حالة الاستقامة التي يتجلى فيها التشبث بالمبادئ والالتزام

الواجهة العسكرية أو المنظمة الخاصة

بالعمل من أجل تحقيق الأهداف المسطورة في النصوص الأساسية، فإن اللجوء إلى الكفاح المسلح قد ظل الملجأ الأفضل لاسترجاع السيادة المغتصبة. وفي جميع الحالات، كانت القيادة العليا تعمل، بوسائل مختلفة، للإعداد والاستعداد. ب - الواجهة العسكرية أو المنظمة الخاصة إن المنظمة السرية، كما يسميها بعضهم، لم تظهر إلى الوجود صدفة بل إن جذورها تضرب في أعمق من المؤتمر الثالث لحزب الشعب الجزائري، تغذت من مقررات المؤتمر الثاني ومن الوثيقة التي صادقت عليها بالإجماع قيادة نجم شمال إفريقيا بالإجماع سنة 1927 والتي أشرنا إليها آنفاً. ولقد تعرضنا بإيجاز إلى مراحل إعداد الكفاح المسلح في معالجتنا لفترة الحرب الإمبريالية الثانية. وعلى إثر أشغال المؤتمر الثالث لحزب الشعب الجزائري، أسندت رئاسة المنظمة الخاصة إلى عضو المكتب السياسي السيد محمد بن الوزداد الذي لم يكن عمره، يومها، قد تجاوز ثلاثة وعشرين عاماً. كان حاصلاً على شهادة البكالوريا وهي شهادة عليا بالنسبة للجزائريين في ذلك الوقت، ويشهد له قادة الحزب ومناضلوه بالذكاء الخارق وبالشجاعة الهادئة والقدرة الفائقة على التنظيم السري وهي صفات كانت قد مكنته، وهو في مستهل الشباب، من أن يكون أحد الإطارات القيادية البارزة التي أعدت لمحاولات الثورة في شهر مايو سنة 1945. ولئن كانت الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية قد وجدت صعوبات كثيرة في أعمال الهيكلة والتعبئة، فإن المنظمة الخاصة قد تمكنت، في ظرف عام واحد، من تجنيد حوالي ألفي مناضل (96) كلهم من الشباب المؤمن بالعنف الثوري والمخلص لوطنه إخلاصاً لا تشوبه شائبة، ثم زودتهم بتعليم عسكري في إطار حرب العصابات ودربتهم على استعمال الأسلحة الكائنة في سائر المخابئ والمتفجرات بمختلف أنواعها وبعبارة أخرى نستطيع القول "أنها أعدت جيشاً كاملاً ووفرت له جميع الشروط الضرورية للدخول في المعركة. وكان من الممكن أن تندلع الثورة سنة تسع وأربعين لو لم يقعد مرض السل الخبيث محمد بن الوزداد ولو لم تقع ما يسمى بالأزمة البربرية التي ما كانت لتظهر لو لم يكن محمد طريح الفراش في مصحة بوبيني بباريس.

لقد وهب ابن الوزداد حياته كلها للوطن وعاش في سبيل إنجاح العمل الثوري. كان موظفاً بارزاً (97)، عندما انخرط في النظام السري لحزب الشعب الجزائري ثم ترك كل شيء ليصبح واحداً من المحركات الأساسية لحركة مايو الثورية وليتولى، بعدها، مسؤولية إعادة تنظيم الحزب في كامل الشرق الجزائري. وعندما تقرر إنشاء المنظمة الخاصة، أشرف بنفسه على إعداد هيكلتها وتشكيل قيادة أركانها بالتعاون مع بعض أعضاء المكتب السياسي أمثال الدكتور محمد الأمين دباغين الذي نصحه بتجنيد السيد أحمد بن بلة وحسين آيت أحمد الذي اقترح السيد جيلالي بإلحاح. ومن الوهلة الأولى، استطاع ابن الوزداد أن يضفي على المنظمة الخاصة طابع السرية والجدية والانضباط، وزودها بقانون داخلي ضمنه جميع الضوابط التي تتحكم في مقومات جيش قوي ومقتدر، بعد ذلك وزع المهام بحيث جاءت قيادة الأركان على النحو التالي:

ـ[تخطيط]ـ

بالإضافة إلى هذا الرسم، تجدر الإشارة إلى أن كل منطقة تشتمل على عدد من النواحي والناحية مقسمة إلى مجموعة من الفرق، والفرقة إلى عدد من الفروع والفرع إلى عدد من الأفواج وكل فوج مقسم إلى ثلاث مجموعات وتتكون المجموعة من ثلاثة مناضلين وقائدهم والفوج من ثلاث مجموعات وقائدهم. ويتكون الفرع من ثلاثة أفواج وقائدهم والفرقة من ثلاثة فروع وقائدهم أي من واحد وعشرين ومائة مناضل (98). هذا، وقد عرفت قيادة الأركان ثلاثة تعديلات أساسية بفعل تغيير القائد حيث استمر محمد بن الوزداد إلى غاية مايو سنة 1948 عندما اشتد به المرض ووجه إلى فرنسا للتشافي بمصحة هناك. وبقي خليفته، السيد حسين آيت أحمد، على رأس المنظمة إلى غاية سبتمبر سنة 1949 أما السيد بن بلة، فإنه ظل قائداً للأركان إلى أن ألقي عليه القبض في شهر مارس سنة 1950 (99). ولكي يصبح المناضل عضواً بالمنظمة الخاصة يجب أن ينجح في اجتياز مجموعة من الامتحانات تتعلق بخبرة تكوينه السياسي وشجاعته ومدى استعداده للتضحية في سبيل الله وبسلوكه اليومي وعلاقاته الاجتماعية، وبعد أن يظهر تفوقاً في تلك الامتحانات، يستدعي لتأدية اليمين وتبدأ معه عملية التكوين الميداني مع التركيز على الجانب العسكري. إن السيد محمد حربي يركز على كون قيادة حزب الشعب الجزائري لم تزود المنظمة الخاصة بالإمكانيات المالية الكافية، ويذكر بهذا الصدد أن ميزانية التسيير حددت في ذلك الوقت المالية بمئة ألف فرنك شهرياً وظلت كذلك إلى غاية شهر ديسمبر سنة 1948". (100) وسار في هذا الاتجاه كل من كتب في الموضوع للتدليل على أن وجود المنظمة الخاصة، سنة 1947، لم يكن سوى صوري. لكن النتائج الملموسة التي تميزت بها تلك السنة تفند كل هذه المزاعم، وتدل، بالعكس، على أن السيد محمد بن الوزداد، زيادة على هيكلة التنظيم وتزويده بالنصوص الأساسية، قد جلب للمنظمة كميات كبيرة، نسبياً، من الأسلحة والذخيرة بجميع أنواعها. وكانت الدفعة الأولى المكونة من ثلاثمائة قطعة سلاح اشتريت من ليبيا قد وصلت إلى وادي سوف بمبلغ إجمالي قيمته مليونا فرنك أي ما يعادل عشرين مرة الميزانية الشهرية التي ذكرها السيد محمد حربي. فميزانية التسيير، إذن، لا علاقة لها بميزانية التجهيز التي يمكن اتخاذها

معياراً للتدليل على إمكانيات المنظمة الخاصة المالية. وبديهي أن طابع السرية يحول دون الاطلاع على حقيقة تلك الميزانية. ومهما يكن من أمر، بالرجوع إلى ما كتبه المعاصرون والمسؤولون في أعلى هرم المنظمة الخاصة، فإن جل الأسلحة التي استعملت ليلة أول نوفمبر 1954 قد اشتريت سواء من ليبيا أو من الجزائر سنة 1947 وكذلك الشأن بالنسبة للتجهيزات الأولية التي كانت منطلقاً لصناعة المتفجرات. وعندما تولى السيد حسين آيت أحمد قيادة المنظمة لم يغير شيئاً مما وقع الاتفاق عليه، بل اكتفى بتطويره وإثرائه دون أن يحدث أي انقلاب في مجال التركيبة البشرية. وانطلاقاً مما هو موجود أعد تقريره المطول الذي قدمه في زدين والذي سبقت الإشارة إليه. وبالموازاة مع تحضير التقرير الذي كان موجهاً فقط لأعضاء القيادة السياسية، ودائماً بالتعاون مع مساعديه في قيادة الأركان، وتتمة للتربص الذي أشرف عليه محمد بن الوزداد نفسه، فإن آيت أحمد قد أنجز نشرة خاصة بالتدريب العسكري تشتمل على اثني عشر درساً في كيفية استعمال الأسلحة وخوض حرب العصابات وإعداد الكمائن إلى غير ذلك من فنون الحرب التي يحتاج إليها المناضل في مرحلة الكفاح المسلح. وأعدت قيادة الأركان، كذلك نشرة محدودة التوزيع للتكوين السياسي والإيديولوجي. وفي عهد السيد آيت أحمد، حرصت قيادة الأركان على ألا يكون التدريب نظرياً فحسب، بل ضبطت مجموعة من العمليات التي تكلف بإنجازها عدد من عناصر المنظمة الخاصة. ومما لا شك فيه أن أهم تلك العمليات هي: الهجوم على بريد وهران (101) والقضاء على أفراد من ميليشيا الباشاغا آيت علي (102)، وإسناد الثائرين في جبال جرجرة وايدوغ والأوراس (103)، ونسف تمثال الأمير عبد القادر في كاشرو (104). كل هذه العمليات نجحت بدرجات متفاوتة، واتخذت منها قيادة الأركان تجارب يمكن توظيف نتائجها في التخطيط لعمليات المستقبل، لكن ما يسمى بالأزمة البربرية أثرت، سلبياً، على مسار المنظمة الخاصة إذ حرمتها من خدمة عدد من إطاراتها القيادية الذين يأتي السيد حسين آيت أحمد في مقدمتهم. وإذا كانت تحركات المنظمة الخاصة إلى غاية انتهاء سنة 1949 تنم، في معظمها، على أن الاستعداد للثورة التحريرية تجري على أحسن ما يرام، ولم تتسبب للحزب في مشاكل تذكر، فإن عملية تبسة التي أمرت بها قيادة الأركان ليلة التاسع عشر مارس سنة 1950 قصد إلقاء القبض على المناضل عبد القادر

خياري المدعو "رحيم" (105) للتحقيق معه في التهمة الموجهة إليه والقائلة إنه عميل لمصالح الأمن الاستعمارية قد أدت إلى اكتشاف التنظيم السري ومكنت الشرطة الفرنسية من القبض على حوالي خمسمائة من أعضاء المنظمة الخاصة (106) بما في ذلك قائد الأركان السيد أحمد بن بلة وبعض مساعديه أمثال جيلالي بلحاج وجيلالي رقيمي وحموبوتليليس وأحمد محساس وأمحمد يوسفي. إن ما يسمى بالأزمة البربرية هي التي، بطريقة أو بأخرى، أضعفت المنظمة الخاصة وحولتها، بالتدريج، من تنظيم صلب اقترب جداً من الكمال الذي يمكنه من إشعال فتيل الثورة إلى كيان هش ينخر السوس أصوله؛ وعلى هذا الأساس نستطيع القول إن الإدارة الاستعمارية التي خططت لتشتيت وحدة الشعب الجزائري قد نجحت إلى أبعد الحدود، إذ لم تكتفِ بتوجيه ضربات قاضية لصفوف حزب الشعب الجزائري ولكنها تمكنت من تحقيق ما هو أخطر، أي زرع بذور الكراهية والحقد بين أبناء شعب واحد ليس له سوى وحدته للخروج من دائرة التخلف وليحتل المكانة اللائقة به في مصاف الشعوب الحرة والمتقدمة. هكذا، إذن، عاشت المنظمة الخاصة ثلاث سنوات كاملة استطاعت قيادة الأركان في العامين الأول والثاني أن ترسي قواعد آلة حربية قوية قادرة على نقل النضال الوطني إلى مرحلة العنف الثوري، لكن ذلك لم يحدث ليس لأن الظروف الخارجية لم تكن مواتية كما جاء في كتاب السيد ابن يوسف بن خدة (107) الذي لم يأخذ في الاعتبار أوضاع فرنسا التي لم تكن، هي أيضاً، في نفس القوة التي أصبحت عليها سنة 1954، وإنما لأن الإدارة الاستعمارية تمكنت، بشتى الوسائل، من خرق القيادة السياسية لحزب الشعب الجزائري ودس بعض العناصر المترددة فيها، ولأنها، من جهة أخرى، أحكمت التخطيط لما يسمى بالأزمة البربرية التي كان تفجيرها إيذاناً بالشروع في تفجير الحزب. التصدي لمحاولات التفجير: بعد فشل عملية تبسة، تمكنت الإدارة الاستعمارية من العثور على الأدلة والبراهين المادية التي تثبت وجود تنظيم عسكري تابع لحزب الشعب الجزائري، وبواسطة شتى أنواع التعذيب التي تعرض لها المعتقلون الأوائل توصلت مصالح البوليس، بالتدريج وفي ظرف شهرين فقط، إلى نتائج فاقت كل

التوقعات وقادت، بالفعل، إلى شل المنظمة الخاصة واعتقال المئات من إطارتها ومن مناضليها كما أشرنا إلى ذلك. ولمواجهة كل تلك المستجدات وحماية صفوف الحزب من أن تنتقل إليها حملة الاعتقالات قرر المكتب السياسي التحرك على جبهتين. فمن جهة نظم حملة إعلامية لاتهام السلطات الاستعمارية بأنها تحيك خيوط مؤامرة دنيئة من أجل التنكيل بمناضلي الحركة الوطنية، وتدعيماً لصحافة الحزب، وقع تجنيد سائر منتخبي الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية الذين وظفوا كل المنابر الرسمية للتنديد بالاعتقالات وبعمليات التعذيب. إن هذه الجبهة قد حققت انتصاراً ملموساً إذ تمكنت من أن تعبئ عدداً من الصحف والشخصيات الأوربية التقدمية بالإضافة إلى التشكيلات السياسية الجزائرية التي شاركت بفعالية في التصدي للإجراءات البوليسية التي اتخذتها الإدارةالاستعمارية (108). أما الجبهة الثانية التي تحرك عليها المكتب السياسي فتتعلق بالعمل في اتجاه المعتقلين قصد إقناعهم بالتراجع عن تصريحاتهم الأولى وعدم الاعتراف بوجود المنظمة الخاصة. ولقد وجد الحزب صعوبة كبيرة في تمرير هذه الأوامر، لأن عدداً من إطارات المنظمة الخاصة كانوا يرون فيها محاولة من القيادة السياسية للتخلص منهم حتى يخلو لها الجو فتركن إلى الراحة في إطار لعبة المشاركة في الانتخابات. وفي شهر مايو قرر المكتب السياسي حل المنظمة الخاصة على أن يعاد تشكيلها بعد أن تهدأ الأوضاع. وفي خضم تلك النشاطات السياسية المكثفة تبلور تفسير جديد للأسباب التي قادت إلى تفكيك المنظمة الخاصة بتلك السرعة وتلك السهولة. صاحب هذا التفسير هو السيد حسين لحول الذي نبه قيادة الأركان موجهاً أصابع الاتهام إلى جيلالي بالحاج عبد القادر الذي ألقي عليه القبض في مستهل شهر مارس ثم أطلق سراحه، وأكد لها ضرورة الاحتياط مما يكون قد أدلى به لصالح البوليس الفرنسي. إن مثل هذه المعلومة تخفف من مسؤولية المجموعة التي أنجزت عملية تبسة، لأن جيلالي بالحاج كان مسؤولاً وطنياً والمعلومات التي بحوزته تشمل كافة أنحاء الوطن، ونحن نعرف أن الاعتقالات مست سائر أنحاء البلاد، وأن السيد جيلالي، بعد خروجه من السجن، اعتزل النشاط السياسي، وفي أثناء الثورة تحول إلى عميل للاستعمار وأسس جيشاً لمحاربة جبهة التحرير الوطني لكن الولاية الرابعة استطاعت أن تخرق صفوفه وأن تؤلب عليه أنصاره الذين تمكنوا منه وقتلوه في نواحي الشلف سنة 1958.

على الرغم من الانتصارات التي حققها المكتب السياسي على الجبهتين المشار إليهما أعلاه، فإن حزب الشعب الجزائري قد تعرض لكثير من الهزات التي أربكت صفوفه وأضعفت مكانته بسبب اكتشاف المنظمة الخاصة، وكانت أكثر الهزات تأثيراً على مسار الحزب ومستقبله ما يلي: أ - الامتثال للقضاء الاستعماري: فاكتشاف المنظمة الخاصة وما تبع ذلك من اعتقالات وتعذيب قاد بالضرورة إلى حصول قوات البوليس الفرنسي على معلومات ضافية بشأن العمليات التي أنجزت خلال الأشهر السابقة، ومن جملة ما أكدته تلك المعلومات مشاركة النائب البرلماني السيد محمد خيضر في عملية بريد وهران وهو ما جعل الإدارة الاستعمارية تطالب بتجريده من الحصانة البرلمانية. وبينما كانت الإجراءات في حيز التنفيذ وقع خلاف داخل القيادة السياسية لحزب الشعب الجزائري حول معقولية أو لا معقولية الاستجابة للاستدعاء الذي يوجهه القضاء الاستعماري لكادر قيادي. أما المكتب السياسي فلم يكن يرى مانعاً من أن يمثل السيد محمد خيضر أمام القضاء إذا رفعت عنه الحصانة البرلمانية. لكن السيد الحاج مصالي عارض الرأي لما فيه من اعتراف بالسيادة الفرنسية ودعا إلى دورة طارئة للجنة المركزية في سبتمبر 1950 فوافقته بالأغلبية الساحقة. غير أن المكتب السياسي ومباشرة بعد اجتماع اللجنة المركزية، تجاوز قرار القيادة العليا وطلب من السيد محمد خيضر البحث عن الأعذار والحجج، الأمر الذي أثار غضب بعض أعضاء اللجنة المركزية الذين أستأذنوا رئيس الحزب وتولوا تسفير المعني إلى القاهرة حيث سيتولى تمثيل حزب الشعب الجزائري في المشرق العربي. ب - سراب التحالف الانتخابي: لقد كان اكتشاف المنظمة الخاصة وما تبع ذلك من اعتقالات سبباً كافياً ليعود دعاة الشرعية في قيادة حزب الشعب الجزائري إلى المطالبة بضرورة التخلي عن كل أنواع العنف. ويعتبر مثل هذه الموقف تنكرا صارخاً لبرنامج الحزب ودعوة صريحة لممارسة سياسة الإصلاح على حساب التوجه الثوري الذي بدأ مع تأسيس نجم شمال إفريقيا، وكان الحاج مصالي بالمرصاد لأصحاب تلك الفكرة واستطاع أن يجر معه أغلبية أعضاء اللجنة المركزية، لكن الصراع ظل قائماً واتخذ منعرجاً خطيراً مع بداية سنة 1951، خاصة عندما تحركت في هذا الاتجاه بالذات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين والاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري. فهاتان التشكيلتان الوطنيتان قد تدخلتا

بقوة لإقناع الثوريين من قيادة حزب الشعب الجزائري على مراجعة سياستهم قصد المشاركة في تكوين تحالف انتخابي (109). ولتحقيق التحالف المذكور اشترط ممثلو التشكيلتين المذكورتين على الحاج مصالي "أن يضع حداً لثوريته كي يتحول إلى رجل سياسي" (110). وأن تلتزم الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية بإدانة كل عمل ثوري وإرهابي وقع أو قد يقع والتخلي عن أي مسعى في اتجاه الأمم المتحدة والجامعة العربية وبقطع جميع العلاقات مع حزبي الدستور الجديد والاستقلال بالإضافة إلى الإعلان عن حل حزب الشعب الجزائري. إن هذه الشروط التي رفضها الحاج مصالي بلا تردد وبدون أدنى مناقشة، قد وجدت قبولاً وتأييداً لدى مجموعة من أعضاء اللجنة المركزية (111).يقودها عضو المكتب السياسي السيد: شوقي مصطفاي الذي يذكر السيد أحمد بودة أن رئيس الحزب استدعاه وذكره بمقررات المؤتمر ثم قال له: "إن رفاقنا يحاكمون لقيامهم بأعمال ثورية، ألاتدرك أننا ندينهم ونتخلى عنهم بالاستجابة لشروط جماعتك." (112). وأمام هذا الموقف الصارم قرر مصطفاي ومن معه الخروج من الحزب، وكان ذلك إيذاناً ببدء الصراع في داخل اللجنة المركزية على أساس إيديولوجي وبمرور الوقت وبالتدريج سيصبح واحداً من الأسباب التي تقود الحزب إلى الانفجار. أما النتيجة المباشرة فكانت حل اللجنة المركزية وتعيين مجموعة من الإطارات القيادية ترعى نشاط الحزب وتعد تشكيلة اللجنة المركزية الجديدة (113) التي نصبت في شهر أغسطس آب سنة 1951. وبعد التجديد، ظن الحاج مصالي أنه حيد خصوم التوجه الثوري واطمأن على مصير الحزب فتوجه إلى فرنسا يتفقد القواعد النضالية ويجدد الاتصال بالمهاجرين الجزائريين، ومن هناك أخذ طريق المشرق العربي بحثاً عن المساعدات المالية التي تمكن من التعجيل بإشعال فتيل الثورة. وعكس ما يدعيه السيد محمد حربي (114)، فإن زيارة البلدان العربية قد حققت عدداً من النتائج الإيجابية جعلت رئيس الحزب يستدعي السيد حسين آيت أحمد بمجرد عودته إلى باريس ويطلب منه إعداد مخطط لإعادة تنظيم المنظمة الخاصة، وفي نفس الوقت، ودائماً من باريس، اتصل بالسيد ابن يوسف بن خدة وأمره بانتقاء مجموعة من المناضلين قصد إرسالهم إلى القاهرة يتكونون عسكرياً (115)، لقد كان من المفروض أن يزور الحاج مصالي كل الأقطار المستقلة في الوطن العربي لكن الدورة السادسة للأمم المتحدة التي انعقدت في Chantilly من يوم

06 نوفمبر 1951 إلى يوم 10 فبراير/ شباط فرضت عليه العودة إلى فرنسا ليتمكن من التعريف بالقضية الجزائرية في أوساط الوفود المشاركة في تلك الدورة. لم يكن زعيم حزب الشعب الجزائري يدرك أن غيابه كل تلك المدة قد ترك الفراغ لمناهضي العنف الثوري، يجذرون أفكارهم لدى قسم واسع من أعضاء اللجنة المركزية الذين أصبحوا، بالفعل، يميلون إلى تحقيق التحالف مع التشكيلات الوطنية الأخرى في إطار النشاط السياسي كما تريده قوانين الجمهورية الفرنسية. هكذا، وفي غياب الحاج مصالي، تأسست الجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية واحترامها (116) بهدف النضال في سبيل حماية الحريات الديموقراطية وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وإلغاء الإجراءات الاستبدادية بجميع أنواعها. تكونت هذه الجبهة من الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين والحزب الشيوعي الجزائري والحركة من أجل انتصارالحريات الديموقراطية. وكان من الممكن أن تقوم هذه الهيأة بدور أساسي في تحقيق تحالف فعلي بين كل أطراف الحركة الوطنية، لكن الأهداف التي ضبطتها لنفسها كانت كلها نظرية مشوبة بكثير من الغموض، كان ذلك، في نظرنا، طبيعياً لأن المنطلقات الإيديولوجية كانت متباعدة وأحياناً متناقضة خاصة بالنسبة لطرفي النقيض: الحزب الشيوعي وحزب الشعب الجزائري ممثلاً في الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية. وعندما عاد الحاج مصالي إلى أرض الوطن، اجتمعت اللجنة المركزية للحزب في منتصف شهر مارس سنة 1952 ولدى تقييمها للنتائج التي حققتها الجبهة الجزائرية وافقت، بأغلبية ساحقة، على أن التحالف الذي لا يهدف إلى استرجاع السيادة الوطنية لا مآل له سوى الفشل وحددت أيام (12 - 13) ولا (14 يوليو/تموز 1952)، لانعقاد المؤتمر الرابع لحزب الشعب الجزائري من أجل تقييم المراحل المقطوعة وإثراء برنامج الحزب على ضوء المتغيرات الجديدة ووضع الاستراتيجية الضرورية والملائمة لإنجاز المرحلة الجديدة. إن السيد ابن يوسف بن خدة الذي كان أميناً عاماً للحزب رأى أن الحاج مصالي، "بدلاً من مشاركة اللجان المختصة التي عينتها اللجنة المركزية لإعداد مشاريع النصوص التي تقدم للمؤتمر، وعوضاً عن الاهتمام بالمشاكل التي يعاني منها الحزب في المجالين المادي والبشري، فإنه قرر القيام بجولة عبر مختلف أنحاء البلاد رغم كل ماكان يمكنه أن ينجر عن ذلك من إجراءات

المؤتمر الرابع وبوادر الانقسام

العسف الإدارية. لكن الحاج مصالي الذي كان يدرك ما للاتصال المباشر بالجماهير الشعبية من بالغ التأثير على التعبئة والتجنيد، فإنه تجاوز رغبة أعضاء المكتب السياسي وشرع منذ الخامس عشر /أفريل/ نيسان سنة 1952 في زيارة الشرق الجزائري محدثاً بذلك وضعاً نضالياً جديداً جعل عامل عمالة قسنطينة يتخذ قراراً بطرده بعد أسبوع واحد فقط من بدء الجولة، ولم يبق في بوزريعة طويلاً حتى أخذ طريق الغرب الجزائري عبر الصومعة والبليدة وقصر الشلالة ومليانة والشلف التي وصلها يوم 14 مايو سنة 1952 وعلى الرغم من أنه في كل محطة كان يحرض الجماهير على الاستعداد لخوض معركة التحرير، فإن الإدارة الاستعمارية قد اختارت المحطة الأخيرة لاختطافه ونفيه إلى فرنسا حيث وضع في الإقامة الجبرية بمدينة نيورت Niort وقد كانت مدينة الشلف هي آخر بقعة في الجزائر تدوسها أقدامه لأنه سيظل منفياً وممنوعاً من العودة إلى أهله وذويه إلى أن وافته المنية سنة 1974. المؤتمر الرابع وبوادر الانقسام: لقد أدى نفي الحاج مصالي إلى تأجيل تاريخ انعقاد المؤتمر، وبعد كثير من الأخذ والرد ومشاورات بين أعضاء المكتب السياسي ورئيس الحزب وقع الاتفاق على أيام 4 - 5 و6 أفريل سنة 1953، وسبق ذلك مؤتمرات جهوية في كل من العاصمة وقسنطينة ووهران وتيزي وزوأشرف عليها السيدان حسين لحول وعبد الحميد سيدعلي. أما أشغال المؤتمر الرابع فقد جرت بمقر الحزب في رقم 2 شارع عمار القامة (شارتر سابقاً) وشارك فيها حوالي مائة مندوب يمثلون القواعد الحزبية والمنتخبين وسائر المنظمات الجماهيرية. يذكر السيد ابن يوسف بن خدة (117)، أن المناقشات اتسمت بحرية مطلقة وكانت، في كثير من الأحيان، قاسية على المكتب السياسي الذي تعرض لهجومات متعددة من أجل أعضاء اللجنة المركزية ومن رئيس الحزب ذاته وفي الجلسة الاختتامية صادق المؤتمرون على لائحةعامة (118) أكدت على أن الحزب تعرض، منذ سنة 1947، لتأثير عوامل داخلية وخارجية تسببت في ظهور نواقص يتحتم التصدي لها خاصة في الميادين التالية: 1 - في المجال الإيديولوجي حيث لابدمن بلورة التوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية انطلاقاً من المبادئ الآتية:

أ - الديموقراطية التي تجعل الشعب مصدراً للسيادة وشعارها بالشعب وللشعب. ب - النظام الجمهوري. ج - الازدهار الاقتصادي والعدالة الاجتماعية بواسطة إعادة تنظيم الفلاحة والإصلاح الزراعي وإنشاء صناعة تأخذ في الاعتبار إمكانيات الجزائر الحقيقية وضرورة تأميم وسائل الإنتاج الكبرى والتنسيق والتكامل بين اقتصاديات بلدان المغرب العربي. د - رفع مستوى المعيشة بواسطة الازدهار الاقتصادي والتوزيع العادل للدخل الوطني وحرية العمل النقابي. هـ - إجبارية التعليم وترقيته مع محاربة الأمية وجعل الثقافة الوطنية ملتحمة بالثقافة العربية الإسلامية. 2 - في المجال العقائدي حيث ينبغي تحديد الوطنية والثورية الجزائريتين وضبط وسائل الكفاح ومناهج العمل مع التركيز على بلورة الطابع الدفاعي والتحريري والديموقراطي للوطنية الجزائرية وعلى توضيح مبادئ العمل الثوري التي هي واقعية وليست يسارية. 3 - في المجال الاستراتيجي والتكتيكي حيث يوجد تحديد الأولويات والتحالفات في التعامل مع جميع القضايا. 4 - في المجال السياسي حيث لابد من تزويد الحزب بالوسائل المادية والبشرية التي تمكنه من تأدية دور فعال في الميدانين الداخلي والخارجي. أما خارجياً فيجب الالتزام بالحياد اليقظ وتمتين العلاقات الودية مع البلدان العربية والآسيوية وكذلك استئناف العمل في سبيل وحدة شمال إفريقيا. وأما داخلياً. فإن الحزب مطالب بالالتحام بالجماهير الشعبية قصد إشراكها في العمل النضالي وبالسهر أكثر على تربية المناضلين ورفع مستواهم الثقافي بالإضافة إلى انتهاج سياسة حكيمة للكادر. رفعت كل مقررات المؤتمر إلى رئيس الحزب من طرف أعضاء اللجنة (119) التي انتخبها المؤتمر لتتولى تشكيل اللجنة المركزية كما هو المعتاد. ويذكر السيد ابن يوسف بن خدة أن اللجنة المركزية تشكلت في مستهل شهر مايو 1953، ثم ظلت تنتظر اقتراح الرئيس بترشيح الأمين العام الجديد إلى غاية يوم 04/ 07/1953 (120) حيث كلف السيد مولاي مرباح بنقله

وتضمن إمكانية الاختيار بين كل من لحول وابن خدة ومزغنة. وبما أن السيد حسين لحول عبر عن تنازله حتى يبقى منسجماً مع قرار استقالته، فإن التنافس قد وقع بين السيدين مزغنة وابن خدة الذي لم ينتخب إلا في الدور الثاني. ومباشرة بعد الانتخاب كون الأمين العام الجديد قيادة جماعية اعترف، بعد أربعين سنة، أنه أخطأ خطأً فادحاً عندما لم يضمنها مولاي مرباح وأحمد مزغنة اللذين كانا يحظيان بثقة الرئيس المطلقة (121)، هذا التصرف الذي لم يكن مقصوداً منه سوى ضمان الفعالية للحزب هو الذي كان السبب المباشر في تفجير الأزمة بين الحاج مصالي وقيادة اللجنة المركزية. فالسيد مصالي رأى في ذلك الإجراء محاولة لعزله خاصة وأن لجنة الترشيحات كانت قبل ذلك، قد استبعدت من عضوية اللجنة المركزية كلاً من السادة: فيلالي، محفوظي، وعبد اللي الذين تبنى هو شخصياً ترشيحهم؛ هذا بالإضافةإلىنه لاحظ في برنامج العمل المقدم إليه من طرف السيد ابن خدة مجموعة من المشاريع التي كانت اللجان المركزية المختلفة قد رفضتها بإيعاز منه مثل المؤتمر الوطني الجزائري وسياسة التعاون بين المجموعتين الأولى والثانية على المستوى البلدي (122) لأجل ذلك كله تجاوز الأمانة العامة والمكتب السياسي وطلب من اللجنة المركزية السلطة المطلقة قصد تقويم الحزب وإصلاح ماقد تسرب إليه من الفساد؛ لكن اللجنة المركزية رفضت الاستجابة لرغبة الزعيم وبذلك دفعته إلى إعلان الحرب عليها متهماً بعض أعضائها أمثال السيد عبد الرحمن كيوان بالعمالة لجاك شوفالي الذي كان يقود جوق الإدارة الاستعمارية. لقد قررت اللجنة المركزية رفض السلطة المطلقة لرئيسها في شهر سبتمبر سنة 1953، وبعد ذلك بشهرين فقط، كان الحاج مصالي قد جند لصالحه كافة قسمات فدرالية فرنسا ثم كلف رجاله المخلصين وفي مقدمتهم مبارك فيلالي لتعميم مواقفه على القواعد الحزبية في داخل الوطن. وبمناسبة الذكرى السابع عشرة لتأسيس حزب الشعب الجزائري وجه نداء مباشراً إلى المناضلين يدعوهم، من خلاله، إلى التمرد على "الباشاوات" وقد فعل ذلك بعد أن قام في شهر يناير/كانون الثاني سنة 1954 بسحب ثقته من الأمين العام ومن المكتب السياسي بأكمله، وبعد أن أسس "لجنة الإنقاذ العمومية"، وأمر كل قسمات الحزب بأن تجمد الأموال وتقطع علاقاتها مع المكتب السياسي وبأن تتعامل فقط مع مولاي مرباح وأحمد مزغنة اللذين يمثلانه شخصياً. من هذا المنطلق، وخوفاً من أن تؤدي الأزمة إلى القضاء النهائي على

حزب الشعب الجزائري وما يجسده من آمال وطموحات شرعية، قام عدد من الإطارات بتأسيس اللجنة الثورية للوحدة والعمل. وقع ذلك في مدرسة الرشاد في النصف الثاني من شهر مارس (124)، وتعهد المؤسسون على أن يبذلوا قصارى جهدهم في سبيل الحفاظ على القوى الحية في صفوف الحزب وتوفير الشروط الملائمة لعقد مؤتمر وطني يضع حداً للخلاف ويعيد القطار إلى السكة. كانت اللجنة الثورية للوحدة والعمل مشكلة من أعضاء من اللجنة المركزية مثل حسين لحول وسيد علي عبد الحميد ومصطفى بن بولعيد وبشير دخلي ومن مسؤولين سابقين في المنظمة الخاصة مثل محمد بوضياف ومراد ديدوش ورابح بيطاط ومحمد العربي بن مهيدي. وبدأت نشاطها في اتجاه القواعد النضالية مستعملة جريدة " Le patriote" لشرح وجهة نظرها ولتعميم الفكرة التي تنوي تحقيقها؛ وعندما ارتفعت أصوات المصاليين متهمة المولود الجديد بالتحيز للجنة المركزية، انفصل أعضاء المنظمة الخاصة وراحوا يحضرون لإشعال فتيل ثورة أول نوفمبر، وكانت بداية التحضير بتأسيس ما قد اصطلح على تسميته بجماعة الاثنين والعشرين. •• • الهوامش:

_ هوامش (1) أنظر خاصة: Kaddach (Mahfoud), Histoire du Nationalisme Algérien , Question Nationale et politique Algérienne 1919 - 1951 TII P. 756 - Harbi (Mohamed), Le FLN Mirage et réalité, Paris, jeune Afrique 1980,p.34. (2) انخرط في صفوف نجم شمال إفريقيا سنة 1933، عضو اللجنة المديرة ثم عضو المكتب السياسي واللجنة المركزية لحزب الشعب الجزائري 1937 - 1954. (3) Mesban (Med Chafik), Idéologie politique et Mouvement National en Algérie 1936 - 1956, Alger 1981.p.166. (4) نفس المصدر، ص 165، علماً بأن الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري قد افتتح مؤتمره الأول بذلك التاريخ أيضاً. (5) المقصود هنا هي ثورة مايو 1945 التي تقرر إشعال فتيلها ليلة الرابع والعشرين من مايو ثم أعطي أمر مضاد بسبب وحشيةالقمع الذي سلطته السلطات الاستعماريةعلى سكان الشرق الجزائري خلال الأسبوعين الأول والثاني من ذات شهر. (6) مع الإشارة إلى أن العدد صدر في يوليو Oct 194 "La nation Algérienne

هوامش

_ (7) نفس المصدر. (8) القائمة التي ترأسها السيد الحاج مصالي كان شعارها "من أجل تحرير الشعب الجزائري"، ولما رفضتها الإدارة الاستعمارية لهذا السبب ولغيره، اقترح السيد إبراهيم معيزة أن يستبدل بالحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية وعندها ترأس القائمة كل من محمد خيضر وأحمدمزغنة وعلى الرغم من أن الرجلين سجنا عدة مرات قبل ذلك التاريخ، فإن القائمة لم ترفض. (9) كانت قائمة وهران برئاسة السيد حسين لحول وعضوية السيدين محمد معشاوي والهواري سويج أما قائمة سطيف فكان على رأسها السيد عبد الله فيلالي. وماتجدر ملاحظته هنا، هو أن حزب الشعب الجزائري كان قد قضى على الروح الجهوية ليس بالنسبة للمناضلين فقط ولكن حتى في أوساط الجماهير الشعبية. دليلنا على صحة ما نقول عمل الإطارات وترشحهم في غير مسقط رأسهم. (10) مصباح، ص:166. (11) دخل حزب الشعب الجزائري معركة الانتخابات في دائرتين من قسنطينة كان التنافس فيهما على خمسة مقاعد، نال ثلاثة منها. وفي دائرة العاصمة، حاز مقعدين بينما فاز ممثلو الإدارة بثلاثة. (12) في دائرة سطيف انتخب الشريف جماد عن الشيوعيين وابن علي الشريف عن الإدارة وفي دائرة وهران انتخب المكي بن رزوق والعربي غلام الله عن الإدارة، ومحمد مختاري عن الحزب الشيوعي بينما لم يسمح لحزب الشعب الجزائري بتقديم مرشحيه في الدائرتين بحجة عدم قابليتهم للانتخاب حيث سبق أن سجنوا لأسباب سياسية. (13) منشور حزب الشعب الجزائري المحفوظ بأرشيف مركز الدراسات العليا حول إفريقيا وآسيا في باريس بفرنسا (انظر ملف توبير). (14) على عكس مايزعم غيرنا من أن ذلك كان هوالمؤتمر الأول للحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية فالمؤتمر الأول والتأسيسي انعقد في نفس الوقت يوم 11/ 03/1937 ثم انعقد المؤتمر الثاني يوم 24 يوليو سنة 1938 وهو المؤتمر الذي قرر إنشاء اللجنة الخضراء التي أشرفت على تأسيس لجنة شمال إفريقيا للعمل الثوري. (15) تلك هي فترة الحظر الذي ظل مفروضاً على حزب الشعب الجزائري. أما الشهادات التي اعتمدناها فهي على التوالي: أ - لقاء مطول أجريناه مع السيد أحمد بودة بتاريخ 14/ 07/1982. ب - ثلاثة لقاءات مع السيد مسعود بوقادوم أيام 6 - 7 - 8 و9 فيفري سنة 1982 عندما كنا نعد كتابنا: الثورة الجزائرية في عامها الأول. ج - لقاء مع السيد حسين لحول بيوم 18/ 04/1984. (16) بدأ المؤتمرون أشغالهم في بوزريعة بمنزل المناضل مهدي عماري وفي اليوم الثاني انتقلوا إلى حي بلكور (بلوزداد حالياً) حيث اختتموا أشغال مؤتمرهم في مصنع للمشروبات الغازية تابع للمناضل مولود أم العين.

هوامش

_ (17) لقاؤنا مع السيد أحمد بوده بتاريخ 14/ 07/1982. (18) يقول السيد مسعود بوقادوم أن تعيين اللجنة جاء بعد أن رفض المؤتمرون إسناد المهمة لرئيس الحزب وحده وتتكون هذه اللجنة من السادة: الحاج مصالي، الأمين دباغين، حسين لحول، مسعود بوقادوم، عبد الله فيلالي وأحمد بوده (لقاؤنا مع السيد بوقادوم بتاريخ 18/ 04/1995). 19 - Benkhedda (Benyoucef), Les Origines du Ler Novembre 1954, Alger 1989. p128. 20 - Ait Ahmed (Hocine) , Mémoires d'un combattant, l'esprit d'indépendance, Paris 1983, p99. (21) ابن خدة، المصدر السابق، ص 129 وبوقادوم (لقاؤنا المشار إليه آنفاً). أما أعضاء المكتب السياسي المتفق عليهم فهم على التوالي: الحاج مصالي، حسين لحول، محمد الأمين دباغين، أحمد بوده، محمد بلوزداد، حسين آيت محمد، أمحمد بن سهل، مبارك فيلالي، شوقي مصطفاوي، مسعود بوقادوم محمد خيضر وأحمد مزغنة. (22) حزب جبهة التحرير الوطني، الطريق إلى نوفمبر، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر بدون تاريخ ص 31، وما بعدها وكذلك الدكتور محمد العربي الزبيري، الثورة الجزائرية في عامها الأول، دار البعث قسنطينة 1984، ص 78 ومابعدها ... (23) المنار، جريدة سياسية ثقافية، دينية حرة، من عددها الأول الصادر بتاريخ 29/ 03/1951 إلى عددها 51 الصادر بتاريخ فاتح جانفي سنة1954. (24) لقد وقع خطأ مطبعي في كتابنا: الثورة الجزائرية في عامها الأول إذ جاء في الصفحة 75 أن تاريخ الحل كان يوم 26/ 07/1939. (25) وضعت هذا المشروع حكومة السيد جورج بيدو التي دامت من شهر جوان إلى شهر نوفمبر 1946. (26) حديثنا مع الدكتور محمد الأمين دباغين (28 أكتوبر 1967). (27) انظر مداولات المجلس الوطني الفرنسي بتاريخ 20/ 08/1947. (28) نفس المصدر. (29) علماً أن المجلس الوطني الفرنسي صادق على قانون الجزائر التنظيمي بتاريخ (20/ 09/1947)، أي بعد انعقاد المجلس الوطني بأسبوعين أما نتائج الانتخاب فكانت كالآتي: 325 ضد 86 وامتناع النواب الشيوعيين الذين كان عددهم 163 وكذلك الجزائريين الذين كان عددهم 17. 30 - Kaddach (Mahfoud), Histoire du Nationalisme Algérien, Question Nationale et politique Algerienne 1919 - 1951 T II Agler 1980 p 781. (31) تشكيل اللجنة المديرة كما نشرتها جريدة المغرب العربي في عددها الصادر بتاريخ 15/ 09/1947 هي كالآتي: أحمد مزغنة، رئيساً - أحمد غرسي، نائبا أول - الصادق سعيدي، نائبا ثان للرئيس، حسين لحول، أميناً عاماً - محمد خيضر وخليفة بن عمار، نائبين للأمين العام، عيسى العبد اللي، أميناً للمال، محمد مستول، نائباً لأمين

هوامش

_ المال - الأعضاء الشاذلي بن عثمان، مسعود بوقدوم، جمال دردور، محمد الأمين دباغين، سويح الهواري. (32) انظر كل اللوائح في كولو، ص 262، ومابعدها. (33) انظر نص الرسالة في عدد المغرب العربي الصادر بتاريخ 13/ 10/1947. 34 - UDMA, Résolution de Politique générale volée par le congrés " Egalité" du 10 - 10 - 1947. (35) نفس المصدر. (36) الجزائر الجمهورية، عددها الصادر بتاريخ 16/ 10/11947. (37) أهم هذه الشعارات هي: "مع أوضد النظام الاستعماري" - "مع الأمة الجزائرية أو ضدها" - "مع قانون الجزائر التنظيمي أو ضده - "مع المجلس التأسيسي الجزائري أو ضده". (38) الحرية، عددها الصادر بتاريخ 23/ 10/1947. (39) هونائب قسنطينة السيد روني مايير الذي أشرنا إليه في دراستنا عن الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري. (40) انظر نص القانون مترجماً في كتابنا: الثورة الجزائرية في عامها الأول، الملحق رقم 5. (41) أسسه الجنرال ديغول سنة 1947 للقضاء على نظام الأحزاب ولتدعيم السلطة التنفيذية في فرنسا. (42) "الجمهورية الجزائرية" عددها الصادر بتاريخ 12/ 03/1948؟ 43 - Naegelen (Marcel Edmond), Mission en Algérie , Paris, 1965,p34. (44) حديثنا مع السيد مسعود بوقادوم في بيت السيد محمد الصالح بوسلامة بتاريخ 22/ 04/1994. (45) الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية، اللجنة المركزية للإعلام والتوثيق "انتهاكات حرية الانتخاب"، ص: 99. (46) نفس المصدر. 47 - Echo d' Algér , du 5 avril 1948. 48 - Echo d' Algér , du 22/ 23 mars 1948. (49) لقاؤنا مع السيد فرحات عباس في بيته بتاريخ 28/ 04/1982. (50) محفوظ قداش، ص: 804. (51) آخرون، ص 589. 52 - Harbi (Med) Aux origines du FLN le populisme révolutionnaire en Algérie , Paris 1975,, p35. 53 - Benkhedda (Benyoucet) , Les Origines du lex novemgre 1954 Edition Dahab , Alger 1989, p 169. (54) نفس المصدر

هوامش

_ (55) كان السيد كريم، في ذلك الوقت، قد عين حديثاً للإشراف على ولاية الحزب التي تشمل كافة المنطقة. 56 - Hamdan (Amar) Krim Belkacem, Le Lion des Djebels, Alger1993, p103. (57) كان المسمى رشيد علي يحيى هو الأكثر تمثيلاً لتلك العناصر. فقد كان من أسرة متجنسة وكان تكوينه فرنسياً بحتاً. وعلى الرغم من أنه لم يكن مناضلاً، فإن واعلي بناي عضو اللجنة المركزية وأحد مسؤولي المنظمة الخاصة بمنطقة القبائل، قد كتب من سجنة إلىمسؤول التنظيم أحمد بوده يوصيه بإرساله إلى فرنسا حيث شارك في أشغال مجلس فيدراليتها المنعقد في نوفمبر 1948 واستطاع أن يكون به عضواً بارزاً. (58) مصباح، ص: 179. 59 - L'Etoile Algérienne 20 Fevrier 1949. (60) كاتب وسياسي فرنسي (1809 - 1859)، زار أمريكا سنتي (1831 - 1959)، وألف عن "الديموقراطية في أمريكا" - وفي سنة 1956 كتب "العهد القديم والثورة" عين وزيراً للخارجية سنة 1949. (61) عاش مابين (1832 و1893 درس الحقوق ثم مارس المحاماة واشتغل بالسياسة. عين رئيساً لبلدية باريس يوم 16/ 11/1870 وفي سنة 1880 عين رئيساً للحكومة وبالموازاة احتفظ بوزارة التعليم العمومي التي وظفها إلى أقصى الحدود في سبيل ترقية الشعب الفرنسي وإرساء قواعد الاستعمار كان في أساس قوانين ذات أهمية بالغة مثل قانون حرية الاجتماع (يونيو 1881)، حرية الصحافة (يوليو 1881)، مجانية التعليم وإجباريته ثم لائكيته (1881 - 1882). (62) شفيق مصباح، ص 184. 63 - Harbi (Med) L'algérie et son destion croyant ou citoyens. Paris 1992. [74. (64) شفيق مصباح، 184. 65 - Ageron (Charls Robert). La France at - elle eu une politique kaby le "in Revue Historique, n454. 1960, p . 326. (66) علىغرار ذلك كان المتآمرون يهدفون إلى تأسيس حزبين آخرين هما: حزب الشعب الشاوي PPC وحزب الشعب الميزابي PPM ، لكن يقظة المناضلين حالت دون تنفيذ هذا المشروع الذي يدل دلالة قاطعة على أن التآمر خارجي وهو يهدف إلى تقسيم الجزائر قصد إبقائها تحت نير الاستعمار مهما كان شكله. (67) شفيق مصباح، ص 188. (68) نفس المصدر. (69) المغرب العربي، عددها الصادر بتاريخ 02/ 05/1949.

هوامش

_ (70) بن العقون (عبد الرحمن)، الكفاح القومي والسياسي من خلال مذكرات معاصر، الفترة الثالثة 1947 - 1945، الجزائر 1986، ص 112. (71) من أبرز هؤلاء نذكر على سبيل المثال الدكتور صادق هجرسي الذي سيشغل منصب الأمين العام للحزب الشيوعي الجزائري، وعبد الحميد بن زين الذي ظل، مدة طويلة، أميناً وطنياً ومديراً لمنشورات الحزب وعمر أو صديق وآخرون. (72) نذكر خاصة الشهيد عيسان إيدير المؤسس الفعلي للاتحاد العام للعمال الجزائريين، ورابح جرمان الذي سير المركزية النقابية سنوات طويلة بعد استرجاع استقلال الوطني وبوعلام بوروية ونور الدين اسكندر ... (73 - 78) كلهن واصلن النشاط في إطار جبهة التحرير الوطني. وبعد استرجاع الاستقلال الوطني ساهمن بفعالية في تنشيط الاتحاد الوطني للنساء الجزائريات الذي ترأسته الدكتورة نفيسة حمود إلىغاية التاسع عشر جوان سنة 1965. (79) عضو اللجنة المركزية لحزب الشعب الجزائري سنة 1950. داهمته الثورة وهو في القاهرة فانضم إلى جبهة التحرير الوطني وأصبح ممثلاً لها في نيويورك، ومع تأسيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية يوم 19/ 09/1958 عين وزيراً للأخبار وهو المنصب الذي ظل يشغله إلى غاية استرجاع الاستقلال الوطني. انتخب نائباً بالمجلس الوطني (1962 - 1965) بعدها عين سفيراً في بيروت ثم سفير الجامعة العربية في باريس عضو اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني منذ سنة 1979. (80) نذكر على سبيل المثال ثانوية بيجو التي تميز فيها عبد الرحمن كيوان ومحمد ساطور، وثانوية ابن عكنون التي أعطت للحزب على العيش وحسين آيت أحمد وعمر أو صديق، والمدرسة الفرنسية اسلامية التي تميز فيها كل من بوزيان ومحفوظي وفروخي وابن سهل وآخرون. (81) انتخبت الجمعية العامة السيد محمود بوزوزو رئيساً، وعمر لاغا نائباً له في حين انتخب محفوظ قداش أميناً عاماً وحمدان بن عبد الوهاب أميناً للمال. (82) على سبيل المثال: مولودية الجزائر، والاتحاد الرياضي الإسلامي وشباب بلكور في العاصمة ومولودية قسطنينة ومولودية وهران الخ ... (83) بلدية روينة في وادي الشلف، وبها تقع مزرعة والد جيلالي بلحاج المفتش العام المكلف بالتدريب العسكري وبقسم المفرقعات في المنظمة الخاصة. (84) ألقي عليه القبض في مستهل شهر مارس سنة 1950 فضعف تحت تأثير العذاب، واعترف بمسؤولياته داخل المنظمة الخاصة، ويذكر السيد حسين لحول أنه تحول منذ ذلك الحين إلى عميل للإدارة الاستعمارية. (85) انظر تقرير السيد حسين آيت أحمد إلى الدورة المذكورة وقد نشر السيد محمد حربي مقتطفات منه في "جبهة التحرير الوطني: الواقع والسراب"، ص: 50، ومابعدها. (86) المصدر نفسه. 87 - Mahsas (Ahmed), Le mouvement révolutionnaire Algérien de la premiére guerre.

هوامش

_ mondiale à 1954. Paris 1979, p 275 (88) التحق بصفوف حزب الشعب سنة 1942 وأصبح عضواً باللجنة المركزية على إثر مؤتمر فيفري 1947، التحق بصفوف جبهة التحرير الوطني لكن قيادة الثورة أعدمته لمواقفه مما يسمى بالأزمة البربرية. (89) لقاؤنا مع السيد أحمد بودة في بيته بتاريخ 24/ 04/1983. (90) انظر جريدة "حزب الشعب الجزائري L'Algérie Libre" في عددها الرابع الصادر يوم 1/ 12/1946 على خلاف السيد محمد حربي الذي أورد في كتابه Aux origines du FLN، ص 38 أن الدكتور محمد الأمين دباغين تم فصله يوم 02/ 12/1949. (91) لقد وضعنا هذا الرسم اعتماداً على لقاءاتنا المتكررة مع الأعضاء القيادين أمثال أحمد بودة ومسعود بوقادوم ود/محمد الأمين دباغين وحسين بن الميلي وحسين لحول، وبالرجوع كذلك، إلى المصادر التي استقينا منها بعض المعطيات. (92) نص القسم كما تلاه على السيد أحمد بودة وهو:"أقسم بالله العلي العظيم أن أعمل بكل ما أملك في هذه الدنيا لتحرير الجزائر، وأن أضحي بالنفس في سبيل الحزب وأن لا أخون أسراره". (93) انظر نص الوثيقة في كولو، ص: 33. (94) مصباح، ص:128. (95) المصدر نفسه. (96) يذكر السيد محمد بوضياف أن هذا العدد يتراوح مابين 1000 - و1500، انظر "الجريدة" في عددها 15 الصادر في نوفمبر/ديسمبر 1974، أما السيد أحمد بودة فيقول أن محمد بن الوزداد أكد له أن صفوف المنظمة الخاصة كانت في سنة 1948 تضم مابين 1500و1750 مناضلاً (لقاؤنا مع بودة يوم 23/ 04/1984). (97) حتى في المستشفى لم يتوقف محمد بن الوزداد عن مواصلة النشاط، وقد توفي في شهر جانفي سنة 1952 عن عمر لم يتجاوز 28 سنة. (98) لقد شكلنا هذا الرسم وجمعنا معلوماته من مختلف اللقاءات التي أجريناها مع مسؤولي الحركة الوطنية ومن كتابات السادة: أحمد محساس، امحمد يوسفي، ابن يوسف بن خدة، محمد حربي، ومحفوظ قداش. (99) هناك تناقض ورد في أطروحة السيد محفوظ قداش حول المدة التي بقيها حسين آيت أحمد قائداً للأركان. ففي الصفحة 777 يذكر أن بن الوزداد قاد المنظمة الخاصة إلى غاية عام 1948 وفي الصفحة 974 يشير إلى أن آيت أحمد تولى قيادة المنظمة ابتداء من سنة 1974 وهذا غير صحيح. (100) حربي، جبهة التحرير الوطني، ص 42. (101) وقعت صباح يوم 05/ 04/1949 وشارك في تنفيذها كل من سويداني بوجمعة وأحمد بوشعيب ومحمد علي خيفر وعمر حداد وجلول بختى نميش، وتولى نقل الأموال

هوامش

_ المغنومة إلى العاصمة السيد محمد خيضر مكلفاً من طرف الأمين العام السيد حسين لحول. (102) بعد أن حقق حزب الشعب الجزائري انتصارات ظاهرة في الانتخابات البلدية التي جرت في أكتوبر 1947، قررت الإدارة الاستعمارية تنظيم أعمال القمع ضد إطاراته ومناضليه، وقد وظفت لهذا الغرض، في منطقة القبائل الباشاغا آيت علي الذي جند مجموعة من المرتزقة المسلحين يقودهم المدعو أو قارة وكان دوار الريش بنواحي البويرة هو أول الأماكن المستهدفة ولما كثرت شكاوي المناضلين أصدر المكتب السياسي. أوامره إلى المنظمة الخاصة التي قضت على اثني عشر من المرتزقة في عملية واحدة، ثم لاحقت مسؤولهم وأعدمته في قصباء العاصمة. (103) عندما كثر الثائرون في مختلف مناطق البلاد، كلف الحزب المنظمة الخاصة بالإشراف عليهم، فتولى العملية مصطفى بن بولعيد في الأوراس وأحمد بن بلة في الغرب الجزائري. (104) سارت العملية كما ينبغي بقيادة محمد مروك، لكن التمثال لم ينسف بسبب فساد الفتيل الذي أتى عليه البلل. (105) للقيام بهذه العملية، عينت قيادة الأركان مجموعة من المناضلين يقودها مراد ديدوش وتتكون من عمار بن مصطفى بن عودة، محمد بن زعيم وعبد الباقي بكوش. (106) "الجزائر الحرة"، العدد الصادر يوم 15 ماي 1950. (107) جذور أول نوفمبر 1954، ص 150، ومابعدها. (108) انظر على سبيل المثال: (Alger Républicain) في أعداده الصادرة في شهر أفريل سنة 1950 وكذلك محاضر مداولات مجلس العموم لعمالة قسنطينة في دورة أفريل 1950 وكذلك البيانات الصادرة عن اللجنة الجزائرية لاتحاد المسيحيين التقدميين. (109) لمواجهة الانتخابات التشريعية المزمع إجراؤها بتاريخ 17/ 06/1951. (110) محمد حربي، 84. (111) لقاءنا مع السيد أحمد بودة. (112) من بين أولئك الأعضاء، عبد الرزاق شنتوف، سعيد عمراني والحاج شرشالي. (113) جاءت التشكيلة الجديدة خالية من السادة مصطفاوي ومن تبعه. وبينما يذكر السيد ابن خدة أن عدد أعضائها 27، فإن السيد محمد حربي يعدد 25، فقط، وذلك بالإضافة إلىتناقض في القائمتين انظر حربي ص 406، وابن خدة ص 332. (114) حربي، ص 87. (115) نفس المصدر، لكن ابن خدة في كتابه، ص 197، يذكر أنه هو الذي سافر إلى باريس للقائه، ولا يقول شيئاً عن التعليمات. (116) تأسست رسمياً يوم 05/ 08/1951. (117) ابن خدة، ص: 221.

هوامش

_ (118) انظر نص اللائحة في وثائق المؤتمر. (119) هؤلاء الأعضاء هم السادة: حسين لحول وابن يوسف بن خدة ومولاي مرباح وأحمد مزغنة أما رئيس اللجنة المنتخب فهو السيد الحاج مصالي نفسه. (120) ابن خدة، ص: 225. (121) نفس المصدر، ص: 226. (122) صاحب هذه السياسة هو المحامي عبد الرحمن كيوان الذي اختاره السيد ابن يوسف بن خدة ليكون واحداً من مساعديه المقربين. (123) أي في أواخر شهر ديسمبر سنة 1953. (124) يوم 23 مارس 1954 حسب جميع الروايات. ••••

الفصل السادس: جمعية العلماء المسلمين

الفصل السادس: جمعية العلماء المسلمين

على الرغم من أن إطارات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين قداستفادوا جميعهم من قرار العفو الشامل الذي أصدرته الحكومة الفرنسية يوم 16 مارس سنة 1946، فإن الإدارة الاستعمارية لم تطلق سراح البصائر إلى سنة ... 1947 (1) ومع ظهور العدد الأول، بدأ الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ينشر البرنامج الإجمالي للحركة وذلك بعد أن مهد له بتقييم إضافي للمراحل المقطوعة قبيل الحرب الامبريالية الثانية وبعيدها. إن أول أهداف الجمعية بلا منازع إنما هو تعليم اللغة العربية "التي لها على الأمة حقان أكيدان كل منهما يقتضي وجوب تعلمها فكيف إذا اجتمعا، حتى من حيث أنها لغة دينها وحق من حيث أنها لغة جنسها" (2). لأجل ذلك فإن جمعية العلماء تسعى، بشتى الوسائل، لحمل الإدارة الاستعمارية على إلغاء القرارات العسفية التي ظلت تعرقل التعليم العربي واستبدالها بقانون "يكون للأمة رأي فيه" (3)، ويساعد على إيجاد الظروف الملائمة لنشر اللغة العربية بكل حرية قصد ترقية المجتمع الجزائري. وبما أن الإعلام وسيلة أساسية لتثقيف المواطن وتكوين الرأي العام، فإن الجمعية قد جعلت من أهدافها، أيضاً الاستماتة في النضال من أجل إلغاء مرسوم شوطان (3) الذي يجعل اللغة العربية أجنبية في الجزائر، وتباعاً، فإنه يعامل الصحافة الصادرة بها كصحافة غير وطنية تخضع للمضايقات وللرقابة المشددة. وكتدعيم للمدرسة وترويج لما تنشره الجريدة، اختارت جمعية العلماء الجزائريين إقامة النوادي عبر مختلف أنحاء الوطن، ولتسيير تلك المؤسسات التربوية والترفيهية قررت إدارة الجمعية أن يتولى المشرفون على النادي بيع المشروبات الحلال بأسعار معقولة، لكن الإدارة الاستعمارية حاربت ذلك الإجراء وأصدرت من القرارات مايمنع بيع أي مشروب في النوادي، الأمر الذي جعل الجمعية تدرج ضمن مساعيها الأساسية المطالبة بإلغاء قرار المنع ويجعل تسيير النوادي والإشراف عليها من اختصاص لجانها فقط. ونظراً لمكانة المساجد وأوقافها بالنسبة للدين الإسلامي، ولأن الاستعمار الفرنسي قام، منذ بداية الاحتلال، بالتركيز على اغتصابها والاستحواذ على معظمها، فإن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين قد جعلت من أهدافها المطالبة

بإرجاع المساجد المحولة إلى كنائس أو متاحف وبتحرير الأوقاف من السيطرة الأجنبية وتمكينها من تأدية الدور الاجتماعي والثقافي الذي وجدت من أجله، ففي هذا الإطار ارتأت الجمعية التركيز على النضال في سبيل تطبيق ... القانون (4) القاضي بفصل الدين عن الحكومة وبالموازاة مع إعادة تأهيل المسجد والأوقاف، يقوم رجالات الجمعية بتطهير الدين من كل ما علق به من شوائب وبمحاربة التشويه والبدع وسائر أنواع الانحراف التي تفننت الإدارة الاستعمارية في تجذيرها على أرض الواقع الجزائري، كما أنها تعمل على تحرير القضاء وإعادة ربطه بالشريعة الإسلامية. وإذا كانت هذه الأهداف لاتخرج في مجموعها، عن إطار القانون الأساسي الذي تشكلت، بموجبه، جمعيةالعلماء المسلمين الجزائريين يوم 05/ 05/1931، فإن النشاط السياسي كمحور أساسي في برنامج عمل الجمعية يعتبر تجديداً يدعم الحركة الوطنية وتستنكره الإدارة الاستعمارية، ففي هذا السياق يقول الشيخ محمد البشير الإبراهيمي:"أن وراء السياسة شيئاً اسمه الكياسة، وهي خلق ضروري للسياسي، وأن السياسي الذي يحترم نفسه يحترم غيره مهما خالفه في الرأي، ومهما كان الخلاف جوهرياً، فإذا لزم النقد، فلا يكون الباعث عليه الحقد، وليكن موجهاً إلى الآراء بالتمحيص لا إلى الأشخاص بالتنقيص" (5). إن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ترى من واجبها السياسي أن تتصدى للإندماج في جميع مظاهره وتحارب العنصرية التي يغذيها الاستعمار ويستعملها سلاحاً حاداً لقطع أوصال الشعب الجزائري الواحد، وتقف ضد أمرية السابع مارس 1944، لما تنطوي عليه من دسائس ولأنها وسيلة إلى الاندماج وبالإضافةإلىذلك، فإن الجمعية تعمل، ضمن برنامجها السياسي، على تحرير المساجد والأوقاف ورجال الدين والقضاء الإسلامي والحج والصيام، وهي، لذلك مستعدة للجهاد بكل مافي وسعها من إمكانيات. وبمجرد أن تم انتخاب الجمعية الجزائرية واستقبلت في رحابها ستين نائباً جزائرياً مسلماً إلى جانب الستين من الفرنسيين المسيحيين واليهود، وجهت جمعيةالعلماء المسلمين الجزائريين نداء إلى المسلمين ليطلبوا من الحكومة الفرنسيةأحد أمرين: إما أن تدخل الدين المسيحي بكنائسه وأمواله ورجاله، والدين اليهودي ببيعه وأحباره وأوقافه تحت سلطتها بحيث لا يجري شيء إلا بأمرها وعلى ما يرضيها وإما أن تعامل الإسلام كما تعامل الدينين المذكورين خاصة وأن المسلمين ومعابدهم أكثر عدداً، ومن الواجب أن يكونوا هم القاعدة في

المعاملة والأصل في وضع الأحكام" (6). وللتصدي إلى هذا المسعى، وخوفاً من أن يجد السند اللازم لدى كل المنتخبين المسلمين، جندت الإدارة الاستعمارية عدداً ممن يسمون برجال الدين (7) وفي مقدمتهم المفتي الحنفي (8) فأعدوا تقريراً موجهاً إلى الجمعية الجزائرية يلتمسون فيه عدم الاهتمام بمطالب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ويزعمون أن تسعة ملايين من المسلمين لا يستطيعون المشاركة في انتخاب الجمعيات الدينية التي قد تتولى، بدورها، انتخاب المجلس الإسلامي الأعلى طبقاً للاقتراح الوارد في مذكرة الجمعية المؤرخة في الرابع من شهر أغسطس سنة 1944 والتي عالجناها بإسهاب في حديثنا عن فترة الحرب. ويقول الشيخ محمد البشير الإبراهيمي الذي نشر مقتطفات من التقرير المذكور إن هذا الأخير من وضع أساطين الإدارة الكولونيالية وهوعبارة عن قطعة فنية من التزوير لأنه يحمل تاريخ 21/ 03/1948 وهو موجه إلى أعضاء الجمعية الجزائرية المنتخبة يوم 04/ 04/1948. أما عن كون انتخاب الجمعيات الدينية والمجلس الإسلامي الأعلى عملية من شأنها أن تجر السياسة إلى المسجد، فإن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ردت عليها قائلة: "أن تسلط الإدارة الفرنسية على مساجدنا وأوقافنا - وهي لائكية - هوعين السياسة، وإسناد الوظائف الدينية إلى من تختاره وترتضيه هو رأس السياسة ووضع هذا التقرير باسم العاصمي هو ذنب السياسة، ولولا السياسة ماكان للمفتي الحنفي وجود" (9). وفي سنة 1949، وجهت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين كتاباً مفتوحاً (10) إلى رئيس الجمهورية الفرنسية (11) جاء فيه على الخصوص: 1 - أن الجزائر وطن تسعةأعشار من فيه رقيق زراعي وخدم صناعي مفروض عليه الحرمان من كل حق، وعشره العاشر سادة مفروضة لهم التمتع بكل حق، وبين الفريقين فريق انفصل عن الأول ولم يصل إلى الثاني وهو الذي ترونه. 2 - إن الدين الإسلامي مملوك للإدارة، تحتكر التصرف في مساجده ورجاله وأوقافه وقضائه. 3 - التعليم في هذا الوطن المسلم معطل بتعطيل المساجد، ومئات الآلاف من شباب المسلمين تتشوق إليه، والتعليم العربي في هذا الوطن العربي جريمة يعاقب مرتكبها بما يعاقب به المجرم من تغريم وتغريب

وسجن، ومدارسه تعاني من التضييق والتعطيل ألواناً متجددة، ورجاله عرضة في كل حين للمحاكمات في المحاكم الجمهورية التي تتسم بوسمتكم. 4 - إن الشعب الجزائري قد أصبح - من طول ما جرب ومارس - لا يؤمن إلا بأركان حياته الأربعة: ذاتيته الجزائرية، وجنسيته ولغته العربيتين، ودينه الإسلامي، لا يستنزل عنها برقي الخطب والمواعيد، ولا يبغي عنها حولاً، ولا بها بديلاً. 5 - إن الشعب الجزائري مريض يتطلع للشفاء وجاهل متوثب إلى العلم وبائس متشوق للنعيم، ومنهوك من الظلم مستشرف إلى العدالة، ومستعبد ينشد الحرية، ومهضوم الحق يطلب حقه في الحياة وديموقراطي الفطرة والدين يحن إلى الديموقراطية الطبيعية ولكنه ليس كما يقال عنه: جائع يطلب الخبز فإن وجده سكت. 6 - لا يسيغ منطق ولا عقل كيف تكون الوحدة بين سيد وبين مسود، وكيف تتصور بين حاكم مزهو بعصبية جنسية تظاهرها عصبية دينية وبين محكوم؟ وكيف تتفق في وطن ساكنوه صنفان وقوانينه صنفان؟ وكيف تتم في بلد كنيسته حرة وبيعته حرة ومسجده مستعبد؟ إن المتمعن في محتوى هذه الوثيقة يدرك، بكل سهولة، أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لم تعد تكتفي بالبرنامج المسطور في قانونها الأساسي، بل إن تجربتها الطويلةفي مجالات التربية والتعليم والإصلاح الديني قد جعلتها تدخل عالم السياسة لعلمها بأن الإصلاح لا يستقيم إلا إذا كانت السلطة وراءه، ولا سلطة إلا لمن كان في الحكم، لأجل ذلك، نراها تتعمد توضيح مجموعة من المفاهيم التي يأتي في مقدمتها العدل الذي هو أساس الملك والحق في الحياة الذي نعبر عنه اليوم بحقوق الإنسان، والديموقراطية التي تتنافى مع الممارسات الاستعمارية وتعريف الشيوعيين الجزائريين لها. (12). وإذ تدعو إلى التمسك بهذه المفاهيم بعد توضيحها وإلى التركيز على ما أسمته بالأركان الأربعة لحياة الشعب الجزائري، فإنها لم تتردد في الجهر بمعاداتها للاتحاد الفرنسي الذي يتناقض مع العقل والمنطق إذ لا يمكن للمظلوم المستبد به أن يتحد مع ظالمه والمستبد به. ومما لا ريب فيه أن مناهضة فكرة الاتحاد الفرنسي تعتبر موقفاً سياسياً داعماً لموقف حزب الشعب الجزائري الذي يرى أن الحل الوحيد للمشكل الجزائري إنما يكمن في استرجاع الاستقلال

الوطني كاملاً غير منقوص، فذلك وحده هو الذي يعيد الاعتبار للإنسان الجزائري ويعيد الحرية للمسجد ويعتق الأوقاف التي تضمن حرية الفكر وازدهار الثقافة. وخصص الشيخ محمد البشير الإبراهيمي سنة 1950 كلها لتعميم ايديولوجية جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي يمكن تلخيص منطلقاتها في العمل على تحرير المجتمع الجزائري من آثار الغزو الاستعماري الذي جند أربع وسائل لتقويض أركان الدولة الجزائرية التي كانت قائمة قبل اتفاقية الخامس من يوليو سنة 1830. تتمثل الوسيلة الأولى التي عمد إليها الاستعمار لإلغاء الدولة الجزائرية وحذفها من رقعة الخلافة الإسلامية في الجندي الذي يعبر عن القوة العسكرية التي تعتبر "أخف الأسلحة فتكاً وأقصرها مدى". (12). أما الوسيلة الثانية فهي الطبيب الاستعماري الذي جيء به إلى الجزائر"، ليداوي علة بعلل، ويقتل جرثومة يخلق جراثيم ويجرب معلوماته في أبناء الجزائر كما يجربها في الأرانب". (13). ويمثل المعلم الاستعماري الوسيلة الثالثة التي اعتمدتها فرنسا "لتفسد على أبناء المسلمين عقولهم، وتستنزلهم عن لغتهم وآدابهم وتشوه لهم تاريخهم وتقلّل سلفهم في أعينهم وتزهدهم في دينهم" (14) ثم تأتي الوسيلة الرابعة ممثلة في الراهب "يفتن المسلمين عن عقائدهم ويشككهم بتثليثه في توحيدهم". (15). "إن الاستعمار القائم على الجندي والمعلم والطبيب والراهب هيكل حيواني يمشي على أربع ... وأن الاستعمار قد قضى بواسطة هؤلاء الأربعة علىعشرة ملايين من البشر، فرمى مواهبهم بالتعطيل، وعقولهم بالخمود، وأذهانهم بالركود، وأفكارهم بالعقم" (16). ولكي تتصدى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين للنتائج المتوخاة من استعمال كل هذه الوسائل، فإنها جندت جميع إمكانياتها المادية والبشرية لتمنع الاستعمار الفرنسي من تكوين الإنسان الجزائري الذي يكون مقطوع الأسباب من جميع المسلمين ومن تكوين سلك للرهابنة يمتهنون لتوظيف الدين من أجل تأبيد الاستعمار. وفي هذا الصدد كتب الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في افتتاحية البصائر الصادرة في عددها الخامس بعد المائة: "واضيعتاه! ... وواذلاه! ... أفي الوقت الذي تتشوق فيه الأمم المتحدة كلها إلى نيل حقوقها السياسية، وحريتها وحقها في الحكم الذاتي والتصرف المطلق، وفي

الجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية واحترامها

الوقت الذي يتفق فيه مجلس الأمم المتحدة على تحرير سبعين مليوناً من جزر الهند الشرقية من الاستعمار الهولندي، وعلى تحرير القطر الليبي ... في هذه الظروف التي أصبح فيها طعم الاستعمار المادي الحلو اللذيذ مراً كريهاً حتى في حلوق غلاة الاستعمار، يبقى الدين الإسلامي بمعابده وأوقافه ورجاله مستعمراً مستعبداً في الجزائر وحدها". هكذا، أصبح نشاط جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ملموساً في مجلسين السياسة والإصلاح بشقيه التربوي والديني، ولقد جندت، لذلك، كل مالديها من إمكانيات بدءاً بأعمدة الصحافة وانتهاءً بالمسجد والنادي والمدرسة مروراً بالمناسبات الاجتماعية والأعياد الدينية والوطنية. وعلى الرغم من كل ذلك، فإنها لم تتمكن من تحقيق أهدافها المنشودة لأن الإدارة الاستعمارية قد تفطنت لما يمثله دور العلماء في توعية الأمة وإعدادها للمعركة الفاصلة، فراحت تسعى، بشتى الوسائل، لسد كل المنافذ في وجه المربين والدعاة. وحيث أيقنت جمعيةالعلماء المسلمين الجزائريين أن العمل الفردي مهما علا شأنه لا يجدي نفعاً مع تعنت الإدارة الاستعمارية واستماتتها في تهميش الشعب الجزائري وحرمانه من كل وسائل الرقي والتقدم، فإنها لجأت إلى الدعوة لاتحاد سائر الطاقات الحية في البلاد، وبسرعة كبيرة، وجدت الدعوة المذكورة طريقها إلى كل التشكيلات السياسية التي كانت تعاني، بدورها، من عسف الإدارة الاستعمارية وتبحث عن طريقة ناجعة للدفاع عن حق الشعب الجزائري في المشاركة بحرية في تسيير شؤونه بنفسه. الجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية واحترامها: في نهاية شهر يوليو/تموز سنة 1951 نشرت جريدة المنار بلاغاً صادراً عن "العلماء والاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري والحزب الشيوعي الجزائري والحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية". (17). مفاده أن التشكيلات المذكورة قد أنشأت لجنة تحضيرية لتكوين جبهة جزائرية للدفاع عن الحرية واحترامها وذلك بهدف الوصول إلى النتائج التالية: أ - إلغاء الانتخابات التشريعية التي جرت في 17/ 06/1951 والتي تولت الإدارة الاستعمارية خلالها تعيين أشخاص لا يمثلون جماهير الشعب الجزائري. ب - احترام حرية التصويت في المجموعة الانتخابية الثانية.

ج - احترام الحريات الأساسية أي: حرية الضمير، حرية الفكر، حرية الصحافة وحرية الاجتماع. د - محاربة القمع بجميع أنواعه والعمل على تحرير المعتقلين السياسيين وإلغاء الإجراءات العسفية المتخذة ضد الحاج مصالي. هـ - إنهاء تدخل الإدارة الفرنسية في شؤون الدين الإسلامي. لقد تأسست الجبهة، رسمياً، يوم 05/ 08/1951. تم الإعلان عن ذلك في قاعة سينما دنيازاد بالعاصمة. بتلك المناسبة ألقى رئيسها الشيخ العربي التبسي خطاباً جاء فيه على الخصوص: "هذه جبهة لا تسأل أحداً إن كان مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً، إنما تسأله هل هو مناضل في سبيل الحق، مكافح في سبيل الحرية ... ولو كانت لنا حكومة إسلامية بقطر الجزائر لما وجدت بيننا فروق ولما وقع التباين بين أحمد وموريس ولا بين فاطمة وماري". (18) وبديهي أن الدارس يستشف من خلال هذه الجمل السبب الرئيسي الذي جعل ظهور الجبهة يبدو للرأي العام وكأنه مفاجئ. فالمؤسسون للجبهة كلهم معنيون بالأهداف الخمسة المذكورة أعلاه. وبالتالي فإن استجابتهم لنداء التأسيس لم تتطلب أي جهد ولم تفرض على أحد التنازل عن أي شيء، بل إن الجميع قد وقع، بدرجات متفاوتة، ضحية استبداد الإدارة الاستعمارية وتزييف الانتخابات على جميع المستويات. وبعد أسبوعين من تاريخ التأسيس، دعت رئاسة الجبهة إلى مهرجان شعبي انعقد في الملعب البلدي بحسين داي يوم 19/ 08/1951 وحضره آلاف الجزائريين. (19). وبتلك المناسبة ركز الشيخ العربي التبسي وهو يخاطب الجماهير الشعبية، على ضرورة فصل الدين عن الحكومة واستنكر على الإدارة الاستعمارية معاملتها الشاذة للإسلام والمسلمين. ومما جاء في خطابه: "أيها الملأ الكريم! مضى قرن وبعض قرن والحكومة معتدية على الديموقراطية في شخص الديانة الإسلامية، ساخرة بأصولها، عابثة بمقدساتها، مستخفة بأصولها وفروعها" (20). وفي إطار نشاط الجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية واحترامها، ساهمت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في تعبئة جماهير الشعب حول مطلب تقرير المصير، وشاركت في كثير من المهام التي لها علاقة مباشرة بحماية حقوق المواطنين ومصالحهم، ويأتي في مقدمة تلك المهام العمل الجماعي الذي أنجزه وفد الجبهة الذي انتقل إلى ناحية أريس من أجل التحقيق في أعمال العنف

والإرهاب التي تعرض لها سكان القرى المكونة للناحية بسبب معارضتهم لمحاولات التزييف التي قامت بها الإدارة الاستعمارية بمناسبة انتخابات 17/ 06/1951. (21). وفي يوم 30/ 09/1951 عقدت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين مؤتمرها الثاني بعد انتهاء الحرب الامبريالية الثانية، وقد كان التقرير الأدبي الذي قدمه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي مشتملاً على ثلاثة محاور هي: المشروعات والمواقف والنصائح، أما البيان الختامي فقد ألقاه الشيخ العربي التبسي وجاء فيه على الخصوص:"إن جمعية العلماء لجميع الجزائريين المسلمين الذين تجمعهم لغة واحدة وعقائد واحدة. وهي تتمتع بعطف جميع الديموقراطيين لأنها تعترف بالديموقراطية وحقوق الإنسان. إذ الإسلام يقر العدالة الاجتماعية .. إننا مستعدون للمشاركة في النهضات السياسية، لأن السياسة تدخلت في الدين ولأننا نشاهد أن موقف فرنسا مع الإسلام في الجزائر موقف شاذ" (22). لم تغير جمعية العلماء المسلمين الجزائريين موقفها الأساسي، بل ظلت متمسكة بدورها في التربية والتعليم وفي الإصلاح الديني، واستطاعت، بعد الحرب الامبريالية الثانية، أن توسع نشاطها إلى التراب الفرنسي نفسه حيث يعيش مايقرب من ربع مليون جزائري، وحيث حوالي عشرين ألف طفل في أمس الحاجة إلى الارتباط بدينهم ولغتهم. وكما أنها جندت جماهير الشعب لبناء المدارس الحرة ولبعث معهد الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس وفتح العديد من النوادي في مختلف أنحاء الوطن، فإنها استطاعت أن تنشر نفس الفكرة في أوساط المغتربين الجزائريين في فرنسا، لكن الإدارة الاستعمارية كانت لها بالمرصادومنعتها من تجسيد برنامجها على أرض الواقع خاصة فيما يتعلق بتمكينها، قانونياً، من شراء المحلات أو كرائها للتدريس أو للوعظ والإرشاد. وفي المجال السياسي، انتقل الشيخ البشير الإبراهيمي إلى باريس في مستهل شهر ديسمبر 1951 للمشاركة مع قادة التشكيلات الوطنية في الاتصال بالوفود العربية والإسلامية التي تحضر أعمال هيئة الأمم المتحدة (23) ولقد كان لوجود رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تأثير بالغ الأهمية في تحسيس كثير من الشخصيات العربية والإسلامية كما أنه اغتنم فرصة تواجده بالعاصمة الفرنسية ليكثف الاتصالات مع أبناء الجالية الجزائرية. وكان لوفد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين نشاط حثيث في المساعي الرامية إلى إقامة حفلة كبيرة احتفاء بالوفود العربية والإسلامية في يوم 08/ 12/1951. ولقد كان

عودة إلى فصل الدين عن الحكومة

في الحسبان أن يحضر هذه الحفلة مايربو على خمسين ألف جزائري" (24). لكن الحكومة الفرنسية قررت منع الحفل وأمرت بإلقاء القبض على ما يزيد عن ستة آلاف من الجزائريين، وهو الأمر الذي جعل الشيخ العربي التبسي - بصفته رئيساً للجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية واحترامها - يرسل برقية استنكار إلى "رئيس الوزارة الفرنسية" جاء فيها خاصة: "إن الجبهة تستنكر بشدة منع الحكومة الفرنسية للحفلة ... وتحتج ضد القرار الجائر الذي يمس من كرامة الدبلوماسيين العرب والمسلمين وتبدي عواطفها نحو هذه الوفود التي أثبتت تضامنها مع الشعب الجزائري" (25). عودة إلى فصل الدين عن الحكومة: أمام إلحاح جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ورغبة من الحاكم العام في إضفاء طابع الشرعية على سيطرة الإدارة الاستعمارية على الدين الإسلامي، بواسطة من وصفهم أوغستين بارك مدير الشؤون الأهلية" موظفين دينيين يسيطر عليهم الجهل المركب والطمع وعدم التهذيب ولا حد لرغباتهم في أن يحمدوا بما لم يفعلوا ... فعدم الكفاءة والمبالغة في الخضوع والانقياد هي الشهادات الوحيدة التي يمكن لهم أن يعتزوا بها" (26)، أحيلت مسألة فصل الدين عن الحكومة أمام الجمعية الجزائرية في تشكيلتها الجديدة التي أسفرت عنها انتخابات 1/ 06/1951. ولقد توجهت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلىعضاء الجمعية الجزائرية تحذرهم من أن يكونوا وسيلة في يد الحاكمية العامة التي تريد أن يكون رفض الفصل صادراً عن المنتخبين المسلمين أنفسهم. وعلى الرغم من أن الشيخ البشير الإبراهيمي لم يكن يعترف لأولئك المنتخبين بحقهم في تمثيل الشعب الجزائري بسبب ما كانت تمتاز به الانتخابات من تزييف وتزوير، فإن النداء الموجه إليهم قد كان صريحاً وواضحاً، جاء في ختامه"إن أقواماً قبلكم وصلوا إلى ما وصلتم إليه، وارتقوا على أكتاف الأمة إلى كراسي النيابة ولكنهم خانوا العهد وأضاعوا الحقوق، فسجل عليهم التاريخ خزي الأبد. فحذار، حذار أن تكونوا مثلهم (27). ولتذكيرهم بالطريقة التي وصلوا بها إلى ما وصلوا إليه، جاء في النداء: "إن من المناظر التي تثير العبر وتسيل العبرات في هذه الانتخابات أنكم كنتم ترون كما يرى الناس صندوقين للانتخاب في قرية واحدة أو شارع واحد يدخل

الأوربي إلى أحدهما منشرح الصدر، باسم الثغر، حرّ التصرف مطلق الإدارة والاختيار، فيعطي ورقته لمن يشاء، معتقداً أنه أدّى شهادة خالصة للحق لم يراع فيها إلا مصلحة جنسه ورضى ضميره ... ويدخل العربي إلى الآخر خائفاً وجلا منزعجاً، مسلوب الإرادة والحرية، لا يرى حوله إلا إرهاباً وسلاحاً وألسنة تتوعد، وأيديا تتهدد وأعينا ترمي بالشرر، فيعطي ورقته لمن يراد منه لا لمن يريد .. إن من يرى هذا المنظر لا يعجب إذا رأى بعد ذلك أن الفائزين في الصندوق الأول نواب وإن اختلفوا في المبادئ، وأن الفائزين في الصندوق الثاني نوائب وإن سموا أنفسهم مستقلين" (28). لكن الأعضاء المسلمين في الجمعية الجزائرية لم يكونوا مؤهلين للنظر في المسألة بغير المنظار الذي يريده الاستعمار، وبالإضافة إلى ذلك، فإن وجود الجمعية الجزائرية نفسه يتناقض مع فصل الدين عن الحكومة لأنه مؤسس على ضرورة تأبيد الواقع الاستعماري. لأجل ذلك، وعلى الرغم من نداء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ومن المقالات المنشورة على أعمدة المنار بأقلام مختلفة المشارب السياسية والمنطلقات الإيديولوجية، والداعية جميعها إلى وجوب تحرير الدين الإسلامي وتمكينه من استرجاع أوقافه ومساجده، فإن لجنة الديانة قد لجأت إلى المماطلة زاعمة على لسان رئيسها أن "التريث فيه مصلحة للقضية". (29). ومرت الدورة العادية ودار لقمان على حالها. وكتب الشيخ العربي التبسي بصفته النائب الأول لرئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين على أعمدة المنار في عددها الثالث عشر الصادر بتاريخ 12/ 12/1952، لو كان هؤلاء السادة من علماء الفقه الإسلامي لأسمعونا حكم الله في تأخير هذه المسألة وفي العبادات المعطلة انتظاراً لهذا الفصل، ولأسمعونا، أيضاً، حكم الله في الصلوات التي تؤدى في هذه المساجد قبل الفصل ... إن هذا التأخير اعتداء صريح متعمد على الشريعة الإسلامية وعلى معابدها". وإلى جانب كل هذا النشاط السياسي، فإن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لم تتوقف عن أعمالها التربوية، بل ماكاد يطلق سراح الشيخ محمد البشير الإبراهيمي على إثر العفو الشامل، بتاريخ 16/ 03/1946،حتى عادت المدارس التي كانت معطلة بقرار حكومي ونشطت النوادي وعمرت المساجد ومن جديد بعثت جريدة البصائر التي كان تعطيلها مع بداية الحرب بأمر من الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس نفسه.

قضية الاتحاد في الجزائر

وفي ظرف خمس سنوات فقط ارتفع عدد المدارس الابتدائية إلى حوالي أربعمائة يجلس على مقاعدها مايزيد عن مائة ألف تلميذ وتلميذة وهوعدد قياسي بالنسبة لإمكانيات الجمعية ونظراً لمضايقات الإدارة الاستعمارية. وفي سنة 1952 كلفت جمعيةالعلماء المسلمين الجزائريين رئيسها الشيخ محمد البشير الإبراهيمي السفر إلى المشرق يلتمس من الحكومات العربية منحا لبعثات الطلبة الجزائريين وإعانات مالية لتمكين الجمعية من مضاعفة نشاطها خاصة في مجالي التعليم والإصلاح الديني. وفي هذا السياق تجدر الإشارةإلىن الشيخ الإبراهيمي نفسه قد تحدث عن هذه المهمة أمام أعضاء ندوة الأصفياء (30) ولخصها على النحو التالي: أ - تمكين جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من إضافة مائة وخمسين مدرسة ابتدائية على الأقل كل خمس سنوات حتى يصل العدد إلى ألف كاملة. ب - بناء ثلاثة معاهد ثانوية للذكور واثنان للبنات كل خمس سنوات حتى تغطي الحاجة إلى استقبال خريجي المدارس الابتدائية. ج - معهدان كبيران على الأقل للمعلمين وواحد للمعلمات حتى تسد حاجة المدارس الابتدائية جميعها. قضية الاتحاد في الجزائر. وفي مستهل سنة 1953 عندما نظمت جريدة المنار استفتاءً واسعاً حول مسألة الاتحاد ولماذا لم يتحقق بين كافة القوى الوطنية في الجزائر رغم إيمان الجميع بضرورته من أجل جبهة واحدة ترمي إلى غاية واحدة بوسائل مختلفة، قامت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، من خلال أعضائها البارزين، بدور أساسي في تغذية العملية وتوفير أسباب نجاحها. أما الشيخ العربي التبسي فقد اغتنم تلك الفرصة ليقول: "إن الحالة بالجزائر لا تبرر تعدد الأحزاب فبقاء الأحزاب فيها إطالة لعمر الاستعمار. والاتحاد الشعبي هو الذي يستطيع أن يغير الحال في البلاد ... " (31) وأما الشيخ أحمد رضا حوحو فإنه سار في نفس الاتجاه، لكنه يضفي على الاقتراح طابع العلمية والمنهجية الصحيحة إذ يخلص، بعد تحليل مطول إلى أن الاتحاد الحقيقي هو الذي يبني على أساس شعبي متين تتقدمه دعاية واسعة يعتبر الاستفتاء فاتحتها، بعد ذلك يعقد مؤتمر شعبي يعيد الأحزاب إلى جادة الصواب الذي يعبّر عنه

قائلاً: "لقد أنشئت المبادئ لخدمة الأحزاب، وأنشئت الأحزاب لخدمة الوطن. لكن القضية انعكست عندنا. فالأحزاب أسست لخدمة مبادئها، والوطن يستغل لخدمة هذه الأحزاب. لقد أردنا أن تكون هذه الأحزاب وسائل فأصبحت غايات، وأردناها خادمة فأصبحت مخدومة. فضيق المبادئ الحزبية في ضيق النفوس كونت، كلها، أكبر العراقيل في سبيل الاتحاد" (32). وبينما كانت عملية الاستفتاء حول الاتحاد ووسائل تحقيقه في الجزائر تشغل بال أعداد كبيرة من المثقفين والمناضلين، عقدت اللجنة السياسية للجامعة العربية اجتماعاً خاصاً استمعت فيه إلى تقارير مندوبي المغرب الأقصى وتونس والجزائر عن الأحوال في كل قطر من الأقطار الثلاثة، وبتلك المناسبة طلب الشيخ محمد البشير الإبراهيمي من الجامعة العربية أن: "تعنى عناية خاصة بالقضية الجزائرية وتساعد الشعب الجزائري على الحصول على حقه في تقرير مصيره بنفسه". (33) •• • الهوامش:

_ هوامش 1 - مباشرة بعد العفو الشامل، استرخصت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لبعث البصائر من جديد وعلى الرغم من استجابة الإدارة الاستعمارية بسرعة إلا أن العدد الأول لم يصدر سوى سنة 1947 وذلك بسبب رفض الجهات المختصة تمكين إدارة الجريدة من الورق اللازم للطباعة، وبديهي إن ذلك نوع من العرقلة. 2 - الإبراهيمي (محمد البشير) "الحقائق العريانة" البصائر، العدد 1. 3 - 4 - المقصود هو قانون عام 1905 الذي جدد سنة 1907 والذي طبق على الدينين المسيحي واليهودي دون الإسلام الذي ظل تحت سيطرة الإدارة الاستعمارية. 5 - البصائر، عددها الرابع سنة 1947. 6 - البصائر، عددها 57 الصادر سنة 1948. 7 - أن الإسلام لا يعترف بالرهبانية لكن التقرير يركز على كون العهد التركي كان ينظم رجال الدين في سلك مستقل، وهذا غير صحيح ويمكن للدارس أن يراجع التاريخ.

هوامش

_ 8 - كان في ذلك الوقت هو الشيخ محمدالعاصمي. 9 - البصائر عددها 58 الصادر سنة 1948. 10 - انظر نص الرسالة المفتوحة على أعمدة البصائر في عدد 81 الصادر سنة 1949. 11 - يرى الشيوعيون الجزائريون في أدبياتهم التي ظلت سائدة إلى غاية سنة 1948 أن الشعب الجزائري لا يريد شيئاً آخر غير الخبز، فإذا وجده دخل الصف وانصاع للإدارة الاستعمارية. 12 - 15 - الإبراهيمي (محمد البشير) البصائر العدد 103 الصادر سنة 1950. 16 - نفس المصدر. 17 - المنار، العدد 6، الصادر بتاريخ 30/ 07/1951. أما الموقعون على البلاغ فهم: الشيخ العربي التبسي والشيخ محمد خير الدين عن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الدكتور أحمد فرانسيس والأستاذ قدور ساطور عن الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري، أحمد مزغنة ومصطفى فروخي عن الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية، أحمد محمودي وبول كاباليرو عن الحزب الشيوعي الجزائري. 18 - نفس المصدر، العدد 7 الصادر بتاريخ 15/ 08/1951. 19 - نفس المصدر، العدد 8 الصادر بتاريخ 31/ 08/1951. 20 - نفس المصدر. 21 - انظر تقرير الجبهة في الموضوع بجريدة المنار، عددها التاسع الصادر بتاريخ 05/ 10/1951. 22 - نفس المصدر. 23 - البلدان العربية والإسلامية المشاركة في تلك الدورة هي: المملكة العربية السعودية - العراق - مصر - اليمن - سوريا - لبنان - إيران - تركيا - باكستان وأندونيسيا. 24 - المنار، العدد 15 الصادر بتاريخ 21/ 12/1951. 25 - نفس المصدر. 26 - بارك (أوغستين) "العلماء والمرابطون" البحر الأبيض المتوسط، ج11 - جوليت/أوت1951. 27 - الإبراهيمي، (محمد البشير)، عيون البصائر، دار المعارف، القاهرة 1963، ص 192. 28 - نفس المصدر، ص 188. 29 - التبسي (الشيخ العربي) "قضية لا قاضي لها" المنار، العدد 13 الصادر بتاريخ 12/ 12/1952. 30 - هي جمعية كونها الشيخ محمد البشير الإبراهيمي بمجرد وصوله إلى القاهرة سنة 1952 وتضم في صفوفها مجموعة من قادة الفكر والسياسة والأدب والدعوة

هوامش

_ الإسلامية وقد كانت تعقد اجتماعاتها مساء كل يوم خميس في بيت واحد من أعضائها. 31 - المنار، السنة الثانية، العدد الصادر بتاريخ 6/ 2/1953. 32 - نفس المصدر. 33 - المنارة، السنة الثالثة، العدد 40 - الصادر بتاريخ 10/ 04/1953. ••••

الفصل السابع: موقف الشيوعيين من الحركة الوطنية الجزائرية وثورة نوفمبر 1954

الفصل السابع: موقف الشيوعيين من الحركة الوطنية الجزائرية وثورة نوفمبر 1954

في البداية، كان الحزب الشيوعي الفرنسي يضم في صفوفه كل الشيوعيين العاملين عبر مختلف أنحاء "الإمبراطورية" التي كانت مجزاة إلى اتحاديات أو فدراليات. وكانت أهم الفدراليات في الجزائر تلك التي يوجد مقرها بمدينة بلعباس الكائنة جنوب مدينة وهران على بعد حوالي أربعمائة كلم من العاصمة. ومن غرائب الصدف أن "سيدي بلعباس" هي في نفس الوقت مقر اللفيف الأجنبي الذي كان يضم جيشاً من المتطوعين الأجانب تأسس سنة 1831 لخدمة فرنسا وهو مكون أساساً من المشاة والمظليين ولم يغادر المدينة إلا عندما غادر الجزائر نهائياً سنة 1962. لقد كان الشيوعيون الجزائريون يسمون مدينة سيدي بلعباس: "مكة الحمراء"، وحينما قامت الأممية يوم 20/ 5/1922 بتوجيه نداء لتحرير الجزائر وتونس من أجل تقويض أركان الإمبريالية الفرنسية وضربها في الأعماق"، فإن اتحادية بلعباس قد نشرت لائحة صادقت عليها بالإجماع تعتبر فيها النداء" جنوناً خطيراً" وتدعو من خلالها إلى معارضة استقلال الجزائر لأن "سيادة آكلي لحوم البشر غير مرغوب فيها". وعلى الرغم من أن الكومنترن، على لسان تروتسكي، لم يتردد في إدانة اللائحة المذكورة ووصف الشيوعيين في بلعباس بتجار الرقيق، فإن قيادة هؤلاء قد ظلت متمسكة بآرائها القائلة "بأن تحرير البروليتاريا في شمال افريقيا لا يمكن أن يتم إلا بالثورة في الوطن الأم". ولم يكن موقف قيادة الحزب الشيوعي الفرنسي أفضل من ذلك، فهي ترى، على غرار الإدارة الاستعمارية، أن الجزائريين الأصليين (الأهالي كما كانوا يسمونهم) عاجزون عن تسيير شؤونهم بأنفسهم وغير أهل للاستقلال. ولم يحدث التغيير في استراتيجية الحزب الشيوعي الفرنسي إلا سنة 1935 وذلك من خلال الدورية التي وقع عليها السيد Jean Chaintron المدعو ... بارتيل (Barthel(1)) والتي تعرضت بصراحة للجبهة الفرنسية اليهودية ضد "الشعب العربي" ودعت إلى تكوين جبهة مضادة تفتح صفوفها لمن كان يطلق عليهم تسمية "الإصلاحيون الوطنيون" (يعني التيار الوطني بتشكيلتيه

المعروفتين). فالدعوة إلى تكوين جبهة مضادة بالكيفية المشار إليها أعلاه قد أحدثت خلافاً كبيراً في أوساط المثقفين الذين كانوا يعبرون عن التيارات السياسية السائدة في قيادة الحزب الشيوعي الجزائري الذي أسندت له مهمة "تعريب القواعد المناضلة" أي فتح باب الانخراط أمام العرب وهي التسمية التي كانت تطلق على الجزائريين الأصليين (2) ونتيجة لذلك أيضاً، نشر السيد نشمان ليست Nechman List كتاباً تحت عنوان "القضية الجزائرية" (3) يدعو من خلال صفحاته القليلة إلى "أنجاز الثورة الزراعية المناهضة للامبريالية والكفيلة وحدها بإعطاء الجزائر استقلالها وبتمكينها من تنمية قواها الإنتاجية التي كبلها الاستعمار". ففي تلك الأجواء التي تميزت بكثير من التردد حول الموقف الذي ينبغي اتخاذه حيال الجزائر المستعمرة وشعبها المضطهد، برزت أسماء مجموعة من القياديين الشيوعيين الذين يأتي في مقدمتهم السادة عمار أوزقان وابن علي بوقرط وقدور بلقاسم الذين نزلوا إلى ميادين العمل النضالي متشبعين بالأيديولوجية الشيوعية ومركزين على تحقيق هدفين أساسيين هما: السعي لإنجاح الجبهة الشعبية في إنجاز اصلاحاتها وخاصة منها مشروع بلوم فيوليت، والإسهام بفعالية في عقد المؤتمر الإسلامي وتمكينه من تحقيق أغراضه. أما مشروع بلوم فيوليت (4) فنوع من التنويم المغناطيسي الذي قدمته الإدارة الاستعمارية في شكل إصلاح سياسي يرمي إلى ترقية شريحة محدودة من المجتمع المسلم في الجزائر، لكنه، في الحقيقة، لم يكن سوى وثيقة تعطي حق الانتخاب فقط للجزائريين الذين يتوفر فيهم واحد من تسعة شروط (5) لا يمكن العثور عليها في أكثر من خمسة وعشرين ألف جزائري. وعلى الرغم من ذلك، ومن أن المشروع حظي بقبول أغلب التيارات السياسية بما في ذلك الشيوعيين الجزائريين والمنتخبين والعلماء المسلمين الجزائريين، فإن الكولون قد رفضوه رفضاً مطلقاً وتمكنوا في النهاية من تجميده وإفشاله. وأما المؤتمر الإسلامي فلا علاقة له بالمؤسسات الإسلامية كما قد يتبادر إلى الذهن، بل سمي كذلك لأنه دعي إلى الانعقاد للنظر في شؤون المسلمين أي سكان الجزائر الأصليين لأن مصطلح "الجزائريين" كان في ذلك الوقت مقصوراً على الأوربيين والمتجنسين بالجنسية الفرنسية. وفي مفهوم الإدارة الاستعمارية،

فإن الشعب الجزائري قد ولد فقط سنة 1889 عندما صدر القانون الذي يعطي الجنسية الفرنسية آلياً، لكل من يولد في الجزائر من أبوين أوربيين. ولقد انعقد المؤتمر في نفس الشهر والسنة اللذين تولى فيهما السيد بلوم رئاسة الحكومة الفرنسية، أي في الشهر السادس من عام 1936، وكانت أهم مطالبه إلحاق الجزائر بفرنسا وبالتالي إلغاء القوانين الاستثنائية والولاية العامة والمندوبيات المالية والمجموعات الانتخابية المزدوجة وذلك بالإضافة إلى تمكين كل الجزائريين من حق الانتخاب والترشح لجميع المناصب ومن التمثيل البرلماني كل ذلك مع الاحتفاظ بالأحوال الشخصية والاستفادة من قانون فصل الدين عن الدولة وحرية التعبير وتعليم اللغة العربية. وعلى إثر انتهاء أشغال المؤتمر رحل إلى باريس وفد رفيع المستوى من أجل تسليم لائحة المطالب المسطورة إلى الحكومة الفرنسية لكن وزير الدفاع السيد دالادي في ذلك الوقت قابل أعضاء الوفد بكثير من الاستخفاف ودعاهم لزيارة بعض مستودعات الأسلحة الثقيلة وعلى إثر ذلك قال لهم: "إن لفرنسا كل هذه المدافع وغيرها، وهي عازمة على استعمالها للدفاع عن نفسها في الجزائر" وكان لهذا التهديد أثره البالغ في نفس الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس فكتب بعد عودته مقالاً بعنوان: "مدافع ربي أقوى من مدافع فرنسا". ومن الجدير بالذكر أن نجم شمال افريقيا كانت هي التشكيلة السياسية الوحيدة التي رفضت المشاركة في المؤتمر الإسلامي، وأكثر من ذلك، فإنها جندت كل وسائلها الإعلامية لمحاربته وللتنديد بمطالبه التي وصفها السيد الحاج مصالي في ذلك الوقت بالاستعمارية والإمبريالية وهو ما جعل قادة الحزب الشيوعي الجزائري يتهمونه بالفاشية والتطرف خاصة عندما ألقى خطابه أثناء المهرجان الشعبي الذي انعقد يوم 2/ 8/1936 بالملعب البلدي في العاصمة لتمكين أعضاء الوفد العائد من فرنسا من تقديم عرض حال عن مهمته لأبناء الشعب الجزائري. ففي ذلك الخطاب دعا زعيم الحركة الوطنية الجزائرية إلى اعتبار مطالب المؤتمر عملاً مناقضاً للطبيعة وأكد على أن أرض الجزائر ليست للبيع وأن محاولة إلحاقها بفرنسا أمر مستحيل لن يكتب له النجاح لأن التربة ما زالت مبللة بدماء قوافل الشهداء. كان لخطاب الحاج مصالي وقع كبير في نفوس الحاضرين واستطاعت أفكاره الرئيسية أن تشق طريقها بقوة في ثلاث اتجاهات هي: ا - قيادة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي تفطنت إلى أن الإلحاق لا

يختلف عن الإدماج، وأن الحكومة الفرنسية لن توافق على ذلك لأسباب عرقية ووطنية وحتى لو وافقت، فإن الشعب الجزائري لا يمكن أن يكون فرنسياً. وللتعبير عن هذا الموقف الجديد كتب الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس قصيده المشهور الذي تحول بسرعة فائقة إلى نشيد وطني تردده سائر الشرائح الاجتماعية الرافضة للاستعمار، وللتذكير نورد الأبيات التالية: شعب الجزائر مسلم ... وإلى العروبة ينتسب من قال حاد عن أصله ... أو قال مات فقد كذب أو رام إدماجا له ... رام المحال من الطلب ب - المثقفون الوطنيون الذين كان محمد الذيب في مقدمتهم والذين راحوا يوظفون تلك الأفكار في كتاباتهم النثرية والشعرية. ج - الحزب الشيوعي الجزائري الذي اعتبرت قيادته الخطاب كله استفزازاً وتحريضاً على الانفصال الذي هو عمل فاشي ولا يخدم، من نظرها، سوى مصالح الإمبرياليين". وبالإضافة إلى ذلك، فإن السيد قدور بلقاسم الأمين الوطني للحزب كان يصرح في مناسبات عديدة: إن دعاة الانفصال أقلية وهم لا يمثلون سوى أنفسهم أو سادتهم كبار الكولون. أما المسلمون (يعني الجزائريين) فإنهم لا يريدون تطليق فرنسا خاصة بعد أن حققوا مبتغاهم واليوم، أكثر من أي وقت مضى، فإن وحدة الشعب في الجزائر وفي فرنسا ضرورية وستبقى كذلك (6). هكذا، ابتعد الحزب الشيوعي الجزائري عن توصيات الأممية التي كانت ترى أن تحرير الجزائر وتونس من شأنه أن يضرب الإمبريالية الفرنسية في الأعماق، ولن يتوقف الكفاح من أجل تحرير الجزائر إلا بعد انتصار العبيد" (7). وألغى من أدبياته "استقلال الجزائر" و"البرلمان الجزائري" وحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره بنفسه"، ليتمسك فقط بضرورة العمل على "اتحاد الشعب الجزائري مع شقيقه الأكبر الشعب الفرنسي"، وليبذل كل ما في وسعه لإنجاح برنامج حكومة الجبهة الشعبية من جهة ولتعميم مطالب المؤتمر الإسلامي من جهة ثانية. وقد جاء كل ذلك مجسداً في الشعار التالي "ليس أمامنا سوى طريق واحد يضمن الاتحاد في إطار المؤتمر الإسلامي الشعبي والتحالف مع الجبهة الشعبية، أي مع الشعب في فرنسا". في هذا السياق، وتطبيقاً لهذه السياسة، شرع قادة الحزب الشيوعي

الجزائري في شن حملة واسعة النطاق ضد نجم شمال افريقيا ولم يهدأ لهم بال حتى أقدمت حكومة الجبهة الشعبية على حلها في شهر يناير 1937 بتهمة "الدعوة إلى الانفصال والعمل على مناهضة فرنسا". وعندما استبدل النجم بحزب الشعب الجزائري يوم 11/ 3/1937، فإن الحملة العدائية قد وجهت ضد هذا الأخير الذي قالت عنه جريدة La Lutte Sociale إنه يخدم الفاشية العالمية بدعوته إلى استقلال الجزائر". ويفسر السيد الحاج مصالي عداء الشيوعيين بخيبة "الأمل التي أصابتهم نتيجة فشل مشروع بلوم /فيوليت وهو الأمر الذي أفقد حزبهم ثقة العمال الجزائريين وساعد، في نفس الوقت على انتشار مبادئ حزب البعث الجزائري والتفاف جماهير الشعب حول أكثرها وضوحاً وهو العمل على استرجاع الاستقلال الوطني" (8) لكن الحقيقة تكمن في كون الحزب الشيوعي الجزائري كان، فقط، مجرد بوق للحزب الشيوعي الفرنسي الذي كان يرفض عن قناعة كل عمل من شأنه أن يؤدي إلى انفصال الجزائر عما كان يسمى بالوطن الأم، وبعبارة أخرى، فإن وطنية الحزب الشيوعي الفرنسي لم تكن تسمح بتجسيد الفكر اللينيني فيما يتعلق بمستقبل الجزائر المستعمرة. لقد كان الشيوعيون الجزائريون، على غرار الشيوعيين الفرنسيين، يؤمنون بأن موسكو هي الشمس التي تسطع على عالم المستضعفين، لكنهم كانوا، في نفس الوقت، يرفضون عروبة الجزائر وإسلامها ويناهضون حزب الشعب الجزائري لأنهم لا يعترفون بوجود شعب واحد في الجزائر، ولأن برنامجهم السياسي يهدف بالدرجة الأولى إلى تحقيق الاندماج كحل جذري لقضية الاستعمار في الجزائر. وحتى في هذا التفكير الغريب، فإن الشيوعيين الجزائريين لم يكونوا سوى أمعيين ومعمعيين لأن السيد موريس توريز الأمين العام للحزب الشيوعي الفرنسي هو الذي جاء بفكرة الأمة الجزائرية في طور التكوين، وهو الذي قرر أن في الجزائر شعوباً متعددة وأجناساً مختلفة عدد منها: "البربر" والقرطاجنيين والرومان والعرب والأتراك واليهود واليونانيين والمالطين والألبانيين والإيطاليين والفرنسيين "ثم أكد أن العدد يصل إلى عشرين وأن "الجميع هم أبناء الثورة الكبرى التي لا تميز بين الأجناس والأديان والتي جعلت الجمهورية الفرنسية واحدة لا تتجزأ" (9). بهذه النظرة الجديدة للجزائر وبكل ما تتطلبه من مناهضة للحركة الوطنية

التي تهدف إلى بعث الدولة الجزائرية بعد استرجاع سيادتها، استقبل الشيوعيون الحرب الإمبريالية الثانية. فالجزائر، حسب الحزب الشيوعي الجزائري، ليست هي الجزائر التي اعتادت عليها فرنسا سنة 1831. **** اندلعت الحرب الإمبريالية الثانية إذن، بعد أن تراجع حكم الجبهة الشعبية وفشل مشروع بلوم/ فيوليت وبعد أن اندثر المؤتمر الإسلامي. وبينما كان موقف الحركة الوطنية الجزائرية من الأطراف المتحاربة واضحاً إذ أن الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس صرح وكتب على أعمدة الصحافة أن "لا ناقة لنا ولا جمل في هذه الحرب، وعلى الجزائريين أن لا يشاركوا فيها بأية طريقة كانت"، ووجه حزب الشعب الجزائري تعليماته إلى المناضلين والإطارات يدعوهم إلى رفض التجنيد في صفوف الجيش الفرنسي والهروب منها في حالة التواجد فيها، فإن الحزب الشيوعي الجزائري، رغم حله قانونياً وعودته للنشاط تحت اسم "جبهة الحرية" قد تخلى عن كل القيم النضالية وراح يدعو إلى تعبئة جميع الإمكانيات المادية والبشرية من أجل "تحرير فرنسا التي سقطت تحت ضربات النازية القاضية". ولقد دخل الشيوعيون الجزائريون فترة الحرب الإمبريالية الثانية مهزومين بسبب قرار الحل الذي ترتب عنه إلقاء القبض على عدد كبير من قادتهم الذين يأتي في مقدمتهم السيد قدور بلقاسم الانف الذكر، ومقسمين نتيجة استقالة بعض القادة الأساسيين أمثال ابن علي بوخرط (10) وانسحاب أعداد غفيرة من المناضلين الذين رأوا أن سياسة الحزب الشيوعي الجزائري لا تتماشى مع مصالح الشعب الجزائري، فهي تقف ضد توجهات حزب الشعب الجزائري الرامية إلى استرجاع الاستقلال الوطني وتخدم الإدارة الاستعمارية ممثلة في الجبهة الشعبية التي لم تقدم أي شيء إيجابي للجزائر. وعلى غرار معظم التشكيلات السياسية الفرنسية انضمت "جبهة الحرية" إلى المقاومة ضد حكومة فيشي "حتى لا تكون الجزائر مستعمرة نازية وفي سبيل الدفاع عن الفلاحين والشباب الجزائريين". وفي الحقيقة، فإن الشيوعيين الجزائريين أو من تبقى منهم مهيكلاً في التنظيم الجديد قد تخلوا، نهائياً، عن المبادئ اللينينية الماركسية ولبسوا عباءة الوطنية الضيقة التي تفرض عليهم الدفاع عن الإمبريالية والاستعمارية بحجة الدفاع عن حرية الشعب الفرنسي. ولأن الحركة الوطنية الجزائرية بفرعيها دعت أفراد الشعب الجزائري إلى

عدم المساهمة في الحرب إلا إذا تعهدت فرنسا في مقابل ذلك بالتخلي عن الاستعمار وتمكين الجزائر من ممارسة حقها في تقرير مصيرها، فإن الحركة الشيوعية قد اتهمتها بالخيانة وبالعمل في ركاب الفاشية والنازية. واعتقد الشيوعيون أن في استطاعتهم النفاذ إلى أوساط الجماهير الشعبية فرفعوا شعار الأخوة والعدل والمساواة زاعمين أن مشروع بلوم فيولات يحمل كل ذلك في طياته ومذكرين بأن المؤتمر الإسلامي كان قد وافق عليه وسعى لتجسيده على أرض الواقع. لقد كان الحزب الشيوعي الجزائري عاجزاً عن التفاعل مع قضايا الجماهير الشعبية وغير قادر على الارتقاء إلى مستوى الصراع الحضاري الذي لم يتوقف في الجزائر، منذ سنة 1830، لأجل ذلك، فإنه كان يرتكز في أدبياته، على أن مشكل الجزائريين لا يتعدى مسألتي الخبز والشغل، فإذا تمكنت الإدارة الفرنسية من أن توفر لهم ذلك من أن تكفيهم شر الاستبداد الذي يمارسه غلاه الكولون، فإنها ستضمن الهدوء والاستقرار من جهة وتجعلهم يقدمون، بمحض إرادتهم، على المشاركة الفعلية في التصدي للنازية من جهة ثانية. وحينما توحدت تيارات الحركة الوطنية حول "بيان الشعب الجزائري" الذي سلم للسلطات الفرنسية ولممثلي الحلفاء في الجزائر، والذي كان يدعو إلى الاعتراف بالمواطنة والجنسية الجزائريتين وإلى التعهد بتمكين الشعب الجزائري من تقرير مصيره بنفسه وبعث دولته المستقلة بعد استرجاع سيادته المغتصبة، فإن الحزب الشيوعي الجزائري قد اعتبر ذلك خيانة وجعل سياسته تتمحور حول المطالبة بتحسين الأجور وتطبيق المساواة فيما يتعلق بالحقوق الاجتماعية من جهة، وحول ما يسمى بالإصلاحات التي بشر بها مشروع بلوم فيوليت وتبنتها أمرية الجنرال ديغول من جهة ثانية (11). من هذا المنطلق، فإن الحزب الشيوعي الجزائري لم يكن سوى تابع للحزب الشيوعي الفرنسي الذي كان، منذ اندلاع الحرب الإمبريالية الثانية، شريكاً قوياً في حركة المقاومة التي تزعمها الجنرال ديغول، وبتلك الصفة لبس عباءة الوطنية الضيقة التي تسعى إلى استرجاع السيادة الفرنسية وهو أمر طبيعي، وإلى الحفاظ على حدود الإمبراطورية الاستعمارية الشاسعة وهو موقف يتناقض تماماً مع الماركسية اللينية ومع أهداف الأممية الشيوعية التي كانت، يومها، ترفع شعار حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها. فالشيوعيون الفرنسيون والجزائريون، على حد سواء، كانوا، إذن، مجندين،

فقط، لخدمة المصلحة الفرنسية غير آبهين بمصير الشعب الجزائري الذي لم يخف عنه ذلك، هو أيضاً، فراحت طاقاته الحية تلتف حول حركة "أحباب البيان والحرية" التي ترأسها السيد فرحات عباس، في ذلك الوقت، والتي جاءت كرد فعل على أمرية الجنرال ديغول وشاركت فيها، فعلياً، كل تيارات الحركة الوطنية. لقد أنشئت الحركة المذكورة يوم 14/ 3/1944 من أجل الدفاع عن "بيان الشعب الجزائري" وللمطالبة "بحق جميع الجزائريين في ممارسة الحرية وللمساهمة في تكوين إنسانية جديدة تكون فيها كل الشعوب حرة وموحدة طبقاً لما أوصى به مؤتمر رابطة حقوق الإنسان المنعقد سنة 1931" (12) ولمزيد من الوضوح، جاء في المادة الرابعة من القانون الأساسي للحركة أن هذه الأخيرة تسعى بجميع الوسائل لتعميم فكرة الأمة الجزائرية ولتتأسس، في الجزائر، جمهورية مستقلة متحدة مع الجمهورية الفرنسية المتجددة والمناهضة للاستعمار وللإمبريالية" (13). ولم يكن الحزب الشيوعي الجزائري مستعداً لتبني فكرة الجمهورية الجزائرية المستقلة، ولا ليقبل بغير التطور في إطار الإمبراطورية الفرنسية حلاً للمشكل الجزائري الذي هو مجرد مطالبة بالخبز وبالحقوق المادية، أما الحديث عن استرجاع الاستقلال فهو عين الديماغوجية لأن الجزائر لا يمكن أن تكون إلا تابعة لقوة خارجية (14). لأجل ذلك، فإنه رفض عرض السيد فرحات عباس فيما يخص الانضمام إلى "حركة أحباب البيان والحرية" معبراً عن إدانته لها باعتبارها "وكر للمغامرين والوطنيين المزيفين" (15). ولم يكتف الشيوعيون الجزائريون بعدم الانضمام إلى حركة "أحباب البيان والحرية" بل إنهم سارعوا إلى تأسيس حركة مضادة أسموها: "أحباب الديموقراطية"، ضبطوا لها مجموعة من الأهداف تأتي في مقدمتها محاربة الانفصاليين وتعبئة المسلمين الجزائريين في سبيل تحرير فرنسا" (16). وقد ذهب السيد عمار أوزقان إلى أبعد من ذلك عندما قال عن أقطاب الحركة الوطنية: "إنهم تخلوا عن حمار النازية ليركبوا باخرة الميثاق الأطلسي" (17). وفي مناقشات الندوة المركزية التي نظمها الحزب الشيوعي الجزائري يوم 23/ 09/1944 صرح نفس السيد أوزقان: "إن مصلحة الجزائر لا تكمن في الانفصال عن فرنسا الجديدة، لأن الاستقلال مستحيل وهو لا يخدم سوى إمبرياليات أجنبية أخرى". وفي ذات الندوة أكد الأمين العام للحزب الشيوعي

الجزائري أنه يرفض بشدة شعارات "الانفصال عن فرنسا" و"الجزائر العربية" لكن "أحباب الديموقراطية" كانت محاولة يائسة لم تجد طريقها إلى جماهير الشعب الجزائري الذي كان مسلماً في أعماقه ويرفض كل أنواع الإلحاد، لأجل ذلك، فإن الأمين العام للحزب الشيوعي السيد عمار أوزقان قد أمر بمحاربة "عصابات الأوباش والأشرار - عملاء الفاشية - الذين يتذرعون بالدين لمكافحة المشروبات الكحولية" (18). كل هذه المواقف التي لا علاقة لها بالواقع الجزائري والتي لا تخدم مصلحة الجماهير الشعبية هي التي جعلت الجزائريين في معظمهم ينظرون إلى الحزب الشيوعي الجزائري نظرتهم إلى كل تنظيم أجنبي ويرفضون اعتباره واحدة من التشكيلات الوطنية. وكان الشيوعيون بالنسبة للرأي العام الإسلامي (أي الجزائري) أقرب إلى المواطنة والجنسية الفرنسيتين وأكثر التحاماً مع الشيوعيين الفرنسيين الذين تخلوا، نهائياً، عن مبادئ الأممية الشيوعية، وتعاليمها لصالح النضال الوطني الضيق في إطار المقاومة الفرنسية التي كانت تهدف إلى استرجاع الإمبراطورية الاستعمارية والحفاظ عليها بجميع الوسائل. وعندما وضعت الحرب الإمبريالية الثانية أوزارها وحقق الحلفاء تفوقهم على ألمانيا وأعادوا لفرنسا حريتها وسيادتها، استطاع الشيوعيون الفرنسيون أن يشاركوا، فعلياً، في تسيير الحكومة الوطنية التي أقامها الجنرال ديغول. واعتبر الشيوعيون الجزائريون ذلك انتصاراً وراحوا يتعاملون مع الإدارة الاستعمارية التي كانت قد رفعت إلى ممثلي الحلفاء "أن الشعب في الجزائر يرفض الانفصال عن فرنسا، وأن تشكيلات الحركة الوطنية لا تمثل سوى نفسها وأنها تعمل في ركاب قوات أجنبية همها إضعاف فرنسا وإرباكها داخلياً حتى لا تتمكن من إعادة البناء بجميع أنواعه". وللتدليل على خطأ هذه المزاعم وعلى النفاذ المحكم في أوساط الجماهير الشعبية ولتبرهن على أنها الناطق الشرعي باسم الشعب الجزائري الذي صار، في معظمه، يصبو إلى استرجاع سيادته المغتصبة وإقامة الجمهورية الجزائرية بجميع مؤسساتها، فإن الحركة الوطنية قد قررت القيام بنشاط واسع النطاق وحددت، لذلك، فاتح مايو سنة 1945. ونظراً لما كان لحزب الشعب الجزائري من مكانة فاعلة بين التشكيلات المكونة لتلك الحركة، فإن قيادته هي التي تولت الإعداد المادي والبشري لتنظيم مظاهرات شعبية توظفها للمشاركة في احتفالات الطبقة الشغيلة من جهة

ولتختبر مدى قدرتها على تعبئة الجماهير وتجنيدها، ولتعلم إلى أي حد تستطيع هذه الأخيرة أن تسير وراءها بكل الثقة التي لابد منها لنجاح المشاريع الحيوية من جهة ثانية. على هذا الأساس سهرت قيادة الحزب السرية على أن تكون المظاهرات المشار إليها مغايرة تماماً، شكلاً ومضموناً، للمظاهرات التي تعودت النقابات تنظيمها بتلك المناسبة. أما من حيث الشكل، فإنها قررت أن تجعل منها نموذجاً للعمل المتقن وللجدية والانضباط اللذين ينمان عن وعي المشاركين بخطورة الموقف وقدرتهم الفائقة على تطبيق التعليمات، وأما فيما يخص المضمون، فإنها، رغم احترامها للمطالب العادية التي ينادى بها العمال في مثل تلك التجمعات، قد قررت أن يرفع المتظاهرون شعارات وطنية فيها مطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وفي مقدمتهم زعيم الشعب الجزائري السيد الحاج مصالي، وبحق الجزائر في تقرير مصيرها بنفسها وفي استرجاع سيادتها وإقامة المؤسسات الوطنية المستقلة. ويتفق كل الذين كتبوا حول الموضوع، أن قرارات اللجنة المديرة لحزب الشعب الجزائري قد اتبعت ونفذت بدقة شديدة، لكن القمع الاستعماري كان وحشياً في جميع قرى البلاد ومدنها. وبينما تمثل رد فعل الإدارة الاستعمارية في إجراءات العسف والقتل والاعتقال العشوائي، ولجأت مجموعة من الإطارات القيادية في حزب الشعب إلى الجبال تحتمي بقممها ووديانها وشعابها، فإن الحزب الشيوعي الجزائري قد اغتنم تلك الفرصة لتوزيع منشور مطول يتهم فيه التظاهرات الوطنية "بأنها لوثت انتصارات الطبقة الشغيلة بدماء الأبرياء في الوقت الذي كان يجب أن تتحد فيه جهود المحرومين من أجل تحقيق انتصارات جديدة" (18). هكذا، كان فاتح مايو 1945 محطة أولى استعملتها فصائل الحركة الوطنية الجزائرية لتبرهن للرأي العام في فرنسا وفي العالم على أنها تحظى بثقة الجماهير الشعبية، وأمام رد الفعل الاستعماري المعزز بموقف الشيوعيين الجزائريين، قرر حزب الشعب الجزائري المحظور توظيف محطة ثانية - تتمثل في مناسبة الثامن من مايو - بقصد لفت انتباه الحلفاء عامة وحكومة الجنرال ديغول بصفة خاصة، إلى الواقع الجديد الذي آل إليه الشعب الجزائري وهو واقع الاستعداد المطلق لتحمل مسؤولياته كاملة في تسيير شؤونه بنفسه. ولقد كانت السلطات الاستعمارية تعرف أنها أمام حركة سياسية نوعية

استطاعت أن تنفذ بسرعة وبحكمة إلى جميع الأوساط الشعبية، وتمكنت من نشر الوعي اللازم لجر الجماهير الواسعة إلى العمل الثوري بكل أنواعه ومن إقناعها بضرورة الإقدام على التضحية القصوى في سبيل استرجاع الاستقلال الوطني الكامل، لأجل ذلك فإنها لم تبق مكتوفة الأيدي بل لجأت إلى كل ما لديها من إمكانيات مادية وبشرية قصد التخطيط لقمع منظم وإبادة جماعية بقي التاريخ يحفظ أنها أودت بحياة حوالي ثمانين ألف جزائري وتسببت في هدم وتخريب ما يزيد عن مائة من القرى والمداشر، بالإضافة إلى كل ما خلفته من أيتام وأرامل وآفات اجتماعية متعددة وبالإضافة، أيضاً، إلى تشغيل الأفران المحرقة خاصة في نواحي مدينة قالمة. وعلى الرغم من كل ما نشر حول الموضوع، حتى الآن، فإن نتائج القمع الرهيب لم تضبط بدقة وبصفة نهائية، لكن الذي لا يعتريه أدنى شك هو أنها تأتي في مقدمة جرائم الحرب المرتكبة ضد الإنسانية قبل غيرها من الجرائم التي تحظى اليوم، بعناية المؤرخين ورعاية الدول العظمى والمنظمات الدولية وخاصة منها منظمة الأمم المتحدة. ومن الجدير بالذكر أن الحزب الشيوعي الفرنسي، بصفته شريكاً فعلياً وقوياً في حكومة الجنرال ديغول، يومها، يتحمل أكبر جزء من المسؤولية. والغريب أن قيادته لا تنكر ذلك، بل إن محفوظاتها الرسمية تؤكد أنها كانت، منذ اللحظات الأولى، قد طالبت "بتسليط أشد العقوبات على منظمي التمرد وأعوانهم ممن قادوا المظاهرات" (19). وركب الحزب الشيوعي الجزائري موجة رائدة، فراح يكيل الاتهامات لاطارات حزب الشعب الجزائري محملاً إياهم مسؤولية إراقة الدماء، ومدعياً أنهم يعملون في ركاب النازية ويطبقون تعليمات هتلر "التي لا تخدم سوى مصالح الاقطاعيين الذين ينادون بالانفصال عن فرنسا" (20). وإذا كان السيد عمار أوزقان الذي كان أميناً وطنياً للحزب، في ذلك الوقت، قد كتب في ليبرتي يصف قادة حزب الشعب الجزائريين "بالمجرمين عملاء الفاشية والمغامرين الذين أسقطوا قناع المسلمين والوطنيين المزيفين" فإن السيد كاباليرو وهو أمين وطني آخر، لم يجد مانعاً من اتهام المطالبين باسترجاع الاستقلال الوطني "بالعمالة للامبريالية عن وعي أو بكيفية غير واعية" (21). من هذا المنطلق، فإن قيادة الحزب الشيوعي الجزائري كانت تنكر على

حركة مايو 1954 طابعها الثوري وتحصرها، فقط، في إطار التظاهر من أجل الخبز، ولأجل ذلك فهي ترى أن الجرائم المرتكبة من طرف الإدارة الاستعمارية نوعاً من الدفاع عن السيادة الوطنية، وتقر أن أفراد الميليشيا ومصالح الشرطة والأجناد على اختلاف وحداتهم لم يتجاوزوا حدود ما كان مطلوباً منهم. وحتى بعد مرور الزمن، فإن الشيوعيين قد ظلوا متمسكين بموقفهم الخاطئ والقائل "لا وجود لثورة عربية، بل هي مؤامرة فاشية .. ولقد أشار الحزب، يومها، إلى ما يجب فعله ليعم الأمن في الجزائر أي: تزويد السكان المسلمين بالغذاء وتشديد العقاب على القتالين الهتليريين الذين ساهموا في أحداث الثامن مايو، واعتقال المسؤولين الحقيقيين الذين كانوا بالأمس يزودون "رومل" بما يحتاج إليه" (22). **** ظل الحزب الشيوعي الجزائري، هكذا، في غيه بعيداً كل البعد عن الحقيقة، ومجانباً للواقع الجزائري يلهث فقط وراء نظريات الحزب الشيوعي الفرنسي الذي كان بدوره، تابعاً كلية للحزب الشيوعي السوفياتي. وعلى هذا الأساس يقول أمينه العام السيد العربي بوهالي: "كان الشيوعيون، في الجزائر، يعيشون في عزلة عن الحركة النضالية بل وفي تناقض معها" (23). لكن نهاية الحرب الامبريالية وما نتج عنها من تطورات على الساحة الدولية جعلت فرنسا تميل إلى العالم الرأسمالي على حساب المعسكر الاشتراكي وتباعاً خرج الشيوعيون من السلطة خاصة بعد انسحاب الجنرال ديغول. كل ذلك مضافاً إلى نتائج حركة مايو الثورية التي أثبتت تجذر الحركة الوطنية في الجزائر، وإقدام أغلبية الشعب الجزائري على انضوائه تحت لوائها، أدى بقيادة الحزب الشيوعي الجزائري إلى إعادة النظر في سائر المواقف الشيوعية وإلى تقييم المراحل المقطوعة منذ بداية الثلاثينات، وهو العمل الذي جاء مجسداً في نداء يحمل تاريخ 21/ 7/1946. وأهم ما ورد في ذلك النداء "أن الحزب الشيوعي الجزائري هو الحزب الوحيد الممثل للأمة الجزائرية التي هي في طور التكوين" (24). وعلى هذا الأساس فهو يرى أن الحل الأوحد والأكثر ديموقراطية بالنسبة للقضية الجزائرية إنما يتمثل في تحويل الجزائر إلى "شريك لفرنسا في إطار الاتحاد الفرنسي". وعلى الرغم من الأسلوب الجديد في المعالجة، فإن الحزب الشيوعي لم

يغير موقفه من الحركة الوطنية الجزائرية قيد أنملة. فهو لم يتخل عن فكرة ولم يكن قد نسي بعد، الدور الإجرامي الذي قام به الشيوعيون في عمليات الإبادة التي مارستها حكومة الجنرال ديغول خلال شهر مايو سنة 1954 وأكثر من ذلك، فإن الوطنيين كانوا يدركون أن الحزب الشيوعي الجزائري مجرد دودة زائدة في جسم الحزب الشيوعي الفرنسي الذي كان بدوره - كما يعلم الجميع - تابعاً في كل قراراته الأساسية للحزب الشيوعي السوفياتي وحتى لو كان الحزب الشيوعي الجزائري مستقلاً في نشاطه وينطلق في كل ما يقوم به، من مرجعية فكرية خاصة به، فإن مواقفه المعبر عنها في ذلك الوقت وسلوكاته السياسية المختلفة كانت تمنع التشكيلات الوطنية الجزائرية من الاتحاد معه في إطار مشروع بعيد المدى يكون الهدف منه تحرير الجزائر وذلك لعدة أسباب أهمها: 1 - إن الحزب الشيوعي الجزائري، عندما أعاد النظر في مواقفه السياسية، صار يرفع شعار الجمهورية الجزائرية ويدعو للنضال من أجل تحقيق استقلالها، ويندرج ذلك في إطار أيديولوجيته التي تنطلق من كون الجزائر أمة في طور التكوين. والذي يتكون من جديد إنما يسعى فقط للحصول على الاستقلال. لكن حزب الشعب الجزائري الذي ينطلق في نضاله من الواقع الوطني، يدرك أن الاستعمار الفرنسي هو الذي غيب الدولة الجزائرية التي كانت قائمة بجميع مؤسساتها، وعليه فهو يعمل بكل الوسائل من أجل "استرجاع الاستقلال الوطني وبعث الدولة الجزائرية المعتدى عليها سنة 1830" (31)، مؤكداً في جميع المناسبات أن "إلغاء الدولة الجزائرية بالقوة لم يترتب عنه بالضرورة إلغاء الأمة الجزائرية" (32) وهو الأمر الذي جعل الطلائع الجزائرية تعبئ جميع الإمكانيات وتلجأ إلى جميع الوسائل في سبيل "بعث الحياة الوطنية الحرة الكريمة واسترجاع السيادة المغتصبة" (33). هذه اللغة لا يفهمها الشيوعيون الذين يقولون مع موريس توريز "هناك أمة جزائرية تتشكل باختلاط عشرين جنساً" (34). 2 - إن الحزب الشيوعي يرفض اللغة العربية والعروبة والإسلام فبالنسبة إليه لا يمكن للغة الضاد أن تكون هي اللغة الوطنية لأن مليون أوربي يجهلها أو يتجاهلها ولأنها لغة القرآن. أما العروبة والإسلام فإنهما صنوان للتخلف والرجعية. لكن الحركة الوطنية، على لسان السيد الحاج مصالي، تناضل لتحرير الشعب الجزائري المسلم "الذي له لغته ودينه وماضيه

المجيد ومفكروه وأبطاله وعاداته وتقاليده .. والإسلام على غرار الحركة الوطنية، ديمقراطي وهما في غنى عن الدروس التي يلقيها السيد بوخرط" (35). 3 - إن الحزب الشيوعي الجزائري يدعو، في جميع الحالات إلى إلحاق الجزائر بالاتحاد الفرنسي الذي يشكل "الحل الواقعي الوحيد" (36) لكن الحركة الوطنية وخاصة منها حزب الشعب الجزائري ترى أن الحل الواقعي الوحيد هو الانفصال عن فرنسا وتمكين الجزائر من استرجاع سيادتها واستقلالها كاملين، ومن جهة أخرى، فإن حزب الشعب الجزائري يرى أن "الاتحاد الفرنسي" نوع من الامبريالية الجديدة التي تهدف في النهاية، إلى منع الشعوب المستعمرة من ممارسة حقها في تقرير مصيرها. 4 - إن الحزب الشيوعي الجزائري منحاز إلى الاتحاد السوفياتي وملحقاته لأن "الجيش الأحمر أهل لكل ثقة وسطالين هو رمز الأمل في العودة إلى أكثر ما يمكن من الحرية والعدالة والمساواة" (36) لكن الحركة الوطنية إذ ترفض الامبريالية الفرنسية وتحاربها، فإنها لا ترى أي أمل في الانضواء تحت لواء الامبريالية السوفياتية التي تستعمر شعوباً إسلامية كثيرة والتي لا يختلف موقفها عن موقف الامبرياليات الغربية فيما يتعلق بالقضايا الأساسية التي تهم الوطن العربي وخاصة منها القضية الفلسطينية. 5 - إن الحزب الشيوعي الجزائري، على غرار الاتحاد السوفياتي والأممية الشيوعية، قد اعترف بالكيان الصهيوني على أرض فلسطين المغتصبة من أصحابها بتواطئ جميع الدول العظمى. أما سائر تشكيلات الحركة الوطنية، في الجزائر، فإنها تعتبر القضية الفلسطينية قضيتها الأساسية، ورغم الواقع الاستعماري فإنها كانت، منذ البداية، تعبئ الجماهير الشعبية للمساهمة، بقدر الإمكان في تحرير البقاع المقدسة. 6 - إن الحزب الشيوعي الجزائري يرفض فكرة المغرب العربي الموحد لأنها تتناقض مع قناعاته الخاصة بالجزائر "أمة في طور التكوين"، لكن الحركة الوطنية، بجميع تشكيلاتها، ترى أن الجزائر لا يمكن فصلها عن الحركة الوطنية، بجميع تشكيلاتها، ترى أن الجزائر لا يمكن فصلها عن المغرب العربي "الموحد جغرافياً وتاريخياً ودينياً ولغوياً واقتصادياً

وثقافياً" كما جاء ذلك في لائحة السياسة العامة التي صادق عليها مؤتمر الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري المنعقد في مدينة البليدة ما بين 3 و5 أكتوبر 1947. **** رغم كل هذا التباين في المواقف الأساسية، ورغم الأسر الأيديولوجي الذي كان يعيشه، ورغم كل ما كان قد قام به من عمل ضد تشكيلات الحركة الوطنية وخاصة منها حزب الشعب الجزائري، فإن الحزب الشيوعي الجزائري، الذي فتح أبواب قيادته الوطنية لعدد من الشباب الجزائري المسلم المتعلم، قد اختار أسلوباً جديداً في العمل السياسي وضبط مجموعة من الشعارات التي تدل في ظاهرها على أنه فهم الدرس وعاد إلى الرشد يسعى لربح ثقة جماهير الشعب الجزائري ولإقناع أطراف الحركة الوطنية الجزائرية بأنه تخلى عن قناعاته القديمة وأصبح يؤمن بالكيان الجزائري المستقل عن فرنسا. أول هذه الشعارات جاء مجسداً في نداء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الذي نشرته جريدة ليبرتي في عددها الصادر بتاريخ فاتح جانفي سنة 1948 والذي تضمن دعوة الأحزاب الوطنية للتكتل في "جبهة وطنية ديموقراطية جزائرية تعمل في سبيل الحرية والأرض والسلام قصد السير بالجزائر إلى أن تصبح جمهورية ديموقراطية لها دستورها وبرلمانها وحكوماتها". لكن الجزائر التي يعنيها الشيوعيون هي "ذلك البلد الذي يسكنه ويناضل فيه العرب والقبائل والأوربيون واليهود ومن ثمة فهي ليست عربية أكثر منها بربرية وتركية وفرنسية" (37). فالجمهورية الديموقراطية الجزائرية التي يهدف الحزب الشيوعي الجزائري لإقامتها منحازة للاتحاد السوفياتي باعتباره القوة العظمى المناهضة للامبريالية ومندمجة في الاتحاد الفرنسي بزعامة فرنسا "الديمقراطية والمناهضة للاستعمار" وبعبارة أدق، فإن الجزائر التي يعنيها الشيوعيون إنما هي تلك التي تأوي الأمة الجديدة التي كان قد بشر بميلادها السيد موريس توريز سنة 1939 أما الحركة الوطنية الجزائرية فهي ترفض الانحياز لأية واحدة من الكتلتين وترى "أن الخطر الامبريالي الأمريكي اقتصادي، ومن ثمة فهو لا يهدد سوى البلدان المصنعة التي لا تعد بلدان شمال افريقيا من جملتها". الشعار الثاني الذي رفعه الحزب الشيوعي معتقداً أنه يستطيع تعبئة الجماهير الشعبية يتعلق بالسلام. فالشيوعيون الذين شاركوا إلى جانب تشكيلات

الحركة الوطنية في المؤتمر العالمي للسلم يرون أن التحرير الوطني لا يمكن فصله عن النضال من أجل السلام في العالم، لكنهم، في نفس الوقت، لا يتصورون تحرير الجزائر خارج الاتحاد الفرنسي "وبدون مساعدة حليف الجزائر الحقيقي الذي هو شعب فرنسا" (38) وحتى يكون لهذا الشعار وزن في نظر الجزائريين أضاف إليه الحزب الشيوعي الجزائري مسألتي تحرير المعتقلين السياسيين وحرية التعبير للجميع. لكن تشكيلات الحركة الوطنية الجزائرية كانت تدرك جيداً حقيقة الحزب الشيوعي، لذلك فإنها لم تنخدع له ولم تأخذ في الاعتبار كتاباته المتناقضة، وإذا كان حزب الشعب الجزائري لم يكلف نفسه عبء دراسة العروض الشيوعية لاقتناعه بعدم تطابقها مع طموحات الشعب الجزائري، فإن الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري قد توقف، ملياً، عندها، يفحص ويتمعن قبل أن يجزم قولا وكتابة أن نقاطاً أساسية تمنعه من الاستجابة لها. ولم يكتف الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري بذكر نقاط الاختلاف، بل إنه وظف كل إمكانياته لنقدها وإبراز مواطن الضعف فيها حتى يدرك المواطن والمناضل على حد سواء لماذا تبقى نداءات الحزب الشيوعي صيحة في واد مهجور. انطلاقاً من كل هذه المعطيات يمكن القول: إن الحزب الشيوعي الجزائري قد توصل، في ذلك العقد الرابع من القرن العشرين، إلى بلورة رؤيته للجزائر وهي تلكم الرؤية التي ما زال محتفظاً بها إلى غاية هذا اليوم رغم كل التغيرات التي طرأت على اسمه، ورغم كل المراحل التي قطعتها الجزائر بدونه أحياناً وضده بجميع الوسائل أحياناً أخرى. وبكل إيجاز فإن الجزائر، حسب هذه الرؤية، ليست عربية، وعروبتها إدعاء باطل يتنكر لوجود العناصر الأخرى التي ساهمت في تكوين الأمة .. وليس صحيحاً ما ينسب للإسلام من دور أساسي في تحديد الهوية الوطنية وتوحيد الشعب بالإضافة إلى أنه دين الرجعية والتخلف كما أن اللغة التي جاء بها يجب أن تبقى مهمشة لصالح اللغة الفرنسية، لأجل ذلك، يجب أن تكون اللائكية هي السائدة وأن تركب حصاني الديموقراطية والتعددية الزائفتين لمغالبة الحركة الوطنية ومنعها، بكل الوسائل بما في ذلك العنف - من تجسيد مشروع المجتمع الذي استطاعت أن تبلوره في العقد الثاني من هذا القرن وظلت ترعاه وتعمل على تطويره إلى أن أصابه الزلزال في شهر أكتوبر سنة 1988 ثم توقف نهائياً بموجب ما يسمى بدستور

فبراير سنة 1989. والحقيقة، فإن الزلزال المشار إليه لم يكن سوى نتيجة منطقية لتضافر جهود منظري الاستعمار الفرنسي والشيوعيين الجزائريين الذين كانوا يلتقون حول "مكونات الأمة الجزائرية" فالأوائل يعتبرون شمال افريقيا مهداً للكنيسة والبربر حماة لها وهم، أي البربر، يختلفون كلية عن العرب كما جاء ذلك في "رسالة الجزائر" التي كتبها الكيس دوتوكفيل وأما الشيوعيون، فإنهم ظلوا، إلى نهاية الأربعينات من هذا القرن، متشبثين بنظرية أمينهم العام السيد موريس توريز التي سبقت الإشارة إليها ولا داعي للتوقف عندها هنا. ومن هذا المنظور، فإن ما يسمى اليوم بالأزمة الأمازيغية أو الأمة البربرية كما سميت في نهاية الأربعينات، ليست سوى تعبير، بأسلوب مغاير عن موقف اللائكيين والشيوعيين المنادي بمحاربة العروبة والإسلام. ومما لا شك فيه أن ذلك الموقف ناتج، أساساً، عن تأثير الثقافة الغربية في أصحابه الذين زاد في تعصبهم جهلهم المطلق للدين الإسلامي. إن السيد محمد حربي، في معالجته لهذا الموضوع، يذكر إن من العوامل التي أنتجت الأزمة البربرية في الجزائر "فشل حزب الشعب الجزائري والحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية في وضع أيديولوجية تتلاءم مع التنوع الجزائري، وكذلك خيبة الانتظار أمام التعبئة السياسية التي عرفتها سنوات، 1949/ 1954 (39) فهذا الحكم غير صحيح لأنه يعتمد على واقع مزيف أوجده الاستعمار، في الأساس، لضرب دعائم المجتمع الجزائري، إذ أن التنوع الذي يتحدث عنه ليس طبيعياً بل هو مصطنع والمقصود منه "هو محاربة الإسلام عدونا الأبدي" كما يعترف بذلك المدير السابق لمدرسة الآداب في الجزائر السيد إميل ماسيكري. لم يأبه الحزب الشيوعي برفض التشكيلات الوطنية لعروضه، وبعد مرور الفترة الفاصلة بين دورتي لجنته المركزية وبالضبط يوم 12/ 11/1950 جدد محاولاته لإقناع أطراف الحركة الوطنية بضرورة الانضمام إليه "حول ميثاق وحدة وعمل يرمي إلى تحقيق الاستقلال الوطني بالإضافة إلى الدفاع عن حرية التعبير والنضال في سبيل إطلاق سراح المساجين واسترجاع الأجناد الجزائريين العاملين في فيتنام" (40) لكن الشيوعيين لم يكونوا صادقين في هذه المرة أيضاً، إذ سرعان ما أدخلوا تعديلات خطيرة على الميثاق المذكور وراحوا يعطون تفسيراً خاصاً بهم للاستقلال الوطني المقصود والذي هو فقط "إلغاء الاستبداد والظلم والقضاء على اللامساواة في جمهورية مفتوحة للجميع

في إطار الاتحاد الفرنسي، إذ أن الاستقلال لا يعني بالضرورة الانفصال ولنا قدوة في جمهوريات الاتحاد السوفياتي" (41). ومرة أخرى تقطنت التشكيلات الوطنية للفخ المنصوب لها فرفضت العمل في إطار الميثاق الذي لم يكن سوى وثيقة شكلية غير ملزمة للحزب الشيوعي الذي لم يستطع التخلص من قناعاته القديمة المتجددة والتي تنطلق أساساً من أدبيات السيد موريس توريز. **** في الفترة ما بين 1947 - 1950 بينما كان الحزب الشيوعي يضبط الخطوط العريضة لمشروع المجتمع الذي يطمح إلى إقامته في الجزائر، ويقدم العروض تلو العروض لاستقطاب أطراف الحركة الوطنية الجزائرية واقناعها بضرورة العمل معه لبناء الجزائر كما يتصورها، كان حزب الشعب الجزائري يستعد، ميدانياً، للكفاح المسلح الذي كان يرى أنه اللغة الوحيدة التي يفهمها الاستعمار والوسيلة الأكثر نجاعة لاسترجاع السيادة الوطنية المغتصبة وبعث الدولة الجزائرية المغيبة منذ سنة 1830. لقد كان الحزب الشيوعي الجزائري، في تلك الفترة، يعتقد أن شروط بعث الأمة الجزائرية اكتملت وأصبح ممكناً أن يستقل الشعب الجزائري ذلك الاستقلال الذي أشرنا إليه، آنفاً، والذي لا يفهمه غير الشيوعيين لأنه يستلزم عدم الانفصال عن الشعب الفرنسي الذي يجب أن تتضافر جهود الجميع لتتمكن طبقته العاملة من قيادة الانقلاب الجذري الذي يحول الامبراطورية الفرنسية الاستعمارية إلى اتحاد فرنسي يضم جمهوريات مختلفة الأجناس والأعراق على غرار الاتحاد السوفياتي. أما حزب الشعب الجزائري فيرى "إن الامبريالية الفرنسية اغتصبت، بواسطة عدوان غاشم، سيادة الأمة الجزائرية التي لم يؤد إلغاء الدولة وسياسة الالحاق والإدماج إلى ضياعها النهائي، ويؤكد أن الوطن الجزائري لم يتوقف لحظة واحدة عن العمل بجميع الوسائل من أجل استرجاع حريته ... وكرامته" (42). وعلى هذا الأساس يوضح حزب الشعب الجزائري أن الهدف الأساسي الذي يرمي إليه يتمثل قبل كل شيء في: "إلغاء السيطرة الامبريالية وتمكين الشعب الجزائري من استرجاع سيادته وبعث دولته الوطنية بكل صلاحياتها ومؤسساتها" (43). ولم يكن توجه حزب الشعب الجزائري ليخفى على قيادة الحزب الشيوعي

التي كانت تدرك أن جماهير الشعب ملتفة حول البرامج السياسية التي تعمل أطراف الحركة الوطنية على إنجازها، كما أنها كانت تدرك أن الحزب الشيوعي الجزائري ليس له مكانة في إطار الحركة الوطنية التي تضرب بجذورها في أعماق التاريخ تتغذى منه وتستلهم دروسه وعظاته. ولأنها كانت تدرك ذلك وتعلم أن ثمة ثوابت لا تتخلى عنها جماهير الشعب وهي بمثابة العوامل الجامعة والمعبئة للطاقات الوطنية الحية، ويأتي الإسلام واللغة العربية في مقدمة تلك الثوابت. لأجل ذلك، وعلى الرغم من عدم إيمان الشيوعيين بجدوى اللغة العربية والدين الإسلامي في الجزائر، فإن الحزب الشيوعي الجزائري قد غير مواقفه، تكتيكياً في الفترة المشار إليها أعلاه، وراح يدرج ضمن لوائحه السياسية وعروضه الوحدوية "المطالبة بترسيم اللغة العربية وجعل تعليمها إجبارياً في جميع مراحل الدراسة، وفصل الإسلام عن الدولة مع إرجاع ممتلكاته وأوقافه إلى الجمعيات الإسلامية" (44). استطاع حزب الشعب الجزائري في الفترة ما بين 1947 - 1950 أن يكون تنظيماً عسكرياً أسماه المنظمة الخاصة. وقد تمكن المسؤلون عليه من اقتناء كميات معتبرة من الأسلحة بعضها تم شراؤه من مخلفات الحرب الامبريالية الثانية وبعضه استورد من ليبيا عن طريق التهريب. وقبل أن تعطى المنظمة الخاصة الإشارة الخضراء للدخول في مرحلة الكفاح المسلح من أجل استرجاع الاستقلال الوطني اكتشف أمرها لأسباب ليس هذا مكان الحديث عنها وتمكنت السلطات الاستعمارية من خرق صفوفها وملاحقة عناصرها حتى إن معظم القيادات والإطارات الأساسية قد اعتقلت قبل نهاية الفصل الأول من سنة 1950 التي صارت تسمى في أوساط المناضلين سنة المؤامرة. أمام كثرة الاعتقالات وإجراءات القمع الأعمى قامت الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية بتأسيس لجنة وطنية للدفاع عن عائلات الضحايا وحمايتهم. وفي ظرف قصير تكونت، في مختلف أنحاء البلاد، لجان فرعية تابعة لها وأعربت أطراف الحركة الوطنية عن استنكارها للعسف الذي كانت تمارسه الإدارة الاستعمارية، وركب الحزب الشيوعي موجة النشاط الوطني وعبرت قيادته عن وقوفها إلى جانب لجان المساندة وجددت الدعوة إلى توحيد الطاقات الحية في إطار "جبهة وطنية ديموقراطية جزائرية" تدافع عن الحرية والأرض والسلام. كان ذلك الموقف من الحزب الشيوعي خطوة اعتبرها حزب الشعب

الجزائري إيجابية وراح يدفع إلى تعزيزها بخطوات أخرى، وكانت انتخابات يوليو سنة 1951 مضرب المثل من حيث التزييف حتى إن بعض مرشحي الإدارة الاستعمارية قد حصلوا على جميع أصوات الناخبين بما في ذلك أصوات منافسيهم، واغتنم الشعب الجزائري تلك الفرصة ليجعل قيادة الحزب الشيوعي الجزائري تقوم بالدعوة إلى تأسيس جبهة جزائرية للدفاع عن الحرية واحترامها. وفي نظر الشيوعيين فإن الحرية لا تتعدى مجالي الانتخابات والتعبير. لكن حزب الشعب الجزائري كان في حاجة إلى مساندة الحزب الشيوعي الفرنسي للدفاع عن المعتقلين السياسيين ولحماية المضطهدين والمتمردين، وعليه فإنه أبدى استعداده للمساهمة في الجبهة المذكورة ولم يتردد في إظهار ابتهاجه بالمبادرة الشيوعية التي نشرت على أعمدة ليبرتي في عددها الصادر بتاريخ 12/ 7/1951. وبعد عشرة أيام من ذلك التاريخ تأسست لجنة تحضيرية ضمت ممثلي الأحزاب الثلاثة وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين بالإضافة إلى بعض الشخصيات المستقلة، واشتغلت اسبوعين كاملين عقدت على إثرهما جمعية عامة حضرها حوالي ألف مندوب وانبثقت عنها لجنة مديرة وأمانة دائمة كلفت بصياغة مذكرة شاملة حول أهداف الجبهة ترسل على جناح السرعة إلى سائر المنظمات الدولية. ومما لا شك فيه أن مجرد تأسيس الجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية واحترامها كان يعد انتصاراً بالنسبة للحزب الشيوعي الجزائري الذي وجد نفسه، لأول مرة، جالساً مع ممثلي الحركة الوطنية الجزائرية. ولم يكن برنامج الجبهة الذي صادقت عليه الجمعية العامة بتاريخ 50/ 8/1954 سوى تذكير بما كان يجب القيام به من أجل التصدي للعسف الاستعماري ولحمل الإدارة على إلغاء انتخابات شهر يوليو التي بلغت قمة الغش والتزييف، وعلى التعهد بعدم التدخل في عمليات الاقتراع على جميع المستويات. على هذا الأساس قررت الجمعية العامة تأسيس لجان محلية لتحسيس الرأي العام الجزائري بخطورة الموقف وتجنيده وراء قيادة الجبهة، ولابلاغ الرأي العام العالمي ممارسات القمع والإرهاب التي تلجأ إليها السلطات الفرنسية في الجزائر كلما أحست بأن الحركة الوطنية باتت تشكل نوعاً من الخطر على مصالحها الاستعمارية.

أما في الأساس، فإن الجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية وحمايتها لم تأت بما من شأنه أن يدفع الشعب الجزائري في طريق استرجاع الاستقلال الوطني وذلك لسبب بسيط هو أن الشركاء لم يكونوا ينطلقون من أرضية واحدة ولا متشبعين بفكر واحد، كما أنهم، والحال هذه، لم يكونوا يعطون المفاهيم والمصطلحات نفس المعنى ولا للأهداف المعلن عنها نفس المغزى ونفس التفسير. فأطراف الحركة الوطنية، رغم اختلاف وجهات النظر، ينطلقون من عمق حضاري واحد يؤمنون بأنه قادر على تمكينهم من تعبئة الطاقات الحية في البلاد وتوعيتها بضرورة النضال في سبيل استرجاع المغتصبات وبناء المستقبل على أسس تختلف كل الاختلاف عن واقع فرنسا سواء كانت استعمارية أم لا، أما الحزب الشيوعي الفرنسي، فإنه كان يتنكر للعمق الحضاري المشار إليه وكان يرفض انتساب الشعب الجزائري للعروبة، ويرى أن مستقبل الجزائر لا يكون إلا في إطار الاتحاد الفرنسي الذي لا بد أن يدخل، بدوره فلك الاتحاد السوفياتي الذي يسعى لحماية الطبقة الشغيلة وفرض دكتاتورية البروليتارية في العالم. وبينما كان الحزب الشيوعي الجزائري يرفع شعار الديموقراطية معتقداً بالإمكان وإقامة الجمهورية الجزائرية الديموقراطية في إطار الانتساب لفرنسا المتحررة من الاستعمار والامبريالية والتابعة في سياستها الخارجية إلى الاتحاد السوفياتي، ويرى أن مفهوم الديموقراطية لا يتعدى الاعتراف بتعايش الأجناس في الجزائر وبرفض الإسلام كدين للدولة "لأنه يمنع الجزائريات والجزائريين من تناول المشروبات الكحولية كيفما يشاؤون وفي أي مكان يريدون"، فإن أطراف الحركة الوطنية جميعها متمسكة بالإسلام وتدعو إلى اتخاذ جميع الإجراءات لإحترام تعاليمه وتطبيقها، وهي تذكر، في جميع المناسبات، بأن الدين المحمدي يرعى سائر الحريات ويرفع الانسان إلى أعلى الدرجات ويشتمل في نصوصه الأساسية على ضرورة تطبيق العدالة الاجتماعية وتحرير العقل وإشراك الناس في تسيير شؤونهم بأنفسهم على أساس الشورى والطاعة والانضباط والحوار واحترام الآخر. وفيما يخص الديموقراطية فإن أطراف الوطنية تخضع ممارستها إلى توفر مجموعة من الشروط أهمها استرجاع السيادة والاستقلال كاملين إذ لا يعقل أن يكون ديموقراطياً من كان يعيش في ظل الآخرين وعالة عليهم أو مستغلاً من طرفهم. ولأن الجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية وحمايتها لم تبن على وحدة

فكرية أو تقارب أيديولوجي فإنها لم تصمد لأول هزة أصابتها بعد شهرين من ميلادها فقط، ذلك أن قيادة الجبهة قررت عدم المشاركة في انتخابات أكتوبر الجهوية احتجاجاً على قرار السلطات المعنية بصحة انتخابات يوليو سنة 1951 التي أجمعت الأحزاب، بالأدلة الملموسة، على أنها مزيفة. لكن الحزب الشيوعي الفرنسي رأى من الأليق بالنسبة للحزب الشيوعي الجزائري أن يدخل المعركة الانتخابية فأمره بذلك ودفعه إلى تقديم مرشحيه في الوقت القانوني وهو ما فعل ضارباً عرض الحائط قرار الجبهة الذي شارك في اتخاذه، وبهذا التصرف تسبب في هدم البناء الذي طالما دعا لإقامته وقدم الدليل على أنه لم يكن حزباً وطنياً بل تشكيلة سياسية تابعة للحزب الشيوعي الفرنسي. والغريب في الأمر أن مشاركته في الانتخاب كانت خيبة أمل إذ لم يحصل منها سوى على مقعد واحد على مستوى الجزائر بأكملها. هكذا، إذن، خرج الحزب الشيوعي الجزائري من الصف الوطني الذي لم يبق فيه سوى حوالي شهرين ولم يكن خروجه خسارة بالنسبة لأطراف الحركة الوطنية الذين قرروا مواصلة توظيف الجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية وحمايتها كلما دعت الضرورة إلى ذلك. وعندما نفذت أوامر الحزب الشيوعي الفرنسي، فإن قيادة الحزب الشيوعي الجزائري كانت تعتقد أنها ترضى العنصر الأوروبي في الهياكل القاعدية وتخفف من سخط المجموعة الانتخابية الأولي التي صارت تتهمها بالتواطئ مع المتطرفين ودعاة الانفصال عن فرنسا، لكن الواقع أثبت أن ذلك لم يتحقق لها بينما خسرت ثقة أغلبية العنصر العربي الذي راح يبحث عن مكان له في صفوف التشكيلات الوطنية، وتسببت، مع مر الأيام، في تجذر العداء بين العنصرين حتى إن المسؤولين عن التنظيم أصبحوا يوصون بضرورة فصل خلايا المسلمين عن خلايا الأوربيين ويستعملون لغة مزدوجة في تنشيط الحياة السياسية وهو الأمر الذي سيقود بالتدريج، إلى انسحاب الأغلبية الساحقة من المناضلين والإطارات الجزائريين. وحينما اندلعت ثورة نوفمبر سنة 1954، كان الحزب الشيوعي الجزائري قد بلغ منتهى ضعفه لكنه ظل متمسكاً بقناعاته القديمة التي ألبسها ثوباً جديداً قصد تمريرها بسهولة في أوساط الجماهير الشعبية وقصد مخادعة التاريخ. واليوم، فإن إطارات الحزب الشيوعي الجزائري يعملون جاهدين على تبرير موقف حزبهم المتخاذل من نضال الحركة الوطنية الجزائرية ومن ثورة

نوفمبر 1954، فيلجؤون إلى اللوائح التي صادقت عليها اللجنة المركزية في مختلف دوراتها منذ نهاية عام 1949 ويبرزون بالحرف الغليظ العروض التي كانت تقدم من أجل إقامة الجبهة الوطنية الديموقراطية والمواقف الداعية إلى النضال في سبيل الاستقلال والتحرير الوطنيين. وبالفعل، فإن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الجزائري كانت في كل دوراتها وحتى نهاية عام 1951 تطالب "بمجلس وحكومة جزائريين لتسيير شؤون الجزائريين" (45) وتدعو إلى "أن ينتخب المجلس الجزائري بكيفية ديموقراطية وأن يكون التمثيل فيه نسبياً. أما الحكومة فتنتخب من طرف المجلس وهي مسؤولة أمامه" (46). وفي تقريره إلى المؤتمر السادس أيام 21 - 22 - 23 فبراير 1952 (47)، ركز الأمين العام للحزب السيد العربي بوهالي على "ضرورة توحيد العمل في أرض الوطن من أجل جزائر حرة مستقلة. معنى ذلك أن الحزب الشيوعي مازال مثل ما كان في السابق يرفض نشاط لجنة تحرير المغرب العربي ويرفض انتساب الجزائر للعروبة والإسلام. وبتعبير آخر، إن الحزب الشيوعي الجزائري لا يعترف بالجزائر التي تعمل الحركة الوطنية على استرجاع سيادتها واستقلالها وعليه، فإن أطراف الحركة الوطنية، التي كانت تدرك ذلك، لم تكن ترغب في الوحدة معه وكانت تعتبره حزباً أجنبياً. ولم يكن الحزب الشيوعي الجزائري يرفض عروبة الجزائر وإسلامها فقط، بل إنه كان، أيضاً، يرفض وحدة المغرب العربي، أي أنه كان يرفض كل ما من شأنه أن يبعث الجزائر المعتدى عليها سنة 1830 ويحول دون الاندماج في الاتحاد الفرنسي والارتباط بالاتحاد السوفياتي. وكانت أطراف الحركة الوطنية المتمسكة بعروبتها وإسلامها، تندد بالموقف الشيوعي تجاه القضية الفلسطينية التي تعتبرها قضية كل الشعب الجزائري، وبما أن الاتحاد السوفياتي - وصي الأحزاب الشيوعية في العالم - كان ضالعاً في تنفيذ المؤامرة على فلسطين وشعبها، فإن الوطنيين الجزائريين كانوا يعتبرون كل الشيوعيين أعداء للأمة العربية الإسلامية. وكما أن إطارات الحزب الشيوعي اليوم، يعملون على توظيف مفاهيم الاستقلال والحرية والتحرير بعد إفراغها من محتواها الحقيقي كما سبقت الإشارة إلى ذلك، فإنهم يحاولون توظيف القمع الوحشي الذي تمارسه الإدارة

الاستعمارية. وعلى سبيل المثال، فإن الأمين العام السيد العربي بوهالي، في تقريره إلى المؤتمر السادس، يتعرض إلى الاعتقالات العشوائية التي كانت، منذ مارس 1950، تستهدف إطارات ومناضلي حزب الشعب الجزائري فيقول "لم ينج الشيوعيون من الاعتقال. وأن عشرين من بين أعضاء اللجنة المركزية الخمسين قد كان لهم شرف المثول أمام المحاكم الاستعمارية، ومن بينهم: مجدوب بن رحو الذي قاد إضراب العمال الفلاحين في سبتمبر 1951 ومصطفى سعدون الذي كان ينشط ضد الحرب في فيتنام الخ .. " (48) وفي الواقع، لا مجال للمقارنة بين من يعتقل لمشاركته في تنظيم يعد للكفاح المسلح قصد استرجاع الاستقلال الوطني وبين من يلقي عليه القبض بسبب نشاطه النقابي الذي هو في جوهره اعتراف بالأمر الواقع الاستعماري. إن مؤرخي الحزب الشيوعي، اليوم، يكتفون بالعودة إلى ما كان ينشر باسم اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الجزائري في الفترة ما بين 1949 و1952 ويركزون على المفهوم اللغوي دون إرجاع الوثيقة إلى إطارها التاريخي ودون إخضاعها للمعايير والمقاييس الحقيقية. فالقارئ الذي يعرض عليه أن الحزب الشيوعي الجزائري أصدر يوم 1/ 11/1953 نداء موجهاً إلى سائر التشكيلات الوطنية الجزائرية من أجل "تشكيل جبهة وطنية ديموقراطية" (49) لا يفهم لماذا بقي ذلك النداء بدون جواب. لكنه عندما يرجع بالتحليل إلى الوثيقة المذكورة يعرف الأسباب التي منعت الوطنيين الجزائريين من أخذه مأخذ الجد ناهيك عن الاستجابة له. ومن أهم تلك الأسباب ما يلي: 1 - إن النداء يتحدث عن جمهورية ديموقراطية جزائرية متعددة الأجناس وكأن الدولة الجزائرية لم تكن موجودة قبل سنة 1830 وبينما يرى حزب الشعب الجزائري أن بعث الدولة الجزائرية لن يكون حقيقة إلا بواسطة الكفاح المسلح لأن الاستعمار لا يفهم لغة أخرى، فإن الحزب الشيوعي يرفض العنف الثوري ويؤكد أن توحيد الجزائريين يكفي لحمل السلطات الاستعمارية على تمكينهم من انتخاب مجلس يمثل الشعب ويكون مؤهلاً للتفاوض مع ممثلي فرنسا حول مستقبل الجزائر وحول العلاقات المستقبلية بين البلدين. فالطرح الشيوعي، إذن، يعتبر أسلوباً جديداً في النضال متناقضاً تماماً مع أسلوب حزب الشعب الجزائري الذي لم يتوقف، منذ سنة 1938

خاصة، عن الإعداد العسكري ليسترجع بالقوة ما أخذ بالقوة. 2 - إن النداء يركز على ضرورة إدراج نشاط الجبهة الوطنية الديموقراطية المقترح تأسيسها في إطار النضال العالمي المناهض للإمبريالية الأمريكية والذي "يقوده الأخ الأكبر الذي أجتث جذور الامبريالية في كامل الاتحاد السوفياتي" لكن الحركة الوطنية الجزائرية ترى أنها غير معنية بمحاربة الامبريالية الأمريكية والجزائر مستعبدة من طرف الامبريالية الفرنسية، ومن جهة ثانية فهي لا تفرق بين كل الامبريالية التي يعتبر الاتحاد السوفياتي واحدة منها لأنه يستعمر شعوباً اسلامية قهرها بالقوة وأخضعها لسيطرته المطلقة. 3 - إن النداء، بقدر ما يؤكد ضرورة الاعتماد على مساعدة الحزب الشيوعي الفرنسي والاتحاد السوفياتي ويلح على مساندة كفاح الشعب الفيتنامي وحركات السلم في العالم، فإنه لا يتعرض للقضية الفلسطينية ولا للثورة المصرية كما أنه لا يندد بتواطئ الاتحاد السوفياتي مع الامبرياليات الأخرى الذي قاد إلى تقسيم فلسطين وإلى تجذير الهيمنة الغربية على مختلف أجزاء الوطن العربي. 4 - إن النداء يتعرض إلى النظام الاستعماري بصفته نظاماً يستغل الجماهير الشعبية ويبني الثروات الطائلة على حساب الشغيلين والبطالين، لأجل ذلك فإنه يركز على ضرورة التحرير الاقتصادي والاجتماعي والثقافي معتبراً أن وحدة الطبقة العاملة هي اسمنت الوحدة الوطنية، وأن الهدف الأسمى من النضال يتمثل في التمكن من تطيبق الاشتراكية وتوزيع الأرض على من يفلحها، أما أطراف الحركة الوطنية، فإنها ترى أن النظام الاستعماري كيان غريب فرض على الجزائر بعد الاعتداء عليها سنة 1830، وعليه فإن الحل الوحيد هو تقويض أركانه بجميع الوسائل وذلك من أجل بعث الدولة الجزائرية "التي تناهض الامبريالية بجميع أنواعها وتقف إلى جانب الشعوب في كفاحها من أجل تقرير مصيرها بنفسها وتعمل جاهدة في سبيل توحيد المغرب العربي الذي هو جزء لا يتجزأ من العالم العربي الإسلامي" (50) أما في المجال الاقتصادي، فإن الجزائر المستقلة تطبق إصلاحاً زراعياً شاملاً وتقدم كل التسهيلات للفلاحين الصغار، كما أنها تؤمن البنوك والمناجم وسائر الثروات الطبيعية التي يجب أن توزع بالعدل على سائر أفراد الشعب.

إن النداء يشير إلى الجبهة الجزائرية من أجل الدفاع عن الحرية واحترامها ويعتبرها مرحلة هامة وتنظيماً استطاع أن يؤدي دوراً إيجابياً" لكن أطراف الحركة الوطنية يرون أن ذلك التنظيم مُنع من القيام برسالته التي وجد من أجلها بسبب خيانة الحزب الشيوعي الجزائري الذي فضل الاستجابة لأوامر الحزب الشيوعي الفرنسي على الالتزام بقرار القيادة الموحدة، وزيادة على ذلك، فإن النداء يركز، فقط، على مجموعة من المطالب الآنية مثل العفو الشامل، واحترام الحريات الديموقراطية ومساندة المطالب الاقتصادية والاجتماعية وإخراج الجزائر من الحلف الأطلسي ورفض استعمال الجزائريين في الحروب الامبريالية، أما فيما يتعلق بالسيادة الوطنية فيكتفي بالإشارة إلى "إمكانية التفاهم كذلك حول أهداف أسمى مشتركة وخاصة منها ما يتعلق بالآفاق المستقبلية حول جمهورية ديموقراطية جزائرية" (51). 6 - إن أطراف الحركة الوطنية قد فقدوا كل أمل في أن يصبح الحزب الشيوعي الجزائري وطنياً، تأكدوا من ذلك نتيجة مواقفه العدوانية في مايو 1954 وبسبب مشاركته في قمع الجزائريين واعتبار نضالهم في سبيل استرجاع السيادة الوطنية عملاً إجرامياً يستحقون عليه أشد العقوبات، وحتى عندما أتيحت له فرصة الدخول في الصف في صيف 1951، فإنه سرعان ما تراجع وشق عصى الطاعة متسبباً، بذاك، في فشل الجبهة الجزائرية من أجل الدفاع عن الحرية واحترامها كما أشرنا إلى ذلك آنفاً. 7 - إن نداء الحزب الشيوعي الجزائري لم يأت نتيجة نضج أو وعي المناضلين الاطارات بل إنه كان محاولة للتدليل على أن ثمة تقارباً مع حزب الشعب الجزائري الذي كانت لجنته المركزية قد قررت، في دورة سبتمبر 1953، توجيه نداء إلى كل الطاقات الحية في البلاد من أجل تشكيل "المؤتمر الوطني الجزائري" بقصد تمكين كل الجزائريين من انتخاب مجلسهم الوطني وبعث دولتهم المستقلة، علماً بأن القرار المذكور إنما اتخذ لإيجاد أفضل السبل الكفيلة بتحضير الكفاح المسلح. هكذا، فالاختلاف مع الشيوعيين جوهري وهو مبني على تناقض في المنطلق وفي الهدف الأسمى، وتباعاً لذلك لا يمكن أن يكون التحالف معهم إلا مرحلياً وحول الأغراض البسيطة العاجلة. وبالنسبة لحزب الشعب الجزائري - في جميع أشكاله - فإن نقاط التلاقي تكاد تكون معدومة مع الحزب الشيوعي

الجزائري نظراً لرؤية كل منهما للماضي والحاضر والمستقبل وبسبب تباعد البرامج السياسية ومناهج العمل المتبعة لتجسيدها على أرض الواقع. لكن قيادة الحزب الشيوعي الجزائري، في دورتها المنعقدة يوم 1/ 4/1954 ترى "أن الحوار وخاصة العمل ممكنان لأنه لا يوجد تناقض بين "المؤتمر الوطني" الذي تدعو إليه الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية، "والجبهة الوطنية الديموقراطية الجزائرية" وهذا في الحقيقة، محض ادعاء لا يصمد حتى أمام القراءة الأولي لمقدمة الوثيقتين المعدتين من طرف التشكيليتين السياسيتين. فالشيوعيون أوردوا في ديباجتهم أن "الجزائريين في أغلبهم يتساءلون عن مستقبلهم وهم يريدون العيش أحراراً وسعداء ويطمحون إلى التخلص من النظام الاستعماري البشع" ولتحقيق مثل ذلك الطموح، فإنهم يستلهمون تجاربهم المستخلصة "مما أبدوه من بطولات في نضالهم ضد الممارسات الكولونيالية في جميع مجالات الحياة اليومية وذلك في الفترة من 1 إلى 23/ 5/1952". أما الوطنيون، فإن وثيقتهم قد جاءت، منذ أسطرها الأولى، واضحة إذ بينت أنها تعتمد أربعة مبادئ أساسية هي: الجزائر أمة ومن ثمة فإن النضال يجب أن ينصب على استرجاع سيادتها. - ضرورة إفادة الجزائر من مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها وفقاً لميثاق الأمم المتحدة الذي وقعت عليها فرنسا ذاتها. - انتخاب مجلس وطني بواسطة الاقتراع العام والمباشر. - الدولة الجزائرية تكون جمهورية ديموقراطية اجتماعية غير منحازه ومن الجدير بالذكر، أن الفترة الزمنية التي جعل منها الحزب الشيوعي مرجعاً نضالياً قد تميزت بمجموعة من الاضرابات التي نظمها وقادها مناضلوه في عدد من المؤسسات الاقتصادية وفي الموانئ. ومن غريب الأمور أن نفس هذه الفترة هي التي تبلورت فيها الحركة الثورية سنة 1945 وقد تميزت بقمع استعماري رهيب ذهب ضحيته حوالي ثمانين ألف جزائري وشاركت فيه القوات الجوية والبحرية والبرية بجميع أنواعها وكان يومها الجنرال ديغول هو رئيس الحكومة الفرنسية بينما كانت وزارة الحرب مسندة إلى الحزب الشيوعي الفرنسي وفي تلك الفترة، أيضاً، كان الحزب الشيوعي الجزائري قد وزع منشوراً يندد، من خلاله، بالحركة الثورية ويتهم الوطنيين بالفاشية لأنهم تجرؤوا على المطالبة باسترجاع الاستقلال والانفصال عن فرنسا.

إن الحزب الشيوعي الجزائري لا يريد أن ينظر إلى تلك الحقيقة التاريخية كما أنه يغض الطرف عن مساهمته الفعلية في جرائم الحرب المرتكبة ضد الشعب الجزائري في مايو 1954 ويتناسى أنه كان من الآمرين بتشغيل الأفران المحرقة في نواحي مدينة قالمة. ودون أن يقدم مبرراً لأفعاله تلك، يأتي فيدعي أحقية المشاركة في النضال الوطني من أجل تقويض أركان الاستعمار الذي كان قبل سنوات ثمان قد دافع عنه بالحديد والنار ضد العزل والأبرياء. إن الحزب الشيوعي الجزائري يتجاوز كل ذلك ويروح يبحث عن عدم الاستجابة إلى ندائه في أسباب يحاول ايهام القراء بأنها هي الصحيحة فيقول: "إن أهمها هو ما تعانيه الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية من صراع بين المركزيين والمصاليين" (52) ثم هناك ما اقتطفته جريدة ليبرتي في عددها الصادر بتاريخ 23/ 9/1954 من مقال نشر على أعمدة "الأمة الجزائرية" في عددها الصادر بتاريخ 10 سبتمبر من نفس السنة ومفاده "أن الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية قد حاولت الاتحاد مع أحزاب أخرى لكنها لم تنجح لأنها كانت تريد من الآخرين أن يتبنوا برنامجها" (53). إن هذا التعليل غير صحيح غير أن السيد حفيظ خطيب (54) قد لجأ إليه للتدليل على حسن نية الحزب الشيوعي الجزائري في كل ما كان يقوم به من المساعي لتحقيق الوحدة الوطنية في الجزائر. ونقول إن التعليل غير صحيح لأن الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية لم تكن وحدها، بل هناك الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين والشخصيات الوطنية المستقلة وكلها لم تكن مصابة بالصراع الداخلي "بين المركزيين والمصاليين" ورغم ذلك فإنها رفضت الاستجابة للنداء. فالسبب الحقيقي إذن يكمن في كون منطلقات الحزب الشيوعي الجزائري وأهدافه متناقضة تماماً مع أهداف أطراف الحركة الوطنية الجزائرية ومنطلقاتها الأيديولوجية. أما عن المقال المنشور على أعمدة "الأمة الجزائرية" والمستظهر به، فإنه كان خاصاً بالاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري وبجمعية العلماء المسلمين الجزائريين الذين كانوا شركاء في "حركة أحباب البيان والحرية" التي حاربها الحزب الشيوعي بوحي من الإدارة الاستعمارية عندما أسس لمناهضتها "أحباب الديموقراطية". إن الحزب الشيوعي الجزائري قد أسس، منذ البداية، لضرب الحركة الوطنية الجزائرية وتحييدها عن خطها الثوري ولإفساد مرجعيتها الفكرية

والحضارية، وسيظل تاريخ الجزائر المعاصر يذكر له الدور الإجرامي الذي أداه فيما اصطلح على تسميته بمذابح مايو 1954 وما نسميه نحن بحركة مايو الثورية، ونفس العمل الذي قام به قبل اندلاع ثورة نوفمبر 1954 سوف يظل مستمراً لكن بشكل آخر، وإذا كانت جبهة التحرير الوطني قد تصدت له بنجاح نسبي أثناء فترة الكفاح المسلح، فإن آثاره السلبية ما تزال قائمة إلى أيامنا هذه وهو ما سوف نبينه بالحجة والدليل في دراستنا المقبلة. ••• • الهوامش:

_ هوامش 1 - اعتبرت هذه الدورية مؤامرة ضد أمن الدولة الفرنسية وقد ألقي القبض على السيد بارتيل وقضت عليه المحكمة بالحبس النافذة لمدة عام. 2 - الجزائريون في نظر الإدارة الاستعمارية ومعظم المؤرخين الفرنسيين إنما هم الأوربيون على اختلاف أجناسهم، أما الجزائريون الأصليون فكانوا يسمون "العرب" أو "المسلمين" 3 - طبع الكتاب تحت اسم مستعار هو: M.Loew وقدمته للقراء بكثير من الأطناب جريدة I,humanitè في عددها الصادر بتاريخ 25/ 2/1936 لكن قيادة الحزب الشيوعي سرعان ما سحبته من السوق وقررت يوم 19 مارس طرد مؤلفه من الصفوف. 4 - انظر نص المشروع كاملاً في ملفات لجنة الإصلاحات، المركز الوطني للمحفوظات، الجزء الثاني، ويشتمل النص على ستة مواد فقط بما في ذلك مادة التطبيق 5 - هذه الشروط هي بإيجاز كبير: (1) المتخرجون من الجيش برتبة ضابط - (2) المتخرجون برتبة رقيب أمضى على الأقل 15 سنة في صفوف الجيش مع شهادة حسن السيرة (3) الحاصلون على الوسام العسكري والصليب الحربي (4) الحاصلون على شهادات التعليم العالي والثانوي - (5) المنتخبون في الغرف التجارية والفلاحية - (6) المندبون الماليون والنواب البلديون ورؤساء الجماعات (7) الباشغوات والآغوات والقواد بعد عمل ثلاث سنوات على الأقل - (8) الحاملون لوسام جوقة الشرف - (9) الحاملون لوسام العمل وأمناء النقابات المعترف بها بعد عشر سنوات من الممارسة. 6 - آجرون (روبرت) تاريخ الجزائر المعاصر، ج2 - ص385

هوامش

_ 7 - نفس المصدر، ص380 8 - مذكرات الحاج مصالي - 1898 - 1938 باريس 1982 - ص247 9 - آجرون، ص386 10 - نشرية الحكومة العامة، العدد الصادر بتاريخ 14/ 1/1940 جاء في النشرية على لسان ابن علي بوخراط: "إن الاتحاد السوفياتي اليوم، يتبع نفس أساليب وسلوكات العنف والاحتلال التي تتبعها النازية، وعليه فإني أتحلل من سياسته ومن سياسة الأممية الشيوعية. 11 - بكثير من الإيجاز، فإن أمرية الجنرال ديغول التي تحمل تاريخ 7/ 3/1944 لا تختلف عن مشروع فيوليت لكن ونظراً للتطور السكاني وللنمو الديموغرافي، فإن عدد الذين صارت تتوفر فيهم شروط المواطنة الفرنسية قد بلغ حوالي ستين ألف بدلاً مما ذكرنا سابقاً فيما يتعلق بالمشروع. 12 - القانون الأساسي لحركة أحباب البيان والحرية (المادة الأولى) 13 - نفس المصدر 14 - نشرية للجنة الفرنسية للتحرير الوطني، العدد الصادر بتاريخ 1/ 4/1944 15 - عباس (فرحات) حديثنا معه يوم 28/ 9/1963 16 - "الحرية" عددها الصادر بتاريخ 12/ 9/1944 17 - انظر النشرية التي طبعها ونشرها السيد عمر أوزقان بالجزائر في شهر مايو 1944 تحت عنوان "الحزب الشيوعي في خدمة السكان الجزائريين" ص13 18 - انظر المنشور في مركز دراسات الحرب العالمية الثانية بباريس - ملف تيبار 19 - لومانيتي، عددها الصادر بتاريخ 12/ 5/1945 20 - ليبرتي، عددها الصادر بتاريخ 17/ 5/1945 21 - جاء ذلك في خطاب ألقاه بمناسبة انعقاد المؤتمر في شهر جوان 1945، وقد قال بالحرف الواحد: "إن الذين يطالبون باستقلال الجزائر إنما هم، بوعي أو بغير وعي، عملاء امبريالية أخرى. ونحن لا نريد استبدال حصاننا الأعور بحصان أعمى. 22 - الحزب الشيوعي الجزائري "ثماني سنوات من الكفاح 34 - 46 الجزائر 1946، ص128 23 - بوهالي (العربي) افريل 1947 مايو 1949 عامان من الكفاح في سبيل الحرية والأرض والخبز، الجزائر بدون تاريخ 24 - نفس المصدر 25 - دفاتر الشيوعية، عدد سبتمبر 1947 ص851 وما بعدها 26 - " Le parti communiste et l'avenir de I'Algèrie" l'ecole élementaire du parti, Alger Mai 1947 p 6 et suivantes 27 - نفس المصدر

هوامش

_ 28 - انظر لائحة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في دورتها المنعقدة يومي 27/ 28 - 12/ 1947 29 - ليبرتي، عددها الصادر بتاريخ 9/ 6/1948 30 - نفس المصدر 31 - الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية، "لائحة السياسة العامة المصادق عليها من طرف المجلس الوطني بتاريخ 4/ 9/1947 المغرب العربي، العدد الصادر يوم 12/ 9/1947. 32 - المصدر نفسه 33 - المصدر نفسه 34 - P.C.A Cours élémentaire du parti communiste Algérien, Alger, Avril 1947, p11 et Suivantes 35 - Hadj Messali, La Justice n du 17/ 8/1937 أما بوخرط فهو في ذلك الحين أحد أمناء الحزب الشيوعي الجزائري 36 - الحزب الشيوعي الجزائري، نفس المصدر 37 - ليبرتي، عددها الصادر بتاريخ 16/ 6/1949 38 - ليبرتي، عددها الصادر بتاريخ 2/ 6/1949 39 - حربي (محمد) جبهة التحرير الوطني بين الخيال والحقيقة، ص78 40 - ليبرتي، عددها الصادر بتاريخ 30/ 3/1950 41 - نفس المصدر، العدد الصادر بتاريخ 30/ 11/1950 42 - الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية، لائحة السياسة العامة التي صادق عليها المجلس الوطني بتاريخ 4/ 9/1947 43 - نفس المصدر 44 - ليبرتي، عددها الصادر بتاريخ 30/ 3/1950 45 - ليبرتي، عددها الصادر بتاريخ 2/ 6/1949 46 - نفس المصدر 47 - ليبرتي، عددها الصادر بتاريخ 28/ 2/1952 48 - نفس المصدر 49 - ليبرتي، عددها الصادر بتاريخ 12/ 11/1953 50 - نفس المصدر 51 - كل ما يتعلق بالنداء، انظر ليبرتي في عددها الصادر بتاريخ 12/ 11/1953 (النص الكامل والتعاليق).

هوامش

_ 52 - ليبرتي، عددها الصادر بتاريخ 23/ 9/1954 53 - نفس المصدر 54 - Khatib (Hafid), ler juillet 1956 L'Accord El N - PCA, OPU Alger 1991 ••••

الفهرس

الفهرس

_ تقديم ....................................................................................... 5 الفصل الأول: .............................................................................. 15 الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الجزائر قبيل نوفمبر 1954 .................... 15 الفصل الثاني .............................................................................. 31 الحركة الوطنية الجزائرية في مرحلة النضج ................................................. 31 1 - تطبيق مبدأ فصل الدين الإسلامي عن الإدارة ......................................... 49 2 - تعليم اللغة العربية، المدارس والمعلمون الأحرار ........................................ 50 3 - القضاء الإسلامي ................................................................... 51 الفصل الثالث .............................................................................. 61 حركة مايو الثورية ......................................................................... 61 أحداث الفاتح من مايو 1945 ............................................................. 67 أحداث ثامن من مايو ...................................................................... 72 المؤامرة الاستعمارية ........................................................................ 74 رد الفعل الوطني والثورة الشاملة ............................................................ 78 عمليات الإبادة وتشغيل الأفران ............................................................. 80 تطور التشكيلات السياسية الجزائرية في الفترة مابين 1946و1954 ......................... 100 الفصل الرابع .............................................................................. 103 الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري ......................................................... 103 عن مشروع الدستور الجزائري .............................................................. 108 - الاتحاد والعمل الميداني ................................................................. 110 موقف الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري من قانون الجزائر التنظيمي ....................... 116 المشاركة في انتخاب الجمعية الجزائرية ..................................................... 124 النضال داخل الجمعية الجزائرية ............................................................ 127 صراع الأشقاء وتدخل الحزب الشيوعي الجزائري ............................................ 129 نحو جبهة وطنية موحدة ................................................................... 133 العوامل الإيجابية .......................................................................... 133 2 - العوامل السلبية ...................................................................... 135 الأعمال بنتائجها .......................................................................... 137

_ الفصل الخامس .......................................................................... 147 حزب الشعب الجزائري .................................................................... 147 1 - الواجهة السياسية أو الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية .................... 154 الانتخابات وعواقبها: ...................................................................... 160 حزب الشعب الجزائري وما يسمى بالأزمة البربرية .......................................... 165 الحزب وسائر الفئات الاجتماعية: ......................................................... 172 أ - التوجهات السياسية ووسائل العمل: .................................................... 177 ب - الواجهة العسكرية أو المنظمة الخاصة ................................................ 179 المؤتمر الرابع وبوادر الانقسام: ............................................................ 189 الفصل السادس ........................................................................... 201 جمعية العلماء المسلمين .................................................................. 201 الجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية واحترامها: ............................................. 208 عودة إلى فصل الدين عن الحكومة: ...................................................... 211 قضية الاتحاد في الجزائر ................................................................. 213 الفصل السابع ............................................................................ 217 موقف الشيوعيين من الحركة الوطنية الجزائرية وثورة نوفمبر 1954 ........................ 217

رقم الإيداع في مكتبة الأسد الوطنية تاريخ الجزائر المعاصر: دراسة/ محمد العربي الزبيري- دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 1999 - ج (1)، ج (2)؛ 24سم. 1 - 961.5 ز ب ي ت ... 2 - العنوان 3 - الزبيري ع - 1338/ 8/ 2000 - ... مكتبة الأسد ••

الدكتور: محمد العربي الزبيري تاريخ الجزائر المعاصر (1954 - 1962). (الجزء الثاني) - دراسة - من منشورات اتحاد الكتاب العرب 1999

تاريخ الجزائر المعاصر (1954 - 1962). (الجزء الثاني)

الحقوق كافة محفوظة لاتحاد الكتّاب العرب البريد الالكتروني: E - mail :[email protected] [email protected] موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة الإنترنت: www.awu - dam.com تصميم الغلاف للفنان: اسمايل نصرة ••

الباب الثاني بناء المجتمع الجزائري الجديد وتطويره

الباب الثاني بناء المجتمع الجزائري الجديد وتطويره

الفصل الأول الخطوات الأولى في التطبيق الميداني لأهداف الثورة

الفصل الأول الخطوات الأولى في التطبيق الميداني لأهداف الثورة * التوجهات الأساسية. * موقف الحكومة الفرنسية من الثورة وتطورها. * مواجهة الصعوبات الأولى. * هجوما العشرين من أغسطس1955م. ••

التوجهات الأساسية

التوجهات الأساسية: عندما أشعلت جبهة التحرير الوطني فتيل الثورة، ليلة الفاتح من نوفمبر سنة أربع وخمسين وتسعمائة وألف، فإنها إنما فعلت ذلك لتجسيد إيديولوجية حزب الشعب الجزائري، لأجل ذلك حددت تحركاتها الأولى في إطار توجهات ثلاث. 1 - التوجه السياسي: ويهدف إلى استرجاع السيادة المغتصبة عن طريق الكفاح المسلح الذي يجب أن يتحول إلى انتفاضة عامة تضعف الجيوش المعتدية، وتخرب الاقتصاد الاستعماري وتفرض جو الحرب الساخنة على فرنسا فتنقاد إلى تفاوض كما حدده نداء الفاتح من نوفمبر سنة 1954. وفي إطار هذا التوجه السياسي، دعت جبهة التحرير الوطني كافة التشكيلات السياسية إلى الإعلان عن حل نفسها رسمياً (¬1)، ودفع مناضليها ومريديها إلى الالتحاق، فرادى، بالصفوف، وأكدت من خلال النداء الأول وفي مناسبات عديدة، أن التفاوض لا يكون إلا معها بصفتها قائداً للكفاح المسلح وممثلاً وحيداً للشعب الجزائري. وكان قادة جبهة التحرير الوطني يطمحون، بصدق وإخلاص، إلى استرجاع استقلال الجزائر ضمن الوحدة الشاملة للمغرب العربي الكبير، وذلك تماشياً مع إيديولوجية نجم شمال إفريقيا، وإيماناً منها بأن تلك هي الطريقة الوحيدة لقطع خط الرجعة على الاستعمار بجميع أشكاله وألوانه. ¬

_ (¬1) مازال هذا الموضوع يسيل كثيراً من الجدل، فمفجروا الثورة يصفون قيادات التشكيلات السياسية في ذلك الوقت بالانتهازية ويتهمونهم بعدم الإستجابة للنداء في الوقت المناسب، لأن الحزب الشيوعي حل من طرف السلطات الفرنسية في سبتمبر سنة 1955 ورغم ذلك ظل ينشط سرياً في الداخل وفي الخارج إلى أن استرجعت الجزائر استقلالها. أما جمعية العلماء والاتحاد الديمقراطية للبيان الجزائري فإنهما أعلنا عن حل نفسيهما وانضمام قيادتيهما فرادى إلى جبهة التحرير الوطني في شهر أفريل سنة ست وخمسون وتسعمائة وألف.

التوجه الاقتصادي والاجتماعي

2 - التوجه الاقتصادي والاجتماعي: ويرمي إلى استرجاع الأراضي المغتصبة وإخضاع مجالات الإنتاج والتسويق والاستثمار إلى التخطيط الذي يأخذ بعين الاعتبار واقع البلاد وإمكانياتها واحتياجات الجماهير الشعبية الواسعة. وبواسطة هذا التوجه كانت جبهة التحرير الوطني تسعى إلى تغيير هيكلة اقتصادية واجتماعية وضعها الاستعمار الاستيطاني طيلة الفترة التي بقيها في ديارنا لتكون دعامة للاقتصاد في (الوطن الأم) ولتبقي الإنسان الجزائري في حالة تبعية دائمة تمنعه من الشعور بذاته وتحول بينه وبين مسؤولياته ككائن له حق التصرف في شؤونه. صحيح أن جبهة التحرير الوطني لم تبدأ، في عامها الأول، ببرنامج اقتصادي، واضح لكنها كانت واعية بأن السلطات الاستعمارية قد اغتصبت ملكيات الجزائريين الزراعية والصناعية خاصة إلى الكولون يستغلونها ويوظفون ثرواتها لتحقيق الثراء الفاحش وللتمكن من ممارسة الاستبداد والاضطهاد على السكان الأهالي، ومن شراء الذمم والأحلاف سواء في أوساط الحكام الفرنسيين بمختلف أنحاء الجزائر أو في فرنسا ذاتها. ولقد تحول ذلك الوعي، في خضم المعركة، إلى رغبة ملحة في استرجاع كل ما أخذ بالقوة. وفي نهاية مرحلة الكفاح المسلح، ظهر التفكير جدياً في إرساء قواعد التسيير الذاتي الذي يعد، بحق، واحدة من الطرق المؤدية إلى انتصار الاشتراكية، والذي هو، في خطوطه العريضة، مأخوذ من تقاليدنا في الإنتاج والتسيير الاقتصادي قبل الاحتلال الفرنسي. 3 - التوجه الحضاري: ويشمل مجالي الدين والثقافة انطلاقاً من مجموعة من الحقائق أهمها: أ - إن الاستعمار لاقى مقاومة بطولية دعامتها المسجد ومصدرها في غالب الأحيان إحدى الزوايا التي كانت منتشرة عبر مختلف أنحاء البلاد لأجل ذلك وجه ضربات قاسية إلى الدين ساعدت على تشويهه وتزييف تعاليمه وإغراقه في متاهات الشعوذة والدروشة. نقول ساعد لأن الأرضية اللازمة للقيام بذلك العمل إنما كانت متوفرة، شأن الجزائر في ذلك هو شأن باقي البلاد الإسلامية التي كانت تعيش جواً يسوده الظلم والاستبداد اللذين لا علاقة لهما بالإسلام، ويخضع للخرافات التي أبعدت الناس عن الدين الصحيح. أما المساجد

فإنه أفرغها من محتواها الثوري الذي وجدت من أجله، وحولها إلى شبه كنائس، وذلك إذا سلمت من الهدم ولم تحول مادياً إلى مقرات لمؤسسات أخرى دينية أو اقتصادية أو سياسية أو عسكرية. إن هذه الحقيقة التاريخية هي التي جعلت الجزائر تلجأ إلى الدين: تخلصه من بعض ماعلق به من شوائب، وفي ذات الحين ترتكز عليه لتزويد المجاهدين بالطاقة الضرورية لهم في مواجهتهم لأعتى قوة استعمارية تفوقهم عدة وعتادا، ولتعبئة الجماهير الشعبية الواسعة وتوعيتها بالوضع الجديد الذي يجب أن تتكيف معه حتى تتمكن من المشاركة الفعلية في معركة التحرير. وبالفعل، فإن الذي يرجع، بتأمل، إلى تاريخ ثورة نوفمبر يرى أن التكبير والترغيب في الشهادة قد أديا دوراً أساسياً في تثبيت العزائم وتقوية النفوس وتجنيد أغلبية المواطنين حول جبهة التحرير الوطني. ب - إن الاستعمار كان وما زال يدرك أن شعباً بلا ثقافة شعب ميت، وأن الاحتلال الحقيقي لا يتم إلا عندما يقضي على ثقافة الشعب المعتدى عليه. فانطلاقاً من هذه القناعة عمدت السلطات الاستعمارية، في بلادنا، إلى تجهيل الجماهير، وتزييف التراث الوطني وطمس معالم الثقافة ومصادرها. بادرت إلى صنع ثقافة جديدة لا علاقة لها بواقعنا، ومثقفين، من نوع جديد، زودتهم بالقيم والأخلاق الاستعمارية. وهنا، أنبه إلى أن التعليم ليس هو الثقافة، وأن هناك من الحصول على الثقافة، وأن هناك من المتعلمين باللغة الفرنسية من تمكنوا من الحصول على ثقافة وطنية واسعة. إن جبهة التحرير الوطني لم تكن تجهل هذا المسعى الاستعماري، ومن ثمة، فإنها إلى جانب الكفاح المسلح، كانت تنظم، في الأرياف خاصة وفي أوساط المجاهدين بصفة عامة، حملات متواصلة لمحو الأمية، وتغيير الذهنيات الجامدة ولرفع مستوى الوعي لدى الفلاحين والعمال، كما أنها كانت تعمل، جاهدة على دعم الأخلاق الثورية المرتكزة على قيمنا العربية الإسلامية، تلكم القيم التي سيكون منها المنطلق لبلورة عناصر الشخصية الوطنية، ولتكوين الإنسان الجزائري الجديد القادر على الإسهام بفعالية في معركة البناء والتشييد من أجل استرجاع السيادة الوطنية وإقامة الدولة القوية المستقلة. وحينما اتخذت القيادة العليا لجبهة التحرير الوطني قرارها التاريخي الخاص بتفجير الثورة ليلة الفاتح من نوفمبر عام أربعة وخمسين وتسعمائة وألف، قسمت البلاد إلى ست مناطق عينت على رأس كل واحدة منها مسؤولاً،

ماعدا منطقة الجنوب. وتم الاتفاق في نفس الوقت، على ضرورة عقد ندوة وطنية في منتصف شهر جانفي سنة خمس وخمسين وتسعمائة وألف تتولى تقييم المرحلة المقطوعة وإعداد برنامج العمل المستقبلي على ضوء التجربة المعيشة وما يكون قد تخللها من مستجدات. إن الندوة المذكورة لم تعقد ولم يتمكن القادة التاريخيون من التلاقي لأسباب كلها موضوعية يأتي في مقدمتها استشهاد مراد ديدوش قائد المنطقة الثانية (¬1) واعتقاد رابح بيطاط قائد المنطقة الرابعة (¬2) ومصطافه بن بولعيد قائد المنطقة الأولى (¬3) وعدم تمكن محمد بوضياف (¬4) من إحكام عملية التنسيق بين الداخل والخارج وهو ما أدى إلى عدم تمكين مختلف المناطق بالأسلحة والذخائر اللازمة لاستمرار المعركة وتطورها. وبالإضافة إلى ذلك هناك حالة الطوارئ (¬5) وميلاد الحركة الوطنية الجزائرية (¬6) التي أرادها السيد مصالي الحاج تنظيماً منافساً لجبهة التحرير الوطني. ولم يبق في الميدان من القيادة السداسية سوى كريم بلقاسم قائد المنطقة الثالثة الذي ظل يبذل أقصى مافي وسعه للتصدي إلى هجمات القوات الاستعمارية، والعربي بن المهيدي الذي صار يسعى للتوفيق بين مهامه كقائد للمنطقة الخامسة وواجبات جديدة فرضت عليه نتيجة اعتقال قائد المنطقة الرابعة. إن هذا التعثر، على الرغم مما كان يمثله من خطر ماحق على مصير الثورة، لم يمنع جبهة وجيش التحرير الوطني من الانتشار بسرعة فائقة خاصة في أوساط مناضلي حركة الانتصار للحريات الديمقراطية الذين كانوا ينتظرون هذه الظروف الجديدة بفارغ الصبر. ¬

_ (¬1) استشهد في معركة بوكركر على مقربة من مدينة زيغود يوسف حالياً يوم 18/ 01/1955. (¬2) تم اعتقاله على إثر وشاية يوم 25/ 02/1955. (¬3) تم اعتقاله في شهر فيفري سنة 1955 عندما كان يحاول اجتياز الحدود التونسية الليبية بحثاً عن الأسلحة والذخيرة. (¬4) الأسباب التي منعته من ذلك كثيرة منها: مرض السل وعدم اعتراف المندوبية الخارجية بسلطته. (¬5) إجراء قانوني اتخذته السلطات الاستعمارية بدلاً عن حالة الحصار وكان ذلك يوم 19/ 02/1955. (¬6) هناك اختلاف كبير حول تاريخ ميلادها بالضبط لكننا نرجح أن يكون في يوم 22/ 12/1955 على إثر حل حركة الانتصار يوم 15/ 11/1954 لأن الحركة الوطنية التي يتزعمها الحاج مصالي عودتنا على أنها تلجأ إلى اسم جديد كلما تعرضت لإجراءات الحل، أما التشكيلة فتبقى بدون تغيير.

ومن الغريب أن المناطق التي أصابتها أعنف الهزات هي التي طورت أكثر من غيرها. ونحن نعرف، اليوم، أن عدد المجاهدين الذين لم يكن يتجاوز الأربعمائة ليلة أول نوفمبر قد ارتفع عشية انتفاضة العشرين أوت سنة 1955 إلى حوالي أربعة آلاف، بالإضافة إلى التنظيم المدني السري الذي عم أغلبية أنحاء المناطق الأولى والثانية والثالثة. ولم يكن تزايد عدد المقاتلين، رغم أهميته كافياً، لأن الأسلحة لم تكن متوفرة لا نوعاً ولا كماً، ناهيك عن الذخيرة وسائر معدات الحرب. فرجال جيش التحرير الوطني، استطاعوا، في هذه الأشهر الأولى، أن يجمعوا حوالي ألف قطعة سلاح (¬1) مابين بنادق الصيد والمسدسات العادية والبنادق الحربية الموروثة عن الحرب الامبريالية الثانية ولم يكن هذا هو المتوقع عندما تفرقت القيادة العليا عشية أول نوفمبر، بل أن آمالاً كبيرة كانت معلقة على نشاطات المندوبية في الخارج (¬2) ومجهودات السيد محمد بوضياف الذي كلف بتعبئة الجزائريين في فرنسا حيث سهولة الاتصال بباعة الأسلحة ومهربيها. غير أن مندوبية الخارج لم تحصل، رغم الجهود المبذولة والوعود المحصل عليها، على مايمكنها من شراء الأسلحة وإدخالها إلى المناطق. ذلك (¬3) أن الدول العربية الشقيقة لم تكن تصدق أن يكون للشعب الجزائري، في يوم من الأيام، طليعة تستطيع تفجير الثورة على واحدة من أعظم القوات الاستعمارية في العالم، خاصة وأن الجزائر كانت ملحقة، قانونياً، بفرنسا (¬4). أما السيد بوضياف، فإن مهمته في فرنسا قد تعقدت بسبب سيطرة مصالي شبه الكلية على هياكل حرّكة الانتصار للحريات الديمقراطية (¬5) لأجل ذلك، فإنه ¬

_ (¬1) - حزب جبهة التحرير الوطني (المنظمة الوطنية للمجاهدين)، من معارك ثورة التحرير، منشورات قسم الإعلام والثقافة، الجزائر بدون تاريخ، ص 14، وما بعدها. (¬2) - كانت المندوبية مكونة من السيدمحمد خيضر رئيساً وعضوية السيد أحمدبن بلة وأيت أحمد وكلهم يعيشون في القاهرة بتفويض من قيادة حركة الانتصار للحريات الديمقراطية، وكانوا ملاحقين من طرف السلطات الاستعمارية بسبب ما تحملوه من مسؤوليات في إطار المنظمة الخاصة. (¬3) Aurcre, Editions Garnier, P. 68. Une Guerre.1. ABBAS (Ferhat) Autopsie d (¬4) - خيضر (محمد)، "بدايات الثورة"، المجاهد، العدد، 12 - بتاريخ 30/ 4/1962. (¬5) HARBI (Mohamed), Le FLN Mirage et réalité, des origines àla prise du pouvoir- (1945 - 19620 P. 151.

ترك فكرة التسليح مؤقتاً، وراح يقوم بحملة توعية واسعة النطاق في أوساط مناضلي الحركة المذكورة إلى أن تمكن من استمالة عدد كبير منهم سمح له بإنشاء هياكل جبهة التحرير الوطني وإرساء قواعدها الثابتة التي ستبرهن على نجاعتها فيما بعد. وأمام هذه الظروف الطارئة، فإن قيادات المناطق، حيث تأجج لهيب الثورة قد لجأت إلى الاعتماد على النفس وراحت تأمر بمضاعفة الجهود في مجال صنع المتفجرات التقليدية وجمع ما أمكن من الذخيرة والأسلحة التي كانت بين أيدي المواطنين، هذا من جهة، ومن جهة أخرى رفعت شعار: "سلاحنا نفتكه من عدونا"، وهو شعار أتى بنتائج إيجابية معتبرة." (¬1) وإلى جانب هذين الإجرائين الحكيمين قام كل من الشهيدين العربي بن المهيدي ومصطفى بن بولعيد، الأول في اتجاه المغرب الأقصى والثاني في اتجاه ليبيا عن طريق تونس، بمحاولة لربط الاتصال بمندوبية الخارج. لكن المحاولتين لم تأتيا بثمار يذكر إذ عاد ابن بولعيد إلى سجن الكدية كما هو معروف. كل هذه الصعوبات والمشاكل غير المتوقعة لم تمنع المجاهدين من خوض كثير من المعارك الناجحة ضد القوات الاستعمارية المسلحة، كماتم تمنع أعداداً كبيراً من الخونة والعملاء من نيل الجزاء الذي يستحقونه. إن الدارس لا يستطيع في صفحات قليلة أو حتى في مجلد، أن يتعرض بجد لكل العمليات العسكرية والحملات التأديبية والكمائن القاتلة التي قام بها أو أقامها جيش التحرير الوطني خلال تلك الأشهر الأولى من الثورة. ولكن كانت الثورة قد حققت كثيراً من التقدم، وأحرزت على العديد من الانتصارات في المجالين السياسي والعسكري، فإن مشاكل التسليح ستظل مطروحة بحدة إلى نهاية عام 1955. وإن هذا النقص في التسليح هو الذي سيسمح للسلطات الاستعمارية بأن تجمع قواها وتوظف إمكانات حربية هائلة لقمع المناطق الثائرة. ¬

_ (¬1) - من معارك ثورة التحرير، ص 16.

موقف الحكومة الفرنسية من الثورة وتطورها

* موقف الحكومة الفرنسية من الثورة وتطورها: وفي صباح اليوم الثاني من شهر نوفمبر، ظهرت الصحافة الاستعمارية بعناوين ترمي إلى هدفين مختلفين: فهي تدعو، من جهة، إلى التزام الهدوء، ومنح الثقة للسلطات المختصة التي تملك من الوسائل ماسيمكنها، في ظرف قصير جداً، من القضاء على الأعمال الإجرامية (¬1) والدعوة إلى الهدوء والثقة معناها منع الفوضى والاضطراب اللذين من شأنهما أن يخلقا مايحتاجه الثوار من ظروف ملائمة، فتضطرب نيران الحرب، وتعم الثورة التي تحقق المسؤولون من وقوعها رغم تنكرهم لها في الظاهر، وعدم اعترافها بشرعيتها. ومن جهةأخرى. فإن تلك العناوين جاءت عبارة عن ترهيب ووعيد موجهين لقادة وأعضاء الحركة الجديدة، مذكرة بقوة فرنسا وعظمتها وقدرتها على رد الفعل، وعلى استعمال العنف والقمع من أجل التوصل إلى استتباب الأمن وإرجاع المياه إلى مجاريها .. وبهذا الصدد، صرح الوالي العام بأنه يملك وسائل إضافية سوف لن يدخر استعمالها، وأنه سيتخذ كل مايجب اتخاذه من إجراءات لحماية مصالح فرنسا والفرنسيين وللدفاع عنها (¬2) وفي اليوم الثالث من الشهر، تعددت التعاليق وتكاثرت الآراء التي أجمعت، رغم اختلاف الاتجاهات السياسية لأصحابها، بأن جذور ماوقع في الجزائر، يجب البحث عنها في الخارج، لأن الدقة التي ميزت الأحداث"أكبر من عقول الأهالي" (¬3) وبالطبع، فإن أول من وجهت إليه التهم الثقيلة هي الجامعة العربية التي لم تكن، آنذاك تخفي دفاعها عن حقوق أبناء المغرب العربي إلى درجة أنها أنشأت، في القاهرة، مباشرة بعد تأسيسها، مكتباً يمثل الحركات الوطنية العاملة في كل من تونس والجزائر والمغرب الأقصى (¬4)، وبالإضافة إلى ذلك فإن إذاعة صوت ¬

_ (¬1) انظر جريدة "صدى الجزائر" Echo d ' Alger، الصادرة بتاريخ 2 نوفمبر سنة 1954. (¬2) جريدة " Echo d' Oran" الصادرة بتاريخ 3 نوفمبر سنة 1954. (¬3) نفس المصدر. (¬4) مكي (الشاذلي)، "مكتب تحرير المغرب العربي، الشعب، العدد 1092، الصادر بتاريخ 17/ 03/1966. يذكر الكاتب الذي كان يمثل حركة الانتصار للحريات الديمقراطية في المكتب المذكور برئاسة الأمير عبد الكريم الخطابي أن الجماعة العربية خصصت لها ميزانية لتكوين وتدريب جيش تحرير شمال إفريقيا.

العرب هي أول محطة أعلنت عن ميلاد جبهة التحرير الوطني، وبشرت بالنصر المبين، ودعت إلى اللحاق بركب المقاتلين، منددة بالقاعدين والمترددين، ثم أن مصر كانت، سنة 1954، ما زالت تعيش في هيجان الثورة وحماسها، تلك الثورة التي رفعت كشعار لها، منذ البداية، خدمة القومية العربية والدفاع عنها أينما وجد أبناؤها. ومن جهته، فإن السيد ميسكاتلي، ممثل ولاية الجزائر العاصمة في مجلس الشيوخ الفرنسي، قد صرح بأن الأحداث التي تهز المستعمرة منذ ثلاثة أيام ماهي إلا دلالة واضحة على التضامن الوطيد بين مختلف الحركات الوطنية التي تشوش شمال إفريقيا بأسره، بل أن مايتم في واحد من أقطار المغرب، إنما هو باتفاق الجميع ومن تخطيط كل القيادات المتمردة على السيادة الفرنسية (¬1). أما الوالي العام، السيد روجي ليونار، فإنه أبدى اندهاشه أمام التناسق الذي تمت به العمليات عبر مختلف أنحاء البلاد، وراح يؤكد أن كل القرائن تثبت بأن عناصر أجنبية هي التي خططت وهي تقود التمرد قصد تجنيد الرأي العام بمناسبة انعقاد الدورة العادية للأمم المتحدة، والتمكن من فتح ملف المغرب العربي أمام تلك الهيئات الدولية. وعلى العكس من الوالي العام، فإن السيد مارسيل أدموند نايجلن السابق الذكر، لم يندهش لما وقع، بل ذكر أنه كان دائماً يقول: "إن الجزائر لا يمكن أن تبقى غريبة عما يجري في المغرب الأقصى وتونس" (¬2)، ثم حدد خطة للعمل تهدف إلى خنق الثورة في مهدها، وحصرها في نقطتين: تتمثل الأولى في الشروع في تطبيق قانون الجزائر الذي سبقت الإشارة إليه، وتتعلق الثانية بتنمية الخدمات الاجتماعية، وخاصة محاربة البطالة في أوساط الأهالي لصدهم عن الانضمام إلى صفوف جبهة التحرير الوطني. وخارج الجزائر، فإن "بريد المغرب" قد علق على أحداث الفاتح من نوفمبر بما يلي: إن الوطنيين يعتقدون أنهم سيسيطرون على عمليات الإرهاب، ولكنهم غالطون، لأن ذلك سوف يتعداهم لفائدة الشيوعيين. (¬3) وكانت الجملة الأخيرة بمثابة الإيحاء، لأن الشيوعية سوف تصبح من ¬

_ (¬1) Ladépêche de Constantine: العدد الصادر بتاريخ 02/ 11/1954. (¬2) نفس المصدر. (¬3) "بريدالمغرب"، الصادر بتاريخ 2 نوفمبر 1954.

خلال وسائل الإعلام، هي المتهم الثاني الذي ستركز سلطات الاستعمار مجهوداتها لتلقي عليه مسؤولية اندلاع الثورة. وليس معنى الاتهام أن المخابرات الفرنسية لم تكن تعرف الحقيقة، ولكن كان لابد من إيجاد العوامل التي تنفر الجماهير من الحركة الجديدة، وتمنعها من الالتحاق بصفوف المكافحين. ذلك أن الشعب الجزائري مسلم، وإذا كانت الثورة مدعمة، حقاً، من قبل الشيوعية، فإنها تكون، بلا شك، مناهضة للإسلام خاصة وأن هناك سوابق في التاريخ المعاصر: شعوب إسلامية سيطرت عليها الشيوعية، فأخرجتها من الإيمان ورمت بها في أحضان الكفر والإلحاد بحجة مسايرة العلم والتقدم. ولئن كانت المسؤولية قد ألقيت هكذا جزافاً على كل من الجامعة العربية والشيوعية، هروباً من الواقع المر الذي لم يكن يخفي على الولاية العامة، فإن حركة الانتصار للحريات الديمقراطية هي الأخرى قد تعرضت لقمع أعمى باعتبارها المسوؤل الرئيسي عما وقع (¬1) .. وهكذا صدر مرسوم بتاريخ الخامس من شهر نوفمبر، ونشر على أعمدة الجريدة الرسمية التي تحمل تاريخ السابع من نفس الشهر، يقضي بحل حركة الانتصار للحريات الديمقراطية وكل المنظمات والهيئات التابعة لها وتحريم نشاطها في كافة أنحاء تراب الجمهورية الفرنسية بما في ذلك مايسمى بعمالات الجزائر. وأعطيت الأوامر لمصالح الأمن في مختلف أنحاء البلاد، فألقت القبض، خلال الأسبوع الأول من نوفمبر وحده، على أكثر من ألفي رجل من مناضلي ومسؤولي الحركة المصالية وزجت بهم في السجون تستنطقهم، بحثاً عن الحقيقة ومن أجل التوصل إلى القيادة العاملة في كل منطقة. وأمام تلك الأعداد الضخمة من الإيقافات وبعد قنبلة جبال الأوراس بالنابالم الذي أتلف الأخضر واليابس في جزء كبير منها، عنونت الجرائد الاستعمارية في صحافتها الأولى: "بأن المنظمة الإرهابية قد قضي عليها نهائياً في الشرق الجزائري". (¬2). ومما لاشك فيه أن تصرفات السلطات الاستعمارية، أثناء هذا الأسبوع ¬

_ (¬1) روبارت مارل؛ أحمد بن بلة، قالي مار باريس سنة 1960، ص 96 - 97، يقول المؤلف أن أحمد بن بلة ذكر له أن قيادة الثورة كانت تراهن على ارتكاب فرنسا كل هذه الأخطاء. (¬2) ص Echo D'Oran La dépêche de constantine du 09/ 11/1954. Alger- Echo d Echod

الأول من الثورة قد ساهمت مساهمة فعالة، وبطريقة عفوية، في تزويد جبهة التحرير الوطني بالكثير من المنخرطين الجدد، كما أنها ساعدت على نشر الرعب في نفوس الأوربيين والتشكيك في كل مايمكن أن يصدر عن الهيئات الرسمية. وبالفعل، فإن حملة الإيقافات العشوائية قد دفعت الكثير من المترددين إلى تغيير مواقفهم والالتحاق بالجبال، هروباً من السجون ومراكز الاستنطاق (¬1). ومن الجانب الآخر، فإن المعمرين لم تعد لهم أدنى ثقة فيما تصدره صحافتهم من بيانات رسمية، خاصة، وأن تلك البيانات كانت قد ذكرت، في البداية بأن عدد المتمردين لا يتجاوز ثلاثمائة أو أربعمائة شخص، يوجد جلهم في منطقة الأوراس. وبعد نهاية الأسبوع الأول من نوفمبر أفادت بأنه ألقي القبض على حوالي ألف من "الإرهابيين" (¬2) وبأن العمليات العسكرية الحقيقية سوف تدخل مرحلتها الحاسمة في الأيام المقبلة. *على هذا الأساس، صار الأوروبيون والذين يقرأون الجرائد بصفة عامة يتساءلون عمن هم هؤلاء الذين تم اعتقالهم. وهل السلطات الاستعمارية تعرف العدد الحقيقي للثوار العاملين في سائر أنحاء الجزائر؟ وإذا كانت السلطات الرسمية لا تستطيع الإجابة المقنعة عن هذين السؤالين، فهل يحق للمعمرين أن يثقوا بقدرتها على حمايتهم والدفاع عن ممتلكاتهم، فضلاً عن ثقتهم بقدرتها على تخليص البلاد من ذلك السرطان الذي يهدد الكيان الاستعماري في أساسه؟ ولاسترجاع تلك الثقة المفقودة والضرورية لخوض المعركة، ركزت السلطات الفرنسية على جانبين رئيسيين من جوانب الإعلام والتوجيه: فمن ناحية سلطت الأضواء على حياة بعض الثوار ممن لهم "ماض إجرامي أو علاقات مشبوهة مع القضاء" وذلك للتقليل من قيمة جبهة التحرير الوطني، وحتى يتخلف أبناء العائلات الكريمة عن الالتحاق بصفوف المجاهدين، ومن جملة ما نشرته جريدة "صدى الجزائر": أن جيش التحرير المزعوم يضم من بين قيادات أركانه شخصيات بارزة يمكن أن نذكر من جملتها: الشهير قرين بلقاسم بن بشير الذي يبلغ من العمر سبعاً وعشرين سنة ويجر وراءه سوابق عدلية لا تقوى الجبال على حملها. لأجل ذلك، فإنه لا مجال للدهشة عندما نعلم ¬

_ (¬1) المنظمة الوطنية للمجاهدين، أشغال المؤتمر لكتابة التاريخ، الجزائر 1981، ج1، ص 107. (¬2) نفس المصدر، ص 109.

أنه فضل الالتحاق بأصدقائه المحكوم عليهم. ترأس عصابة من الإرهابيين بدلاً من أن يستسلم للعدالة ويقضي في السجن سنوات الأشغال الشاقة التي حكم بها عليه سنة 1950". (¬1) ومن ناحية ثانية، ركزت وسائل الإعلام، بأمر من المسؤولين طبعاً، على التدخل الأجنبي والإمدادات الخارجية"، التي بدونها لا يمكن للجزائريين أن يقفوا في وجه قوات الأمن الفرنسية (¬2) وبهذا الصدد، ذكر أن خمس مائة "إرهابي" تونسي التحقوا بجبال الأوراس في الأيام الأولى من شهر نوفمبر لتنظيم وحدات القتال، وتدريب الأهالي على استعمال الأسلحة وعلى خوض حرب العصابات. كما ذكر أن السلطات العسكرية قد لاحظت بأن بعض الطائرات تأتي، ليلاً، بدون أدنى ضوء فتفرغ حمولاتها بمنطقة الأوراس، وتضيف نفس المصادر أن تلك الطائرات قد يكون منطلقها من المملكة الليبية (¬3) وبالإضافة إلى كل ذلك، فإن الصحافة الفرنسية راحت تعمل على تعميم الفكرة القائلة بأن الثوار إنما هم جماعات معزولة ومنبوذة من الجماهير التي لا ترغب سوى في أن تبقى فرنسية كاملة الحقوق والواجبات. وبهذا الصدد نشرت "صدى الجزائر" خبراً مفاده أن سكان تيزي غنيف قد حاولوا الاعتداء على اثنين وثلاثين إرهابياً وقعوا أسرى أثناء عملية قامت بها "قوات الأمن" (¬4). وقد أدت هذه الأوضاع، متظافرة، إلى تذبذب السلطات الاستعمارية التي لم تعد تعني مايصدر عنها من أقوال وتصرفات وصارت تتخبط في عدد لا حصر له من التناقضات. ففي ظرف يومي، الثامن والتاسع من شهر ديسمبر، أعلن السيد ميتران وزير الداخلية آنذاك، "أن سبعين ألف جندي يعملون في المناطق المشوشة للتدليل على أن فرنسا محمية في الجزائر" (¬5)، وصرح السيد ليونار الوالي العام، في حفل رسمي "أن المتمردين لا يزيد عددهم عن أربعمائة شخص"، وعنونت "صدى الجزائر: إن قوات الأمن ألقت القبض على سبعمائة وخمسين وقتلت وجرحت سبعين من "الإرهابيين" (¬6). ¬

_ (¬1) انظر "صدى الجزائر"، عددها الصادر بتاريخ 5 نوفمبر سنة 1954. (¬2) صدى الجزائر، العدد الصادر بتاريخ 8/ 11/1954 ص2. (¬3) المنظمة الوطنية للمجاهدين، أشغال المؤتمر الأول لكتابة التاريخ، الجزائر 1981، ص 111. (¬4) - صدى الجزائر، عددها الصادر بتاريخ 9/ 12/1954. (¬5) - نشر الخبر على أعمدة كل الصحافة التي صدرت بالجزائر يوم 09/ 12/1954. (¬6) - صدى الجزائر، العدد الصادر بتاريخ 9/ 12/1954.

ومع حلول السنة الجديدة، تغيرت الأوضاع كلية، حيث أدركت السلطات الاستعمارية أن لافائدة في مواصلة الكذب والمخادعة العاريين، فراحت قرار بتصعيد العمليات العسكرية للقضاء على مايسمى في تطبيق برنامج إصلاحي في الجزائر وعن اتخاذ قرار بتصعيد العمليات العسكرية للقضاء على مايسمى في ذلك الحين بجيوب التمرد (¬1). فبالنسبة للنقطة الأولى. فإن السلطات الاستعمارية لم تجهد نفسها كثيراً. وإنما اكتفت بنفض الغبار عن قانون الجزائر الذي أودع رفوف المحفوظات منذ تاريخ صدوره سنة 1947. وأضيف إلى مواد ذلك القانون، لكي يبدو أن هناك تجديداً، إجراء خاص بإعطاء المرأة الجزائرية حق الانتخاب. ولقد رأى المعمرون خطراً ماحقاً في تمكين المرأة العربية المسلمة من سلاح يخشى أن يستعمله المناضلون للاستحواذ على كافة المؤسسات السياسية المسيرة للبلاد. كما أنهم اعتبروا تفكير حكومتهم في تطبيق قانون الجزائر، والمعارك قائمة، تعتبر تنازلاً للذين حملوا البنادق، وخطوة عملاقة في طريق التخلي عن العمالات الثلاث المكونة للجزائر الفرنسية. لأجل ذلك، فإنهم رفعوا شعاراتهم المعادية لسياسة الحكومة المركزية، وجندوا كل طاقاتهم للإطاحة بها، خاصة وأن السيد مانداس فرانس، يعد في نظرهم، واهب الاستقلالات ومخرباً للامبراطورية الاستعمارية (¬2). وكان المعمرون أقوياء فعلاً، بالإضافة إلى أن تحركاتهم وقعت في ظرف كانت الحكومة فيه معرضة للهجومات مع جميع الجهات. وتزعم حركة المعمرين، تلك، رؤساء بلدياتهم الذين أوفدوا جماعة منهم إلى فرنسا، تشرح وجهة نظرهم، وتشتري الأنصار من بين كبار الشخصيات الفرنسية المسيطرة على المسرح الفرنسي. ويتضمن مخطط كفاح رؤساء البلديات ثلاثة مطالب مركزية، نستخرجها من الندوة الصحفية التي عقدها الناطق الرسمي بأسمائهم: السيد إيزلا، بتاريخ الخامس والعشرين من شهر جانفي سنة 1955. ويأتي على رأس تلك المطالب: المعارضة الشديدة لكل الإصلاحات المقترحة والتي ستجعل من الجزائر، حسب رأيهم، تونس ثانية، ولكي لا يظهر ¬

_ (¬1) La dépéche de constantine du 1954/ 12/11 (¬2) لأن حكومة مانداس فرانس هي التي وقعت اتفاقيات جيناف التي أنهت حرب الهند الصينية، وأعطت الاستقلال الداخلي لتونس وفتحت المفاوضات مع سلطان المغرب الأقصى قصد إعادته إلى العرش.

رؤساء البلديات في زي الطغاة المستبدين، صرح إيزلا "أن تطبيق الإصلاحات سينظر فيه بعدعودة السلام، واستتباب الأمن في البلاد" (¬1). أما المطلب الثاني، فيدعو إلى التعجيل بإرسال الجيوش المدربة القادرة على خوض المعارك، لأن الأجناد المتواجدين في الميدان غير مهيئين لحرب العصابات. ولذلك، فإن اللفيفا الأجنبي (¬2) والطوابير المغربية (¬3) هي التي يجب أن تخصص لقتال الجزائريين. ولقد طرحت هذه الفكرة لأنها تمنع أبناء فرنسا من الموت المحقق، خاصة وأن أبناء المعمرين يؤدون الخدمة العسكرية كغيرهم، كما أنها تجعل الحرب تدور بين الأجانب فقط. وأما المطلب الثالث، فهو اقتصادي محض يدعو إلى تزويد الجزائر بقروض من ميزانية "الوطن الأم". ومن الجدير بالذكر أن الحكومة الفرنسية لم تبق مكتوفة الأيدي أمام كل تلك التحركات، فأصدر مجلس الوزراء بتاريخ الخامس والعشرين من شهر جانفي، هو نفس اليوم الذي عقد فيه السيد إيزلا ندوته الصحفية، بياناً يتضمن تعيين السيد جاك سوستال والياً عاماً للجزائر، والإعلان عن دمج شرطة الجزائر في شرطة فرنسا (¬4). وإذا كان الإجراء الأول يهدف إلى التخلص من السيد ليونار الذي أصبح أسير كمشة من المعمرين المتطرفين، فإن دمج الشرطة يخرج قوات الأمن الأساسية من قبضة الشرذمة، ويسمح للسلطة المركزية بتعيين ضباط تستطيع الاعتماد عليهم، لأن ضباط ذلك الحين كانوا يأتمرون بأوامر الكولون. إن مبادرات الحكومة سليمة، في حد ذاتها، وكان من الممكن أن تكون لها نتائج إيجابية، ولكنها جاءت مختلفة، ولذلك، فإنها أدت إلى عكس ماكان ينتظر، فسقطت حكومة مانديس في اليوم الخامس من شهر فيفري سنة 1955، أي بعد ¬

_ (¬1) صدى الجزائر بتاريخ 28 ديسمبر 1954. (¬2) جيش أنشأته فرنسا في الجزائر سنة 1831، وهو مكون من المتطوعين القادمين من جميع البلاد المسيحية بهدف تكريس احتلال دار الجهاد، وقد ظل يتجدد بنفس الطريقة إلى أن استرجعت الجزائر استقلالها، وكانت قاعدته الأساسية هي مدينة سيدي بلعباس الكائنة على بعد ثمانين كلم جنوبي وهران. (¬3) - هي لفيف مكون من مقاتلين ينتمون إلى قبائل مختلفة من المغرب الأقصى استعملوا لقمع الحركة الوطنية في مراكش ثم جيء بهم إلى الجزائر حيث ظلوا يقاتلون جيش التحرير الوطني إلى ما بعد استقلال بلادهم، وهكذا الاستعمار, (¬4) (Alistair) Histoire de la Guerre d'Algérie , traduit de l'anglais par Yves de Guermy, Editions Albin Michel, Paris 1980 p 109

عشرة أيام فقط من صدور البيان المذكور. أما بالنسبة للنقطة الثانية، فإن القيادة العسكرية، في الجزائر، قد شرعت منذ اليوم التاسع عشر من شهر جانفي، في تنظيم عمليات واسعة النطاق استهلتها بقنابل مكثفة لجبال الأوراس، ثم أَلقت بآلاف الجنود المزودين بجميع أنواع الأسلحة لتمشيط المنطقة، وسمي ذلك بعملية "فيرونيك" تشبيهاً بحركة القديسة التي تحمل نفس الاسم عندما مسحت وجه المسيح. والمقصود من ذلك التشبيه أن الجيوش الفرنسية تلقت الأمر "بتفتيش المنطقة شبراً شبراً حتى لا يبقى فيها متمرد واحد" (¬1). لقد نسي الاستعمار مقولة ماوتسي تونغ الشهيرة: "أن الثورة أسماك مياهها الجماهير الشعبية" (¬2). ومما تجدر الإشارة إليه أن السيد ليونار هو الذي أشرف على انطلاق عملية فيرونيك التي ستتبعها في اليوم الثالث والعشرين من نفس الشهر عملية "فيوليت" الموجهة لتطهير الجبال المحيطة بمدينة بسكرة والممتدة على حوالي مائتين وخمسين كيلو متراً مربعاً". (¬3) إن هزيمة مانديس فرانس، التي كانت أكبر دليل على قدرة الكولون وسعة سلطانهم، قد أغرقت فرنسا في أزمة سياسية تركتها بدون حكومة مدة تسعة عشر يوماً، ظهرت خلالها عدة محاولات فاشلة قامت بها شخصيات ذات انتماءات سياسية وعقائدية مختلفة. ويبدو أن الملل، من جهة، واطمئنان المعمرين على مصالحهم الخاصة، من جهة ثانية، هما اللذان سمحا للسيد ادقار فور أن يفوز بالثقة التي مكنته من تشكيل حكومته يوم 24 فيفري 1955م. ولا يمكن أن تكون مجرد صدفة تلك التي جعلت سوستيل الوالي العام الجديد، يعلن، بنفس التاريخ، إن فرنسا لن تتخلى عن الجزائر، إلا كما تتخلى عن مقاطعة بريتاني (¬4). وليس ذلك فقط هو الدليل الوحيد على انتصار الطغمة الاستعمارية، بل إن ¬

_ (¬1) Courriére (Yves) . Les Fils de la toussaint, Fayard Paris 1968.P550 .. (¬2) Documents chinois, Troisiéme session de la6éme assemblée de la république populaire de chine, Beying 1985.p77. (¬3) - إيفكوربار، ص 551. (¬4) - انظر عدد -"صدى الجزائر" الصادر بتاريخ 24 فبراير 1955، أما مقاطعة بريطانيا فهي منطقة مكونة من أربع ولايات تقع غرب فرنسا كانت دولةمستقلة انضمت إلى فرنسا في عهد فرانسوا الأول سنة 1534.

هناك تصريحات أخرى، سيدلي بها سوستيل في مختلف أنحاء البلاد، يؤكد فيها بقوة أن فرنسا قد أدركت أهمية الجزائر، لذلك فهي مستعدة للذهاب إلى أبعد الحدود قصد الحفاظ عليها، وبعد الإعلانات ومختلف التصريحات جاءت الإجراءات (¬1) التي قيل، في ذلك الحين، إنها تشكل مرحلة أولى تتجاوب مع ثلاثة اهتمامات هي: 1 - ضرورة توفير الأمن للسكان، بواسطة استعمال الوسائل العسكرية المكثفة. 2 - الشروع في سياسة اقتصادية جديدة تأخذ بعين الاعتبار ثروات الصحراء التي من شأنها أن تغير مصير فرنسا. 3 - تبني فكرة "الجيوش الإفريقية" التي كان بيجو قد استعملها في بداية الاحتلال والتي هي عبارة عن استعمال نفس الأسلحة التي يقاتل بها رجال المقاومة. لكن أخطر إجراء هو ذلك الذي نشرته الصحافة الصادرة بتاريخ التاسع عشر مارس في شكل بيان من وزارة الداخلية يحمل اسم: حالة الطوارئ. وحالة الطوارئ إجراء قانوني جديد، اتخذته السلطات الفرنسية تجنباً للجوء إلى حالة الحصار التي تدعو إليها أحكام الدستور أثناء الدخول في حرب أو عندما يتمرد الجيش. وقد جاء في بيان وزارة الداخلية أن حالة الطوارئ تشكل حلاً وسطاً بين الحالة العادية حيث الاحترام لجميع الحريات، وحالة الحصار التي تؤدي حتماً إلى تفكيك الهياكل التقليدية الإدارية، لأنها تنقل الحكم إلى السلطات العسكرية. ذلك أن حالة الطوارئ تبقي للسلطات المدنية حق ممارسة الحكم، ولكنها تعمل على تركيزه وتدعيمه. ليصبح أكثر ملاءمة مع أحداث تعد كارثة عمومية، من شأنها أن تعرض الأمن للخطر وأن تمس بالسيادة الوطنية (¬2). ¬

_ (¬1) إليستر هورن، ص 111. (¬2) La dépeche de constontine عددها الصادر بتاريخ 19/ 03/1956 والحقيقة من حالة الطوارئ، هي ذاتها حالة الحصار، لأنها تتضمن إجراءات تقضي على الحريات الفردية التي يتمتع بها كل مواطن فرنسي والتي لا تمس ولا تنتهك إلا في حالة تطبيق المادة السابقة من دستور 1947، وهي نفس المادة المتعلقة بحالة الحصار ومن جملة تلك الإجراءات: 1 - النفي أو الإقامة الجبرية. 2 - تفتيش في الليل والنهار.

وتنص المادة الأولى من وثيقة حالة الطوارئ على أن الإجراء الجديد "يمكن تطبيقه على كل أو على جزء من تراب "الوطن الأم" والجزائر أو عمالات ماوراء البحار، ويكون ذلك سواء في حالة وقوع خطر داهم نتيجة اضطراب الأمن العام، أو في حالة وقوع حوادث تتسم بطابع الكارثة العمومية نظراً لنوعها وخطورتها" (¬1). ومامن شك أن الغموض والتقييم في هذه المادة مقصودان لتتمكن الحكومة من ممارسة الظلم والاضطهاد في كل مكان يمكن أن ترتفع فيه أصوات الدفاع عن الديمقراطية والحرية. وبمجرد ما وضعت حالة الطوارئ حيز التنفيذ، دخلت الجزائر مرحلة جديدة من حياتها وأهم ماطبعت به تلك المرحلة: ظهور المحتشدات التي توخي في إنشائها اختيار المناطق النائية ليصعب الاتصال بالمجبرين على الإقامة فيها. وكان اللجوء إلى إنشاء المحتشدات أمراً منطقياً يندرج في إطار المادة السابعة من وثيقة حالة الطوارئ، والتي تشير إلى أنّه في استطاعة وزير الداخلية في جميع الحالات والوالي العام في الجزائر. أن ينفيا إلى أية دائرة ترابية، أو إلى أي مكان محدد كل شخص يبدو نشاطه خطيراً على الأمن والنظام العام. وعلى الرغم من أن الوثيقة تنص في مكان آخر على أن النفي لا يؤدي إلى إنشاء المحتشدات، إلا أن ذلك لم يحترم ولم يكن بالإمكان احترامه لأن نفي مئات الأشخاص إلى مكان واحد يتطلب إمكانيات جبارة للقيام بالرقابة اليومية ولتوفير الأكل والسكن. لأجل ذلك كانت السلطات الاستعمارية مضطرة لإقامة المعسكرات، متبعة في ذلك أساليب النازيين أثناء الحرب الامبريالية الثانية. ولئن كانت المحتشدات في ظاهرها نقمة على الجزائريين فإنها في الحقيقة قد ساعدت، كثيراً، على نشر مبادئ وأهداف جبهة التحرير الوطني. إذ سرعان ما تحولت إلى منابع لاتنضب تزود روافد الكفاح المسلح سواء في الريف أو في المدينة. وقد استغلت الإطارات السياسية تلك التجمعات الهائلة لتنظيم الدروس ¬

_ 3 - مراقبة الصحافة والنشر الثقافي. 4 - إحلال القضاء العسكري محل القضاء المدني في بعض الحالات. (¬1) Comité de vigilance des étudiants, les pouvoirs spéciaux Lyon 1955.04

الاستعجالية في كافة الميادين، ولتعد الذهنية الجزائرية للتكيف مع الأوضاع الجديدة المفروضة على البلاد. ومن الأكيد أن مستوى الوعي والإدراك لدى الجماهير الجزائرية قد ارتفع بنسبة عالية، جداً بفضل ماقدمته المحتشدات من معرفة، ماكان بالإمكان نقلها بمثل تلك السرعة، إلى مثل تلك الجموعات الهائلة. (¬1). ذلك أن كل من يخلى سبيله، ويرجع إلى ذويه، يتحول، تلقائياً، إلى داعية متشبع بالعقيدة، قادر على الإقناع. وهكذا، نستطيع القول إن حالة الطوارئ التي كان المقصود منها شل الحركة النضالية وإخماد النشاط الثوري، قبل استفحاله، قد أتت بنتائج عكسية سيكون لها مفعول كبير في صقل روح المقاومة، خاصة عند النخبة من أبناء الشعب الجزائري. أما السلطات الاستعمارية، فإنها لم تكتفِ بسن حالة الطوارئ، ولكنها راحت تبذل كل مافي وسعها لخلق الظروف الملائمة لتطبيقها على أكبر عدد ممكن من دوائر وبلديات الوطن الجزائري. ففي هذا النطاق، افتعلت الأخبار والإشاعات التي مفادها "أن المتمردين، في جبال أوراس، قد تلقوا، عن طريق الجو، الأسلحة التي أرسلتها دول أجنبية قصد إغراق البلاد في بحر من الفوضى والاضطراب وانعدام الأمن، ومن أجل زرع الشقاق بين الأشقاء وتوسيع هوة الخلاف بينهم" (¬2). ومثل هذا الوضع يشكل، بالطبع، سبباً متيناً لتطبيع حالة الطوارئ. ونشرت الصحافة أن المملكة الليبية ومصر هما اللتان تحركان التشويش وتدعمان التمرد من أجل الانفصال عن "الوطن الأم"، لأنهما غير راضيتين عما حققته الجزائر الفرنسية من تقدم وازدهار. ونقلت الصحافة، كذلك، نبأ إلقاء القبض على الملازم العراقي: محمد حمادي عبد العزيز، وهو يحارب إلى جانب الثوار بالقرب من بوغني. ثم خصصت أهم الأعمدة لنشر تصريحاته التي تحذر الجزائريين مما تبثه إذاعة "صوت العرب" من أكاذيب حول الوجود الفرنسي في الجزائر، مؤكداً أن حالة ¬

_ (¬1) هناك أعداد كبيرة من المعتنقين الشباب تمكنوا من التحصيل العلمي واستطاعوا الاستقلال أن يشاركوا في المسابقات الخاصة بالدخول إلى الثانويات والجامعات. (¬2) انظر، صدى الجزائر، بتاريخ 09/ 04/1955 ومابعد.

سكان منطقة القبائل التي يعرفها أفضل بكثير من حالة أحسن المصريين (¬1). وكانت هذه الأخبار المكذوبة كافية لفرض تطبيق حالة الطوارئ على نواحي الشرق الجزائري في بادئ الأمر، ثم تعميم ذلك، بالتدريج، على سائر المناطق التي بدا فيها تمركز الثوار بكيفية مقلقة. ولكي يكون للإجراء الجديد فعالية أكبر، قررت السلطات الاستعمارية تعيين الجنرال غاستون بارلنج (¬2) على رأس القيادة الموحدة للعمليات العسكرية والمدنية في الأوراس، ولقد تم التعيين بسبب ما حاز عليه ذلك الضابط السامي من شهرة في المغرب الأقصى حيث كان يشرف على منطقة أغادير ذات المراس الصعب، ونشرت الصحافة آنذاك، أنه وضع تحت تصرفه الفيلق الأكثر أوسمة من فيالق الجيش الفرنسي" (¬3). وبالإضافة إلى بارلنج، تم تعيين العقيد ديكورنو قائداً لناحية السمندو (¬4)، المحاذية لمنطقة الأوراسي، وأوردت الأنباء، في ذلك الحين، بأن ديكورنو هو بطل الهند الصينية، دون أن تبين في أي مجال: أي في الهجوم أو في الانسحاب، لأن نتائج تلك الحرب غير القتلى والأسرى والمعطوبين. وكانت هذه التحركات مدعمة بتصريحات سياسية ومبادرات ميدانية، ففي المجال السياسي التأكيد على أنها ستبقى كذلك رغم تدخلات الأجانب (¬5) أما المبادرات الميدانية، فتتمثل في إقدام بعض المسؤولين أمثال المتصرف هرتز (¬6) على تكوين فرق الحركة، وفي أوامر الجنرال بارلنج المتعلقة بجعل المسؤولية جماعية على سكان المناطق الريفية التي تكون مسرحاً للمعارك مع الثوار، أو تتهم بالتعاون معهم. إن كل هذه المجهودات الحربية قد ترجمت، في النهاية، برفع عدد أفراد الجيش النظامي العامل بالجزائر إلى مائة ألف عسكري، بالإضافة إلى تعزيز مايسمى بقوات الأمن والمتمثلة في رجال الشرطة والدرك الوطني الذين كانوا، في تلك الأشهر الأولى من الثورة في المناطق، يقومون مقام الأجانب. غير أن تلك الإعدادات والمساعي لم تحقق لسلطات الاستعمار ما كانت ¬

_ (¬1) صدى الجزائر، عددها الصادر بتاريخ 09/ 04/1955. (¬2) وقع تعيين الجنرال بارلنج يوم 29 أفريل سنة 1955. (¬3) وصل هذا القلق إلى قلب الأوراس يوم 3 مارس سنة 1955. (¬4) وهي مسقط رأس العقيد الشهيد زيغويد يوسف، وهي اليوم تحمل اسمه، وتقع المدينة على بعد خمسة وعشرون كلم شمال قسنطينة. (¬5) انظر صدى الجزائر في عدديها الصادرين يوم 30/ 04/1955، ويوم 12/ 05/1952. (¬6) هو حاكم بسكرة والمشرف علىناحية توقرت العسكرية.

تصبو إليه، ولم تخمد نار الثورة الملتهبة خاصة في المناطق الأولى والثانية والثالثة من أرض الوطن (¬1). ولقد نشرت يوم 27 يونيو سنة 1955، على أعمدة الصحافة، نتائج المعارك التي دارت رحاها في تلك الأشهر الأولى، ولم تكن مشجعة بالمقارنة مع ما بذل من جهد، خاصة في الميدان العسكري. لقد ورد في الإحصاءات المنشورة: أن القوات الفرنسية في الشمال القسنطيني قد قتلت ثلاثمائة متمرد، وأسرت ثلاثمائة وسبعة وأربعين، في حين قتل من أفرادها تسعة وسبعون وجرح تسعة وأربعون، وقتل من المدنيين الفرنسيين مائة وتسعة وعشرون وجرح مائة وتسعة وأربعون (¬2). وبتعبير أسهل، فإن الخسائر الفرنسية قد بلغت، إلى غاية التاريخ المذكور أعلاه، ثلثي الخسائر الجزائرية، وأنها لنتيجة جد مشجعة بالنسبة للثورة الفتيية التي لم تكن تطمح إلى مثل ما توصلت إليه. ومن الممكن أن السيد سوستال قد انتبه إلى هذه الحقيقة، واعترف في قرارة نفسه بأن القتال لن يؤدي إلى النصر المنتظر، لأن الجماهير الجزائرية قد بدأت تتبنى الثورة. لأجل ذلك، فإنه رمى في الميدان بمحاولة خاصة أطلق عليها اسمه، وهي عبارة عن برنامج إصلاحي موجه إلى كافة ميادين الحياة، ويشتمل على عشر نقاط .. (¬3) ¬

_ (¬1) المنطقة في ذلك الوقت هي اسم الولاية مؤتمر الصومام يوم 20 يوليوسنة 1956. (¬2) انظر "صدى الأخبار" في عددها الصادر بتاريخ 27 يونيوسنة 1955. (¬3) النقاط المكونة لبرنامج سوستيل هي: 1 - تقسيم إداري جديد لإنشاء عمالات ودوائر أخرى، وفي اعتقاد سوستال فإن هذا الإجراء سيسهل عملية المراقبة ويضبط حركة المواطنين. 2 - تعصير الفلاحة، وذلك عن طريق الكنكة، لعل الأسلوب الحديث يلهي الجزائريين ويشدهم إلى الأرض، فلا يلتحقون بصفوف جبهة التحرير الوطني. 3 - توسيع الصناعة الخفيفة، قصد خلق الوظائف ومناصب الشغل التي تمتص طوابير العاطلين قبل أن تمتد إليهم يد الثورة الزاحفة. 4 - تحويل البلديات المختلطة قصد الانسجام الإداري، ومن أجل الاستجابة لأحد مطالب النخبة في الجزائر. 5 - استقلال الدين الإسلامي عن الإدارة الفرنسية، وذلك يكون استجابة لأحد المطالب الأساسية التي تنادي بها جمعية العلماء. 6 - تعليم اللغة العربية في المدارس الحكومية، مع العلم أن هذه النقطة تشكل مطلباً تنادي به كافة التشكيلات الوطنية في الجزائر. 7 - محاربة الأمية بواسطة اللغة الفرنسية، لعل ذلك يقرب الجزائريين أكثر إلى الأمة الفرنسية.

إن هذه التحركات المخططة والمدعومة بنشاط سياسي مكثف قد جاءت بالنتائج المرتقبة، ففي خلال السداسي الأول من سنة 1955، ارتفع عدد الأجناد الفرنسيين من حوالي أربعين ألفاً، قبل فاتح نوفمبر، إلى مايزيد عن مائة ألف، تدرب جزء كبير منهم في مدن وأرياف الهند الصينية، وزود السلاح الجوي بمجموعة من الطائرات المطاردة والطائرات العمودية والطائرات المقنبلة، كما أن سلاح المدفعية قد تلقى عدداً من المدرعات والمدافع الثقيلة والمصفحات المختلفة الأنواع، في حين تم تعزيز القوات البحرية العامة في الجزائر بوحدة من البوارج الحربية (¬1). وإلى جانب الجهد العسكري الكبير نظمت السلطات الاستعمارية حملة دعائية واسعة لتمجيد المظليين وإرهاب الأهالي (¬2). ومن جهة أخرى، صدرت تعليمات برفع عدد المحتشدات والتجمعات، ونشطت الرقابة السياسية في ميداني الثقافة والإعلام، حيث صودرت مجموعة من الكتب لأنها تتعرض لحرب العصابات وحروب التحرير بصفة عامة، ومنعت من العرض بعض الأفلام الأمريكية مثل "قنطرة وادي كواى" و"الجنرال" وغيرهما مما له صلة بالمقاومة والكفاح المسلح. رغم كل هذه الاحتياطات ومضاعفة الإمكانيات الحربية، ورغم مشاكل التسليح التي لاقتها جبهة التحرير الوطني في السنة الأولى، فإن الجنرال شاريار لم يتردد، فإن أحد تقاريره، عن القول إن (مايجري في الجزائر، حالياً، يمكن أن تكون له عواقب وخيمة، وعليه ينبغي، في نظره، ألا تنسى بأن التأني والضعف لا ينفعان في البلاد الإسلامية (¬3). ¬

_ 8 - فتح أبواب التكوين المهني للجزائريين حتى يشعر الشباب خاصة بأن هناك مساواة بينهم وبين المعمرين. 9 - تمكين الفرنسيين المسلمين من الالتحاق بالوظيف العمومي حتى لا يبقى ذلك السلك حكراً على المستعمرين، وحتى تحضر الشروط الضرورية لخلق طبقة جديدة تستفيد من الحياة الرغدة التي تمنعها من الانتباه لصيحة الجهاد. 10 - مطالبة الوطن الأم بتكثيف المساعدة للمشاريع الاجتماعية التي من شأنها أن تخلق جواً من الارتياح والرضى لدى أغلبية سكان الجزائر. (¬1) محمد العربي الزبيري، الثورة الجزائرية في عامها الأول، المؤسسة الوطنية للكاتب، الجزائر 1984، ص 119. وما بعدها. (¬2) جاء في أحد المنشورات العديدة التي كانت تلقى بالطائرات على قرى المنطقتين ومداشرهما: "عما قريب سينزل السخط على رؤوس المتمردين، بعد ذلك سيحل السلم الفرنسي من جديد". (¬3) ديشمان، جاك: تاريخ جبهة التحرير الوطني، بتريس 1962، ص 184.

مواجهة الصعوبات الأولى

وعندما قطعت الثورة نصف عام من حياتها، كتب المارشال جوان (¬1) إلى رئيس الحكومة الفرنسية السيد ايدكارفونر (¬2) يحرضه على اتخاذ الإجراءات الصارمة. ومن جملة ماجاء في كتابه: إن الوضع في الجزائر خطير جداً، والمعلومات الأخيرة التي وصلتنا تنبئ بأننا نسير نحو انتفاضة معممة تحت لواء الجهاد، وذلك في سائر عمالة قسنطينة (¬3). إن هذا التشكي الصادر عن القادة الفرنسيين، العسكريين منهم والسياسيين، إنما يهدف إلى حمل الحكومة الفرنسية على الاستجابة، بدون مناقشة، لكل الطلبات المتعلقة برفع ميزانية الحرب وعدد المقاتلين، وبسن القوانين الجديدة التي من شأنها أن تساعد على خنق الثورة في مهدها. ومع مرور الزمن، واتساع النشاط الثوري وافقت الحكومة الفرنسية على تطبيق مبدأ المسؤولية الجماعية وإعطاء التعويض المطلق للقادة العسكريين يفسرون ذلك المبدأ كيفما شاؤوا. كل هذه التدابير التعسفية كان الهدف من اتخاذها الحد من روح المقاومة لدى الجماهير الشعبية وكذلك تسليط أنواع القمع على المناضلين الوطنيين قصد إبعادهم عن جبهة التحرير الوطني، ولكن النهاية كانت عكسية، اعترف بذلك، بعد استرجاع الاستقلال، كل الذين عالجوا تاريخ ثورة نوفمبر العظيمة. * مواجهة الصعوبات الأولى: ولئن كانت جبهة التحرير الوطني قد استفادت في مجال العدد من كل هذه التصرفات الاستعمارية، فإن جيش التحرير الوطني، في الواقع، لم يستفد كثيراً بسبب نقص الأسلحة والذخيرة كما أشرنا إلى ذلك سابقاً، لأجل ذلك، فإن العمليات العسكرية وعمليات التمشيط المكثفة واستعمال العتاد الحربي وآلاف ¬

_ (¬1) اذفونتش جوان، مارشال فرنسي من مواليد عنابة سنة 1888. شارك في احتلال المغرب الأقصى، حيث جرح سنة 1915، عين مساعداً للمرشال ليوتي، ألقى عليه القبض على رأس وحداته سنة 1940، أطلق سراحه بطلب من بيتان بعد عام واحد قضاه في الأسر. رئيس أركان الجيش الفرنسي 1944 - 1946. والي عام في المغرب الأقصى 1947 - 1951 ثم مفتش عام للجيش إلىغاية عام 1953. عين على رأس قوات الحلف الأطلسي لوسط أوروبا من 1951 إلى 1956، أعلن سنة 1961، عن مناهضته لسياسة الجنرال ديغول في الجزائر. (¬2) من السياسيين الاشتراكيين في فرنسا، ولد سنة 1908، ترأس الحكومة الفرنسية مرتين سنة 1952 وسنة 1955. اختار في الأخير تدريس القانون بكلية الحقوق في ديجون. (¬3) رسالة تحمل تاريخ: 18 ماي سنة 1955.

الأجناد المجلوبة من فرنسا، كلها، قد شكلت مضايقة رهيبة، وخناقاً على الوحدات الأولى المكونة لجيش التحرير الوطني في الشرق الجزائري، وعلى وجه الخصوص في المنطقة الأولى (¬1) وجنوب المنطقة الثانية (¬2). وكان المسؤولون، في المنطقتين، يدركون جيداً ذلك الوضع القاسي، ويقدرون كل الصعوبات المتمثلة في تفوق العدو، عدداً وعدة، وفي عدم توفر الأسلحة والذخيرة لدى جيش التحرير الوطني، كما أنهم كانوا يعرفون أن الاستمرار على تلك الحالة يسيء إلى الثورة. وعليه صار لابد من إيجاد طريقة تمكن من فك الحصار المضروب على قمم الجبال والأرياف، ومن جعل القرى والمدن تشعر بأنها طرف أساسي في المعركة التي ينبغي أن تنتشر بسرعة وتتسع ليضطرب العدو، فتتمزق وحدته وتتشتت قوته الضاربة، وفكر الشهيد يوسف زيغود (¬3) ومساعدوه المقربون طويلاً للوصول إلى حل ناجح، صار يسمى منذ ذلك التاريخ "انتفاضة العشرين يوليو سنة 1955. وقبل أن نسترسل في الحديث عن العشرين من يوليو، ينبغي أن نقول إن تركيز فرنسا على المنطقتين الأولى والثانية لم يكن يعني أن الثورة قد خبت نيرانها في المناطق الأخرى من البلاد. لكن المنطقة الأولى كان لها وضع خاص يتمثل فيما يلي: 1 - لقد كانت، قبل نوفمبر سنة 1954، مأوى لمناضلي ومسؤولي المنظمة الخاصة الملاحقين من طرف السلطات الاستعمارية وبالتالي ميداناً للتدريبات العسكرية ومخزناً للأسلحة والذخائر التي تحصلت عليها مختلف أجهزة حركة الانتصار للحريات الديمقراطية من جميع الجهات وبجميع الوسائل. 2 - إن مسؤولها الأول، الشهيد مصطفى بن بولعيد. كان معروفاً كمسؤول ¬

_ (¬1) هي منطقة الأوراس التي ستصبح بعد مؤتمر الصومام هي للولاية الأولى. (¬2) هي التي ستصبح فيما بعد نواة القاعدة الشرقية. (¬3) من مواليد عام 1921 في القرية التي تحمل اسمه حالياً بولاية سكيكدة، نال الشهادة الابتدائية ثم اشتغل حداد وهو لم يبلغ بعد سن الرشد، انضم إلى صفوف حزب الشعب الجزائري سنة 1942، وعندما أنشئت المنظمة الخاصة صار واحد من قادتها البارزين، شارك في اجتماع الاثنين والعشرين خلف ديدوش مراد في قيادتها الأولى يوم 18/ 05/1955 ثناء، قام بدور أساسي في التحضير لمؤتمر وادي الصومام في توفير الشروط اللازمة لإنجاحه، استشهد أثناء معركة قرب بلدة سيدي مزغيش (ولاية سكيكدة حالياً)، يوم 23/ 09/1956 بينما كان في طريقه إلى الأوراس في مهمة كلفه بها المؤتمر الأول لجبهة التحرير الوطني.

في الأوساط السياسية، إذ كان، عشية الثورة، عضواً في اللجنة المركزية لحركة الانتصار للحريات الديمقراطية، ومن ثم، فإنه كان يحظى بثقة معظم المناضلين بما في ذلك أعضاء المنظمة الخاصة للمتواجدين هناك. وبالإضافة إلى شهرته السياسية، فإن مصطفى كان ثرياً ومن رجال الأعمال الناجحين، استطاع أن يوظف رؤوس أمواله في خدمة الجماهير الشعبية التي منحته، بالمقابل، حبها وثقتها. هذان السببان، خاصة، قد ساعدا على انطلاق الأعمال الثورية بسرعة فائقة، ومكنا المسؤولين عن جبهة وجيش التحرير الوطني من العمل بحرية في أوساط الأهالي من سكان المدن والأرياف. وإذا كانت المنطقة الثانية لم تعطِ قائداً له نفس وضع إمكانيات الشهيد ابن بولعيد، فإنها كانت تشتمل على عدد كبير من أعضاء المنظمة الخاصة (¬1) ومن مناضلي حركة الانتصار للحريات الديمقراطية المحنكين والمؤيدين للإسراع بالدخول في مرحلة الكفاح المسلح، لأجل ذلك فإن عملية الهيكلية وتنصيب الخلايا وتجنيد المجاهدين الأوائل لم تعترضها صعوبات كثيرة، الأمر الذي ساعد على إنجاز نسبة كبيرة من البرنامج الذي وضعته القيادة العليا بالنسبة للأشهر الأولى من الثورة. فهذه الأوضاع الخاصة التي كانت للمنطقتين هي التي جعلت الثورة تكون فيهما قوية ومنتشرة، وفي نفس الوقت جعلت السلطات الاستعمارية تخصص معظم إمكانياتها المادية والعسكرية والسياسية لمحاربة جبهة التحرير الوطني هناك. أما في المناطق الأخرى، فقد اهتمت القيادة، في الأشهر الأولى بتنظيم حملة شرح واسعة في أوساط مناضلي حركة الانتصار للحريات الديمقراطية الذين كانوا، في معظمهم، موالين للسيد مصالي في خلافه مع اللجنة المركزية؛ وفي نفس الأثناء كانت هيكلة جبهة التحرير الوطني تجري على جميع المستويات في حين كان التجنيد يتم ببطء نتيجة عدم وجود الأسلحة الكافية. ¬

_ (¬1) عندما وقع اجتماع الاثنين والعشرين كان حوالي نصف المشاركين من تلك التي ستصبح المنطقة الثانية وهم: زيغود يوسف، ابن طوبال، ابن عودة، ناجي بوصوف، عبد مالك، مشاطئ، حباشي، بيطاط وبوضياف.

ولم تبدأ العمليات العسكرية في تلك المنطقة إلا في ربيع عام 1955. وكانت في شكل كمائن تنصب أساساً للحصول على الأسلحة، وبالإضافة إلى ذلك كانت نشاطات جيش التحرير الوطني توجه لإعدام أعوان الشرطة وحراس الغابات، و"القياد" وغيرهم من دعائم السلطات الاستعمارية، وكلما أعدم خائن استفاد مجاهد من سلاحه. وإلى جانب هذه العمليات العسكرية البسيطة، كان على جيش التحرير الوطني في المنطقة الثالثة، أن يجابه المجموعات المسلحة التابعة للحركة الوطنية الجزائرية. أما المنطقة الرابعة، فإنها كانت أسوأ حظاً، لأن السلطات الاستعمارية التي كانت تتابع تحركات مناضلي حركة الانتصار للحريات الديمقراطية قد تمكنت، في خلال الشهر الأول، من إلقاء القبض على أغلبية العناصر الذين بدأوا مع السيد بيطاط بما في ذلك نوابه في العاصمة. وبيطاط نفسه سيقع أسيراً في منتصف شهر فبراير 1955. ونتيجة لذلك النجاح الذي حققته مصالح الأمن الفرنسية، فإن المنطقة الرابعة كادت تختنق بعد حوالي سبعين يوماً فقط من اندلاع الثورة ويعود الفضل في بقائها وانتعاشها إلى ابن المهيدي والعقيد واعمران (¬1)، الذي تمكن، رغم كل العراقيل، من إعادة تنظيم الهياكل ثم ساعدته الظروف على اختيار الرجال الأكفاء الذين عرفوا كيف يندمجون بسرعة وكيف يسيطرون على الأوضاع بعد أن كادت تفلت من جبهة التحرير الوطني لفائدة العدو. ومن جملة الإطارات البارزة تجدر الإشارة إلى عبان رمضان (¬2) الذي خرج من السجن في النصف من شهر فبراير، ووضع نفسه تحت تصرف جبهة التحرير الوطني. مع العلم أنه من مسؤولي حركة الانتصار للحريات ¬

_ (¬1) من مواليد 10/ 01/1919 لجأ إلى الحياة السرية منذ سنة 1945. نائب السيد كريم بلقاسم في المنطقة الثالثة ثم قاد المنطقة الرابعة بعد أن ألقي القبض على السيد بيطاط، عين نائباً عسكرياً للسيد الأمين دباغين ثم قائداً أعلى للقوات المسلحة يوم 25 مارس 1957. (¬2) خبا نجمه مع نهاية عام 1958. يعيش حالياً من التجارة. من مواليد 1920 بالأربعاء نايث ايراثن (ولاية تيزي وزو) ألقي عليه القبض عندما اكتشف أمر المنظمة الخاصة التي كان واحداً من أبرز قادتها. خرج من السجن في نهاية فبرايرعام 1955. تولى تنسيق قيادة منطقة الجزائر. قام بدور أساسي في عقد وإنجاح مؤتمر واد الصومام. اغتاله رفاقه بلقاسم كريم ولخضر بن طوبال وعبد الحفيظ بوصوف يوم 27/ 12/1957. ثم أعلنوا على أعمدة المجاهد الذي كان يشرف عليه أنه استشهد في ميدان الشرف في شهر افريل سنة 1958.

الديمقراطية: قاد ولاية بجاية ثم ولاية عنابة إلى غاية سنة 1950 عندما ألقي عليه القبض وحكم عليه بالحبس لمدة خمس سنوات. وبسرعة كبيرة، وبفضل تكوينه السياسي والإيديولوجي ومستواه الثقافي، استطاع أن يحتل الصدارة أمام مسؤول العقيد واعمران، وحتى أمام قائد المنطقة الثالثة كريم بلقاسم الذي كان يأتي إلى العاصمة يأخذ رأيه حول القضايا السياسية. وأول عمل قام به السيد عبان رمضان هو صياغة بيان مطول يحمل تاريخ فاتح من ابريل سنة 1955 وموجه إلى الشعب الجزائري، جاء فيه على الخصوص: "إن السلطات العسكرية الفرنسية تبذل كل مافي وسعها لإخفاء الحقيقة، فمثلاً، عندما تنصب قواتنا كميناً لسيارة مصفحة، ويصيب سائقها الهلع فيلقي بمركوبه إلى حيث لا رجعة، فإن الصحافة الاستعمارية تكتب عن حادث تنسب سببه إلى الجليد". "أيها الشعب الجزائري، بعدأن حققت نجاحات كثيرة، لا ينبغي أن يخفى عليك بأن المهمة الباقية مهمة جبارة. لأجل ذلك، فإن جيش التحرير الوطني يدعوك لتساعده وتمد له يد المعونة في جميع الميادين ... إن النصر مرهون بما يقدمه كل الجزائريين من مساهمة إلى جانب قواتنا المحاربة والعازمة على مواصلة المعركة إلى أن تنتصر القضية الجزائرية". "أيها الجزائريون، تعالوا جميعاً لتعزيز صفوف جبهة التحرير الوطني. وتخلصوا من التردد، واتركوا الصمت .. وسعوا دائرة نشاطكم كل يوم أكثر حتى تتمكنوا من إرضاء ضمائركم ومن تسديد الدين الذي عليكم لبلدكم (¬1) ". وقد استعمل عبان رمضان كل الإمكانيات المتوفرة لديه لسحب المنشور وتوزيعه على أكبر عدد ممكن من المواطنين. وفي نفس الوقت ضاعف اتصالاته بالشخصيات الجزائرية مركزاً على قادة التشكيلات السياسية. وإذا كانت مجهودات المستشار السياسي للمنطقة الرابعة لم تسفر عن نتيجة تذكر في مجال التفاوض مع ممثلي الحزب الشيوعي والاتحاد الديمقراطي ¬

_ (¬1) Jeanson (Cet F) I'Algerie hors la loi , le seuil 1955 ., p 310 انظر كذلك للاطلاع على منشور كامل: tract du FL N Manduze (Andre) Numero special du 15 juin 1955. ش Conscience maghrebine

وجمعية العلماء، فإن عملية التعبئة والتنظيم في أوساط مناضلي حركة الانتصار المحلولة قد قطعت خطوة عملاقة بعد يوم 13 مايو سنة 1955 الذي أطلق فيه سراح أعضاء اللجنة المركزية الذين التحق معظمهم بجبهة التحرير الوطني في داخل البلاد وفي خارجها على حد سواء، ومن أبرز أولئك الأعضاء السيد ابن يوسف بن خدة (¬1) الذي سيلعب دوراً حاسماً في معركة الجزائر وعلى رأس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية فيما بعد. *لكن التنظيم وحده لا يكفي ولا يكون ناجحاً إلا إذا توافر السلاح والمال، ولئن كان واعمران قد استطاع أن يحل المشكل الأخير بفضل حملة الاكتتاب التي نظمها في أوساط الصناعة والتجارة خاصة، فإن عبان، لمعالجة المشكل الأول، قد أرسل مبعوثاً إلى جنيف عن طريق باريس، ولم تسفر العملية عن أية إيجابية إذا استثنينا تأكيد قيادة المنظمة من ضرورة الاعتماد على النفس. وبالفعل، لقد شرع في تكوين فرقتين مسلحتين، تتحرك إحداهما داخل حي بلكور وتكون تحت إشراف الشهيد ذبيح الشريف، وتتحرك الثانية في حي القصبة فتكون تحت إشراف السيد ياسف سعدي. ويتولى التوجيه السياسي مسؤول جهوي يأخذ تعليماته مباشرة من الشهيد عبان الذي يعمل بتنسيق مع العقيد واعمران، السيد بلقاسم كريم. غير أن التنظيم العسكري، في العاصمة، لم يعرف أي نجاح يذكر في هذه السنة الأولى من الثورة، وذلك بسبب سيطرة المخابرات الاستعمارية وعدم وجود الإمكانيات المادية التي تسمح بالعمل الفوري. وعلى العكس من ذلك، فإن التنظيم السياسي قد عرف تطوراً ملموساً: فأنشئ العديد من الخلايا، وتكاثرت المنشورات الداعية إلى عدم التعامل مع الإدارة الاستعمارية: "لأن غضب الثورة سينصب بلا شفقة ولا رحمة على كل مخالف للتعليمات" وتضاعفت الاتصالات مع قادة التشكيلات السياسية المقيمين بالعاصمة ومع معظم الجزائريين المنتخبين الذين قدم ¬

_ (¬1) من مواليد عام 1920 بالبرواقية ولاية المدية حالياً. عضو اللجنة المركزية لحركة الإنتصارات للحريات الديمقراطية. ألقي عليه القبض في الأيام الأولى من شهر نوفمبر أطلق سراحه يوم 13 ماي 1955، ومباشرة التحق بصفوف جبهة التحرير الوطني إلى جانب عبان رمضان، شارك في معركة الجزائر وعين عضوا في لجنة التنسيق والتنفيذ سنة 1956 ثم وزيراً للشؤون الإجتماعية في أول الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. ترأس الحكومة الالثة ابتداء من شهر أوت سنة 1961، رفض الدخول في صراع دموي مع المكتب السياسي بعد الإستقلال، فانسحب من الميدان ولجأ إلى الحياة المدنية، يشرف على صيدلية بحيدرة في ضواحي العاصمة.

عدد كبير منهم استقالته. وبالنسبة للمنطقة الخامسة، فإن الأمر كان مغايراً تماماً، ذلك أن عمليات ليلة الفاتح من نوفمبر لم تكن ناجحة في معظمها، وتمكنت القوات الاستعمارية من إلحاق خسائر فادحة بتلك المجموعات الأولى من المجاهدين الذين كان يقودهم الشهيد العربي بن المهيدي. ومن جملة القتلى الأول من الثورة: الشهيد ابن عبد المالك رمضان النائب الأول لقائد المنطقة. ولقد تأثر الشهيد ابن المهيدي بتلك النتائج السلبية التي عرفتها منطقته فحاول الاتصال بالعاصمة، تارة وبالمغرب الأقصى تارةأخرى، يبحث عن الأسلحة وعن أحسن الوسائل التي تمكنه من تجاوز المحنة. وإذا كان مشكل الأسلحة سيظل قائماً طوال تلك السنة الأولى من الثورة تقريباً، فإن ابن المهيدي قد وجد في السيد عبد الحفيظ بو الصوف (¬1) نائباً توفرت فيه كل الشروط المطلوبة في القائد الناجح، لقد كان ذكياً متعلماً ومثقفاً، كما أنه كان رهيف الحس يتمتع بمقدرة كبيرة على فهم الآخرين وعلى ربط العلاقات الإنسانية اللازمة خاصة في مثل تلك الظروف. ومن الجدير بالذكر، أن بوصوف استطاع، بفضل حركته وبفضل المجهودات الجبارة التي كان يبذلها في جميع الأوقات وبكل المناسبات، أن يعيد تنظيم المنطقة، ويوفر لها الوسائل والإمكانيات المادية والبشرية التي ستسمح لها بالانطلاقة من جديد بمناسبة العيد الأول لميلاد الثورة. وعلى الرغم من أن المنطقة الخامسة قد قضت كل تلك السنة الأولى في التأهب والاستعداد، فإن السلطات الاستعمارية لم تسرح، وظلت تتابع، عن كثب تحركات المناضلين لعلها تتمكن من القضاء على الحركة قبل ميلادها. وفي هذا الإطار، أراد الوالي العام: السيد جاك سوستيل أن يفرض على مدينتي مغنية ¬

_ (¬1) يعتبر من القادة الأساسيين للثورة الجزائرية، تكون خاصة في إطار المنطقة الخاصة التي كان يحتل مكانة مرموقة في صفوفها واحد من الاثنين والعشرين سبر دائرة سكيكدة للحزب سنتي 1952 - 1953، ثم عين على رأس دائرة تلمسان، عندما اندلعت الثورة عين نائباً أول للشهيد العربي بن مهيدي الذي خلفه سنة 1956 على رأس الولاية الخامسة التي قادها إلى غاية 1958، تولى مسؤولية تسليح الثورة وتنظيم المخابرات التي بلغت، في عهده، أعلى المستويات، هو الذي وفر لهواري بومدين شروط ارتقاء سلم المسؤوليات قبل أن يتركه على رأس الولاية الخامسة. انعزل عن السياسة بعد وقف اطلاق النار ومات بسكتة قلبية .....

وسبدو نفس حالة الطوارئ التي كانت مفروضة على الشرق الجزائري (¬1).ولتنظيم العمال الجزائريين في فرنسا، وإشراكهم في الكفاح المسلح، اتجه السيد محمد بوضياف إلى زوريخ حيث استدعى السيد مراد تربوش (¬2) وزوده بالتعليمات اللازمة لبعث جبهة التحرير الوطني بفرنسا في مرحلة أولى وبأوربا في مرحلة ثانية. ولقد كانت المهمة صعبة ومعقدة، خاصة وأن مصالي الحاج كان يسيطر، كلية، على كافة المناطق هناك، وأن مناضلي، حركة الانتصار للحريات الديمقراطية في فرنسا كانوا يقدسون الزعيم ولا يرضون بغيره بديلاً، كما أنهم أخبروا في تلك الأيام الأولى من نوفمبر بأن القيادة العليا للحزب هي التي أشعلت فتيل الثورة، ومن ثم لا يمكن أن يصدقوا ماقد يأتي به تربوش حتى لو كان من المسؤولين الموثوق بهم. وعلى الرغم من كل الصعوبات، استطاع القائد الأول لفدرالية جبهة التحرير الوطني في فرنسا أن يجند مجموعة أولى من خمسة أشخاص، كان كل منهم مسؤولاً عن واحدة من قسمات حركة الانتصار للحريات الديمقراطية، وأمرهم بالبدء، في تكوين الخلايا التي ينبغي أن يزيد عدد أعضائها عن الخمسة مناضلين، كما أمرهم بنسخ نداء الفاتح من نوفمبر وتعميمه وماكاد يحل شهر مايو سنة 1955 حتى صارت جبهة التحرير الوطني تضم في صفوفها حوالي مائتي مناضل كلهم مستعدون للشروع في العمل الفدائي، لكن الحركة الوطنية الجزائرية كانت وماتزال متواجدة في معظم النواحي، لذلك قرر السيد محمد بوضياف الاستمرار في عملية الهيكلة. وحتى هذه الأخيرة، فإنها سوف تتعثر لأن مصالح الأمن الفرنسية ستلقي القبض على تربوش وبعض أعضاء اللجنة العاملين معه. تم ذلك يوم 26 ماي من نفس السنة. وفي القاهرة، فإن المندوبية، المكونة في بداية الأمر، من ثلاثة أشخاص (¬3) ¬

_ (¬1) انظر البرقية التي تحمل رقم 00686 والتي وجهها سوستيل إلى القائد الأعلى للجيوش الفرنسية العاملة في الجزائر لقد جاء في تلك البرقية، أؤكد موافقتي على تمديد حالة الطوارئ إلىكافة عمالة قسنطية، وكذلك إضافة البلدتين المختلطتين في غنية وسبدو وبعمالة وهران على الحدود المغربية: انظر: SOUSTELLE (J) Aimée et souffrante Algérie . Paris 1956, p 98. (¬2) إذا ما استثنينا السيد محمد بوضياف، فإن مراد تربوش هو أول مسؤول لاتحادية جبهة التحرير الوطني في فرنسا، ظل يقودها أكثر من عام كامل، ويعود الفضل إليه في إرساء قواعدها، وتوفير الشروط الموضوعية لتطورها. (¬3) محمد خيضر، حسين آيت أحمد، وأحمد بن بلة.

هجومات العشرين من أغسطس1955

قد تدعمت بالتحاق السيد محمد يزيد (¬1) عضو اللجنة المركزية لحركة الانتصار ومسؤول فدرالية فرنسا لنفس الحركة قبل اندلاع الثورة، ونظراً لثقافته الواسعة، وتكوينه السياسي وخبرته النضالية فإنه سيصبح واحداً من أعلام السياسة الخارجية لجبهة التحرير الوطني، ولا أظن أن رجال الإعلام الذين كانوا يمارسون المهنة في مستويات عالية، آنذاك مستعدون اليوم، لنسيان ما كان يمتاز به الرجل من ديناميكية وذكاء على استغلال الأحداث والظروف. وكان حضور مؤتمر باندونغ أول انتصار دولي تحرزت عليه جبهة التحرير الوطني التي استطاع ممثلوها أن يتحركوا بحرية مطلقة ضمن وفد المغرب العربي الكبير، وأن يتمكنوا من إقناع أغلبية الوفود المشاركة بعدالة القضية الجزائرية. وقد تجسدت المجهودات المبذولة من طرف السيدين آيت أحمد ومحمد يزيد في تأكيد المؤتمر الأفرو آسيوي على تأييده لشعوب الجزائر والمغرب الأقصى وتونس في تقرير مصيرها وفي عملها من أجل حصولها على الاستقلال (¬2). إن موقف مؤتمر باندونغ (¬3) هذا قد فتح أبواب المنظمات الدولية وفي مقدمتها الأمم المتحدة أمام جبهة التحرير الوطني. لأجل ذلك صار على هذه الأخيرة أن تثبت وجود الثورة الشاملة، ولم يكن ثمة للقيام بذلك أفضل من انتفاضة العشرين أوت سنة 1955. * هجومات العشرين من أغسطس1955 أهدافها ونتائجها: والحديث عن انتفاضة العشرين أغسطس، بعد حوالي ثلاثين سنة، ليس بالموضوع السهل، خاصة وأن الذين هيأوا لها ونفذوها لم يتركوا لنا مذكراتهم، ولم يكتب الأحياء منهم، حتى الآن، ما يسمح بالحكم على صحة أو عدم صحة ¬

_ (¬1) من مناضلي حزب الشعب القدامى، انتخب عضو اللجنة المركزية (1950 - 1954) عين لتمثيل جبهة التحرير الوطني في نيويورك من سنة 1955 إلى سنة 1958، تولى وزارة الأخبار في الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية إلى غاية وقف إطلاق النار. عين سفيراً في لبنان، ثم سفيراً للجامعة العربية في باريس، انتخب عضواً للجنة المركزية على إثر المؤتمر الرابع. عين عضواً بالأمانة الدائمة للجنة المركزية سنة 1984. (¬2) آيت، أحمد (حسين)، الحرب بعد وبعدالحرب، ص 127. (¬3) باندونغ: مدينة كبيرة في أندونيسية، تقع جنوب جزيرة جافة. ضمت الندوة المذكورة ثلاثين بلداً من آسيا وإفريقيا، واشتهرت بقراراتها المدينة للاستعمار والعنصرية والداعية إلى التعاون الإيجابي والمكثف بين كل البلدان النامية والنضال من أجل تمكين الشعوب من حقها في تقرير المصير.

ما ورد حول هذه المسألة في عشرات المؤلفات. وعلى سبيل المثال، فإن السيد الستار هورن، في كتابه "تاريخ حرب الجزائر" يذكر بأن "أحداث عشرين أوت" كانت نتيجة اليأس القاتل الذي يسيطر على كل من زيغود ومساعده الأول السيد لخضر بن طوبال (¬1) وكما سنرى فإن هذا الرأي لا يختلف كثيراً عن الذي جاء به السيد فرحات عباس الذي يضيف إلى اليأس، شعور الشهيد زيغود بالذنب والتقصير تجاه قائد المنطقة: الشهيد ديدوش مراد. أما الملازم أيف كوريار، فإنه، على غرار جرجي زيدان، يطلق العنان لخياله، فيسمع زيغود وهو يحدث أحد أعوانه "إن الخسارة ستكون مرتفعة، ولكن حتى إذا قضي على نصف السكان، فإن الثورة ستربح لأن الجزائر ستتحرك ... وعلى أية حال، فإن حال الثورة لن يكون (بعد الأحداث) أسوأ مما هو عليه الآن (¬2). في استطاعة أي قارئ أن يواصل تعداد الأمثلة وهي معظمها متقاربة. لكننا نتوقف عند رأي السيد إيدوارد باهر الذي يقول: (لقد كانت أحداث العشرين من آب تعبيراً عن الاحتفال بالذكرى الثانية لإلقاء القبض على سلطان المغرب الأقصى. وبينما شاهدت مدينة وادي زم، في البلد الأخير، تقتيل حوالي تسعين، أوربياً، فإن العملية قد أخذت نفس الحجم، تقريباً، في ناحية سكيكدة والعالية ....). غير أن هناك شيئاً لابد من الإشارة إليه، وهو أن الصحافيين والدارسين والباحثين والهواة الذين تعرضوا في كتاباتهم إلى الانتفاضة قد اعتمدوا على ما سمعوه من أخبار ثم تولى كل واحد توجيهها كيفما شاء، وحسب الأغراض التي حددها لنفسه. ومعظم تلك الأخبار، حتى يومنا هذا متأتية عن مصادر استعمارية من جرائد ونشريات وتقارير أمن ودراسات ميدانية إلى غير ذلك من الوثائق التي أعدتها، في ذلك الحين، مختلف السلطات الفرنسية، أما محفوظات جبهة وجيش التحرير الوطني، فإنها قد ضاعت، ولم يبق منها الشهادات الحية وهي لم تستنطق بعد بطريقة علمية وجدية. كثير من الكتاب يذكرون أن السيد لخضر بن طوبال وهو أساسي في هذا الموضوع، قد قال لهم كذا وكذا، أو أكد لهم هذه الحقيقة أو تلك، أو زودهم ¬

_ (¬1) الستير هورن: تاريخ حرب الجزائر، ترجمه عن الإنكليزية إيف كارني وفيليب يوردريل، باريس سنة 1980، ص 123. (¬2) إيف كوريار، عهد الفهود، فايار باريس سنة 1969، ص 182.

بوثائق شخصية لم تنشر، في حين أن المعني بالأمر لم يقدم سوى شهادة واحدة (¬1)، ولم ينشر أي شيء في الموضوع. إن المسؤولين الذين عاشوا تلك الفترة يجمعون على أن زيغود يوسف هو صاحب فكرة الانتفاضة، وعندما اختمرت في ذهنه نقلها إلى مساعديه الأقربين وفي مقدمتهم لخضر بن طوبال. ولقد كان زيغود من قدماء المنظمة الخاصة، ومن المناضلين البارزين في حركة الانتصار للحريات الديمقراطية، لأجل ذلك، وعلى عكس من يزعم بأنه لم يكن يعرف مايمكن أن تنتهي إليه الانتفاضة من عواقب وخيمة، فإننا نستطيع التأكيد بأنه كان مقداراً لكل الاحتمالات. فالمشرفون على المنظمة الخاصة كانوا يركزون على نظرية حرب العصابات، وعلى كل المناهج التي من شأنها تعبئة الجماهير وجعلها تتحمل مسؤولياتها كاملة. وفي هذا الإطار، كان يوسف زيغود يقول دائماً أن القمع الأعمى يولد القمع الأعمى، والعنف يدعو إلى العنف، وعلى هذا الأساس، فإذا تمكنت جبهة التحرير الوطني من إقناع السكان العزل بضرورة الانضمام إلى أفراد جيش التحرير الوطني في عملية هجومية ضد الاستعمار وقواته بجميع أنواعها، فإنها ستتسبب في رد فعل عنيف يقطع خط الرجعة على المترددين، ويوقظ الحس الوطني لدى عامة المواطنين. ومهما يكن من أمر، فإن جميع المعلومات المختلفة من مصادرها المتعددة وإخضاعها للنقد والتحليل، يسمحان لنا بحصر أهداف انتفاضة العشرين آب فيما يلي: 1 - مضاعفة عدد مراكز التوتر في أماكن كثيرة من المنطقة الثانية ليرفع الحصار المضروب على منطقة الأوراس التي كانت تعاني من عمليات التمشيط المبكرة آنذاك. 2 - نقل الحرب الساخنة من الجبال والأرياف إلى المدن والقرى، وبذلك يتم ضرب عصفورين بحجر واحد. فمن جهة يخفف الضغط المفروض على الريف من أجل محاولة خنق التنظيم الثوري في مهده، ومن جهة أخرى ليتأكد الاستعمار من أن الثورة في كل مكان ولكي تتسع الهوة بين السلطات الاستعمارية والجزائريين الذين كانوا مايزالون مترددين. ¬

_ (¬1) بمناسبة الندوة الوطنية الأولى لكتابة تاريخ الثورة أيام 29 - 31 أكتوبر سنة 1981.

3 - إقناع الرأي العام الفرنسي والرأي العام العالمي بأن الشعب الجزائري قد تبنى جبهة التحرير الوطني، وهو مستعد لمجابهة الرشاشات والدبابات حتى بالحجارة والفؤوس والعصي من أجل تحرير البلاد. 4 - تدويل القضية الجزائرية، وذلك بحمل الجمعية العامة للأمم المتحدة على تسجيلها في جدول أعمال دورة 55. 5 - لتكون تلك الأحداث الدامية تعبيراً صادقاً عن تضامن الجماهير الجزائرية مع الشعب المغربي الشقيق. وبالفعل، فإن معظم هذه الأهداف قد تحقق، وعلى سبيل المثال، نذكر يقظة الحس الوطني لدى منتخبي الدرجة الثانية من الجزائريين الذين سيصدرون اللائحة المشهورة بعد حوالي شهر من وقوع الانتفاضة (¬1)، كما تشير إلى أن المجلس الوطني الفرنسي قد خصص، نتيجة لذلك، ثلاثة أيام في منتصف شهر أكتوبر للتداول حول القضية الجزائرية (¬2). أما الجمعية العامة للأمم المتحدة، فإنها بفضل موقف بلدان العالم الثالث، قد سجلت المسألة الجزائرية في جدول أعمال دورة سنة 1955. وكان ذلك بأغلبية صوت واحد. واكتفى الوفد الفرنسي لدى الأمم المتحدة بالانسحاب (¬3) بينما في الجزائر، صرح سوستيل: إن ماوقع في نيويورك أثمن من قافلة أسلحة توجه إلى جبهة التحرير الوطني (¬4). أما السيد فرحات عباس، فيرى أن ما أسماه بفظائع أوت هي نتيجة أزمة الضمير التي كان زيغود يجتازها في ذلك الوقت. وتتمثل الأزمة، حسب رأيه، في شعور قائد المنطقة الثانية بأن السبب في استشهاد ديدوش مراد إنما يرجع إلى الأخطاء التي ارتكبها هو، كدليل يعرف المنطقة وسمح للفرقة بأن تجتاز أرضاً مكشوفة (¬5). وبالإضافة إلى أزمة الضمير، يزعم عباس بأن أحداث العشرين من أغسطس سنة 1955، كانت تقية اتخذها زيغود ليصفي حسابات قديمة مثل انتقامه من علاوة عباس الذي كان قبل الثورة قد انتصر في الانتخابات على ¬

_ (¬1) انظر اللائحة التي تحمل تاريخ 26/ 09/1955 في ABBAS Ferhat, Autopsie d'une guerrep.143. (¬2) أوبرمان، ص 67. (¬3) الشقيري (أحمد)، قصة الثورة الجزائرية، دار العودة بيروت بدون تاريخ، ص 20. (¬4) صدى الجزائر، في عددها الصادر بتاريخ 29/ 12/1955. (¬5) عباس (فرحات) تشريح حرب، ص106 وما بعدها.

مرشح حركة الانتصار للحريات الديمقراطية (¬1). وإذا استثنينا غلاة الاستعماريين الذين كتبوا عن انتفاضة العشرين أوت لتشويهها، وهم معذورون لأنهم في حالة الدفاع عن أنفسهم وتبرير جرائمهم، فإن عباس هو الوحيد الذي قلل من قيمتها مؤكداً بأن قيادة المنطقة الثانية كانت قصيرة النظر، ومشيراً إلى أن مؤتمر الصومام نفسه قد أدان الأحداث ولو كانت فيها فائدة لما فعل ذلك. نحن نعتقد أن عباس عندما أصدر هذا الحكم، لم يكن قد أطلع على رأي السيد جاك سوستيل الذي قال بعد الأحداث بأسابيع: هناك تاريخان يفرضان نفسيهما على الذهن وهما: فاتح نوفمبر و20 أغسطس وهذا الأخير أكثر لأن سلسلة الحوادث بعده قد تكاثرت وأخذت بعداً آخر (¬2). ويذكر المؤرخون جميعهم أن انتفاضة العشرين أغسطس وقعت عند منتصف النهار لكن واحداً منهم لم يحاول أن يصل إلى الدافع الذي جعل زيغود يختار تلك الساعة من النهار. والحقيقة أنها كانت، يومها، هي وقت آذان صلاة الظهر، وأراد أن تمتزج الدعوة للصلاة بالدعوة إلى الجهاد، وهو ماحدث في أغلبية القرى والمدن. وهناك أسباب أخرى من جملتها، مثلاً، كون منتصف النهار هو موعد وجبة الغذاء عند الأوروبيين المدنيين، لأن العسكريين يتغذون قبل ذلك بساعة كاملة أو نصف ساعة، ثم أن الوقت صيف، وبعد الظهر تشتد الحرارة، ومعظم أفراد الجيش الفرنسي غير معتادين على ذلك. المهم أن الهجوم قد بدأ في الوقت المضبوط ولكن ليس في كل الجهات المحددة، بل يمكن الجزم أن الجهة التي كان يشرف عليها الشهيد زيغود مباشرة هي التي نفذت الخطة بكل دقة، لأجل ذلك وقع كل الثقل تقريباً على الشريط الممتد بين سكيكدة، القل وقسنطينة، شاملاً على الخصوص: مدينة سكيكدة وضواحيها، مدينة رمضان جمال حالياً مدينة صالح بوشعور، مدينة الحروش، مدينة مزاج الدشيش، مدينة سيدي مزغيش، مدينة ريغود يوسف حالياً، مدينة وادي زناتي، ثم مدن القل والميلية وقسنطينة والخروب. ولقد كانت عمليات القمع وحشية، استهدفت كل المواطنين بدون تمييز وإن ¬

_ (¬1) نفس المصدر. (¬2) SOUSTELLE (J) Aimée et souffrante Algérie. p 137.

وإن كان الاختيار يذهب، غالباً إلى الرجال والشباب، واختلفت الجهات في تقدير عدد القتلى، فالمصادر الفرنسية تحدثت عن حوالي ألف وخمسمائة شخص من بينهم حوالي مائة وعشرين أوربياً. أما جبهة التحرير الوطني فنشرت، يومها، أسماء وعناوين اثني عشر ألف قتيل وقتيلة. ونحن نعتقد أن شهداء الانتفاضة كانوا أكثر بكثير، نستدل على ذلك بشهادة جندي فرنسي ذكره السيد هورن في كتابه (¬1) يقول ذلك الجندي الذي يتحدث عن مدينة سكيكدة. "إننا شرعنا نطلق الرصاص على الجميع بدون تفريق وكان قادتنا يحددون الأوامر باستهداف كل العرب الذين نلقاهم وظللنا مدة ساعتين لا نسمع غير صوت الأسلحة الأوتوماتيكية تقذف النار على الجمهور بعد ذلك جاءت أوامر جديدة تقضي بجمع الأسرى، وفي الغد، على الساعة السادسة صباحاً، سطرت المدافع الرشاشة أمامهم ثم أطلق الرصاص. وبعد عشر دقائق انتهى كل شيء وكانت أعدادهم هائلة إلى درجة أن دفنهم استوجب استعمال الجرافة. ومهما كان عدد الضحايا، فإنه يبقى قليلاً إذا قارناه بالنتيجة الإيجابية التي تم التوصل إليها. ولئن كان بعض الكتاب والمؤرخين يزعمون بأن عدداً من المسؤولين في المنطقة الرابعة، أمثال عبان ولبجاوي، قد استنكروا أحداث العشرين من أغسطس لأنها تسببت في مقتل أو عطب كثير من المدنيين، وإذا كان هناك من يذهب بالقول إلى أن مؤتمر وادي الصومام قد أدان العملية ووجه، بشأنها، توبيخاً إلى الشهيد زيغود يوسف، فإن الواقع لا يصدق كل هذه الادعاءات لسبب بسيط وهو أن محفوظات الثورة لا تذكر ذلك، بل أن جميع الوثائق المتوفرة لدينا، حتى الآن تمجد الانتفاضة وتعتبرها بعثاً جديداً ومنعرجاً تاريخياً حاسماً في حياة الثورة (¬2). وليس ما أوردته مجرد ادعاء، كما أنه لا تأثير فيه، لا للعاطفة ولا للمغالاة، لأن أحداث العشرين من أغسطس هي التي فرضت على صحافة العالم كله أن تخصص أعمدة كاملة تحت عناوين كبيرة للقضية الجزائرية بمفهوم جديد غير الذي ¬

_ (¬1) انظر الستير هورن، ص 125 و126. (¬2) أعمال المؤتمر لكتابة التاريخ، ص: 217، ومابعدها.

يجعل من الجزائر جزءاً لا يتجزأ من فرنسا. وانتفاضة العشرين أغسطس أيضاً، هي التي كسرت جناحي السيد سوستيل الذي كان قد جمع كل قواه، وجند سائر إمكانياته في جميع الميادين ليطبق قانون سنة 1947 الذي أسلفنا ذكره، لقد كان سوستيل يؤمن بأن الإصلاحات الاجتماعية وبعض الحقوق للجزائريين تكفي لعزل جبهة التحرير الوطني والقضاء عليها، وكان يعتمد، في حساباته، على مجموعة من المعتدلين وبالضبط على السيد فرحات عباس وأتباعه. لكن زيغود، الذي لم يكن في الحسبان، تدخل بعنف فزاد الهوة اتساعاً ووجه إنذاراً شديد اللهجة للإطارات الجزائرية التي كان سوستيل يركز عليها آماله.

الفصل الثاني المجتمع الجزائري الجديد وكيفية تنظيمه

الفصل الثاني المجتمع الجزائري الجديد وكيفية تنظيمه أ - في مجال السياسة الداخلية. ب - في المجال العسكري. ج - في مجالي الثقافة والاقتصاد.

لقد اغتنمت جبهة التحرير الوطني أول فرصة أتيحت لها، في اليوم العشرين من شهر أوت ست وخمسين وتسعمائة وألف، لعقد المؤتمر الذي كان منتظراً جمعه في بداية عام خمسة وخمسين وتسعمائة وألف (¬1) وضبطت جدول أعماله في نقطتين اثنتين هما: 1 - إثراء بيان الفاتح من نوفمبر عام أربعة وخمسين وتسعمائة وألف. 2 - تعيين القيادة العليا التي تناط بها مسؤولية مواصلة الكفاح من أجل استرجاع السيادة الوطنية. فبيان الفاتح من نوفمبر كان إعلاناً عن ميلاد جبهة التحرير الوطني، وتحديداً للخطوط العريضة التي يشتمل عليها برنامجها السياسي والعسكري. أما التسمية فيعود سببها إلى رغبة المجموعة التي أشعلت فتيل الثورة في التدليل على أنها لا تنتمي إلى أي من الجناحين المتصارعين داخل حزب الشعب الجزائري وأنها تتجاوز كل الصراعات الشكلية التي لا تفيد سوى الاستعمار، لترجع النضال إلى الطريق السوي المتمثل في الكفاح المسلح. فالكفاح المسلح هو الوسيلة الوحيدة التي ظل حزب الشعب الجزائري يستعد للوصول إليها، إيماناً منه بأنها اللغة التي يفهمها غلاة الاستعمار الفرنسي. (¬2) * وعندما يتأمل الدارس مختلف النقاط التي عالجها بيان أول نوفمبر سنة 1954، يتأكد أن ماحدث في تلك الليلة لم يكن إعلاناً عن مجرد حرب تحريرية تنتهي بوقف إطلاق النار بل كان بداية ثورة ترمي في ذات الوقت إلى تحرير الأرض وتحرير الإنسان. لأجل ذلك فإن القيادة العليا مطالبة، بالإضافة إلى سهرها على توفير الشروط اللازمة لإنجاح المعركة المسلحة، بوضع تصور إجمالي للمجتمع الذي ينتظر بناؤه بعد القضاء على السيطرة الأجنبية. ¬

_ (¬1) محمد العربي الزبيري، الثورة الجزائرية في عامها الأول، ص 123. وكذلك حزبي (محمد) جبهة التحرير الوطني، ص 172. (¬2) MTLD,Résolution générale Adoptée par le deuxiéme congrés du MTLD, d' Avril 1953 p(3 - 2).

أ - في مجال السياسة الداخلية

من هنا جاء اهتمام مؤتمر وادي الصومام بالنقطتين المشار إليهما أعلاه، ولقد ناقش المؤتمرون مشروع وثيقة شاملة (¬1) نجد اليوم مقتطفات منها، ونعرف من الذين شاركوا في وضعها أن بعض أجزائها ظلت بعيدة عن متناول القارئ ويتحمل في نهاية الأمر، أنها ضاعّت رغم الإيماءات والإشاعات (¬2). ومن وجهة النظر الإيديولوجية، فإن وثيقة وادي الصومام تعتبر ميثاقاً تضمن، بكثير من الدقة والتفاصيل، تقييم المرحلة المقطوعة من حياة الثورة وآفاق المجتمع الجزائري بعد استرجاع السيادة الوطنية، بالإضافة إلى تنظيم مختلف جوانب الكفاح المسلح وتصور المشروع السلمي لتسوية القضية الجزائرية. وإذا كنا قد أعطينا للنقطة الأولى حقها في الفصل الأول فإننا نخصص هذا الفصل الثاني لدراسة المجتمع الجزائري الجديد وكيفية تنظيمه: أ - في مجال السياسة الداخلية: لقد كان حزب الشعب الجزائري يسعى، بالدرجة الأولى، إلى تنظيم الطليعة المتشبعة بإيديولوجيته قصد تكليفها بالنفاذ إلى أوساط الجماهير حيثما وجدت توعيها بالواقع الذي تعيشه وتجندها لخوض المعركة عندما يحين الأوان، لأجل ذلك كان المناضلون يستعملون جميع الوسائل لإقناع أكبر عدد ممكن من المواطنين بضرورة الخلاص من كل أنواع السيطرة الأجنبية. كان الهدف الأول، إذن، يرمي إلى جعل الإنسان الجزائري يدرك أنه يعيش وضعاً مختلفاً كلياً عن وضع الأوربي، وأن من الواجب عليه العمل على إحداث التغيير. فالمستعمر الدخيل استطاع، بوسائل متعددة، أن يستولي على الأراضي ¬

_ (¬1) أوزقان (عمار) ذكر لي في لقاء أجريته معه بمقر حزب جبهة التحرير الوطني في ساحة الأمير عبد القادر بالعاصمة يوم 10/ 04/1964 أنه كان المحرر الرئيسي لمشروع الميثاق الذي عرض للمناقشة على مؤتمر وادي الصومام. (¬2) هناك عدد من المسؤولين يقولون أنهم يملكون بعض المخطوطات وأنهم سينشرونها في الوقت المناسب، ولكن بعضهم طبع مذكراته وذيلها بملاحق دون أن ينقل للقراء أشياء جديدة عن وثيقة وادي الصومام التي يبدو أن ماهو منشور منها كامل ولا ينبئ بأن ثمة أجزاء ناقصة، لقد أتيحت لي فرصة الحديث في الموضوع مع السيد عمار أوزقان بعد تعيينه رئيساً للجنة المنبثقة عن المؤتمر الأول لحزب جبهة التحرير الوطني فأكد لي أن مايعتبره بعضهم قد ضاع إنما هي مجموعة من الاقتراحات المقدمة من جهات مختلفة ولم ير المؤتمرون ضرورة لتبنيها، وهناك أيضاً عدد من الفقرات التي تعالج موضوعات متنوعة حذفت أثناء المناقشة العامة.

الخصبة والمناجم الغنية بالثروات المعدنية وأن يسخر، لاستغلالها، كل السواعد القادرة على العمل كما سبقت الإشارة إلى ذلك في الباب الأول من هذه الدراسة. ولكي تتمكن السلطات الاستعمارية من تأييد حالة التبعية في أوساط الجماهير الجزائرية ومن إبقائها في دائرة التخلف، فإنها كانت تطبق بكل دقة مبدأ "فرق تسد". "فالجزائر لم تعرف الاستقلال في تاريخها، ولم يكن فيها شعب واحد، ولا هي قادرة على العيش بدون وصاية أجنبية. أما سكانها فأجناس مختلفة وقبائل متنافرة متناحرة" (¬1). لقد استطاع المؤرخون أن يعرفوا المكتبات بما مفاده أن العناية الاستعمارية قد جعلت من الجزائريين أمة في طور التكوين أهم عناصرها هم العرب واليهود والأوروبيين، ولأنها لم تكن موجودة من قبل، فإنه لا يحق لأبنائها أن يموتوا لكي تبعث من جديد كما أكد ذلك السيد فرحات عباس عندما قال: لو اكتشفت الأمة الجزائرية لكنت وطنياً دون أن أخجل من ذلك خجلي من ارتكاب الجريمة، لكنني لن أموت من أجل الوطن الجزائري لأنه غير موجود. إنني لم أعثر عليه. لقد سألت التاريخ واستنطقتُ الأحياء والأموات وزرت المقابر ولم أجد من يعرف ذلك. إن البناء لا يكون على رأس من الريح (¬2). وفي نفس هذا المعنى كتب السيد بيار مونتانيون "أن فحص ألفي سنة من تاريخ المغرب الأوسط يجعلنا نؤكد عجز الشعب الجزائري عن بناء أمة وإنشاء حضارة. لقد تساءل المؤرخون حول ذلك فلم يجدوا أثراً للدولة الجزائرية ولا لثقافة خاصة تتميز بمؤلفاتها الأدبية وآثارها الفنية. إن تاريخ الجزائر فارغ مثل أرضها التي ليس فيها سوى آثار الآخرين" (¬3) ولم يقف السيد مونتانيون عند مجرد الادعاء، بل إنه حاول إيجاد أسباب للفراغ وللموت المذكورين: وفي نظره، فإن ذلك يرجع إلى كون الجزائر لم ¬

_ (¬1) مجموعة من المؤرخين الفرنسيين، تاريخ شمال إفريقيا الفرنسي بدون معلومات حول الطباعة والنشر. ص: 17 ومن الجدير بالذكر أن هذه أيضاً، هي نظرية الحزب الشيوعي الجزائري التي ظل يدافع عنها إلى نهاية الأربعينات وكتابات موريس توريس وأقواله في الموضوع معروفة وكثيرة. (¬2) فرحات عباس، جريدة الوفاق الصادرة يوم 23/ 02/1936. (¬3) PIERRE MONTAGNONS, LA GUERRE D'ALGERIE. GENESE ET ENGRENAGEE D'UNE TRAGEDIE EDITIONS PYMALION- PARIS 1984. P.29.

تنجب أبطالاً يوحدون شعبها ولا بين شخصيات علمية وثقافية وسياسية قادرة على إحداث التغيير والتطور التارخيين. يقول في هذا الصد" إن هذا البلد الذي أنجب أمثال القديسين أوغستين (¬1) وتارتليان (¬2) والقدس سيبريان (¬3) قد أصبح بعد الفتح العربي مفترقون إلى عظماء باستثناء الأمير عبد القادر. ومن الواضح أن في ذلك تكمن أسباب التبعية التي عاش فيها الجزائريون والتي دامت مدة ألفي سنة (¬4). لأنه كان يعتبر الأمة الجزائرية غير موجودة ولا مجال لبعثها، فإن الاستعمار لم يجعل لنفسه حدوداً في تعامله مع الجزائر. فقد أعلن مبكراً عن ضمها إدارياً إلى التراب الفرنسي (¬5) ولجأ إلى كثير من المحاولات لتحقيق فرنسة الجماهير وتنصيرها قصد دمجها نهائياً في الشعب الفرنسي، ومن خلال كل تلك المحاولات كان يتفنن في سن القوانين المساعدة على إنجاح عملية السلخ والتشويه، نذكر على سبيل المثال: قانون الأهالي الذي لم يبلغ إلا سنة 1944 (¬6) والقانون البلدي الصادر يوم الخامس من شهر أفريل سنة أربع وثمانين وثمانمائة وألف والقاضي بإعطاء حق التصويت للمالكين والمزارعين والموظفين والمتقاعدين والحاصلين على الأوسمة بهدف فصلهم عن جماهيرهم الشعبية. وهناك، أيضاً، القانون الخاص بإنشاء الفوضويات المادية (¬7) الذي وقع إصلاحه يوم 04/ 02/1919 بواسطة القانون الذي يحمل اسم صاحبه الوالي ¬

_ (¬1) من مواليد سوق أهراس سنة 354 توفي بعنابة سنة 0430، يعتبر من آباء الكنسية الكاثوليكية له مؤلفات كثيرة أهمها: مدينة الله، اهتم في حياته، بموضوعات متعددة لكنه ركز كل مجهوداته في السنوات الأخيرة على معالجة موضوع الآلة وموضوع الإنسان، يحتفل به يوم 280 أوت من كل سنة. (¬2) من كبار رجال الكنيسة، ولد بقرطاج سنة 155 وتوفي فيها بعد ذلك بخمس وستين سنة، له مؤلفات عديدة في اللاهوت وفي الفلسفة. (¬3) من مشاهير آباء الكنيسة، ولد مع مطلع القرن الثالث بقرطاج وتوفي فيها سنة 258. قام بأدوار سياسية كبيرة وترك مؤلفات كثيرة. يحتفل به يوم 16 سبتمبر من كل سنة. (¬4) بيار مونتانيون، ص: 30. (¬5) انظر المرسوم الملكي الذي يحمل تاريخ 22/ 7/1843. (¬6) وفي الحقيقة، فإن الإلغاء لم يكن سوى شكلياً لأن محتوى القانون ظل ساري المفعول حتى اندلاع الثورة. (¬7) صدر هذا القانون لتحديد وضع الجزائريون بالنسبة إلى الجنسية الفرنسية والحقوق المدنية والسياسية التي تعود إلى المواطن. وأهم ما جاء فيه الشروط التي لابد أن يتوفر واحد منها في الإنسان الجزائري كي يصبح مواطناً فرنسياً وهي سبعة: الخدمة العسكرية- القراءة والكتابة باللغة الفرنسية- الملكية- الوظيف- أن يكون قد انتخب لمنصب سياسي- حيازة الأوسمة الفرنسية- أن يكون من أب متجنس.

العام جونار إلى غير ذلك من الأمريات والقرارات والمراسيم. إن كل هذه الأوضاع اللاطبيعية هي التي استهدفت سياسة جبهة التحرير الوطني تغييرها جذرياً واستبدالها لما يمكن شعب الجزائر ليس من استرجاع الاستقلال الوطني فحسب ولكن، وفي المقام الأول، من استعادة مقومات الشخصية الوطنية التي لابد منها لبناء صرح الدولة الجزائرية التي قوضت أركانها جيوش الاحتلال عام ثلاثين وثمانمائة وألف. لأجل ذلك أكدت وثيقة وادي الصومام (¬1) على أن الكفاح المسلح يبقى مستمراً، وأن كل الطاقات الوطنية يجب أن تعبأ لتدعيمه وتطويره بجميع الوسائل إلى أن تتحقق الأهداف التالية: 1 - الاعتراف بالشعب الجزائري شعباً واحداً لا يتجزأ، معنى ذلك أن خرافة "الجزائر فرنسية" و"الشعب الفرنسي المسلم" و"الأمة التي في طور التكون" كل ذلك يجب أن يزول من القاموس الاستعماري. 2 - الاعتراف بالسيادة الوطنية على كافة الميادين بما في ذلك الدفاع الوطني والسياسة الخارجية. وهذا يعني أن الحلم الذي بدأ يراود فئة من المستعمرين وعدداً ممن يسمون بالمعتدلين الجزائريين يجب أن يتبخر، لأن أي نوع من الاستقلال الذاتي لا يمكن إلا أن يكرس الهيمنة الأجنبية وتثبيت الاستعمار الجديد. 3 - الاعتراف بجبهة التحرير الوطني كممثل وحيد للشعب الجزائري، لها وحدها حق التفاوض وحق الأمر بوقف إطلاق النار وينجر عن هذا الاعتراف إجبار السلطات الاستعمارية على إطلاق سراح جميع الجزائريين والجزائريات الأسرى المعتقلين والمنفيين بسبب نشاطهم الوطني قبل وبعد اندلاع الثورة. إن استرجاع السيادة الوطنية على هذا الأساس من إلغاء الواقع الاستعماري الذي من المفروض أن تزول بزوال كل علاقات العسف والتبعية، وتبني من جديد على قواعد ثابتة ومتينة، أركان الدولة الجزائرية المتخلصة نهائياً من الرواسب التي من شأنها تسهيل عودة الاستعمار الجديد. فالسيادة الوطنية التي ترمي جبهة التحرير الوطني إلى استرجاعها لا ¬

_ (¬1) FRONT DE LIBERATION NATIONAL- EL MOUDJAHIS, IMPRIME EN- YOUGOUSLAVIE, JUIN 1962 TOME I.P 58 ET SUIVANTES. يجد القارئ عدداً خاصاً يتضمن أكبر جزء من ميثاق وادي الصومام.

تخص ميداناً دون آخر، بل إنها تشمل جميع مجالات الحياة وتمتد على كافة التراب الوطني حسب الحدود المرسومة من قبل السلطات الاستعمارية نفسها. لأجل ذلك. فإن ميثاق وادي الصومام قد عالج مسألة التفاوض مع العدو بكيفية دقيقة ومفصلة لا تترك أي منفذة للتحاليل وللمناورات. وعندما ينظر الدارس بتمعن إلى الأهداف المذكورة أعلاه يجد أنها مترابطة فيما بينها ومتكاملة، ذلك أن السيادة الوطنية تفقد كل معناها إذا كان الشعب مطعوناً في وحدته مصاباً بداء التقسيم والفرقة اللذين يكونان نتيجة لو فتح المجال لأطراف أخرى تتحدث باسم الشعب الجزائري. مع العلم أن التمثيل مطلقاً في مثل هذه الحالة لا يكون مجدياً. إلا إذا كان الممثل قوياً ويملك بين يديه وسائل حقيقية ولتوجيه الأحداث في الاتجاه الذي يقطع على العدو خطوط الرجعة، ويفرض عليه الالتزام بالإطار المرسوم للتفاوض. على هذا الأساس، أكدت وثيقة وادي الصومام ضرورة مضاعفة الجهد من أجل إعادة تنظيم الجماهير الشعبية في الأرياف وفي المدن وإعدادها عن طريق التوعية والترشيد لتجاوز دائرة التخلف التي وضعها فيها الاستعمار وللتخلص من الذهنيات المتحجرة التي ألصقها بها وأنماط الحياة التي فرضت عليها والتي تهدف فقط إلى إبقائها في حالة الغيبوبة والتبعية الدائمتين. فالمجالس الشعبية التي شرع في إنشائها منذ الأشهر الأولى لاندلاع الثورة (¬1) يجب أن يتم تدعيمها وتوسيع شبكتها بحيث تشمل كافة أنحاء الوطن وأن تسند إليها مسؤوليات تجعلها أكثر فعالية وأكثر اتصالاً بالجماهير الشعبية. فالمجلس الشعبي الواحد أصبح يتكون قانونياً من خمسة أعضاء بما في ذلك الرئيس، ويشرف على تسيير الحالة المدنية والمالية والاقتصادية والشرطة. وبعابرة أدق، فإن المجلس الشعبي حيث ما وجد يحل محل الإدارة الاستعمارية التي يجب أن تزول نهائياً وتزول اتصالاتها بالأوساط الشعبية (¬2). لقد نجحت المجالس فعلاً في أداء مهمتها إذ استطاعت خاصة أن تقضي قضاءً مبرماً على النزاعات التي كانت قائمة بين الأعراش والأفراد والتي كانت السلطات الاستعمارية تحبذها كي تبقى دائماً مصدر ضعف بالنسبة للمتنازعين ومنفذاً يسمح للمحتل وأعوانه بالتمركز أكثر لمواصلة العبث بمصير المواطنين. ¬

_ (¬1) المنظمة الوطنية للمجاهدين، أشغال المؤتمر الأولى لكتابة التاريخ، ص 185. (¬2) نفس المصدر.

ولم يكن ذلك النجاح ليخفى على الإدارة الاستعمارية التي كانت تقابله بمحاولات يائسة تتمثل في الترهيب والترغيب وفي الإعلان عن عدم اعترافها بالصلح الذي يحدث والتآخي الذي يتم (¬1). ويندرج الإشراف على المجالس الشعبية ضمن اختصاصات المحافظين السياسيين الذين يتولون كذلك، مهام تربية الجماهير وتنظم التعليم والإعلام والدعايةإلى جانب القيام بتوجيه الحرب النفسية على مختلف الجبهات (¬2). فالاستعمار الذي لم يفته التطور السريع الذي تعيشه الثورة في كافة المجالات لم يعد مكتفياً بالعمليات العسكرية التي ينظمها في سائر أرياف الوطن ويوفر لها ماتحتاج إليه من عدة وعتاد وحينما رأى تلك العمليات تعداها إلى التركيز على تسخير الإمكانيات المادية والبشرية لمحاولة تحييد الجماهير في مرحلة أولى قبل الدفع بها في معسكره تساعده على إخماد أنفاس الثورة. وقد كان المحافظون السياسيون يتصدون إلى هذه المساعي قصد إحباطها بجميع الوسائل. فقد كانوا يعتمدون على وسائل الإقناع، وعندما يشعرون أنها لم تعد تجدي نفعاً، فإنهم يلجأون إلى الترهيب الذي كثيراً مايكون مصحوباً بالتنفيذ الفعلي. وفي بعض الأحيان توظف الخرافة واللامعقول إذا كان ذاك ضرورياً لرفع معنويات الجماهير الشعبية أو لتنشيط عزائم العدو أو لتحقيقهما معاً (¬3). وهكذا فإن مؤتمر الصومام لم يكتف بترسيم وظيفة المحافظ السياسي، ولكنه جعلها أساسية بالنسبة لمسار الثورة. فالمحافظ مسؤول متجول، يقضي كل أوقاته في التنقل بين المداشر والمشاتي يراقب المجالس الشعبية ويجمع ما أمكن من المواطنين يكونهم سياسياً وينشر بينهم إيديولوجية جبهة التحرير الوطني. وفي ذات الوقت، كان يزور وحدات جيش التحرير الوطني يزودها بالأخبار ويحلل أمامها المعطيات السياسية في داخل البلاد وفي خارجها، ويسجل الاحتياجات والمطالب التي يناقشها مع المسؤولين الأعلى ويعمل على الاستجابة لها بقدر الإمكان وفي حدود المستطاع. ¬

_ (¬1) صدى الجزائر، عددها الصادر بتاريخ 21/ 06/1955. (¬2) حول اختصاص المحافظ السياسي انظر المجاهد، العدد 11 الصادر بتاريخ 01/ 11/1957، ص 146. (¬3) من ذلك أن المحافظين السياسيين كانوا يشيعون في أوساط الجماهير أن الملائكة، عندما تشتد المعارك، تنزل من السماء لنصرة المجاهدين، وأن الله أعطى للمجاهد قدرة للتحول بكل سهولة وسرعة فائقة إلى الهيأة التي يريدها. من ثمة فإنه يستطيع الدخول إلى ثكنات العدو أو التجول في شوارع المدينة والقرية دون أن يشعر بوجوده أحد باستثناء المناضلين.

هيئات قيادة الثورة

ويعتبر هذا الاهتمام البالغ الذي أولاه المؤتمر للجماهير الشعبية دليلاً على التحول الجذري الذي حدث في إيديولوجية الثورة التي كانت تعتمد على الطليعة لتحقيق الأهداف المرسومة فصارت تركز على الشعب وتثق على إحداث المعجزة التي لم تكن في الحسبان. ويبدو أن هذا التحول قد بدأ يفرض نفسه مع انتفاضة العشرين من شهر أغسطس سنة خمس وخمسين وتسعمائة وألف. ففي ذلك التاريخ حدث انقلاب لا مثيل له في موازين القوى إذ تخلص جيش التحرير الوطني الفتي من عقد الخوف التي كانت تفرض عليه التحرك ليلاً والنشاط خفية فصار أفراده ينتقلون في وضح النهار بينما انتقل الرعب إلى نفوس الأجناد الفرنسيين الذين أصبحوا، بفعل دعاية الكولون، يرون في كل واحد من الجزائريين مجاهداً أو مناضلاً مستعداً للانقضاض عليهم. ولم يكن ذلك هو التحول الوحيد الذي عرفته إيديولوجية الثورة الجزائرية، بل هناك نقاط أخرى اختلفت حولها الآراء كثيراً واشتد فيها إلا عن طريق التصويت بأغلبية الثلثين. ومن بين تلك النقاط الحساسة التي سيكون لها أثر بالغ على سير أحداث الثورة ما يلي: 1 - هيئات قيادة الثورة: لقد كانت الحاجة الماسة إلى قيادة واحدة وموحدة للثورة الجزائرية هي الدافع الأول الذي جعل المنطقة الثانية تسعى، منذ شهر مارس عام ست وخمسين وتسعمئة وألف (¬1)، إلى جمع مؤتمر وطني يضم الإطارات القيادية في داخل البلاد وخارجها (¬2). لكن ذلك لم يمنع المؤتمرين من التوقف طويلاً عند مناقشة هذه النقطة. وعلى الرغم من أن محضر الجلسات لم ينشر كاملاً إلى يومنا هذا حتى يطلع الباحث على حقيقة مادار من حوار يقال أنه كان صريحاً إلى أبعد الحدود وعنيفاً إلى درجة التهديد بتفجير المؤتمر، إلا أن الشهادات التي أدليت خاصة بمناسبة انعقاد ندوة التاريخ الخاصة بالولاية الثانية في اليومين الأخيرين من شهر جانفي سنة خمس وثمانين وتسعمائة وألف كافية لأخذ صورة مجملة عن المداولات التي جرت يومها فتصريحات السيد لخضر بن ¬

_ (¬1) لقاء أجريته مع العقيد لخضر بن طوبال في بيته يوم 16/ 04/1985 بحضور السيد محمد الصالح بوسلامة. (¬2) شهادة خاصة قدمها لي العقيد بن طوبال الذي يجزم أن الشهيد يوسف زيغود يوسف بذل كل مافي وسعه ليجمع مختلف المناطق من أجل تقييم المرحلة المقطوعة والتخطيط للمستقبل، وقد ظل يسعى إلى أن أظهرت نفس الفكرة عند الشهيد العربي بن المهيدي وتباعاً الشهيد رمضان عبان.

طوبال (¬1) الذي كان من المشاركين الأساسيين تدل على أن ممثلي المنطقة الثانية وعدداً من ممثلي المنطقتين الثالثة والرابعة كانوا كلهم يطالبون بأن تكون القيادة التي تنبثق عن المؤتمر مكونة فقط من الإطارات الأساسية التي ساهمت في تفجير الثورة والتي هي متشعبة بإيديولوجية واحدة، وذلك حفاظاً على التوجهات الثورية وتجنباً للانزلاق في شتى أنواع الانحراف، لكن الأغلبية من المؤتمرين وفي مقدمتهم السيدان العربي بن مهيدي وعبان رمضان كانوا يرون أن الثورة قد توسعت وصارت تضم في صفوفها فئات اجتماعية مختلفة وتيارات إيديولوجية متعددة، وهي مدعوة لأن تتطور أكثر مضطر لأن يأخذ بعين الاعتبار كل هذه المعطيات الجديدة ويخرج بقيادة تكون ممثلة لكافة الاتجاهات الوطنية. لقد انتصرت الأغلبية في ذلك الوقت وتدخل مبدأ المركزية الديمقراطية ليمنع الانقسام الفعلي ويضمن للقيادة الجديدة استمرارية وحدتها ويوفر لها شروط النجاح (¬2). ولكن، اليوم، بعد مرور أكثر من ثلاثين سنة على تلك العملية فإن الآراء ماتزال مختلفة حول جدواها. *إن التحليل المعمق للقرار الذي صدر عن مؤتمر الصومام حول ضرورة إشراك جميع التيارات الوطنية في هيئات قيادة الثورة يقودنا حتماً إلى القول بأن العملية كانت أخطاءً إيديولوجية لأنها لم تشترط على الإطارات الملحقة سواء بالمجلس الوطني للثورة الجزائرية أو بلجنة التنسيق والتنفيذ تخليها، نهائياً عن قناعاتها الفلسفية وتبنيها المطلق للإيديولوجية التي يعود الفضل إليها في تهيئة الأرضية الصلبة التي انطلقت منها الشرارة الأولى المعلنة عن بدء الكفاح المسلح الذي لن يتوقف إلا عندما تسترجع السيادة الوطنية إن هذا لم يحدث وذلك ¬

_ (¬1) وهو واحد من الاثنين والعشرين الذين فجروا الثورة، كان عضواً في المنطقة الخاصة، احتمى بغابات الأوراس مدة طويلة قبل ليلة الفاتح من نوفمبر، شارك، فعلاً، في مؤتمر وادي الصومام كنائب أول للشهيد يوسف زيغود، قادالولاية الثانية سنتي 1956 و1957 عين عضو لجنة التنسيق والتنفيذ سنة 1958 وزير الداخلية 1958 - 1960 ثم وزير دولة إلى غاية. 1962. اشتهر بالدعوة إلى الانضباط والعنف الثوري والتأثر بالتقنيات الفيتنامية في حرب العصابات. يعتبره السياسيون أحد الباءات الثلاث الذين سيطروا على التسيير الخارجي للثورة إلى غاية استرجاع الاستقلال. (¬2) كان السيد عمار بن عودة من الرافضين الداعين بحماس إلى الخط الإيديولوجي. ويعتقد شخصياً أنه عوقب على ذلك عندما قرر المؤتمر إرساله إلى تونس للإشراف مع السيد واعمران على تسليح الثورة. لكنه وهو في طريقه إلى تونس بذل كل مافي وسعه ونجح في إقناع مجموعات كبيرة من القادة والمجاهدين الذين أرادوا التنكر لنتائج المؤتمر احتجاجاً على وجود بعض الأشخاص من إيديولوجيات أخرى داخل الهيئات القيادية.

لسببين أساسيين في نظرنا هما: أ - إن قادة جبهة التحرير الوطني الذين كانوا يدافعون عن فكرة منح المناصب القيادية للإطارات السامية الآتية من التشكيلات السياسية الأخرى دون احترام التدرج النظامي الذي تخضع له إطارات الثورة منذ ليلة الفاتح من نوفمبر، إنما كانوا يرمون، من خلال ذلك إلى ترغيب الإطارات السامية المذكورة وجعلها تسارع إلى الالتحاق بالصف، معتقدين أن بقاءهم خارج إطار جبهة التحرير الوطني قد يشجع الاستعمار على استعمالهم لخلق قوة ثالثة للضغط بها عند الحاجة (¬1) لقد كان هذا الإجراء ممكناً لكنه لم يكن أكيداً. لكن الذي لاشك فيه هو أن المشكل الإيديولوجي لم يطرح على المسؤولين الجدد الذين سيظلون محتفظين بقناعاتهم الفكرية والثقافية إلى غاية وقف إطلاق النار. ب- إن الإطارات القيادية التي جاءت من التشكيلات السياسية الأخرى لم تكن قادرة، في ذلك الوقت، على المبادرة لطرح المشكل الإيديولوجي لأنها، في معظمها، إنما التحقت حتى لا يفوتها الركب من جهة، ولأنها أصبحت خائفة من الموت الذي بدأ يطرق باب الشخصيات المترددة (¬2) من جهة ثانية. هكذا، إذن، فإن خوف البعض من الموت ومن فوات الأوان، وخوف البعض الآخر من ظهور القوة الثالثة خاصة بعد المحاولات التي قام بها سوستيل على أصعدة مختلفة هو الذي لم يسمح بتسوية المشكل الإيديولوجي من البداية. وبقاؤه معلقاً على النحو الذي كان عليه هو الذي سيسهل تفجير الوضع السياسي في الجزائر مباشرة بعد استرجاع السيادة الوطنية. قد يقال: لكن الأزمة السياسية التي أخرجت قطار الثورة من سكتة كانت كل أطرافها متشبعة بإيديولوجية واحدة، لأن رئيس الحكومة المؤقتة، يومها، أغلبية وزرائه ورئيس أركان جيش التحرير الوطني وكل قادة الولايات في داخل الوطن وكذلك مسؤولي اتحادية جبهة التحرير الوطني في فرنسا كلهم كانوا، قبل اندلاع الثورة، مناضلين في صفوف حركة الانتصار للحريات ¬

_ (¬1) يذكر السيد مصطفى بن عودة أن الشهيد عبان قال له: إن الانحراف الإيديولوجي أفسح من المجال لفرحات عباس إلى باوداي جزائري انظر شريط الفيديو الخاص بندوة قسنطينة حول كتابة تاريخ الثورة المنعقدة يومي 30 و31 جانفي سنة 1985، وهو موجود ضمن محفوظاتي الخاصة. (¬2) نذكر على سبيل المثال إعدام علاوة عباس ومحاولة التنفيذ في بعض الشخصيات التي ماتزال على قيد الحياة والتي تابت فيما بعد والتحقت بصفوف جبهة التحرير الوطني.

أولوية السياسي على العسكري

الديمقراطية. لقد كان ذلك صحيحاً، لكن المحيط الذي تدخل بعنف وقام بالدور الرئيسي في إذكاء نار الفتنة إنما كان يعمل لإيجاد الفرص الملائمة لعودة الإيديولوجيات المختلفة إلى الميدان، وليس ثمة لتحقيق ذلك، أفضل من الصراع الدموي على السلطة، لأن إراقة الدماء واللجوء إلى العنف على حساب الحوار يؤديان حتماً إلى تشتيت الصف واختفاء الأمن والاستقرار وشيوع الفوضى والاضطراب وكلها آفات تنخر جسم المجتمع وتفسح المجال للتعددية بجميع أنواعها. ورغم كل ذلك، فإن الدارس المتمعن للأوضاع السائدة يومها في الجزائر لا يسعه إلا أن يقول: إن مؤتمر وادي الصومام كان مصيباً في قراره، لكن الخطأ يكمن في كون القيادة الثورية لم تول كل العناية للتطور الإيديولوجي الذي كان يحدث بفعل نمو جبهة التحرير الوطني واتساع شبكة منظماتها الجماهيرية. ولو أنها فعلت ذلك لوجدت نفسها متشبعة بفكر واحد، تتكلم لغة واحدة ومستعدة لمواجهة كل الطوارئ بنفس العزيمة، ونفس الحزم اللذين تميزت بهما طيلة فترة الكفاح المسلح. ولأن أغلبية المؤتمرين صادقت على القرار، فإن المجلس الوطني للثورة الجزائرية قد جاء مكوناً من 34 عضواً نصفهم أساسي ونصفهم إضافي الصنفين ومشتملاً في الصنفين، على أقلية قليلة من الإطارات التي كانت تقود مختلف التشكيلات السياسية الوطنية التي قررت أخيراً، الالتحاق بجبهة التحرير الوطني ومايقال عن المجلس الوطني للثورة الجزائرية لا يمكن تطبيقه على لجنة التنسيق والتنفيذ التي اشتملت على خمسة أعضاء كلهم من قدامى حركة الانتصار للحريات الديمقراطية. (¬1) 2 - أولوية السياسي على العسكري: لقد لاقى معارضة شديدة من طرف عدد من القادة المشاركين في المؤتمر لاعتقادهم بأن عبان وأعضاء لجنة الصياغة الذين كانوا معه وهم من السياسيين إنما يريدون احتواء الثورة والسيطرة عليها، خاصة وأن المبدأ المذكور جاء مقروناً بآخر نص على أولوية الداخل على الخارج. وإذا عرفنا أن المسؤولين غير العسكريين هم قادة العاصمة التي استقلت عن الولاية الرابعة وأعضاء ¬

_ (¬1) المقصود هنا هم السادة: بلقاسم كريم، ابن يوسف بن خدة، العربي بن المهيدي، وعبان رمضان وزيغود يوسف الذي سيترك مكانه بعد الاستشهاد إلى السيد: سعد دحلب.

مندوبية الخارج واتحادية جبهة التحرير الوطني في فرنسا أدركنا شرعية تخوف المعارضين للمبدأين. لكن السيد عمار بن عودة (¬1) يذكر أن التخوف المشار إليه سرعان ما تبدد عندما أعطيت التفسيرات التي مفادها أن المقصود بأولوية السياسي العسكري هو التركيز على التفاوض مع العدو لضبط شروط وقف إطلاق النار، لأن الانتصار العسكري على واحدة من أكبر الدول الاستعمارية في العالم يُعد من باب المستحيلات تقريباً خاصة إذا كانت تلك الدولة عضواً فاعلاً في منظمة الحلف الأطلسي (¬2). والحقيقة أن التفسيرات المذكورة إنما تم اللجوء إليها فقط للتهدئة ولتقديم التبريرات اللازمة لكبح النفوس وعدم الانقياد لما قد لا يحمد عقباه. فالسياسي والعسكري سواء كان عملاً أو شخصاً، شيء واحد، لأن العمل السياسي يبرمج له الرجل السياسي كما أن القائدالعسكري هو الذي يشرف على تنفيذ العمليات العسكرية التي يكون قد خطط لها. فإذا كانت الأولوية للعمل السياسي، فذلك يعني أن قرار الرجل العسكري يأتي في الدرجة الثانية كوسيلة لدعم مواقف المسؤول السياسي. وفيما يخص أولوية الداخل على الخارج، فإن المؤتمر قد لجأ إلى إقرارها لأسباب عدة يمكن استخلاص أهمها من العرض الذي قدمه الشهيد العربي بن المهيدي إلى المؤتمرين عن المهمة التي قام بها إلى القاهرة في مستهل عام ستة وخمسين وتسعمائة وألف (¬3). فالعرض المذكور يؤكد بصريح اللفظ أن مصر لا يمكن الاعتماد عليها مطلقاً في الحصول على الأسلحة لأن موقفها من الثورة الجزائرية يخضع بقسط ¬

_ (¬1) من أسرة عريقة في ولاية عنابة، التحق بالجبال منذ مايسمى بمؤامرة سنة 1950. تقلد مسؤوليات كثيرة أثناء الثورة آخرها: المشاركة باسم جيش التحرير الوطني في مفاوضات إيفيان. عيّن بعد استرجاع الاستقلال سفيراً في طرابلس. عضو اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني منذ سنة 1979. هو الآن رئيس اللجنة الوطنية لمصاف الاستحقاق. (¬2) انظر الندوة. (¬3) في مستهل تلك السنة كان ابن المهيدي قد اتصل ببرقية من مندوبية الخارج مفادها أن باخرة محملة بالسلاح ستغادر القاهرة في اتجاه مدريد، وعليه أن يتكفل بتحويل حمولتها إلى المغرب ومنه إلى مختلف مناطق الوطن. ولما طال انتظاره في العاصمة الإسبانية، رحل إلى القاهرة وهناك وجد قيادة مقسمة إلى كتل يستحيل الاعتماد عليها.

وافر إلى نشاطها الديبلوماسي (¬1) كما أن مندوبية جبهة التحرير الوطني غير قادرة على أن تكون قيادة موحدة بفعل الانقسام السائد بين أفرادها الذين مازال كل منهم يبحث عن الزعامة لنفسه. ومما لا ريب فيه أن ثمة خلافات أخرى كثيرة ظهرت أثناء أشغال المؤتمر لكن أصالة ثورة نوفمبر وضعت حداً لكل مامن شأنه أن يتجاوز الخط الأحمر. وظل العمل على تعبئة كل الطاقات الحية قصد القضاء المبرم على النظام الاستعماري هو المهمة الأساسية التي تحجب جميع المهام الأخرى، لأجل ذلك، فإن المؤتمرين صادقوا بالإجماع على الخطوط العريضة التالية: 1 - إن وحدة الشعب الجزائري مقدسة وكذلك وحدة التراب الوطني، وأي تنازل عن جزء من هذه أو تلك يعد خيانة عظمى. وتعتبر جبهة التحرير الوطني هي الممثل الشرعي للشعب والقائد الوحيد للثورة التي ستظل مستمرة إلى أن يتم بكيفية مطلقة تحرير الأرض وتحرير الإنسان. وعلى جبهة التحرير الوطني، كي تكون في مستوى المهمة المسطورة لها، أن تواصل ضرب جذورها في أعماق الجماهير الشعبية الواسعة لأن بذلك تكمن القوة التي هي في حاجة إليها لمواجهة عدة الامبريالية وعتادها. فمن هذا المنطلق تعمل جبهة التحرير الوطني بجميع الوسائل المتوفرة لديها، على محاربة الآفات الاجتماعية مثل الرشوة والجهوية والقبلية والعشائرية والانتهازية التي تشكل مصادر ضعف قاتل وحواجز تعرقل عملية التجنيد من جهة ومساعي بناء المجتمع الثوري من جهة ثانية. والنجاح في الارتقاء إلى ما تطلبه مستواها كحركة تحررية شاملة يحتم على جبهة التحرير الوطني أن ترسم مجموعة من الضوابط تلتزم بها في سعيها الدائب من أجل تحويل الجماهير الشعبية إلى طاقة خلاقة تتعدى وقف إطلاق النار لتهز أركان التخلف وتشق طريق الانتصار لعملية البناء والتشييد في كافة المجالات وعلى جميع الأصعدة. ومن جملة الضوابط التي صادق عليها مؤتمر وادي الصومام تجدر الإشارة إلى سياسة الإطارات وسياسة الإعلام وسياسة تنظيم الشرائح الاجتماعية المختلفة. فبالنسبة لإطارات الثورة يرى المؤتمر ضرورة تمكينهم من تكوين سياسي وإيديولوجي يتسلحون به لقيادة الجميع، كل حسب قدرته واختصاصه، في ¬

_ (¬1) نفس زيارة ابن المهيدي إلى القاهرة كشفت له بأن باخرة الأسلحة لم تبحر الزيارة التي يؤديها وزير الخارجية الفرنسي إلى مصر في شهر مارس سنة 1956.

معركة حاسمة ضد واحدة من أعتى القوات الاستعمارية في العالم. وإذا كان الإطار يعرف أنه القدوة الحسنة للذين يسعى إلى تعبئتهم في شتى الميادين، فأنه مطالب بأن يكون مضرب المثل في التحلي بروح المسؤولية والامتثال للقوانين السائدة في صفوف جبهة التحرير الوطني، وبأن يكون سباقاً إلى التضحية، دقيقاً في تطبيق المبادئ ومنضبطاً في تأدية الواجب، وزيادة على ذلك، فإنه لا يعرف التهاون ولا يركن إلى ما تقوم به. لكن الثورة، لكي تحميه من الانحراف، تفرض عليه رقابة مشددة وتحتم عليه أن يكون يقظاً في جميع الحالات. أما عن الإعلام، فإن ميثاق وادي الصومام يرى أن وسائله يجب أن تكون قادرة على الرد بسرعة عن مناورات العدو إلى تأبيد التقسيم ونشر أسباب الخلاف والنزاع في أوساط الجماهير قصد عزلها عن جبهة التحرير الوطني. ذلك فإن رجل الإعلام ينطلق من كون الدعاية "ليست مجرد تهريج يتميز بعنف الكلمة العقيمة في غالب الأحيان والتي تذهب هباء منثورا، وبما أن الشعب الجزائري أصبح ناضجاً للقيام بالعمل المسلح الإيجابي والمثمر، فإن لغة جبهة التحرير الوطني يجب أن تكون معبرة عن رشدها وذلك بجعلها تتخذ شكلاً جدياً ومتزناً دون التجرد من الحزم والصراحة والحماس الثوري" (¬1)، إن رجل الإعلام، في منظور جبهة التحرير الوطني، لا يقتصر على تلقي الأخبار وصياغتها ونشرها في أوساط الشعب ولكنه يجب أن يكون سريع البديهة واسع المعرفة وذا قدرة فائقة على الاستيعاب والتحليل والتميز. فالأخبار تأتيه مواد خام وهو يسهر على فرزها وقولبتها حسب ما تطلبه الظروف وتقتضيه المصلحة. ومن هذه الناحية فهو عبارة عن موجه للرأي العام وصانع للأجواء السياسية خاصة، لأجل ذلك يجب أن تتوفر فيه شروط أساسية أهمها التشبع بإيديولوجية جبهة التحرير الوطني والاستعداد للتضحية بكل شيء من أجل تجسيدها على أرض الواقع. لقد لاحظ مؤتمر الصومام أن الثورة قطعت خطوات حاسمة في تاريخها، وأنها أصبحت في حاجة إلى تعميم فلسفتها عن طريق التعليمات والشعارات، وعليه قرر مضاعفة عدد المراكز الإعلامية وتزويدها بكل ما تحتاج إليه من إمكانيات مادية وبشرية حتى تكون قادرة على تأدية الرسالة المنتظر منها ¬

_ (¬1) EL. MOUDGAHID, Organe central du FLN (Une revolution democratique) No 12 du 15.11.1957.

تبليغها، ومن جهة أخرى، وكتتمة للجهد الذي قد تبذله المراكز، قرر إصدار أكبر عدد ممكن من النشريات الداخلية والدوريات العلمية والثقافية بالإضافة إلى تطوير "المقاومة الجزائرية" و"المجاهد" اللسان المركزي لجبهة التحرير الوطني (¬1). وأعطى المؤتمرون تلك، توجيهات خاصة بمضاعفة الجهد من أجل رفع مستوى الدعاية الثورية بحيث تتجاوز رسالتها الوطنية وتشق طريقها نحو الرأي العام العالمي الذي بدأ، فعلاً، يهتم بما يجري في الجزائر ويسعى إلى متابعة تطور كفاحها المسلح. فبهذا الصدد، جاء في محاضرة جلسات المؤتمر: "أن كل منشور أو تصريح أو استجواب أو بيان يصدر عن جبهة التحرير الوطني يجب أن يكون له، اليوم، صدى عالمياً. لأجل ذلك يجب أن يكون مطبوعاً بروح المسؤولية التي تشرف السمعة التي اكتسبتها الجزائر السائرة بثبات في طريق الحرية والاستقلال" (¬2). 2 - وفيما يخص تنظيم الشرائح الاجتماعية، فإن المؤتمر قد ركز على الحركة الفلاحية وذلك تقديراً للدور الأساسي الذي تقوم به المناطق الريفية في حياة الثورة وتحسباً للمناورات التي تحيكها السلطات الاستعمارية قصد التوغل في تلك المناطق من أجل تحييدها على الأقل. لقد أدركت قوات الاحتلال أن جيش التحرير الوطني ضرب جذوره في أعماق الجماهير الريفية التي احتضنت الثورة بكل قوة لأنها وجدت فيها منقذاً لها من حالة البؤس التي كانت مفروضة عليها، لأجل ذلك، ولأول مرة في تاريخ الاستعمار، أعلنت الحكومة الفرنسية عن استعدادها للقيام بإصلاح زراعي يستهدف تحسين أوضاع الفلاحين الجزائريين عن طريق إعادة توزيع بعض المساحات التي قد تقتطع من المزارع الكبرى أو من أراضي الشركات الخاصة ومؤسسات الدولة. كما أنها قررت في ذات الوقت تعديل نظام الخماسة الذي كان سائد في أرياف الجزائر خاصة. إن المقصود من هذه المناورات المفضوحة، كما جاء ذلك في ميثاق وادي الصومام، هو مغالطة أبناء الريف الجزائري وصدهم عن تبني الثورة، لكن ¬

_ (¬1) لقد كانت "المقاومة تصدر خارج الوطن، وهي ثلاثة من المنشورات: نشرة باريس في فرنسا، نشرة المغرب الأقصى ونشرة تونس. أما المجاهد فإنه ظهر إلى الوجود في مدينة الجزائر، وصدر العدد الأول منه في شهر جوان سنة 1956. (¬2) المجاهد العدد الخاص، ص67.

الفلاح الجزائري الذي عرف، في الوقت المناسب، كيف يفشل سياسة الأهالي التي حاول المستعمر تطبيقها لتقسيم المواطنين إلى عرب وبربر متنافرين ومتماقتين، لن ينخدع لهذه المحاولة الجديدة خاصة وأنه يدرك بأن "الإصلاح الزراعي الحقيقي لا ينفصل عن الهدم الكلي للنظام الاستعماري". (¬1) فهذا الوضع الجديد الذي آل إليه الريف الجزائري هو الذي جعل المؤتمرين يدعون جبهة التحرير الوطني لبذل أكبر مايمكن من الجهد لمساعدة الفلاحين على تنظيم أنفسهم في إطار سياسة وطنية عادلة ترمي إلى: أ - تغذية الحقد الشديد على الاستعمار الفرنسي وإدارته وجيشه وشرطته وعلى الخونة المتعاونين معه. ب - تكوين احتياطي بشري يتزود منه جيش التحرير الوطني والمقاومة بصفة عامة. ج - نشر عدم الاستقرار في البوادي والعمل على خلق الشروط الموضوعية اللازمة لدعم المناطق المحررة وافتكاك مناطق جديدة من العدو. 3 - وإذا كانت الأرياف قد اندمج سكانها، منذ البداية، في صفوف جبهة التحرير الوطني محرزة بذلك على مكانة خاصة في تركيبة الثورة، فإن عمال المدن قد أسسوا تنظيماً نقابياً وطنياً أسموه الاتحاد العام للعمال الجزائريين، وكان ذلك في اليوم الرابع والعشرين من شهر فيفري سنة ستة وخمسين وتسعمائة وألف. إن مؤتمر الصومام قد بارك، في محاضره، ميلاد الاتحاد الذي رأى فيه "تعبيراً عن رد فعل سليم قام به العمال الجزائريون ضد التأثير المُشّل الذي يصدر عن مسيري الكونفدرالية العامة للشغل والقوات الشغيلة والكونفدرالية الفرنسية للعمال المسيحيين" (¬2) وأوصى بأن تولي جبهة التحرير الوطني عناية خاصة بالمولود الجديد حتى يشتد عوده وتتدعم هياكله. لقد كانت حقوق العمال الجزائريين في بلادهم مهدورة، ولم يكن في مقدور أغلبيتهم المطالبة بأكثر مما يتكرم به أرباب العمل من الكولون الذين كانوا يقومون بالتوظيف وبالفصل كيفما يشاؤون ولم يكن في وسع التنظيمات النقابية الوقوف في وجه تلك التصرفات الاستبدالية نظراً لما كان للمعمرين من نفوذ ¬

_ (¬1) المجاهد، العدد الخاص، ص 68. (¬2) المجاهد، العدد الخاص، ص 68.

سواء في مستوى الولاية العامة أو في أوساط الدوائر الحاكمة في العاصمة الفرنسية. أما الجزائريون المغتربون، فإن كثيراً منهم قد هاجر وفي نفسه ذلك الخوف من الطغيان، وذلك الشعور بالعجز عن المقاومة، ولذلك فإنهم كانوا يبذلون كل مافي وسعهم للبقاء بعيدين عن الجو النقابي، وعندما تبدد الإقامة مخاوفهم، فإنهم يجرون، كأصوات في البداية، إلى مختلف التشكيلات النقابية، وهناك من استطاع أن يتحول، بسرعة أحياناً، من مجرد صوت إلى مسؤول فاعل ومحرك للجماهير. فمن بين هؤلاء المسؤولين الذين اكتسبوا تجربة ميدانية وتسلحوا بوعي سياسي عال، برزت تلك الطليعة التي أنشأت، رغم الصعوبات والعراقيل، مركزية نقابية تهدف إلى لمّ شمل العمال الجزائريين داخل التراب الوطني وخارجه من أجل تحسيسهم بالواقع الوطني الجديد، وتزويدهم بإطار تنظيمي يتدربون فيه على تحمل مسؤولياتهم ويتجندون داخله ليكونوا الخزان الحقيقي الذي يمول جيش وجبهة التحرير الوطني بكل ما يحتاجان إليه من إمكانيات مادية وبشرية. *إن الطابع الوطني الذي اكتساه الاتحاد منذ تأسيسه، قد ساعد كثيراً على التخلص من الهيمنة الأجنبية وبذلك وجد نفسه، إذ يدافع عن حقوق أعضائه، إنما يدافع عن مصالح الأمة الجزائرية جمعاء. ويرى مؤتمر وادي الصومام أن التنظيم الجديد قادر على القيام بدور إيجابي في معركة التحرير الوطني لأسباب يعددها كالآتي (¬1). أ - أن قيادة الاتحاد لا تتشكل من عناصر منبثقة عن الأقلية الأوربية التي تتعرض للظلم الاستعماري، ولكنها مكونة من إطارات وطنية يدفعها وعيها الشديد إلى محاربة الاستغلال الاجتماعي من جهة والتميز العنصري من جهة ثانية. ب- أن العمود الفقري لتلك القيادة ليس مكوناً من الارستقراطية العالمية التي تشمل الموظفين وعمال السكة الحديدية، ولكنه منبثق عن الطبقات الأكثر حرماناً مثل عمال الموانئ والمناجم والصناعات الزراعية. ج - أن العمل الثوري قد أصبح حقيقة وهو قادر على توفير الشروط الموضوعية اللازمة لتحقيق التآخي الذي لابد منه لصنع الأداة القوية ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص:69.

التي تستطيع الصمود في وجه آليات الحرب الاستعمارية، ولمنع ماقد يحدث من انقسام في أوساط عشرات آلاف العمال الذين سارعوا للانضمام إلى الاتحاد العام للعمال الجزائريين مباشرة بعد ميلاده (¬1). إن جبهة التحرير الوطني لم تعد تكتفي بوجودالاتحاد واستقلاليته عن التنظيمات النقابية الفرنسية، بل أصبحت تطمح إلى أن يقوم التنظيم الجديد بدور أساسي في عملية تكوين العمال وتوعيتهم وتعبئتهم المستمرة وفي استمالة التنظيمات المماثلة في فرنسا أو في مختلف أنحاء العالم لمساندة كفاح الشعب الجزائري، لأجل ذلك فإن تعلق الأمر بمواجهة التحديات والصعوبات، هذا من جهة، ومن جهة ثانية أوصى باحترام الديمقراطية في أوساط العمال ومراعاة التقاليد السائدة داخل الحركات العمالية المعروفة في العالم. وبالإضافة إلى كل هذه التوجيهات السياسية والإجراءات التنظيمية التي سيكون لها أثر فعال في حياة الاتحاد العام للعمال الجزائريين، حذر المؤتمر الإطارات النقابية من مغالطات الحزب الشيوعي الجزائري الذي "لايمكن لعجزه في الميدان السياسي إلا أن يتحول إلى فشل ذريع في المجال النقابي" (¬2) وأكد أن عالم الشغل في الجزائر سيعرف تطوراً هاماً تحت إشراف جبهة التحرير الوطني خاصة وأن "المركزية النقابية الجديدة تختلف كلية عن المنظمات الفرنسية المماثلة سواء بالنسبة لاختيار قيادتها أو للتضامن الأخوي الذي تغذيه ثورة التحرير الوطني والذي يجد سنداً قوياً لدى عمال شمال إفريقيا والعالم أجمع (¬3). فمن خلال كل ماتقدم، ترى جبهة التحرير الوطني أن الطبقة العاملة تستطيع، في خضم المعركة التحريرية الشاملة أن تسهم فعلياً في إحداث ديناميكية قادرة على تمكين الثورة من التطور بسرعة فائقة ومن اكتساب القوة الكافية لتحقيق النصر النهائي. 4 - ودائماً في إطار تنظيم الفئات الاجتماعية المختلفة، قرر المؤتمر ضرورة إنشاء اتحاد عام للتجار الجزائريين يسند الإشراف عليه إلى وطنيين يكونون إضافة إلى تسيير شؤون التنظيم الجديد، مكلفين بإيجاد أفضل السبل ¬

_ (¬1) جاء في مؤتمر وادي الصومام أن الاتحاد العام للعمال الجزائريين قد سجل انضمام اثنتين وسبعين نقابة في أقل من شهرين وأصبح يشتمل على 110.000 منخرط، انظر المجاهد، ص 357. (¬2) نفس المصدر، ص: 68. (¬3) نفس المصدر.

لكسر الاحتكارات الأوربية التي تخنق التاجر الجزائري الصغير وتجعل منه مجرد آلة لا تتحرك إلا كيفما شاء المستغل لها. ويقوم الاتحاد من جهة أخرى، بنشر الوعي الثوري في أوساط كافة التجار الجزائريين الذين يجب أن يتنجندوا للإسهام فعلياً وبقسط وافر في تمويل الثورة إلى جانب المهمة الأساسية الأخرى التي حددها المؤتمر للاتحاد عندما أكد أن جبهة التحرير الوطني التي تسعى إلىجعل الاتحاد العام للعمال الجزائريين يتطور بسرعة في أجواء سياسية ملائمة، تنتظر منه القيام بمحاربة كافة أنواع التغريم والضرائب وبمقاطعة تجار الجملة المستعمرين وكل التنظيمات التجارية التي نشاطاتها في إطار الحرب الامبريالية الدائرة رحاها ضد الشعب الجزائري (¬1). 5 - وحظيت المرأة كذلك باهتمام مؤتمر وادي الصومام. ولم يكن ذلك الأمر الغريب خاصة عندما نرجع إلى تاريخ المقاومة الشعبية الذي عرف من النساء اللاتي قدن الكفاح المسلح أو شاركن فيه بما أصبح مضرباً للمثل في الشجاعة والإقدام. ولقد برهنت الفتيات الجزائريات، منذ اندلاع ثورة نوفمبر، على أنهن أهل لحمل مشعل لالة فاطمة أنسومر (¬2)، وأن شجاعتهن لا تقل عن شجاعة الرجل سواء في ميدان المعارك والسلاح في أيديهن أو في المستشفيات والمستوصفات حيث يبدعن في التمريض وتضميد الجراح أو في القرى والمداشر ينشرن الوعي الثوري ويشاركن بقسط وافر في تربية الجماهير سياسياً وإيديولوجياً. فالفتاة الجزائرية غادرت صفوف الثانويات ومدرجات الجامعات تماماً كما فعل أخوها التلميذ والطالب، عندما وجهت لهم النداء جبهة التحرير الوطني (¬3)، وعلى غرار إخوانها، أعربت عن استعدادها للانضمام إلى الصفوف وأصبح من الواجب على قيادات الثورة أن تهتم بتخصيص تنظيم لها شبيه بالاتحادات الأخرى يمكنها من النشاط اليومي لفائدة الكفاح المسلح (¬4). وفي انتظار ذلك، قرر المؤتمر إيجاد الصيغ العملية التي توفر للمرأة ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 68. (¬2) قائدة الكفاح المسلح في المجانة ومنطقة القبائل في الفترة مابين 1853 و1856. (¬3) المقصود هنا هو النداء الخاص بالإضراب عن الدروس والإلتحاق بصفوف جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني وقد استجيبت بالإجماع وتوقفت الدراسة قبل شهر فقط من الامتحانات وذلك يوم 19/ 05/1956. (¬4) سيبدأ هذا التنظيم يتجسد بالتدريج خاصة عندما تظهر على الساحة النضالية السيدات: مامية شنتوف، خيرة مصطفاوي ونفيسة حمود الاتي سيمثلن النساء الجزائريات في كثير من التظاهرات الدولية.

الجزائرية حيثما وجدت شروط المشاركة في المعركة مع الأخذ بعين الاعتبار إمكانياتها المادية والأدبية، وعلى سبيل المثال، فإنها ريفية كانت أو مدنية، تستطيع الإسهام في رفع معنويات المقاتلين (¬1) وفي جمع المعلومات الخاصة بالعدو، والقيام بالاتصال بين المراكز كما أنها تستطيع القيام بالتمويل وتهريب المشبوهين وبمساعدة عائلات المجاهدين والمعتقلين، كل ذلك بالإضافة إلى مهامها كجندية عندما يقتضي الحال. ولتمكين المرأة من تأدية هذه المهمة النبيلة في وسط اجتماعي كان إلى قبل اندلاع الثورة لا يولي اهتماماً كبيراً للأنثى، أمرت جبهة التحرير الوطني بأن تعامل النساء وفقاً للشريعة الإسلامية التي تكبرهن أمهات وزوجات وأخوات، وسنرى في الحديث عن الوضع الاجتماعي والاقتصادي كيف أن هذا الأمر قدأحدث تغييراً جذرياً في أوضاع الأسرة الجزائرية. 6 - ولم تكن حركة الشباب غائبة عن أذهان المؤتمرين خاصة وأن أغلبية مفجري الثورة لم يكونوا قد خرجوا بعد من طور الشباب (¬2) وأن الشباب، في الجزائر، كانوا يمثلون أكثر من نصف السكان الإجمالي، زيادة على كون معظم الجزائريين ينضجون في سن مبكرة وينتقلون مباشرة من الطفولة إلى الكهولة نتيجة الفاقة والاملاق والحاجة إلى مصارعة الظروف الصعبة التي يتفنن في خلقها المستعمر الجشع. (¬3) وليس النضج المبكر هو الصفة الوحيدة التي تميز الشباب الجزائري، ولكنه يمتاز كذلك بالحيوية وبالشجاعة والإقدام والتفاني في إنجاح ما تسند له من مهام، وعندما ينظر إليه من خلال الحياة اليومية، يكتشف أنه يتحلى بخصال أخرى كثيرة مثل روح المبادرة والصبر على المكروه والإرادة القوية والرغبة في الانعتاق والتحرير من كابوس الظلم والاستبداد. ولقد كانت قيادة جبهة التحرير الوطني تعرف جيداً أبناء شعبها. ولأنها تؤمن بأنهم يشكلون مشتلة أصيلة لتزويد جيش التحرير الوطني، فإنها خصصت لهم مكانة يستحقونها في ميثاق وادي الصومام. ¬

_ (¬1) تجدر الإشارة، بهذا الصدد، إلى أن الفتاة الجزائرية صارت في كثير من الأحيان، ترفض الزواج إذا لم يكن من مجاهد. (¬2) كانت أعمار ثلثي أعضاء القيادة السداسية لا تتجاوز اثنتين وثلاثين سنة. في حين كان مصطفى بن بولعيد أكبرهم سناً يبلغ من العمر سبع وثلاثون سنة، وكريم بلقاسم خمساً وثلاثين سنة. (¬3) معظم الذين فجروا الثورة كانوا قد التحقوا بصفوف الحزب قبل بلوغهم سن الرشد.

أما شباب الأرياف وشباب المدن غير المتمدرسين وهم الأغلبية الساحقة، فإن المؤتمر أوصى باعدادهم للمعركة وذلك بتطوير حسهم الوطني وتنمية استعداداتهم للتضحية القصوى في سبيل استرجاع الاستقلال الوطني. وأما تلاميذ الثانويات وطلبة الجامعة فإن نضالهم يجب أن يكون على الجبهة العسكرية ككتاب في مستوى هياكل الثورة أو على الجبهة السياسية في إطار الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين الذي كان قد تأسس بباريس على إثر مؤتمر انعقد في الفترة مابين الثامن والرابع عشر من شهر تموز سنة خمس وخمسين وتسعمائة وألف. وبتوجيه من جبهة التحرير الوطني، كان للاتحاد المذكور نشاط مكثف في داخل البلاد وفي خارجها وعلى سبيل المثال ذلك القرار التاريخي الذي تم اتخاذه يوم 20 / ك2 سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف والقاضي بتنظيم أسبوعين للتضامن مع إخوانهم المعتقلين على أن يكون اليوم الأول الذي هو يوم القرار ذاته، يوم الاضطراب عن الدروس والطعام (¬1). وصادق المضربون على لائحة وجهوها لكافة السلطات الاستعمارية يطالبون فيها بإطلاق سراح الطلبة المسجونين، وإجراء تحقيق فعلي حول اغتيال زميلهم زدور (¬2) ومعاقبة المجرمين المسؤولين عن ذلك، كما أنهم طالبوا بوقف عمليات القمع الأعمى، والاعتراف بوجود الأمة الجزائرية وحق الشعب في تقرير مصيره والتفاوض مع ممثله الشرعي والوحيد: جبهة التحرير الوطني. ومع تطور الكفاح المسلح ازداد الطلبة وعياً وتبلور التزامهم بمبادئ جبهة التحرير الوطني. يستخلص ذلك من خلال اللائحة السياسية التي اختتمت بها أشغال مؤتمرهم الثاني الذي انعقد بباريس في الفترة ما بين الرابع والعشرين والثلاثين مارس سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف (¬3). ¬

_ (¬1) يقول السيد كي بارفيلي: إن القرار تم تطبيقه بالإجماع في جامعة الجزائر، بل إن جزءاً من الطلبة الأوروبيين إلى أن كفاح الشعب الجزائري عادل وشرعي وبالتالي فهو لن ينتهي إلا باسترجاع السيادة. (¬2) تم اعتقال زدور في مدينة وهران يوم 6/ 12/1955. (¬3) جاء في اللائحة ما يلي: - نظراً إلى أن الاستعمار هو مصدر الفاقة والأمية والاعتداء على كرامة الشعوب. - نظراً إلى أن كفاح الشعب الجزائري عادل وشرعي وبالتالي فهو لا ينتهي سوى باسترجاع السيادة.

وعندما وجهت جبهة التحرير الوطني نداءها إلى الطلبة الزيتونيين خاصة للإضراب عن الدراسة والالتحاق فوراً بصفوف جيش التحرير الوطني في مختلف أنحاء الوطن وفي الحدود، اغتنم أعضاء الاتحاد المتواجدين بالعاصمة تلك الفرصة فقرروا الإضراب عن الدروس والامتحانات إلى أجل غير مسمى ووجهوا نداء إلى الطلبة يدعوهم إلى الالتحاق بصفوف جيش التحرير الوطني وجبهة التحرير الوطني. ومن خلال دعوتها إلى الإضراب العام، فإن جبهة التحرير الوطني لم تكن تقصد مجرد الوصول إلى إخلاء الثانويات ومدرجات الجامعات، كما أنها لم تكن ترمي إلى جعل كل تلك الأعداد الغفيرة من التلاميذ والطلبة يلتحقون بصفوف جبهة التحرير الوطني. لقد كان كل ذلك ثانوياً بالنسبة للهدف الأسمى الذي يتمثل من جهة في الإعلان للعالم أجمع بأن أغلبية الشعب الجزائري تدرك الواقع الاستعماري وهي مع الكفاح المسلح من أجل استرجاع السيادة الوطنية، وفي تحسيس آلاف الشباب والمراهقين ومن خلالهم الأولياء بكون أبواب الحرية التي سدها الاستعمار لا يفتح إلا بالإقدام على التضحية في جميع الميادين. ولقد ألح المؤتمر على مواصلة الاهتمام بمصير الشباب عامة والمعتقلين على وجه الخصوص حيث دعى إلى توفير كل الشروط التي تمكن من توظيف الطاقات الحية بكيفية عقلانية وإلى بذل قصارى الجهد في سبيل التخطيط لعمليتي التجنيد والتعبئة، لأجل ذلك، فإن المؤتمرين قرروا، بالنسبة للطلبة والطالبات، أن تحصر المهام التي تسند إليهم خاصة في المجالات السياسية والإدارية والثقافية والصحية والاقتصادية إلى غير ذلك من الميادين التي يكونون فيها أكثر مردودية، وتكون مجهوداتهم أكثر فعالية، وعندما يكونون خارج التراب الوطني أو يتم تمريرهم، في حالة الاكتفاء، بواسطة جيش التحرير الوطني إلى تونس والمغرب فإنهم يتوجهون إلى مختلف الجامعات ¬

_ - نظراً إلى أن سياسة العنف، وحرب الإبادة والقمع قد تضاعفان عدد الضحايا دون القضاء على حركة التحرير، وتجعلان. فإن المؤتمر يطالب بالآتي: 1 - الإعلان عن استقلال الجزائر. 2 - إطلاق أنفسهم قد استجاب للنداء وعبر، عنه تلقائياً، عن إدانته للإجراءات التعسفية المسلطة على الطلبة المسلمين. - نظراً إلى أن الاستعمار هو مصدر الفاقة والأمية والاعتداء على كرامة الشعوب. - اطلاق سراح الوطنيين المعتقلين. 3 - التفاوض مع جبهة التحرير الوطني.

الكائنة في البلدان الشقيقة والصديقة ينهلون من ينابيع المعرفة بشتى أنواعها، ويستعدون للدور الذي ينتظر منهم القيام به بعد استرجاع السيادة الوطنية (¬1). 7 - وعلاوة على تنظيم الفئات الاجتماعية الأصيلة، رأى مؤتمر وادي الصومام أن من فائدة الثورة أيضاً الاهتمام بالأقليات الأوربية سواء منها التي جاءت غازية في ركاب الاستعمار أو التي جاءت إلى الجزائر تطلب العيش بوسائل مختلفة (¬2). لقد كانت تلك الأقليات تمثل، من حيث العدد، أكثر من عشر السكان وتسيطر، فعلياً، على ثلثي الاقتصاد، ولها في باريس نفوذ على أكثر من واحدة من الجهات التي بيدها سلطة القرار. لأجل ذلك، فإن إهمالها قد يحولها إلى قوة مناهضة وتجعلها تقبل على توظيف إمكانياتها لدعم المجهود الحربي الاستعماري. ولم يكن المؤتمرون يجهلون أن الأوربيين، في الجزائر، ليسوا صنفاً واحداً، بل الجميع كان يدرك أن من بينهم الغلاة الذين لا ينتظر منهم شيء بإيمانهم الراسخ بأنهم من جنس أعلى وبأن نسبة كبيرة من أبناء جلدتهم إنما ولدوا ليكونوا وسيلة لهم تمكنهم من تسخير الجزائريين واستغلال ثرواتهم على اختلاف أنواعها. لكن الجزء الأكبر من المسيحيين واليهود قبل التعاون مع الثورة إما لطمع في حماية المصالح الخاصة واكتساب امتيازات أخرى نتيجة المستوى الثقافي العالي نسبياً والتكوين العلمي والمهني خاصة، وإما لقناعة فكرية نتيجة الانتماء إلى تشكيلات سياسية تقدمية متعددة. فعلى هذا الجزء قرر المؤتمر تركيز الجهد، وأوصى جبهة التحرير الوطني بإعطاء اهتمام خاص للجانب النفساني الذي يتعرض للضغط الاستعماري المكثف (¬3). إن الثورة الجزائرية لا تهدف إلى رمي الأوربيين في البحر كما أنها تدين الشعار الذي حمله أمثال "كريفو" لترهيب الأقليات وتنفيرهم من جبهة التحرير الوطني والذي يقول: "الحقيبة أو التابوت" (¬4) لكنها تريد فقط استرجاع الاستقلال الوطني الذي اغتصب سنة ثلاثين وثمان مائة وألف، وإقامة جمهورية ¬

_ (¬1) المنظمة الوطنية للمجاهدين، أشغال المؤتمر الأول لتاريخ الثورة، ص. 175. (¬2) هناك عدد كبير من الجالية اليهودية خاصة جاؤوا إلى الجزائر من جنود أوليفرنة قبل الغزو الاستعماري بكثير واستقروا في مناطق من البلاد يتعاطون التجارة والصناعة، ومن هؤلاء بكرى وبوجناح لا يمكن فصل اسميها عن تاريخ احتلال الجزائر. (¬3) المجاهد، العدد الخاص رقم 4 ص67 وما بعدها. (¬4) نفس المصدر، ص70.

ديمقراطية واجتماعية تضمن المساواة الحقيقية بين جميع المواطنين (¬1) ولأجل ذلك اختارت الكفاح المسلح وهي مصممة على مواصلته إلى أن يتجسد كل ما تصبو إليه، وتدعو كافة السكان، أياً كان أصلهم، للانضمام إلى صفوفها حتى تتظافر الجهود من أجل القضاء النهائي على النظام الاستعماري في الجزائر. إن النظر إلى الأقلية الأوربية بهذا المنظار هو الذي جعل المؤتمر يوصي جبهة التحرير الوطني بتشجيع كل المساعي التي من شأنها أن توصل إلى تكوين لجان وحركات جماهيرية تضم ما أمكن من الأوربيين الذين يرفعون شعار الدعوة إلى: - إيقاف الحرب التي يشنها الاستعمار ضد الشعب الجزائري. - فتح المفاوضات المباشرة من أجل إعادة السلم وتمكين الجزائر من استرجاع استقلالها الوطني. - مساعدة ضحايا القمع والإرهاب. - الدفاع عن الحريات الديمقراطية وتجريد الميليشيات الأوربية من السلاح. - توعية نساء الأجناد الفرنسيين وتنظيمهن للمطالبة بتسريح رجالهن من صفوف الجيش المقاتل في الجزائر. ومن خلال كل تلك اللجان والحركات ستتمكن جبهة التحرير الوطني من الوصول إلى الأوساط التقدمية في فرنسا ذاتها وانطلاقاً من تلك الأوساط يكون النفاذ إلى عامة الشعب قصد توعيته بالأخطاء التي قد تجرها إليه استمرارية الحرب، وتحسيسه بأعمال القمع والإرهاب التي تمارس باسمه من طرف الجيش الفرنسي في أرياف الجزائر وفي مدنها وقراها. وعندما يدرك الشعب الفرنسي كل ذلك، فإنه يسخط ويتحول إلى قوة ضاغطة يكون التعبير عنها بواسطة التظاهرة ضد إرسال الأجناد بدفعات متتالية يدعمون قوات الدمار في الجزائر ويموتون في سبيل قضية ظالمة، وستنظم المظاهرات أيضاً لحمل الحكومة الفرنسية على التفاوض مع جبهة التحرير الوطني وللمطالبة بإلغاء عمليات التعذيب التي يتعرض لها المعتقلون السياسيون والأبرياء الذين غصت بهم المحتشدات والمعتقلات والتجمعات التي صارت تقام هنا وهناك بلا عد ولا حصر في مختلف أنحاء البلاد. وإذا كان دور جبهة التحرير الوطني لا يتعدى هذه الأهداف المتواضعة ¬

_ (¬1) نفس المصدر.

بالنسبة لما يمكن انتظاره من الشعب الفرنسي الذي يمول الحرب مادياً وبشرياً عن وعي أو عن غير وعي، فإن هذا الدور يتغير تماماً عندما يكون الأمر متعلقاً بالمغتربين الجزائريين الذين يعيشون في أوربا. فهناك تنظيم محكم لا يختلف عما هو معروف ومطبق في سائر مناطق الجزائر وفي كل من الحدود الغربية والشرقية (¬1). لقد أنشئت اتحادية جبهة التحرير الوطني بفرنسا في نفس الوقت الذي تأسست فيه باقي مناطق الجزائر، وحددت لها مهام أساسية، في بداية الأمر، لإرساء قواعد نضالية تكون قادرة على استئصال جذور الحركة الوطنية الجزائرية التي يتزعمها السيد الحاج مصالي من جهة وعلى جمع الأموال الضرورية لتسير الثورة وتجهيزها من جهة ثانية (¬2). واستطاعت، رغم كل الصعوبات والعراقيل، أن تقطع في الاتجاه المذكور، أشواطاً بعيدة. لكن مؤتمر وادي الصومام أضاف إلى تلك المهام ما يلي (¬3). 1 - العمل على توسيع الحركة الفرنسية المتحررة وتشجيعها على تنوير مختلف الطبقات الشعبية التي يجب أن تطلع على الفظائع والجرائم التي ترتكب ضد الشعب الجزائري الأعزل من ناحية، وعلى مساعدة جبهة التحرير الوطني خاصة في مجالات الإعلام والدعاية وتنقل المسؤولين والإطارات ونقل الوثائق من جهة ثانية. 2 - تنظيم المغتربين الجزائريين في أوربا بأكملها مع التركيز على فرنسا وذلك لتحقيق غرضين رئيسيين هما: أ- تجنيد الطاقات وتوعيتها قصد إعدادها لتزويد جيش التحرير الوطني عن طريق تونس والمغرب الأقصى اللذين أنشئت على حدودهما مع الجزائر مراكز خاصة للتدريب العسكري. ونظراً إلى ارتفاع عدد المغتربين وصغر سنهم وانتشار الوعي السياسي في أوساطهم نتيجة الجهد الذي كانت بذلته حركة الانتصار للحريات الديمقراطية من ناحية وبفضل نشاط الحركات النقابية المختلفة من ناحية أخرى، فإن اتحادية جبهة التحرير الوطني في فرنسا سرعان ما تحولت إلى خزان بشري لا ينضب. ¬

_ (¬1) المنظمة الوطنية للمجاهدين، إشغال المؤتمر الأول لكتابة التاريخ، ص (¬2) boudiaf (Mohamed) La picparation du LER NOVEMBRE, EL Djarida 1968, P. 06 (¬3) المجاهد، العدد الخاص، ص. 68.

ب - في المجال العسكري

ب- مواصلة عملية استئصال التنظيم المصالي، وتكثيف الاتصال مع الوسط العمالي قصد التخطيط لإلحاق ما يمكن من أضرار بالاقتصاد الاستعماري، وفي نفس الوقت الذي يتم فيه تنظيم العمال الجزائريين بصفة شبه عسكرية محكمة، توجه العناية إلى المنظمات والتشكيلات السياسية قصد استمالتها بالتدريج وجعلها تنفصل شيئاً فشيئاً عن النظام الاستعماري لتصبح في النهاية قوة داعمة للثورة الجزائرية. ب - في المجال العسكري: إن التنظيم الذي بدأت به الثورة ليلة الفاتح من نوفمبر سنة أربع وخمسين وتسعمائة وألف يدل دلالة قاطعة على أن جيش التحرير الوطني امتداد طبيعي للمنظمة الخاصة التي كانت قد تأسست عام سبعة وأربعين وألف في إطار حزب الشعب الجزائري والتي سبقت الإشارة إليها في الفصل الثالث من الباب الأول. وإذا قررت القيادة الأولى للثورة تقسيم الجزائر إلى مناطق. (¬1) فإنها فعلت ذلك تقليداً للمنظمة الخاصة التي كانت قد قسمت البلاد إلى تسع مناطق. وعلى غرار المنظمة الخاصة أيضاً، بدأ جيش التحرير الوطني ينظم نفسه على أساس الفوج ونصف الفوج. وكان المجاهدون الأوائل كلهم من أعضاء المنظمة الخاصة، لأجل ذلك اتسمت الانطلاقة بالسرية المطلقة وتميزت العمليات الأولى بكثير من الدقة والتنظيم المحكم حتى أن السلطات الاستعمارية التي اندهشت لذلك، أشاعت بأن ثمة تقنيين أجانب يسيرون المعركة ويوجهون الثورة في داخل البلاد وفي خارجها. ولاحظ المؤتمرون أن جيش التحرير الوطني قد برهن على قدرة فائقة في تنظيم عمليات عسكرية ناجحة مكنته من اكتساب الثقة في النفس ومن افتكاك أسلحة حربية جديدة وعديدة استعملت لدعم القدرة الحربية ولتجنيد أعداد وافرة من المجاهدين الذين بدأوا يتوافدون من مختلف الفئات الاجتماعية واجدين في قدماء المنظمة الخاصة إطارات مكونة ومدبرة على القتال. ولقد كانت الانتصارات التي أحرز عليها جيش التحرير الوطني (¬2) حافزاً قوياً بالنسبة لمجموعة من الجزائريين الذين كانوا يمارسون في صفوف الجيش الفرنسي سواء كجنود بسطاء أو كضباط وضباط صف، فهربوا محملين بالأسلحة والذخيرة، من ثكنتاهم والتحقوا بإخوانهم المجاهدين. ¬

_ (¬1) YOUSFI (Mohamed) I, Algerie en marche Tome ENAL 1985, P. et Suivantes. (¬2) من معارك جيش التحرير الوطني ص8، وما بعدها.

ورأى بعض المؤتمرين أن ثبات جيش التحرير الوطني أمام قوات الجيش الاستعماري مدعاة إلى تطوير كيفية القتال وذلك بالتخلي عن حرب العصابات والتركيز على تنظيم المجاهدين في وحدات نظامية لا تختلف عما هو متعارف عليه في سائر الجيوش العالمية. ففي إطار إعادة التنظيم، قرر المؤتمر الإبقاء على تقسيم الجزائر إلى ستة أقسام يسمى كل واحد منها ولاية بدلاً من منطقة، معنى ذلك أن جبهة التحرير الوطني رجعت من جديد إلى الهيكلة التي كانت المفعول في عهد حركة الانتصار للحريات الديمقراطية. وإذا كان المؤتمرون قد وافقوا بالإجماع على هذا التغيير الشكلي، فإن عدداً منهم وخاصة ممثلي المنطقة الثانية (¬1) قد أبدوا تحفظاً شديداً بالنسبة للتخلي عن حرب العصابات واستبدال المجموعات الصغيرة بالوحدات النظامية. لكن مبدأ المركزية الديمقراطية حسم الموقف في هذه المرة كذلك وسجل في محضر جلسات المؤتمر أن الولاية تقسم إلى مناطق والمنطقة إلى نواحي والناحية إلى أقسام (¬2). وإضافة إلى الولايات، استحدث المؤتمر منطقة جديدة تشمل الجزائر العاصمة وضواحيها اسماها المنطقة المستقلة واتخذ منها مقراً لقيادة جبهة التحرير الوطني المتمثلة في لجنة التنسيق والتنفيذ. أما القيادة فجماعية بالنسبة لجميع المستويات وتتكون فيما يخص أركان جيش التحرير الوطني من قائد عام يساعده ثلاثة نواب يشرفون على القطاعات السياسية والعسكرية والاتصال والاستعلامات. وقد حدد المؤتمر كذلك أنواع الرتب العسكرية وضبط الوحدات المكونة للجيش. ففي مستوى الولاية يتولى القيادة العامة ضابط برتبة صاغ ثاني يتميز بثلاث نجوم حمراء وينوبه ثلاثة رجال برتبة صاغ أول يتميز الواحد منهم بنجمتين حمراوين وثالثة بيضاء. ويسمى قائد الناحية ملازماً ثانياً تميزه نجمة حمراء وينوبه ضابط برتبة ملازم أول يتميز الواحد منهم بنجمة بيضاء. أما القسم فيقوده مساعد يميزه رقم ثمانية الهندي (8) عليه خط أبيض، وكل من نوابه يسمى عريفاً أول ويميزه رقم سبعة الهندي (7) بلون أحمر ومكرر ثلاث ¬

_ (¬1) يقول السيد عمار بن عودة في ندوة قسنطينية المنعقدة يومي 30 - 31 ك2 سنة 1985 "إن قادة المنطقة الثانية المشاركين في المؤتمر قد رفضوا تبني الحرب الكلاسيكية وأكدوا أنهم لن يتخلوا عن حرب العصابات إلا إذا توفرت شروط ممارسة حرب المواجهة". (¬2) المجاهد، العدد الخاص، ص 72. - تشكلت أول لجنة للتنسيق والتنفيذ من السادة: محمد العربي بن المهيدي بلقاسم كريم، يوسف زيغوت، رمضان عبان وبن يوسف بن خدة.

مرات. وهناك رتبتان لا تسند لصاحبهما مسؤولية على رقعة جغرافية محددة وهما: الجندي الأول وعلامته رقم ثمانية الهندي (8) بلون أحمر والجندي الثاني وعلامته رقم ثمانية الهندي (8) بلون أحمر ومكرر مرتين. أما الوحدات فتعرف كالآتي: نصف الفوج يتكون من أربعة جنود يقودهم جندي أول. الفوج ويتكون من عشرة رجال يقودهم جندي ثان. الفرقة وتتكون من ثلاثة أفواج يقودهم قائد الفرقة ونائبه. الكتيبة وتتكون من ثلاث فرق ويقودها خمسة إطارات. الفيلق ويتكون من ثلاث كتائب ويقودها عشرون إطاراً. إن التنظيم العسكري وحده لا يكفي، كما التنظيم مهما كانت قيمته، يظل ضرباً من الخيال ما لم يدعم هذا وذاك بالتسليح الذي يحتاج إليها المقاتلون. ولقد بدأت الثورة الجزائرية بقطع قليلة نسبياً من الأسلحة الحربية وبنادق الصيد التي كانت المنظمة الخاصة قد استوردتها من ليبيا وتونس بعد تأسيسها مباشرة، وخزنتها بوادي سوف في مرحلة أولى ثم إلى جبال الأوراس في مرحلة ثانية (¬1). وكانت التعليمات التي أعطيت للمجاهدين الأوائل تتمثل خاصة في حثهم على استعمال كل الوسائل لجلب الأسلحة من العدو أولاً وعن طريق السوق أو المساهمة الشعبية ثانية. وحظيت التعليمات المذكورة بتطبيق واسع في مختلف أنحاء البلاد (¬2). لكن ذلك لم يكن كافياً بسبب تزايد التجنيد الذي فاق كل توقع من جهة ونتيجة قرار الحكومة الفرنسية الخاص بمضاعفة عدد أسلحتهم المتطورة بما هو أحسن وأثقل من جهة ثانية. ولقد كان من الممكن التقليص من الفارق في العتاد لو أن السيد بوضياف ¬

_ (¬1) يذكر السيد عجول أن المنظمة الخاصة اشترت ثلاث مائة قطعة حربية من بقايا الحرب الإمبريالية الثانية، وتم نقلها عبر الصحراء الليبية. وفي وادي سوف وضعت داخل براميل من الزيت يحفظها ويقيها. بعد إلى الأوراس وقع خزنها. وعشية اندلاع الثورة خصم من هذه الكمية ثلاثون قطعة للمنطقة الثانية وعشرون للمنظمة الأولى، وعدد مماثل تقريباً للمنطقتين الرابعة والخامسة، وظل الباقي في حوزة المنطقة الثانية وهو ما يفسر كثرة الأسلحة الغربية نسبياً في الأوراس (حديث أجريته مع محافظة جبهة التحرير الوطني بباتنة يوم 24/ 3/1985. (¬2) بلغ عدد الأسلحة عشية انعقاد مؤتمر وادي الصومام حوالي ثلاث آلاف قطعة سلاح حربي وما يزيد عن عشرة آلاف بندقية صيد. ورغم الزيادة الكبيرة بالنسبة لما كان عليه الوضع ليلة الفاتح نوفمبر إلا أن الكمية كانت قليلة جداً بالمقارنة مع الاحتياج الحقيقي.

ج - في مجال الثقافة والاقتصاد

ومندوبية الخارج استطاعا تأدية الدور المحدد لكل منهما على أحسن وجه. فالأول وجد صعوبة كبيرة في دخول السوق الأوربية للأسلحة بالإضافة إلى المشاكل الجمة التي اعترضت سبيله عندما بدأ يرسي قواعد جبهة التحرير الوطني في فرنسا، والثانية لم تتمكن من إقناع مصر وباقي البلاد العربية بضرورة الالتزام المطلق مع الثورة الجزائرية بحيث توفر لها كل ما تحتاج إليه من إمكانيات مادية، لأجل ذلك، وعندما طال انتظار الإمدادات، قام العربي بن المهيدي بمحاولات: الأولى في اتجاه تونس وليبيا والثانية في اتجاه المغرب بواسطة الباخرة "آتوس" التي تم شحنها في ميناء الإسكندرية. فانطلاقاً من كل هذه المحاولات وما أسفرت عنه من نتائج، قرر المؤتمر تعيين السيدين مصطفى بن عودة وعمار واعمران يتوجهان إلى الحدود الشرقية للبحث عن مصادر جدية للتسليح. وكانت تونس والمغرب الأقصى في ذلك الوقت قد اتفقا مع الحكومة الفرنسية على وقف إطلاق النار، لكن جيش التحرير الوطني (¬1) في كل من البلدين الشقيقين اشترط لقبول الاتفاق عدم التخلي عن جبهة التحرير الوطني. وقد وجد مبعوثا مؤتمر وادي الصومام سنداً قوياً في قائد الجيشين عبد الكريم الفاسي وعز الدين عزوز اللذين كانا، مثل جبهة التحرير الوطني، يؤمنان بأن استمرارية المعركة المسلحة وتوحيدها وتعميمها على كافة أنحاء بلاد المغرب العربي الموحد ونظراً إلى العلاقات المتميزة مع جيش التحرير الوطني في تونس والمغرب الأقصى، ورغم تردد الحكومتين الجديدتين في البلدين الشقيقين بالنسبة لما ينبغي أن يكون عليه موقفهما من جبهة التحرير الوطني بعد قبولهما وقف إطلاق النار، فإن المؤتمر أوصى بإنشاء مراكز حدودية للتدريب العسكري وأخرى لاستقبال اللاجئين وتنظيمهم (¬2). ج - في مجال الثقافة والاقتصاد: لم يخصص ميثاق وادي الصومام فصلاً مستقلاً لمعالجة الواقع الاقتصادي والثقافي في الجزائر أو لضبط آفاق المستقبل بالنسبة للمجالين المذكورين. لكننا عندما نقرأ مختلف فقرات الوثيقة التي صادق عليها المؤتمرون وكلفوا هيئات الثورة بالعمل على متابعة تطبيقها، فإننا نستطيع جمع ما يلزم من معلومات للتعرف على حقيقة الوضع الذي آل إليه الجزائريون بفعل الاستعمار ¬

_ (¬1) حربي (محمد) جبهة التحرير الوطني، ص. 210 (¬2) المنظمة الوطنية للمجاهدين، المؤتمر الأول لكتابة التاريخ، ص306

الاستيطاني ولتصور النهج الذي لابد من اتباعه للقضاء على آثار السيطرة الأجنبية ولبناء المجتمع الذي يكون في مستوى ثورة نوفمبر. صحيح أن التركيز، في وثيقة وادي الصومام، كان على المجالين السياسي والعسكري لأن الهدف الرئيسي المستعجل كان هو استرجاع السيادة المغتصبة، لأن البناء الاقتصادي والثقافي مرهون بالتخلص من الوجود المادي للاستعمار الذي لا يزيله سوى العنف في الداخل والعمل الديبلوماسي المكثف في الخارج، لكن، رغم ذلك، فإن المتفحص للوثيقة، يجد أن المؤتمرين يؤكدون على أن السياسة الزراعية في الجزائر ظلت، منذ بداية الاحتلال قائمة على اغتصاب الأراضي الخصبة من أصحابها الخواص أو من المؤسسات الدينية والإدارية وتمليكها للكولون ولشركات الاستغلال الأوربية بصفة عامة لأجل ذلك فإن الهدف الأول، بعد التخلص من السيطرة الأجنبية يكون متمثلاً في إيجاد طريقة مثلى لإعادة المياه إلى مجاريها وجعل المغتصبة حقوقهم يسترجعون بعض ما أخذ منهم بالقوة. ولأن السلطات الاستعمارية مدركة لهذا المصير الحتمي الذي يأتي نتيجة عملية استرجاع السيادة الوطنية، على انتهاج سياسة الترغيب والمرونة تجاه سكان الريف الذين لم يكن يخفى عليهم أنهم سيشكلون القاعدة الأساسية لانتشار الكفاح المسلح ونجاحه. وفي إطار تلك السياسة أعلنت الحكومة الفرنسية عن عزمها على إجراء إصلاح زراعي قد يصل إلى حد توزيع جزء من الأراضي المسقية على المعدمين من الجزائريين. وذهب السيد لاكوست إلى أبعد من ذلك عندما صرح أنه يفكر في الإقدام على انتزاع مساحات هامة من المزارع الكبرى وتقسيمها على الفلاحين الجزائريين (¬1). ومن المعلوم أن كل تلك التصريحات لم تتعد حدود الكلام الذي سرعان ما اختفى عندما ارتفعت أصوات غلاة الكولون الداعية إلى استبدال ما أسمته لينا بالقمع وبتطبيق سياسة الأرض المحروقة. فأمام إعراض أولئك الكولون، تراجعت السلطات الاستعمارية التي وجدت، في الواقع، لخدمتهم. وللحفاظ على ماء الوجه أصدرت قراراً يقضي بإصلاح نظام الخماسة (¬2) الذي كان الفلاحون قد أصلحوه مجبرين نتيجة انتشار الكفاح المسلح. ¬

_ (¬1) Echo d ' Alger du 14.02.1975 (¬2) Soustelle (J) aimée et souffrante Algérie , p . 1952.

فالخماسة التي زعم لاكوست أنه يدخل عليها إصلاحات من شأنها أن تحسن أوضاع أبناء الريف الجزائري لا علاقة لها بالنهج الاستغلالي المتبع من طرف الأوربيين الذين كانوا يعاملون العمال معاملة البهائم، وحينما أحس المزارعون الجزائريون أنهم لا يستطيعون التصدي لتجاوزات الغزاة وعملائهم، صاروا يبحثون عن الفلاح الذي يقبل استثمار الأرض بالمناصفة ولم يكن لسلطات الاحتلال أي دخل في الموضوع لأن الأمر كان يتعلق بإيجاد من يعرض نفسه للخطر مقابل ناتج غير مضمون (¬1) وعلى هذا الأساس، فإن تطور الخماسة وتحولها إلى مناصفة إنما جاء نتيجة حتمية لانعدام الاستقرار والأمن في الأرياف ولقيام الجيش الفرنسي بتعميم سياسة الأرض المحروقة مما جعل مالك الأرض يوكل فلحها لمن تكون لهم الشجاعة الكافية لمواجهة التحدي بكل أنواعه. أما الأوربيون الكولون، فإنهم كانوا يستنجدون بالأجناد، يدفعون لهم ما يستحقون، لمواصلة خدمة أراضيهم بواسطة اليد العاملة الجزائرية. ولم يتغير في طريقة الاستغلال سوى سلوك الأفراد الذين صاروا يحجمون عن إهانة العمال ليس تأدباً ولكن خوفاً من انتقام المجاهدين. من هذا المنطلق، نستطيع القول إن تحليل المؤتمرين لسياسة الاستعمار الزراعية كان مصيباً حيث ركز على أن "سلطات الاحتلال لم تلجأ إلى مخادعة الفلاحين الجزائريين إلا لتصرفهم عن الثورة (¬2) لكن هذه المخادعة رغم ما أحيطت به من عناية، لا يمكن إلا أن تفشل مثل ما فشلت سابقتها التي استعملت لتطبيق مقولة "فرق تسد" ومخططات التجزئة التي تبقي المجتمع الجزائري في حالة الضعف الذي يمنعه من النهوض لاسترجاع الكرامة. إن الجزائر بلد زراعي ما في ذلك شك، وإذا كان ريفها قد تعرض للاستغلال بجميع أنواعه لنهب ما فيه من خيرات طيلة أكثر من قرن من الاحتلال (¬3) فإنه بمجرد الإعلان عن الثورة، لم يتردد في احتضانها بصدق وإخلاص. وقد كان أبناؤه وهم يعلنون عن التزامهم بجبهة التحرير الوطني، يدركون أن الاستعمار الاستيطاني أخذ منهم كل شيء بما في ذلك الأرض التي هي أعز ما يملكون. ونظراً لتمسك المحتل بما أحرز عليه من مغنم، وإصراره ¬

_ (¬1) المنطقة الوطنية للمجاهدين، أشغال المؤتمر الأول لكتابة التاريخ. ص 410. (¬2) المجاهد، العدد الخاص، ص 71. (¬3) أنظر: الفصل الأول من الباب الأول.

على عدم التنازل عن أي جزء من الممتلكات التي اغتصبها، فإن مؤتمر وادي الصومام قد ثبت في وثائقه أن الإصلاح الزراعي الحقيقي هو الحل الوطني لمشكلة البؤس الذي تتخبط فيه البوادي (¬1). لقد كانت الزراعة هي المجال الاقتصادي الوحيد الذي حظي بمعالجة تكاد تكون مفصلة نظراً لما له من أهمية وللمكانة التي يحتلها أبناء الريف في صفوف الثورة، لكن ذلك لا يعني أن المجالات الأخرى قد أهملت أو أبعدت عن اهتمامات المؤتمر. فالدارس لوثيقة وادي الصومام يرى بكل بساطة أن الأهداف الأساسية التي أعلنت عنها جبهة التحرير الوطني في ندائها الأول لم تتغير، بل على العكس، فإن المؤتمرين قد أضافوا عليها، نتيجة الخبرة المكتسبة طيلة حوالي عامين من الكفاح المسلح، كثيراً من التفاصيل والتوضيحات التي تقربها إلى فهم الجماهير الشعبية الواسعة (¬2). ومن المعلوم، لدى كل الباحثين المهتمين بتاريخ ثورة نوفمبر، أن الأهداف الرئيسية التي ضبطتها جبهة التحرير الوطني وأعلنت عنها في أول بيان لها تتمحور كلها حول نقطة واحدة هي هدم النظام الاستعماري حيثما وجد وبكل الوسائل التي يمكن الحصول عليها. معنى ذلك أن الشرارة الأولى التي انطلقت يجب أن تنتشر بكل سرعة لتشمل كافة أنحاء الوطن وأن يظل اللهب مستعراً إلى أن يتم تحرير الأرض وتحرير الإنسان. ففي إطار التحرير المذكور يمكن أن ندرج برنامج الثورة في المجالين الثقافي والاقتصادي. فالاستعمار الفرنسي الذي أصاب بلادنا في نهاية الثلث الأول من القرن الماضي كان من أبشع أنواع الاستعمار وأكثرها شراسة لأنه كان استيطانياً، ولأنه كان من منطلق ديني واقتصادي وحضاري في آن واحد. ولقد كان الذي وقع ليلة الفاتح من نوفمبر سنة أربع وخمسين وتسعمائة وألف بداية ثورة شهد التاريخ أنها من أعظم ما عرف العالم المعاصر، ولأنها كانت ثورة، فإنها استهدفت تحرير الأرض وتحرير الإنسان في ذات الوقت وهما مهمتان تتطلبان أكثر من وقف إطلاق النار. ¬

_ (¬1) المجاهد- العدد الخاص، ص 68. (¬2) لقد كانت تلك الأهداف، في الحقيقة، هي نفس الأهداف التي تضمنها البرنامج السياسي الذي صادق عليه نجم شمال إفريقيا سنة. 1933 انظر الملحق رقم 3.

إن تحرير الأرض، في منظور ثورة نوفمبر، لا يتوقف عند تخليصها من السيطرة بل يتعدى ذلك إلى إعادة تأهيل مساحاتها الشاسعة وإعادة النظر في طرق التعامل معها بحيث تستعيد وظيفتها التي كانت تقوم بها قبل أن يفرض عليها الاحتلال. من هذا المنطلق، فإن تحرير الأرض يشمل، في ذات الوقت، استرجاع السيادة الوطنية على كافة المساحات المغتصبة والمستغلة سواء في طرف المستعمرين الفرادى والشركات الإمبريالية أو من طرف العملاء من المواطنين، وتخليصها من أنواع الزراعة التي أدخلت إلى بلادنا لتلبية بعض حاجات الفلاحة في فرنسا (¬1)، ومن جهة أخرى، يتطلب تحرير الأرض إعادة صقل ذهنية الفلاح الجزائري والتركيز على استصلاح المساحات الشاسعة في الهضاب العليا وفي الصحراء (¬2)، لأن الجزائر ليست هي الشريط الساحلي فقط ولأنها تتلقى، سنوياً كميات هائلة من مياه الأمطار التي يضيع أكثر من خمسة أسداسها في البحر (¬3)، كما أن باطن أراضيها يحتوي على مليارات الأمتار المكعبة القابلة للتجديد. وبهذا المفهوم، فإن عملية تحرير الأرض كان يتوقف تحقيقها على ظهور ونجاح حركتين أساسيتين أولهما عسكرية واعية تستعمل العنف المتنور وتضم في صفوفها طلائع مؤمنة برسالتها وقادرة ليس على الاستشهاد فحسب، بل كذلك، وفي المقام الأول، على ربح ثقة الجماهير التي هي ضرورية لربح المعركة ضد المستعمر الذي يملك العدة والعتاد، وثانيتها ثقافية وطنية تستعمل التخطيط العقلاني ولا تتردد في اللجوء إلى العنف الثوري للقضاء على دابر التبعية بكافة أنواعها. هاتان الحركتان متلازمتان ومترابطتان أشد الارتباط بحيث يظل انتصار الواحدة لا شيء ما لم تتمكن الأخرى من تجسيد جل أهدافها على الأقل. لقد أدرك المؤتمرون أن تحرير الإنسان يكتسي نفس أهمية تحرير الأرض، لأن المواطن الحر لا يعيش على أرض مستعمرة، ولا يكون الإنسان حراً إلا إذا استطاع تخليص أرضه من كل أنواع العبودية لأجل ذلك فإنهم دعوا ¬

_ (¬1) مثال ذلك زراعة الكروم المنتجة لعنب الخمور التي حلت محل حقول الأرز خاصة، وزراعة التبغ التي احتلت مساحات كبيرة من الأراضي التي كانت تنتج القمح. (¬2) إن الاستعمار الفرنسي، طيلة المدة التي بقيها في الجزائر، لم يهتم باستصلاح أراضي الجنوب التي تعتبر من أخصب الأراضي وأشخاصها في العالم. (¬3) المجاهد العدد الخاص، ص73.

خلاصة الفصل

إلى ضرورة هدم النظام الاستعماري حتى يتسنى لجبهة التحرير الوطني أن ترسي قواعد الحركتين الثقافية والاقتصادية وبعثها إلى الوجود في وقت واحد (¬1). خلاصة الفصل: إن الدراسات التاريخية الموجهة للإحاطة بسير أحداث مؤتمر وادي الصومام ونتائجه ستتكاثر في المستقبل ما في ذلك شك. وبكثرتها ستزداد اختلافات المؤرخين حولها بسبب تباين وجهات نظر البقية من المخططين للمؤتمر والمشاركين الفعليين فيه ولأن الأرشيف لم يحفظ لنا كثيراً من التفاصيل التي لابد منها لقتل الموضوع بحثاً. ففي الآونة الأخيرة (¬2)، مثلاً، تعددت الأصوات وأنيرت الأقلام في مناسبات مختلفة تهدف كلها إلى إيهام الناس بأن أصحابها يملكون الحقيقة دون سواهم. لكننا، عندما نخضع كل ما يصلنا إلى مجهر البحث العلمي، نجد أن الواقع غير ذلك مطلقاً. فالذي رافق المؤتمرين أو آواهم أو تولى حراستهم في أي مستوى كان، لا يمكن اعتماده اليوم كمصدر أساسي قادر على تنفيذ المعلومات المكتوبة التي نشرت أثناء فترة الكفاح المسلح. إنه قد يأتي، في حديثه أو مقاله، بعض الأفكار المكملة التي قد يكون استقاها في وقتها من مصدرها الحقيقي، لكن ذلك لا يعطيه حق الخوض في موضوعات أخرى عاشها بالسماع أو بالاستنتاج الشخصي فقط. إن النسيان لصيق الإنسان، وإذا كان ذلك الإنسان لا يؤرخ للأحداث التي يسمع عنها أو يشارك في صناعتها، وإذا كان لا يرعى ما حُفظ بالمذاكرة، فإن السرعة التي تمر بها السنون تتسبب، حتماً في إتلاف كثير من العناصر الرئيسية اللازمة لإعادة تشكيل الموضوع في الذهن قبل نقله إلى القارئ والسامع. لأجل ذلك، فإن المصادر الحية الجامعة في ذاكرتها بعض تفاصيل تاريخ ثورة نوفمبر، مطالبة من قبل الأجيال الصاعدة التي لها حق العلم الصادق الوافر، بالتلاقي فيما بينها للتأكد من صحة ما عندها من معلومات تكون كفيلة بتسهيل مهمة المؤرخين الوطنيين. إن الحساسيات الزائدة، والأنانية المزدوجة باللاشعور هي التي تدفع كثيراً ¬

_ (¬1) المجاهد، العدد الخاص، ص72. (¬2) المنطقة الوطنية للمجاهدين، أشغال المؤتمر الأول (1981) والثاني (1982) والثالث (1983) لكتابة التاريخ.

من صانعي التاريخ إلى تزييفه وهم لا يعلمون أنهم بذلك يقزمون أنفسهم معه، فالمهم ليس أن يكون المرء الواحد وراء كل الأحداث فذلك من باب المستحيلات بل المهم هو أن يكون شريكاً في التخطيط للأحداث العظيمة وفي إنجاحها. إن الكتابة أو الحديث من منطق ذاتي وبدون معطيات كافية قد نتج عنها كثير من الغموض حول مؤتمر الصومام كمنعرج تاريخي في حياة الثورة وحول الوثيقة التي صادق عليها بالإجماع كمرجع أيديولوجي للتمكن من هدم النظام الاستعماري وبناء المجتمع الجزائري الجديد. لقد كان المؤتمر ضرورة لتقييم المرحلة المقطوعة لوضع الخطوط العريضة لمواصلة الكفاح المسلح والتخطيط للحل السلمي من أجل استرجاع السيادة الوطنية. كما أنه كان إجراءاً حتمياً لتزويد الثورة بقيادة وطنية موحدة مجددة، ولتوحيد التنظيم العسكري وتحديد المنطلقات التي تتحكم في مسار المعركة وتوجهها (¬1). وإذا كان المؤتمر، يومها، قد أدى دوره الإيجابي واستطاع أن يكون المنطلق لمرحلة جديدة في تاريخ ثورة نوفمبر، فإن مجموعة من العوامل ومن المستجدات التي سنتعرض لها في الفصل القادم، قد دفعت بعض المسؤولين إلى الطعن في كثير من مقوماته الأساسية لكن الذي ينبغي أن يبقى راسخاً لدى الباحث هو أن كل الطعون مهما كان مصدرها لن تقلل من قيمة النتائج التي توصل إليها المؤتمرون. وبعد أكثر من ثلاثين سنة من انعقاد مؤتمر الصومام ونشر الجزء الأكبر من الوثيقة الإيدويولوجية التي صادق عليها، فإن الدارس الموضوعي لا يسعه إلا القول، رغم كل الضغوطات والنواقص التي ستتعرض لها في حينها، إن المؤتمر كان ناجحاً، وإن نتائجه كانت مفيدة وصحية بالنسبة لاستمرارية الثورة، ويكفي للتدليل على صحة ادعائنا أن النصوص الأساسية للثورة كلها مازالت حتى اليوم تلتقي مع وادي الصومام في كل الخطوط العريضة التي اشتملت عليها. (¬2) ••• ¬

_ (¬1) المجاهد: العدد الخاص، ص54 وما بعدها. (¬2) انظر برنامج طرابلس، ميثاق الجزائر، والميثاق الوطني بصياغته.

الفصل الثالث التطبيق العملي لأهداف جبهة التحرير الوطني بعد مؤتمر وادي الصومام

الفصل الثالث التطبيق العملي لأهداف جبهة التحرير الوطني بعد مؤتمر وادي الصومام - تقييم آخر لنتائج وادي الصومام - التطبيق الميداني لمقررات الصومام - الدورة الأولى للمجلس الوطني للثورة - من حرب العصابات إلى حرب المواقع - التخطيط للعمل السياسي - الخلاصة ••

تقييم أخر لنتائج وادي الصومام

تقييم أخر لنتائج وادي الصومام: لقد كان مؤتمر وادي الصومام انتصاراً للثورة الجزائرية في نظر العديد من المحللين السياسيين الوطنيين على وجه الخصوص. لكن بعض المسؤولين الجزائريين في الخارج اعتبروا إفقاده نوعاً من الخيانة التي ستكون عواقبها وخيمة على مصير الكفاح المسلح في الجزائر. فضابط المخابرات المصري فتحي الديب أورد في كتابه "عبد الناصر وثورة الجزائر" (¬1) أن السيد أحمد بن بلة أكد" أن المؤتمر شكل نقطة تحول خطيرة في مسيرة الثورة للأسباب التالية: أ- إن اعتراض الولايات الشرقية والغربية التي تغيبت عن المؤتمر لن يتوقف عن حد الاعتراض على القرارات، بل ينتظر أن يتطور إلى صدام في إطار من محاولات التصفية بين القيادات في نطاق صراع داخلي. ب- أن الولايات المجاورة للحدود ستقوم بحجب السلاح عن الولايات الداخلية لإرغامها على التراجع عن قرارات المؤتمر. وقد وصلته رسائل تفيد بذلك. ج- احتمال انتقال صورة الصراع الداخلي المتوقعة إلى الخارج بعد خروج المجموعة الموالية لعبان رمضان، الأمر الذي سيزعزع ثقة الرأي العام العربي والعالمي في الصورة المشرفة التي أمكن تحقيقها لثورة الجزائر. د- بدء مرحلة الصراع بين السياسيين والعسكريين وما تحمله من آثار ضارة بالمسيرة الثورية خاصة بعد انتشار نغمة، سياسي وعسكري، في أوساط جيش التحرير الوطني (¬2). ¬

_ (¬1) كناب ضخم مكون من 736ص من الشكل الكبير، صدر عن دار المستقبل العربي، القاهرة. سنة 1984 أَلفَّهُ السيد فتحي الديب الذي كان مكلفاً من قبل الرئيس عبد الناصر بمتابعة تطورات الثورة الجزائرية يشتمل الكتاب على كثير من المعلومات الثمينة لكنه يتضمن كذلك كثيراً من الأخبار المدسوسة والمعلومات المزيفة لسبب أو لآخر. (¬2) عبد الناصر وثورة الجزائر، ص: 248.

ليس من السهل على الدارس المحقق أن يأخذ كتابة السيد فتحي الديب على أنها حقيقة تاريخية مسلم بها كتلك التي يرويها الثقاة الذين يتولون بأنفسهم إخضاع المعلومات إلى المقاييس والمعايير المعروفة لجمهور المؤرخين. وعلى الرغم من أن "عبد الناصر والثورة الجزائرية" صدر عن دار المستقبل العربي سنة 1984 ونشر أيضاً مترجماً إلى اللغة الفرنسية، وأن السيد بن بلة لم يعارض، قولاً أو كتابة، ما جاء في الكتاب من المعلومات منسوبة إليه حول المؤتمر، فإننا نعتبر أن الفصل الرابع عشر كله مغلوط ولا يمكن اعتماده في تقييم نتائج أشغال وادي الصومام. إن حكمنا بهذه القسوة على هذا الفصل مستخلص خاصة من النقطة العاشرة التي توهم القارئ الخالي الذهن بأن مرحلة الصراع الداخلي والتصفية الجسدية المذكورين من بين الأسباب التي اعتمد عليها السيد أحمد بن بلة لإصدار حكمه الآنف الذكر قد بدأت فعلاً وأن "أول ضحاياها هو المناضل القائد البطل مصطفى بن بو لعيد .. ولحق به المناضل الجسور والوطني المخلص يوسف زيغود قائد ولاية شمال قسنطينة الذي صاحبت ظروف وقوعه في كمين أعده الفرنسيون له بعد خروجه من مخبئه علامات استفهام تشير بإصبع الاتهام بالخيانة والغدر إلى مساعديه في القيادة إبراهيم مزهودي وعلى كافي" (¬1). إن هذين الخبرين لا أساس لهما من الصحة: أولاً لأن الشهيد مصطفى بن بولعيد لم يكن من المعارضين لقرارات مؤتمر وادي الصومام لسبب واضح وبسيط يتمثل في كونه استشهد قبل انعقاد المؤتمر بحوالي خمسة أشهر. أما يوسف زيغود فإن استشهاده كان في نهاية الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر في حين أن الذيب يذكر أنه تلقى الخبرين في نهاية الأسبوع الثاني من شهر سبتمبر سنة 1956. وبالإضافة إلى ذلك فإن السيدين على كافي وإبراهيم مزهودي كانا من أكثر القادة ارتباطاً بالشهيد، بل إن مزهودي، عندما وقع الاستشهاد، كان قد وصل إلى الحدود التونسية في إطار تنفيذ مقررات المؤتمر. وإن الرجوع إلى المصادر الحية واستنطاق الوثائق المتوفرة للباحثين يدلان، بما لامجال للشك فيه، على أن جل المعارضين لنتائج المؤتمر لم يفعلوا ذلك من منطلقات أيديولوجية لكنهم كانوا، فقط، مدفوعين بأغراض شخصية بعضها يتعلق بالجري وراء السلطة وبعضها الآخر ناتج عن الانحياز لأشخاص دون التمعن في الموضوع. ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص249.

هكذا نرى أن السيد بن بلة يجعل في مقدمة مأخذه على المؤتمر أنه لم يجمع سوى قادة الولايات الرابعة والثالثة والثانية مؤكداً أن باقي القادة قد تخلفوا عن الحضور وهم ممثلو وهران والأوراس وسوق أهراس والصحراء والخارج (¬1). إن هذا المأخذ مرفوض في أساسه لأن المنطقة الخامسة أي الغرب الجزائري كانت ممثلة في شخص قائدها الأول الشهيد العربي بن مهيدي الذي ترأس المؤتمر. أما المنطقة الأولى فإن عدم حضورها يرجع فقط لكون ضباطها السامين لم يتفقوا على تعيين خليفة الشهيد مصطفى بن بولعيد. وفيما يخص سوق أهراس والصحراء فإنهما لم تكونا من ضمن المناطق الخمس التي تأسست وانطلقت في الكفاح ليلة الفاتح من نوفمبر سنة 1954. ودائماً حسب السيد فتحي الديب (¬2)، فإن بن بلة يرفض نتائج مؤتمر وادي الصومام لأن السياسيين هم الذين سيطروا على أشغاله دون العسكريين الذين تنقصهم الخبرة في مجال المناورات من جهة، ولأن عبان اختار بالفعل الدكتور محمد الأمين دباغين لتمثيل الثورة الجزائرية بالقاهرة وللتحقيق مع أعضاء المندوبية حول تقصيرهم في أداء مهمتهم المتمثلة خاصة في تزويد الداخل بما يحتاج إليه من سلاح وذخيرة من جهة أخرى. إن هذين السببين مختلفان فقط وليس ثمة في الواقع ما يعمها، لأن عبان رمضان نفسه لم يكن محترفاً سياسياً بل كان، كغيره، مناضلاً يؤمن بضرورة انتهاج الكفاح المسلح استرجاع السيادة الوطنية، وقبل أن ينخرط في حزب الشعب الجزائري الذي تقلد في صفوفه مسؤوليات هامة، كان جندياً في الجيش الفرنسي على غرار بن بلة ذاته. أما الدكتور محمد الأمين دباغين، فإن أعضاء مندوبية الخارج هم الذين طالبوا بإرساله إلى القاهرة ليكون عليهم رئيساً (¬3). وليس ذلك بالشيء الغريب إذا ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص245. (¬2) نفس المصدر، ص247. (¬3) حدثني الدكتور دباغين نفسه عن الموضوع وتوقف طويلاً عند الكلام عن الرسائل التي كانت تأتي من القاهرة من نهاية عام 1953 والتي تسببت في إلقاء القبض عليه، لأن السلطات الفرنسية التي كانت تراقب المراسلات عرفت رغم استعمال الرموز أن الشخص المطلوب لقيادة المندوبية هو دباغين. ودعماً لهذا القول يذكر السيد فرحات عباس في "تشريح حزب" ص:180 أنه عندما وصل

علمنا أن النواة الأولى التي قررت الدخول في مرحلة الكفاح المسلح كانت قد لجأت إليه ليقود الثورة بعد أن رفض ذلك الشرف مصالي الحاج لأسباب ليس هذا محل التعرض إليها. فالدكتور، إذن، لم يعين من طرف عبان الذي اقتصر دوره على تبليغه رسائل المندوبية. وحتى عندما وصل مصر، فإنه رفض ممارسة المسؤولية المسندة إليه دون قرار رسمي يوافق عليه الجميع وقد صدر ذلك القرار بالفعل عن مؤتمر وادي الصومام، ويبدو أن بعضهم تقبل ذلك بكثير من التردد والحذر. ولقد كان هناك نوع آخر من التردد لكنه، هذه المرة، خاص بقرار أساسي اتخذه المؤتمر ويتعلق بفتح أبواب قيادة جبهة التحرير الوطني إلى عدد من السياسيين الذين لم يتكونوا في صفوف حزب الشعب الجزائري وما تفرع عنه من تنظيمات سرية أو علنية على حد سواء. إن هذا القرار قد أثار أثناء أشغال المؤتمر معارضة عدد من المسؤولين الذين وصفوه بالانحراف الذي يعرض الثورة إلى خطر الموت لأنه يقضي على وحدة التصور ووحدة التفكير الضروريين للاستمرارية الثورية، لكن مبدأ المركزية الديمقراطية حسم الموقف كما سبق أن أشرنا إلى ذلك. هكذا، إذن، يمكن القول أن نتائج مؤتمر وادي الصومام قد استقبلت، ظاهرياً، بارتياح كبير من طرف المسؤولين في جميع المستويات، لكنها، في الواقع تسببت في ميلاد صراع داخلي على السلطة كان يمكن أن يغذى وينتشر لو لم يحدث اختطاف الطائرة التي كانت تنقل القادة الأربعة من المغرب إلى تونس في اليوم الثاني والعشرين من شهر أكتوبر سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف. ولقد كانت لجنة التنسيق والتنفيذ تتوقع حدوث بعض التصدع في الصف، لأجل ذلك تقرر إيفاد السادة عمار بن عودة وعمار واعمران وإبراهيم مزهودي إلى تونس قصد شرح النتائج التي توصل إليها المؤتمر، وإيجاد الحلول اللازمة للمشاكل العديدة التي تعترض سبيل تزويد الداخل بالأسلحة والذخيرة. ومن الجدير بالذكر أن هؤلاء الأخوة لاقوا صعوبات كثيرة وهم يؤدون هذه المهمة الصعبة. ومن جملة الصعوبات التي اعترضت سبيلهم فإن السيد فتحي الديب قد أشار إلى تمرد ما يسمى بقيادة مناطق جيش التحرير الوطني الذين ¬

_ إلى القاهرة وذلك قبل انعقاد المؤتمر، كان الدكتور دباغين على رأس المندوبية وكان تنظيمه محكماً".

اجتمعوا "في مكان ما" (¬1) وقرروا عدم الاعتراف بقرارات مؤتمر وادي الصومام لأنهم لم يشاركوا في وضعها، وأجمعوا على ضرورة إبعاد موقدي المؤتمر باعتبار أن وجودهم في تونس يشكل مصدراً للقلاقل ويتسبب في تعطيل عملية التسليح (¬2). وعلى الرغم من أن السيد فتحي الديب قد نشر ضمن ملحقات كتابه وثيقة تحمل توقيعات عدد من مسؤولي جيش التحرير الوطني في أقصى شرق الجزائر لتدعيم زعمه وإعطائه نوعاً من المصداقية، إلا أن فحص الوثيقة المذكورة يبين بوضوح تام أن هناك خلطاً كبيراً في المصطلحات ترتب عليه ذلك الغموض الذي استند عليه الكاتب لإصدار حكمه. فمحضر الاجتماع المنعقد، فعلاً، بتاريخ الخامس عشر من شهر ديسمبر سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف يذكر أن الموقعين عليه قرروا، بادئ ذي بدء، عدم الاعتراف بقرارات وادي الصومام لكن المحضر لم يذكر أن الجهات التي يمثلونها لا يمكن أن تكون مناطق لأنها في مجملها تابعة لمنطقتين اثنتين هما: الشمال القسنطيني والأوراس. وعندما يرجع الدارس إلى شخصية الموقعين على الوثيقة، فإنه يتأكد من أنهم لم يكونوا مؤهلين لتقييم نتائج المؤتمر خارج هياكلهم النظامية، ولقد كان عليهم إبداء كل آرائهم في إطار اجتماعات الولاية (¬3) التي ينتمون إليها. أما خارج ذاك، فإنهم إنما يكونون قد شقوا عصى الطاعة ويطبق عليهم النظام الداخلي لجيش التحرير الوطني. وحينما يطرح الدارس كل هذه التعليقات النظرية جانباً، ويعود إلى ميدان، يجد، بكل موضوعية، أن مؤتمر وادي الصومام أثرى بالفعل أيديولوجية جبهة التحرير الوطني، وزود الثورة بالأدوات التي كانت تنقصها لمواصلة المسيرة ولتوفير أسباب استمرارية الكفاح المسلح والنضال السياسي من أجل استرجاع الاستقلال الوطني. ويتمثل الإثراء خاصة في إعطاء جبهة التحرير الوطني نفسها مفهوماً آخر إذا لم تبق ذلك التنظيم الذي يعمل على لم شمل نزعات سياسية مختلفة نتجت ¬

_ (¬1) عبد الناصر ثورة الجزائر، ص673. (¬2) نفس المصدر. ص: 674. (¬3) فالولاية هي التسمية الجديدة التي خصصها المؤتمر للمنطقة السابقة. وبذلك أصبحت الجزائر مقسمة إلى ست ولايات مقسمة إلى عدد من المناطق وكل منطقة إلى مجموعة من النواحي وكل ناحية ألى أقسام.

عن الأزمات الداخلية التي مر بها نجم شمال إفريقيا ومن بعده حزب الشعب الجزائري ثم حركة الانتصار للحريات الديمقراطية، وعن الصراعات التي وقعت بين المشرفين على الجناح السياسي والمسؤولين عن المنظمة الخاصة من جهة وبين دعاة الشرعية السياسية وأنصار الكفاح المسلح من جهة ثانية. بل تحولت إلى حركة مفتوحة أبوابها ليس فقط لمناضلين صهرتهم أيديولوجية واحدة ولكن لمواطنين وإطارات ومناضلين ظلوا حتى ذلك التاريخ متمسكين بأيديولوجية مختلفة وقرروا تجميد تمسكهم ذلك للالتحاق بالمسار الثوري دون أن يقدموا الدليل على أن التحاقهم نهائي وبدون رجعة (¬1). وإذا كان ذلك الالتحاق الذي سمح به مؤتمر وادي الصومام قد جاء نتيجة نوع من التنازل عن واحد من الشروط الأساسية الواردة في نداء الفاتح من نوفمبر، ويتمثل في إعلان الملتحق عن تخليه النهائي عن أيديولوجيته، فإنه، في واقع الأمر، قد حقق انتصاراً لجبهة التحرير الوطني التي استطاعت، تفضل ذلك، أن تضم إلى صفوفها عدداً كبيراً من الإطارات السياسية والثقافية التي ستؤدي دوراً لا يستهان به خلال ما تبقى من سنوات الكفاح المسلح، وقد كان من الممكن أن يكون انتصاراً أكبر، لو لم تتعرض البلاد إلى أزمة صائفة اثنين وستين تسعمائة وألف التي فتحت شهية المحترفين السياسيين على حساب المصلحة الوطنية. ومجرد انتهاء أشغال المؤتمر، رجعت لجنة التنسيق والتنفيذ إلى العاصمة وتوجه العقيد يوسف زيغود إلى الأوراس مكلفاً بالإشراف على عملية إنهاء الخلافات القائمة بين مختلف القيادات المحلية، وتعيين القائد الموحد الذي يكون أهلاً لخلافة الشهيد مصطفى بن بوالعيد، غير أن هذه المهمة الصعبة والنبيلة في ذات الوقت لم يكتب لها النجاح على يد قائد الولاية الثانية الذي استشهد قبل حتى أن يخرج من ولايته (¬2). إن هذه المهمة قد أسالت كثيراً من الحبر وحاول العديد من المؤرخين إعطائها تأويلاً غير الذي وجدت من أجله. فزيغود يوسف كان مشهوراً بقدرته على التنظيم وكانت له خبرة واسعة بالعمل العسكري بالإضافة إلى معرفته بإطارات الولاية الأولى الذين كانوا يكنون له كل الاحترام نظراً للعلاقات ¬

_ (¬1) أين طوبال (الخضر) "من أهداف مؤتمر وادي الصومام" محاضرة ألقاها في إطار النشاط الثقافي الذي نظمه اتحاد الكتاب الجزائريين بقاعة الكابري في العاصمة يوم 20/ 8/1982. (¬2) المنظمة الوطنية للمجاهدين، من شهداء ثورة التحرير، مطبعة جريدة الوحدة بدون تاريخ ص،50.

النضالية والودية التي كان يقيمها مع قائدهم بلا منازع الشهيد مصطفى بن بوالعيد. ومن الممكن أن زيغود كان ينجح في توحيد مختلف الفرق المتنازعة على السلطة في الأوراس، ولو تم ذلك لربحت الثورة وقتاً ثميناً واستفادت من طاقات وطنية ضاعت بلا سبب يذكر. وشكل استشهاد زيغود أول امتحان اجتازته القيادة العليا بنجاح حيث تم تعويضه بسرعة وبدون أي مشكل (¬1) واستمرت لجنة التنفيذ والتنسيق تواصل تطبيق الأيديولوجية التي صادق عليها المؤتمر. ففي المجال العسكري، تكيف جيش التحرير الوطني بسرعة فائقة مع التنظيم الجديد، وبدا يعمل طبقاً للقوانين المختلفة المشار إليها في محلها، وينطبق هذا القول حتى على المناطق التي أبدت تحفظها وعبرت عنه بممارسات وصلت إلى حد استعمال العنف. وكان لتمركز لجنة التنسيق والتنفيذ في عاصمة البلاد أثر بالغ الأهمية على معنويات القوات الجزائرية المقاتلة داخل المدن وفي الجبال والأرياف عامة. فوحدة القيادة وتواجدها في ميادين المعركة زاد المجاهدين حماساً، وقرب المواطنين أكثر من صفوف جبهة التحرير الوطني. ¬

_ (¬1) لقد كان يوسف زيغود من قدماء المنظمة الخاصة والمناضلين البارزين في حركة الانتصار للحريات الديمقراطية تولى قيادة المنظمة الثانية على إثر استشهاد مراد ديدوش يوم 18 ك2 سنة 1955. يعتبر واحداً من المنظرين العسكريين الأساسيين في ثورة نوفمبر التي أعطاها دفعاً كبيراً بفضل الهجوم الشامل الذي نظمه ابتداء من يوم 20 أغسطس سنة 1955 على مراكز العدو بكامل تراباً لشمال القسنطيني. بدأ الدعوة إلى عقد مؤتمر وطني للثورة الجزائرية منذ أول عهده بقيادة المنظمة الثانية واقترح أن تجري أشغاله في ناحيتها الغربية، ويذكر المقربون إليه أنه كان متشدداً في عملية اختيار القيادة العليا للثورة إذ رفض أن تفتح أبوابها للمتنشبعين بغير إيديولوجية الحركة الوطنية المتمثلة في النجم ومن بعده حزب الشعب ثم حركة الانتصار والمنظمة الخاصة. في أثناء مؤتمر وادي الصومام عين الشهيد يوسف زيغود عضواً بلجنة التنسيق والتنفيذ ثم كلف بالمهمة التي كان من المفروض أن تقودها إلى الولاية الأولى. وعلى أثر استشهاده تمَّ تعويضه للسيد سعد دحلب. وإذا كان بعض المؤرخين يهملون عن قصد أو غير قصد، تعيين العقيد يوسف زيغوت كعضو أساسي في لجنة التنسيق والتنفيذ، فإن الدارسين الجديين الذين أعطيت إمكانية الإطلاع على وثائق الثورة الجزائرية لا يترددون في إدراج اسمه ضمن التشكيلية الأولى. وعلى سبيل المثال يمكن الرجوع إلى كتاب السيد فيليب تريبيي Philippe Tripier " تشريح لحرب الجزائر" ص: 121. علماً بأن الكتاب صدر في باريس سنة 1972 ويشتمل على 680ص من القطع الكبير.

وبمجرد العودة إلى العاصمة، شرعت القيادة العليا في الإعداد لتطبيق قرار المؤتمر المتعلق بدعم العمل الفدائي وتعميمه حتى يتمكن سكان المدن من القيام بواجبهم الوطني في إطار الكفاح المسلح الذي أصبح حقيقة ملموسة في كافة أرياف البلاد. وتضاعف العمل الفدائي ابتداء من شهر سبتمبر سنة ست وخمسين من العمليات الجريئة التي استهدفت تفجير أشهر النوادي والمقاهي التي يرتادها الفرنسيون العسكريون والمدنيون على حد سواء (¬1). وخارج العاصمة يمكن الإشارة إلى ما اصطلح على تسميته بعملية "العصفور الأزرق (¬2) التي مكنت الثورة من الاستحواذ، دفعة واحدة على خمسين وثلاثمائة قطعة من أحسن أنواع السلع واستفادة من عدد ماثل من الجنود المناضلين الذين عملت القوات الاستعمارية على تدريبهم عسكرياً في ظرف قصير وملائم للغاية. وفي نفس الفترة، عرفت كبريات المدن، خاصة في الولايات الأولى والثانية والثالثة، نشاطاً فدائياً كبيراً بقصد تطهير صفوف الشعب من الخونة، ونشر جو الثقة في أوساط المواطنين الذين أرهقهم العنف الاستعماري الذي بلغ قمته في تطبيق ما يسمى بالمسؤولية الجماعية. هذا من جهة، ومن جهة ثانية كان العمل الفدائي يهدف إلى تفكيك شبكات العدو الاستعلامية، وضرب مصالحه الحيوية المتمثلة سواء في المحلات العمومية أو في المؤسسات الاقتصادية التي يستغلها غلاة الكولون. ومن حين لآخر، كان الفدائيون يوجهون رصاصهم ¬

_ (¬1) نشرت جريدة "لومند" الفرنسية في عددها الصادر بتاريخ 28/ 29 نوفمبر سنة 1971 مقالاً كتبته الآنسة جارمان تبون التي كانت عضواً بديوان جاك سوستيل سنتي 1955 - 1956 تعلق فيه على كتاب الجنرال ماسي: "معركة الجزائر الحقيقية" ومن جملة ما ورد في المقال أن السلطات الاستعمارية هي التي بدأت بتفجير الأهداف المدنية أقدمت يوم 10/ 8/1956 على تلغيم المبنى الكائن برقم 3 نهج طيبة انتقاماً من الشهيد عاشور الذي كان واحداً من قادة العمل الفدائي في العاصمة". (¬2) بدأت هذه العملية في شكل مؤامرة خطط لها السيد جاك سوستيل قصد اختراق صفوف جيش التحرير الوطني وتفجير الثورة من الداخل. تتمثل العملية في قيام المصالح الاستعمارية في العاصمة بالاتصال بأشخاص جزائريين يسكنون مدينة العزازقة الكائنة بولاية تيزيوزو حالياً، فعرضت عليهم تكوين أفواج من المسلحين الذين تسند إليهم مهمة تخريبية واسعة النطاق. لكن الأشخاص المعنيين اتصلوا بقيادة جبهة التحرير الوطني التي أمرتهم بقبول العرض. وشرع على الفور في تكوين الأفواج من المناضلين المخلصين. وبسرعة فائقة بلغ عددهم 350 دربهم الجيش الفرنسي وزودهم بأحدث أنواع الأسلحة. بعد ذلك جاءت الأوامر، فالتحقوا جميعاً بصفوف جيش التحرير الوطني.

وقنابلهم لضباط الأمن الفرنسيين وقادة الأقسام الإدارية المختصة (¬1) والقواد والآغوات والباشوات (¬2) الذين لم يستجيبوا لنداءات الثورة وتعليماتها الداعية إياهم إلى الاستقالة والانضمام إلى التنظيم المدني لجبهة التحرير الوطني. ولئن كان من الصعب، اليوم، تقديم إحصاء دقيق لكل العمليات الفدائية التي تم تنفيذها في الفترة الفاصلة ما بين مؤتمر وادي الصومام والدورة التي عقدها المجلس الوطني للثورة الجزائرية بالقاهرة ابتداءاً من يوم عشرين آب سنة سبع وخمسين وتسعمائة وألف (¬3)، فإن الرجوع إلى الجرائد الاستعمارية التي كانت تصدر في ذلك الوقت يمكننا من تقديم نظرة إجمالية عن الموضوع (¬4). ولقد حاولنا حصر عدد العمليات بالنسبة لمدينة قسنطينة وحدها، فوجدنا معدلها يزيد عن خمس في كل يوم بالنسبة للفترة المذكورة أعلاه. وإلى جانب تكثيف العمل الفدائي، قامت مختلف الولايات بإعادة هيكلة نفسها طبقاً لمقررات وادي الصومام وكما سبقت الإشارة إلى ذلك في الفصل الثاني. وبمجرد أن فرغت من تكوين اللجان النظامية وتنصيبها قصد تكليفها بالإشراف على شؤون المواطنين الإدارية والتعليمية ولأجل توعية الجماهير وإنقاذها من براثن العدو الذي بدأ يزرع "الأقسام الإدارية المختصة" (¬5) في ¬

_ (¬1) هذه المصالح من اختراع السيد جاك سوستيل الذي اعتبرها عنصراً أساسياً في مشروع الإصلاحات التي جاء بها معتقداً أنها كافية لخنق الثورة في المهد. ومن مهام المصالح الإدارية المختصة تسيير شؤون المواطنين والعمل على تقديم المعونة للمعوزين وتنظيم الحركة التعليمية في الأرياف خاصة، لكن المهمة الرئيسية لتلك المصالح تبقى هي الاستعلامات وتوظيفها لدعم العمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش الاستعماري. ولقد أسند تسيير المصالح الإدارية المختصة إلى ضباط من الجيش متعلمين يشاركون إجبارياً في مهمات خاصة. (¬2) لأن عدداً كبيراً منهم قد أدركه الوعي بسرعة وأبدى استعداداً للنشاط في صفوف جبهة التحرير الوطني. (¬3) انظر الملحق رقم 10. (¬4) انظر جريدتي لا دباش قسنطينة (la depêches de contantine ler trimestre 1957) وصدى الجزائر نفس الفترة. (¬5) كان جاك سوستيل الذي عين والياً عاماً للجزائر من طرف الرئيس مانديس فرانس بتاريخ 25/ 1/1955، يعتقد أن الإصلاح في المجالات الإدارية والاقتصادية والاجتماعية وحده كاف لجعل الجزائريين ينفضون من حول جبهة التحرير الوطني، ولذلك وضع مخططاً شاملاً يسمى باسمه ضمنه فتح أبواب التوظيف للأهالي وإفادة الفلاحين الجزائريين من القروض على غرار الفلاحين الأوربيين ومحاولة التفاوض مع جهات مختلفة تمثل تشكيلات سياسية متعددة كان يظن أنها تستطيع وقف إطلاق النار، ولكن الأهم من كل ذلك هو إنشاء ما يسمى بالمصالح الإدارية المختصة التي أراد أن يجعل منها همزة وصل السلطتين المدنية والعسكرية، أسند لها مهمة الإشراف على شؤون

المناطق الريفية و"المصالح الإدارية العمرانية" (¬1) في المدن. ولقد كان المؤتمرون الذين قرروا تأسيس المجالس الشعبية يعلمون علم اليقين أن التنظيم الشعبي هو القاعدة الأساسية التي يرتكز عليها العمل الفدائي، ويتوقف عليها نجاح العمليات العسكرية ذلك أن المجالس هي التي تتولى تحسيس الجماهير بأهمية الكفاح المسلح وبضرورة الإسهام فيه مباشرة أو بطريقة غير مباشرة (¬2). فالفدائيون والمجاهدون يمكن تجنيدهم بكل سهولة، لكن وجودهم حتى بأعداد كثيرة لا يكون له معنى إلا إذا وجدت القاعدة التي تراقب العدو وتجمع أخباره والتي تحضر المؤن وتعد مراكز الراحة والانطلاق والتي تشرف على جمع الاشتراكات والتبرعات وشراء ما يحتاج إليه الجيش من معدات ومستلزمات مختلفة. وإن عودة سريعة إلى ذلك الوقت، وبالذات طريقة تأسيس المجالس الشعبية، تكفي للتدليل على أن الثورة كانت تتبع الأسلوب الديمقراطي لتعيين المسؤولين عن تلك المجالس. فالمسؤولون على المستوى الأعلى كانوا يستشيرون أكبر عدد ممكن من أبناء القرية قبل اختيار رئيس المجلس والأعضاء الأربعة الذين يساعدونه. وعندما تكون الظروف الأمنية مواتية، فإن السكان الراشدين هم الذين يدعون للانتخاب بكل حرية. وعلى الرغم من أن وثيقة وادي الصومام لم تتعرض بالتفصيل للمجالس الشعبية، فإن المشروع على مستوى الولاية، قد وضع نوعاً من القانون الداخلي الذي حددت بمقتضاه مهام كل واحد من الأعضاء المكونين للمجلس. فالرئيس مسؤول عن التنسيق ومكلف بتنفيذ التعليمات والتوجيهات وبتنشيط الهياكل النظامية ومراقبتها، وكذلك السهر على تطبيق القرارات التي يتخذها ¬

_ الجزائريين خاصة في القرى والأرياف، ومسؤولية استعمال كل الوسائل من أجل ربح ثقة المواطنين والأهالي وجعلهم يقبلون التعاون مع الجيش الاستعماري ضد جبهة التحرير الوطني. قاد كل واحد من هذه المصالح ضابط برتبة ملازم أم نقيب يختار من بين المثقفين الضالعين في علم النفس. وعندما يكون غير عارف باللغة العربية واللهجات المحلية بعين له مترجم. ولقد قامت هذه المصالح بتأدية دور خطير، وفي كثير من الأحيان شكلت تهديداً جدياً على حسن سير الثورة. ومن الجدير بالذكر أن آثار النشاط التخريبي الذي أنجزته تلك المصالح ما تزال قائمة إلى أيامنا هذه وتتجلى خاصة في مظاهر الاستلاب ومناهضة الثورة. (¬1) تقوم هذه المصالح في المدن بنفس الدور المناط بالمصالح الإدارية المختصة، ولكن أعمالها ظلت محدودة نظراً لنوعية السكان الذين تتعامل معهم. (¬2) نعني بالطريقة غير مباشرة، هنا، ما يعبر عنه بأضعف الإيمان وهو التعاطف مع الثورة مع فقدان الشجاعة الضرورية لدخول الميدان.

المجلس نفسه، وبالإضافة إلى ذلك، فإنه يرأس الاجتماعات ويراقب أعمال الشرطة. أما مسؤول المال فيستقبل كل المدخولات التي يضع بشأنها تقريراً شهرياً. ويتولى تسديد نفقات الهياكل النظامية وصرف المنح لعائلات الشهداء والمجاهدين. وبينما يقوم مسؤول الدعاية والأخبار بتنظيم مراكز البريد وجمع المعلومات وتبليغها في شكل تقارير منتظمة إلى القيادة، فإن مسؤول الأمن يشرف مباشرة على رجال الشرطة ويحدد الأماكن الملائمة لتمركز الجيش، كما أنه يضبط المسالك والطرقات التي يتبعها الأفراد والجماعات والقوافل. وأما مسؤول التموين فتنحصر مهمته في الجمع والتخزين والتوزيع، ولديه يجد المسؤولون الجرد الشامل لممتلكات الثورة من الحبوب والمواد الغذائية والثروة الحيوانية. وتعتمد المجالس الشعبية في تأدية مهامها على مسؤولي المشاتي (¬1) والمداشر (¬2) الذين تسند إليهم صلاحيات واسعة في ميادين التنظيم والمراقبة وإعداد المأوى والمأكل وتسجيل الحالة المدنية وغيرها من الأعمال الضرورية لضمان التسيير الحسن وإبقاء الجماهير الشعبية في حالة اليقظة الدائمة والاستعداد المستمر. ومع مر الأيام فإن الإشراف على شؤون المواطنين والعمل على تنظيم حياتهم في جميع مجالاتها قد أدى بقيادات الثورة إلى اصطدام بالواقع المعيشي الذي تراكمت مساوئه بفعل الوجود الاستعماري الذي كان يهدف بالدرجة الأولى إلى زرع الشقاق في أوساط الجماهير وإغراقها في بحور المشاكل الزائفة التي تنغص حياة المواطن وتمنعه من الاهتمام بالقضايا الحقيقية والتي هي قضايا التحرير والتحرر والرقي والتقدم. ومع اندلاع الثورة، وحدت الجماهير الشعبية نفسها في مواجهة وضع جديد يعنيها مباشرة ويمس جميع الميادين الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية. وإذا كان هذا الوضع الجديد قد أحدث تغييراً ¬

_ (¬1) المشتى هي مجموعة من الديار المبنية بناءاً خفيفاً حتى تكون قابلة للتعدين بسهولة. ويبدو أن الاسم مأخوذ من الشتاء لأن هذا الفصل يلزم الناس بالبقاء في مكان واحد على خلاف الفصول الأخرى التي يتميز كل منها بنشاط خاص يتطلب كثيراً من الحركة والتنقل. ومن الجدير بالذكر أن التسمية أصبحت متداولة وهي مستعملة في اللغة الفرنسية. ومما زادها شهرة ارتباطها بإنسان كرومانيون الذي اكتشفت آثاره سنة 1912 بمشتى العربي الكائنة على مقربة من مدينة قسنطينة. ومن الجدير بالذكر أن نظام المشاتي هذا خاص بشمال إفريقيا. (¬2) جمع دشرة وهي مجموعة من المنازل المبنية بالطوب أو بالحجر على خلاف منازل المشتى التي هي في أغلبها من الديس وأغصان الشجر التي تُغطى بالطين وأحياناً ببراز البقر. وتبنى المداشر عادة حول المزارع الكبرى ومنابع المياه.

جذرياً يعمل جاهداً، على إبقائها لأنها تضمن ديمومة تبعية أغلبية الشعب الجزائري وقبولها السيطرة الاستعمارية باعتبارها الحتمية التي لا مرد لها سوى القدرة الإلهية، فإن العلاقات الإنسانية الجديدة التي أوجدها والمسؤوليات المختلفة التي صاحبته منذ ظهوره ثم راحت تكبر وتتسع وترسخه وتطوره، كل ذلك قد دفع قيادة الثورة إلى أن تدرج مسألة تنظيم القضاء ضمن الأولويات التي تحظى بالعناية الكبرى. ولأجل ذلك، فإن الثورة التي كانت تهدف، قبل كل شيء، إلى تحرير الإنسان (¬1) قد عملت، منذ الساعات الأولى، على إنشاء لجان للصلح أو كانت لها مهمة البث في القضايا العالقة بين الناس، وحل المشاكل التي من شأنها أن تعرقل عملية بناء المجتمع الجديد المزمع بناؤه بعد تقويض أركان الاستعمار. وعلى إثر أشغال مؤتمر وادي الصومام، استبدلت لجان الصلح بلجان العدل التي أصبح من صلاحياتها النظر في كل المنازعات الشخصية والمدنية والجزئية المنشورة بين الأطراف الجزائرية أمام العدالة الاستعمارية التي لم تخف اندهاشها الكبير أمام الإحجام المفاجئ للمتخاصمين (¬2). وعلى الرغم من أن وثيقة وادي الصومام قد أهملت التركيز على البعد الإسلامي لثورة نوفمبر، فإن قيادات الولايات قد حرصت كل الحرص على أن تكون الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي لكل الأحكام التي تصدر باسم الشعب الجزائري. (¬3) وعندما كانت لجنة العدل تسند إلى مناضل أمي، فإنه يلجأ إلى المتفقهين في الدين يستشيرهم قبل الفصل في القضايا المنشورة أمامه. أما عن الاختصاص المحلي، فإن لكل واحدة من هيئات الثورة لجنتها للعدل التي تنظر في قضايا المواطنين التابعين لها. وتتشكل كل لجنة من رئيس ¬

_ (¬1) لقد أشرنا في مناسبات عديدة وفي كتابنا "الغزو الثقافي في الجزائر من 1962 إلى 1982" إلى أن تحرير الإنسان مرتبط أشد الارتباط بتحرير الأرض، وإن تحرير الإثنين يشكل حجر الزاوية بالنسبة لأيديولوجية الثورة الجزائرية. (¬2) انظر سجلات كتابات الضبط لدى مختلف محاكم الصلح للتأكد من أن الجزائريين استجابوا استجابة مطلقة لأوامر جبهة التحرير الوطني المتعلقة بمقاطعة القضاء الفرنسي ونشر قضاياهم أمام لجان العدل. (¬3) من الجدير بالذكر أن أحكام لجان العدل لا تقبل الإستئناف. ومع ذلك فإن تقصيات قمنا بها عبر عدد من نواحي البلاد قد أثبتت لنا أن المتخاصمين على كثرتهم لم يطعنوا في تلك الأحكام، بل أن الذين اتصلنا بهم لم يخفوا رضاهم سواء كان الحكم لهم أو عليهم.

وأربعة أعضاء يشترك جميعهم في دراسة الموضوع المعروض عليهم وفي المداولة حوله، وعندما يتعذر الإجماع يلجأ إلى بعض الشخصيات التي لها إلمام بالقضية فيطلب رأيها على سبيل الاستشارة والتوضيحات الإضافية. وإذا كان الأمر يتعلق بجريمة أو بقضية أحد أطرافها من مناضلي جبهة التحرير الوطني أو أعضاء جيش التحرير الوطني، فإن لجنة العدل تتخلى عن الموضوع (¬1) وتحوله إلى هيئات قضائية أخرى تسمى المحكمة الثورية. وفي جميع الحالات، فإن تنفيذ الأحكام يخضع لإجراءات مضبوطة ضمن القانون الداخلي لجيش التحرير الوطني. وبالموازاة مع العمل على تنظيم القواعد الشعبية ووضع أسس النظام القضائي، كانت قيادات الثورة في مستوى الولايات تولي أهمية خاصة بإقامة المنشآت الصحية عبر مختلف أنحاء الوطن وتبذل جهوداً جبارة لتقديم أدنى ما يمكن من التعليم لأبناء الريف الجزائري ولتنظيم حملات محو الأمية بالنسبة للكبار. أما في مجال الصحة، فإنها لم تكتف بإعداد مراكز الاستشفاء (المستشفيات) والتخطيط لمواقعها حتى تكون قادرة على تلبية حاجات جيش التحرير الوطني والمواطنين المقيمين بالمناطق المحررة على وجه الخصوص (¬2) بل إنها زودت المراكز المذكورة بقانون داخلي موحد يحدد شروط القبول فيها ويضبط المقاييس التي يجب أن تتوفر في هيأة المشرفين عليها من أطباء وممرضين وكيفية جلب الأدوية اللازمة وما ينبغي القيام به لضمان أمنها في جميع الحالات. ولقد أدت مراكز الاستشفاء دوراً كبيراً، وليس في معالجة المرضى والجرحى فحسب ولكن كذلك في تكوين الممرضات والممرضين الذين كانوا ¬

_ (¬1) يستخلص من ذلك النظام الداخلي أن الأحكام تنفذ من طرف الهيأة العليا مباشرة باستثناء الحكم بالإعدام الذي لا بد من الرجوع فيه إلى محكمة الولاية. (¬2) في الحقيقة أن مراكز الاستشفاء كانت مفتوحة لجميع المواطنين الذين كانوا يجدون فيها حسن الاستقبال والمعاملة، وكانت تقدم لهم علاجاً أَفضل من ذلك الذي يخصص لأمثالهم في مستشفيات العدو، ويبدو أن هذا الأخير كان يقدر ذلك، وعليه فإنه أمر المصالح الإدارية المختصة التي سبقت الإشارة إليها بالتركيز على جانب المداواة لربح ثقة الجماهير الشعبية في الأرياف.

يختارون من بين الشباب المتعلم قليلاً (¬1)، وعلى الرغم من قلة الأدوية والعتاد الطبي، نظراً للمراقبة الشديدة التي تفرضها سلطات الاستعمار على الصيدليات والمستشفيات التي تشغل جزائريين، فإن المراكز الصحية التابعة لجيش التحرير الوطني كانت تستقبل، للمداواة العاجلة والضرورية، أعداداً كبيرة من المواطنين العاديين. وأما في ميدان التعليم، فإن جيش التحرير الوطني قد نظم بنجاح حملات واسعة النطاق لمحو الأمية في صفوفه (¬2) قبل أن يشرع في تأسيس المدارس اللازمة لتعليم أبناء الريف، وتمكينهم من الدخول إلى عالم القراءة والكتابة. وكلما كانت الفرصة مواتية كان الأطفال، في سن المراهقة خاصة، يهجرون إلى الحدود الشرقية والغربية حيث الدراسة منتظمة تحت إشراف جبهة التحرير الوطني (¬3). وإلى جانب كل هذه الأعمال الموجهة إلى تغيير صورة المجتمع الجزائري تغييراً جذرياً، وإلى إرساء قواعد الكفاح المسلح وتزويده بالأرضية الصلبة التي تضمن له النجاح، فإن النشاط العسكري والسياسي قد تضاعف بكيفية لم يعد الاستعمار قادراً على إخفاء نتائجها سواء في داخل الوطن أو في خارجه. فبالنسبة إلى الخارج، استطاعت جبهة التحرير الوطني أن تفرض القضية الجزائرية على الساحة الدولية، خاصة بعد أن احتضنها مؤتمر باندونغ (¬4) وتعهد السيد شوان لاي بوقوف الصين إلى جانبها حتى يتحقق لها النصر. وفيما يتعلق بالداخل، فإن جيش التحرير الوطني قد ارتفعت أعداده من حوالي 400 مناضل مسلح ليلة الفاتح من نوفمبر إلى حوالي 23000 مجاهد ما بين مسبل وجندي غداة مؤتمر وادي الصومام. ¬

_ (¬1) أن عدداً كبيراً من الممرضين خاصة قد اجتازوا الحدود الشرقية والغربية، وبعد أن علموا في المستشفيات التونسية والمغربية أرسلوا إلى بلدان المعسكر الاشتراكي حيث تعلموا لغاتها والتحقوا بمعاهد الطب هناك وتمكنوا بفضل إرادتهم القوية من التخصص في مختلف فنون الطب. (¬2) يجب الأخذ في الاعتبار كون أعضاء جيش التحرير كانوا من أبناء الريف حيث كانت الأمية تزيد عن 95 ولقد استطاعت حملات محو الأمية المتتالية أن تحقق الأهداف المحددة لها، إذ نقصت هذه النسبة إلى أقل من 10% عند وقف إطلاق النار. 1962. (¬3) تجدر الإشارة إلى أن أغلبية تلاميذ تلك المدارس قد أرسلوا إلى مختلف أقطار الوطن العربي، وبلدان المعسكر الاشتراكي فأتموا دراستهم، وبعد وقف إطلاق النار عادوا ............ (¬4) المجاهد، العدد الخاص، ص69.

كما أن الأسلحة التي كان أغلبها من بنادق الصيد وبقايا الحرب الإمبريالية الثانية، قد أصبحت تتضمن أكثر من ثلاثة آلاف قطعة حربية وأكثر من عشرة آلاف بندقية صيد. وصارت ميزانية الثورة قريبة من مليار فرنك قديم بينما كانت عشية نوفمبر لا تكاد تذكر. وعلى الرغم من أن الثورة قد تلقت ضربتين قاسيتين في شهر أكتوبر سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف، تتمثل الأولى في تمكن الجيش الاستعماري من الاستيلاء على الباخرة "أتوس س (¬1) المقلة لحوالي مائة طن من الأسلحة والذخيرة الحربية كانت في طريقها إلى منطقة الناظور الغربية، وتتعلق الثانية بإجبار طائرة الخطوط الملكية المغربية على النزول بمطار الجزائر وعلى متنها أربعة من أعضاء القيادة التساعية التي تحملت مسؤولية تفجير الثورة، فإن العدو قد تزعزع من أعماقه نتيجة التغيير الكمي والنوعي الذي أدخل على طرائق القتال في مدينة الجزائر وضواحيها وفي سائر كبريات مدن البلاد وقراها. وقد عبرت القيادة المدنية الفرنسية عن عجزها في مواجهة نشاط جبهة التحرير الوطني في المجالين السياسي والعسكري عندما أقدم السيد روبير لاكوست في اليوم السابع من شهر ك2 سنة سبع وخمسين وتسعمائة وألف على استدعاء الجنرال صالان وماسي وأسند لهما مهمة "إعادة الأمن والاستقرار إلى العاصمة" (¬2). وواجهت قيادة جبهة التحرير الوطني في العاصمة دخول المظليين بقوة إلى المعركة بتنظيم عدد كبير من العمليات الفدائية وبإضراب شامل انطلق في نهاية الأسبوع الرابع من نفس الشهر (¬3). ¬

_ (¬1) كانت الباخرة لصاحبها البريطاني سان بريلفز وقد اشتراها السيد أحمد بن بله باسم إبراهيم النيال السوداني الجنسية يوم 21/ 7/1956، وأبحرت من الإسكندرية ليلة الرابع من شهر أكتوبر محملة بأنواع كثيرة من الأسلحة والذخيرة إلا أنها احتجزت من طرف البحرية الاستعمارية يوم 16 من نفس الشهر. لكن السيد عباس في كتابه "تشريح الثورة ص:184، يرى أن مسؤول فرع شمال إفريقيا بالمخابرات المصرية: السيد فتحي الديب هو الذي سلم الباخرة إلى الفرنسيين عن طريق سفارة فرنسا بالقاهرة. (¬2) هؤلاء القادة هم: أحمد بن بله، محمد خيضر، محمد بوضياف وحسين آيت أحمد، أما عملية القرصنة فقد تمت بموافقة السيد ماكس لوجين Max Lejeunne نائب كاتب الدولة للدفاع الوطني الفرنسي. (¬3) عندما أمر بالإضراب العام، قال الشهيد ابن المهيدي: "أن نجاحه سيبين بما لا يدع أي مجال للشك أن الشعب الجزائري يساند جبهة التحرير الوطني ممثله الشرعي والوحيد، وسيعطي حجة للمندوبين الجزائريين في الأمم المتحدة لإقناع الديبلوماسيات المترددة، من لقاء أجريته مع رئيس ابن يوسف بن خدة في بيته يوم 16/ 6/1986، وكان ذلك بحضور السيد محمد الصالح بوسلامة.

إن مختلف المصادر التي بين أيدينا اليوم تركز على العمل الفدائي الذي عرفته العاصمة ولا تعير إلا اهتماماً متواضعاً للعمليات التي أنجزها الفدائي في باقي مدن الجزائر وقراها وذلك على الرغم من أن تلك العمليات كانت في كثير من الأحيان تكاد تكون خيالية. فالإعلام العالمي، عندما لا يكون منحازاً، فإنه يستقي معلوماته من وسائل الإعلام الفرنسي وهذه الأخيرة موجهة للتقليل من أهمية التزايد الذي عرفه الكفاح المسلح مباشرة بعد مؤتمر الصومام ولتعميم الواقع الذي من شأنه أن يظهر للرأي العام العالمي أن قيادات الثورة تبذل جهوداً مكثفة لتطبيق مقررات المؤتمر المذكور. أما الأجهزة الإعلامية التي كانت في حوزة الثورة، فإنها، رغم كل المحاولات، لم ترق إلى المستوى الذي يجعلها قادرة على الاستجابة للحاجة، وحتى الإعلام العربي الذي كان متعاطفاً مع الثورة بالضرورة، فإنه لم يكن من حيث الإمكانيات المادية والتقنية، قادراً على تأدية الدور الذي يسمح بتقديم العمل الثوري في صورته الحقيقية التي يعمل العدو على إخفائها بكل ما أوتي من قوة (¬1). وسيظل إضراب الأسبوع، كما اصطلح على تسميته، مادة غزيرة للمؤرخين السياسيين وللمسؤولين الجزائريين الذين عايشوا الحدث أو شاركوا في الإعداد له من قريب أو من بعيد. أما الشهيد العربي بن المهيدي وأنصاره فموقفهم لا غبار عليه. فالإضراب، بالنسبة إليهم، امتحان عسير مطلوب منه تحقيق نتيجتين إيجابيتين مقابل تضحيات جسام لا يمكن تقييمها مسبقاً. فالنتيجة الأولى تتكتل في توسيع الهوة بين جماهير الشعب الجزائري، وقوى الاحتلال الفرنسي وفي هز النفوس المترددة والمتشككة وجعلها تقتنع بأن التضامن الوطني هو الضمان الوحيد لتوفير الشروط اللازمة للقضاء على النظام الاستعماري واسترجاع السيادة الوطنية، وتكمن النتيجة الثانية في تنبيه الرأي العام العالمي إلى أن شعار الجزائر الفرنسية خرافة لم يعد لها وجود بفعل إجماع الجزائريين على طاعة أوامر جبهة التحرير الوطني. ¬

_ (¬1) ولسد هذا في تاريخ ثورة فإن منظمة المجاهدين تقيم دورياً سنوات ندوات جبهوية وأخرى وطنية، تحاول، من خلالها، إقامة جرد واف بقدر الإمكان لمختلف العمليات العسكرية والفدائية دون إهمال جانب التنظيم السياسي والاجتماعي والثقافي والقضائي للثورة. غير أن هذا الجهد، رغم ضخامته ورغم قيمته العلمية، سيظل ضائعاً ما لم تتحد الأقلام المختصة الى تحويله إلى تاريخ ما أحوج الأجيال الصاعدة إليه.

ويرى كبار العسكريين الفرنسيين أن تنظيم الإضراب وتمديده لمدة أسبوع كان خطأ ارتكبته لجنة التنسيق التنفيذية، إذ أن إغلاق المحلات التجارية وبقاء السكان في منازلهم سهل على المصالح الاستعمارية المختصة مهمتها فيما يتعلق بمراقبة تحركات المشبوهين، أعطاها فرصة التدخل السريع للمطاردة ولتطويق الأماكن التي تمركزت فيها القيادات السياسية واللجان الشعبية ومجموعات الفدائيين. ويلح بعض المسؤولين ممن لم يكونوا محبذين للإضراب على أن نظرتهم كانت الصائبة، لأن الكلفة، في حسابهم، كانت أكثر بكثير من الأهداف التي تحققت ومهما اختلفت وجهات النظر وتعددت الأحكام، فإننا نرى *فيما يخصنا، وانطلاقاً من تحليلنا لكل المعطيات والنتائج، أن إضراب الأسبوع كان شبيهاً في أكثر من قطعة بانتفاضة الشمال القسنطيني التي وقعت في اليوم العشرين من شهر آب سنة خمس وخمسين وتسعمائة وألف، ومن ثم وعلى غرار العشرين أوت فهو عملية ناجحة رغم كل ما ترتب عنها من نتائج سلبية ورغم كل ما كلفته من أثمان باهظة في جميع الميادين. لكن الاعتراف بالنجاح لا يمنع أبداً من القول: "إن الإضراب هو الذي أدى إلى استشهاد العربي بن المهيدي وإلى خروج لجنة التنسيق والتنفيذ من التراب الوطني وبذلك وضعت نفسها أمام امتحان عسير يتعلق بممارسة مبدأ أولوية الداخل على الخارج خاصة. لقد كانت قيادة مؤتمر وادي الصومام، عندما أبرزت المبدأ المذكور، تهدف إلى استعماله قصد إبعاد مندوبية الخارج عن السلطة وجعلها مجرد مصلحة من جملة مصالح أخرى كثيرة وذلك على الرغم من أن المبدأ في حد ذاته مصيب لأن القيادة الحقيقية للثورة إنما هي تلك التي تكون على اتصال دائم بالقوات المقاتلة، ومن الصعب جداً أن تخضع إلى خارج الولايات، تقود كفاحاً يحتاج إلى أوامر يومية تتوقف نجاعتها على مدى معرفة الميدان معطياته. لكن عبان رمضان الذي لم يكن يخفي عليه ذلك أراد توظيف المنطق والفعالية لتحقيق شيء في نفسه يمكن أن نسميه اليوم حب المسؤولية أو حسابات الماضي. فالشهيد العربي بن المهيدي، من بين أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ، هو الوحيد الذي ظل وفياً للمبادئ التي صادق عليها المؤتمر عندما رفض الخروج وصرح في آخر اجتماع عقدته اللجنة بتاريخ 15/ 2/1957 أنه "يفضل الموت

الدورة الأولى للمجلس الوطني للثورة الجزائرية

في ساحة المعركة (¬1) حتى يكون وقوداً جيداً وكافياً لثورة لن تتوقف حتى تسترجع الجزائر سيادتها. أما في الخارج، ومن غياهب السجن، فإن السيدين، بن بلة وبوضياف قد عبرا عن تضامنهما مع ابن المهيدي الذي أُلقي عليه القبض يوم 23 فيفري وأعدم في ظروف أحاط بها كثير من الغموض (¬2). ويعتبر خروج لجنة التنسيق والتنفيذ تجسيداً للهزيمة التي منيت بها جبهة التحرير الوطني في مدينة العاصمة وذلك على الرغم من كل العمليات العسكرية التي نفذت خلال الأشهر الستة جاءت بعد انعقاد مؤتمر وادي الصومام. وبمجرد الالتحاق بالعاصمة التونسية اجتمعت لجنة التنسيق والتنفيذ لتقييم المرحلة المقطوعة، لكن السيد بلقاسم كريم الذي كان من المقررين الأساسيين في وادي الصومام أبدى رغبة ملحة في التخلي عن المبادئ الرئيسية، وراح يلوح بضرورة إسناد القيادة للمسؤولين التاريخيين علماً بأنه الوحيد، من بينهم الذي ظل طليقاً وعلى قيد الحياة (¬3)، كما أنه رفع شعار التصالح مع رفاق الدرب المعتقلين لسد الطريق أمام المركزيين المعتدلين ولتمكين العسكريين من شغل مناصب الحل والربط في أجهزة الثورة. وإذا كان السيدان دحلب وابن خدة لم يظهرا معارضتهما للأفكار الجديدة التي جاء بها السيد كريم بلقاسم، فإن عبان رمضان قد بذل كل ما في وسعه للتصدي لها، لكن الظروف تغيرت، فلم يعد هو الآمر الناهي، ولم يعد كريم هو ذلك المنبهر أمام شخصيته الفذة، وتبين أن حساباته التي جعلته يختار ابن خدة ودحلب لعضوية اللجنة كانت خاطئة. كل ذلك سوف يكون له بالغ الأثر على مسيرة الثورة وسوف يكون عبان أول من يدفع ثمن سوء التقدير. الدورة الأولى للمجلس الوطني للثورة الجزائرية: رغم كل الخلافات التي بدأت تلوح في الآفاق، فإن أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ قد أنهوا اجتماعهم المشار إليه أعلاه بالتصديق على ورقة عمل تضمنت ¬

_ (¬1) من شهداء التحرير، ص71 وكذلك المجاهد، العدد 9 الصادر بتاريخ 20/ 8/1957. (¬2) لكن الأكيد هو أنه عذب تعذيباً لم يعرفه أحد ثم أعدم شنقاً. ولقد أورد الكتّاب والمؤرخون روايات متعددة حول الموضوع. (¬3) حربي محمد جبهة التحرير الوطني، ص 215.

تقييماً مفصلاً وموضوعياً للمراحل التي قطعتها الثورة، ومجموعة من الاقتراحات العلمية التي من شأنها أن تكون أساساً لبرنامج العمل المستقبلي الذي سوف يصدر عن الهيئة العليا للثورة في دورتها االرسمية الأولى التي تقرر، بعد استشارات واسعة، عقدها بمدينة القاهرة في الفترة من 20 إلى 27 أوت سنة سبع وخمسين وتسعمئة وألف (¬1). ولقد كانت الدورة، بالفعل منعرجاً خطيراً في تاريخ ثورة نوفمبر، وكان من الممكن أن يتحول اللقاء إلى مأساة دموية، لكن الروح الوطنية تغلبت في النهاية، وتوصل المشاركون إلى مجموعة من الحلول الوسطى التي ساعدت على تجاوز الحساسيات الشخصية وأوجدت السبيل لتواصل الكفاح المسلح مع الحفاظ على مظهر القيادة ووحدة التوجه رغم كل ما وقع من مشادات ونزاعات واختلافات تجاوزت حد اللياقة في كثير من الأحيان. ¬

_ (¬1) نظراً إلى أن المورخين والصحافيين، في ذلك الوقت لم يولوا اهتماماً كبيراً بتلك الدورة التي عقدها المجلس الوطني للثورة الجزائرية ونظراً إلى أن أعضاء المجلس المذكور لم يهتموا، في الستينات أو حتى في السبعينات بكتابة مذكراتهم، فإن الاختلافات قد جاءت فيما يتعلق بتاريخ بدء الأشغال وكذلك المدة التي استغرقتها. وعلى سبيل المثال: - يذكر السيد فيليب تريبي في كتابه: تشريح لحرب الجزائر الصفحة 198 أن المجلس الوطني للثورة الجزائرية اجتمع بالقاهرة في دورة سرية يوم 23 أوت سنة 1957. - أما السيد إدوارد باهر الصحافي الإنكليزي الذي صدر كتابه: "مأساة الجزائر" سنة 1961، فإنه تحاشى تقديم تاريخ محدد واكتفى في الصفحى 127 بالقول أن الدورة انعقدت في سنة 1957. - وأما السيد جاك ديمشان "تاريخ جبهة التحرير الوطني" الذي صدر في بارس سنة 1962، فإنه ذكر في الصفحة 265 من كتابه "إن الدورة انعقدت في شهر أوت" وبعد ذلك بفقرتين أشار إلى أنها يوم اختتمت يوم 27 من نفس الشهر. - ويذكر السيد فتحي الديب في كتابه: "عبد الناصر وثورة الجزائر" الصفحة 355، "المؤتمر انعقد في أول سبتمبر سنة 1957. أما نحن فإننا استقينا معلوماتنا مباشرة من السيدين عبد الحفيظ بو الصوف والأخضر بن طوبال وقد وجدنا تأييداً لهذه المعلومات في بعض الكتب التي عالجت تاريخ الكفاح المسلح في الجزائر وفي مقدمتها: "حرب الجزائر لصاحبه العقيد يبارلو كويي Pierre le Goyet رئيس مصلحة الأرشيف المعاصر لدى رئاسة الحكومة الفرنسية إلى غاية عام 1957 وهو عضو لجنة تاريخ الحرب العالمية الثانية ولجنة التاريخ العسكري المقارن. أما السيد فرحات عباس لا يذكر تاريخ ابتداء الأشغال لكنه يؤكد في كتابه "تشريح الحرب ص210 أنه كان في بيونس آرس عندما استدعيَّ إلى القاهرة 17 آوت، وفي الصفحة 212 يضيف قائلاً: "وفي يوم 24 أوت، وبعد اجتماعات عديدة مع العقداء، وافقنا على أن نكون أعضاء بلجنة التنسيق والتنفيذ التي أصبحت يوم 28 من نفس الشهر، أي غداة اختتام المؤتمر مكونة كالآتي: العقيد كريم، العقيد واعمران، العقيد محمد شريف، العقيد بو الصوف، العقيد ابن طوبال، عبان، دباغين، مهري وعباس ونسي المؤلف أن يضيف أسماء المعتقلين وهم: أحمد بن بلة، محمد خيضر، حسين آيت أحمد، محمد بوضياف ورابح بيطاط.

وإذا كان المجلس الوطني قد اختار بعد نقاش عدم تأييد السيد كريم بالنسبة لطرحه المتعلق بضرورة إسناد مسؤولية الثورة لأقدم العناصر القيادية، وفضل مواصلة السير طبقاً لأسلوب العمل الذي دشنه السيد عبان أثناء مؤتمر وادي الصومام عندما فتح أبواب المسؤولية إطارات متشبعة بإيديولوجية غير التي وضعها نجم شمال إفريقيا، فإنه قد أبدى كثيراً من المرونة عندما تعلق الأمر بمراجعة مبدأي أولوية الداخل على الخارج والسياسي على العسكري. هكذا، قرر المجلس الوطني وتوسيع نفسه بحيث انتقل عدد أعضائه من أربعة وثلاثين إلى أربعة وخمسين، وقرر كذلك رفع عدد أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ إلى أربعة عشر. وفي الحالتين لم يبق التعيين مقصوراً على العناصر الملتزمة في صفوف حزب الشعب الجزائري وما تفرع عنه بعد الحرب الإمبريالية الثانية. وعلى سبيل المثال، تجدر الإشارة إلى لجنة التنسيق تضمنت السيدين فرحات عباس ومحمود شريف (¬1) وهما من الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري. إن الانفتاح على العناصر القيادية الوافدة من الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري ومن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين كان إجراء طبيعياً ومنطقياً في ذات الوقت رغم أنه كان مرفوضاً بدرجات متفاوتة من معظم إطارات حركة الانتصار للحريات الديمقراطية. أما الصفة الطبيعية للإجراء فمتأتية من كون جبهة التحرير الوطني حركة سياسية مسلحة تهدف أساساً إلى تقويض أركان الاستعمار الفرنسي في الجزائر، ولذلك فهي في حاجة إلى جميع الطاقات الحية بدون استثناء، وليس من المعقول أبداً أن توصد أبواب النضال بجميع أنواعه في وجه المتطوعين له. ولو لم تفعل لتركت *مفتوحة لأبواب المناورات الدنيئة للسلطات الاستعمارية التي كانت تستطيع توظيف الأبواب المغلقة لإنشاء حركات تتناحر فيما بينها وتسهل مهمة العدو الرامية إلى خنق أنفاس الثورة. ¬

_ (¬1) من مواليد سنة 1914 بضواحي مدينة تبسة. تخرج من مدرسة تكوين الضباط في فرنسا وشارك في الحرب العالمية الثانية كواحد من الضباط الشباب الفرنسي الذي استقال منه على إثر مجازر ماي سنة 1945 وهو برتبة نقيب. وفي سنة 1946في صفوف الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري وأصبح ملاحقاً من طرف الإدارة الاستعمارية. التحق بصفوف جيش التحرير الوطني في نهاية عام 1955 وتسلق سلم المسؤوليات إلى أن أصبح قائد للولاية الأولى ثم عضواً بلجنة التنسيق والتنفيذ قبل أن يعين وزيراً للتسليح والتموين. لم يؤدي أي دور سياسي أو غيره بعد استرجاع الاستقلال.

وأما منطقية الإجراء فمتأتية من كون الإيديولوجية كلها كانت ترمي إلى تغيير وضع المجتمع الجزائري في اتجاه الأفضل. فالاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري كان يهدف إلى تحقيق المساواة في المواطنة بين الفرنسيين والجزائريين معتقداً أن النضال السياسي وحده يكفي للوصول إلى تلك الغاية، ومع مر السنين ثبت لقيادات الحزب والمناضلين الواعين أن الكولون لن يسمحوا للإنسان الجزائري بالانعتاق من عبودية الاستعمار وما يترتب عليها من أنواع الاستغلال والعسف والاضطهاد، لأجل ذلك فإنهم غيروا قناعتهم وصاروا يؤمنون بتمايز الشعب الجزائري وبضرورة إقامة دولته ((المتعاونة مع فرنسا لاالتابعة لها أو المنفصلة عنها. وبالمؤازرة مع تغيير القناعات ظهرت محاولات متعددة لتطوير مشروع المجتمع وتغيير أسلوب النضال، وتواصلت إلى أن وجد الاتحاد نفسه مندمجاً في جبهة التحرير الوطني سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف. إذن، وانطلاقاً مما سبق، يجب التأكيد على أن تغييراً نوعياً قد تجسد على الميدان خلال تلك الدورة الأولى التي عقدها المجلس الوطني للثورة الجزائرية مستهدفاً المنطلقات الأيديولوجية بحيث لم يعد يشترط الانتماء العضوي لحزب الشعب الجزائري والتشبع المطلق بأيديولوجيته للتمكن من ممارسة المهام القيادية العليا. وفيما يتعلق بأولوية السياسي على العسكري والداخل على الخارج، فإن المجلس الوطني قد ألغى قرار مؤتمر وادي الصومام وأكد في لائحته النهائية أن الأولوية لا تكون إلا حيث الفعالية وحيث مصلحة الثورة. وفي الحقيقة، فإن هذا التأكيد لم يكن إلا شكلياً، ولأن الواقع لم يكن كذلك بالنسبة للنقطتين على حد سواء. ففيما يخص النقطة الأولى، تجدر الإشارة إلى أن السلطة كلها قد انتقلت إلى القادة العسكريين الذين بدأوا يجنحون إلى الاستبداد رغم معارضة عبان الذي أصبح شبه وحيد نظراً لسكوت من كانوا يسمون بالسياسيين الذين رضوا بدور المنفذ. وقد كان الفرنسيون يدعون هؤلاء العسكريين: "الباءات الثلاث وهم يعنون: بلقاسم كريم، وبن طوبال لخضر وبالصوف عبد الحفيظ (¬1). ¬

_ (¬1) تسمية العسكريين والسياسيين هي فقط اختراعات السلطات الاستعمارية، لأن قادة الثورة وخاصة منهم الأوائل كانوا جميعاً متساوين تقريباً من حيث التكوين العسكري والسياسي، وعلى سبيل المثال فإن عبان رمضان الذي ينبعث بكونه سياسياً لا يختلف في شيء عن آيت أحمد وبن بلة أو من

من حرب العصابات إلى حرب الواقع

وفيما يخص النقطة الثانية، وباستثناء العلاقات مع الخارج، فإن الداخل كان مستقلاً وسيظل كذلك إلى غاية وقف إطلاق النار. من حرب العصابات إلى حرب الواقع: لقد كان اندلاع الثورة ليلة الفاتح نوفمبر سنة أربع وخمسين وتسعمائة وألف تطبيقاً ميدانياً للمبدأ القائل بضرورة استعمال الكفاح المسلح من أجل استرجاع الاستقلال الوطني، لأجل ذلك، فإن جل مناضلي حركة الانتصار للحريات الديمقراطية هللوا للشرارة الأولى قبل أن تبدأ المشادات الكلامية ثم الصراعات الدموية من انتصار الزعيم مصالي ومناضلي الوليد الجديد: جبهة التحرير الوطني (¬1). وإذا كانت الفترة الممتدة إلى نهاية شهر أوت سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف قد امتازت بممارسة حرب العصابات ضد العدو بالمؤازرات مع التركيز على توعية الجماهير الشعبية وتنظيمها في إطار مواجهة عمليات التمشيط الواسعة التي كانت القوات الاستعمارية تقوم بها من أجل السيطرة على جبال وغابات المناطق الأولى والثانية والثالثة وافتكاكها من جيش التحرير الوطني الذي تمكن خلال وقت قصير جداً من تجنيد جموع غفيرة من الشباب المؤمن بقضية التحرير المستعد للاستشهاد من أجلها، وإذا كان مؤتمر وادي الصومام قد قرر تنشيط العمل الفدائي في المدن والقرى من أجل تعميم حالة الحرب وتخفيف الضغط على المجاهدين في الجبال، فإن المجلس الوطني للثورة الجزائرية في دورته الأولى المنعقدة بالقاهرة، قد ثبت قرار المؤتمرين في وادي الصومام وأيده بقرار آخر يدعو إلى تجاوز حرب العصابات من أجل تحويل كبير من جيش التحرير الوطني مفهوم الولايات من جهة، ولتوفير الظروف الملائمة لإنجاز "ديان بيان فو " جزائرية من جهة ثانية. ¬

_ يسمونه بالباءات الثلاثة فقد كان مناضلاً في صفوف حزب الشعب الجزائري قبل الانتهاء من دراسته الثانوية. وفي داخل الحزب، وعلى مر السنين تقلد مسؤوليات متعددة وكان عضواً بارزاً في هيئات المنظمة الخاصة عندما ألقي عليه القبض 1950. فتكوينه إذن، كان سياسياً وعسكرياً مثل الآخرين لكنه كان يمتاز عن آرائه في تلك المرحلة الأولى بمستواه التعليمي والثقافي. (¬1) لقد كان حزب الشعب الجزائري ينادي بانتهاج الكفاح المسلح كوسيلة وحيدة لاسترجاع السيادة الوطنية، وكان مصالي الحاج يعمل في مقدمة القيادة السياسية على توفير الشروط اللازمة لانطلاق الأولى، لأجل ذلك فإن أعداداً كبيرة من المناضلين لم يصدقوا أن يكون مصالي أجنبياً عما وقع ليلة الفاتح من نوفمبر.

إن اتخاد هذا القرار يرجع في أساسه إلى تأثر بعض أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ (¬1) بأدبيات كل من ماوتسي تونغ وتروتسكي، لكنه لم يأخذ في الاعتبار الواقع الجزائري الذي كان، يوماً، يختلف كلية عن الواقع الصيني أو الهند الصينية إذ، رغم الانتصارات العديدة التي أحرزها جيش التحرير الوطني، ورغم سيطرته، ليلاً خاصة على مناطق عديدة، ورغم المساندة الشعبية التي كان يحظى بها، فإن جبهة التحرير الوطني لم تتمكن، إلى غاية ذلك التاريخ، من تحرير مناطق يمكن الاحتفاظ بها لتكوين منطلقات لوحدات أكبر من الفيالق (¬2)، لأجل ذلك، فإن القرار ظل حبراً على ورق سوف لن تتزود الثورة الجزائرية بفرقتها العسكرية المتخصصة ولن تفرض على فرنسا ديان بيان فو ثانية. وفي إطار نفس التوجه الخاص بالعمل من أجل تجاوز مفهوم الولايات، قرّر المجلس الوطني للثورة الجزائرية ضرورة الإسراع بإنشاء قيادة موحدة لجيش التحرير الوطني، لكن تنفيذ هذا القرار تعثر في بداية الأمر نتيجة الصراع الذي صاحب خروج لجنة التنسيق والتنفيذ من الجزائر والذي قام في أساسه بين السيدين بلقاسم كريم وعبان رمضان (¬3). وبعد التخلص من هذا الأخير (¬4) ظهرت إلى الوجود، في شهر أفريل سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف، لجنة التنظيم العسكري مقسمة إلى فرعين لكن بدون رأس موحد في ¬

_ (¬1) تجدر الإشارة خاصة إلى السيدين لخضر بن طوبال المدعو: سي عبد الله، وعبد الحفيظ بو الصوف المدعو: سي مبروك، وقد كان كل منهما عقيداً مسؤولاً عن ولاية قبل أن يعين عضواً بلجنة التنسيق والتنفيذ. (¬2) لقد كانت هنااك مناطق محررة بالفعل، لكن جيش التحرير الوطني لم يكن قادراً على الاحتفاظ بها خاصة عندما يجند العدو إمكانياته البرية والجوية. (¬3) هناك أقاويل كثيرة حول علاقات الرجلين اللذين يعتبران القدامى في صفوف حزب الشعب الجزائري. لكن بثقافة عبان رمضان كان سيتصغر كريم ويرى أنه أقل بكثير من المسؤولية المسندة إليه أما كريم فإنه كان معجباً بثقافة عبان وتكوينه السياسي. لكن إعجابه لم يمنعه من الاستكاء من الأصدقاء المشتركين، وقد وظف عبان انبهار كريم أمام شخصيته القوية لمحاولة السيطرة على كافة أجهزة الثورة، وظل كريم، المدرك لذلك، يتحين الفرص للتخلص من نفوذ عبان وقد تحقق له ذلك في شهر ديسمبر سنة 1957. (¬4) إن الثابت اليوم أن بلقاسم كريم ولخضر بن طوبال وعبد الحفيظ بو الصوف كانوا مجمعين على ضرورة إعدام عبان رمضان قصد التخلص من هيمنته الفكرية. لكن الحقيقة حول تنفيذ الإعدام سوف تظل مغيبة لأن الباءات الثلاث قرروا ذلك ولأن اثنين منهما قد انتقلا إلى رحمة الله ولم يبوحا بشيء من التفاصيل. يبقى فقط من المعلوم أنه اغتيل بالمغرب في شهر ديسمبر سنة 1957.

الظاهر على الأقل (¬1). أما الفرع الأول فيترأسه العقيد هواري بومدين (¬2) ومقره الحدود الجزائرية التونسية التي تتخذ منطلقاً للإشراف على الكفاح المسلح في شرقي البلاد الذي يشمل في هذه الحالة، الولايات الأولى والثانية والثالثة. (¬3) وبمجرد التنصيب وانطلاق العمل، تمكن العقيد هواري بومدين من تنظيم الفرع الذي أسندت إليه مسؤوليته، تنظيماً عصرياً تميز، في ذلك الوقت، بالدقة في التخطيط والانضباط في ممارسة النشاط العسكري، واستطاع، في ظرف قصير، أن يثبت ويطور أجهزة الاستعلامات والإمدادات التي أنشأها سلفه ومعلمه العقيد عبد الحفيظ بو الصوف، وتجاوز بدون كثير عناء مسألة الأشخاص إذ عرف كيف يختار محيطه الضيق ويفرض جو الأخوة والتعاون بين الجميع بما في ذلك النائب الذي كان يراهن عليه السيد بلقاسم كريم للسيطرة على غربي البلاد. لكن العقيد محمدي السعيد لم يحالفه النجاح في تأدية مهمته إذ وجد صعوبة جمة في إقناع نوابه بمسؤوليته عليهم، ولذلك راح كل واحد منهم يعمل مستقلاً ومباشرة مع الولاية التي جاء منها أو كان يشرف عليها (¬4) ومع واحد وأكثر من الباءات الثلاث الذين سبقت الإشارة إليهم. وبالتدريج تأزم الوضع في الحدود الشرقية وبدأ المرض يسري إلى هيئات الثورة بداخل الوطن وخاصة منه الولاية الأولى والقاعدة الشرقية. وأمام هذا التطور الخطير اجتمعت لجنة ¬

_ (¬1) ذلك لأن لجنة التنسيق والتنفيذ قيادة جماعية المسؤوليات فيه موزعة بحيث لا يمكن لواحد فقط أن ينفرد بقيادة لجنة التنظيم العسكري. فكريم مكلف بمرفق الحرب، وبو الصوف بالاستعلامات والمواصلات العامة وواعمران بالتسليح والتموين وبن طوبال بالداخلية والتنظيم الإداري. وكل هذه المرافق تتحكم مباشرة في واقع الجيش وتسييره. (¬2) اسمه الحقيقي: محمد بو خروبة، جنده أحمد بن بلة في القاهرة ثم أرسله بعد تدريب عسكري إلى منطقة الخامسة حيث اتخذه بو الصوف نائباً له قبل أن تسند له كريم من جهته ليعين العقيد الصادق دهليس نائباً لبومدين على رأس الفرع المذكور. وقد كان دهليس قائد للولاية الرابعة سنة 1957. (¬3) هو قائد الولاية الثالثة بعد بلقاسم كريم الذي بذل كل ما في وسعه ليجعله على رأس الفرع الشرقي. وحرصاً على ترضية جميع الأطراف عين كنواب له: العقيد العموري عن الولاية الأولى والعقيد بن عودة عن الولاية والعقيد عمارة بوقلاز على القاعدة الشرقية. (¬4) العقيد العموري كان يشرف على الولاية الأولى ولم يكن يطمئن لأي واحد من الباءات الثلاث الذين كان يرى أنهم أقل بكثير من المسؤولية المسندة إليهم. وكذلك الأمر بالنسبة للعقيد بوقلاز الذي كان يشرف على القاعدة الشرقية. أما العقيد محمدي السعيد فإنه كان يشرف على الولاية الثالثة لكنه كان يأتمر بأوامر السيد كريم بلقاسم. وأما العقيد ابن عودة فإنه كان عضواً بقيادة الولاية الثانية وتابعاً للسيد عبد الله بن طوبال.

التنسيق والتنفيذ في اليوم التاسع من شهر سبتمبر سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف، فأقرت عجز القائد ونوابه وقررت ضد كل واحد منهم عقوبات مختلفة (¬1). وفي نفس الاجتماع، أطلعت لجنة التنسيق والتنفيذ على التقارير المقدمة من طرف أعضاء اللجنة (¬2) التي كانت عينتها لدراسة إمكانية إنشاء حكومة مؤقتة للجمهورية الجزائرية. وبدلاً من استدعاء المجلس الوطني للاجتماع بصفته الهيئة العليا للثورة الجزائرية التي يحق لها اتخاذ القرار، في مثل هذه الحالات، لجأ السادة: بلقاسم كريم ولخضر بن طبال وعبد الحفيظ بوصوف إلى القيام بأول انقلاب عسكري وأعلنوا عن تكون حكومة برئاسة السيد فرحات عباس على أن يظلوا هم السلطة المرجعية الوحيدة التي بيدها الحل والربط (¬3). ولقد كان الانقلاب هروباً إلى الأمام لأن الباءات الثلاث -على حد التعبير الفرنسي- كانوا متأكدين أن أغلبية أعضاء المجلس الوطني أصبحوا مقتنعين بعدم قدرتهم على تسيير شؤون الثورة الجزائرية. وتسربت معلومات مفادها أن قادة الداخل عازمون على إبعادهم واستبدالهم بمن هم أكثر منهم كفاءة. وكانت الأنظار قد بدأت تتجه إلى العقيدين محمد لعموري ومصطفى لكحل اللذين كانا، منذ مدة، يحذران من الانحراف ويطالبان بعدم الابتعاد عن الخط الإيديولوجي كما ورد تحديده في بيان الفاتح من نوفمبر. ويبدو أن هذه الدعوة التي رفع لواءها العقيدان محمد ومصطفى قد وجدت أنصاراً كثيرين من بين إطارات جميع الولايات، ويبدو كذلك أن اتصالات أولية مباشرة قد وقعت مع الداخل وعلى أثرها عاد لعموري من منفاه خفية ليترأس في منطقة الكاف (¬4) اجتماعاً ¬

_ (¬1) لقد أصدرت اللجنة عقوباتها كالآتي: أ- العقيد محمد لعموري ينزل إلى رتبة رائد ويمنع من كل نشاط رسمي مع تحديد إقامته بالقاهرة. ب-العقيد عمارة بوقلاز ينزل إلى رتبة جندي ويمنع من كل نشاط رسمي مع تحديد إقامته بالعراق ج- العقيد عمار بن عودة يعلق نشاطه لمدة ثلاثة أشهر يقضيها في سوريا. د- العقيد محمدي السعيد يعلق نشاطه لمدة شهر واحد يقضيه في القاهرة. وبديهي أن العقوبات موجهة خاصة ضد الولاية الأولى والقاعدة الشرقية وسوف يكون ذلك واحداً من الأسباب التي قادت إلى محاولة قلب الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في إطارها ما أصبح يعرف بمؤامرة العقداء. (¬2) أعضاء هذه اللجنة أربعة وهم: بلقاسم كريم، لخضر بن طوبال، فرحات عباس وعمار واعمران، وقد اشتغل كل واحد منهم مع جماعته وقدم تقريراً مفصلاً حول المراحل المقطوعة والعمل المستقبلي انطلاقاً من القطاع الذي كان يشرف عليه. (¬3) هؤلاء القادة هم الذين اصطلح على تسميتهم بالباءات الثلاث باعتبار أن اسم كل واحد منهم أو لقبه يبدأ بحرف الباء. (¬4) حيث مقر قيادة أركان جيش التحرير الوطني.

سرياً انعقد بتاريخ 16/ 11/1958 ويشارك فيه عدد كبير من إطارات الثورة العسكرية والسياسية من أجل إطاحة الحكومة المؤقتة وإعادة تأهيل المجلس الوطني للثورة الجزائرية وتطهيره من العناصر التي دبرت الانقلاب أو شاركت فيه من قريب أو بعيد، وكان من الممكن أن تنجح المبادرة لو لم يتفطن. الباءات الثلاث إلى اللجوء إلى السلطات التونسية وإلى الضباط الجزائريين القادمين من الجيش الاستعماري عبر ألمانيا وإيطاليا. أما الحكومة التونسية فقد أوهموها بأن قادة الداخل إذ يدعون إلى الالتزام بنداء أول نوفمبر، فإنهم يهدفون إلى جر تونس والمغرب الأقصى إلى إعلان الحرب على فرنسا وعدم القبول بإيقافها إلا عندما يسترجع شمال إفريقيا سيادته التي تكون منطلقاً لوحدته في إطار المبادئ العربية الإسلامية. وأحيط الرئيس بورقيبة علماً بأن أنصار صالح بن يوسف وراء الاجتماع المنعقد بالكاف، وأن إطارات سامية من بينهم متواجدة بالقاعة. وأما الضباط الجزائريون القادمون من الجيش الفرنسي (¬1) فقد أقنعوهم بأن الحركة تستهدفهم لأن ضباط جيش التحرير الوطني يرفضون تواجدهم على الحدود الجزائرية التونسية ويعتبرونهم عيوناً تعمل لفائدة الجيش الاستعماري. بعض هؤلاء الضباط اشتغل في صفوف الجيش الفرنسي ضد جيش التحرير الوطني داخل الجزائر في السنوات الأولى للثورة، وبعضهم ظل في فرنسا أو في ألمانيا داخل الثكنات، وقد التحقوا بالحدود الجزائرية الشرقية والغربية عن طريق اتحادية جبهة التحرير الوطني بأوربا في فترات متتالية ابتداءاً من سنة 1957. وكان يمكن أن يشكلوا دعماً كبيراً لقدرة الولايات العسكرية لكنهم لم يدخلوا إلى التراب الوطني سوى بعد وقف إطلاق النار، الأمر الذي جعل أبناء جيش التحرير الوطني يستاؤون ويطالبون بتسريحهم غير أن العقيد هواري بومدين كان متمسكاً بهم، وبدأ الصراع بين الطرفين محتداً خاصة ابتداءً من المؤتمر التأسيسي لحزب جبهة التحرير الوطني المنعقد في الفترة ما بين 16 و 21 أفريل سنة 1964. وتجدر الإشارة إلى أن دعم بو مدين لهم قد مكنهم بالتدريج من السيطرة على الجيش. ويعتبر العقيد الشاب محمد ¬

_ (¬1) هؤلاء الضباط من الجزائريين الذين ينتمون إلى عائلات كانت تحظى بمكانة مرموقة لدى سلطات الاستعمار نتيجة خدماتها في شتى المجالات. وقد تم اختيارهم صغاراً ثم أرسلوا إلى ما يسمى بمدرسة "أبناء الجيش" قصد مواصلة الدراسة العامة وتلقي المبادئ الأولى للفنون العسكرية. وعندما بلغوا سن الرشد حولوا إلى المدارس العسكرية فتخرجوا منها برتبة مرشح أو ملازم.

التخطيط للعمل السياسي

شعباني أول ضحايا ذلك الصراع (¬1). فبهذه الكيفية تمكن الباءات الثلاث من تعبئة الضباط من غير أبناء جيش التحرير الوطني، ومن جعل الجيش التونسي يتحرك بقوة في اتجاه مكان الاجتماع، ولأن المجتمعين لم يكن لهم أي حساب مع الحكومة التونسية، فإنهم انخدعوا وبسهولة استسلموا للأسر. ولما علم أن تسلمت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية مجموع المتمردين أقامت لهم محكمة أصدرت على عجل أحكاماً مختلفة ضدهم (¬2). ومن الجدير بالذكر أن المحاكمة كانت صورية فقط. وفي الواقع فإن الأمر يتعلق باغتيالات جماعية استهدفت مجموعة من خيرة إطارات الثورة قصد الاستجابة لطموحات شخصية (¬3)، تماماً مثل ما وقع قبل ذلك بحوالي سنة عندما أعدم عبان رمضان بدون محاكمة. ومما لا شك فيه أن العمليتين كانتا انحرافاً أيديولوجياً خطيراً سوف يكون له تأثيره البالغ على مسار الثورة في الخارج لأنه سيدخلها عالم الإرهاب وانعدام الثقة. التخطيط للعمل السياسي: إن أشغال الدورة الأولى للمجلس الوطني لم تتوقف عند قضايا التسيير والمسؤولية، لكنها امتدت لتشمل كافة الموضوعات الأساسية التي تؤثر مباشرة على مصير الثورة وقد سعى المشاركون في الدورة لتعطي الأولوية في التنفيذ لكل ما من شأنه أن يدعم صفوف الثورة وطنياً، ويخدم العلاقات المغاربية ¬

_ (¬1) مساعدية (محمد الشريف) لقاء أجريته معه في مكتبه بقصر الحكومة يوم 18/ 9/1988 وذكر لي فيه أن الرئيس بورقيبة اتصل بقيادة الحركة الإنقلابية في السجن وعرض عليهم إخراجهم بواسطة الجيش التونسي وتسفيرهم إلى سويسرا حيث يظلون على السفارة التونسية إلى أن تسترجع الجزائر استقلالها، لكن العقيد لعموري، ومن معه رفضوا، علماً بأن السيد مساعدية كان رائداً في ذلك الوقت وواحداً من أعضاء القيادة المذكورة. (¬2) ترأس المحكمة العقيد هواري بومدين وقام الرائد علي منجلي بدور النائب العام بينما تولى العقيد الصادق دهيلس مهمة الدفاع. أما الأحكام فكانت كالآتي: الإعدام بالنسبة للعقيدين: محمد لعموري وأحمد نواورة للرائدين عواشرية ومصطفى الأكحل وقد تم التنفيذ في شهر مارس سنة 1959. أما باقي الضباط وفي مقدمتهم الرواد: عبد الله بلهوشات، أحمد دراية، محمد الشريف مساعديه ولخضر بلحاج فقد حكم بالسجن المؤبد ثم استفادوا من العفو وأطلق سراحهم سنة 1960 وأعيدوا إلى صفوف جيش التحرير الوطني فنظموا الجبهة الجنوبية. (¬3) لقد كان السيد كريم يريد الاستحواذ على قيادة الثورة، ولذلك فإنه كان يستعمل جميع الحيل للتخلص من ذوي الكفاءات الذين قد يمنعونه من تحقيق طموحاته وأطماعه.

ويثبت جبهة التحرير الوطني على الساحة الدولية وخاصة في حظيرة الأمم المتحدة. فبالنسبة للعلاقات المغاربية، لاحظت الدورة أنها أصبحت تشكو نوعاً من الفتور، خاصة بعد أن استرجعت كل من تونس والمغرب الأقصى استقلالها، وانتهت، بعد مناقشات واسعة وثرية، إلى أن قرار وادي الصومام في هذا الشأن، وهو تجسيد لما جاء في بيان أول نوفمبر، قد ظل حبراً على ورق نتيجة عدم وجود التجارب لدى الشقيقين المستقلين حديثاً. لقد كان وادي الصومام قد دعا إلى تنسيق العمل السياسي وإنشاء لجنة للتنسيق تشارك فيها جميع الأحزاب الوطنية التونسية والمغربية إلى جانب جبهة التحرير الوطني وذلك من أجل إنشاء لجان شعبية تساند الثورة الجزائرية، وإيجاد سبل التضامن والتوحيد بين المنظمات الجماهيرية والنخبوية في الأقطار الثلاثة (¬1) لكن مشاغل المغرب الأقصى وتونس قد تغيرت وأصبح البلدان يعملان على توطيد سيادتهما في إطار الحدود التي وضعها الاستعمار. ومما لا شك فيه أن، انحرافاً عن البرنامج الأساسي الذي كان يدعو إلى استمرار الكفاح المسلح حتى يتمكن شمال إفريقيا بأكمله من استرجاع سيادته وطرد المغتصب من أراضيه (¬2). أما عن دعم الصف الوطني فلا بد من الذكر بأن الفلاحين الجزائريين هم أول من تحمل عبئ الثورة وشكل عمودها الفقري، وذلك طبيعي عندما نعرف أن سكان الريف في الجزائر كانوا، قبل عام أربعة وخمسين وتسعمائة وألف، يمثلون أكثر من ثلثي الشعب، وعندما قرر مؤتمر وادي الصومام تكثيف العمل الفدائي في الحواضر (¬3) أصدر في ذات الوقت، توجيهات واضحة للاهتمام بتنظيم القوى الوطنية الحية، قصد تمكينها من الارتباط، عضوياً بجبهة التحرير الوطني وجعل المدن تقوم بدورها الحقيقي في معركة التحرير، وكانت فئات ¬

_ (¬1) انظر وثيقة وادي الصومام المنشورة على أعمدة المجاهد، اللسان المركزي لجبهة التحرير الوطني، المجلد الأول، ص: 72. (¬2) في هذا الموضوع ينبغي الرجوع إلى المؤتمر الرابع لطلاب شمال إفريقيا الذي انعقد بتونس سنة 1934 والذي تبنى عقيدة التوحيد إلى وضعها مفدي زكريا والتي جاء في بندها الأول: آمنت بالله رباً، وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً وبالكعبة قبلةً وبمحمد نبياً ورسولاً وشمال إفريقيا وطناً واحداً لا يتجزأ- أما البند العاشر فيقول: وطننا شمال إفريقيا جزء لا يتجزأ من جسم الشرق العربي نفرح لفرحه ونتألم لآلامه ونتحرك لتحركه ونسكن لسكونه تربطنا به إلى الأبد روابط اللغة والعروبة والإسلام (انظر في هذا الموضوع كتابنا المثقفون الجزائريون والثورة، ص: 36 وما بعدها). (¬3) انظر الفصل الخامس.

العمل والتجار والطلبة في طليعة من حظي بعناية القيادة السياسية التي تمكنت، في وقت قصير جداً، من إبراز تنظيماتها الوطنية وتزويدها بالعناصر المناضلة القادرة على تنشيطها في جميع المجالات، وتوظيفها، عقلانياً، لخدمة الكفاح المسلح. ففيما يخص العمال الجزائريين الذين كانوا ينشطون نقابياً في مختلف المنظمات الفرنسية (¬1). فإن جبهة التحرير الوطني قد توصلت (¬2) بعد دراسات ومشاورات، إلى تقديم ملف قانوني كامل تم، بموجبه، إنشاء الاتحاد العام للعمال الجزائريين في اليوم الرابع والعشرين من شهر فيفري شباط سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف وعينت أميناً عاماً له السيد عيسات إيدير (¬3) ثم رصدت له الميزانية اللازمة للإنطلاقة بالكيفية التي تمكن من مغالبة وإلغاء منافسيه: الاتحاد النقابي للعمال الجزائريين (¬4) والاتحاد العام للنقابات الجزائرية (¬5). وبالفعل، استطاع الاتحاد العام للعمال الجزائريين أن تقطع خطوات جبارة في مجالي التجنيد والعلاقات مع المنظمات المماثلة العاملة خاصة في البلدان الغربية، وبذلك أصبح قادراً على تعبئة الجماهير الشعبية لتلبية نداء جبهة التحرير الوطني كما كان الأمر بالنسبة لإضراب الأسبوع الذي سبقت الإشارة ¬

_ (¬1) أهم هذه المنظمات كانت: CGT أو الكونفدرالية العامة للعمال التي كانت مرتبطة عضوياً بالحزب الشيوعي الفرنسي، ثم CFTC أو الكونفدرالية الفرنسية للعمال المسيحيين وكانت تابعة للحركة الجمهورية الشعبية، ثم OF أو القوة العمالية وكانت تابعة للفرع الفرنسي اللممية العمالية وهي التسمية القديمة للاشتراكي الفرنسي، ثم CFDT أو الكونفدرالية الفرنسية الديمقراطية للعمل. (¬2) حدثني الرئيس ابن خدة في الموضوع وقال لي أنه اشتغل في بيت النقابي بوعلام بوروبية ليلة كاملة مع عبان رمضان، عيسات إيدير لوضع القانون الأساسي للاتحاد وإعداد كل عناصر الملف القانونية. (¬3) كان عاملاً بالورشات الصناعية للطيران ثم موظفاً بصندوق المنح العائلية لقطاع البناء وفي نفس الوقت كان عضواً باللجنة المركزية لحركة الانتصار للحريات الديمقراطية ومسؤولاً عن اللجنة العمالية التابعة للحزب. ألقي عليه القبض بأمر من ميتران نفسه يوم 5 نوفمبر وأطلق سراحه في ديسمبر 1954 ليلقي عليه القبض من جديد أثناء انعقاد مؤتمر وادي الصومام الذي عينه عضواً بلجنة التنسيق والتنفيذ. ولما وصل نبأ اعتقاله استبدل بالسيد ابن يوسف بن خدة. قامت السلطات الاستعمارية بإخراجه من المحتشد واغتالته سنة 1958. (¬4) هو التنظيم النقابي الذي أسسته الحركة الوطنية الجزائرية يوم 6 فيفري 956 والذي سوف لن يصمد أمام الاتحاد العام للعمال الجزائريين. (¬5) لقد كان هذا الاتحاد تابعاً للحزب الشيوعي الجزائري وحل نفسه في نوفمبر 957 ثم دعا أعضاء الالتحاق بالاتحاد النقابي للعمال الجزائريين دون الاتحاد العام للعمال الجزائريين.

إليه، وسهلت أمامه مهمة النفاذ إلى الأوساط النقابية الدولية التي لم تعد تخفي تعاطفها مع الثورة الجزائرية. وبالتدريج، صار الاتحاد يضع الكفاح التحريري في مقدمة نشاطه ويعلن في جميع المناسبات أن أهدافه هي نفس أهداف جبهة التحرير الوطني وهي تتمثل في العمل بجميع الوسائل من أجل تقويض أركان الاستعمار حتى يتسنى للعمال الجزائريين أن يمارسوا الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية (¬1). غير أن وضع الكفاح التحريري في مقدمة الإنشغالات لم يصرف المركزية النقابية الجزائرية عن تأدية مهامها الأساسية في الدفاع عن حقوق العمال وحماية مصالحهم وفي التخطيط للمستقبل بواسطة تكوين الإطارات (¬2) إعداد الدراسات التقنية الكفيلة بترقية الاقتصاد الجزائري وتنميته بعد استرجاع السيادة الوطنية (¬3). وأمام هذا النشاط المتزايد لجأت السلطات الاستعمارية إلى اعتقال آلاف المناضلين والإطارات النقابية قبل أن تعمد إلى إصدار قرار بحل الاتحاد رسمياً بحجة ارتباطه بحزب سياسي، وردت الأمانة العامة للاتحاد على هذا الإجراء التعسفي مؤكدة أن جبهة التحرير الوطني "ليست حزباً، ولكنها تجمع وطني يضم كل القوى الحية في البلاد. وفي جبهة التحرير الوطني تنصهر كل النزاعات السياسية والاجتماعية في سبيل تحقيق التحرير السياسي والاقتصادي والاجتماعي" (¬4). وبالإضافة إلى ذلك استشهدت باللائحة الخامسة والثلاثين الصادرة عن الندوة العالمية للشغل التي تنص على أن "الهدف الأساسي والدائم لكل حركة نقابية هو تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي لفائدة العمال، ولبلوغ ذلك، تستطيع النقابات، وفقاً للقوانين الجاري بها العمل، إقامة علاقات مع الأحزاب السياسية" (¬5). وبالدخول إلى السرية، تضاعف نشاط الاتحاد العام للعمال الجزائريين في سبيل تجسيد برامج جبهة التحرير الوطني ولم تلبث صفوفه أن تعززت بانضمام ¬

_ (¬1) المجاهد اللسان المركزي لجبهة التحرير الوطني، العدد 15، ص:257. (¬2) نذكر خاصة التربص الذي دام ثلاثة أشهر في بلجيكا والذي تضمنته الكونفدرالية العمالية للنقابات الحرة من 20 سبتمبر إلى 30 ديسمبر 1957 لفائدة نقابات شمال إفريقيا. (¬3) المجاهد، العدد 19 ص: 358. (¬4) نفس المصدر، العدد 16: 277. (¬5) نفس المصدر، العدد 28: 268.

أغلبية أعضاء بفرنسا في اليوم الثالث عشر من شهر مارس سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف، وصرح أمينه العام المساعد قائلاً: "أن هذا القرار قد جاء نتيجة اقتناعنا بأنه "لا يمكن أن يوجد سوى تمثيل واحد للعمال الجزائريين" (¬1). أما الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين الذي تأسس في الفصل الأخير من السنة الأولى للثورة (¬2)، فإن نشاطه الفعلي لم يظهر إلاّ في مستهل السنة الثانية بعدما وقع اعتقال الطالبين الشهيدين: بلقاسم زدور وعمارة رشد. فعلى إثر ذينك الاعتقالين اللذين وقعا في وقت واحد تقريباً (¬3) لكن في مدينتي وهران بالنسبة للأول والجزائر بالنسبة للثاني، أصدر الاتحاد منشوراً يندد فيه بأعمال القمع التي تمارسها السلطات الاستعمارية ويطالب بالمصالح الفرنسية المعينة باحترام للإجراءات القانونية خاصة فيما يتعلق بمدة الحبس الاحتياطي الذي لا ينبغي أن تفوق ثمان وأربعين ساعة بمحلات الشرطة، ويندد بعمليات التعذيب الجسماني التي يتعرض لها السجناء الجزائريون (¬4). وكان المنشور كافياً ليثير رد فعل الغلاة من قادة الاتحاد الوطني للطلبة الفرنسيين وفي مقدمتهم السيد جاك لابورت الذي صرح بأن موقف الهيئات القيادية للطلبة المسلمين الجزائريين يعتبر فعلاً سياسي ومن ثم فهو عبارة عن ممارسة غير شرعية ومبادرة من شأنها تشجيع الخارجين عن القانون والمعتدين على العدالة الفرنسية. لكن الاتحاد، منذ تأسيسه، لم يخف توجهاته الوطنية والتزامه بالعمل من أجل تحقيق أهداف الثورة بقيادة جبهة التحرير الوطني حتى أن رئيسه (¬5) صرح رسمياً قائلاً: "فإذا كان المقصود بالمتمردين والخارجين عن القانون هم أولئك الرجال الذين يطالبون بحريتهم وهم لا يطالبون بها مسلحين إلا لأن كل الأبواب الأخرى قد سدت أمامهم، ويكافحون في سبيل كرامتهم وحقهم في الوجود ¬

_ (¬1) نفس المصدر، العدد 21: 403 وعليها تصريح مطول للأمين العام المساعد السيد: ابن غازي الشيخ. (¬2) انعقد المؤتمر التأسيسي بباريس في الفترة ما بين 8 و 14 جويلية سنة 1955. (¬3) تم اعتقال زدور في وهران يوم 6/ 12/1955، بينما اعتقل عمارة رشيد في الجزائر العاصمة يوم 7/ 12/1955. (¬4) صدر المنشور ووزع على وسائل الإعلام بتاريخ 15/ 12/1955. (¬5) كان في ذلك الوقت هو السيد أحمد طالب الإبراهيمي نجل الشيخ البشير الإبراهيمي الذي أصبح في الثمانينات وزير خارجية الجزائر.

وخارجون عن القانون" (¬1). وفي شهر أفريل سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف عقد الاتحاد مؤتمره الثاني في باريس واعتمد نداء الفاتح من نوفمبر لصياغة وثائقه النهائية، وقد جاء في لائحته السياسية: "أن كفاح الشعب الجزائري لا يمكن أن ينتهي بغير استرجاع السيادة الوطنية، وعليه فإن الطلبة المسلمين الجزائريين يلحون على المطالبة بالتفاوض مع جبهة التحرير الوطني الممثل الوحيد والشرعي للشعب الجزائري" (¬2). وفي أثناء دورته الأولى المنعقدة بالقاهرة، درس المجلس الوطني للثورة الجزائرية مسألة الإضراب اللامحدود، ولما أجمع الأعضاء على أنه أدى المهمة المنتظرة منه، فإنهم قرروا آمر اللجنة المديرة للاتحاد بأن تضع له حداً لمهمة افتتاح السنة الدراسية 57/ 58 (¬3)، وقد تم ذلك بالفعل على إثر الاجتماع الذي عقد بباريس في اليوم الرابع عشر من شهر أكتوبر سنة سبع وخمسين وتسعمائة وألف. ثم جاءت الخطوة الحاسمة في نهاية نفس السنة إذ عقد الاتحاد مؤتمره الثالث بضواحي باريس في الفترة ما بين الثالث والعشرين والثامن والعشرين من شهر ديسمبر، وصادق بالإجماع على اللائحات السياسية العامة التي لفت فيها انتباه الرأي العام الفرنسي والعالمي إلى ضرورة الضغط على الحكومة الفرنسية كي تحترم مبدأ الحق الطبيعي للشعوب في الاستقلال، وبالإضافة إلى ذلك أكد ما جاء في مقررات المؤتمر الثاني المشار إليها أعلاه (¬4). وتجدر الاشارة، هنا، إلى أن المؤتمر نجح نجاحاً باهراً إذ حضر جلسته الختامية مندوبو اتحادات طلابية غفيرة إلى جانب ممثلي الاتحاد العالمي للطلبة والاتحاد العام لطلبة الولايات المتحدة الأمريكية. وقد تدخل هذان الأخيران بكلمتين قويتين كلفتهما الاستنطاق والطرد من التراب الفرنسي (¬5). وبعد شهر ¬

_ (¬1) وقع التصريح يوم 20 جانفي 1956 بمناسبة إعلان قيادة الاتحاد عن تنظيم أسبوعين للتضامن مع المعتقلين على أن يكون اليوم الأول وهو يوم الإعلان عن القرار يوم توقف عن الدروس وعن الطعام. (¬2) المجاهد، العدد 18 ص: 333. (¬3) المجاهد، العدد 11: ص160. (¬4) المجاهد، العدد 18: ص333. (¬5) أما السيد تنكه (Tanaka) مندوب الاتحاد العالمي للطلبة فإنه احتجز لمدة ساعات في مكاتب الاستعلامات الفرنسية، وأما السيد كليم مور (Cliem Moore) المندوب الدائم في أوربا للاتحاد

واحد من انتهاء أشغال المؤتمر ونشر نتائجها، أصدرت الحكومة الفرنسية قراراً يحمل تاريخ الثامن والعشرين من شهر جانفي سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف ويقضي بحل الاتحاد بحجة انتمائه لجبهة التحرير الوطني، وبذلك دخل التنظيم الطلابي الجزائري مرحلة السرية إلى جانب باقي المنظمات الجماهيرية العاملة في صفوف الثورة، ويستعمل جميع الوسائل لتجسيد أيديولوجيتها على أرض الواقع. وإذا كان التنظيمان العمالي والطلابي قد وقعت هيكلتها قبل مؤتمر وادي الصومام، فإن الاتحاد العام للتجار الجزائريين لم يتأسس إلا بعد أن رجعت لجنة التنسيق والتنفيذ إلى العاصمة. وقد انعقد مؤتمر الأول يومي الثالث عشر والرابع عشر من شهر سبتمبر سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف، وقام بدور أساسي في إنجاح إضراب الأسبوع المسطور أعلاه. قبل ذلك، وبأمر من قيادة الثورة، أعلن الاتحاد عن إضراب تجريبي بمناسبة الذكرى الثانية لانطلاق الكفاح المسلح، ولقد استجاب التجار الجزائريون بالإجماع للإعلان المذكور مما جعل السلطات الاستعمارية ترد بعنف كبير فتأمر بإغلاق المتاجر (¬1) ولمدد تتراوح ما بين شهر وشهرين وتلقي القبض على عشرة من القيادة المنتخبة حديثاً (¬2) وتزج بهم في محتشد البرواقية (¬3) وفي نهاية شهر نوفمبر من نفس السنة شارك الاتحاد، بمدينة طرابلس، في أشغال المؤتمر السادس لغرف التجارة والصناعة والفلاحة عن البلدان العربية (¬4) وقدم بالمناسبة، عرضاً وافياً عن الإمكانيات الاقتصادية التي تتوفر عليها الجزائر، ومنذ ذلك التاريخ دخل السرية هو أيضاً وراح يعمل بكل ما في وسعه على تعبئة عالم التجارة إلى جانب الكفاح الذي يخوضه الشعب الجزائري بقيادة جبهة التحرير الوطني. ¬

_ العام لطلبة الأمريكية فإنه طرد من التراب الفرنسي بسبب كلمته التي جاء فيها: "إن الحرية لا تتجزأ، وإن الطلبة الأمريكان قد فهموا حقيقة الاستعمار الفرنسي. وكما انهزم العذريون في مدينة ليتل روك، فإن المستعمرين الفرنسيين مضطرون للاعتراف باستقلال الجزائر". علماً بأن ليتل روك هي عاصمة الأركانزاس التي عرفت في تلك السنة أحداثاً خطيرة نتيجة المعارضة السياسية الاندماجية. (¬1) المجاهد، العدد11، ص158. (¬2) في مقدمة المعتقلين كان رئيس الاتحاد السيد عباس التركي. (¬3) مدينة تقع بولاية المدينة على بعد حوالي 100 كلم جنوب العاصمة في طريق الجلفة والأغواط. (¬4) وقع تأسيس هذه الهيئات العربية في بيروت سنة 1952، وكان من أهدافها المستعجلة إنشاء سوق عربية مشتركة لمواجهة ما قد يترتب عن إنشاء السوق الأوربية المشتركة.

ولم يكتف المغرب الأقصى وتونس بالتوقف عن الكفاح وقبول الحل الفرنسي تاركين جبهة التحرير الوطني وحدها في الميدان، بل إن السلطات الرسمية، في كل من البلدان قد أصبحت، خوفاً من فرنسا، تشد الخناق على الثورة الجزائرية فتعترض سبيل الإمدادات الواردة إليها من مختلف أنحاء العالم وتحاول، بشتى الوسائل، التدخل في شؤون جيش التحرير الوطني المقيم على حدودها، وفي كثير من الأحيان تتحول تلك المحاولات إلى معارك دامية بين الأشقاء. من هذا المنطلق قررت الدورة تكثيف الاتصال بسلطات البلدان وحددت لذلك مجموعة من الأهداف تندرج كلها في إطار التوجه الوحدوي كما جاء التنصيص عليه في بيان الفاتح من نوفمبر (¬1)، وفي مقدمة هذه الأهداف يأتي ما يلي: 1 - فتح مفاوضات عسكرية لتسوية أوضاع الأسرى من جميع الأطراف ثم التعرض لنقاط الخلاف والعمل على إزالتها. وفي هذا السياق وقعت في تونس لقاءات متعددة بين ممثلين عن جبهة التحرير الوطني وممثلين عن الجيش التونسي ولقاءات أخرى مماثلة في المغرب الأقصى. وعلى الرغم من أن تلك اللقاءات قد ساعدت على تلطيف الأجواء وحل بعض المشاكل الثانوية إلا أن التحفظات ظلت قائمة ولم تتمكن الأطراف المتفاوضة من تجاوز عقد الإقليمية التي غرستها فيهم سلطات الاستعمار، ولم تتوقف القوات التونسية والقوات المغربية، كل واحدة على حدودها، عن مهاجمة مراكز جيش التحرير الوطني الجزائري وحجز كميات كبيرة من الأسلحة الموجهة إليه عن طريق البحر، ولم تنج حتى المؤن والأغطية والملابس والأدوية المخصصة للاجئين. 2 - العمل على إعادة إحياء الاتفاق المبرم بتاريخ الواحد والعشرين من شهر جانفي سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف بين جيش تحرير المغرب وجيش التحرير الوطني الجزائري والذي مفاده أن الطرفين لن يتوقفا عن الكفاح المسلح حتى يسترجع المغرب العربي كله ¬

_ (¬1) انظر الملحق رقم 8.

استقلاله التام. ويؤكد الاتفاق أن قضية شمال إفريقيا قضية شعب واحد "غلب على أمره على يد مستعمر واحد في ظروف واحدة ولو اختلف التاريخ" (¬1). 3 - العمل بجميع الوسائل على تحميس الشعب العربي في كل من تونس والمغرب الأقصى حتى يستمر في ضغطه على السلطات الرسمية من أجل إبقائها ملتزمة بمساندة الكفاح المسلح في الجزائر وعدم الرضوخ للتهديدات الصادرة عن الحكومة الفرنسية. 4 - العمل على إقناع الطرفين المغربي والتونسي بسلامة موقف جبهة التحرير الوطني الذي يطرح الاعتراف بالاستقلال شرطاً مسبقاً للدخول في أي تفاوض مع السلطات الاستعمارية. 5 - تشجيع المغرب وتونس على مواصلة العمل، الدولي من أجل بلورة الحل المغاربي للقضية الجزائرية وذلك في إطار التوصية التي صادقت عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 11/ 12/1957 (¬2). أما بالنسبة للعلاقات الخارجية، وفي إطار تدويل القضية الجزائرية كما جاء ذلك في بيان الفاتح من نوفمبر، لاحظت الدورة الأولى للمجلس الوطني أن فرنسا لم تغير سياستها التي تجعل الجزائر مجموعة من العملات الفرنسية لا يحق لأي تنظيم خارجي، بما في ذلك الأمم المتحدة، أن تتدخل في شؤونها. وعلى الرغم من المناورات الديبلوماسية الهادفة إلى تخدير الرأي العام العالمي بواسطة إبداء الاستعدادات الوهمية للتفاوض مع ممثلي جبهة التحرير الوطني (¬3)، فإن الحكومة الفرنسية لم تقطع أية خطوة من شأنها التدليل على نيتها في التوصل إلى حل يأخذ في الاعتبار طموحات الشعب الجزائري في استرجاع ¬

_ (¬1) حربي، جبهة التحرير الوطني، ص212 (¬2) كانت بالإجماع المصادقة وتغيب فرنسا وجنوب إفريقيا عن التصويت وجاء في هذه اللائحة: أن الأمم المتحدة تسجل بارتياح الوساطة التونسية المغربية وتدعو إلى مفاوضات مباشرة. (¬3) بدأت الاتصالات بين جبهة التحرير الوطني وحكومة في مولي ببلغراد عاصمة يوغسلافيا في نهاية شهر جويلية سنة 1956 ثم استمرت بروما في شهر سبتمبر من نفس السنة. وقد كان يمثل جبهة التحرير الوطني في كل هذه اللقاءات وإلى غاية يوم 5 سبتمبر: السيد محمد خيضر مرفوقاً بالسيدين محمد يزيد وكيوان. أما الجانب الفرنسي فكان يمثله السيدان: بيار كومين وبيار هاربو وكلاهما أمين عام مساعد للفرع الفرنسي للدولة العمالية التي كان مولي نفسه هو أمينها العام. وأما آخر لقاء بين الطرفين فقد كان في بلغراد بتاريخ 22/ 9/1956 وكان رئيس وفد جبهة التحرير الوطني هو الدكتور محمد الأمين دباغين وفي جويلية سنة 1957 استؤنفت هذه الاتصالات عن طريق الآنسة جرمان تبون رئيسة دوان السيد جاك ستيل.

في اتجاه الأمم المتحدة

استقلاله، لأجل ذلك، أصدرت الدورة لائحة تدعو، من خلالها، إلى تكثيف النشاط الخارجي الذي أوصت بأن يكون في اتجاهات ثلاثة: 1 - في اتجاه الأمم المتحدة: لقد أثبت مجلس الأمن أنه قادر على التدخل لتسوية القضايا المعقدة عندما وضع حداً للاحتلال الهولندي في أندونيسيا سنة تسع وأربعين وتسعمائة وألف. لكن فيما يخص الجزائر، فإن فرنسا تملك حق الفيتو، وعليه فإن جبهة التحرير الوطني مضطرة للتركيز على الجمعية العامة معتمد على نص المادة العاشرة من ميثاق الأمم المتحدة الذي يؤكد المسطور في الميثاق المذكور. وإقناع الجمعية العامة للأمم المتحدة بعدالة القضية الجزائرية ليس بالأمر الهين خاصة إذا علمنا أن الولايات المتحدة الأمريكية تقف وراء الدبلوماسية الفرنسية، يكفي للتدليل على ذلك نص الفقرة التالية المقتطفة من الندوة الصحفية التي عقدها السيد جون فوستر دلاس (¬1) يوم 4/ 2/11957 بمناسبة أشغال الدورة الحادية عشر للأمم المتحدة: "إن الولايات المتحدة الأمريكية مقتنعة بأن الجمعية العامة للأمم المتحدة لا يمكن أن تقدم أية لائحة عملية حول القضية الجزائرية. أتمنى أن لا تحاول ذلك الوضع في الجزائر معقد جداً، ولا أدري إذا كان يمكن التوصل إلى صياغة نص ذي قيمة في الموضوع، بل إني أشك حتى في جدوى العمل على إيجاد مثل ذلك". وأمام اللجنة السياسية التي كانت مجتمعة عشية انعقاد الدورة الموالية. صرح هنري كابت لودج قائلاً: "ينبغي، في الوقت الراهن، إعطاء فرنسا إمكانية إرساء قواعد التطور السياسي الذي يضمن لسكان الجزائر تحقيق طموحاتهم في السلام والاستقرار (¬2). ولم تستسلم جبهة التحرير الوطني لذلك التحيز المعلن، بل إن لجنة التنسيق والتنفيذ قد جندت أكثر الإطارات كفاءة من أجل النفاذ إلى أوساط الطبقات الحاكمة في جميع الدول الغربية وفي مقدمتها بريطانيا، أمريكا، إيطاليا، وألمانيا واستطاعت في بداية الأمر، أن تستميل رجال الأعمال وتجار الأسلحة ثم تمكنت، بالتدريج من ربح ثقة في التشكيلات السياسية التي لم تلبث أن تبنت ¬

_ (¬1) من مواليد واشنطن سنة 1888 وقد توفي بها سنة 1959 كان محامياً وسياسي، عينه الرئيس إيزنهاور كاتباً للدولة سنة 1952. (¬2) انظر المجاهد، اللسان المركزي لجبهة التحرير الوطني، العدد 18 الصادر بتاريخ 15/ 2/1958. ص:3 وما بعدها.

في اتجاه المنظمة الأفرو آسيوية

القضية الجزائرية وصارت تناضل في سبيل تسويتها على أساس الاستقلال الوطني. 2 - في اتجاه المنظمة الأفرو آسيوية: لقد وجدت الثورة الجزائرية، منذ الأسابيع الأولى لاندلاعها، سنداً قوياً في دول إفريقيا وآسيا. ويرجع الفضل في ذلك، بادئ الأمر، إلى روابط العروبة والإسلام التي وظفت إلى أبعد الحدود من أجل تدويل القضية الجزائرية وفتح المجال الديبلوماسي العالمي أمام جبهة التحرير الوطني. ففي شهر جانفي سنة خمس وخمسين وتسعمائة وألف (¬1) تحركت المملكة العربية السعودية بواسطة الرسالة إلى مجلس الأمن تطالبه فيها بالتدخل السريع لإيقاف الحملات القمعية التي تمارسها فرنسا الاستعمارية في الجزائر. وبعد ذلك بحوالي ثلاثة أسابيع طلبت مجموعة من الدول الأقرو آسيوية إدراج القضية الجزائرية في جدول أعمال الدورة العاشرة للأمم المتحدة (¬2). وفي سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف. وفي اليوم الثالث عشر من شهر جوان، طلبت ثلاث عشرة دولة إفريقية آسيوية من مجلس الأمن أن يعقد جلسة عاجلة لإنهاء الحرب الدائرة رحاها في الجزائر. رفض ذلك، فإن مجموعة أخرى من البلدان الأقرو آسيوية قد طلبت، في الأول من أكتوبر عام ستة وخمسين وتسعمائة وألف إدراج القضية الجزائرية في جدول أعمالها الحادية عشر (¬3). وفي السادس عشر من شهر جويلية سنة سبع وخمسين وتسعمائة وألف طلبت إدراجها في جدول أعمال الدورة الثانية عشرة. وفي كل واحدة من هذه المرات كانت الجمعية تتخذ قرارات إجماعية تعرب فيها عن أملها في أن تتوقف الحرب في الجزائر بواسطة التفاوض بين فرنسا وجبهة التحرير الوطني. لكن، في كل مرة، كانت فرنسا تضرب عرض ¬

_ (¬1) تلقى مجلس الأمن الرسالة لكنه أهملها ولم يتخذ أي إجراء من شأنه المساعدة على تسوية القضية الجزائرية. (¬2) لقد درست اللجنة العامة هذا الطلب لكنها رفضت إدراج القضية في جدول أعمال الدورة العاشرة، وعلى الرغم من ذلك فإن الجمعية العامة تجاوزت قرار لجنتها وشرع الأعضاء في مناقشة المشكل الجزائري، ثم تدخلت أطراف متعددة في مقدمتها أمريكا وبريطانيا وسحب الموضوع ترضية لفرنسا. (¬3) بعد البحث والدراسة الوافية للموضوع صادقت الجمعية العامة على لائحة تعرب فيها عن أملها في أن تحل القضية الجزائرية حلاً ديمقراطياً وعادلاً يتماشى مع قرارات الأمم المتحدة.

في اتجاه الحلف الأطلسي

الحائط بتوصيات الجمعية العامة مستغلة عضويتها في مجلس الأمن وما يتبع ذلك من حق استعمال الفيتو. ولقد درست الدورة الأولى للمجلس الوطني للثورة الجزائرية هذا الوضع، وإذ ثمنت الجهد المبذول من طرف عدد كبير من الدول الأفرو آسيوية، فإنها قررت تشكيل وفود متعددة تتحرك في جميع المناسبات ولا يبقى العمل مقصوراً على دورات الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن وكان لنشاط تلك الوفود أثر فاعل لم يلبث أن تجسد في مؤتمر التضامن الأفرو آسيوية المنعقد في القاهرة بتاريخ السادس والعشرين من شهر ديسمبر سنة سبع وخمسين وتسعمائة وألف (¬1). 3 - في اتجاه الحلف الأطلسي: تنص المادة الرابعة من ميثاق الحلف الأطلسي على أن المنظمة "تجتمع كلما بدا لواحد من أطرافها أن سلامة ترابه الوطني واستقلاله السياسي أو أمنه مهدد". ولقد تمكنت فرنسا أثناء وضع الميثاق المذكور سنة تسع وأربعين وتسعمائة وألف من أن تجعل المادة السادسة تنص بصريح العبارة على أن الاعتداء على الجزائر يعتبر اعتداء على فرنسا. ولقد استغل بعض السياسيين والبرلمانيين الفرنسيين وجود هذين النصين فراحوا يدفعون حكومتهم إلى المطالبة بتدخل الحلف مباشرة لخنق أنفاس الثورة في الجزائر. وكان أعضاء المنظمة يعرفون حقيقة ما يجري في الجزائر، ويدركون أنه يتنافى مع روح المادة السابقة من ميثاقهم التي تمنع المساس بالحقوق المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة وفي مقدمتها حق الشعوب في تقرير مصيرها، لكنهم، رغم ذلك، كانوا متعاطفين مع فرنسا بسبب ما يجمع بينهم من منطلقات استعمارية وإمبريالية، ولقد جاء التعاطف المذكور مجسداً في مواقف كل من أمريكا وبريطانيا على مستوى مجلس الأمن وكذلك في غض الطرف عن تحويل فرنسا لقواتها العسكرية من قواعد الحلف الأطلسي إلى داخل التراب الجزائري وهي محملة بأرقى ما أنتجته المصانع الحربية في الولايات المتحدة ¬

_ (¬1) قرر المؤتمر أن يكون يوم 30 مارس من كل سنة هو يوم التضامن مع الشعب الجزائري وأوصى بأن يعمل كل بلد على: -تأسيس اللجان الوطنية من أجل تحرير الجزائر بواسطة جمع الأموال والأدوية والأغذية -توجيه نداء إلى شعوب العالم كله من أجل مساعدة الجزائر بجميع الوسائل - توجيه نداء إلى جميع الحكومات الآفرو آسيوية قصد تذكيرها بضرورة الدفاع عن القضية الجزائرية أمام سائر الهيئات الدولية.

خلاصة الفصل

الأمريكية وفي إنكلترا. فأمام هذا الوضع المتحيز الصارخ، قرر المجلس الوطني للثورة الجزائرية تعبئة أقصى ما في حوزة جبهة التحرير الوطني من إمكانيات من أجل النفاذ إلى مختلف مستويات القرار في البلاد الغربية عامة وفي أمريكا وبريطانيا على وجه الخصوص، وبفضل تحركات الكتلة الآفرو آسيوية وبعض مواقف المعسكر الاشتراكي، استطاعت القضية الجزائرية أن تفرض نفسها على الساحة الدولية وبالتدريج أصبحت الشعوب الغربية نفسها تتحدى حكومة فرنسا وتعلن عن مواقفها المساندة لكفاح الشعب الجزائري بقيادة جبهة التحرير الوطني (¬1). خلاصة الفصل: هكذا، إذن، يتضح من خلال هذا الفصل أن جبهة التحرير الوطني حاولت بالتوجيهات الرئيسية الواردة في مشروع المجتمع الذي تضمنته وثيقة وادي الصومام، وعلى الرغم من الصعوبات التي ظهرت في الميدان بالنسبة لجناحيها السياسي والعسكري، وعلى الرغم من أن فرنسا ألقت بكل ثقلها المادي والبشري في ميدان المعركة، فإن الثورة قد تجذرت في أوساط الجماهير الشعبية التي اطمأنت للتنظيم المحكم وللانتصارات الكثيرة والمتنوعة التي اطمأنت لم يعد قادراً على إخفائها. وأمام ذلك الوضع الجديد، ونظراً لقرار وادي الصومام المتعلق بإمكانية إسناد المناصب القيادية العليا إلى الإطارات القادمة من التشكيلات السياسية التي لم تكن تؤمن بضرورة انتهاج الكفاح المسلح كطريقة وحيدة لاسترجاع السيادة المغتصبة ونظراً، كذلك، للتكوين العالي والخبرة الواسعة التي كان يتمتع بها هؤلاء الإطارات بالمقارنة مع نظرائهم المكونين في صفوف حركة الانتصار للحريات الديمقراطية، فإن نوعاً من الانحراف قد بدأ يتسرب إلى المنطلقات الأيديولوجية نفسها (¬2)، وساعد على ذلك ظهور التنافس على المسؤولية في أعلى ¬

_ (¬1) تجلت هذه المواقف خاصة في نشاط الصليب الأحمر العالمي والحركات النقابية، وأهم ما تجدر الإشارة إليه نداء اتحادية نقابة العمال. (¬2) مثل التخلي بالتدريج، عن الإطار الإسلامي والعروبي الذي كان حزب الشعب الجزائري قد ضبطه وظل ملتزماً به لبناء الدولة الجزائرية المستقلة، ومثل اللجوء إلى بعض المصطلحات والمفاهيم المركزية التي سوف نتعرض لها بالتفصيل في الباب التالي، ومثل عدم السهر على تكوين إطارات جبهة وجيش وطني طبقاً لما تقتضيه أيديولوجية الحركة المصالية التي سبقت الإشارة إليها في الفصل الثالث.

هرم السلطة بالإضافة إلى تمكن الثقافة الغربية من ذهنيات عدد كبير من المسؤوليين القياديين في جبهة التحرير الوطني في الخارج لأن الداخل سيظل سليم التوجه بفعل تأثير القواعد التي لا يمكن أن ترضى بأي بديل عن عروبتها وإسلامها. وبالفعل، فإن أدبيات جبهة التحرير الوطني التي كانت تنشر على أعمدة لسانها المركزي أو في شكل منشورات وكتيبات قد تتلون بألوان مختلفة وتجندت جهتان على الأقل للتأثير في أيديولوجية الثورة الجزائرية، فمن ناحية، هناك ما يسمى بالتيار التحرري في فرنسا، فأصحاب هذا التيار هم الذين أطلقوا على أنفسهم هذه التسمية لإيهام الوطنيين الجزائريين والرأي العام العالمي بأن ثمة، في صفوف الشعب الفرنسي، من يرفض الاستعمار ويناهض ممارساته اللاإنسانية ولذلك فهم يساندون الكفاح الذي يخوضه الشعب الجزائري في سبيل استرجاع استقلاله الوطني، وفي الواقع فإنهم إنما يخططون لمستقبل بلادهم بواسطة العمل بجميع الوسائل على احتواء العناصر الأكثر تأثيراً في قيادات الثورة وجعلهم ينبهرون أمام شعارات جوفاء مثل الديمقراطية واللائكية والمبادئ الجمهورية وحقوق الإنسان وغيرها مما هو مستنبط من التاريخ الأوربي ولا علاقة له بالمجتمع العربي الإسلامي في الجزائر. أما الجهة الثانية فتتمثل في المعسكر الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفياتي الذي أدرك أن الحزب الشيوعي الجزائري قد أخفق في أن يجد لنفسه مكانة محترمة في قيادة الثورة فراح يجند الديمقراطيات الشعبية التي تدور في فلكه لمواجهة التوسع الرأسمالي في المنطقة. لقد كان من المفروض، في نظر الاتحاد السوفياتي، أن يكون الحزب الشيوعي الجزائري هو قائد الثورة أو، على الأقل، هو طليعتها التي بيدها التخطيط والتوجيه. لكن الحزب الشيوعي الجزائري عجز عن الإلتحام بالجماهير الشعبية وربح ثقتها وذلك بسبب الفكر الماركسي الذي ينطلق منه والذي يتنافى، في كثير من المواطن، مع الدين الإسلامي الذي هو دين الشعب الجزائري من جهة، وبسبب تبعية الشيوعيين الجزائريين للحزب الشيوعي الفرنسي الذي ينكر وجود الأمة الجزائرية بمفهومها الوطني ويرفض، عن قناعة، استقلال الجزائر عن الإمبراطورية الفرنسية (¬1). ¬

_ (¬1) thorez (Maurice) textes choisis sur l,algerie, paris

لأن تحرك هذين التيارين من أجل النفاذ بقوة في أوساط الثورة الجزائرية بالخارج قد ولد بالتدريج مجموعة من المصطلحات والمفاهيم الغربية التي سوف تكون منطلقاً لكثير من الغموض الذي سيجعل الانحراف يبلغ أوجه في مؤتمر طرابلس سنة اثنين وستين وتسعمائة وألف. ومن جملة تلك المصطلحات والمفاهيم التي انتشرت بسرعة كبيرة كان لها مفعول سيئ على مسار الثورة نذكر على سبيل المثال: الباءات الثلاثة، العسكريون، المحافظون، المعتدلون، التقدميون، المتشددون الرجعيون العرب والقبائل (¬1). ومما لا شك فيه أن تداول هذه المصطلحات وهذه المفاهيم المزيفة في وسائل الإعلام الفرنسية والغربية بصفة عامة قد رسخها في الأذهان وجعلها، شيئاً فشيئاً، تتحول إلى نوع من المعتقدات التي نخرت جسم الثورة وساعدت على تشتيت قواها الحقيقية بالإضافة إلى فتح أبواب واسعة أمام جحافل المخترقين من الأعداء والانتهازيين. لكن أول خطوة في طريق الانحراف الأيديولوجي القاتل تبقى هي إلغاء مبدأ العمل الجماعي من طرف أقوى عناصر لجنة التنسيق والتنفيذ عندما قرروا ثم نفذوا إعدام رفيقهم الشهيد عبان رمضان دون محاكمة وسبب معلوم وخاصة دون الرجوع إلى المجلس الوطني للثورة الجزائرية الذي هو وحده مؤهل للنظر في مثل هذه القضية. ولم تبق هذه الخطوة يتيمة بل تكررت بالنسبة لقرارين حاسمين في تاريخ الكفاح المسلح وهما: نقل الحرب إلى فرنسا وتأسيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية (¬2). إن الأمر هنا، لا يتعلق بتقييم القرارين في حدهما إيجابيان ومفيدان للثورة ما في ذلك شك، وقد أثبت التاريخ ذلك، ولكن الطريقة المستعملة في اتخاذهما تشكل انتهاكاً صارخاً لصلاحيات المجلس الوطني للثورة الجزائرية، وسوف ¬

_ هناك نصان على الأقل يوضحان الموقف الشيوعي من جبهة التحرير الوطني ومن استرجاع الجزائر استقلالها. ففي الأول موريس توريز: إن الوسائل التي تستعملها جبهة التحرير الوطني في فرنسا لا تخدم قضية الشعب الجزائري، وإذا كانت جبهة التحرير الوطني تهدف إلى تثوير الرأي العام، فإنها قد أخطأت في الحساب لأنها إنما تثير العداوة ضدها"، توزير إلى الشيوعيين وأنصارهم ليقولوا "لا" للسؤال المطروح بواسطة استفتاء يوم 8/ 1/1961 والذي يقول: "هل توافقون على مشروع القانون المتعلق بتقرير الشعب الجزائري لمصيره: انظر كذلك اليتسر هورن تاريخ حرب الجزائر، ص. 333 وص.450. (¬1) لقد سبقت الإشارة إلى هذه المصطلحات والمفاهيم الزائفة في هذا الفصل. (¬2) اتخذ هذان القرارن أثناء اجتماع لجنة التنسيق والتنفيذ بتاريخ 9/ 9/1958.

تتحول بالتدريج إلى قاعدة يلجأ إليها الأقوى كلما أراد الانفراد بالسلطة. وعندما نرجع الأمور إلى حقيقتها نقول بكل بساطة، إن الذين استعملوا هذه الطريقة أول مرة (¬1) هم الذين فتحوا باب الانقلابات العسكرية في تاريخ الثورة الجزائرية وقد كانوا هم أنفسهم ضحية لها سنة اثنين وستين وتسعمائة وألف .. ••• ¬

_ (¬1) هم الباءات الثلاث أو: ابن طبال لخضر المدعو سي عبد الله، بلقاسم كريم وعبد الحفيظ بو الصوف.

الباب الثالث التحولات الفكرية الكبرى

الباب الثالث التحولات الفكرية الكبرى

الفصل الأول الإثراء الثالث لنصوص جبهة التحرير الوطني

الفصل الأول الإثراء الثالث لنصوص جبهة التحرير الوطني - الضباط الجزائريون القادمون من الجيش الاستعماري - مناورات الجنرال ديغول وحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره بنفسه. - المجلس الوطني للثورة الجزائرية في دورته الثانية. ••

الضباط الجزائريون القادمون من الجيش الاستعماري

- الضباط الجزائريون القادمون من الجيش الاستعماري خط موريس من أخطاء تجسدت، بالتدريج، في منع الإمدادات المادية والبشرية من الوصول إلى داخل الوطن حيث أصبحت كل الولايات في حاجة ماسة إليها نظراً للعمليات المكثفة (¬1) التي جند لها الجنرال شارل أكثر من نصف مليون جندي لتمشيط الجزائر من الغرب إلى الشرق. فهذان المبرران هما اللذان جعلا كريم يفصل لصالح أولئك الضباط في صراعهم مع خصومهم المشار إليهم أعلاه، وقد عبر في تحيزه لهم بواسطة تعيين الرائد مولود ايدير (¬2) رئيساً لديوانه العسكري وتكليفه بإعداد مشروع بناء نظامي على الحدود يتولى الإشراف عليه الضباط الجزائريون المكونون في صفوف الجيش الإستعماري. وعلى الرغم من أن الرائد مولود إيدير قدم مشروعه (¬3) إلى لجنة التنسيق والتنفيذ بتاريخ التاسع عشر من تاريخ جويلية سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف، فإن كريم بلقاسم لم يتمكن من تمريره وجعله يحظى بالموافقة الجماعية، بل أن ضباط جيش التحرير الوطني قد وجدوا في ذلك عاملاً أساسياً للتضامن والتوحد اللذين مكنا في إجهاض المشروع وسدّ طريق المسؤولية الحقيقية في وجه الضباط القادمين من الجيش الفرنسي (¬4) وسوف يظل هذا الخلاف قائماً إلى ¬

_ (¬1) تعرف هذه العمليات إجمالاً بمخطط شال، وكانت في تفرعها تأخذ أسماء مختلفة مثل: اكلار (البرق) وجيمال (التوأمان) وقد استمرت من ديسمبر 1985 إلى فيفري 1960. (¬2) كان رائد في الجيش الفرنسي عندما التحق بجبهة التحرير الوطني وعين مسؤولاً عسكرياً عن الحدود الجزائرية الليبية ثم استدعاه كريم ليكون رئيساً لمكتبه العسكري سنة 1958. وعندما قوي جانب خصوم كريم عين سفيراً لدى الباكستان سنة 1960. (¬3) يحدد هذا المشروع رجال جيش التحرير بعدد 160000 جندي منهم 5000 ضابط و 16000 ضابط صف و 000و25 عريف، وفي جميع مستويات الجيش يطبق الإنضباط العسكري المعروف في صفوف الجيش الفرنسي. أما القادة المناضلون فيسرحون باعتبارهم ينطوون على بذور الفوضى. (¬4) حربي (محمد) جبهة التحرير الوطني، ص 232وما بعدها.

أن يقع الإنقلاب التاسع عشر من شهر جوان سنة خمس وستين وتسعمائة وألف ويقوم العقيد هواري بومدين بترجيح كفة هؤلاء الأخيرين وتمكينهم من السلطة الفعلية التي ستساعدهم بالتدريج على تصفية الإطارات الذين قامت الثورة على أكتافهم (¬1). ولقد كان الفصل في الموضوع بالكيفية التي لجأ إليها بلقاسم كريم. قد أفقد هذا الأخير سمعته الطيبة التي يتمتع بها في أوساط مختلف ولايات الوطن بالإضافة إلى أنه حول معظم ضباط جيش التحرير الوطني على الحدود الشرقية والغربية إلى خصوم صاروا يعملون بكل الوسائل على طرده ومن معه من القيادة العليا ودخلت الثورة في الأراضي التونسية خاصة مرحلة حرجة تميزت بالفوضى وعدم الإنضباط وبالاستعداد الفعلي للإنقلاب لكن الباءات الثلاث، وفي جو من التضامن بينهم، سبقوا الأحداث فتمردوا على المجلس الوطني للثورة وأعلنوا، باسم لجنة التنسيق والتنفيذ، عن ميلاد الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية كما أشرنا إلى ذلك في الفصل السابق. وعلى الرغم من تمكن الباءات الثلاث من إجهاض المحاولة التصحيحية التي قام بها كل من العقداء محمد (¬2) لعموري ومصطفى لكحل، فإن قيادات الداخل قد عقدت ندوة بأراضي الولاية استمرت من اليوم السادس إلى اليوم الثاني عشر من شهر ديسمبر سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف (¬3) وصادقت على محضر جلساتها ثم أرسلته إلى الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بواسطة الرائد عمر أو صديق (¬4). ومن الجدير بالذكر أن هذا المحضر قد تضمن نقداً لاذعاً للطريقة التي ¬

_ (¬1) استطاع عبد القادر شابو الذي عينه بومدين أميناً عاماً لوزارة الدفاع أن يصفي صفوف الجيش الوطني الشعبي من ضباط جيش التحرير الوطني في ظرف خمس سنوات فقط وأسند كل مناصب الحل والربط لرفاقه القادمين من الجيش الفرنسي. لقاء مطول مع الرائد عبد المجيد كحل الرأس في بيته يوم 12/ 04/1972. (¬2) أنظر التفاصيل في الفصل السابق. (¬3) حضر هذه الندوة العقيد عميروش قائد الولاية الثالثة وهو صاحب الدعوة، والعقيد العبيدي الحاج لخضر قائد الولاية الأولى والعقيد أحمد بن عبد الرزاق، قائد الولاية السادسة، والعقيد بوقرة سي امحمد قائد الولاية الرابعة، حين لم يستجب للدعوة العقيد لطفي قائد الولاية الخامسة واعتذر عن المشاركة العقيد علي كافي قائد الولاية الثانية المستضيفة للندوة. (¬4) كان عضواً بمجلس الولاية الرابعة عندما تأسست الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وعين بها كاتب للدولة.

مناورات الجنرال ديغول وحق الشعب الجزائري في تقرير المصير

تم بها تأسيس الحكومة، واشتمل على توبيخ للقيادة على تقاعسها وتهاونها بالنسبة لعملية التسليح التي توقفت نهائياً بسبب خطي موريس وشال. وورد في المحضر، دعوة إلى العودة للمبادئ التي وضعها مؤتمر وادي الصومام وخاصة منها أولوية الداخل على الخارج والقيادة الجماعية. وفي النهاية أعلن الحاضرون عن تأسيس لجنة التنسيق فيما بين الولايات لأن (الثورة لا يمكن تسيّرها بقيادة أركان مقرها خارج الحدود) (¬1). ففي الثاني عشر من شهر مارس سنة تسع وخمسين وتسعمائة وألف تسلمت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية المحضر المذكور واستمعت إلى شروح وافية في الموضوع قدمها كاتب الدولة الرائد عمر أو صديق (¬2). بعد ذلك بدأت المهمات في إتجاه عواصم الوطن العربي وآسيا وبعض البلدان الأوربية (¬3). وفي التاسع والعشرين من شهر جوان عادت كل الوفود إلى القاهرة حيث اجتمعت الحكومة برئاسة السيد فرحات عباس، وفي أثناء الإجتماع وقع إصطدام حاد بين العقيدين كريم ومحمود شريف (¬4) كاد أن يقود إلى استعمال الأسلحة ثم رفعت الجلسة وتقرر إستدعاء المجالس التي أصبحت تعرقل حسن سير الثورة. مناورات الجنرال ديغول وحق الشعب الجزائري في تقرير المصير: لقد مرت الثورة الجزائرية بمرحلة حرجة خلال سنة ثمان وخمسين ¬

_ (¬1) فرحات عباس، تشريح حرب، الفجر، باريس 1980 ص: 256. يذكر الكاتب أن عمر أو صديق أسر له بأن عميروش عازم على أن لاتبقى في الخارج سوى مندوبية يسيرها شخص واحد هو فرحات عباس، أما في قيادة جبهة التحرير الوطني فإنهم سيجبرون على العودة إلى أرض الوطن وتسند القيادة العليا إلى ضباط برتبة جنرال قد يكون عميروش نفسه. (¬2) نفس المصدر، ص: 258، يذكر عباس أن عرض أو صديق أدخل الرعب على النفوس وحير قدماء قادة الولايات بإخبار مزعجة تتعلق بمخطط شارل وبعمليات التعذيب والتقتيل التي استهدفت إطارات الثورة خاصة في الولايتين الثالثة والرابعة نتيجة النشاط الذي قامت به مصالح الإستعملات الفرنسية. (¬3) بدأت هذه المهام بوفد رئاسي توجه إلى تونس يوم 22/ 03/59 ثم عاد إلى القاهرة ليقابل عبد الناصر قبل أن يتوجه إلى الهند والباكستان والعراق وغيرها من البلدان الشقيقة والصديقة وانتهت بزيارة يوغسلافيا حيث كان اللقاء مع المارشال تيتو يوم 12/ 02/1959. (¬4) فرحات عباس، تشريح حرب، ص 268 وما بعدها.

وتسعمائة وألف، وبدأ ذلك بالإعتداء على مبادئ التسيير التي وضعها مؤتمر وادي الصومام وخاصة مبدأ القيادة الجماعية عندما قرر ثلاثة من أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ إعدام رفيق لهم دون، الرجوع إلى باقي أعضاء اللجنة ودون تقديم أي مبرر غير الجري وراء السلطة. إن إغتيال عبان رمضان في شهر ديسمبر عام 1957 قد تسبب في تجميد نشاط لجنة التنسيق والتنفيذ لمدة تزيد عن ثلاثة أشهر، وفي زرع بذور الشك في أذهان مختلف العناصر القيادية إلى درجة أن الثقة المتبادلة اختفت نهائياً. وقد إنعكس ذلك سلباً على سائر نشاطات جبهة التحرير الوطني وجعل معظم الطاقات تتصرف إلى الإحتراس من الآخر والتفنن في إيجاد وسائل الأمن الفردية، وفي نفس الوقت كانت السلطات الاستعمارية تقيم حاجز موريس (¬1) وتعمل على دعمه بخط شال. وإبتداء من الفصل الأول لسنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف أصبح الحاجز مستحيل الإجتياز إلا إذا وافقت وحدات جيش التحرير الوطني على ترك ثلاثة أرباعها في الميدان مقابل ربع قد يصل إلى الأراضي الجزائرية، ورغم كل ذلك فإن السيد كريم بلقاسم ظل يوهم القيادة بأن الأسلاك المكهربة لا تشكل صعوبة تذكر في وجه قواتنا المقاتلة. (¬2) لكن ذلك لم يكن هو رأي مسؤول التسليح العقيد وأعمران الذي وجه إلى لجنة التنسيق والتنفيذ تقريراً يحمل تاريخ الثامن من شهر جويلية سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف جاء فيه: "أن جيش التحرير الوطني الذي بلغ أوجه قوته من حيث العدد والسلاح يصاب حالياً بخسائر فادحة، إذ فقد في ظرف شهرين فقط أكثر من ستة آلاف مجاهد في منطقة عنابة وحدها. وإذا كنا في العام الماضي قد أوصلنا إلى الداخل أسلحة كثيرة، فإن تجديدها وتزويدها بالذخيرة قد أصبح الآن صعباً جدّاً بسبب الأسلاك المكهربة وما تتضمنه ¬

_ (¬1) شرع في بناء خط موريس في شهر جوان 1957 وهو مزدوج من الأسلاك الشائكة المكهربة يمتد من البحر الشرقي في مدينة عنابة إلى قرية نقرين بوادي سوف على بعد حوالي عشرين كلم فقط من الأراضي التونسية ويهدف إلى سد المنافذ الجبلية المقابلة لقواعد جيش التحرير الوطني. وأما على الحدود الغربية فهو مقسم إلى شمالي بسد الأطلس التلي في مواجهة مدينة وجدة وجنوبي بسد الأطلس الصحراوي في مواجهة فقيق. (¬2) المجاهد، العدد 23 ص439 وما بعدها.

فجواتها من حقول الألغام" (¬1). وإلى جانب خط موريس كانت هناك الظاهرة الديغولية التي عم مفعولها البسيكولوجي مختلف أنحاء الجزائر ابتداءً من الثالث عشر من ماي سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف. فالدعاية الإستعمارية إستطاعت في ظرف قصير جداً أن تثبت في أذهان المواطنين الجزائريين عظمة الجنرال ديغول وقدرته على تسوية المشكل الجزائري واستعداده لتحقيق السلم في ربوع البلاد، ولم ينجوا من تأثير هذه الغاية حتى بعض كبار المسؤولين في جبهة التحرير الوطني وفي التنسيق والتنفيذ بالذات (¬2). إن الجنرال ديغول يعدّ من أعظم الرؤوساء الذين عرفتهم فرنسا، ما في ذلك شك، وعظمته هي بالضبط ما يكذب الدعاية الاستعمارية المذكورة، وقد أورد هو نفسه في مذكراته ما يدعم قولنا هذا عندما توقف طويلاً عند المسألة الجزائية مؤكداً ((رجالاً تاريخيين أمثال دويرمون (¬3) وبيجو (¬4) وكلوزيل (¬5) وهم الذين بذلوا جهوداً جبارة من أجل إلحاق الجزائر بفرنسا. وليس من المعقول أن تضيع هذه المستعمرة في عهد حكومتنا)) (¬6). لأجل ذلك فإنه فكر وقدر ثم وضع بنفسه خطة للقضاء على الثورة ترتكز على دعائم أساسية هي: أ- التنمية الإقتصادية قصد تشغيل المواطنين وعزلهم عن جبهة التحرير الوطني وقد وظف لذلك أرصدة مالية كبيرة في إطار مايسمى بمشروع قسنطينة الذي أعلن عن ميلاده والشروع في تجسيده يوم الثالث من شهر أكتوبر سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف. ¬

_ (¬1) نجد تأكيداً لهذا التبرير في كتاب فليب تريبي: تشريح حرب الجزائر، ص 205 وما بعدها. (¬2) تشريح حرب، ص 241، يقول عباس فرحات: "من وجهة نظري فإن الجنرال كان قادراً على تسوية مشاكلنا إلا أنه لم يكن يمينياً ولا يسارياً، بل كان هو ضمير فرنسا. (¬3) من مواليد 1773. عين وزير للحربية الفرنسية سنة 1846 ثم قاد الحملة إلى الجزائر ووقع مع الداي وثيقة الإستسلام ورقي إلى رتبة مرشال فرنسا سنة 1832 وتوفي عام 1846 أنه لم يكن يمينياً ولا يسارياً بل هو ضمير فرنسا. (¬4) جنيرال فرنسي أرسل إلى الجزائر لمحاربة الأمير عبد القادر سنة 1836، وقع معاهدة التافنة سنة 1837 وفي سنة 1840 عين حاكماً عاماً للجزائر فمارس فيها سياسة الأرض المحروقة وإستقال من الجيش سنة 1847. ومات بعد ذلك بقليل مصاباً بمرض الطاعون. (¬5) عين حاكماً للجزائر بعدما أن خرج منها ديومون سنة 1830:هزيمة أحمد باي أمام قسنطينة 1836. توفي بعد أن عين مرشال فرنسا سنة 1842. (¬6) مذكرات الجنرال ديغول، الأمل، ص71.

ب- إيهام الرأي الفرنسي والعالمي بالجنوح إلى السلم قصد الحد من الإنتصارات التي حققتها وتحققها جبهة التحرير الوطني في حظيرة الأمم المتحدة ولدى منظمات الجمهورية المختلفة. ففي هذا الإطار أعلن، في اليوم الرابع من أكتوبر من نفس السنة أنه يأمر العسكريين بمغادرة لجان السلامة العامة (¬1) وفي اليوم الثالث والعشرين من ذات الشهر عرض على جيش التحرير الوطني ما يسمى بسلام الشجعان. ج- إعادة تنظيم الجيش وتزويده بأحدث أنواع الأسلحة مع أمره بتكثيف العمليات العسكرية الهجومية، وبهذا الصدد استدعى الجنرال صالان إلى باريس واستبدله في اليوم الثاني من شهر ديسمبر بالجنرال شال كقائد عام للقوات المسلحة وبول دولوفريبي كمندوب عام لفرنسا في الجزائر. وإذا كان الجنرال ديغول في العلانية يبدي نفس الإهتمام بالدعائم الثلاث المذكورة، فإنه في الواقع، كان يراهن فقط على الدعامة الثالثة معتقداً أن الإستراتيجية الجديدة (¬2) التي بشربها الجنرال شال قادرة على إنهاء الثورة في أجل قريب. وبالفعل، لقد وضع تحت تصرف قائد القوات المسلحة الجديد إمكانيات ضخمة في المجالين المادي والبشري، ولمساعدته تم تعيين وترقية مجموعة من الجنرالات والعقداء الذين تخرجوا من المدارس العسكرية العليا أو الذين اكتسبوا في ¬

_ (¬1) تأسست هذه اللجان على أثر الحركة الثالث عشر من ماي سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف، بمبادرة من غلاة المعمرين والمتطرفين من الضباط في الجيش: وكان الهدف منها تجنيد الرأي العام في الجزائر وفي فرنسا من أجل الحفاظ على الجزائر فرنسية، تشكلت لجنة أم في الجزائر العاصمة ثم تلتها لجان محلية في جميع المستويات متضمنة أعضاء من الأوربيين. ومن الجيش وآخرين من الجزائريين المتمردين على سلطة جبهة التحرير الوطني. وفي نظر فرحات عباس، فإن هذه اللجان كانت في بداية الأمر ضد الجزائريين وضد فرنسا اللبرالية، تشريح حرب ص: 240. (¬2) لقد عبر شال عن هذه الإستراتيجية الجديدة بقوله: ((أن تطويق الأماكن وتمشيطها لم يعد كافياً لأن الفلاقة)) يعرفون الأرض جيداً وهم ينتقلون بسرعة كبيرة، ولذلك يجب علينا، عندما نحتل منطقة أن نبقى فيها أطول مدة ممكنة حتى ندفع العدو إلى المجهول، فتواجدنا بالليل والنهار في الجبال وفي الأودية سيجعل المتردين يختفون، ونظراً إلى أنهم لا يستطيعون ذلك، لأنهم في حاجة ماسة إلى الإتصال بالسكان، فإن حياتهم ستتحول إلى جحيم وهذا ما ينبغي أن نحققه)).

الميدان، خبرة واسعة في حرب الفيتنام وفي الجزائر نفسها (¬1). ولم تكن استراتيجية شال مجرد حبر على ورق، بل أن كل المصادر تؤكد على أن كل العمليات العسكرية التي انطلقت مع بداية العام الجديد قد شكلت خطراً كبيراً على جبهة التحرير الوطني خاصة في الولايتين الثالثة والرابعة. أن هذه العمليات قد تواصلت إلى غاية عام ستين وتسعمائة وألف ملحقة اضراراً بالمدنيين وخسائر بجيش التحرير الوطني لم يعرف لها مثيل لا من قبل ولا من بعد (¬2)، وهو الأمر الذي جعل فرحات عباس يقول في كتابه ((تشريح حرب)) ((إن الجزائر لم تعرف ثقل الحرب مثل ما عرفت ذلك في عهد الجنرال ديغول)) (¬3) لكن، على الرغم من كل هذه الجهود، فإن الجنرال شال لم يحقق الإنتصارات العسكرية التي طلبها منه رئيس الدولة الفرنسية الذي اضطره الواقع إلى الحل المبني على التفاوض وهو الحل الذي شرع في تطبيقه منذ 16/ 05/1959 عندما صرح، باسم فرنسا، أنه يعترف للشعب الجزائري بحقه في تقرير مصيره. سياسة ديغول للقضاء على الثورة (عسكرياً) وقبل ذلك، كان الجنرال ديغول، في اليوم السابع عشر من شهر أفريل، أي بعد المعركة التي استشهد فيها قائد الولاية الثالثة والولاية السادسة بحوالي أسبوعين فقط، قد وجه رسالة تهنئة إلى الجنرال شال جدد له فيها ثقته المطلقة في نجاح برنامجه الذي قال عنه إنه يستحق التهنئة الكاملة في الجزائر، (¬4) وزادت هذه التهاني من غرور الجنرال شال الذي أدلى بعدها بأيام فقط إلى جريدة لومند الفرنسية بحديث أكد فيه أنه "آخذ بزمام الأمور وأن الإنتصار العسكري لا شك فيه وهو قريب" (¬5). ¬

_ (¬1) من جملة الضباط السامين تجدر الإشارة خاصة إلى الجنرالات: ألار، قراسيو، قامبياز، فور، ماسي، موست، وغيرهم وإلى العقداء: بويس، بيجار، ترانكي، بروزا، ديكتس، جيرا، كوستو، قوداز، قادر، سيكالدي وغيرهم. (¬2) عرفت هذه العمليات نجاحاً كبيراً بفعل المحافظة على مناطق الطريق كما جاء ذلك في تعليمات الجنرال شارل وبفعل تكثيف الطلعات الجوية الموجهة للمراقبة والقصف، وليس أدل على ثقل خسائر جيش التحرير الوطني في هذه العمليات من كونها أدت في معركة واحدة إلى استشهاد قائدي الولاية الثالثة والسادسة العقيدين عميروش وسي الحواس والنائب الأول لقائد الولاية السادسة الرائد عمر ادريس ومجموعة كبيرة من مرافقيهم وقد حدث ذلك يوم 29/ 03/1959. (¬3) تشريح حرب، ص 252. (¬4) انظر جريدة: ليكون الجي العدد الصادر بتاريخ 17/ 04/1959، فإن البرقية قد نشرت على أعمدة الصفحة الأولى تحت عنوان: الجنرال ديغول يهنئ القادة العسكريين وتفوقهم. (¬5) انظر جريدة لوموند، الصفحة الثانية من العدد الصادر بتاريخ 26/ 04/ 1959.

دوافع رضوخ ديغول للتفاوض مع G.P.R.A

ولم يلجأ الجنرال ديغول إلى تقرير المصير إلا عندما تأكد بنفسه من أن مخطط شال استهلك ولم يعد قادراً على التوصيل بسبب المقاومة غير المنتظرة التي أبدتها وحدات جيش التحرير الوطني التي عرفت كيف تتكيف مع الوضع الجديد من جهة (¬1) ونتيجة ظهور معارضة شديدة للمخطط المذكور في صفوف الضباط السامين في الجيش الفرنسي نفسه من جهة ثانية (¬2) فمن المعلوم أن شال أسس مخططه على النتائج المستخلصة من تجربة الجيش الاستعماري في الهند الصينية، محاولاً توظيف أساليب الحرب الثورية والدعاية النفسية التي طبقها القائد "هوشي منه" بعد أن اقتبسها من الزعيم الصيني "ماوتسي تونغ". لكنه لم يأخذ في الاعتبار شيئاً أساسياً هو أن تلك الأساليب الثورية والدعاية النفسية ما كانت لتنجح في تقويض أركان الاستعمار الفرنسي بالهند الصينية لولانبل الهدف المقصود وطبيعة التيار التحريري وتفاعل الشعب مع قيادته كلها عوامل لا يمكن للجنرال شال أن يتوفر عليها لإنجاز مخططه الذي لم يكن مصيره أحسن من مصير مخطط الجنرال نافار (¬3) في الهند الصينية. دوافع رضوخ ديغول للتفاوض مع G.P.R.A وفي مذكراته التي نشرت مطبوعة سنة سبعين وتسعمائة وألف، تعرض ¬

_ (¬1) بمجرد الشروع في تطبيق مخطط شال أعطيت الأوامر إلى فيالق جيش التحرير الوطني وكتائبه للإنقسام على وحدات خفيفة تخزن أسلحتها الثقيلة لتتمكن من التنقل بسرعة ومن خرق صفوف العدو بسهولة. وقد كان لهذا التكتيك مفعول جيد في الحفاظ على الأرواح والعتاد معاً. (¬2) من جملة هؤلاء الضباط العقيد بيجار الذي وجه تقريراً إلى الجنرال جاء فيه على الخصوص: "مخططكم لا يمكن أن يكتب له النجاح لأسباب كثيرة منها: إننا نسير أربع كلم في الساعة بينما يقطع الجزائريون سبعة كلم وفي هذه الحالة سيظل اللحاق بهم من باب المستحيلات، ثم أن كثرة السيارات والدبابات تعرقل الجيش وتعوقه في سرعة التنقل، بالإضافة إلى أننا نخصص لحراستها حوالي مائة ألف جندي من بين النصف مليون عسكري المعبئين لإنجاح هذا المخطط". أما العقيد قادر فيرى أن المخطط مصيره الفشل ويختم تقريره قائلاً" مافائدة الطائرات والدبابات في محاربة مقاومين مدربين على حرب العصابات ويختفون في الأحراش ووراء الصخور في الجبال؟ إنني أطرح هذا السؤال وأنا أعرف أن الطيران الفرنسي يقوم كل يوم بثلاثمائة عملية". أنظر هذه الوثائق المجاهد، العدد 41، ص: وما بعدها. (¬3) جنرال فرنسي من مواليد 1898. عين قائداً أعلى للقوات المسلحة في الهند الصينية في شهر ماي 1953 وضع هو أخر مخططاً عسكرياً وأدلى بتصريحات كثيرة يؤكد فيها قرب الإنتصار الذي تحقق له بطريقة أخرى في ديان بيان فو نشر كتاباً بعنوان "إختصار في الهند الصينية 1953/ 95415، صدر في باريس سنة 1956.

الجنرال ديغول إلى الأسباب الحقيقية التي جعلته يختار تقرير المصير كحل نهائي للمسألة الجزائرية فقال: "كما هي العادة، فإن الاتصال المباشر مع الناس في مواطن نشاطهم قد وضع في ذهني معطيات ما كانت جميع التقارير لتستطيع تبيانها، لقد تأكدت الآن أن الثورة قادرة وستبقى قادرة إلى ما نهاية على إبقاء المقاومة في المناطق خاصة وذلك بمساعدة السكان. ففي هذا الصدد لفتت انتباهي مجموعة من المؤشرات منها أنني، حينما حللت بالأرياف، فإن الفلاحين الذين يسوقهم العسكر للتحية، يقفون باحترام على حافتي الطريق لكنهم يفعلون ذلك في صمت رهيب. أما في تيزي وزو، مثلاً، حيث كثافة السكان لا تسمح للجيش بإجبار الناس على التجمع، فإنهم لم يأتوا للقائي رغم مكبرات الصوت التي كانت تعلن عن مقدمي، وفي قرية من قرى منطقة القبائل حاولت السلطات أن يكون الإستقبال نموذجياً، فحييت بحرارة عند مدخل البلدية واستمعت للأطفال ينشدون النشيد الوطني الفرنسي. لكن، عندما هممت بالخروج، تقدم مني كاتب البلدية المسلم منحنياً، مرتعشاً وقال لي: أيها الجنرال، لا تنخدعوا أن الجميع هنا يريدون الإستقلال، وفي مدينة سعيدة (¬1) حيث قدم لي البطل بيجار فرقة جورة "المكونة من الفلاقة المعتقلين والمستسلمين، وكان من بينهم طبيب عربي فسألته: "مارأيكم يا طبيب أجابني قائلاً وعيناه مغروقتان بالدموع: أن ما نريده، وما نحن بحاجة إليه هو أن نكون مسؤولين عن أنفسنا وأن لا يسأل عنا أحداً". إذن، أصبحت متأكداً أكثر من أي وقت مضى ورغم أننا نضيع الرجال والمال سدى في محاولتنا فرض الجزائر الفرنسية، وإن السلم لن يأتي إلا بمبادرات سياسية في اتجاه آخر وعلى فرنسا أن تفعل ذلك". * ومن جهة أخرى، استطعت أن تحقق من مواصلة حرب مستحيلة إلى ما لانهاية ستعرض جيشنا ومن خلال وحدتنا الوطنية إلى خطر، لأن طبيعة العمليات تؤدي حتماً إلى انقسام قواتنا". "لأجل ذلك، فإنني تعمدت مخاطبة الضباط المسؤولين عن العمليات قائلاً: إذا كان نجاح العمليات الجارية أساسي، فإن المشكل الجزائري لن يجد حله إلا إذا حصلنا على موافقة الجزائريين ... وأن عهد الإدارة بواسطة الأوربيين قد انقضى ... وإننا نواجه هذه الدراما في "الوقت الذي يتم فيه تحرير جميع ¬

_ (¬1) هي اليوم عاصمة واحدة من ولايات الجزائر الثماني والأربعين. تقع جنوب غربي العاصمة على بعد حوالي 600 كلم، مشهورة بنبات الحلفاء وبكونها منطقة رعوية غنية وبها منبع يحمل نفس الإسم وله شهرة عالمية، تقع سعيدة على سفح سلسلة من الجبال التي دوخت فرنسا أثناء ثورة التحرير.

الشعوب المستعمرة ... أما أنتم، فاسمعوني جيداً إنكم لستم الجيش من أجل الجيش. إنكم جيش فرنسا. لا وجود لكم إلا بها ولها وأنتم في خدمتها. وإن المسؤولية التي أتقلدها لتوجب على الجيش طاعتي لتحيا فرنسا. وأني لمتأكد من أنكم تفعلون ذلك وباسم فرنسا فإنني أشكركم عليه" (¬1). أن اعتراف فرنسا بحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره بنفسه يعد إنتصاراً كبيراً بالنسبة لجبهة التحرير الوطني، لأنه يسحب ورقة أساسية من أيدي الديبلوماسية الفرنسية التي ما فتئت تشهر في وجه الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة واقع الجزائر كجزء لا يتجزأ من الجمهورية الفرنسية، أما الآن وقد اعترف رئيس الدولة الفرنسية بتمايز الشعب الجزائري عن الشعب الفرنسي، فإن الأمر قد تغير، وسهلت مهمة الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية قصد تحقيق المزيد من الإنتصارات في المجال الديبلوماسي، بل أن طريق التفاوض قد أصبح مفتوحاً وخالياً من كل العراقيل. ولقد كان هذا هو رأي جبهة التحرير الوطني نفسها إذ في افتتاحية لسانها المركزي، العدد السادس والخمسين: "إن القضية التي حاربنا من أجلها خمس سنوات والتي سجلها أول بيان للثورة وهي قضية تقرير المصير قد حلت بموقفين متكاملين اتخذ أحدهما يوم 16 سبتمبر عندما أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، لأول مرة، عن اعتراف فرنسا بحق تقرير المصير للشعب الجزائري، واتخذ ثانيهما يوم 28 من نفس الشهر عندما أعلنت الحكومة الجزائرية قبولها لهذا المبدأ كأساس لتسوية المشكلة" (¬2). لكن الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية كانت، في هذه الأثناء، تعاني أزمة السلطة والنفوذ نتيجة الأحداث التي سبق أن تعرضنا لها في بداية هذا الفصل وبسبب موقف، كريم بلقاسم الذي أصبح، أكثر من أي وقت مضى، يعمل على الإنفراد بالقيادة العليا شاهراً في وجه الجميع كونه الوحيد المتبقي طليقاً وعلى قيد الحياة من بين أعضاء القيادة التي أشعلت فتيل الثورة (¬3) ويذكر السيد ¬

_ (¬1) شارل ديغول، مذكرات الأمل، التجديد 1958 - 1962، باريس 1970 ص: 78 وما بعدها. (¬2) المجاهد، اللسان المركزي لجبهة التحرير الوطني، وزارة الإعلام، الجزائر 1980، الجزء الثاني ص: 3 من العدد 56. (¬3) خمسة أعضاء من تلك القيادة كانوا بالسجن وهم: رابح بيطاط، محمد بوضياف، محمد خيضر، أحمد بن بلة، وحسين أيت أحمد، وثلاثة استشهدوا وهم: مراد يدوش في معركة بوكركر يوم 18/ 01/

المجلس الوطني للثورة الجزائرية في دورته الثانية

فرحات عباس أن هذا الشعور بالتعالي الذي كان يحرك بلقاسم كريم قد قوبل بآخر لا يختلف عنه من طرف العقيدين بو الصوف وابن طوبال اللذين" لم يترددا في التذكر بأنهما شاركا في إجتماع الإثنين والعشرين عندما كان كريم ما يزال متعلقاً باهداب مصالي" وخوفاً من أن يشتد الصراع ويتحول إلى مالا يحمد عقباه يتحمل رئيس الحكومة. (¬1) مسؤولياته ووجه إستدعاء إلى مجلس الولايات للإجتماع من أجل الحلول اللازمة للمشاكل التي تراكمت ولكي تضع حداً للنزاعات الشخصية القائمة ليس بين الباءات الثلاثة فقط ولكن بينهم فرادى ومجتمعين وبين عدد آخر من الأعضاء الأساسين في القيادة (¬2). وعندما ألقى الرئيس خطابه التاريخي في اليوم السادس عشر من شهر سبتمبر، كان بعض قادة الولايات قد وصلوا إلى تونس التي حددت كمرحلة أولى قبل الذهاب إلى طرابلس (¬3) ولم يكن بالإمكان تنقل مجالس الولايات لأسباب أمنية وعملية، ولذلك تم الإتفاق على أن تسند المهمة المحددة من طرف رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية إلى خمس عقداء الولايات بالإضافة إلى العقيدين المسؤولين عن قيادة الأركان والباءات الثلاث. (¬4) المجلس الوطني للثورة الجزائرية في دورته الثانية: كان الإجتماع ماراتونيا ومطبوعاً بكثير من الحدة والصراحة (¬5)، أثيرت أثناءه جميع القضايا الأساسية مثل تمرير الأسلحة والذخيرة عبر خطي موريس ¬

_ 1957. مصطفى بن بولعيد نتيجة إنفجار راديو ملغم يوم 27 مارس 1975، فلم يبق سوى كريم بلقاسم طليقاً وعلى قيد الحياة. (¬1) تشريح حرب، ص:269. (¬2) تجدر الإشارة هنا إلى خاصة الصراع الحاد بين كريم بلقاسم ومحمود شريف الذي أتهم وزير الحرب بالعجز والتقصير وبأنه السبب في كل المشاكل التي تعرفها الثورة في الخارج وفي الداخل. (¬3) من بين هؤلاء القادة: العقيد لطفي قائد الولاية الخامسة والعقيد لعبيدي لخضر المدعو الحاج لخضر، قائد الولاية الأولى والعقيد علي كافي قائد الولاية الثانية. (¬4) أما مسؤولا قيادة الأركان فهما: العقيد هواري بومدين والعقيد محمدي السعيد، وأما قادة الولايات فهم العقيد علي كافي عن الثانية والعقيد الحاج لخضر عن الأولى والعقيد لطفي عن الخامسة، وعين لتمثيل الرابعة العقيد دهيلس سليمان. ولتمثيل الثالة الرائد يازورن لأن قائدي الولايتين لم يتمكنا من الخروج. (¬5) المجاهد، العدد 59 الصادر بتاريخ 05/ 02/1960 ص635 وما بعدها، حيث يقرأ أن الإجتماع إنعقد في طرابلس ودام من يوم 16/ 12/1959 ص إلى يوم 18/ 01/ 1960 من الخروج.

وشال وضرورة دخول جيش الحدود وقيادته لتعزيز الولايات وكذلك رجوع القيادة العليا للثورة إلى أرض الوطن كما تقتضي ذلك المبادئ التنظيمية المنصوص عليها في وثيقة وادي الصومام. وعلى الرغم من أن أعضاء الحكومة كلهم في المجلس الوطني للثورة الجزائرية إلا أنه لم يسمح لهم بحضور الإجتماع الذي أعتبر عسكرياً بحتاً. ويذكر السيد فرحات عباس أن العقيد لطفي لم يرض، في بداية الأمر، حتى بمشاركة من يسمون بالباءات الثلاث (¬1) نظراً لكونهم طرف في النزاعات القائمة ولكونهم أعضاء في الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. وبعد كثير من الأخذ والرد وتدخل العديد من الأوساط (¬2) لإصلاح ذات البين ولتقريب وجهات النظر، وبعد توقف الاجتماع مرات متعددة، توصل المجتمعون إلى الإتفاق على تركيبة جديدة للمجلس الوطني للثورة الجزائرية وحددوا له اليوم السادس عشر من شهر ديسمبر كبداية لأعماله في طرابلس. أستمع المجلس الوطني للثورة الجزائرية إلى البيانات المتعلقة بنشاط الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية ثم انصرف إلى بحث عميق ومستفيض للوضعية العسكرية، وأتخذ مجموعة من القرارات الرامية إلى جعل الأجهزة النظامية للثورة تتلاءم مع الأوضاع الجديدة كما أجري تعديلاً خفيفاً على تركيبة الحكومة وأوصى بتكوين لجنة وزارية، داخلها، تكون مسؤولة عن شؤون الحرب وتشرف مباشرة على هيئات الأركان (¬3). ولئن كانت أشغال المجلس قد مكنت من التغلب على كل المشاكل الداخلية واتسمت بالحكمة التي ساعدت على تجاوز الحساسيات الشخصية وتحقيق المصالح بين سائر النزعات وإقناع السيد كريم على التخلي، بمحض إرادته، ¬

_ (¬1) لقد قال لهم العقيد لطفي في أول إجتماع: إننا سننظر في مشاكل الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وسنقيّم أعمالها وأنتم أعضاء في الهيئات: فكيف سيكون موقفكم وإذا وافقنا على مشاركتكم ألا يكون من العدل أن نسمح بذلك لباقي أعضاء الحكومة، وقد تسببت هذه الملاحظة المعقولة والمنطقية في إغضاب السيد كريم الذي كان يعتقد أنه الزعيم بلا منازع، وكاد اللقاء أن يتحول إلى أزمة أخرى لولا تدخل العديد من الضباط السامين لجيش التحرير الوطني ولولا ما كان للعقيد بو الصوف من سلطة أدبية على العقيد لطفي. (¬2) أهمهم كان هو السيد ابن يوسف بن خدة الذي كان بعيداً عن كل الشبهات في ذلك الحين نظراً لثباته على المبدأ واستمراره في المطالب بدخول الحكومة إلى أرض الوطن. (¬3) يذكر السيد عباس فرحات أن تاريخ انعقاد المجلس هو 13 ديسمبر ((انظر تشريح ص: 279)) لكن ذلك خطأ لأن محاضر جلسات الدورة تحمل تاريخ 16 ديسمبر 1959.

عن مشروعه الخاص بقيادة الثورة (¬1)، فإن كل ذلك يبقى بسيطاً بالمقارنة مع الأهمية البالغة التي يكتسبها النصان الأساسيان اللذان تمت المصادقة عليهما بالإجماع واللذان يعتبران مكسباً إيديولوجياً جديداً (¬2) لقد وضع مشروع الوثيقتين من قبل لجنة ترأسها السيد ابن يوسف بن خده اشتغلت مدة أسبوعين بعضوية السادة عمر أو صديق (¬3) وفرانتز فانون (أو عمر فانون كما كان يسمى نفسه) ومحمد الصديق بن يحيى وعبد الرزاق شنتوف، منطلقة من بيان أول نوفمبر ووثيقة وادي الصومام وموظفة التجربة الواسعة المكتسبة خلال خمس سنوات من ممارسة الكفاح المسلح والنضال السياسي والنشاط الديبلوماسي. (¬4) أما الوثيقة الأولى فتتعلق بمؤسسات الدولة الجزائرية أثناء فترة الكفاح المسلح وبعد استرجاع السيادة الوطنية، ولمن يقرأ بتمعن، فإنه لا يجد مفراً من التوقف عند مجموعة من الملاحظات يمكن حصر أهمها بالأتي: 1 - إن تراجعاً جوهرياً قد وقع بالنسبة لمفهوم الدولة الجزائرية التي تتعهد جبهة التحرير الوطني بإقامتها بعد وقف إطلاق النار واسترجاع الإستقلال الوطني للثورة الجزائرية قد صادق، من خلال الوثيقة المذكورة، على أن تكون الدولة الجزائرية ديمقراطية وإجتماعية وأن لا تكون مؤسساتها متناقضة مع المبادئ الإسلامية، أما بيان الفاتح من نوفمبر فيذكر بصريح العبارة إن إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الإجتماعية ستكون "ضمن إطار المبادئ الإسلامية". من الواضح أن التعبيرين متناقضان ولا يمكن إيعاز ذلك إلى مجرد خطأ في الصياغة، عندما نعرف أن المجموعة التي أشرفت على التحرير مكونة، رغم قلة عددها، من أفضل ما في صفوف جبهة ¬

_ (¬1) مقابلة أجريتها مع عبد الحفيظ بو الصوف، في بيته 1978، 02، 23. وما زال موضوعها مركوناً ينتظر النشر، وحسب السيد بو الصوف وهو ثقة في الموضوع، فإن المشروع المذكور يتخلص في إستبدال الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بقيادة ثلاثة يرأسها هو بإعتباره أقدم الباءات مسؤولية. (¬2) أنظر نص الوثيقتين في الملحق رقم 10. (¬3) كان أو صديق سنة 1949 قد طرد من حركة الإنتصار للحريات الديمقراطية بسبب بربريته وتشيعه، الأمر الذي جعله ينضم إلى قيادة الحرب الشيوعي الجزائري، وبعد إندلاع الثورة إلتحق بالولاية الرابعة وقد كان مجلس الولاية بعد محاكمته عندما عين كاتب دولة في حكومة مؤقتة للجمهورية الجزائرية (أنظر لمزيد من التفاصيل حول المسألة البربرية. (¬4) Les origines du ler novembre 1954 Editions Dahlefeb, Alger 1989, P169 et suivante. (Ben Youcef) Ben Khedda.

التحرير الوطني من فرسان القلم المسلم لها، في ذلك الوقت، بالقدرة الفائقة على ممارسة الكتابة باللغة الفرنسية، والمعروفين بكونهم الدماغ المفكر والمسؤول عملياً عن إعلام الثورة. وإذا كان جمهور المناضلين لا يعرفون عنهم سوى صفة الجهاد التي اكتسبوها بفضل مواقعهم في دواليب الثورة وبواسطة بعض السلوكات الفردية، فإن معظم المسؤولين السامين لم يكونوا يجهلون النزعة اليسارية والميولات الماركسية بالنسبة لأغلبيتهم، وكان من المفروض أن تكون هناك يقظة في إنشغال المؤتمرين بتسوية المشاكل الميدانية التي كانت تهدد الثورة بالإنفجار. ومما لا شك فيه أن تلك الغفلة أو تلك الثقة التي لم تكن في محلها قد أدت إلى تجسيد واحد من الإنحرافات الخطيرة التي ستكون أساساً للإنزلاقات التي سوف تقود بالتدريج إلى الخروج نهائياً عن الخط الأيديولوجي الذي سطرته جبهة التحرير الوطني ليلة الفاتح من نوفمبر. 2 - إن الوثيقة، قد أهملت، في عرضها للمبادئ الأساسية، التوقيف عند إبعاد الثورة المغربية والعربية والإسلامية طبقاً لما جاء في بيان أول نوفمبر، ومن أجل تجاوز النقص الذي تضمنته في المجال، وثيقة وادي الصومام والذي نددت به مجموعة كبيرة من أعضاء القيادة في مقدمتهم الرئيس أحمد بن بلة. هنا، أيضاً، نلحظ لمسات عمر أو صديق وفرانتز ومحمد الصديق بن يحيى الذين يرون أن مستقبل الجزائر لن يكون زاهراً في دائرة العروبة والإسلام التي تمثل، في نظرهم، بؤرة الرجعية والعصور المظلمة، وحتى المغرب العربي الذي ظل مركزاً إهتمامات الرواد من المناضلين، فإنه لا يؤمنون به إلا عندما نجرده من صفة العروبة ونحصره في إطار شمال إفريقيا الذي يربط بين أقطاره قاسم اللغة الفرنسية والثقافة الغربية اللتين أعتمد عليهما الاستعمار لتأييد حالة الإنسلاخ عن الذات الضرورية لديمومته. 3 - إن التطهير السياسي، في منظور جبهة التحرير الوطني، يعني إعادة الحركة الوطنية إلى نهجها الحقيقي بواسطة القضاء على مخلفات الفساد وروح الإصلاح التي تتناقض مع الروح الثورية وبواسطة إلغاء الروح

الحزبية التي تقود فقط إلى التعصب وإلى تكريس التقسيم الذي يعمل الإستعمار على تحقيقه بجميع الوسائل. وبهذا المفهوم، فإن الجماعة المذكورة لا يمكن أن تكون راضية عن التطهير السياسي لأن الحزب الشيوعي الجزائري لا يعد من الحركة الوطنية نتيجة تبعية العضوية للحزب الشيوعي الفرنسي وانضوائه، إيديولوجياً، تحت لواء الشيوعية الأممية، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فلأن الحزب الشيوعي الجزائري ظل دائماً يرفض حل نفسه لصالح جبهة التحرير الوطني، ويعتبر بقاءه كتنظيم سياسي مستقل مسألة أساسية مازال يدافع عنها إلى يومنا هذا (¬1). إن هذه الملاحظات الثلاث تدل بما لا يدع أي مجال للشك على أن المباشرين لصياغة هذه الوثيقة لم يطبقوا توجيهات المجلس الوطني للثورة الجزائرية الذي ألزمهم بعدم الخروج عن الخطوط العريضة التي حددها نداء الفاتح من نوفمبر مع الأخذ في الإعتبار للتطورات التي عرفتها وتعرفها القضية الجزائرية في الداخل وفي الخارج. ويقول السيد ابن يوسف بن خده الذي سألناه في الموضوع (¬2) أنه لم ينتبه في حين إلى "هذه الأخطاء الفادحة "لأنه كان يعرف كفاءة أعضاء اللجنة ويعتقد أنهم تخلوا عن معتقداتهم الأيديولوجية بعد إلتحاقهم طوعاً بجبهة التحرير الوطني ولأنه هو الأهم في نظره كان مركزاً كل طاقاته الفكرية وموظفاً جميع إمكانياته المادية والأدبية من أجل إقناع أعضاء المجلس بضرورة تبني إقتراحه القاضي بحتمية رجوع القيادة العليا للثورة إلى أرض الوطن وهو الإقتراح الذي لم يتوقف عن الدفاع عنه منذ أكثر من ستة أشهر أي منذ الصراعات الشخصية على السلطة والتي بدأت تطغى على العمل في سبيل تطوير المعركة الوطنية وتوفير أسباب نجاحها. وأما الوثيقة الثانية فتتعلق بالقانون الأساسي لجبهة التحرير الوطني وهي مكونة من مدخل وثمانية فصول اشتملت على أربعين مادة ومن خلال القراءة الأولى يستطيع الباحث أن يستخرج مجموعة من الملاحظات أهمها. ¬

_ (¬1) إن الحزب الشيوعي نفسه لا يخفي ذلك ولمن يريد التأكد هناك مختلف الرسائل التي وجهها مكتبه السياسي في فترات مختلفة إلى الحكومات المؤقتة للجمهورية الجزائرية أنظر خاصة: Buy (Francois) La republique Algerienne Democ- ratique et populaire- paris 1965, p. 217 et suivantes. (¬2) لقاء أجريناه معه يوم 31/ 03/1983 عندما كنا نستعد لإنجاز الطبعة الثانية من: الثورة الجزائرية في عامها الأول وكان ذلك في بيته بحي حيدرة في الجزائر العاصمة.

1 - أن المشرفين على الصياغة قد اجتهدوا لبلورة الإنسجام بين الوثيقتين فيما يتعلق بمفهوم الدولة الجزائرية المنتظر إقامتها بعد إسترجاع الإستقلال الوطني. فهي طبقاً للمادة الثانية من القانون الأساسي "جمهورية ديمقراطية وإجتماعية لا تكون في تناقض مع المبادئ الإسلامية" (¬1) تماماً مثلما جاء التنصيص على ذلك في الوثيقة الأولى كما رأينا. 2 - إن المشرفين على الصياغة قد اضطروا لتكريس هذا الإنجراف في الوثيقتين إلى السكوت عن تثبيت مبدأ أساسي تألق بغيابه في الوثيقة الأولى وجاء في مدخل القانون الأساسي: "إن الجزائر جزء من المغرب العربي وهي تنتمي إلى الوطن العربي الذي تربطها به أربعة عشر قرناً من التاريخ والثقافة العربية الإسلامية وكذلك الكفاح ضد الظلم الإستعماري والامبريالية" (¬2). ومن الجدير بالذكر أن هذا التعبير سيبقى كما هو ملازماً لجميع مواثيق الثورة الجزائرية إلى غاية أكتوبر سنة ثمان وثمانين وتسعمائة وألف. 5 - إن الوثيقة قد تضمنت، لأول مرة منذ إندلاع الثورة، تأكيداً بصريح العبارة على أن جبهة التحرير الوطني لا تكافح من أَجل إسترجاع الإستقلال الوطني فحسب بل أنها ستواصل مهمتها التاريخية بعد ذلك، كقائد ومنظم للأمة الجزائرية من أجل بناء الديمقراطية الحقة وتحقيق الإزدهار الإقتصادي والعدالة الاجتماعية" (¬3) إن هذا التنصيص الذي جاء ضمن المبادئ العامة يعتبر بداية القواعد الثابتة لما سيسمى فيما بعد بالمجتمع الاشتراكي، وسوف نرى أن المؤدلجين سوف لن يستقروا على صفة واحدة للديمقراطية (¬4) وذلك نظراً لعجزهم عن تبليغ مفهومها الصحيح للجماهير الشعبية الواسعة إن الوثيقة، ولأول مرة، أيضاً، لم ¬

_ (¬1) انظر المادة الثالثة من القانون الأساسي (الملحق رقم7) (¬2) مدخل القانون الأساسي (الملحق رقم7). (¬3) المادة الرابعة من القانون الأساسي (الملحق رقم7) (¬4) لقد عرفت الجزائر المستقلة أنواعاً من الديمقراطيات منها: الديمقراطية المسؤولة، الديمقراطية الثورية، الديمقراطية المباشرة، الديمقراطية الشعبية إلخ ....

تخف استعمال جبهة التحرير الوطني للأدبيات الماركسية. فالجماعية ومحاربة عبادة الشخصية ورفض الحكم الفردي كلها تجسدت في مبدأ المركزية الديمقراطية (¬1) الذي صارت جبهة التحرير الوطني تعتمد عليه في التسيير والتنظيم. وبالإضافة إلى هذين النصين، الذين حظيا بإجماع المشاركين في أشغال المجلس الوطني للثورة الجزائرية، فإن هذا الأخير قد أعاد النظر في تشكيل الحكومة للجمهورية الجزائرية وضبط الخطوط العريضة، لبرنامج عملها بالنسبة للفترة المقبلة. ففيما يتعلق بالحكومة رفض المجلس مشروع السيد بلقاسم كريم الرامي إلى إستبدالها بقيادة ثلاثية على غرار ماهو موجود في الإتحاد السوفياتي، ولم يكن الرفض وحده كافياً، بل أن أعضاء المجلس قد جددوا ثقتهم للرئيس فرحات عباس (¬2) وزحزحوا صاحب المشروع من وزارة الحربية بعد أن عبروا له عن لجنة مكونة من ثلاثة وزراء (¬3) على أن تتولى تسيير جيش التحرير الوطني بواسطة قيادة للأركان (¬4) تعينها الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية على هذا الأساس، فإن المجلس قد أثر وثيقة وادي الصومام التي نظمَّت جيش التحرير الوطني إلى غاية الولاية لكنها لم تزوده بقيادة عليا. ولم يبق إلا وضع هذه الوثيقة ولذلك، فإن العلاقة سرعان ما تدهورت بين قيادة الأركان واللجنة الوزارية. إن اللجنة الوزارية هي التي اقترحت، للتعيين، رئيس قيادة الأركان، وقد كان الباءات يعتقدون أن العقيد هواري بومدين المعروف بإنغلاقه على نفسه لن يخرج عن طاعتهم وسيكون مجرد منفذ لقراراتهم (¬5) أما أعضاء القيادة فقد روعيت في تعينهم مسألة التمثيل الجمهوري بحيث جاء الرائد أحمد قائد عن الغرب والرائد على منجلي عن الشرق والرائد رابح زراري "عز الدين" عن الوسط ولم يعين أحد عن الجنوب لأن الولاية السادسة لم تكن ممثلة على أعلى ¬

_ (¬1) هذا المبدأ مأخوذ من المادة 19 من القانون الأساسي للحزب الشيوعي السوفياتي في ذلك الحين. (¬2) تكونت هذه الحكومة من الرئيس والباءات ومن وزير الإعلام السيد محمد السعيد الذي كان يطمح أن يكون قائداً للأركان. (¬3) أهم الباءات الثلاث. (¬4) يذكر السيد فرحات عباس في تشريح حرب، ص: 281 أن الحكومة عينت العقيد هواري بومدين قائداً للأركان في أول مجلس لها 22/ 02/60. وفي نفس المجلس عينت نوابه. (¬5) مساعدية (محمد الشريف) من جيش التحرير الوطني إلى الجيش الوطني الشعبي، المؤسسة الوطنية للطباعة، الجزائر، 1968، ص21.

مستوى في جيش الحدود. وبمجرد التعيين والتنصيب تحركت قيادة الأركان لإعادة تنظيم الجيش على الحدود الشرقية والغربية، وكان أول إجراء لها إستدعاء الضباط القدامى وتسريح المعتقلين على إثر حركة العقيد محمد لعموري واستبعاد الضباط القادمين من الجيش الفرنسي عن الوحدات القتالية وقيادة الفيالق (¬1). وحزت هذه التدابير في نفس الباءات الذين اعتبروا ذلك تحدياً لهم فلجأوا إلى المناورة واستصدروا من الحكومة أمراً لقيادة الأركان بالدخول إلى أرض الوطن للأشراف، هناك، على سير المعركة (¬2). أما عن برنامج عمل الحكومة الذي ضبطه المجلس الوطني للثورة الجزائرية فيشتمل على مجموعة من النقاط أهمها ما يلي: (¬3) - تكثيف العمليات العسكرية على الحدود الشرقية والغربية من أجل تخفيف الضغط على الولايات وتدويل الحرب، وبالموازات مع ذلك، أوصى المجلس بتصعيد العمل العسكري في فرنسا وباستهداف المؤسسات الإقتصادية الحساسة. - تخفيف الجهاز الإداري ووضع الإطارات المُسرّحة تحت تصرف جيش التحرير الوطني. - إنشاء لجنة للمحاسبة من أجل السهر على حسن سير مالية جبهة التحرير الوطني وعلى تطبيق توجيهات المجلس المتعلقة بالتقشف في مستوى المصالح الإدارية والديبلوماسية ورفع ميزانية التسيير بالنسبة للولايات. - العمل على تجسيد مبدأ تقرير المصير تحت رقابة الأمم المتحدة مع مواصلة المساعي من أجل إنجاح التفاوض مع فرنسا طبقاً لما جاء في نداء الفاتح من نوفمبر. - مواصلة العمل من أجل تحقيق الوحدة المغاربية وتجسيد التضامن الإفريقي وإقناع الصين والإتحاد السوفياتي بضرورة تقديم المعونة التقنية ¬

_ (¬1) لقائي مع عبد الحفيظ بو الصوف في بيته يوم 23/ 02/ 1978. (¬2) على أثر هذا الأمر دخلت مجموعة من الضباط السامين من بينهم العقيد لطفي والرواد: الطاهر الزبيري وأحمد بن الشريف وسواحي مبارك. ويذكر فرحات عباس في تشريح حرب ص: 283 أن العقيد لطفي مبارك استشهد يوم 30/ 03/1960 في نواحي بشار. (¬3) المجاهد، العدد 59 الصادر بتاريخ 05/ 02/1960 ص635 وما بعدها.

وإرسال المتطوعين لمساعدة جبهة التحرير الوطني على نسف خط موريس الذي صار يشكل سدادة منيعة يخشى أن تتحول إلى مخنقة لجيش التحرير الوطني في الداخل. ••••

الفصل الثاني من ثورة التحرير إلى الثورة الديمقراطية الشعبية

الفصل الثاني من ثورة التحرير إلى الثورة الديمقراطية الشعبية - الفعل وردة الفعل قبل التفاوض - الثورة الجزائرية في مرحلتها الثالثة - المفاوضات ووقف إطلاق النار - المجلس الوطني للثورة الجزائرية يقيم إتفاقيات إيفيان - قراءة متأنية لبرنامج طرابلس ••

الفعل ورد الفعل قبل التفاوض

الفعل ورد الفعل قبل التفاوض: بعد إنتهاء أشغال المجلس الوطني في اليوم الثامن عشر من شهر جانفي سنة ستين وتسعمائة وألف. دخلت الثورة الجزائرية مرحلتها المتمثلة في تثوير الجماهير الشعبية ودفعها في اتجاه الانتفاضة الشاملة قصد إرغام العدو على قبول التفاوض كما حدده بيان الفاتح من نوفمبر أي على أساس الإعتراف بالسيادة الوطنية ووحدة التراب الوطني مع إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، ولإنجاز هذه المرحلة بنجاح وضع البرنامج الذي أوردنا أهم خطوطه العريضة في نهاية الفصل السابق. وقبل الإسترسال في الحديث عن المرحلة الثالثة لا بد من الإشارة إلى أن المجلس الوطني، أثناء مداولاته التي دامت أكثر من شهر كامل (¬1) كان قد أبدى عدداً من الملاحظات حول المرحلة الثانية التي كانت تعني إقامة مناطق محررة على الحدود الجزائرية كمنطلق لإنهاك قوات العدو ولتوفير الإسناد الضروري لجبهة التحرير الوطني في عملية جر الجماهير الشعبية إلى خوض المعركة الحاسمة في شوارع كافة المدن الجزائرية. إن هذه المناطق قد تأسست بالفعل على الحدود الشرقية والغربية، لكن المجلس لاحظ أن ثمة تقصيراً يتمثل في عدم التركيز على الجزء الداخلي من المنطقة، وقد كان من المفروض أن تمركز القيادات في أرض الوطن بدلاً من الأراضي التونسية والمغربية. ففي هذا الصدد أعطيت التعليمات لقيادة الأركان الجديدة كي تتدارك الوضع بجميع الوسائل. وقد فعلت ذلك بواسطة قرارين أساسين، يتعلق الأول منهما بإعطاء الأوامر الصارمة للضباط بتكوين وحدات طلائعية وتدريبها بطريقة مكثفة من أجل إجتياز خطي موريس وشال الجهنميين. أما القرار الثاني فخاض بتأسيس منطقتين محررتين في الجنوب تمتد إحداهما على الحدود المالية الجزائرية والثانية على الحدود الليبية الجزائرية. وإذا كانت قيادة الأركان قد لقت صعوبات جمة في تطبيق القرار الأول لأن عدداً قليلاً جداً فقط من الضباط استطاع إجتياز خط موريس بنجاح في حين ¬

_ (¬1) انظر الفصل السابق.

فشلت معظم المحاولات رغم أن بعض من قاموا بها كانوا ممن سبقت لهم تجربة الدخول مرات متعددة (¬1)، فإن القرار الثاني قد تم تطبيقه بسهولة كبيرة، قد يكون ذلك راجعاً لكون الضباط الذين أسندت لهم مهمة الإنجاز ممن أطلق سراحهم حديثاً (¬2) فأرادوا الدليل على خطأ سجانيهم، ومن، الممكن أيضاً، أن سبب ذلك يعود لكون الحدود الجنوبية غير محصنة بالأسلاك الشائكة المكهربة وبحقول الألغام المحروسة ليلاً ونهاراً بالرادار والطيران. فبالنظر إلى هذه الظروف وتقديراً للحملة الواسعة التي تقرر الشروع في القيام بها على الحدودين الشرقية والغربية من أجل إعادة لمّ وحدات وفيالق جيش التحرير الوطني التي كانت قد بدأت تتشتت بفعل الأزمات المتتالية التي تعرضنا إليها في الفصلين السابقين ولكي يعود الإنضباط من جديد إلى صفوف المجاهدين قررت قيادة الأركان المتمركزة بغار الدماء على الحدود التونسية وتأجيل الدخول لأرض الوطن إلى وقت لاحق وبالموازات مع هذا القرار شرعت قيادة الأركان في ربط العلاقات الطبيعية مع الولايات كخطوة أساسية في طريق توحيد جيش التحرير الوطني بفرنسا من أجل التخطيط والتنسيق للعمل الفدائي هناك. كل هذه القرارات والتحركات التي تدل على وجود خطة مدروسة، لم ترضي اللجنة الوزارية لشؤون الحرب، التي خشيت أن يقود ذلك إلى تهميشها، فسارعت إلى الإتصال بمسؤولي الولايات واللإتحادية تحذرهم من التعامل مباشرة مع قيادة الأركان ثم أصدرت إلى هذه الأخيرة، باسم الحكومة، أمرها بالدخول إلى الأراضي الجزائرية قبل نهاية شهر مارس سنة واحدة وستين وتسعمائة وألف. وعندما أثرت هذا الموضوع مع الرئيس الراحل هواري بومدين (¬3) أكد لي أن تصرفات اللجنة لم تكن إلا لتحقيق رغبة أعضائها في الإحتفاظ بالسلطة مهما ¬

_ (¬1) مقابلة أجريتها 07/ 03/1984 مع الرائد مصطفى بن نوي وهي ما تزال مخطوطة ومحفوظة لديّ جاء في تلك المقابلة أن: من جملة الذين حاولوا ولم يحالفهم النجاح العقيد على كافي قائد الولاية الثانية سابقاً والرائد مصطفى بن نوي. عضو مجلس الولاية الأولى، علماً بأن الإثنين سبق لهما أن خرجا ودخلا مرات عديدة. (¬2) أسندت هذه المهمة لمرافقة العقيد الشهيد محمد لعموري الرواد: عبد الله بن الهوشات وأحمد دراية ومحمد الشريف مساعدية الذين أطلق سراحهم وأرسلوا مع النقيب عبد العزيز بوتفليقة إلى الحدود الجزائرية- المالية. (¬3) وخاصة منهم بلقاسم كريم وعبد الله بن طوبال أجريت الحديث معه يوم 17 أكتوبر سنة 1976 عندما كنت مسؤولاً عن الأمانة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني.

كان الثمن، وقد كان هؤلاء الأعضاء يعتقدون أن دخول قيادة الأركان إلى الجزائر سيؤدي إلى إلغائها عملياً إما وهي تجتاز الأسلاك المكهربة وحقول الألغام أو بواسطة تكتل الولايات التي لن توافق على الإنضواء تحت لوائها، لأجل ذلك، فإن قيادة الأركان لم تطبق أوامر اللجنة في الموضوع، وراحت تواصل النشاط المكثف في سبيل إنجاز برنامج العمل الذي صادق عليه المجلس الوطني للثورة الجزائرية. في هذه الأثناء، وبينما كانت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية تواصل نشاطها من أجل إيجاد أفضل السبل للدخول في مفاوضات مع حكومة الجنرال ديغول على أساس حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره بنفسه خاصة بعد أن تبنى ذلك المجلس الوطني للثورة الجزائرية كانت فرنسا تعيش أزمة في جميع المجالات بسبب الإنتصارات التي ما فتئت الثورة الجزائرية تحرز عليها في الميدانين العسكري والسياسي. فتزايد العمليات في المدن، وإستمرار الجنرال ديغول في طريق التسوية على أساس تقرير المصير أغاظا دعاة الجزائر الفرنسية، إنصارها المدنيين والعسكريين على حد سواء، وقادا إلى ظهور بوادر التمرد على أعلى المستويات وخاصة في الجيش إذ تجرأ الجنرال ماسي على التصريح لإحدى الجرائد الألمانية بأنه يعارض هذه السياسة وهو على إستعداد لمقاومتها بجميع الوسائل عندما يقتضي الحل ذلك (¬1). ومما لاشك فيه أن تصريح ماسي لم يكن بريئاً ولا عفوياً ولكنه جاء نتيجة تشاور وتفاهم مع غلاة المعمرين الذين كان النائب لاقيارد يتزعم نشاطهم. وفي الحقيقة، فإن ديغول لم يكن راضياً عن سياسته المفروضة عليه بواسطة ضغوطات الثورة السياسية العسكرية، نستخلص ذلك من مذكراته عندما يتألم لسياستي، ولكن هل أنا سعيد بممارستها؟ " (¬2) رغم ذلك وحفاظاً على سمعته أمر ديغول بنقل ماسي إلى فرنسا يوم 22/ 01/1960 وكان الإجراء سبباً مباشراً ليعلن لاقيالارد (LA GAILLARDE) يوم 22/ 01/1960 عن احتلاله لجامعة الجزائر على رأس مجموعات غفيرة من الأرجل السوداء ووحدات الدفاع المحلي. ووجه نداء إلى السكان الأوربيين ليتظاهروا عشية اليوم الذي بعده وهو يوم أحد للتدليل على تضامنهم مع ¬

_ (¬1) مذكرات الجنرال، الجزء الأول، ص: 85 وكذلك المجاهد، العدد60 ص:5 وما بعدها. (¬2) مذكرات الجنرال، الجزء الأول، ص ك 83.

المتمردين ولإرغام الحكومة الفرنسية على تغيير سياستها. وبالفعل، فإن المظاهرات التي جرت صاخبة لكنها لم تمنع ديغول من توجيه أوامره إلى كل من دولوفريي وشال لإستعمال العنف في سبيل إسترجاع الهدوء ثم أخذ الكلمة، عن طريق الإذاعة، في اليوم الثالث للتمرد فوصف الأحداث بالعصيان الذي لا يمكن أن يثنيه عن الطريق التي اختارها لفرنسا في تعاملها مع القضية الجزائرية ولما أحس بأن ثمة تردداً في موقف القائد الأعلى للقوات المسلحة نفسه وخشي أن تسري العدوى إلى فرنسا ذاتها، ارتدى زيه العسكري في اليوم التاسع والعشرين من شهر جانفي ووجه خطاباً متلفزاً إلى الشعب الفرنسي للتأكيد على أن تقرير المصير "قرار حكومي صادق عليه البرلمان ووافقت الأمة الفرنسية على أنه المخرج الوحيد الذي بقي ممكناً" (¬1). وبعد هذا الخطاب الذي كان شديد اللهجة تدخل الجيش بقوة في اليوم الموالي وقضى على التمرد برفع الحواجز وتنظيف الطرقات وإعتقال رؤوس الفتنة وفي مقدمتهم لاقيارد ودوسيزيني ودو ماركي في حين تمكن أورتيز من الفرار إلى إسبانيا في إنتظار تكوين منظمة الجيش السري (المنظمة السرية المسلحة). صحيح أن رئيس الدولة الفرنسية قد واجه، بحزم، هذا التمرد منذ بدايته (¬2) لكنه لم يفعل ذلك حباً في الجزائر أو رغبة في تمكين شعبها من ممارسة حقه في تقرير مصيره. لقد كان بإمكانه أن يفعل ذلك عندما كان قائد فرنسا بلا منازع خلال الحرب الإمبريالية الثانية، لكن قناعته الإستعمارية ووطنيته الضيقة منعته، في ذلك الوقت من القيام بأعمال العظماء الأحرار، وجعلته، في سنة ستين، يشتت صفوف المتمردين على سلطته ويعمل في ذات الوقت على تلبية مطالبهم لأنها هي نفس مطالبه وهي تتمثل، رغم التظاهر بالجنوح إلى السلم والتصريحات المتتالية الداعية جبهة التحرير الوطني إلى التفاوض، في التعجيل بإعدام أسرى الحرب والمعتقلين السياسيين وفي تكثيف العمل العسكري من أجل القضاء على جيش التحرير الوطني وإبراز قوة ثالثة تقبل بالحلول التي تمليها فرنسا والتي لا تكون متناقضة مع مصالحها في جميع الميادين. إن الجنرال ديغول الذي يريد الحفاظ، بشتى الوسائل، على السمعة التي أكتسبها عالمياً، يقدم تفسيراً خاصاً لأوامره القاضية بتكثيف العمل العسكري في الوقت الذي كان يدعو فيه إلى السلم عن طريق التفاوض، ففي هذا الصدد يؤكد ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص: 86. (¬2) HORNE (ALISTAITR) HISTORI DE GUERRE DALGERIRE, P. 370 ET

في مذكراته أنه مقتنع فعلاً، بضرورة إخراج فرنسا من هذه الحرب لكنه يريد قبل ذلك "أن تتمكن القوات الفرنسية من السيطرة على الميدان وتبقى كذلك إلى أن أرى الوقت مناسباً لأمرها بالإنسحاب (¬1). ففي هذا السياق قام بزيارة إلى الجزائر دامت من الثالث إلى السابع من مارس سنة ستين وتسعمائة وألف، تفقد خلالها، معظم المناطق التي تتمركز بها قواته المسلحة ثم جمع الضباط السامين المكونين لقيادات الأركان وخاطبهم قائلاً: "إن المعركة لم تنته، إنها قد تستمر أشهر وأشهراً، ومادامت مستمرة فإن الواجب يدعوكم إلى مغالبة العدو والتغلب عليه (¬2). ومن جهة أخرى، وجه رئيس الدولة الفرنسية اهتمامات بالغة بعملية زرع الشقاق في صفوف الثورة الجزائرية ومحاولة عزل بعض الولايات من أجل التفاهم معها في القوة الثالثة التي كان يعمل على إيجادها من أجل الضغط على جبهة التحرير الوطني. وسوف لن ينسى التاريخ زيارة مجالس الولاية الرابعة إلى فرنسا وإستقباله في قصر الإليزية من قبل الجنرال ديغول نفسه. لقد تم ذلك في سباق ما يسمى بسلام الشجعان وبواسطة المساعدين المقربين للجنرال وفي مقدمتهم الوزير الأول ميشال دويري وبانار تريكو والعقيد ماتهون. ويذكر السيد فرحات عباس أن المقابلة مع الجنرال ديغول لم تكن من أجل إيجاد حل للقضية الجزائرية بل إن فرنسا كانت تهدف إلى ضرب وحدة الصف الجزائري (¬3). وقد أنتبه الرائد سي محمد بوعمامة إلى الخديعة، ولذلك، وبمجرد الرجوع، إلى الجزائر وتوجه العقيد سي صالح إلى الولاية الثالثة قصد إطلاع قائدها العقيد محمد أو الحاج على ما دار بينه وبين رئيس الدولة الفرنسية، فإنه أقدم على إعتقال جميع أعضاء الوفد ونفذ فيهم حكم الإعدام بتهمة المشاركة في الخيانة العظمى. وبما أن الحكومة المؤقتة هي التي تعين مسؤولي الولايات، فإنه أوفد العقيد سي صالح إلى تونس من أجل المحكمة (¬4)، ثم راح يعيد تنظيم ولايته وينشط سائر مناطقها ونواحيها وأقسامها مركزاً على الكمائن والهجومات الخفيفة وعلى العمل الفدائي في المدن والقرى. ومن بين المدن كانت مدينة ¬

_ (¬1) الجنرال مذكرات، ص 92. (¬2) نفس المصدر، ص:90. (¬3) تشريح حرب، ص: 286. (¬4) عندما وصل إلى مقربة من مدينة الأخضرية إشتبك سي صالح مع دورية للجيش الإستعماري فقاتل وأستشهد يوم 08/ 07/1960.

الجزائر التي استعادت أنفاسها وراحت تستعد للإنتفاضة الشعبية التي سوف تعم البلاد إبتداء من العاشر من ديسمبر سنة ستين وتسعمائة وألف. إن هذه الهزيمة التي منيت بها سياسة الجنرال ديغول، مضافة إلى النتائج السلبية. التي توجت الإنتخابات الجهوية التي جرت في شهر ماي والتي كانت السلطات تراهن عليها لإبراز عناصر القوة الثالثة، كل ذلك قد فرض على رئيس الدولة الاستعمارية العودة إلى مبدأ حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره، وقد جاء ذلك في خطاب توجه به إلى الأمة الفرنسية بتاريخ الرابع عشر من شهر جوان قال فيه على الخصوص. "في السادس عشر من شهر ديسمبر فتحت طريق مستقيمة وواضحة، الطريق الموصلة إلى السلم ... فحق الجزائريين في تقرير مصيرهم هو الوحيد ومن الدوامة المعقدة والمؤلمة ... أنني، مرة أخرى، التفت باسم فرنسا إلى قادة الثورة إننا ننتظرهم هنا لنجد معهم نهاية مشرفة للمعارك التي تتواصل حتى الآن. بعد ذلك، سيتم كل شيء لكي تعطى الكلمة إلى الشعب الجزائري وهو مطمئن البال وسوف لن يكون القرار إلا ما يقرره هو بنفسه. (¬1) بعد هذا الخطاب بأقل من أسبوع وصل إلى مولان (¬2) وفد الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية مكوناً من السيدين أحمد بومنجل (¬3) ومحمد الصديق بن يحيى (¬4)، غير أن اللقاءات بين الطرفين لم تؤدِ سوى إلى كسر الحواجز النفسية ¬

_ (¬1) مذكرات الجنرال، ص: 94. (¬2) مدينة صناعية في فرنسا تقع على نهر السين جنوب شرقي باريس التي تبعد عنها بحوالي 45 كلم عدد سكانها حالياً لا يزيد عن أربعين ألف نسمة. (¬3) من المحامين الجزائريين الأوائل، دافع عن مصالي الحاج في الثلاثينات ثم أصبح سنة 1944 واحداً من المسؤولين البارزين في الحركة أحباب البيان والحرية. وفي سنة 1946 أصبح نائباً لفرحات عباس على رأس الإتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري وقد ظل كذلك إلى غاية إندلاع الثورة فلازم الحياد ثم التحق بصفوف فدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا والتي أصبح عضواً قيادياً فيها سنة 1957 وهي نفس السنة التي عين فيها عضواً بالمجلس الوطني للثورة الجزائرية. قام بدور أساسي في الميدان الديبلوماسي وفي سنة إثنتين وستين وتسعمائة وألف عين وزيراً للأشغال العمومية بأولى حكومة للجزائر المستقلة. (¬4) من مواليد مدينة جيجل بالشرق الجزائري، ناضل في صفوف حركة الإنتصار للحريات الديموقراطية التي أسندت إليه مهمة تنظيم الطلبة إلتحق بجبهة التحرير الوطني سنة 1955 وعين عضواً بأول مجلس وطني للثورة الجزائرية. لمع كواحد من التقنيين الماهرين في فن المفاوضات أشتغل رئيساً لديوان السيد فرحات عباس في الحكومة الأولى. كان من المفاوضين في إيفيان، وفي سنة ثلاث وستين وتسعمائة وألف عين سفيراً للجزائر في الإتحاد السوفياتي ثم سفيراً في لندن سنتي 65/ 66 قبل أن يستدعيه هواري بومدين كوزير للإعلام ثم للتعليم العالي فالمالية.

الثورة الجزائرية في مرحلتها الثالثة

وفتح الباب واسعة أمام المفاوضات الحقيقية التي سوف تنطلق بعد إستفتاء الشعب الفرنسي بتاريخ الثامن من شهر جانفي سنة واحدة وستين وتسعمائة وألف. الثورة الجزائرية في مرحلتها الثالثة: لقد كان الإستفتاء في الواقع تبريرياً فقط، أراد ديغول بواسطته إضفاء طابع الشرعية على سياسة مافتئ يمارسها بمفرده وبعيداً عن كل ديمقراطية، وقبل ذلك الإستفتاء بأقل من شهر واحد كانت جبهة التحرير الوطني قد أنزلت الجماهير الشعبية الواسعة إلى شوارع ومدن الجزائر وقراها معلنة عن بلوغ المرحلة الثالثة من الثورة أوجها ومؤكدة صحة التخطيط الذي وضعته القيادة التي قررت إشعال الفتيل ليلة أول نوفمبر (¬1). فالمجلس الوطني للثورة الجزائرية عندما أمر بالإنتقال إلى المرحلة الثالثة من الكفاح المسلح كان قد أسند إلى اللجنة الوزارية المكلفة بشؤون الحرب مهمة التنسيق بين الولايات من أجل تكوين لجان التحريض وإعداد الأعمال التحضيرية وإعداد فرق التأطير والتدخل السريع التي ستوكل لها مسؤولية تعبئة الجماهير الشعبية وتنظيمها في مظاهرات جبارة أيذانا بانطلاق الإنتفاضة الشعبية العارمة. ودامت الأعمال التحضرية أشهراً كاملة ثم جاءت الفرصة في ذلك اليوم التاسع من شهر ديسمبر سنة ستين وتسعمائة وألف. ففي ذلك التاريخ الذي أختاره رئيس الدولة الفرنسية لبدء زيارة أخرى للجزائر، قررت جبهة الجزائر الفرنسية، (¬2) شن إضراب عام في مدينة الجزائر ودعت الأوروبين إلى ¬

_ وفي سنة 1979 عين عضواً بالمكتب السياسي ووزيراً للخارجية، توفي على إثر حادث طائرة كانت تنقله إلى طهران سنة 1980. (¬1) قبل إنطلاق الرصاصة الأولى حددت قيادة جبهة التحرير الوطني مراحل الثورة بثلاث هي على التوالي: مرحلة تعفن الأوضاع ونشر الوعي، مرحلة إنشاء المناطق المحررة على حدود الجزائر لضمان تزويد جيش التحرير الوطني، ومرحلة الإنتفاضة الشعبية (مقتطف من الحديث الذي أجريته مع العقيد عبد الحفيظ بو الصوف يوم 23/ 02/ 1978). (¬2) على إثر هزيمة المتطرفين الفرنسيين في الأسبوع الأخير من شهر جانفي سنة 1960 وإعتقال عدد من مسؤوليهم ظهرت إلى الوجود حركة سرية تحت إسم: "جبهة الجزائر الفرنسية" وبدأت تنشط رسمياً في شهر جوان من نفس السنة تحت الزعامة السياسية لكل من: JEAN MARIE LEPEN, SOUSTELLè BIDAULT LEPEN بمساعدة الباشاغة بوعلام الذي كان يقود حوالي 6000 من الجزائريين المسلحين ضد الثورة في منطقة الورشنيس. إنضم إلى هذه الجبهة كل من الجنرال SALAN والجنرال JOUHAUD .

التظاهر في الشوارع للتعبير عن رفضهم للجزائر الجزائرية، ويذكر السيد فرحات عباس أن المظاهرات قد وقعت بالفعل وتميزت بمشادات عنيفة بين المتظاهرين والقوات الفرنسية التي لم تستعمل سوى القنابل المسيلة للدموع (¬1). وفي مساء ذلك اليوم، أصدرت جبهة الجزائر الفرنسية بياناً وصفت فيه المظاهرات بالإنتصار ودعت إلى الاستمرار في الإضراب العام وإلى مواصلة التظاهر بالنسبة لليوم العاشر من شهر ديسمبر (¬2). ولم تكن تلك الجبهة تعرف أن إطارات جبهة التحرير الوطني قد حددت نفس ذلك اليوم لإحتلال الشارع الجزائري في كافة المدن والقرى ووزعت، للمناسبة، آلاف الأعلام الوطنية واللافتات المعبرة عن إلتحام الشعب بثورته وإستعداده للسير وراء القيادة الثورية حتى النصر أو الإستشهاد. إن الشيوعيين اليوم، يحاولون التقليل من قدرات جبهة التحرير الوطني على التخطيط والتنظيم فيزعمون أن الإنتفاضة الشعبية التي بدأت في اليوم العاشر من شهر ديسمبر إنما كانت تلقائية وهي عبارة عن إنفجار الإحساس لدى الجماهير التي ملت المعاناة وكرهت إستمرار الحرب المدمرة. وهذا الزعم هو نفس إدعاء المؤرخين الفرنسيين وتلامذتهم من الجزائريين أنفسهم. إنه نتاج العقدة بالنسبة للأولين ونتاج الحقد فيما يخص الأخيرين. فالشيوعيون بقلم دانيال مين، يقولون على سبيل المثال: "وفي ديسمبر سنة ستين وتسعمائة وألف، قامت نساء جزائريات غير منخرطات في جبهة التحرير الوطني بالمساهمة جماعياً في مظاهرات شعبية جاءت للتعبير عن نداء يائس من أجل إنهاء الحرب ولتحقيق الإستقلال ... وفي يوم الإثنين، تواصلت المظاهرات بأهمية أقل. ويبدو أن كل هذه المظاهرات كانت انفجاراً تلقائياً للإحساس الشعبي حتى ولو حاول مسؤولون محليون من جبهة التحرير الوطني تنظيمها والإشراف عليها" (¬3). أما الفرنسيون فآخذ عينة منهم السيد تريبي وهم أكثرهم إعتدالاً إذ يقول: "ومن جهة أخرى، فإن التجمعات والمظاهرات التي ضمت حشوداً غفيرة من ¬

_ (¬1) تشريح حرب، ص: 296. (¬2) نفس المصدر. (¬3) دانيال جميلة عمران، حرب الجزائر (1954 - 1962) النساء في معركة الجزائر 1993ص: 203 وما بعدها.

المسلمين خاصة في العاصمة وفي وهران، قد شكلت مفاجأة بالنسبة للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية التي لم تكن تتوقع ذلك ولم تكن على علم بما في داخل الجزائر ... ونستطيع القول، على أية حال، إن ظاهرة الحرب التي ظلت مستمرة منذ سنوات قد تجلت عن وجود قوة جديدة هي قوة الجماهير المسلمة التي أصبحت قابلة للتنظيم والتي صار يحسب لها ألف حساب" (¬1). ومن بين تلامذة المؤرخين الفرنسيين نشير مع الأسف الشديد إلى الرئيس فرحات عباس الذي كتب: "أن بعض ضباط الأقسام الإدارية الحضرية الذين ساءتهم تجاوزات الأوربيين وهجوماتهم على رجال الشرطة والدرك قد أذنوا للمسلمين بالتظاهر لمساندة الجنرال ديغول" (¬2). إن قراءة متمعنة في هذه النماذج الثلاثة من الكتابة حول الإنتفاضة الشعبية التي بدأت، فعلاً، في شهر ديسمبر تقودنا حتماً إلى إبداء الملاحظات التالية: 1 - إن دانيال مين لم تنتبه إلى أنها تكتب إلى جمهور قادر على التفكير وغير مستعد للتلقي دون فحص أو تمحيص، ولذلك فهي تزعم أن الجزائريات لم تكن منخرطات في جبهة التحرير الوطني لكنها لم تتساءل عن كيف وصلت أولئك النساء إلى الشارع ومن دفعهن للخروج وكيف تحصلن على الإعلام الوطنية التي كانت ترفرف بالآلاف النساء إلى الشارع ومن جاء باللافتات ووضع الشعارات المعبرة؟ وفوق كل هذا فإن الحزب الشيوعي الجزائري والحركة الوطنية الجزائرية تشكيلتان سياسيتان تنشطان بالتوازن مع جبهة التحرير الوطني وغير معترفين بتمثلها للشعب الجزائري، فلماذا لم ترفع المشاركات في المظاهرات سوى شعارات جبهة التحرير الوطني ولم يشرن في حماسهن إلى التشكيلتين المذكورتين؟ 2 - تذكر دانيال مين أن المظاهرات الشعبية جاءت للتعبير عن نداء يائس من أجل إنهاء الحرب ولتحقيق الاستقلال، وهي في ذلك تتناقض مع الجنرال ديغول الذي تعرض لموضوع الحرب في ندوة صحفية عقدها شهراً واحد قبل الإنتفاضة فقال: "لقد أنخفضت العمليات وكذلك عدد الضحايا المدنيين شهرياً إلى نصف ما كانت عليه قبل سنتين". وفي ميدان الإستثمارات التي تمولها الخزينة الفرنسية، فإن الأرقام قد بلغت ¬

_ (¬1) تريبي، ص: 506 وما بعدها. (¬2) تشريح حرب، ص: 297.

هذه السنة مائة مليار فرنك قديم وستكون ثلاثة مليارات في العام القادم. وفيما يتعلق بتطوير البلاد بالمقارنة مع ما كانت عليه قبل التمرد، فإن الإنتاج الزراعي قد ازداد بنسبة 50% وتضاعف إستهلاك الكهرباء، وكذلك المبادلات الخارجية والتمدرس، وضرب في أربع عدد السكنات المبنية وفي خمس عدد الطرقات المشقوقة وفي عشر بناء المصانع ثم وصل أنبوب البترول الصحراوي الذي سيضمن مستقبلاً للجزائر مدخولات مالية معتبرة" (¬1). إن عرض الجنرال هذا يدل على أن الحرب لم تعد ذلك الواقع الذي يدفع إلى اليأس، أما من وجهة النظر الجزائرية، فإن الحرب قد تطورت إيجابياً بفضل تمكن قيادة الأركان من إعادة تنظيم وحدات فيالق جيش التحرير الوطني في الخارج، وفتح جبهة الجنوب التي استطاعت سنة ستين وحدها، قلب الأوضاع في الصحراء وربطت قواعدها بمناطق الولايات المجاورة. ومن جهة أخرى كيف يمكن أن تكون المظاهرات الشعبية تعبيراً عن نداء يائس لتحقيق هدفين متكاملين، ما في ذلك شك، ولكنهما لا يتحققان إلا بفعل قوي منتصر، لأن نداء اليائس إذا كان يستطيع إيقاف الحرب فإنه لا يستطيع أبداً إسترجاع الحق المغتصب. 3 - إن دانيال مين تتناقض مع نفسها عندما تدعى أن المظاهرات كانت تلقائية وفي نفس الفقرة تذكر أنها امتدت إلى العديد من المدن والقرى، وتؤكد جميع المصادر (¬2) أن الإنتفاضة الشعبية قد تواصلت إلى غاية نهاية شهر جانفي سنة واحد وستين وتسعمائة وألف حيث هدأت لتستأنف من جديد في منتصف السنة وتبلغ أوجها في شهر أكتوبر بالنسبة لفرنسا ونوفمبر بالنسبة للجزائر. 4 - يزعم السيد فيلب تريبي أن المظاهرات باغتت الحكومة المؤقتة التي كانت تعيش معزولة عن الداخل، وفي نفس الوقت يقرر أن تلك المظاهرات كشفت عن ظاهرة جديدة هي قوة الجماهير المسلمة "التي أصبحت قابلة للتنظيم وصار يحسب لها ألف حساب". ولو كان هذا الإدعاء صحيحاً أو فيه على الأقل جزء من الصحة لما ترك الجنرال ديغول الفرصة تمر دون توظيفها خاصة ونحن نعرف أنه كان، في تلك الفترة، يبحث عن القوة الثالثة التي تمكنه من الضغط على جبهة ¬

_ (¬1) مذكرات الجنرال، الجزء الأول، 81 وما بعدها. (¬2) انظر دراستنا حول هذا الموضوع في مجلة الجيش، العدد 19 الصادر بتاريخ 18/ 03/ 1972.

التحرير الوطني كي تتنازل عن بعض الشروط التي وضعتها كأساس لبدء المفاوضات. 5 - إن السيد فرحات عباس، رغم تواجده على رأس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية لم يكن مدركاً لحقيقة الثورة التي كانت تتواصل طبقاً لإيديولوجية كانت غريبة عنه ولم يتمكن من الإرتقاء إليها. ومن جهة أخرى، يبدو أن رئيس الحكومة لم يستفد من التحاقه بجبهة التحرير الوطني للتخلص من التبعية الذهنية التي سوف تظل ملازمة له إلى آخر رمق من حياته وأكبر دليل على ذلك كتابه الأخير الذي ألفه عندما بلغ سن الثمانين (¬1). فالإنبهار أمام المستعمر هو الذي جعله يكتب دون تحليل، وإلاّ كيف يصف أمر ضباطاً صغاراً يأخذون على عاتقهم مسؤولية الترخيص للمسلمين بالتظاهر لصالح ديغول ولصالح جبهة التحرير الوطني. ألم يكن يعرف أن ثمة إنضباطاً عسكرياً وأن فعلاً من هذا النوع يدخل في إطار الخيانة العظمى؟ إلى جانب كل هذه الملاحظات هناك حقيقة بسيطة يجب التوقف عندها لفهم واقع الإنتفاضة وتفسير كل ما أحاط بها من غموض. وتتمثل هذه الحقيقة في كون المجلس الوطني للثورة الجزائرية، عندما وافق على الإنتقال إلى المرحلة الثالثة من مراحل الكفاح المسلح عين لجنة عليا (¬2) وأسند لها مهمة التحضير للإنتفاضة الشعبية التي كان من المفروض أن تبدأ بمناسبة إحياء ذكرى أول نوفمبر. ولقد اشتغلت اللجنة مع جميع هيئات الثورة بعيداً عن الأضواء كما يتطلب ذلك العمل السري إذا أريد له النجاح. ووضع المخطط أولاً، وكان يشتمل على النقاط التالية: 1 - تشكيل لجان التأطير والشروع، حيناً، في تكوين أعضائها سياسياً وعسكرياً. 2 - تشكيل لجان الإسناد التي تتولى صناعة الأعلام الوطنية وإعداد اللافتات ثم خزنها في الأماكن القريبة من ساحات التجمع ومراكز الإنطلاق. وبعد الاتفاق على هذا المخطط جرى الإتصال مع قيادات الولايات في ¬

_ (¬1) ABBAS (FE RHAT) LINDEPENDANCE CONFISQUEE, FLAMMARION LE 20/ 09/1984 (¬2) تكونت هذه اللجنة من السادة عبد الحفيظ بو الصوف ولخضر بن طوبال، المدعو سي عبد الله وعبد الحميد مهري وكريم باقاسم.

المفاوضات ووقف إطلاق النار

الداخل وكذلك مع فيدرالية جبهة التحرير الوطني في أوربا وأنطلق العمل بثبات وجدية، وما كاد ينتهي شهر أوت حتى وضعت اللجنة تقريرها الإجمالي الذي ضمنته إستعداد مدن الجزائر وقراها لبدء المظاهرات الشعبية، لكن الإنتفاضة سوف تتأجل بسبب تصريحين صدرا عن الجنرال ديغول، الأول بتاريخ الخامس من شهر سبتمبر عندما قال: "أعتقد أن الجزائريين حينما يستشارون سوف يبدون رغبتهم في أن تكون الجزائر جزائرية. ويبقى فقط أن نعرف هل ستكون تلك الجزائر ضد فرنسا أو متعاونة معها (¬1). أما التصريح الثاني فكان بتاريخ الرابع من شهر نوفمبر عندما قال في خطاب إلى الأمة الفرنسية: "لقد قررت، باسم فرنسا، أن أواصل الطريق الموصلة ليس إلى الجزائر التي تقودها فرنسا ولكن إلى جزائر جزائرية بحكومتها ومؤسساتها وقوانينها (¬2). المفاوضات ووقف إطلاق النار: وفي نهاية شهر جوان سنة ستين وتسعمائة وألف فشل اللقاء الذي جرى في مدينة مولان بين وفد الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية ووفد الحكومة الفرنسية برئاسة السيد روجي موريس الأمين العام لوزارة الشؤون الخارجية. وعن ذلك الفشل كتب الجنرال ديغول ما يلي: "إن شروط التفاوض التي نقلها الوفد الجزائري تتضمن ضرورة تنظيم محادثة مباشرة بين فرحات عباس والجنرال ديغول، والسماح للمتفاوضين الجزائريين بالإقامة في التراب الفرنسي وإستقبال ومقابلة من يريدون، والإدلاء بجميع التصريحات، وكذلك إطلاق سراح ابن بلة ورفاقه المعتقلين بجزيرة إيكس لينضموا إلى المتفاوضين، بالطبع، قيل للوفد الجزائري إن كل ذلك لن يكون مقبولاً إلا إذا توقفت المعارك والحوادث. وبصفة خاصة، فإن الجنرال ديغول لن يتحدث مع قائد المتمردين مادام الرصاص يطلق على جنوده في الجزائر ومادام المدنيون من مواطنيه يغتالون حتى في شوارع بباريس" (¬3). إن الإنتفاضة الشعبية قد غيرت هذه الغطرسة وجعلت الجنرال ديغول في شهر جانفي سنة واحد وستين وتسعمائة وألف يكتب: "أن الجزائر تكلفنا أكثر مما تدره علينا ... ولذلك فإنني أكرر أن فرنسا تعمل على إيجاد حل يخلصها ¬

_ (¬1) مذكرات الجنرال، ص: 95. (¬2) نفس المصدر، ص: 96. (¬3) مذكرات الجنرال، الجزء الأول ص: 94.

منها نهائياً. وسوف لن ترى مانعاً في أن يقرر السكان الجزائريون إقامة دولة تتولى تسيير شؤون بلادهم (¬1). لقد كان الجنرال ديغول، قبل هذا التاريخ، يراهن على إمكانية إخماد صوت الثورة بواسطة العمل العسكري حتى يعيد للجيش الفرنسي إعتباره بعد الهزيمة المنكرة التي لحقت به في ديان بيان فو، ولذلك رأيناه يختار الجنرال شال قائداً أعلى للقوات المسلحة ويأتي إلى الجزائر بأكبر عدد ممكن من الجنود تحت قيادة أفضل ما لفرنسا من ضباط سامين. ولتسهيل مهمة الجيش عمل جبهتين سياسيتين لإضعاف جبهة التحرير الوطني وليجعلها تنشغل بموضوعات أخرى غير التي تستلزمها المعركة. فمن جهة، جند كل أنواع المخابرات الفرنسية والمصالح السيكلوجية من أجل التوصل إلى زرع الشقاق في الأوساط القيادية للثورة وزعزعت الثقة السائدة على جميع المستويات. ومن جهة ثانية لم يترك محاولة واحدة دون إستعمالها لإيجاد قوة ثالثة بواسطة تشجيع الحركة الوطنية الجزائرية التي يتزعمها مصالي الحاج أو عن طريق دفع المنتخبين الجزائريين وبعض الشخصيات البارزة إلى تشكيل هيئات يمكن اللجوء إليها لأحكام الضغط على الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. كل هذه المساعي التي قام بها الجنرال ديغول مدة ثلاثين شهراً لم تحقق له ماكان ينتظر من نتائج، بل جعلته يلمس بنفسه أن الإنتصار مستحيل وأن مواصلة الحرب مستحيلة إلى مالا نهاية ستعرض الجيش الفرنسي إلى الإنقسام والوحدة الوطنية إلى الزوال كما أكد بنفسه في مذكراته (¬2). وعليه، وخدمة لفرنسا، قرر الإلتفات إلى جهبة التحرير الوطني من أجل التفاوض الجدي وراح يبحث عن مبررات موقفه الجديد، وليلبسه الثوب الذي لا يشين سمعة الجنرال وسمعة فرنسا معاً. وكانت أول خطوة في الطريق الجديد هي إستفتاء الشعب الفرنسي حول موافقته أو عدم موافقته على تمكين الجزائريين من تقرير مصيرهم، ولم يكن ذلك في الحقيقة سوى تمثيل لأن الإعلان عن حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره بنفسه قد تم باسم فرنسا في اليوم السادس عشر من شهر سبتمبر سنة تسع وخمسين وتسعمائة وألف. ويومها أعطى الجنرال ديغول شرحاً وافياً لمعنى تقرير المصير إذ قال: إن الجزائريين بممارستهم لهذا الحق سيفضلون فيما إذا ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص: 110. (¬2) مذكرات الجنرال، ص: 97.

كانوا يريدون الإنفصال الكلي عن فرنسا التي هي في هذه الحالة ستتوقف عن تزويد الجزائر بالخير العميم وبمليارات الفرنكات وعن فعل أي شيء لتجنيبها الفاقة والفوضى. أو هم يريدون الفرنسة التي يصبحون بموجبها جزءاً لا يتجزأ من الشعب الفرنسي يتمتعون بكامل المساواة في ممارسة الحقوق السياسية والإقتصادية والإجتماعية (¬1). وتتمثل الخطوة الثانية في فتح التفاوض مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بعد أن فشلت جميع محاولات الجنرال ديغول الرامية إلى إيجاد مسلك آخر يجنبه ذلك. فمن ناحية التوصيل إلى القضاء عسكرياً على جبهة التحرير الوطني وجد الجنرال نفسه، كما رأينا، مضطراً للإعتراف بالواقع الذي أثبت تجذر جيش التحرير الوطني وإنتشاره في مختلف أنحاء الوطن بحيث لم يعد في مقدور أية قوة التغلب عليه (¬2). وفيما يتعلق بتكوين القوة الثالثة. أيقن الجنرال ديغول أن كل بناء ينجزه في هذا المجال يتحول تلقائياً لفائدة جبهة التحرير الوطني (¬3)، ومن ذلك أن البرلمانيين الجزائريين المسلمين الذي شجعوا على تأسيس حزب وطني يكون بديلاً لجبهة التحرير الوطني قد شكلوا، بالفعل، التجمع الديمقراطي الجزائري، ولكن ليطالبوا الحكومة الفرنسية بفتح مفاوضات عاجلة ومباشرة مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. أما الخطوة الثالثة فقد قطعها الجنرال ديغول في شهر أفريل (¬4) عندما وجه خطاباً للأمة الفرنسية ذكرها فيه بمواقفه الهادفة لإزالة الإستعمار وهي مواقف ظلت تلازمه من أكثر منذ عشرين سنة ولم يكن متمسكاً بها بسبب حركة التحرير التي تولدت عن الحرب العالمية الثانية بل لأنها تخدم مصلحة فرنسا وتساعدها على التخلص من الكوابح التي تمنعها من التقدم والتطور، وعندما تطرق للقضية الجزائرية قال: "وبهذا الصدد، فإن أي تصور أو أي إنتخاب لن يكون واقعياً إلا إذا ساهم فيه، بالمقام الأول، الذين يحاربون من أجل الإستقلال ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص: 80. (¬2) السيتر هورن، تاريخ حرب الجزائر، ص 430 وما بعدها. (¬3) CAHLLES (MAURICE) NOTRE REVOLTE. PARIS 1968, P. 46 يقول المؤلف أن الحكومة الفرنسية والتشكيلة السياسية المساندة لها قد حاولتها طلبة سنة ستين بأكملها، تأسيس حزب حيادي يتبنى السياسة الديغولية المبنية على المشاركة. ورغم كل المجهودات المعتبرة المبذولة من طرف الإدارة، فإن القوة الثالثة لم تقف على رجليها بل ولم ترى النور بالكيفية التي كان يدعو إليها الجنرال ديغول. (¬4) ألقي هذا الخطاب يوم 11 أفريل سنة واحدة وستين وتسعمائة وألف.

وذلك لأن الأغلبية الساحقة من الجزائريين، في الوقت الحاضر، يجدون فيهم تعبيراً عن أنفسهم. وعليه أصبح الأمر اليوم، يتعلق بحمل جبهة التحرير الوطني على الإتفاق معنا. وحينما تتوقف المعارك يقترح على مواطني البلدين أن يقرروا، بواسطة الإقتراع، بناء الجزائر المستقلة وتنظيم علاقاتها مع فرنسا (¬1). هكذا، إذن، جعل الجنرال ديغول اللجوء إلى التفاوض مطلباً حيوياً لم تفرضه عليه الثورة الجزائرية، ولكنه يندرج ضمن مبادئ التحرر والإنعتاق التي زعم أنها ظلت دائماً ملازمة له، وفي إطار تلبية رغبة السكان الجزائريين وتمشياً مع إرادة الشعب الفرنسي التي عبر عنها بواسطة استفتاء الثامن من شهر جانفي سنة واحدة وستين وتسعمائة وألف. ولقد وجد من بين المؤرخين ورجال السياسة من صدق هذا الإدعاء نسي الجميع مختلف التصريحات التي كان الجنرال يدلي بها والتي كان ينكر فيها على جبهة التحرير الوطني حق التفاوض باسم الشعب الجزائري ويلوح بضرورة إشراك أطراف أخرى لتسوية المشكل الجزائري على أساس "التهدئة والتحول الإقتصادي والعمل من أجل تكوين الشخصية الجزائرية الجديدة (¬2). أما مسألة إسترجاع الإستقلال الوطني فلم تكن مطروحة على الإطلاق. ففي اليوم التاسع والعشرين من شهر جانفي سنة ستين وتسعمائة وألف قال ديغول: "إن منظمة المتمردين تزعم أنها لا توقف القتال إلا إذا تحادثت معها حول مصير الجزائر، وذلك يعني أننا نعترف بها المنظمة الوحيدة التي تمثل الشعب الجزائري، ونعترف بها مسبقاً كحكومة للجزائر. وهذا ما لن أفعله أبداً". وقبل الإنتفاضة الشعبية بحوالي شهر فقط (¬3) كرر ذلك بصيغة أخرى إذ صرح: "إنهم يزعمون أن وقف القتال لن يتم إلا إذا ضبطوا معنا شروط الإستفتاء كأنهم يمثلون الجزائر جميعها". ومهما يكن من أمر، فإن الإتصالات السرية قد أستؤنفت جدية بين الطرفين مباشرة بعد إستفتاء الثامن من جانفي سنة واحدة وستين وتسعمائة وألف ثم تعثرت بسبب محاولة الحكومة الفرنسية من جديد إقحام أطراف أخرى في المحادثات (¬4) وبسبب الانقلاب (¬5) العسكري الفاشل الذي وقع ليلة الثاني ¬

_ (¬1) مذكرات الجنرال الجزء الأول، ص103. (¬2) مذكرات الجنرال، ص: 75. (¬3) المقصود هنا هو الخطاب الذي ألقاه الجنرال ديغول يوم 04/ 11/1960. (¬4) كان الطرفان الفرنسي بواسطة جورج بومبيدو والجزائري بواسطة أحمد بومنجل قد أعلنا يوم 30/ 03/1961 أن المفاوضات ستنطلق بإيفيان يوم 07/ 04/1961، لكن الحكومة الجزائرية أجلت ذلك التاريخ بسبب تصريح السيد لوس جوكس الذي جاء فيه أن فرنسا ستتفاوض كذلك مع الحركة الوطنية الجزائرية التي يتزعمها السيد الحاج مصالي. (¬5) هو الانقلاب الذي تزعمه الجنرال شال بمعية الجنرالات جوهر، زلروسالان وبمشاركة مجموعة من العقداء أمثال قارد، آركو وكان الهدف من الإنقلاب فصل الجزائر عن فرنسا لمدة ثلاثة أشهر يتولى خلالها القضاء على جيش التحرير الوطني وعلى شبح الجزائر المستقلة كي لا يبقى في التاريخ سوى الجزائر الفرنسية. لكن الجنرال ديغول قاوم المتآمرين واستطاع أن يفشل حركتهم في ثلاثة أيام (اليستر هورن، ص464 وما بعدها).

والعشرين من شهر ماي سنة واحدة وستين وتسعمائة وألف ثم تعثرت بسبب محاولة الحكومة الفرنسية من جديد اقحام أطراف أخرى في المحادثات وبسبب الانقلاب العسكري الفاشل الذي وقع ليلة الثاني والعشرين من شهر ماي سنة واحد وستين وتسعمائة وألف، إنما كان ذلك بالنسبة لجبهة التحرير الوطني على أساس الشروط الواردة في نداء الفاتح من نوفمبر عام أربعة وخمسين وتسعمائة وألف وهي حرفياً كما يلي (¬1): 1 - الإعتراف بالجنسية الجزائرية بطريقة علنية ورسمية، ملغية بذلك كل الأقاويل والقرارات والقوانين التي تجعل من الجزائر أرضاً فرنسية رغم التاريخ والجغرافيا واللغة والدين والعادات للشعب الجزائري. 2 - فتح مفاوضات مع الممثلين المفاوضين من طرف الشعب الجزائري على أساس الإعتراف بالسيادة الجزائرية للشعب واحدة لا تتجزأ. 3 - خلق جو من الثقة وذلك بإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين ورفع كل الإجراءات الخاصة وإيقاف كل مطاردة ضد القوات المكافحة. من هذا المنطلق، وفي نفس اليوم الذي بدأت فيه المفاوضات أعلنت الحكومة الفرنسية عن إطلاق سراح ستة آلاف معتقل سياسي ونقل القياديين الخمسة إلى قصر توركان وعن هدنة عسكرية من طرف واحد لأن الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية اعتبرت ذلك في غير أوانه، ولأنها لو فعلت لوقعت في الفخ المنصوب لها وتم وقف إطلاق النار قبل كل تسوية سياسية وهو ما ظلت تدعو إليه الحكومات الفرنسية منذ سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف. وكان التفاوض صعباً. فالجانب الفرنسي رغم الضمانات الشكلية المذكورة أعلاه لم يغير موقفه الأساسي المتناقض تماماً مع جبهة التحرير الوطني. لم يكن الجانب الجزائري، فيما يخصه، قادراً على تجاوز الشروط الوارد ذكرها ضمن ¬

_ (¬1) انظر الملحق رقم: 8.

النصوص الأساسية للثورة. وبقيت المحادثات تدور في حلقة مفرغة مدة خمسة وعشرين يوماً وقد توقفت بطلب من الحكومة الفرنسية في اليوم الثالث عشر من شهر جوان سنة واحد وستين وتسعمائة وألف. وعلى الرغم من تمسك كل طرف بموقفه، فإن الوفدين قررا مواصلة الإتصال فيما بينهما ولم يكن من السهل، في ذلك الوقت، التكهن بإمكانات التوصل بسرعة إلى تقريب وجهات النظر. فالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية تريد من فرنسا أن تعترف للجزائر بالسيادة المطلقة وبسلامة التراب الوطني وبوحدة الشعب ذي الثقافة العربية والإسلامية إلى جانب أقلية أوروبية وبجبهة التحرير الوطني كممثل وحيد للشعب الجزائري. أما فرنسا فتزيد حسب الترتيب الإستقلال الداخلي، وفصل الصحراء عن الجزائر وتجزئة الشعب على أساس عرقي وتنظيم طاولة مستديرة تشارك فيها أطراف أخرى وهدنة فقط، وأدى تواصل الإتصالات السرية بين الطرفين إلى تنظيم لقاء جديد في مدينة لوقران الفرنسية دام أسبوعاً كاملاً ولم تدرس فيه سوى مسألة الصحراء التي أقترح الوفد الفرنسي تسويتها بواسطة ندوة مشتركة بين جميع البلدان المجاورة لها. وأمام الوفد الجزائري علقت المفاوضات من جديد وكان ذلك في اليوم الثامن والعشرين من شهر جويلية سنة واحدة وستين وتسعمائة وألف. في كل هذه الأثناء كانت الساحة الجزائرية قد عرفت تطورات خطيرة تتمثل خاصة في ظهور المنظمة السرية المسلحة (¬1) إبتداء من مستهل شهر مارس وشروعها في العمل التخريبي بواسطة التقتيل ونسف المؤسسات الإقتصادية، وقد توج ذلك بإنقلاب الجنرالات الأربعة صبيحة اليوم الثاني والعشرين من شهر أفريل. وفي داخل قيادة الثورة توترت العلاقات بين الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وبين قيادة الأركان التي قدمت إستقالتها بواسطة رسالة تحمل تاريخ الخامس عشر من شهر جويلية، ضمنتها مآخذ كثيرة في مقدمتها التهاون والفوضى والرشوة. ¬

_ (¬1) أول بيان نشر يوم 05/ 03/1961، قد ذكر فيه أنها تعمل من أجل الحفاظ على الجزائر فرنسية وهي مستعدة لتجنيد مائة ألف رجل ولها من الإمكانيات المادية ما يكفي لتحقيق أهدافها. (ويذكر السيد محمد حربي في جبهة التحرير الوطني، ص 321 أن هذه المنظمة تأسست في شهر جانفي سنة 1961 لكن السيد اليستر هورن ص 456 يؤكد أن المحامي PIERRE POPIE قد أغتيل يوم 25/ 01/1961 من طرف المتطرفين الكولون وأن ذلك الإغتيال هو الذي أوحى لكل من لاقيارد وسورزيني بتكوين منظمة سرية مسلحة هي التي عرفت خطأ بمنظمة الجيش السري.

وأمام هذه الأوضاع كلها، ونظراً لكون المجلس الوطني للثورة الجزائرية لم يجتمع في دورته العادية فإنه إستدعى لذلك، وأنطلقت إشغاله بطرابلس في اليوم الخامس من شهر أوت سنة واحدة وستين وتسعمائة وألف. تواصلت أشغال المجلس مدة بين أعضاء قيادة الأركان وأعضاء الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وخاصة منهم السيدين فرحات عباس وكريم بلقاسم، فبالنسبة للأول، يرى قادة الجيش أنه غير متشبع بإيديولوجية الثورة وأنه معتدل أكثر مما ينبغي وغير قادر على مواجهة الحكومة الفرنسية، ويرون بالنسبة للثاني أنه لم يحسن الدفاع عن الملف الجزائري في مختلف اللقاءات مع الجانب الفرنسي، وأنه قدم كثيراً من التنازلات بدون فائدة تذكر. ورداً على هذه الإتهامات التي لا تستند على دليل مادي، وزعت على المشاركين في الدورة محاضر جلسات التفاوض، وعمل رئيس الحكومة ونائبه على التشهير بقيادة الأركان التي "اتصلت بكل الأموال التي طلبتها وجلبنا لها كميات هائلة من الأسلحة المتطورة والذخيرة. وبدلاً من إمداد الداخل بما يحتاج إليه راحت تشغل نفسها بأمور سياسية لاناقة لها فيها ولا جمل (¬1). ويبدو للوهلة الأولى أن المجلس الوطني للثورة الجزائرية إنتصر لقيادة الأركان إذ صادق بالإجماع على إستبدال السيد ابن يوسف بن خدة الذي كان واحداً من القادة الأساسيين للحركة الثورية وواحداً من المساعدين الرئيسيين للشهيد العربي بن المهدي أثناء توليه إعادة تنظيم المنطقة الرابعة (¬2) والإعداد لمؤتمر وادي الصومام. وتجدر الإشارة إلى أن الرئيس ابن خدة الذي عين عضواً بأول لجنة التنسيق والتنفيذ قد ظل وفياً للخط الإيديولوجي ولم يفتأ ينادي بضرورة عودة القيادة العليا للثورة إلى أرض الوطن، عملاً بأولوية الداخل على الخارج. لكن السيد فرحات عباس لم ينظر إلى عملية إستبداله بهذا المنظار، بل رأى في الأمر إنحرافاً خطيراً لجبهة التحرير الوطني التي بعد هذا التعديل الجديد، قد أصبحت حكراً على عناصر حركة الإنتصار للحريات الديمقراطية يقول: "يظهر جلياً، بعد التحليل أن الحكومة المؤقتة الجديدة لم تعد تمثل جبهة التحرير الوطني في مجموعها، بل حركة الإنتصار للحريات الديمقراطية وحدها، فالمؤامرات التي حيكت في تونس قد أدت إلى إبعاد ممثلي الإتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين. ومع إقتراب ¬

_ (¬1) فرحات عباس، تشريح الحرب، ص: 317. (¬2) كان ذلك بعد إعتقال قائدها السيد رابح بيطاط.

موعد الإستقلال تجمع المركزون (¬1) واعتلوا الصدارة متهمين إيانا بالإنتهازيين والمتطفلين في حين أن الإتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري قد إنضم قبلهم إلى جبهة التحرير الوطني (¬2). إن فرحات عباس، في تحليله هذا، لم يكن واقعياً ولا منطقياً، فمن جهة يؤكد إنضمام الإتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري إلى جبهة التحرير الوطني سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف وطبقاً للشروط المعمول بها في ذلك الوقت أي حل التنظيم والإلتحاق الفردي والتخلي عن الإيديولوجية السابقة، ومن جهة أخرى يعلل إبعاده عن رئاسة الحكومة بكونه فقط من الإتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري، أما جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فإن ممثلهم، أن صح هذا التعبير، قد أزيح عن التشكيلة الثانية التي كان يرأسها عباس نفسه، ولم ير داعياً يومها، للتعليق على الإجراء الذي اعتبر عملاً طبيعياً. وبالنسبة للسيد كريم بلقاسم، فإن المجلس الوطني للثورة الجزائرية قد أبقاه نائباً للرئيس وعوضه عن الخارجية بوزارة الداخلية التي تركها، لخضر بن طوبال ليتولى، من منصب وزير الدولة، مهمة إعادة تنظيم جبهة التحرير الوطني وتحضيرها لقيادة الشعب بعد إسترجاع الإستقلال الوطني. وقد أسندت وزارة الشؤون الخارجية إلى السيد دحلب وهو الوزير الوحيد الذي يعين لأول مرة رغم عضويته للجنة التنسيق والتنفيذ منذ أشهرها الأولى (¬3). وإلى جانب تعديل الحكومة، قام المجلس الوطني للثورة الجزائرية بدراسة أوضاع جيش التحرير الوطني في الخارج وفي الداخل وأمر قيادة الأركان بالتراجع عن إستقالتها وأوصاها بمضاعفة الجهود من أجل تزويد الولايات بكل ما تحتاج إليه قصد تمكينها من الإستجابة لمتطلبات المرحلة الثالثة من مراحل الثورة، كما أنه ناقش الرسالة التي وجهها له القياديون المعتقلون الخمسة وتوقف، ملياً، عند مختلف المراحل التي قطعتها المفاوضات وأصدر تعليمات لمواجهة المراحل المقبلة. وبينما كان المجلس الوطني للثورة الجزائرية يراجع إمكانياته، ويعيد ترتيب صفوفه، كان الجنرال ديغول يستمع إلى مستشاريه وفي مقدمتهم السيد ¬

_ (¬1) هم أعضاء اللجنة المركزية لحركة الإنتصار للحريات الديمقراطية المنشقة عن المكتب السياسي والمتمردة زعيمها مصالي. (¬2) فرحات عباس، ص 318. (¬3) انظر الفصل الثالث من الباب الثاني حول إستخلاف الشهيد زيغود بالسيد سعد دحلب.

بارنادر تريكو (¬1) الذي تجرأ على مصارحته بما يجري في الجزائر وما ترتب عنه من عواقب وخيمة بالنسبة للشعب الفرنسي، أما عن الجزائر، فقد توقف تريكو طويلاً عند المظاهرات الشعبية التي نظمتها جبهة التحرير الوطني بمناسبتي الفاتح والخامس من شهر جويلية سنة واحدة وستين وتسعمائة وألف، وقدم شروحاً وافية عن اللافتات والشعارات التي كانت كلها تنادي بوحدة الشعب ووحدة التراب الوطني، وتعبر عن مساندة الجماهير لسياسة الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، وتطالب بالتفاوض معها على أساس الإستقلال لكامل الوطن بما في ذلك الصحراء. ولم ينس المستشار تذكير الجنرال بأن تلك المظاهرات قد كلفت الشعب الجزائري حوالي مئة قتيل وأزيد من أربعمائة جريح (¬2)، كما أنهى إلى مسامعه تصاعد العمل العسكري والفدائي الذي تقوم به جبهة التحرير الوطني التي أصبحت بالفعل تسيطر على كافة التراب الجزائري. ومن جهة أخرى، فإنه لم يخف عليه تزايد النشاط التخريبي الذي تقوم به منظمة الجيش السري (المنظمة السرية المسلحة) وأما عن فرنسا، فإن التقارير كلها أجمعت على أن أغلبية الشعب فيها أصبحت لا تخفي تذمرها من سياسة الجنرال ديغول التي طغت عليها حرب الجزائر بما فيها من تقتيل وتعذيب وتمرد الجنرالات ومن إدانات صادرة عن الأمم المتحدة وعن غيرها من المنظمات الدولية، كل ذلك في الوقت الذي تزيد فيه الأوضاع تدهوراً في المجالين الإقتصادي والإجتماعي خاصة. لم يكن الجنرال متعوداً على سماع مثل هذه الحقائق المزعجة التي تجب إضافتها إلى الإنفجارات التي تستهدف، يومياً حياة الفرنسيين وممتلكاتهم في العاصمة الفرنسية نفسها ثم تلك الحادثة التي كادت تذهب بحياته ليلة التاسع من شهر سبتمبر سنة واحدة وستين وتسعمائة وألف (¬3) وما كان قبلها موجها ضد شخصيات فكرية وسياسية بارزة مثل أندري مالرو (¬4) وكنيل بلان رئيس بلدية ¬

_ (¬1) اليستار هورن تاريخ حرب الجزائر، ترجمة عن الإنكليزية أيف دي قارني، باريس 1980، ص: 495. (¬2) نفس المصدر، ص: 490 وكذلك المجاهد، العدد 83 الصادر بتاريخ 19/ 07/ 1961، ص: 535 وما بعدها. (¬3) مذكرات الجنرال، الجزء1، ص: 129. (¬4) ضابط عسكري ورجل فكر وسياسة فرنسي من مواليد سنة 1901، له مؤلفات عديدة وحائز على جائرة قاتكور، شارك كطيار في صفوف الجيش الجمهوري أثناء الحرب الأهلية في إسبانيا، قام الإحتلال الألماني تحت قيادة الجنرال ديغول الذي قربه إليه وتصادق معه. وفي سنة 1947

إيفيان (¬1). وتتويجاً للكل، تناقلت وكالات الأنباء في اليوم السابع والعشرين من شهر أوت تعيين السيد ابن يوسف بن خدة "الإرهابي" على رئاسة الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية خلفاً للسيد فرحات عباس المعتدل". لقد قضى الجنرال ديغول أربعين شهراً في الحكم الذي ماكان يحلم بالعودة إليه لو لم تكن هناك ثورة الجزائر. وخلال كل هذه الفترة لجأ إلى سائر الحيل، وإستعمل جميع الوسائل للقضاء، بقوة السلاح، على جبهة التحرير الوطني. عزز خط موريس بخط شال وأقام بينهما حقول الألغام، وعين الجنرال شال قائد أعلى للقوات المسلحة ووضع تحت تصرفه جميع إمكانيات الجيش الفرنسي لتطبيق مخططه المشتمل على العديد من العمليات التي قيل إنها ستمسح جبال الجزائر مسحاً لا يبقي ولا يذر، وإستعمل سلام الشجعان وحاول تكوين قوة ثالثة بواسطة مجموعة من المنتخبين الجزائريين وبعض التشكيلات السياسية، لكنه في النهاية إكتشف أن كل هذه المساعي لم تمكنه من إيجاد السبيل إلى الإحتفاظ بالجزائر الفرنسية، وأيقن أن الحال الوحيد للأزمة القاتلة التي تتخبط فيها فرنسا يكمن في التفاوض مع قيادة الثورة الجزائرية على أساس الشروط المسطورة في بيان الفاتح من نوفمبر. فعلى هذا الأساس، ورغبة منه في طمأنة الحكومة الجزائرية الجديدة ودعوتها إلى إستئناف المفاوضات، شرع الجنرال ديغول في سلسلة من الزيارات إلى مختلف قطاعات فرنسا وفي كل مناسبة كان يتطرق إلى الحوار. وفي مستهل شهر سبتمبر عقد ندوة صحفية تعرض فيها لمسألة الصحراء بكيفية لم تكن متوقعة إذا أعترف، علنا، بسيادة الجزائر عليها، واعتبر ذلك من البديهيات التي لاتقبل المناقشة. ومما جاء في تلك الندوة الصحفية" أن سياستنا لن تكون إلا إستغلال البترول والغاز اللذين اكتشفناهما، وفي أن تكون لنا مطارات وحقوق للتنقل، وأما الواقع فإنه لا يوجد جزائري واحد لا يفكر في كون الصحراء جزء لا يتجزأ من الجزائر ... معنى ذلك أن مسألة السيادة على الصحراء أمر مفروغ منه" (¬2). ¬

_ إنتخب أميناً عاماً للتشكيلة السياسية الجديدة المسماة بجمع الشعب الفرنسي، عينة الجنرال ديغول وزيراً منتدباً لدى الرئاسة سنة 1985 وبعد ذلك بسنة عينه وزيراً للدولة مكلفاً بشؤون الثقافة. (¬1) أغتالته منظمة الجيش السري يوم 19/ 05/1961 عشية إنطلاق مفاوضات إيفيان الأولى. (¬2) مذكرات الجنرال، ص: 130.

هكذا، إذن، لم يعد هناك ما يحول دون تقديم المفاوضات ولما يمنع إستئنافها خاصة وأن ديغول أكد في نفس الندوة الصحفية "ان الإستفتاء سيقود إلى تأسيس الدولة الجزائرية، بعد ذلك الإنتخابات التي ستنبثق عنها الحكومة النهائية ... ومن الممكن أن تتولى سلطة جزائرية مؤقتة تسيير البلاد إلى أن يتحقق تقرير المصير وتتم الإنتخابات المذكورة" (¬1). ولقد درست الحكومة المؤقتة جيمع تصريحات الجنرال ديغول، وحينما لمست فيها جدية ورغبة في وضع حد للحرب، قدمت له إقتراحاً عملياً يهدف إلى تحقيق ذلك مع إختصار الطريق. وبالفعل فإن الرئيس ابن يوسف بن خدة أعلن في اليوم الرابع والعشرين من شهر أكتوبر "أن جبهة التحرير الوطني مستعدة لوقف إطلاق النار فوراً مقابل تخلي فرنسا عن فكرة تقرير المصير وإعلانها عن إستقلال الجزائر. وتحال القضايا المختلفة مثل وضع الأقلية الأوروبية وإجلاء القوات الفرنسية والتعاون الإقتصادي والتقني والثقافي على الحكومة الجزائرية المستقلة" (¬2). وبعد هذا الإقتراح بأربعة أيام فقط وقع اللقاء بين الوفدين (¬3) في مدينة بال السويسرية ودام يومي الثامن والتاسع والعشرين من شهر أكتوبر درست خلالهما ورقة عمل صادرة عن الحكومة الفرنسية تتضمن مجموعة من النقاط الأساسية تتمثل في الآتي: - إحتفاظ فرنسا بمنشآت عسكرية تمكنها من الإبقاء على إتصالها بإفريقيا ومن مواصلة تجاربها الفضائية والنووية - إنشاء هيآت مشتركة لإستغلال الثروات الطبيعية الجزائرية مع تأكيد الحقوق المكتسبة في مجال التنقيب عن البترول والغاز. - بالنسبة للأقلية الأوروبية: مبدأ إزداوجية الجنسية، إحترام دينهم ولغتهم وحالتهم الشخصية، حق تأسيس الجمعيات، مساهمتهم في المجالس السياسية بنسبة 10% وكذلك في المجالس البلدية والمهنية، حق تأسيس البعثات الثقافية وتحويل رؤوس الأموال لمدة معينة. - الضمانات التقنية المتعلقة بتقرير المصير تتولاها الهيئات التنفيذية ¬

_ (¬1) نفس المصدر. (¬2) ابن يوسف بن حدة، إتفاقيات إيفيان، الجزائر 1986، ص: 26. (¬3) كان الوفد الجزائري مكوناً من محمد الصديق بن يحي ورضا مالك، أما الوفد الفرنسي فشارك فيه: برينو دولاس وكلود سايي.

المؤقتة التي كانت تكلف بوضع قوائم المنتخبين وتشرف على سير الإنتخابات بواسطة لجان للرقابة. - ضمان إستثمار الفرنسيين وملكياتهم. - وضع المرسى الكبير لمدة غير محددة تحت تصرف الجيش الفرنسي وكذلك قاعدة رقان. - عدم متابعة الجزائريين الذين تعاونوا مع السلطات الفرنسية. بعد هذا اللقاء استمرت الإتصالات بين الطرفين إلى أن تم الإتفاق على أهم النقاط ثم إلتقى الوفدان في ليروس (¬1) من اليوم الحادي عشر إلى اليوم التاسع عشر من شهر فيفري سنة إثنتين وستين وتسعمائة وألف، حيث نوقشت جميع المواضيع وحررت الوثيقة المشتركة التي تقدم لمصادقة الحكومة الفرنسية والمجلس الوطني للثورة الجزائرية قبل التوقيع عليها (¬2). وفي إيفيان الثانية التقى الوفدان في اليوم السابع من شهر مارس، ويقول السيد ابن خدة: أن المناقشات كانت حادة ومتواصلة إلى اليوم الثامن عشر من نفس الشهر حيث تم التوقيع على الوثيقة النهائية، وفي ذات اليوم وباسم الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية المفوضة من طرف المجلس الوطني للثورة الجزائرية، أعلنت عن وقف إطلاق النار بالنسبة لكامل التراب الجزائري ابتداء من يوم الإثنين التاسع عشر من مارس سنة إثنتين وستين تسعمائة وألف" (¬3). وقبل ذلك كان الجنرال ديغول قد وجه نفس الأوامر إلى جميع القوات الفرنسية. وفي الخامس والعشرين من شهر ماي، إجتمع المجلس الوطني للثورة الجزائرية بطرابلس لتقييم المرحلة المقطوعة ولتوظيف التجربة من أجل التخطيط للمستقبل إعتماداً على الإمكانيات الوطنية ودون إهمال طموحات الجماهير الشعبية. واستهل المؤتمر أشغالهم بقراءة متأنية لإتفاقيات إيفيان التي كانت قيادة الأركان قد شنت عليها حملة واسعة النطاق واصفة إياها بالعمل الخياني الذي قدم للإستعمار تنازلات بدون مقابل. وبعد تمحيص وتدقيق، وبعد الرجوع إلى بيان أول نوفمبر ووثيقة وادي الصومام، وقع الإجماع على ¬

_ (¬1) قرية صغيرة تقع بجبال الجورة الفرنسية لا تبعد إلا قليلاً عن الحدود السويسرية ... مشهورة كمحطة للرياضة الشتوية. (¬2) اجتمع المجلس الوطني الجزائري بطرابلس من يوم 27 إلى يوم فيفري، فدرس كافة عناصر الإتفاقية وأعطى موافقته عليها وفوض الوفد المفاوض للتوقيع بإسمه. (¬3) ابن يوسف بن خدة، إتفاقيات إيفيان، ص: 34.

الملاحظات التالية: 1 - إن إتفاقيات إيفيان قد وضعت حداً لحرب إبادية لما عرف التاريخ مثلها. 2 - إن هذه الإتفاقيات قد مكنت الشعب الجزائري من إسترداد سيادته كاملة مع الحفاظ على وحدته وسلامة التراب الوطني رغم كل المناورات التي لجأت إليها الحكومة الفرنسية لتقسيم البلاد أو فصل الصحراء عنها. 3 - إن هذه الإتفاقيات قد شكلت بالنسبة للشعب الجزائري، إنتصاراً سياسياً أهم نتائجه تقويض أركان النظام الإستعماري والتخلص من الهيمنة الأجنبية التي دامت مدة إثنتين وثلاثين ومائة سنة. وعلى الرغم من الإشادة بهذه النقاط وإعتبارها مكسباً عظيماً تطلب تحقيقه ثمناً غالياً، فإن المؤتمرين قد أكدوا، بما فيه الكفاية، على أن التعاون المنصوص عليه في إتفاقيات إيفيان يستلزم إبقاء قيود التبعية في الميدانين الإقتصادي والثقافي وهو بذلك "يكرس سياسة الإستعمار الجديد التي تتوخاها فرنسا" (¬1). ومن جهة أخرى أعرب المؤتمرون عن قلقهم إزاء الضمانات التي أعطيت للمستوطنين الفرنسيين وجعلت منهم أقلية محظوظة يجب على الدولة الجزائرية الفتية "أن تحفظ أمنهم وتحافظ على ممتلكاتهم وتمكنهم من المشاركة في الحياة السياسية على جميع المستويات" (¬2). وذلك للإعتقاد بأن بقائهم في الجزائر ضروري لإستمرار الحياة الإقتصادية الإدارية وتطورها. المؤتمرون كذلك عددّوا الأخطار التي يشكلها بقاء القوات الفرنسية في المرسى الكبير وفي بعض المطارات العسكرية والقواعد المخصصة للتجارب النووية في أقصى جنوب البلاد، ورأوا في ذلك إحتلالاً سيحُّد من حرية الدولة الجزائرية ويعرض سيادتها الوطنية لكثير من الأخطار. وبعد أن عبر أعضاء المجلس عن أملهم في أن تتولى سلطات الجزائر المستقلة بحث كل هذه القضايا من جديد نظراً لما لها من تأثير على عملية البناء والتشييد، خصصوا وقتاً كافياً لتقسيم الأوضاع التي آلت إليها الجزائر بعد إثنين وتسعين شهراً من الكفاح المسلح، وفي هذا الإطار تجدر الملاحظة إلى ما يلي: 1 - إن الجراحات التي تثخن جسم الشعب الجزائري عميقة ولا يمكن أن تلتئم ¬

_ (¬1) حزب جبهة التحرير الوطني، النصوص الأساسية لجبهة التحرير الوطني (1954 - 1962) نشر وتوزيع قطاع الإعلام والثقافة والتكوين ص: 26. (¬2) نفس المصدر، ص: 27.

إلا بعد عشرات السنين، ومن بين هذه الجراح ماهو خطير جداً وقد يتسبب في عرقلة المجتمع من السير إلى أمام، وعلى سبيل المثال، توقف المؤتمرون عند الآتي: أ- أن الجزائر لم تعد تدفع مقابل إسترجاع السيادة الوطنية مليوناً ونصف مليون شهيد فحسب، بل لقد ترتب عن ذلك وجود مئات آلاف الأرامل والأيتام والمعطويين والمصابين بأمراض نفسية وعقلية مختلفة، ومما لا شك فيه أن وضع هؤلاء جميعاً يتطلب عناية خاصة من الحكومة الجزائرية الجديدة. ب- أن جيش الإستعمار لم يكتف بمحاربة جيش التحرير الوطني وأعضاء المنظمة المدنية لجبهة التحرير الوطني، بل أنه أقام في سائر أنحاء البلاد معسكرات ومحتشدات حبس فيها، بدون محاكمة، أكثر من مليونين من الجزائريات والجزائريين. وبالإضافة إلى ذلك هناك عشرات آلاف المعتقلات والمعتقلين المحكوم عليهم بأحكام تتراوح ما بين الإعدام والسجن المؤبد والسنة الواحدة، فتسريح كل هؤلاء دفعة واحدة سيؤدي إلى خلق العديد من المشاكل الإقتصادية والإجتماعية التي يجب على الحكومة الجديدة أن تبحث لها عن الحلول الناجحة. ج- إن الجيش الإستعماري، بعد تهجير المواطنات والمواطنين من الأرياف ونقلهم إلى المحتشدات، قد أقدم على تهديم مئات القرى وحرق آلاف الهكتارات بالنابالم. أما وقد توقف إطلاق النار وفتحت أبواب المعتقلات والمحتشدات، فإن الحكومة الجزائرية الجديدة مطالبة بتوفير إمكانيات إعادة التعمير والبناء. د- إن سنوات الكفاح المسلح قد قادت إلى هجرة مئات آلاف الجزائريات والجزائريين الذين تمركزوا خاصة على الشريط الحدودي في تونس والمغرب الأقصى، بعد أن تركوا أموالهم وجيمع ممتلكاتهم، ومما لا ريب فيه أن عودة هؤلاء اللاجئين تتطلب إمكانيات مادية كبيرة وقدرة على التوزيع والتنظيم لأن جل النواحي التي هجروها قد أحرقت وزرعت بالألغام. هـ- أن المناطق الشرقية والغربية، وعلى شريط عرضه يزيد عن كيلو مترين، لم تعد قابلة للشغل بجميع أنواعه نظراً لما فيها من أسلاك شائكة وحقول ألغام فردية ونظراً لما يتطلب مسحها من إمكانيات

تقنية وبشرية. و- إن الإستعمار، إضافة إلى المحتشدات والمعتقلات، قد جمع أكثر من ثلاثة ملايين من الجزائريين في أحياء قصديرية قريبة من المدن والقرى الكبيرة حتى يتمكن من عزلها عن جبهة التحرير الوطني ومنعها من الإسهام في سائر نشاطات الثورة. فهؤلاء السكان طردوا من أراضيهم وجردوا من ممتلكاتهم وثرواتهم الحيوانية، مع وقف إطلاق النار أصبح من الضروري على الحكومة الجزائرية الجديدة مساعدتهم على إعادة مرافق الحياة إلى المناطق التي هجروا منها قبل سنوات. ز- أن كل هذه الأوضاع قد ولدت مشاكل إقتصادية وإجتماعية وثقافية كثيرة مثل البطالة والأمية والمرض وضرورة مواجهة موسمين حيويين بالنسبة لمستقبل البلاد وهما: الموسم الزراعي والموسم الدراسي. 2 - إن الإدارة الإستعمارية قائمة في الجزائر ومسؤولوها هم نفس مسؤولي منظمة الجيش السري، أما الجزائريون المتواجدون بها، على جميع المحتويات، فمعظم ممن كان الفرنسيون يسمونهم "أبناء العائلات" أي القابلين للسيطرة الأجنبية، الرافضين للعنف وغير المستعدين للإلتحاق بصفوف الثورة. وإذا كانت أقليتهم من المناضلين، فإن أغلبية هذه الأقلية لا تشغل سوى مناصب ثانوية، وبالإضافة إلى ذلك، فإن إتفاقيات إيفيان قد تضمنت بنداً ينص على إلتزام سلطات الجزائر المستقلة بعدم محاسبة أو ملاحقة جميع الذين تعاونوا مع العدو وكذلك عدم التعرض لهم في الطريق أو أماكن شغلهم. وعلى الرغم من كل ذلك، فإن جبهة التحرير الوطني مطالبة بتطهير الإدارة وإعادة تنظيمها بالكيفية التي تضمن للثورة حيويتها وإستمرارها وقد لاحظ المؤتمرون أن هذه المهمة دقيقة جداً نظراً لإتساع رقعة البلاد وحدة المشاكل اليومية وقلة الإطارات الجزائرية من المناضلين الأكفاء (¬1). 3 - إن منظمة الجيش السري تمارس منذ تأسيسها، عملاً تخربياً أدى، شيئاً فشيئاً، إلى شل الحياة الإقتصادية بواسطة تهديم مئات المحلات التجارية ¬

_ (¬1) النصوص الأساسية لجبهة التحرير الوطني، ص 56.

وحرق الوحدات الإنتاجية وكثير من المعامل والورشات خاصة في العاصمة وفي كبريات المدن. 4 - إن الحكومة الفرنسية، بعد أن أستنفذت كل إمكانياتها المادية والبشرية لخنق الثورة الجزائرية لم تنجح ولم تتمكن من الحفاظ على الجزائر الفرنسية، وقد قررت العمل بجميع الوسائل على إفراغ الثورة من محتواها الحقيقي (¬1) وذلك انطلاقاً من إتفاقيات إيفيان التي ضمنتها مجموعة من الفقرات أقل ما يقال عنها أنها ألغام قوية المفعول في الطريق المؤدية إلى إسترجاع الإستقلال الكامل كما جاء التنصيص عليه في مواثيق جبهة التحرير الوطني. وبالفعل، لقد جاء في الفصل الثاني من البيان العام: "أنه لا يمكن لأي كان أن يتعرض لإجراءات بوليسية أو متابعات عن طريق العدالة، أو أن تسلط عليه عقوبات إنضباطية أو غيرها بسبب ما أبداه من أراء حول الحوادث التي جرت في الجزائر قبل يوم الإستفتاء حول تقرير المصير، أو بسبب ما قام به من أعمال الحوادث المذكورة قبل وقف إطلاق النار (¬2). ومن الواضح أن هذه الفقرة تهدف بالدرجة الأولى إلى حماية نوعين من الناس: المعمرين الذين شاركوا في أعمال التخريب التي قامت بها منظمة الجيش السري أو عملوا كمسلحين في صفوف جيش الإستعمار بشكل أو بآخر من أجل إبقاء السيطرة الأجنبية ومنع جبهة التحرير الوطني من إسترجاع السيادة الوطنية، علماً بأن هذين الصنفين كانا حوالي خمس السكان. وكان الوفد الفرنسي، عندما أدرج هذه الفقرة، يعتقد أن كثيراً من المعمرين سيبقون في الجزائر لحمل لواء الإستعمار الجديد بمساعدة الأهالي الذين خانوا وطنهم أثناء حرب التحرير والذين تجعلهم الفقرة المذكورة في مأمن من القصاص ومن غضب الجماهير. وعلى الرغم من إحترام جبهة التحرير الوطني لهذا الشرط التعسفي، فإن جميع المعمرين الذي أظهروا العداء للثورة قد فرّوا، وفرّ معهم معظم من حمل السلاح ضدها من الجزائريين. ولكن الجماهير الشعبية التي لم يندمل جرحها، لم ترض بهذا الفرار، ¬

_ (¬1) الرؤيا، مجلة فصلية تعني بشؤون الفكر، يصدرها إتحاد الكتاب الجزائريين، العدد2، ص27، وما بعدها. (¬2) نفس المصدر، ص13 وما بعدها.

واتهمت قيادتها بالتواطؤ، وبدأت تفقد الثقة التي لابد منها لإستمرارية الثورة. وهكذا وجهت الضربة الأولى للثورة بعد وقف إطلاق النار مباشرة. ودائماً في الفصل الثاني من البيان العام، ورد أن كلا من فرنسا والجزائر تستطيعان إنشاء مراكز جامعية وثقافية في تراب الثانية تكون مفتوحة لجميع الراغبين في ذلك، ومن جهة أخرى تقدم مساعدة لتكوين التقنيين الجزائريين (¬1). هكذا، جعل الوفد الفرنسي وفد جبهة التحرير الوطني يبارك سياسة الإستعمار الثقافي التي ستكون عائقاً يمنع بناء الدولة المستقلة في الجزائر، ولمزيد من التوضيح نشير إلى أن فرنسا كانت تدرك بأن الجزائر المستقلة حديثاً لا يمكن أن تسمح لنفسها ببناء مراكز جامعية خارج ترابها، وحتى لو فرضنا أنها أقدمت على ذلك، فإن المراكز لن يقبل عليها غير المغتربين من أبنائها، في حين أن جميع الإمكانيات متوفرة لدى فرنسا لفتح عدد من المراكز الجامعية والثقافية يكون روداها كثيرون من الأهالي الذي نهلوا من ينبوع الثقافة الفرنسية أثناء وجود الإستعمار، وهم عادة من أنصاره ومحبيه رغم الإنسان الذي يتشبع بثقافته يصبح لا ينظر إلا من خلال النوافذ التي تفتحها لها الثقافة. ولايمكن للسلطات الجزائرية الفتية أن تنتقي رواد هذه المراكز لأن ذلك يتنافى مع النص الصريح الذي يؤكد أنها مفتوحة لجميع الراغبين في أمها. أما تكوين التقنين في المدارس الفرنسية بواسطة أساتذة فرنسيين تختارهم الدولة الفرنسية، فمعناه تكوين إطارات مشبعة بمبادئ الإستعمار الجديد لتطبيق سياسة جبهة التحرير الوطني الرامية إلى تجسيد إيديولوجيتها على أرض الواقع. واستفادت فرنسا من محتوى هذه الفقرة إذ ما يزال مركزها الثقافي مفتوحاً للشباب الجزائري إلى يومنا هذا. بالإضافة إلى أن مدارسها وثانوياتها في العاصمة وفي كبريات المدن ظلت تستقبل أبناء الموظفين السامين في الدولة إلى غاية عام 1975، يدرسون فيها البرامج الفرنسية على يد أساتذة معظمهم من غلاة الإستعماريين. وبديهي أن معظم المتخرجين من هذه المدارس والثانويات سيكونون -بحكم وضعهم الإجتماعي- إطارات المستقبل الذين يأخذون بيد ¬

_ (¬1) يقول السيد لخضر بن طوبال في المقابلة التي أجريتها معه يوم 21 أفريل سنة 1984: "لقد كان المفاوضون الجزائريون مدركون خطورة مثل هذه الفقرات، لكنهم وافقوا عليه تكتيكياً فقط ... إنهم لم يكونوا يحسبون مع الأزمة السياسية لصائفة إثنين وستين وتسعمائة وألف التي أبعدتهم جميعاً عن مناصب الحل والربط وبذلك يمكن القول: إن الجانب الفرنسي قد نجح".

العامل والفلاح لتحقيق أهداف الثورة في جميع الميادين. وليس هذا من الأمور السهلة في نظري، ولا يمكن على تدعيم موقف (¬1) الرفض الذي يستحيل تحقيق الإستقلال الكامل بدونه. وبالإضافة إلى هذه السيطرة الثقافية التي شرعها البيان العام الموقع عليه من الطرفين، فإن الجانب الفرنسي قد أدرج في البيان الخاص بالضمانات في بعض الفقرات التي تسمح لفرنسا بالتدخل مباشرة أو بوسيط في شؤون البلاد الداخلية والخارجية. مع ذلك فإن الجزائريين الذين يغادرون التراب الوطني قصد الإستيطان في بلد آخر، يسمح لهم بإخراج جميع منقولاتهم، وأن الفرنسيين والأهالي، في مرحلة التفكير قبل إختيار الجنسية، يمثلون جميع المجالس السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية يجب أن يأخذ بعين الإعتبار مصالحها المادية والأدبية" (¬2). أما البند الثامن والتاسع، فإنهما يشكلان تدخلاً صريحاً في الشؤون القضائية، وذلك بالتنصيص على أنه يحق للمتمردين الآنفي الذكر أن يرفضوا القانون الإسلامي، وأن يمتثلوا فقط للقانون الفرنسي إلى أن يصدر القانون المدني الجزائري الذي "يجب أن يساهموا في وضعه" (¬3). وفي نفس البيان، البند الثالث من الجزء الثالث، فإن للمتمردين الحق في إستعمال اللغة الفرنسية، في علاقاتهم مع العدالة ومع سائر الإدارات، كما أن لهم الحق في فتح مدارس خاصة لتعليم الفرنسية وللقيام بالبحوث وفقاً للبيان الخاص بالتعاون الثقافي. وفي المجال الإقتصادي، فإن البيان يفتح الباب على مصراعيه للسيطرة الأجنبية إذ ينص في البنود التاسع والعاشر والحادي عشر من الجزء الثالث على أن الشركات المدنية والتجارية الفرنسية التي يكون مقرها الإجتماعي في فرنسا، ولها أن يكون لها في المستقبل نشاط إقتصادي في الجزائر، تتمتع بجميع الحقوق الواردة في سائر البيانات الحكومية المتعلقة بوقف إطلاق النار. أما في الميدان العسكري، فإن البيان الخاص بالقضايا العسكرية يترك لفرنسا، ولمدة تتراوح ما بين ثلاث وخمس عشرة سنة، عدداً من القواعد الهامة ¬

_ (¬1) محمد العربي الزبيري، محاضرات في تاريخ العالم الثالث، الجزائر 1977 وما بعدها، يجد القارئ تفاصيل حول موقفي والقبول في البلدان المستقلة حديثاً. (¬2) ابن يوسف بن خده، إتفاقيات إيفيان، ص28. (¬3) نفس المصدر.

مثل المرسى الكبير وعين إكرورقان ومجموعة "بشارهما غير" وبعض الأماكن في بلديات "العنصر" و "بوتليليس وميسرغين إلخ ... ويخضع البيان هذه المناطق لإجراءات تعسفية تذكرنا بتلك التي كانت تطبق على سكان ما كان يسمى قبيل الإحتلال بالمؤسسات الفرنسية في الجزائر (¬1). ولم يفطن المواطنون إلى أخطار التعاون التقني والثقافي على كثرتها نظراً لكونها لم تظهر إلا بعد مدة، ولأنها تحدث بدون ضجيج تحت جناح الحضارة وفي ظلمة الجهل والأمية، وعلى العكس من ذلك، فإن وجود القواعد الإستعمارية، بعد الإعلان عن الإستقلال، قد أحدث سخطاً كبيراً في أوساط الجماهير، خاصة عندما بدرت بعض التصرفات السيئة من الجنود الفرنسيين وعدد من قادتهم، ثم تحول السخط إلى ضغط صامت أدى إلى الإسراع بالجلاء الذي تم قبل الموعد المحدد بكثير. ولو كان هؤلاء السكان يدركون أن التعاون المشروط يصبح على مر السنين، كابحاً يمنع الثورة من مواصلة سيرها الطبيعي، وخطراً يهدد شخصيتهم بالمسخ والذوبان، لو كانوا يدركون ذلك لما سكتوا، ولا يبدوا لهذا التيار الجارف مقامتهم التي سبق أن برهنت على نجاحها. وكلفنا عدم التغظن هذا ثمناً باهظاً، فغزت المدارس الفرنسية قرانا ومدارسنا في حين أغلقت المدارس الحرة التي كانت تعلم اللغة العربية بحجة العمل على التوحيد والرغبة في إعداد جيل العلم والتكنولوجيا، لأن الإستعمار الجديد يؤكد بأن اللغات الوطنية عاجزة عن نقل المعارف العصرية (¬2)، وأن لغة "الوطن الأم" وحدها هي التي يمكن أن تشكل النافذة التي يطل منها الإنسان المتخلف على دنيا الإختراع والإبداع. واقتحمت اللغة والعقلية الفرنسيتان منازل الجزائريين والشخصيات منهم على وجه الخصوص، وصارت اللغة الأجنبية في الإدارة وفي سائر دواليب الدولة حتى أصبح ذو الثقافة الوطنية يشعر بالعزلة وينعت بالأصبع على أنه ¬

_ (¬1) محمد العربي الوبيري، التجارة الخارجية للشرق الجزائري (1729 - 1830) ط2، الجزائر، 1984تشمل هذه المؤسسات جميع الإمتيازات التي حصلت عليها فرنسا سنة 1520 على يد خير الدين بربروس في عهد الملك فرانسوا الأول وقد ظلت قائمة إلى غاية سنة 1827 ومقرها الرئيسي بمدينة القالة الساحلية الواقعة على مقربة من مدينة عنابة، ونظراً لأهمية هذا الموضوع خصصنا له فصلاً كاملاً، ص 191 وما بعدها. (¬2) هو مجموع النصوص التي صادق المجلس الوطني عليها في دورة جوان من أجل تحقيق الثورة الديمقراطية الشعبية.

ممثل للتخلف والرجعية. والغريب أن هذه النتيجة التي تحققت في فترة وجيزة بعد إسترجاع الإستقلال الوطني، لم تتمكن سلطات الإحتلال من تحقيق ولو جزء بسيط منها خلال مائة وإثنين وثلاثين سنة من الظلم والإضطهاد، وتجربة العديد من السياسات الرامية إلى جعل الجزائر جزء لا يتجزأ من فرنسا. كل هذه المشاكل زادت مع الإستقلال السياسي، ووجدت اطاراً قانونياً لها في البيانات الحكومية المتعلقة بوقف إطلاق النار، وكان على السلطات الوطنية الفتية أن تتحداها لتتمكن من سلوك الرفض الذي يستطيع وحده سد المنافذ في وجه الإستعمار الجديد. لقد توقف المؤتمرون، ملياً، عند كل هذه الملاحظات، وبعد أن درسوها دراسة وافية عبروا عن موقفهم منها بدقة بواسطة المقتطفات التالية من برنامج طرابلس: "إن الحكومة الفرنسية تحاول توجيه استقلال بلادنا حسب مقتضيات سياستها الإستعمارية ... وتمثل إتفاقيات إيفيان قاعدة للإستعمار الجديد تريد فرنسا إستعمالها لِتُمَكِّن هيمنتها وتنظيمها في شكل جديد، إن المستعمرين الفرنسيين يحاولون أن يجعلوا من قبولنا التكتيكي لإتفاقيات إيفيان نكسة إيديولوجية تنتهي إلى التخلي عن أهداف الثورة". "والحكومة الفرنسية لا تعتمد فقط على قواتها العسكرية وعلى الأقلية الفرنسية لتخريب تطور الجزائر بل إنها تستغل التناقضات السياسية والإجتماعية داخل جبهة التحرير الوطني الجزائرية، وتحاول أن تجد ضمنها حلفاء موضوعيين قد ينسلخون عن الثورة وينقلبون ضدها، وهذا التكتيك الإستعماري يمكن تلخيصه كما يلي: بعث قوة ثالثة في صفوف جبهة التحرير الوطني تتكون من الوطنيين المعتدلين الذين يقتنعون بالإستقلال ولكنهم يعارضون كل عمل ثوري حقيقي ثم ترك عناصر القوة الثالثة تتصارع مع المناضلين والإطارات التي تبقى وفية للمصالح الشعبية ولمقاومة الإستعمار ... إن رغبة الحكومة الفرنسية هي أن تتغلب النزعة المعتدلة على القوى الثورية وهذا ما يجعل ممكناً قيام تجربة تشترك فيها فرنسا مع جبهة التحرير الوطني في نطاق الإستعمار الجديد". "وإننا نكون بعيدين عن الواقع إذا ظننا أن الثورة سوف تتواصل بدون عائق لأن القاعدة الاستعمارية الجديدة التي تدعونا إليها، فرنسا هي في الواقع ملتقى جميع القوات المعادية للثورة ... إن فرنسا تريد أن تجذب إليها، بواسطة

المليارات، فئة كاملة من الناس الذين يوحدهم الجشع والطموح الشخصي أي الذين تربوا على المنافع القذرة المنجرة لهم من الحرب الاستعمارية". إن فرنسا ستحاول استغلال نقائصنا وأخطائنا لقلب تيار الثورة وتنظيم القوى المعارضة، وإن توضيح أهدافنا والتحليل السليم والدقيق لنواقصنا وما بقي غامضاً من مطامحنا وأفكارنا هو الذي سوف يجعل قوى الشعب الجزائري الثورية حقيقة واعية منظمة ومتفتحة على المستقبل". (¬1). ولمواجهة التخطيط الإستعماري الجديد، رأت قيادة الثورة أن من الضروري تجاوز الهدف الرئيسي الذي كانت الحركة الوطنية ترمي إلى تحقيقه، فالإستقلال لم يعد كافياً لأن الكفاح المسلح قد ولد مستلزمات وتطورات في الوعي الشعبي وفي داخل التركيبة البشرية نفسها، وتباعاً، أصبح حتماً على جبهة التحرير الوطني أن تتكيف مع الوضع الجديد فتهيء الظروف الملائمة لمواصلة الثورة في جميع الميادين. إن جبهة التحرير الوطني، حسب تحاليل المجلس الوطني، عندما أعلنت عن بدء الكفاح المسلح، لم تكن تتوقع حدوث كل ذلك الإنقلاب الإيجابي الذي أصاب الريف والمدينة على حد سواء، كما أنها لم تضع في حسبانها إنزلاق الجالية الأوروبية في الطريق الذي اختطته لها منظمة الجيش السري والذي قادها مباشرة للهجرة الجماعية إلى فرنسا، لأجل ذلك فإنها لم تفكر في صياغة مشروع المجتمع الذي يأخذ في الإعتبار كل هذه المعطيات الجديدة. لقد كان نداء الفاتح من نوفمبر الذي أكده ميثاق وادي الصومام يدعو جبهة التحرير الوطني إلى أن تظل هي المرشد الوحيد للثورة الجزائرية، ولكي يتسنى لها ذلك، يجب أن تكون قوية بتجذرها في أوساط جميع فئات الشعب وأن تسعى بجميع الوسائل إلى نشر الوعي السياسي في صفوف الجماهير الشعبية الواسعة وتكوين الإطارات والمناضلين إيديولوجياً وسياسياً. لكن المجلس الوطني للثورة الجزائرية المنعقد بطرابلس في شهر جوان سنة إثنتين وستين وتسعمائة وألف، يرى أن الوعي الجماعي قد نضج نتيجة الإحتكاك بالواقع بينما تقهقرت ممارسات جبهة التحرير الوطني في جميع المستويات، وينسب ذلك إلى أن قيادة الثورة لم تتمكن من تجاوز هدف استرجاع الاستقلال إلى فكرة الثورة الشاملة التي لا تتوقف والتي أصبحت مطلباً لا يمكن فصله عن التحرير الوطني. ¬

_ (¬1) النصوص الأساسية لجبهة التحرير الوطني، 57 وما بعدها.

ويرى المجلس الوطني للثورة الجزائرية كذلك، من خلال تحليله، أن المرحلة الموالية لوقف إطلاق النار تتطلب ضبطاً دقيقاً للمفاهيم والمصطلحات التي سوف تكون في أساس التحرك من أجل إنجاح الثورة. وفي هذا السياق، يؤكد أن جبهة التحرير الوطني التي هي في جوهرها حركة مناهضة للإقطاع ومحاربة له لم تنج من تأثيره على بعض جوانب نظامها لأنها أهملت الثقافة السياسية التي من شأنها التصدي للروح الإقطاعية أو لبعثها من جديد. والروح الإقطاعية في نظر المجلس، لا تتعلق فقط بطبقة اجتماعية معينة "ذات سيطرة تقليدية تستمدها من ملكية الأراضي واستغلال الغير، بل أنها أشكال مختلفة قد نجدها حتى في الثورات الشعبية التي ينقصها الوعي العقائدي" (¬1) وإذا كان الناس يعرفون الإقطاعية الزراعية ويقدرون مساوئها ومضارها فيعملون على إزالتها بكل ما يمكن من وسائل، فإن الإقطاعية السياسية تكاد تكون مجهولة رغم ما تمثله من خطورة على حسن سير الثورة فيما يتعلق بالجزائر لأنها بما تخلقه من تكتلات وتحيزات ودكاكين مرتبطة بمصالح شخصية وآنية، تقضي على الديمقراطية في صفوف المناضلين وفي أوساط الجماهير الشعبية بصفة عامة. إن جبهة التحرير الوطني، حسب تقييم المجلس، قد بذلت جهداً كبيراً للتخلص من هذه الروح الهدامة، لكنها لم تتمكن من إجتثاث جذورها فبقيت سائدة في الميادين الاقتصادية والإجتماعية والثقافية والدينية (¬2)، وتولدت عنها آفة أخرى هي ما يمكن تسميته بالروح المبادرة الخلاقة عند المناضل والمواطن (¬3). وإلى جانب الروح الإقطاعية بالمفهوم المشار إليه أعلاه. ندد المجلس بآفة أخرى أعقب أنها أضرت المجتمع الجزائري في الماضي، وإذا لم يقض عليها فإنها سوف تتمكن بالتدريج من إجهاض الثورة. هذه الآفة هي الروح البورجوازية الصغيرة التي يؤكد المؤتمرون أنها "تفشت وانتشرت بسبب التجمع الإيديولوجي الناتج عن الإنحراف الأول الذي كرسه وادي الصومام والمتمثل ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص60. (¬2) لقد كان المجلس الوطني قياساً في هذا الحكم المستند إلى مصادر أجنبية ما أبعدها عن فهم الواقع الجزائري. انظر معالجتنا لهذا الموضوع في مجلة الجيش، العدد ص: (¬3) النصوص الأساسية لجبهة التحرير الوطني، ص: 61.

في إسناد بعض مناصب الحل والربط إلى إطارات تكونت في صفوف أحزاب لا علاقة لها بالتكوين الثوري (¬1). ويرى المجلس الوطني للثورة الجزائرية أن الطابع للبورجوازية الصغيرة هو روح الفردية والتشبث بالمنفعة الخاصة والسلوك المتكبر إزاء الفلاحين والمناضلين المتواضعين وهي كلها صفات تتنافى مع ما ينبغي أن تتخلى به القيادات الثورية وتعود، عندما لا تستأصل في أساسها، إلى تعميق الهوة الفاصلة بين القمة والقاعدة، وتهيئة الأرضية الهشة التي تنمو فيها وتترعرع البيروقراطية التافهة المعادية للشعب والعاملة على تدعيم مناهضة الثورة. وبالإضافة إلى كل هذه الآفات الفتاكة، توقف المجلس الوطني للثورة الجزائرية عند الآثار السلبية التي تركها في الميدان الإيديولوجي بقاء القيادة العليا للثورة خارج التراب الوطني رغم مقررات وادي الصومام ورغم أنه كان نتيجة لمقتضيات الظروف في ذلك الوقت، فاستمرار القيادة في الخارج منذ السنة الثالثة للثورة قد تسبب في إيجاد قطيعة بينها وبين الواقع الوطني وكان يمكن أن تكون عواقبه وخيمة على الحركة التحريرية كلها، ومما لا شك فيه أن هذه القطيعة هي التي سمحت بميلاد تيارات سياسية متنافرة في داخل جبهة التحرير الوطني كما أنها قادت بالتدريج إلى إعطاء مفهوم خاطئ للدولة وللحزب، الأمر الذي أنجز عنه تداخل المؤسسات فيما بينها وتحول جبهة التحرير الوطني إلى مجرد أداة إدارية للتسيير بدل أن تهتم بالتطهير الإيديولوجي. انطلاقاً من هذه التحاليل تحددت المعالم الكبرى لمشروع، المجتمع الجديد فيما سيعرف ببرنامج طرابلس، وقبل الشروع في تقديمه والتعليق عليه لا بد من إبداء بعض الملاحظات التي من شأنها أن تساعد القارئ على فهم كثير من الخلفيات ومن تسليط الأضواء على مجموعة من النقاط التي ظلت غامضة في إيديولوجية جبهة التحرير الوطني. 1 - إن الحكومة المؤقتة عندما عينت مجموعة العمل التي أسندت لها مهمة تحضير المشروع التمهيدي لها سيعرف ببرنامج طرابلس، لم تراع مقياس التجانس بين أعضائها ولم تأخذ في الإعتبار ضرورة تعيينهم من بين المناضلين المتشبعين بإيديولوجية الحركة المصالية فقط، ولأنها لم تفعل جاءت المجموعة ثلاثة أقسام متباينة، إثنان منها على ¬

_ (¬1) نفس المصدر.

الأقل، وهي الأغلبية متشبعة بالفكر الماركسي وليس لها أية تجربة ميداينة، بالإضافة إلى ذلك كان الأعضاء كلهم متشبعين بالثقافة الغربية ولادراية لهم بالحضارة العربية الإسلامية التي يجب الرجوع إليها عندما يتعلق الأمر بتحديد مصير الشعب الجزائري العربي المسلم. 2 - إن الحديث عن الإقطاع في الجزائر في غير محله وهو فقط من باب التقليد الأعمى للغير، فالإقطاع كنظام للحكم ظهر في فرنسا ثم انتشر إلى باقي أنحاء أوربا في الفترة ما بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر وقد قضي عليه نهائياً بفضل الثورة الفرنسية، وبما أن الجزائر كانت مستعمرة إستيطانية ألحقت إدارياً بفرنسا مع بداية الثلث الثاني من القرن التاسع عشر، ومن جهة ثانية فجزائر ما قبل الاستعمار كانت تمارس النظام الإسلامي في الحكم وهو أبعد ما يكون عن الإقطاع. لأجل ذلك فإن مجموعة العمل عندما اتخذت نظام الإقطاع كمنطلق لها في تحليل الواقع الإقتصادي في الجزائر قد أُخطأت الطريق من البداية، والطريق الخطأ لا يؤدي إلى نتائج إيجابية سليمة. وقد كان على المجموعة، لتكون مصيبة في تحاليلها، أن تنطلق من أن النظام الاستعماري الذي كان مفروضاً بالقوة على الشعب الجزائري والذي كان وحيداً من نوعه سواء فيما يتعلق باستغلال الأرض أو باضطهاد الإنسان. 3 - إن اعتماد النظريات الماركسية لتقييم المراحل التي قطعتها الثورة الجزائرية، ولإعداد البرنامج المستقبلي لم يكن فعلاً منطقياً، لأن جبهة التحرير الوطني، عندما أعلنت عن بدء الكفاح المسلح، توجهت إلى جماهير الشعب الجزائري وإلى كل الأحزاب السياسية بهدف وتوحيد صفها لخوض المعركة من أجل تقويض أركان النظام الاستعماري. ولقد أثبت التاريخ منذ اللحظات الأولى التي وقع فيها العدوان الفرنسي على الجزائر أن الإسلام وحده هو القادر على تجنيد الطاقات الشعبية في وجه القوات الاستعمارية (¬1). ¬

_ (¬1) إن جميع الثورات والانتفاضات الشعبية التي وقعت خلال ليل الاستعمار الطويل كلها قد انطلقت من الزوايا واعتمدت طريقة أو مجموعة من الطرق الصوفية.

وعلى الرغم من تنكر بعض قادة الثورة (¬1) للدور الأساسي الذي أداه الإسلام في جعل الجزائريات والجزائريين يستجيبون لنداء نوفمبر ويتفاعلون مع مخططات جبهة التحرير الوطني طيلة كل الفترة التي استغرقها الكفاح المسلح، فإن الحقيقة التاريخية تدل، بما لايدع أي مجال للشك، على أن الإسلام ظل دائماً هو القلب النابض للثورة، وأن مفاهيمه ومصطلحاته (¬2) هي التي دفعت المواطنات والمواطنين إلى التضحية القصوى. لأجل ذلك فإن من الخطأ الفادح أن يقدم منظرون يجهلون واقع الشعب الجزائري وتاريخه ولايعرفون من الإسلام سوى الاسم للثورة التي عرفت كيف تعيد للجهاد وظيفته. 4 - على عكس ادعاءات مجموعة العمل، فإن جبهة التحرير الوطني قد نجحت نجاحاً باهراً في أدلجة معظم جماهير الشعب الجزائري وتمكنت، خلال فترة الكفاح المسلح، من إدخال تغيرات جذرية على ذهنية المواطنين ومن وضع نمط للحياة جديد يختلف كلية عن النمط الاستعماري. فالشعب الجزائري الذي كان قبل سنة أربع وخمسين وتسعمائة وألف يرفض في معظمه حتى التصديق بإمكانية الانفصال عن فرنسا ويجهل كل شيء عن هويته، أصبح بفضل نشاط جبهة التحرير الوطني، في الأرياف وفي المدن، يمارس السياسة ويشارك مشاركة فعلية سلبياً أو إيجابياً، فيما يجري في الجزائر، ولايتحدث إلا عن الاستقلال، وجهة أخرى، فإن مجرد الرجوع إلى وثيقة وادي الصومام وماجاء بعدها من نصوص أساسية وضعتها قيادات الثورة المختلفة ليدل، دلالة قاطعة على أن ثمة تطوراً أيديولوجياً ملموساً، وأن جبهة التحرير الوطني كانت تتوقف من حين لآخر تقيم المراحل المقطوعة وعلى ضوء ذلك تقوم بالإجراءات اللازمة. وفي سنة اثنتين وستين وتسعمائة وألف، عندما وقعت الأزمة الداخلية التي كانت تحمل في طياتها بذور الحرب الأهلية وقف الشعب الجزائري موقفاً حكيماً ما كان ليكون لولا نجاح جبهة التحرير في نشر الوعي السياسي داخل صفوفه ¬

_ (¬1) بوضياف (محمد) لقاء أجريته معه في بيته بالقنيطرة يوم 16/ 03/1984 لقد ظل رغم كل الحجج التي قدمتها له متمسكاً برأيه ومؤكداً أن الإسلام لم يؤدي أي دور في ثورة التحرير وبالنسبة إليه، فإن الحركة المصالية كانت ديمقراطية ولاتيكية. ولقد بقي ذلك هو موقفه حتى عندما جاء به قادة الجيش الوطني الشعبي وأسندوا له رئاسة الدولة في شهر جانفي 1992. (¬2) منذ البداية استعملت الثورة الجهاد للتدليل على الكفاح المسلح والمجاهد لتسمية المكافح والشهيد القتيل الخ ....

وبدون تمكنها من إعداد الإطارات والمناضلين إعداداً إيديولوجياً كافياً، لكن هناك ملاحظة لابد منها وهي واقع الجماهير الشعبية في داخل الوطن كان يختلف اختلافاً مطلقاً عن واقع الإطارات والمغتربين الذي قد يكون أعضاء مجموعة العمل اعتمدوا عليه في تقييمهم الذي أخذوا منه لإعداد برنامج طرابلس. 5 - إن اعتماد النصوص الأساسية للثورة واستنطاق تاريخ غير التاريخ الجزائري (¬1) وتوظيف ثقافة غير الثقافة العربية الإسلامية حتى لانقول الثقافة الاستعمارية وعدم الرجوع إلى الواقع الحقيقي للشعب الجزائري في داخل البلاد، كل ذلك جعل مجموعة العمل تقدم للمجلس الوطني للثورة الجزائرية نصوصاً نظرية غير قادرة للتنفيذ وبعيدة كل البعد عن مشروع المجتمع الذي مافتئت الحركة الوطنية تدعو إلى إقامته. بعد هذه الصورة المجملة يعود برنامج طرابلس إلى التأكيد على "أن حرب التحرير التي قام بها الشعب الجزائري قد أعادت للجزائر سيادتها الوطنية واستقلالها، لكن المعركة لم تنته، بل العكس، يجب أن تستمر لتوسيع ودعم الانتصارات (¬2) وذلك بواسطة الثورة الديمقراطية الشعبية التي هي تشييد واع للبلاد في إطار المبادئ الاشتراكية والسلطة للشعب (¬3). فالثورة الديمقراطية الشعبية مصطلح جديد وكذلك الأهداف المحددة لها. لأن الفاتح من نوفمبر وغيره من النصوص الأساسية لجبهة التحرير الوطني تتحدث، (عن) الثورة الجزائرية كحركة جهادية ترمي إلى بناء دولة ديمقراطية اجتماعية في إطار (غايته) الإسلامية. وعلى هذا الأساس، فإن تحولاً خطيراً قد وقع في إيديولوجية جبهة التحرير الوطني وهو ماجعل السي فرحات عباس يقول عن برنامج طرابلس بأكمله "إنه تعبير غير مهضوم" (¬4). وعلى الرغم من كون الأغلبية الساحقة من أعضاء المجلس الوطني للثورة الجزائرية، ترفض الشيوعية ولاتحبذ المبادئ الاشتراكية، فإن مشروع برنامج ¬

_ (¬1) لقد كان أعضاء مجموعة العمل جميعهم ينطلقون من تاريخ الثورة الفرنسية. (¬2) النصوص الأساسية لجبهة التحرير الوطني، ص (¬3) محمد حربي، جبهة التحرير الوطني. (¬4) تشريح حرب، ص173.

طرابلس لم يناقش بل تمت المصادقة عليه بالإجماع لأن اهتمام المؤتمرين كان منصرفاً إلى مسألة تشكيل المكتب السياسي، ولقد كان ذلك خطأ فادحاً جعل الثورة الجزائرية، تدخل مرحلة ما بعد الكفاح المسلح بمشروع مجتمع بعيد كل البعد عن واقع الشعب الجزائري، ومستحيل التنفيذ بسبب عدم تهيئة الظروف الموضوعية والمتمثلة خاصة في تثقيف الجماهير الشعبية الواسعة ثقافة اشتراكية. لقد كان واضعو المشروع يعرفون جيداً أن الشعب الجزائري مسلم، وأن نسبة الأمية فيه تزيد عن ثمانين بالمائة، وأن تمسك أفراده بمبدأ الملكية الخاصة لا جدال حوله، ومع ذلك فإنهم تبنوا تحليل الدكتور فرانتزفانون الذي قال: "إن الثورة الجزائرية لايمكن إلا أن تكون ثورة اشتراكية يشكل الفلاحون قواها المسيَّرة، وترتكز استراتيجيتها على دور الإسلام الذي هو حصن الفقراء ضد الأغنياء والذي يعطي للأصالة الجزائرية طابعها المتميز" (¬1) ولكي لايستعملوا نفس المصطلحات الماركسية (¬2) اخترعوا تسمية جديدة هي الثورة الديمقراطية الشعبية وحددوا مهامها الأساسية كالآتي: 1 - إقامة الدولة الجزائرية على أساس مناهضة الامبريالية ومعاداة الإقطاع، وذلك يتطلب بالضرورة تحلي الطاقات الحية في البلاد بروح المبادرة واليقظة وممارسة الرقابة المباشرة في جميع الميادين، بإلغاء أشكال الذاتية المتمثلة في الارتجال وسوء التقدير وعدم الوضوح الفكري والنظرة المثالية للواقع وفي القيم الأخلاقية الفردية التي لايمكن أن تكون حاسمة في بناء المجتمع. 2 - إلغاء الهياكل الاقتصادية والاجتماعية التي أوجدها الإقطاع واستبدالها بهياكل جديدة ومؤسسات يكون هدفها الأول هو تحرير الإنسان وتمكينه من ممارسة حرياته، وتوفير الشروط اللازمة لضمانها. وحتى تكون التنمية الشاملة سريعة ومنسجمة وقادرة على الاستجابة لحاجيات الجميع يجب أن تصاغ في منظار اشتراكي بالضرورة. 3 - استرجاع القيم المكبوتة أو تلك التي قضى عليها الاستعمار، والعمل على صياغتها وتنظيمها وفقاً للحداثة والعصرنة، وفي نفس الوقت إدراج الفكر الديمقراطي وترسيخه في سائر مؤسسات الدولة والعمل على نشر ¬

_ (¬1) فرانتز فانون، المعذبون في الأرض. (¬2) الأدبيات الماركسية تقول: الثورة البورجوازية.

روح المسؤولية وجعلها تحل محل مبدأ السلطة الذي هو في جوهره إقطاعي وتسلطي. ولايجب أن تتوقف الديمقراطية عند تفتح الحريات الفردية بل ينبغي أن تكون تعبيراً جماعياً عن المسؤولية الشعبية. 4 - حمل الطبقة البرجوازية على أن تخضع مصالحها الخاصة بوحدة الشعب، تعدل عن إدارة التحكم في مصير البلاد، وتتخلص من ميزاتها الأساسية التي تدفعها إلى الارتباط بالاستعمار الجديد والتي هي: الانهزامية والديماغوجية وروح التهويل والاستخفاف بالمبادئ، وضعف الإيمان الثوري. 5 - نشر الوعي في أوساط الجماهير الشعبية الواسعة التي يجب أن تدرك بأن عملية البناء والتشييد لايمكن إنجازها بواسطة طبقة اجتماعية واحدة مهما كانت درجة قوتها واستنارتها، بل لابد من إسناد هذه المهمة إلى الشعب نفسه، والشعب هو: الفلاحون والعمال والشباب والمثقفون الثوريون. 6 - وضع فكر سياسي واجتماعي يعكس بوفاء مطامح الجماهير، وذلك بواسطة طليعة واعية تتكون من عناصر تنحدر من الفلاحين والعمال والشباب والمثقفين الثوريين. فهذا الفكر الجديد هو الذي سوف يكون في أساس بناء الدولة العصرية وتنظيم المجتمع الثوري في الجزائر، وهو يتطلب روح بحث منهجي متطورة، ومجهودات معتبرة في مجال التنقيب، لأن الإيديولوجية الجاهزة غير موجودة، بل هناك فقط المجهود الإيديولوجية المتواصل والخلاق. 7 - إحداث تصور جديد للثقافة التي يجب أن تكون وطنية وثورية وعلمية. فدورها كثقافة وطنية يتمثل في إعطاء اللغة العربية كرامتها كلغة حضارة وكمعبِّر حقيقي عن قيم الشعب الجزائري، ويرمي كذلك إلى إعادة بناء التراث الوطني وتقييمه والتعريف بإنسانيته، وإلى محاربة الهيمنة الثقافية والتأثير الغربي اللذين ساهما في تلقين الكثير من الجزائريين احتقارهم لغتهم وقيمهم الوطنية. وبصفتها ثقافة ثورية، فإنها ستساهم في تحرير الشعب الجزائري وتمكينه من تصفية مخلفات الإقطاع والخرافات المعادية للمجتمع، كما أنها ستنير كفاح الجماهير السياسي والاجتماعي وتساعد على تطوير الوعي الثوري وتعكس باستمرار طموحات الشعب وواقعه بجميع أنواعه.

وكثقافة علمية في وسائلها وأبعادها، فإنها تتميز بطابع عقلاني وتجهيزات تقنية عالية وهي ضرورية للتحكم في العلوم وتطوير البحث العلمي والاهتمام بالتكوين التقني من أجل إدخال الجزائر عهد الإبداع العصري الذي يتوقف عليه نجاح التنمية الشاملة. ولقد كانت باستطاعة مجموعة العمل أن تتدارك أخطاءها الفادحة لو جعلت في مقدمة المهام الأساسية المذكورة تحريك الصحوة الإسلامية في الجزائر باعتبار أن الإسلام دعوة لتحرير الإنسان وتطبيق العدالة الاجتماعية وهو أيضاً دين المعاملات الكفيلة بإقامة الدولة القوية. ولأن ذلك لم يحدث، فإن بعض التيارات السياسية قد ركبت الموجة وراحت تنشر في أوساط الجماهير الشعبية كون النظام الجزائري الجديد شيوعي لاعلاقة له بواقع الشعب العربي المسلم. وبعد تحديد المهام الأساسية، انتقل برنامج طرابلس إلى تعداد الوسائل الواجب استعمالها لتجسيد الثورة الديمقراطية على أرض الواقع، وحصر هذه الوسائل في ثلاثة رئيسية هي: "بناء اقتصاد وطني وانتهاج السياسة الاجتماعية التي ترمي إلى إفادة الجماهير ورفع مستوى معيشة العمال والقضاء على الأمية وتحسين الأوضاع السكنية والصحية وتحرير المرأة ثم انتهاج سياسة دولية أساسها الاستقلال الوطني ومناهضة الامبريالية. فيما يخص بناء الاقتصاد الوطني. وانطلاقاً من كون فرنسا كانت تسيطر كلية على الاقتصاد الجزائري، وبأن هذا الأخير مختل التوازن وغير متناسق (¬1)، فإن برنامج طرابلس قد أوصى بالعدول عن أساليب الليبرالية التقليدية حتى يتسنى للثورة إجراء تحول حقيقي في المجتمع وانقلاب جذري في الهياكل الاقتصادية الموجودة وتطويرها بالكيفية التي تتماشى مع متطلبات التنمية وإنجاز مهام الثورة الديمقراطية الشعبية وتدعيماً لهذه التوصية تضمن البرنامج التوضيحات التالية: (¬2) "إن الأساليب الليبرالية تزيد في خطورة فوضى السوق وتدعيم التبعية ¬

_ (¬1) يشير برنامج طرابلس إلى أن الاقتصاد الجزائري في ذلك الوقت كان يتضمن قطاعين تربط بينهما شبكة تجارية هشة، أما القطاع الأول فرأسمالي عصري ونشيط وهو يشكل موقعاً للاقتصاد الفرنسي ويشمل الفلاحة ومختلف وعي أنواع الصناعة والنقل والتجارة الكبيرة والخدمات. أما القطاع الثاني فتقليدي يعيش منه السواد الأعظم من الجزائريين وهو لم يبرح ويحتفظ بالهياكل الموروثة عن الماضي ويسيطر عليه الاقتصاد الاستهلاكي وعلاقات الإنتاج التي كانت تميز عصر ما قبل الرأسمالية. (¬2) النصوص الأساسية لجبهة التحرير الوطني، ص78، وما بعدها.

الاقتصادية للامبريالية وتجعل من الدولة مؤسسة تنقل الثروات وتضعها في أيدي الأغنياء والمحظوظين، وتغذي نشاط الفئات الاجتماعية الطفيلية المرتبطة بالامبريالية. فالبرجوازية المحلية ستعمل على خلافة الأجانب تدريجياً في القطاعات الاقتصادية غير المنتجة، وبينما تحقق ثراءها سيظل الشعب أسيراً للبؤس والجهل". "إن ضعف الدخل القومي والادخار الخاص، وهروب الجزء الأكبر من الأرباح المحققة من البلاد، وتوجيه الرأسمال المحلي نحو المضاربات كالربح الجشع والريع والربا وعدم استعمال المصدر الهائل لليد العاملة، كلها عوامل توجب محاربة الطريقة الرأسمالية للتنمية". "إن متطلبات التنمية الاقتصادية في البلاد تستوجب القضاء على تسلط الاحتكارات وذلك بمراجعة العلاقات الاقتصادية مع الخارج ومع فرنسا أولاً، وبإزالة العراقيل الداخلية عن طريق إدخال تغيير جذري على هياكل الحياة الريفية وتصنيع البلاد من أجل توفير حاجيات الشعب". ولن تتحقق هذه الغايات إلا بانتهاج سياسة التخطيط وتولي الدولة شؤون الاقتصاد بمشاركة العمال. فالتخطيط ضرورة حيوية تمكن وحدها تراكم الرأسمال اللازم لتحقيق التصنيع خلال فترة قصيرة. نسبياً وتركيز أهم قرارات الاستثمار والقضاء على أنواع التبذير .. وسوف تمكن مساهمة العمال في تسيير الاقتصاد من مراقبة التخطيط وتنفيذه وتكييفه التدريجي مع الإمكانيات المتوفرة". وبعد هذه الشروحات، حدد برنامج طرابلس المحاور الكبرى للثورة الديمقراطية الشعبية وحصرها. 1 - الثورة الزراعية التي تشتمل على الإصلاح الزراعي المرتكز على شعار: الأرض لمن يخدمها، وعلى تحديث الفلاحة بواسطة توزيع التقنيات العصرية على أوسع نطاق وتنويع الزراعات الغنية وإحلالها محل الزراعات الفقيرة وإعادة جمع الثروة الحيوانية والعمل على تنميتها وتطويرها ثم المحافظة على الثروة العقارية وتوسيعها بواسطة استصلاح الأراضي المنجرفة وتشجير الغابات المحروقة وتوسيع المساحات المروية بالإضافة إلى التركيز على استصلاح مساحات جديدة. 2 - تطوير المنشآت بواسطة تأميم وسائل النقل وتحسين وتجديد شبكات

الطرق والسكك الحديدية وإقامة شبكات جديدة للمواصلات البرية قصد الربط بين المدن الكبرى والأسواق القروية. 3 - تأميم البنوك والتجارة الخارجية، لأن السيطرة على هذين القطاعين ضروري لممارسة الرقابة الوطنية وللتمكن من توجيهها في الاتجاه الذي يضمن القضاء على النظام الامتيازي بين فرنسا والجزائر ويسمح للدولة بالإشراف المباشر على التصدير والاستيراد وبمراقبة الأسعار على جميع المستويات. إن هذه المهمة التي تبدو تقنية تكتسي في الواقع طابعاً سياسياً لأنها تهدف إلى جعل البلاد تسلك موقف الرفض المتمثل في العمل على قطع علاقات الامتيازات مع المستعمر السابق واستبدالها بعلاقات حرة مع البلدان التي تعرض أفضل الأسعار ويضمن التعامل معها مبادلات متوازية أساسها المنفعة المتبادلة. 4 - تأميم الثروات المعدنية والطاقة، وإذا كان التأميم ينتظر تحقيقه على الأمد الطويل، فإن إدراجه في البرنامج يعني أن مصالح الدولة مطالبة بتوفير مايحتاج إليه من شروط مثل تكوين المهندسين والتقنيين وتوسيع شبكات الكهرباء والغاز إلى كافة أنحاء البلاد. 5 - تطوير الصناعة وتنميتها، وقد حدد برنامج طرابلس مهمة الدولة في العمل على توسيع القطاع العمومي الموجود ليشمل المناجم ومصانع الإسمنت وفي الإعداد لإنشاء صناعات قاعدية لابد منها للفلاحة العصرية وصناعات نفطية وحديدية في انتظار الصناعات التحويلية والثقيلة التي توفر للجزائر امكانيات إنشائها بالتدريج. أما ميادين الاقتصاد الأخرى، فإن الدولة تتركها للمبادرة الخاصة التي ينبغي تشجيعها وتوجيهها في إطار المخططات العامة، كما أن على الدولة تحسين الصناعة التقليدية وإنشاء صناعات صغيرة محلية وجهوية لاستثمار المواد الأولية ذات الطابع الفلاحي خاصة. وفيما يتعلق بالسياسة الاجتماعية، فإن برنامج طرابلس قد ضبط فيما يلي: 1 - رفع مستوى المعيشة بواسطة العمل على جبهتين أساسيتين هما محاربة البطالة قصد إلغائها نهائياً ومحاربة مظاهر الترف والإسراف والتبذير من جهة، وتعبئة الجماهير الشعبية لمضاعفة العمل وإتقانه وحمل الدولة والأغنياء على اللجوء إلى التقشف سواء في الحياة اليومية أو

بالنسبة لتحديد الأجور والمرتبات من جهة ثانية. 2 - محو الأمية وتطوير الثقافة الوطنية، انطلاقاً من تعلق الشعب بقيمه الوطنية التي صيغت في إطار الحضارة العربية الإسلامية ومن تعطشه إلى العلم والمعرفة اللذين هما ضروريان لإخراجه من دائرة التخلف. 3 - السكن وهو ميدان خاص بحياة ملايين الجزائريين الذين هدمت منازلهم في الأرياف واضطروا للعيش في أكواخ المجمعات والمعسكرات أو في الأحياء القصديرية التي تكاثرت عند مداخل المدن والقرى التي سلمت من الهدم والتخريب. لأجل ذلك، فإن توفر السكن اللائق للمواطنين يعتبر من الإجراءات المستعجلة التي يجب اتخاذها طبقاً لما تقتضيه دورة النشاط الاقتصادي وعملية إعادة تأهيل الريف. 4 - الصحة العمومية، والاهتمام بهذا القطاع يبدأ بتأميم الطب والمنشآت الصحية من أجل ضمان مجانية العلاج. ولكي يكون الإجراء ناجحاً، لابد من مصاحبته بتكوين سريع للإطارات ومن تعبئة الجيش والمنظمات الجماهيرية لتحقيق إنجازات جديدة في الميدان ولمحاربة الأوبئة والأمراض المعدية. 5 - تحرير المرأة باعتبارها نصف المجتمع. ونظراً لمشاركتها الفعلية في تقويض أركان الاستعمار، لإنجاز هذه المهمة يدعو برنامج طرابلس إلى محاربة الأحكام الاجتماعية السابقة والمعتقدات الرجعية وإلى توفير الشروط الموضوعية التي تسمح بإشراف النساء في تسيير الشؤون العامة وتنمية البلاد. وبالنسبة للسياسة الخارجية وهي الوسيلة الثالثة لإنجاز مهام الثورة الديمقراطية الشعبية، فإن برنامج طرابلس قد أشار إلى أنها عامل أساسي في تدعيم الاستقلال الوطني وبلورة الشخصية الدولية للجزائر. ومن ثم، فهي تنطلق من موقف الرفض الذي يدعو البلدان المستقلة حديثاً إلى قطع كل مايربطهم بالمستعمر السابق وتتمحور حول مجموعة من المبادئ الثابتة وأبرزها: 1 - مناهضة الاستعمار والامبريالية باعتبارهما آفة العصر وقوة الشر التي تمنع الشعوب من تقرير مصيرها بنفسها، وتبني مصالحها على الاستبداد بجميع أنواعه وعلى استغلال الإنسان للإنسان. ولتحقيق هذا المبدأ، يرى برنامج طرابلس أن الجزائر مطالبة بالتضامن

مع حركات التحرير في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وبالتعاون مع البلدان الاشتراكية ومع قوى التحرر في البلدان الاستعمارية والامبريالية نفسها من أجل تفكيك النظام الذي يقوم عليه الاستعمار والامبريالية. وينبه البرنامج إلى أن النظام المذكور يعمل باستمرار على تغير أساليبه وتليينها قصد التكيف مع الأوضاع الجديدة من أجل إبقاء سيطرته على الشعوب والمحافظة على مصالحه الاستراتيجية في جميع الميادين، ومن جهة ثانية يوظف حكومات في إفريقيا وأمريكا اللاتينية كقواعد ومنطلقات لضرب قوى العدالة والتحرر في العالم. لأجل ذلك كله. فإن واجب الثورة الجزائرية يحتم عليها دعم حركة عدم الانحياز الإيجابي وتدعيم التحالف مع البلدان التي نجحت في بناء استقلالها الوطني وتحررت من السيطرة الأجنبية. 2 - مساندة حركات النضال من أجل الوحدة في المغرب والوطن العربي وفي أفريقيا. وبهذا الصدد يدعو برنامج طرابلس إلى الاستفادة من التجارب الفاشلة وخاصة منها مؤتمر طنجة والوحدة السورية المصرية ومجموعة الدار البيضاء. ونظراً إلى أن العمل الوحدوي هام وأساسي لتوسيع نطاق محاربة الامبريالية، فإنه ينبغي إدراجه في إطار الاختيارات الإيديولوجية والسياسية والاقتصادية، وجعله ينبثق عن القوى الطلائعية والمنظمات الجماهيرية ويهدف قبل كل شيء إلى عزل الطبقات الحاكمة التي تشكل أكبر العراقيل والتي أصبحت متخصصة في تحويل مساعي الوحدة إلى شعارات ديماغوجية توظفها للإبقاء على مصالحها الخاصة التي هي في نفس الوقت مصالح الاستعمار والامبريالية. فمن هذا المنطلق، يؤكد برنامج طرابلس التقدم بخطوات ثابتة على طريق مرهون بمدى القدرة على تطوير المبادلات وتنفيذ المشاريع الاقتصادية المشتركة والسياسية الخارجية المبنية على التشاور والتضامن المطلق. 3 - دعم حركات التحرير باعتبارها الامتداد الطبيعي لثورة التحرير في الجزائر إذ أن هدفها هو تصفية الاستعمار في جميع أنحاء العالم، لأجل ذلك فإن الثورة الجزائرية مطالبة بتقديم المساعدة الكاملة لجميع الشعوب التي تناضل فعلاً في سبيل تحرير بلدانها وعلى وجه الخصوص شعوب

الحزب والمنظمات الجماهيرية

أنغولا وجنوب أفريقيا وشرق أفريقيا. 4 - النضال من أجل التعاون الدولي باعتباره أمراً ضرورياً لتوظيف كافة المصادر المادية والبشرية من أجل التقدم وتحقيق السلام في العالم، وبهذا الصدد يرى برنامج طرابلس أن "دعم الروابط مع بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وتطوير المبادلات في كل الميادين مع البلدان الاشتراكية وإقامة علاقات مع كل الدول على أساس المساواة والاحترام المتبادل للسيادة الوطنية والعمل المشترك مع القوى الديمقراطية في فرنسا خاصة سيؤهل الجزائر للقيام بمسوؤليتها على الصعيد الدولي ويجعلها قادرة على الإسهام بصفة إيجابية في مقاومة السباق نحو التسلح والتجارب النووية وفي العمل على تصفية الأحلاف العسكرية والقواعد الأجنبية" (¬1). الحزب والمنظمات الجماهيرية: وبعد تحديد المهام الأساسية للثورة الديمقراطية الشعبية وضبط محاوره الكبرى وحصر أساليب إنجازها، انتقل المؤتمرون إلى أداة التخطيط والتوجيه والمراقبة. وإذا كان الجميع متفقاً على أن هذه الأداة لايمكن إلا أن تكون هي جبهة التحرير الوطني (¬2) التي قادت الكفاح المسلح وحققت جميع الانتصارات التي قادت إلى اتفاقيات إيفيان، فإن الخلافات قد بدت واضحة عندما تعلق الأمر بتعريفها كتنظيم سياسي تسند إليه هذه المهمة الجديدة. فحسب النصوص الأساسية السابقة لوقف إطلاق النار، فإن جبهة التحرير الوطني "مرشد الشعب ومحرك الثورة، وهي المنظمة التي تقوم بالكفاح المسلح من أجل محو النظام الاستعماري وبعث الدولة الجزائرية ذات السيادة وإقامة جمهورية ديمقراطية اجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية، أو لاتكون مؤسساتها متناقضة مع المبادئ الإسلامية (¬3). ¬

_ (¬1) النصوص الأساسية لجبهة التحرير الوطني، ص90. (¬2) لقد رجع المؤتمرون حول هذا الموضع إلى الوثيقة التي صادق عليها المجلس الوطني في دورته المنعقدة بطرابلس في الفترة مابين 16/ 12/1959 و 13/ 01/1960 والتي جاء في مادتها الرابعة: "بعد استقلال البلاد، فإن جبهة التحرير الوطني ستواصل مهمتها التاريخية كفائدة ومنظم للأمة الجزائرية من أجل الديمقراطية الحقة وتحقيق الازدهار الاقتصادي والعدالة الاجتماعية. (¬3) انظر نفس المصدر وكذلك نداء أول نوفمبر.

إن جبهة التحرير الوطني، في ميثاق وادي الصومام، هي الهيئة الوحيدة التي تمثل الشعب الجزائري والمؤهلة للتفاوض باسمه ولإقرار وقف القتال (¬1)، ولذلك فهي تنظيم ثوري وحركة جهادية مفتوحة لجميع الجزائريين الذين يتبنون برنامجها ويبدون، عملياً، استعدادهم للتضحية القصوى من أجل تجسيده على أرض الواقع. ولقد كان برنامج جبهة التحرير الوطني، في بداية الأمر، بسيطاً وواضحاً إذ يتمثل في ممارسة الكفاح المسلح والعمل السياسي، بهدف استرجاع السيادة الوطنية وإقامة الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية. وهذه البساطة وهذا الوضوح جعلا أغلبية الشعب الجزائري تتعاطف مع الثورة وتزودها بما تحتاج إليه من إمكانيات بشرية ومادية. وبعد حوالي عام من انطلاق الرصاصة أعلنت أهم التشكيلات السياسية الوطنية عن حل نفسها وأمرت مريديها ومناضليها بالانضمام فرادى إلى صفوف جبهة التحرير الوطني التي تحولت، نتيجة لذلك، إلى حركة جماهيرية ترفع لواء الجهاد في سبيل الله وفي سبيل الوطن. لكن السنوات الأخيرة من الكفاح المسلح عرفت تطوراً غير معهود ولا منتظر خارج حدود الجزائر، إذ تجمع عدد من المثقفين المعروفين بنزعتهم اليسارية في إطار أسرة تحرير اللسان المركزي لجبهة التحرير الوطني وراحوا يفلسفون الثورة انطلاقاً من مشاربهم الماركسية والغربية غير آبهين بواقع الشعب العربي المسلم الذي يخوض المعركة الحقيقية في داخل الوطن. وبينما كان جيش التحرير الوطني في مختلف الولايات يمارس الجهاد ويطبق الشريعة الإسلامية حسب المستطاع، كان أولئك المثقفون يكتبون على الورق أن الثورة الجزائرية لا يمكن إلا أن تكون اشتراكية، وأنها ديمقراطية شعبية، وأن جبهة التحرير الوطني منظمة لائكية إلى غير ذلك من الانحرافات التي ستكون بعد سنة اثنتين وستين وتسعمائة وألف، سبباً رئيسياً في تشتيت الصف وحرمان الثورة من العديد من طاقتها الحية. وأثناء صياغة برنامج طرابلس اختلف أولئك المثقفون فيما بينهم حول مستقبل جبهة التحرير الوطني كتنظيم. فهناك من نادى بها منظمة جاهرية ¬

_ (¬1) النصوص الأساسية لجبهة التحرير الوطني، ص ك 22 وما بعدها.

تتشكل صفوفها من الفلاحين والعمال والطلبة والشباب والمثقفين الثوريين (¬1)، وهناك من دعا إلى جعلها حزباً طلائعياً يضم في صفوفه فقط العناصر الواعية والمؤمنة بمهام الثورة الديمقراطية الشعبية ومحاورها الكبرى وأساليب إنجازها ونظراً إلى أن الوقت لم يكن كافياً للفصل في الموضوع، ولأن المسؤولين الذين بيدهم سلطة القرار كانوا مشغولين بمسألة تشكيل المكتب السياسي، وحيث أن مجموعة العمل رغم يسارية أعضائها لم تكن قادرة على تجاوز خلافاتها المذهبية (¬2)، فإن التعريف الذي تضمنه برنامج طرابلس قد جاء غامضاً وغير من مضمونه الإيديولوجي. هكذا، وبدون سابق إنذار، أضيف إلى الوثيقة الأساسية المقدمة للمجلس الوطني للثورة الجزائرية ملحق بعنوان: الحزب. وكأنما للإجابة على تساؤلات القارئ الخالي الذهن استهل الملحق المذكور بما يلي: "لتحقيق أهداف ثورة ديمقراطية شعبية لابد من حزب جماهيري واع" (¬3). إن الحزبية في ذلك الوقت تتناقض جوهرياً مع حقيقة جبهة التحرير الوطني التي تأسست على أنقاض الأحزاب التي برهنت على فشلها في قيادة الشعب نحو توحيد واسترجاع الاستقلال الوطني، ولقد كان أعضاء المجموعة يعرفون ذلك ويعرفون، أيضاً أن الحزب الشيوعي هو من بين التشكيلات السياسية التي كانت تنشط في الجزائر قبل الفاتح من نوفمبر عام أربعة وخمسين وتسعمائة وألف، وهو التشكيلة الوحيدة التي رفضت حل نفسها وظلت تنافس جبهة التحرير الوطني وتتحداها إلى غاية وقف إطلاق النار، وعليه فإن اعتبار جبهة التحرير الوطني حزباً يقلل كثيراً من أخطاء القيادة الشيوعية ويفتح لها الأبواب واسعة للعودة إلى العمل كتنظيم مستقل بعد الاستفتاء والإعلان عن بعث الدولة الجزائرية من جديد. وزيادة في الإبهام، جاء في الملحق أن "حزب جبهة التحرير الوطني ولد في خضم المعركة وهو ليس تجمعاً، لكنه تنظيم يضم كل الجزائريين الواعيين ¬

_ (¬1) مازالت جبهة التحرير الوطني محافظة على التعريف إلى غاية اليوم ورغم كل ماوقع من أحداث وتغيير. (¬2) بعض أعضاء المجموعة مثل السيد محمد حربي، كانو تروسكيين، بينما كان بعضهم الآخر مثل مصطفى الأشرف ورضا مالك ومحمد بن يحيى ماركسيين ومتأثرين بقرانتز فانون، والوحيد الذي كان متشبعاً بأيديولوجيا الحركة الوطنية فهو عبد المالك تمام الذي لم يطلق سراحه إلا بعد وقف إطلاق النار. (¬3) النصوص الأساسية لجبهة التحرير الوطني، ص93.

الذين يناضلون لصالح الثورة الديمقراطية الشعبية" (¬1). وإذ هو يشتمل على طليعة القوى الثورية في البلاد، فإنه مطالب بأن يبعد من صفوفه كل تواجد أيديولوجي مخالف معنى ذلك أن المناضلين المسلحين وغير المسلحين الذين يظلون أوفياء لأيديولوجية الحركة الوطنية التي هي في أساس أيديولوجية جبهة التحرير الوطني يقصون من الصوف ويستبدلونك بآخرين يكونون متشبعين بالأيديولوجية الماركسية. من هذا المنطلق نؤكد أن إعداد الملحق بهذه الصيغة كان مقصوداً من أجل دفع الثورة في طريق الانحراف بواسطة عزل القواعد النضالية والمنظمات الجماهيرية عن أيديولوجية الحزب وبالفعل، فإن الملحق يذكر أن التركيبة الاجتماعية للحزب تتكون من الفلاحين والعمال والشباب والمثقفين الثوريين، وأن الأغلبية الساحقة لهذه التركيبة من الأمنيين الذين ليس من السهل جعلهم يفهمون حقيقة الثورة الديمقراطية الشعبية كما هو محددة في الوثيقة المصادق عليها وعندما يتعذر عليهم الفهم كيف يمكن أن تطالبهم بالالتزام وبالعمل الميداني على تجسيد مشروع المجتمع الجديد. ولأن مجموعة العمل كانت تعرف كل ذلك، فإنها لجأت إلى خلط الأوراق وتأجيل التوضيح الأيديولوجي إلى ما بعد الدخول إلى أرض الوطن للتمكن من الاستحواذ على المرافق الأساسية في الحزب وخاصة منها مرافق التكوين والثقافة والإعلام. وعلى الرغم من الغموض المقصود والتذبذب الناتج عن ذلك، فإن الملحق قد ضبط المبادئ الميسرة للحزب وفي مقدمتها المركزية الديمقراطية وانتخاب المسؤولين على جميع المستويات وتنظيم الاجتماعات دورياً وبانتظام والإكثار من اللقاءات بين القاعدة والقمة حتى يسهل فتح القنوات في اتجاه الجماهيرية الشعبية بعد ذلك حدد العلاقة بين الغرب والدولة وهي نقل يكاد يكون حرفياً عما كان موجوداً في الاتحاد السوفياتي. أما عن المنظمات الجماهيرية، فإنها تعبر عن تنوع احتياجات الوطن وهي تتكفل بتنظيم الشباب والطلبة والنساء والعمال وتدافع عن مصالحهم الخاصة، وفي نفس الوقت تضمن مشاركتهم الفعلية في إنجاز مهام الثورة. ومهمة الحزب في هذا المجال تنحصر في المساعدة على إنشاء هذه المنظمات وتنشيطها في إطار برنامجه الشامل. ومما لاشك فيه أن نجاح هذه المهمة يتوقف نجاح تعبئة ¬

_ (¬1) نفس المصدر.

الجماهير الشعبية التي هي شرط لابد منه لجعل الجزائر قوية وعصرية. وفيما يخص القانون الأساسي للحزب، فإن المجلس الوطني للثورة الجزائرية قد تبنى الوثيقة التي صادق عليها في دورته المنعقدة بطرابلس في الفترة مابين السادس عشر من شهر ديسمبر سنة تسع وخمسين وتسعمائة وألف والثامن عشر من شهر جانفي سنة ستين وتسعمائة وألف. وبهذا الصدد تجدر الإشارة إلى أن هذه الوثيقة كانت خاصة بجبهة التحرير الوطني وليس بحزب جبهة التحرير الوطني. ولكن يبدو أن ضيق الوقت هو الذي جعل المجموعة تكتفي بنقلها كماهي على القيام بالتغيير اللازم في المستقبل وسوف يكون ذلك المستقبل هو المؤتمر الأول للحزب في شهر أبريل سنة أربع وستين وتسعمائة وألف. ••••

الفصل الثالث أوضاع الجزائر غداة استرجاع السيادة الوطنية

الفصل الثالث أوضاع الجزائر غداة استرجاع السيادة الوطنية • 1 المنافذ الاستعمارية • 2 التسابق إلى السلطة • 3 مواجهة الأوضاع الموروثة عن الاستعمار • 4 قراءة متأنية لميثاق الجزائر •••

المنافذ الاستعمارية

المنافذ الاستعمارية: لقد تعرضنا، في الفصل السابق، إلى تقييم الانتصارات التي حققتها اتفاقيات إيفيان بالنسبة لجبهة التحرير الوطني، وذكرنا أن الأهداف التي سطرتها هذه الأخيرة أنجزت في مجملها، وإذا كان المتفاوضون الفرنسيون لم يتمكنوا من المس بسلامة التراب الوطني ووحدة الشعب الجزائري رغم محاولاتهم المتعددة وإمكانياتهم المتنوعة فإنهم توصلوا، في نهاية الأمر، إلى فتح بعض المنافذ لإرساء قواعد الاستعمار الجديد ومنع الثورة من التواصل في الطريق المؤدية إلى استكمال تحرير الإنسان وأهم هذه المنافذ، في نظرنا، هي: 1) - تمكين الأوربيين من وضع خاص يجعلهم يستفيدون من الجنسيتين الجزائرية والفرنسية لمدة ثلاث سنوات، تحترم خلالها خاصيتهم الغربية واللغوية والدينية. وتباعاً لذلك، فإن المدن ذات الأغلبية الأوربية تكون متميزة عن سائر المدن الجزائرية، وتتعهد السلطات الجزائرية بعدم الاقتصاص من الفرنسيين والجزائريين الذين ناهضوا الثورة بأشكال وطرائق مختلفة. لقد كانت السلطات الفرنسية تعتقد أن هذا البند، من اتفاقيات إيفيان، سوف يبقي الجزائر في أسر فرنسا لأن الأوربيين والعملاء من الجزائرين كانوا يشغلون على الأقل تسعين بالمائة من مناصب المسؤولية في مجالات الإدارة والاقتصاد والقضاء، وبالتالي فإن جبهة التحرير الوطني لن تتمكن من بناء المجتمع وإقامة الدولة المذكورين في نصوصها الأساسية، إذ من المستحيل مواصلة العمل الثوري بواسطة الإمكانيات البشرية التي أعدتها السلطات الاستعمارية بهدف الإبقاء على مصالحها وإلا كانت الثورة والاستعمار شيئاً واحداً. ودائماً في إطار هذه النقطة، تشير اتفاقيات إيفيان إلى أن الجزائر المستقلة ملزمة باحترام ملكيات هذا الصنف من السكان وبعدم اتخاذ أي إجراء يجردهم من أملاكهم بتعويض عادل يحدد مسبقاً ويكون مقبولاً. معنى ذلك أن الأوربيين والعملاء يظلون محتفظين بكل ماهو بحوزتهم من مكتسبات بجميع أنواعها، وإذ أرادت جبهة التحرير الوطني أن تكون وفية للأهداف المنصوص عليها في المواثيق القديمة والجديدة فإنها تكون مجبرة على تقديم أموال طائلة لايمكن للخزينة العامة توفيرها.

ويحاول بعض المؤرخين والسياسيين الذين عالجوا هذا الموضوع التقليل من أهمية هذا المنفذ معتمدين على كون الأغلبية من الأوربيين قد رحلوا بمحض إرادتهم وتخلوا عن ممتلكاتهم بما في ذلك أراضيهم الخصبة الشاسعة. فرحيل الأوربيين هو في واقع الأمر، قرار لم يحل المشكل بل زاده تعقيداً لأنه أوجد وضعاً قانونياً جديداً لم تتعرض له اتفاقيات إيفيان وسوف تتخذ منه فرنسا وسيلة ضاغطة إلى أبعد الحدود من أجل تثبيت قواعد الاستعمار الجديد. إن الأملاك الشاغرة في جميع الميادين ستظل موضوع نزاع الجزائر وفرنسا إلى غاية الثمانينات، بل إن بعض السياسيين الفرنسيين ما زالوا حتى الآن ينادون بضرورة إعادة فتح ملف التعويضات، بينما لم تلجأ السلطات الجزائرية إلى المطالبة بالتعويض عن الإهمال المقصود الذي لايختلف في الحقيقة، عن عمليات التخريب المنظمة. وإضافة إلى هذا الوضع القانوني الجديد، فإن رحيل الأوربيين قد أفاد العملاء الجزائريين الذين انشغلت عنهم السلطات الجزائرية بالعمل على سد الفراغ المهول الذي أحدثه ذلك الفرار المفاجئ، وسوف يستفيد الاستعمار الجديد كثيراً من السكوت عن هؤلاء العملاء وإحلالهم، فيما بعد، محل الفرنسيين الفارين. هكذا، إذن، فإن جبهة التحرير الوطني التي اعترفت بها فرنسا ممثلاً وحيداً شرعياً للشعب الجزائري والتي أجمع المجلس الوطني للثورة الجزائرية على إبقائها قائداً ومرشداً للثورة الجزائرية، سوف تكون مضطرة للاعتماد على إدارة استعمارية يسيرها، عملياً، إطارات وموظفون جزائريون، ما في ذلك شك، ولكنهم معدون لمناهضة الثورة وليس لخدمتها. ولقد كان قبول هذا الوضع المحتوم تنازلاً خطيراً لأنه سوف يمكن أعداء الثورة من توظيف الإجراء الإداري بجميع أنواعه لعرقلة القرار الثوري ومنعه من التطبيق. 2) - تشكيل القوة المحلية من الجنود الجزائريين الذين يسرحون من صفوف الجيش الفرنسي أو من وحدات الحركة (¬1) و "القومية" (¬2) ويبلغ عدد أفرادها أربعين ألف رجل يقودهم ضباط جزائريون ينتقون من داخل الجيش ¬

_ (¬1) الحركة هم الجزائريون سلحهم الجيش الفرنسي ونظمهم في وحدات صغيرة وضع على رأسها ضباطاً وصف ضباط. من الفرنسيين قصد استعمالهم لمحاربة جيش التحرير الوطني. ولقد أدت الحركة ادوراً خطيرة خاصة في الأرياف حيث كانوا أكثر شراسة من الاستعماريين أنفسهم. (¬2) القومية هم الجزائريون الذين جندهم القواد والباشغوات لمحاربة جيش التحرير الوطني. وفي كثير من الأحيان فإنهم لم يكونوا مدركين لخيانتهم.

الاستعماري، وتكلف هذه القوة بالحفاظ على الأمن وتوضع تحت تصرف الهيئات التنفيذية المؤقتة التي اتفق الطرفان الجزائري والفرنسي على إسناد رئاستها إلى الموثق الجزائري السيد عبد الرحمن فارس (¬1). لقد كانت الحكومة الفرنسية تراهن أن تكون القوة المحلية نواة الجيش الجزائري بعد الإعلان عن الاسترجاع للسيادة الوطنية، ولعلها تتحول بالتدريج إلى واحدة من المصادر الأساسية للسلطة نظراً للصراع القائم بين الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية المدعوة ببعض الولايات (¬2) وبين قيادة الأركان العامة التي أصبحت تستفيد من مساندة أحمد بن بلة وجماعته (¬3) ومن دعم الولايتين الأولى والسادسة. إن فرنسا لم تعد ترتكب خطأ كبيراً في تقديراتها لأن الصراع القائم بين الحكومة المؤقتة وأفراد القوة المحلية يلتحقون بها جماعات وواحدنا، جنوداً وضباطاً وبذلك ضاعت إلى الأبد إمكانية المحاسبة، واختلط الحابل بالنابل وأصبح من المستحيل اعتماد الجيش كقوة وطنية متجانسة، خاصة وأن ضباط القوة المحليون لم يجدوا أية صعوبة في الربط مع زملائهم الذين سبقوهم إلى الحدود الشرقية والغربية ابتداء من مجيء الجنرال ديغول إلى الحكم. إن اختراق جيش التحرير الوطني بهذه الطريقة وعلى مراحل مختلفة هو الذي مهد، شيئاً فشيئاً إلى إقصاء الضباط الوطنيين الذين لن يتكونوا في صفوف الجيش الاستعماري. فكلما أبعدت مجموعة كانت جبهة التحرير الوطني تخسر معركة وتفقد سنداً، ولقد كانت الأسباب كثيرة حتى لاتبدو عملية التصفية مقصودة. فأحياناً تثار مسألة التشبيب (¬4) وأحياناً أخرى تستعمل الترقية وسائر ¬

_ (¬1) من المواليد أقبوا منطقة مايسمى بالقبائل الصغرى سنة 1911. أنهى دراسته الابتدائية في بجاية ثم في مسابقة المحضرين القضائيين واشتغل ككاتب ضبط في سبدو بالغرب الجزائري ثم عمل موثقاً في القل على الساحل الشمالي الشرقي. وعندما عاد إلى العاصمة التحق بصفوف الحزب الاشتراكي الفرنسي وانتخب سنة 1945 نائباً بالمجلس التأسيسي. وفي سنة 1948 الإذاعة يدعو فيه الهدوء ويطالب بالاندماج الكامل، وعلى إثر ذلك حكمت عليه جبهة التحرير الوطني بالإعدام. أنضم إلى جبهة التحرير الوطني سنة 1957 ويذكر أنه رفض المشاركة في حكومة الجنرال ديغول سنة 1958. ألقي عليه القبض سنة 1961 ولم يطلق سراحه إلا ليرأس الهيئة التنفيذية المؤقتة. (¬2) الولايات التي تدعم الحكومة المؤقتة هي: الثانية، الثالثة، الرابعة، والخامسة بالإضافة إلى فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا. (¬3) تتكون هذه المجموعة خاصة من: محمد خيضر. رابح بيطاط، فرحات عباس والحاح بن علة. (¬4) علماً بأن الذين كانوا يحالون على التقاعد، كانوا في كثير من الأحيان أقل سناً وأكثر علماً من الآمرين بإحالتهم على المعاش.

الإغراءات والاعتراف بالجهد المبذول إلى غير ذلك من الحجج التي في ظاهرها العفوية والنية الصادقة وفي باطنها يمكن التخطيط للتخلص من جميع الضباط المتشبعين بأيديولوجية الثورة حتى ينفرد بالسلطة المكونون في صفوف الجيش التي تتناقص تماماً مع الأهداف المسطورة الأساسية للثورة. وإلى جانب القوة المحلية عمل بعض الضباط الساميون في الجيش الفرنسي، بالتعاون مع قيادة منظمة الجيش السري، على تشجيع عدد من الضباط الجزائريين العاملين في الجيش الاستعماري على التمرد بجنودهم وتكوين جيوش مستقلة من أجل محاربة جيش التحرير الوطني وإشعال نار الحرب الأهلية في الجزائر. وعلى سبيل المثال، تجدر الإشارة إلى حركة العقيد سي الشريف على رأس حوالي ألف مقاتل بناحية عين بوسيف الكائنة في ولاية المدية (¬1) وحركة عبد الله المصالي على رأس ثمانمائة مقاتل بناحية بوسعادة الكائنة في ولاية المسيلة (¬2). 3) -ازدواجية اللغة في التعليم والإدارة والقضاء فصل الجزائر عن عروبته وإبقائها في دائرة الفرانكفونية التي هي مذهب سياسي يرمي إلى نشر الفكر الاستعماري في البلدان التي لها استعداد طبيعي لقبول التبعية بجميع أنواعها، ومما شك فيه أن نشر الفكر الاستعماري في حد ذاته، وسيلة لقولبة الذهنيات طبقاً لمتطلبات الاستعمار الجديد من جهة ولتعميم أنماط الحياة المؤدية إلى سلخ المجتمع عن أصالته وربطه بظروف الحياة السائدة في فرنسا التي هي مصدر ذلك الفكر من جهة ثانية. إن هذه المهمة التي تبدو ثقافية في ظاهرها، أخطر بكثير من العمل العسكري الذي يهدف إلى فرض الاستعمار الاستيطاني. ولقد كانت فرنسا تدرك هذه الحقيقة وأبعادها، وتعرف أيضاً أن اللغة لايمكن أن تكون محايدة كما أنها لايمكن أن تكون مجرد وسيلة تبليغ، بل إنها وعاء حضاري وثقافي وعنصر أساسي من مقومات الشخصية بالإضافة إلى كونها أداة فعالة لاكتساب المعرفة ولصياغة نمط الحياة المميز للفرد والمجتمع على حد سواء. ففي هذا السياق عملت اتفاقيات إيفيان على تكريس اللغة الفرنسية ضرة للغة العربية تحجبها عن الظهور متى شاءت، وتمنعها من التطور الحقيقي الذي ¬

_ (¬1) كانت هذه الولاية الإدارية للولاية الرابعة. وتقع المدية على بعد حوالي سبعين كلم جنوبي العاصمة. (¬2) تقع مدينة بوسعادة على بعد مئتين وخمسين كلم جنوبي شرقي العاصمة، وفي أثناء الثورة تابعة للولاية السادسة.

يسمح لها بأن ترقى في وطنها على الأقل، إلى مصاف لغات العلم والتكنولوجية، وبأن تؤدي دورها الطبيعي في بناء الدولة المستقلة استقلالاً كاملاً. وإذا كان المفاوضون الفرنسيون لم يتمكنوا من تثبيت اللغة الفرنسية كلغة رسمية في الجزائر فإنهم عملياً قد أعطوها مكانة أفضل، إذ جاء في البند الحادي عشر من وثيقة الضمانات: إن النصوص الرسمية تنشر أو تبلغ باللغة الفرنسية كما هو الشأن باللغة الوطنية وتستعمل اللغة الفرنسية في التعامل مع المصالح العمومية للجزائريين، من أصل أوربي، الحق في استعمالها خاصة في الحياة السياسية والإدارية القضائية (¬1). وفي مجال التعليم تنص نفس المادة على أن الجزائريين من أصل أوربي أحرار في فتح وتسيير مؤسسات التعليم. وفي المادة الثانية من الوثيقة بالتعاون الثقافي تنص اتفاقيات إيفيان على كل واحد من البلدين يستطيع أن تفتح في البلد الثاني المدارس والمعاهد الجامعية التي يجري فيها التعليم طبقاً لبرامجه الخاصة ولتوقيته ومناهجه البيداغوجية. وتكون كل هذه المؤسسات مفتوحة لمواطني البلدين (¬2). أما المادة التاسعة فهي تجعل كل واحد من البلدين يسهل دخول ونشر وتوزيع وسائل التعبير والتفكير القادمة من البلد الثاني، ويشجع، في كامل ترابه تعليم لغة البلد الآخر وتاريخه وحضارته وكذلك تنظيم التظاهرات الثقافية. هكذا، إذن، تكون اتفاقيات إيفيان قد مهدت لتكريس الغزو الثقافي في الجزائر. ولقد كانت فرنسا تدرك أن الجزائر المسترجعة حديثاً لاستقلالها لايمكن أن تسمح لنفسها ببناء المؤسسات التعليمية والمراكز الثقافية والمعاهد الجامعية خارج ترابها الوطني. وحتى لو فرضنا أنها تستطيع ذلك فإن الذين يقبلون هذه المنشآت لن يكونوا سوى من أبناء المغتربين، في حين أن جميع الإمكانيات متوفرة لدى فرنسا لفتح ماتريد من المدارس والمعاهد والمراكز الثقافية التي ترتادها أعداد غفيرة من الجزائريين الذين نهلوا من ينبوع الثقافة الفرنسية أثناء ليل الاستعمار الطويل. وتطبيقاً لاتفاقيات إيفيان فإن التعليم في الجزائر، لم يكن مزدوجاً رغم التنصيص على ذلك ولكنه بدأ فرنسياً محضاً لأن جميع المواد كانت تدرس ¬

_ (¬1) عبد الرحمن فارس، الجزائر من سنة 1945 إلى الاستقلال، باريس 1982، الملحق رقم4 ص185 وما بعدها. (¬2) انظر الملحق رقم 12 الوثيقة المتعلقة بالتعاون الثقافي.

التسابق إلى السلطة

باللغة الفرنسية حسب البرامج الفرنسية وبمعلمين وأساتذة إن لم يكونوا فرنسيين فممن تكونوا بواسطة مختلف الترقيات الاستعمارية وزودوا بذهنيات ترفض فكرة السيادة لأنها تفصلها عن (الوطن الأم). أما اللغة الوطنية، فكانت تدرس شكلياً وكلغة فقط، الأمر الذي جعل السلطات المختصة تستغني عن وضع برنامج علمي لتدريسها ومخطط مضبوط يهدف بالتدريج إلى إحلالها محل لغة المغتصب السابق (¬1). ونظراً إلى المجهودات الجبارة التي بذلتها الدولة الجزائرية الفتية في قطاع التربية والتعليم، نستطيع القول إن اتفاقيات إيفيان قد رسخت اللغة الفرنسية ومكنت من نشرها عبر مختلف أنحاء الوطن ولم تترك حتى الأرياف والصحاري القاحلة وهي الأماكن التي عجز الاستعمار عن إيصال سمومه إليها أثناء ليله المظلم الطويل. التسابق إلى السلطة: كل هذه المنافذ وغيرها وظفت إلى أبعد الحدود من طرف فرنسا الاستعمارية التي وجدت لتأدية مهامها مساعدة غير منتظرة في تسابق القيادات الجزائرية نحو السلطة وفي تناقض تلك القيادات من حيث التكوين الأيديولوجي والمنطلقات الحضارية والفكرية والثقافية. فالتسابق نحو السلطة لم يكن جديداً كما أنه لم يكن وليد وقف إطلاق النار، بل إنه بدأ مباشرة مع تكوين الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية كما سبقت الإشارة إلى ذلك في الفصل الثالث من الباب الثاني، وبلغ أوجه عندما تشكلت الحكومة الجديدة برئاسة السيد بن يوسف بن خدة الذي أقدم في السابع والعشرين من شهر سبتمبر سنة واحدة وستين وتسعمائة وألف على أمر الولايات بقطع جميع العلاقات مع قيادة الأركان العامة التي رغم استقالتها، لم تفقد سيطرتها الفعلية على جيش التحرير الوطني المرابط على الحدودين الشرقية والغربية (¬2). ولقد ازداد الخلاف حدة مع مطلع السنة الجديدة عندما عادت قيادة الأركان العامة إلى نشاطها وهي أكثر قوة من أي وقت مضى وعندما فشل السيد بلقاسم ¬

_ (¬1) المعهد التربوي، برنامج التعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي، وزارة التربية الوطنية، مديرية البرامج، سبتمبر 1972. (¬2) حربي (محمد) جبهة التحرير الوطني، ص286.

كريم في مسعاه المتعلق بتقسيم أعضائها (¬1) ثم عندما تقدمت المفاوضات مع فرنسا ولاح في الأفق تحالف محتمل بين أحمد بن بلة وقيادة الأركان العامة. صحيح أن السلطة كانت هي الهدف الأسمى الذي كانت جميع الأطراف تسعى إلى تحقيقه، ولكن المتصارعين عليها كانوا في جريهم وراءها ينطلقون من مواقف أيديولوجية مختلفة يمكن حصر أهمها في الآتي: 1 - الموقف الرافض الذي يرى أن حل القضية الجزائرية يكمن، أولاً، في إلحاق هزيمة عسكرية بالجيش الاستعماري، وعليه فإن التفاوض مع العدو يعد تنازلاً خطيراً ونوعاً من الخيانة التي يجب التصدي لها بكل حزم وصرامة. وصاحبة هذا الموقف هي قيادات الأركان العامة التي تعتبر اتفاقيات إيفيان إجهاضاً للثورة وإرساء لقواعد الدولة الليبرالية في الجزائر (¬2). 2 - موقف القبول يرى أن الحل العسكري مستحيل، وأن التفاوض مع فرنسا هو الطريق الأوحد والأسلم لوقف إطلاق النار وتمكين البلاد من استرجاع استقلالها وبالطبع، فإن الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية هي صاحبة هذا الموقف وهي تعترف أن اتفاقيات إيفيان، على ما فيها من نواقص، صالحة لأن تكون قاعدة متينة لبناء الدولة الجزائرية كما هي محددة في النصوص الأساسية للثورة (¬3). وإذا كان الموقف الأول متأثراً بالثورية التي تريد أن تكون محصلة للتجربتين الكوبية والصينية وهو، من ثم، يشترط أن تنتقل السيادة الجزائرية مباشرة من الحكومة الفرنسية إلى الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، ويدعو إلى بناء مجتمع اشتراكي في الجزائر متمايز عن المجتمعات الاشتراكية الأخرى بارتكازه على أبناء الريف ورفضه لمبدأ الصراع الطبقي، فإن الموقف الثاني، في الظاهر، بنداء أول نوفمبر الذي اكتفى بالتفاوض مع فرنسا على أساس اعتراف هذه الأخيرة باستقلال الجزائر وبأن لا يتوقف إطلاق النار إلا بعد تسوية جميع القضايا السياسية. وفي الحقيقة فإن هذا الموقف متأثر برغبة ملحة لدى أعضاء الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في إنهاء حالة الحرب ¬

_ (¬1) ذكر السيد عبد الحفيظ بو الصوف أن كريم عرض على بومدين رتبة جنرال. وأن هذا الأخير سجل عرضه على غير علم منه ووزعه على إطارات جيش التحرير الوطني للتقليل من شأنه. (¬2) ابن بلة (احمد) حديث في بيته يوم 24/ 06/1991 ويؤكد الرئيس بن بلة تأييده لهذا الموقف وهو ما بعد يقبل التحالف مع قيادة الأركان ضد الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. (¬3) بن يوسف بن خدة، اتفاقيات إيفيان، ص26.

"خوفاً من أن تعطي لفرنسا فرصة توظيف (¬1) الخلافات الداخلية لإجهاض الثورة". كما جاء في التفسيرات التي قدمها السيد ابن يوسف بن خدة. وعلى الرغم من أن ثورية الموقف الأول إلا أن أصحابه لم يكونوا معروفين على الساحة السياسية، ولذلك توجهوا إلى قصر أولنوي (¬2) ووقع اختيارهم في بادئ الأمر، على السيد محمد بوضياف لما اشتهر عنه من قدرة التنظيم على محاربته لعبادة الشخصية وتشبع بالمبادئ اليسارية لكن بوضياف رفض عرض مبعوث قيادة الأركان العامة السيد عبد العزيز بوتفليقة نظراً لارتباطه مع الحكومة المؤقتة وبالضبط مع السيد بلقاسم كريم الذي كان قد تحالف معه من قبل ضد السيد أحمد بن بلة. ولقد تبنى هذا الأخير موقف قيادة الأركان العامة بدون أدنى تردد وأعلن عن انضمامه إليها من أجل فرض حلها للأزمة والمتمثل في تشكيل مكتب سياسي يكون مسؤولاً عن الحكومة المؤقتة وفي وضع مشروع جديد للمجتمع الجزائري (¬3). ومما لاشك فيه أن قبول السيد أحمد بن بلة هذا التحالف مدفوع في جزء منه بمصالح الشخصية ولكنه، أيضاً جاء نتيجة تكوينه السياسي والأيديولوجي خاصة عندما نعرف أن فكرة الثورة بواسطة الأرياف تحتل مكانة رئيسية في برنامج نجم شمال إفريقيا ومن بعده حزب الشعب الجزائري وحركة الانتصار للحريات الديمقراطية، في هذا الجو المكهرب اجتمع المجلس الوطني للثورة الجزائرية وصادق، كما ذكرنا على برنامج طرابلس ثم لم ينه أشغاله، بل توقف عند مسألة تشكيل الهيئات العليا التي تسند إليها مسوؤلية تسيير شؤون البلاد بعد اتفاق الجميع على أن "جبهة التحرير الوطني ستواصل مهمتها التاريخية في قيادة الثورة (¬4). وتعبيراً عن الموقفين المذكورين أعلاه تبلورت في داخل المجلس نزعتان رئيسيتان. إحداهما بزعامة السيد أحمد بن بلة وهي ترى أن المكتب السياسي المزمع انتخابه يجب أن يتكون من سبعة أعضاء وأن تعطى له كل الصلاحيات اللازمة لقيادة البلاد إلى أن يتم تزويدها بالمؤسسات الشرعية المنتخبة، واقترح ¬

_ (¬1) المصدر نفسه. (¬2) حيث كان القادة الأربعة معتقلين وهو كائن ببلدية أولنوي في شمال فرنسا. (¬3) بوتفليقة (عبد العزيز) حديث أجريته معه يوم 16/ 04/1991 في بيت السيد محمد الشريف مساعديه. (¬4) حزب جبهة التحرير الوطني، الأمانة الدائمة للجنة المركزية، النصوص الأساسية لجبهة التحرير الوطني 1954 - 1962. نشر وتوزيع قطاع الإعلام والثقافة، الجزائر 1987 ص53. وما بعدها.

السيد أحمد بن بلة إلى جانب اسمه كلاً من السادة: محمد خيضر، محمد بوضياف، حسين آيت أحمد، رابح بيطاط، محمدي السعيد والحاج بن عله. أما النزعة الثانية فقد تزعمها السيد كريم بلقاسم، الذي اقترح مكتباً سياسياً من تسعة أشخاص وهم بالإضافة إلى اسمه: حسين أحمد، محمد بوضياف، محمد خيضر، رابح بيطاط، عبد الله بن طوبال، عبد الحفيظ بوالصوف، أحمد بن بلة، وسعد دحلب. وعلى إثر مشاورات فردية قامت بها لجنة (¬1) عينها المجلس لهذا الغرض، تبين أن قائمة ابن بلة تحظى بتأييد ثلاثة وثلاثين عضواً بينما لم يؤيد قائمة السيد كريم سوى واحد وثلاثون عضواً فالفارق إذن، كان ضئيلاً جداً وهو معرضاً للزوال لأن من المؤتمرين لم يعبرا عن رأيهما. وزيادة على ذلك، فإن تشكيليتين لم يراع فيهم التجانس، بل أن آيات أحمد ومحمد بوضياف قد صرح أنهما يرفضان مشاركة في هيئة عليا يشرف عليها السيد أحمد بن بلة، وذلك بحجة أنهما لم يتفقا معه طيلة سنوات السجن وأن نظرتهما للجزائر تختلف كلية عن نظرته. وعندما نراجع قائمة التشكليتين نستثني الحاج بن علة، فإننا نجد كل العناصر المقترحة لعضوية المكتب السياسي كانوا وزراء في الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية ووقعوا قبل غيرهم، على اتفاقيات إيفيان وبالتالي فهم يكادون يمثلون توجه واحد ولاتفارق بينهم سوى الحساسيات الشخصية والحزازات التي لاعلاقة لها بأيديولوجية جبهة التحرير الوطني. وإذا تعمقنا أكثر في التحليل، فإننا نجد أن الخلاف بين السيدين أحمد بن بلة وبلقاسم كريم لايعود إلى أشياء جدية ولكنه، فقط، ينطلق من اعتقاد كل واحد منهما أنه أحق من الآخر لقيادة الثورة. فالسيد بلقاسم كريم يرى أنه التاريخي الوحيد من بين مفجري الثورة الذي ظل طليقاً وعلى قيد الحياة، ولم يتوقف لحظة واحدة عن نشاطه كمسؤول في أعلى قمة الهرم القيادي، وعليه فهو أولى من غيره وخاصة من ابن بلة الذي لم يعش الثورة من الداخل ولم ينشط لفائدتها في الخارج سوى أشهر معدودة اعتقل بعدها ولم يستعمل السلاح الذي كان معه يوم اعتقاله ثم ظل يتابع الأحداث وفي مأمن من أخطارها (¬2). أما السيد ابن بلة فيرى أنه أولى بقيادة الثورة لأنه كان مسؤولاً عن ¬

_ (¬1) تشكلت هذه اللجنة من العقيد محمد يزوران والرائد أحمد ومحمد بن يحيى والحاج بن عله. (¬2) بو الصوف (عبد الحفيظ) اللقاء المشار إليه سابقاً.

المنظمة الخاصة التي كانت في أساس اندلاعها في حين أن السيد كريم من أنصار الكتلة المصالية إلى غاية الأيام الأخيرة التي سبقت بدء الكفاح المسلح، وإضافة إلى ذلك، فإن السيد كريم يتحمل مسؤولية كبرى في عقد مؤتمر وادي الصومام الذي يصفه السيد أحمد بن بلة بالمنعطف الخطير في طريق انحراف الثورة. ومهما يكن الأمر، وأمام عدم ظهور أغلبية حقيقية لصالح واحد من الاقتراحيين فإن أطرافاً كثيرة قد حاولت تقريب وجهات النظر وكان من الممكن أن يتفق الجميع على مكتب سياسي مكون من أحد عشر عضواً ويكون متضمناً لكل الأسماء الواردة في القائمتين. لكن ذلك لم يحدث بسبب تعنت السيد أحمد بن بلة الذي رفض عضوية الباءات الثلاث. ويقول السيد ابن يوسف بن خدة أنه خشي على الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، المسؤولة مباشرة على توقيع اتفاقيات إيفيان، وخشي أيضاً، أن يقود استمرار الخلاف إلى تفجير الأوضاع، فتحمل مسؤولية كاملة وغادر طرابلس إلى تونس في اليوم السابع من شهر جوان مرفوقاً بالسيد محمد بوضياف وآخرين (¬1). هكذا، فإن المجلس الوطني للثورة الجزائرية لم يختتم أشغاله رسمياً ولم ينتخب أية هيئة سياسية عليا أو دنيا كما أنه لم يجدد ثقته للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، معنى ذلك أن الأزمة ازدادت حدة وأن الأمل في تسويتها بالطرق السلمية لم يعد وارداً، وراح كل طرف يبحث عن أنصار أقوياء يستعين بهم للاستيلاء على السلطة، ومعلوم أن الأنصار الأقوياء موجودين فقط على رأس القوات المسلحة. أما أحمد بن بلة، فإنه ضمن، تأييد قيادة الأركان العامة والولايتين الأولى والسادسة ثم راح يجمع، حوله، الإطارات السياسية التي تريد تصفية حساباتها مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية أو مع الباءات الثلاث. وأما ابن يوسف بن خدة، فإنه استمال الولايات الرابعة والخامسة والثانية والثالثة بالإضافة إلى منطقة العاصمة وفيدرالية جبهة التحرير الوطني في أوربا ثم أعلن، باسم الحكومة، عن حل قيادة الأركان العامة وراح يبحث في الحدود الشرقية والغربية عن بديل لها (¬2). وفي نفس هذا الإطار، ومخالفة للاتفاق المبرم مع فرنسا، دخل السيدان محمد بوضياف وبلقاسم كريم إلى الجزائر خفية في اليوم التاسع من شهر ¬

_ (¬1) ابن خدة (ابن يوسف) اتفاقيات إيفيان، ص21. (¬2) حربي (محمد) جبهة التحرير الوطني، ص288.

جوان (¬1). لقد كان دخولهما بالاتفاق مع رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية من أجل حمل الولايات على تنسيق حركتها وتكوين هيئة موحدة لمواجهة قيادة الأركان العامة التي رفضت الامتثال لقرار حلها وشرعت في الإعداد لإدخال جيش التحرير الوطني إلى أرض الوطن. وكما كان منتظراً انعقد في زموره بالولاية الثالثة، اجتماع دام يومي الرابع والعشرين والخامس والعشرين من نفس الشهر وشارك فيه ممثلون عن الولايات الثانية والثالثة والرابعة وعن منطقة العاصمة وفيدرالية فرنسا. وبعد التداول حول مجمل القضايا المطروحة على الساحة الوطنية، لاحظ المجتمعون أن الحكومة فقدت هيبتها ولجنة التنسيق تسند إليها مهمة وضع قوائم المرشحين للمجلس التأسيسي، وضبط الشروط الموضعية اللازمة لعقد المؤتمر الوطني، وتنظيم عملية إدماج وحدات جيش التحرير الوطني المرابطة على الحدود في ولايتها الأصلية وتوفير الوسائل الضرورية لإدخال الأسلحة والذخيرة المخزونة في الخارج (¬2). ولقد كان من الممكن أن تؤدي هذه اللجنة التنسيقية دوراً بالغ الأهمية في تغيير موازين القوة لو أنشأت قبل إطلاق النار، وحظيت بمشاركة باقي الولايات. لكن ظهورها عشية الاستفتاء أضفى عليها طابع المحاولة اليائسة لسد الطريق في وجه قيادة الأركان العامة التي لم تكن بحاجة إلى أراضي كل الولايات لإدخال الجيوش المرابطة على الحدود. فالولايات التي لم تستجب لنائبي رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية هي التي كانت تتحكم في جميع البوابات الحدودية المعينة لتحقيق العودة إلى البلاد. فالحدود الغربية كلها تقع في أراضي الولاية الخامسة بينما تمتد معظم الحدود الشرقية على أراضي الولاية الأولى والقاعدة الشرقية أما اللجنة التنسيقية التي أدانت أعضاء قيادة الأركان العامة قد طلبت من الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية أن تبقى موحدة وأن تستمر في التحضير لما بعد الثاني من شهر جويليه سنة اثنتين وستين وتسعمائة وألف، كما أنها شرعت في تنظيم الحملات الدعائية ضد مناورات السيد بن بلة وجماعته، لكن مجرد الكلام لم يعد يجدي نفعاً بل لابد للتخطيط النظري أن يكون مدعوماً بالقوة العسكرية وهو ماكان ينقص الحكومة المؤقتة. أما السيد أحمد بن بلة الذي تأكد من أن الوضع العسكري كان لصالحه وأن قيادة الأركان العامة تتحكم في الميدان كما ينبغي، فإنه تفرغ للتعبئة السياسية ¬

_ (¬1) Fares (Abderrahmune) la Cruelle veise, L'Agerie 1954 a l,inaependance plon, paris 1982 p.126 (¬2) Ben Khedda (Ben Youcef) Historique FLN, Alger, 1964. P.197.

واستطاع في ظرف قصير جداً أن يجمع حوله عدداً كبيراً من المسؤولين الممثلين فعلاً، لتوجيهات مختلفة لكنهم موحدون من أجل إسقاط الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، وتجاوز المجلس الوطني للثورة الجزائرية. ومن بين المسؤولين البارزين الذين أضفوا على حركة ابن بلة طابع الشمولية والشرعية والوحدة تجدر الإشارة إلى السيد فرحات عباس الذي كان محاطاً بالإطارات القيادية في الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري (¬1). ولو كان الأمر يتعلق بصراع أيديولوجي لتموين عباس في الجانب الآخر الذي يعود إلى احترام اتفاقيات إيفيان التي خططت للنظر الليبرالي في الجزائر. وهناك أيضاً مجموعة من الإطارات الذين شاركوا في اجتماع الاثنين والعشرين والذين تم اعتقالهم في فترات متفاوتة وأَهملوا مدة حبسهم من طرف القيادة العليا ممثلة في شخص الباءات الثلاث (¬2). وإذا كان السيد بن خدة قد طار إلى تونس حيث استأنف مهامه كرئيس للحكومة المؤقتة المسؤولة تجاه فرنسا عن تطبيق اتفاقيات إيفيان، فإن السيد أحمد بن بلة قد توجه إلى القاهرة معلناً عن شق عصى الطاعة مدعياً فيما بعد، أن الحكومة المؤقتة التي كان هو أحد نواب رئيسها قد حلت بمجرد انعقاد المجلس الوطني للثورة الجزائرية، لكن ذلك غير صحيح، لأن المجلس رفض بالإجماع استقالة الحكومة ولم يعين أخرى بديلة لها. وحينما ألح السيد ابن خدة على تقديم استقالته، فإن السيد ابن بلة قد قاد حملة واسعة النطاق من أجل إرغامه على سحبها (¬3). ويبدو أنه إنما فعل ذلك، فقط، ليسد طريق الرئاسة في وجه السيد بلقاسم كريم الذي كان يسعى جاهداً للحصول عليها. فذهاب ابن بلة إلى القاهرة بدون استشارة أحد كان، إذن، دليلاً على بدء الصراع العلني. وقد كان من المفروض أن يلتحق بتونس من أجل اجتماع توضيحي ومن أجل لم شمل الحكومة وإجراء التحليلات اللازمة بحثاً عن عدم قدرته على الارتقاء إلى مستوى عظمة الحركة الجهادية في الجزائر. وبينما كانت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية تواصل نشاطها كسلطة تنفيذية عليا لجبهة التحرير الوطني، كان ابن بلة في القاهرة يدعو إلى عدم الاعتراف بقراراتها ويندد بسلوكات أعضائها الذين هم في الواقع زملاؤه في ¬

_ (¬1) خاصة منهم أحمد فرانسيس وأحمد بومنجل بالإضافة إلى السيد قائد أحمد. (¬2) من بين هؤلاء الإطارات تجدر الإشارة إلى: الزبير بوعجاج، أحمد بوشعيب، محمد مرزوقي، وعثمان بلوزاداد. (¬3) النصوص الأساسية لجبهة التحرير الوطني، ص49.

النضال ولهم فضل البقاء خارج المعتقلات لضمان مواصلة الكفاح المسلح. ولقد كانت الثورة الجزائرية تستفيد أكثر لو أن أعضاء الحكومة كلهم اجتمعوا في تونس برنامج طرابلس على ضوء وثيقة وادي الصومام ومن أجل الاستعداد ميدانياً لما بعد الإعلان عن استرجاع السيادة الوطنية ولمواجهة آثار التخريب الذي قامت به منظمة الجيش السري (¬1). وبفضل وساطات متعددة قامت بها جهات مختلفة وخاصة منها الحكومة المصرية وفي مقدمتها الرئيس جمال عبد الناصر رجع ابن بلة إلى تونس وعقدت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية اجتماعاً مطولاً في اليوم السادس والعشرين من شهر جوان. لكن الأمور ازدادت تعقيداً عندما حضر الاجتماع المذكور ممثلون عن اللجنة التنسيقية للولايات (¬2)، ومعهم اقتراح بفصل رئيس وأعضاء قيادة الأركان العامة. يقول السيد محمد حربي: (إن الاقتراح كان من وحي السيدين كريم بلقاسم ومحمد بوضياف) (¬3) لكنه لايقدم أي دليل على ذلك. وقد اعتبره السيد أحمد بن بلة إجراءاً استفزازياً ورفض حتى مجرد مناقشته ثم غادر قاعة الاجتماع. أما السيدان آيت أحمد وبوضياف فإنهما وجدا فيه حلاً صائباً للأزمة القائمة بين الحكومة وقيادة الأركان العامة في حين أبدى السيد محمد خيضر معارضة شديدة له، وعلى سبيل الاحتجاج قدم استقالته التي كانت إيذاناً بانتهاء الحكومة وإعلاناً عن وقوفه رسمياً إلى جانب ابن بلة وقيادة الأركان العامة. لم تكن لهذا الصراع أسس أيديولوجية، ولم يكن من أجل الدفاع عن مصالح الثورة، ولذلك فإن المساعي باءت بالفشل، واليوم، وبعد أكثر من ثلاثين سنة من وقوع الحادث نستطيع الجزم بأنه، في لحظة من اللاوعي واللاشعور، تمكن من القضاء على مكتسبات وطنية تطلب تحقيقها كثير من التضحية، وفي مقدمة تلك المكتسبات وجود وحدة الشعب الجزائري التي لم يجبر كسرها بعد ذلك الحين. ومن جهة ثانية أن الصراع على السلطة قد أهمل الجانب الأيديولوجي وحرم الجماهير الشعبية الواسعة من المشاركة الفعلية في مناقشة مشروع المجتمع المزمع تجسيده على أرض الواقع. إن المعتقلين التاريخيين الأربعة (¬4) يتحملون أكبر قسط من المسؤولية فيما ¬

_ (¬1) ابن طوبال (لخضر) الحديث المذكور سابقاً. (¬2) هؤلاء الممثلون هم الدكتور سعيد حرموش، الرائد رابح زراري والرائد عبد المجيد كحل الرأس. (¬3) حربي، ج ت والسراب والواقع، ص352. (¬4) لأن الخامس وهو السيد رابح بيطاط كان معتقلاً في الجزائر ولم ينضم إليهم إلا في الأشهر الأخيرة.

وقع من مشاكل زائفة أفرغت الثورة من محتواها الحقيقي وفتحت أبواب القيادة واسعة للخونة والانتهازيين على اختلاف أنواعهم. وأول مايعاب على أولئك التاريخيين عجزهم عن التفاهم فيما بينهم وهم في سجن واحد وأمام عدو واحد ومصير واحد ورغم تشبعهم بأيديولوجية واحدة. أما عيبهم الثاني فيتمثل في عدم قدرتهم على توظيف فترة اعتقالهم التي بلغت خمسة وستين شهراً لوضع مشروع مجتمع متكامل وبرنامج عمل شامل قصد مواجهة الفترة الموالية لوقف إطلاق النار واسترجاع الاستقلال الوطني، وإذ لم يفعلوا كل ذلك فإنه كان عليهم أن يتعففوا ويتركوا مسؤولية القيادة لمن برهنوا على أنهم أهل لها. وعلى إثر انفضاض اجتماع الحكومة المؤقتة بالطريقة المشار إليها أعلاه، توجه السيد محمد خيضر في اليوم السابع والعشرين من شهر جوان إلى الرباط، وفي اليوم الموالي طار ابن بلة إلى القاهرة التي لن يغادرها إلا ليلتحق بصاحبه في اليوم التاسع من شهر جويلية. أما الحكومة المؤقتة فإنها دخلت إلى العاصمة يوم الإعلان عن استرجاع الاستقلال الوطني وهي مبتورة الأعضاء بفعل تمرد بعضهم واستقالة بعضهم الآخر (¬1). وبعد ذلك التاريخ بأسبوع، شرع السيد أحمد بن بلة في تنفيذ انقلابه الذي كلف الجزائر آلاف القتلى والجرحى بالإضافة إلى تهميش مئات الإطارات ممن دللوا، في الميدان وفي وقت الشدة، على تحليهم بالكفاءة والنزاهة والالتزام. وكانت أول محطة هي تلمسان التي بدأت تستقبل أنصاره منذ اليوم الحادي عشر من شهر جويلية والتي وقع عليها الاختيار لكونها الولاية التي بها مسقط رأسه (¬2) ولأن واليها السيد أحمد مدغري الذي يعتبر من العناصر الأكثر وفاء للعقيد هواري بومدين. وفي اليوم السابع عشر من نفس الشهر اجتمع بقادة الولايات في مدينة الشلف الحالية وطلب منهم تزكية المكتب السياسي الذي اقترحه على المجلس الوطني ولم يحصل إلا على واحد وثلاثين صوتاً من جملة ستة وستين. ومن الجدير بالذكر أن الولاية الثالثة أعطت موافقتها شريطة استبدال السيد محمدي سعيد بالسيد بلقاسم كريم (¬3). وبينما اقترحت الولاية الرابعة تكوين المكتب السياسي مؤقتاً من قادة الولايات وتكليفها فقط بتحضير المؤتمر الوطني ¬

_ (¬1) فارس (عبد الرحمن)، ص135. (¬2) السيد أحمد بن بلة من مواليد مدينة مغنية الواقعة في ولاية تلمسان على الحدود الجزائرية المغربية. (¬3) حربي (محمد) جبهة التحرير الوطني، ص359.

مواجهة الأوضاع الموروثة عن الاستعمار

الذي ينتخب المؤسسات والهيئات الوطنية القارة، فإن الولايات الأولى والخامسة والسادسة قد طلبت مهلة للتشاور مع مجالسها. لكن ابن بلة الذي استجاب لرغبتهم لم ينتظر عودتهم إلى تلمسان وفاجأ الجميع في اليوم الثاني والعشرين من الشهر ذاته بالإعلان عن تأسيس المكتب السياسي مشكل من سبعة أعضاء هم: أحمد بن بلة، محمد خيضر، رابح بيطاط، حسين آيت أحمد، محمد بوضياف، محمدي السعيد والحاج بن عله. ورغم المفاجأة والإعلان الأحادي، فإن موقف الحكومة المؤقتة والولايات كان متزناً إلى أبعد الحدود إذ لم يشترط سوى استدعاء المجلس الوطني للثورة الجزائرية وإنهاء حالة الحصار المفروضة على قسنطينة. لكن ابن بلة كان يعرف عواقب ذلك الشرط، وعليه فإنه أمر باحتلال قسنطينة بواسطة جيش الحدود وقرر أن المكتب السياسي هو البديل للمجلس الوطني للثورة الجزائرية (¬1). وفي اليوم الموالي وهو اليوم السادس والعشرون من شهر جويلية أعلن السيدان محمد بوضياف وبلقاسم كريم عن معارضتهما، وشكلا، في تيزي أوزور، اللجنة الوطنية للدفاع عن الثورة محددين لها مهمة التحضير للمؤتمر وللانتخابات التشريعية. وترتب عن الإعلان المذكور دخول الطرفين في مفاوضات تخللتها أحداث كثيرة وقادت في النهاية إلى إبرام اتفاق بين المعنيين في اليوم الثاني من شهر أوت. وبمقتضى ذلك الاتفاق تراجع السيد بوضياف عن استقالته من المكتب السياسي الذي كلف، دون غيره، بإعداد قوائم الانتخابات وبتولي المهام التي كانت مسندة إلى الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. وفي اليوم العشرين من شهر سبتمبر توجه الشعب الجزائري إلى صناديق الاقتراع وزكى القوائم المقدمة له والمكون لأول مجلس تأسيسي ترأسه السيد فرحات عباس، وانبثقت عنه أول حكومة برئاسة السيد أحمد بن بلة. مواجهة الأوضاع الموروثة عن الاستعمار: إن مائة واثنتين وثلاثين سنة من الاستعمار الاستيطاني لاتمحي آثارها بكل سهولة ولا تمحي آثارها السلبية سوى ثورة مستمرة لاتتوقف حتى بعد وقف إطلاق النار لأن الأمر لم يكن يتعلق بتحرير الأرض ولكنه كان يعني الإنسان ¬

_ (¬1) بوبنيدر (صالح صوت العرب) مقابلة أجريتها معه في بيته يوم 21/ 05/1985.

فوق كل شيء. فتحرير الإنسان أكثر أهمية ويتطلب مجهوداً ونفساً أطول. فالاستعمار الفرنسي، كما أشرنا إلى ذلك في الفصل الأول من الباب الأول، قد ركز، منذ العشرينات من هذا القرن خاصة، على تكوين إنسان متشبع بالثقافة الغربية ومجرد من كل عناصر الشخصية الوطنية. وتضاعف ذلك التركيز بعد أن وضعت الحرب الامبريالية الثانية أوزارها، وكذلك أثناء فترة الكفاح المسلح ليصل إلى أوج مايمكن أن يصل إليه عند وقف إطلاق النار. وصحب هذه العملية توسيع شبكة تعليم اللغة الفرنسية وتمكين متعلميها من التمتع بكثير من الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية. ولا يخفى على أحد أن اللغة ليست مجرد ناقل محايد أو وسيلة تبليغ لاغير، لكنها وعاء حضاري وأيديولوجي من الطراز الأول. وعندما أعلن المجلس الوطني التأسيسي عن ميلاد الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية في اليوم الخامس والعشرين من شهر سبتمبر سنة اثنين وستين وتسعمائة وألف كان الوضع في الجزائر يتميز بخاصيات من أهمها ما يلي: 1 - نسبة مرتفعة من الأمية قدرت بأكثر من 80% (¬1). أما الخمس الباقي فجله من انصاف المتعلمين الذين صنعهم الاستعمار على عجل ليكونوا امتداده الطبيعي الذي يعتمد عليه في مواصلة عملية المسخ والتشويه والتنزيف. 2 - إسلام مشوه غلبت عليه الخرافة والدروشة (¬2) ولم يبق منه سوى جانب العبادات الذي تعرض بدوره إلى كثير من التحريف بحيث لم تعد الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر، ولا شهادة تسمح بتوحيد الإله ولا الصوم قادر على أداء وظيفته الاجتماعية. أما الحج فحدث ولاحرج، وأقل مايقال عنه أنه أصبح وسيلة تجارية وسياحية في أحسن الحالات. 3 - تقاليد وعادات ونمط وسلوكات يومية لاعلاقة لها بشخصيتنا الوطنية. 4 - لغة وطنية مهملة، ممقوتة ومطاردة على الرغم من حيويتها وقدرتها على التكيف وتمكنها من استيعاب العلوم بأنواعها والتقنيات المختلفة. 5 - علاقات اجتماعية مهلهلة أساسها الخوف والنفاق والمراوغة والمداهنة. ¬

_ (¬1) الزبيري (محمد العربي) الغزو الثقافي في الجزائر من سنة 1962 إلى سنة 1982، الطبعة الأولى المؤسسة الجزائرية للطباعة، الجزائر 1983، ص21. (¬2) الإبراهيمي (محمد البشير) عيون البصائر، ص128، وما بعدها.

6 - إدارة معظم إطاراتها فطموا على لبان الاستعمار الجديد الذي بدأ يستعد للمرحلة التالية من السيطرة، وتعلموا أن فنون التسيير التي قد تأتي من غير الوطن الأم لايمكن أن تكون في المستوى الحضاري الذي استولى على عقليتهم. أما الموظفون البسطاء والعمال، فإن سذاجتهم وانخفاض مستواهم التعليمي الذي لايتجاوز الأمية المركبة في غالب الأحيان قد يعتقدون أن الاستقلال عن فرنسا العظمى لايمكن أن يكون مصحوباً إلا بكافة أنواع التخلف والهمجية. وأما الإدارة التي كونتها جبهة التحرير الوطني خلال فترة الكفاح واستطاعت أن تقدم الدليل على نجاعتها في الميدان، فإنها استبعدت وفقاً لما نصت عليه اتفاقيات إيفيان. 7 - اقتصاد تابع للاقتصاد في فرنسا. مساحات شاسعة من الأراضي الخصبة التي كانت قبل الاحتلال، تنتج أجود أنواع الأرز وكميات هائلة من الحبوب التي كانت تصدر لبلدان كثيرة مثل أوروبا وأفريقيا والوطن العربي، وتحولت إلى مغارس كروم تعطي الخمور الممتازة التي يخصص جزء كبير منها لتحسين الخمور الفرنسية أو لتزويد السوق العالمية. وكانت الصناعة التقليدية فقط فروعاً مكملة لبعض المصانع المتناثرة في مختلف أنحاء فرنسا (¬1) لم تكن في الجزائر، غداة استرجاع السيادة الوطنية، هياكل اقتصادية ثابتة (¬2) ولم تكن فيها نواة صالحة للتنمية الدائمة التي تأخذ في الاعتبار تطور الزمان وتطور السكان. وزيادة على ذلك، فإن الامكانيات القليلة -وهي بالمقارنة مع حاجيات الكولون- قد تعرضت لتخريب مهول بسبب الغلاة عندما اقترب أجل الاستعمار. 8 - تصاعد ديمغرافي مخيف زاد من حدته، عشية استرجاع السيادة الوطنية، رجوع حوالي مليون من الجزائريين الذين لجأوا إلى تونس والمغرب الأقصى أثناء فترة الكفاح المسلح، وكذلك تسريح حوالي مليونين من المواطنين الذين كانوا يقيمون بالمعسكرات والمحتشدات (¬3). 9 - انتشار البطالة الناتجة عن قلة التنظيم والإهمال الاقتصادي الذي فرض ¬

_ (¬1) حزب جبهة التحرير الوطني، المسيرة، من مطبوعات قسم النشر والتوثيق، المؤسسة الجزائرية للطباعة، الجزائر 1980، ص113، وما بعدها. (¬2) Abbas (Ferhat) I'inedpendanc confisque Flammarion, Paris 1948? P.117 et suivantes. (¬3) المنظمة الوطنية للمجاهدين، المؤتمر الأول لكتابة التاريخ، ج2 ص175.

على الجزائريين بسبب الخوف وعمليات التخريب. 10 - تزايد أعداد المغتربين في أوربا وفرنسا على وجه الخصوص. ولقد ازداد هذا المشكل خطورة عندما بدأت الأسر الجزائرية، لأسباب مختلفة ترحل للإقامة هناك (¬1). هذا الوضع عشية استرجاع الاستقلال الوطني وغداته مباشرة هو الذي كان على أول حكومة جزائرية أتت تواجهه. وكان نجاح تلك المواجهة مرهوناً بمدى قدرة الرئيس الجديد على جمع كل الطاقات الحية في البلاد وعدم الانسياق للأحقاد الدفينة التي ظلت تتراكم منذ انعقاد مؤتمر وادي الصومام، وكان النجاح، أيضاً، يتوقف على مراجعة برنامج طرابلس بحيث يظهر من تشكل مواطن اختلاف من شأنها إضعاف المد الثوري وتعريضه للإنقسام والتصادم بين المعركة الوحيدة. المفاهيم والمصطلحات التي لا علاقة لها بالواقع الجزائري إن المكتب السياسي الذي استولى على مهام الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بالطريقة التي أشرنا إليها أعلاه، لم يعرف كيف يحافظ على الوحدة الوطنية، بل إنه عندما وضع قوائم الانتخابات التشريعية التي جرت في اليوم العشرين من شهر سبتمبر قد ألغى كل من اشتم فيهم رائحة المعارضة لما يسمى بمجموعة تلمسان (¬2). وبذلك أعطى الإشارة لبدء الصراع بجميع أنواعه في الوقت الذي كانت الثورة في أحوج ماتكون إلى تضافر الجهود وتوحيد الصفوف. وبالإضافة إلى كثير من القياديين الذين كانوا مازالوا قادرين على العطاء في مجالات التعبئة والتوجيه نظراً لما كانت لهم من سلطة أدبية في أوساط المناضلين والإطارات، فإن الحكومة الجديدة قد جاءت في تشكيلتها البشرية عبارة عن خليط من تيارات سياسية يستحيل توحيدها ولايمكن أن ينتظر منها تطبيق برنامج طرابلس الذي كان يتناقض تماماً مع المشارب الأيديولوجية لمعظم أعضائها. وإذا استثنينا الرئيس أحمد بن بلة، ووزير العمل السيد بومعزة، فإن حركة الانتصار للحريات الديمقراطية التي هي مصدر الثورة لم تكن ممثلة في تلك الحكومة بينما أعطيت للاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري أربع وزارات ¬

_ (¬1) الزبيري (محمد العربي) "أوضاع المغتربين الجزائريين" أشغال ملتقى الفكر الإسلامي المنعقد بيتيزي وزو سنة 1973، وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية، الجزائر 1973 ج3، ص175. (¬2) عباس (فرحات) الاستقلال، المصادر، ص86.

ووزارة واحدة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين ووزعت باقي الحقائب على إطارات شابة لم يسبق لها أن تشبعت بواحدة من الأيديولوجيات الوطنية (¬1). لهذه الأسباب مجتمعة، فإن برنامج طرابلس قد وضع على الرف وراحت الحكومة تطبق سياسة ارتجالية تخضع في مجملها إلى تطور الأحداث وإلى تأثير المحيط وفي كثير من الأحيان إلى مزاج الرجل الأول في الدولة الذي لم يكن هو الأمين العام لجبهة التحرير الوطني ولكن فقط رئيس الحكومة أحمد بن بلة. إن برنامج طرابلس ينص بصريح العبارة أن جبهة التحرير الوطني ستظل هي مصدر السلطة الوحيد في البلاد لأنها كلفت من طرف المجلس الوطني للثورة الجزائرية بمواصلة مهمتها التاريخية (¬2). لكن المكتب الذي تشكل في تلمسان لم يكن شرعياً، بل أتفقت جميع الأطراف على أن يكون هيئة سياسية وتنفيذية تقوم مقام الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في توفير الشروط الموضوعية اللازمة لإجراء الانتخابات التشريعية وتحضير المؤتمر الوطني، وفي أثناء توزيع المهام أسندت الأمانة العامة لجبهة التحرير الوطني إلى السيد محمد خيضر في حين تكفل السيد محمد بوضياف بالعلاقة الخارجية والعقيد محمدي السعيد (¬3) بالتربية الوطنية والحاج بن علة بالجيش الوطني الشعبي ورابح بيطاط برئاسة الحزب وأحمد بن بلة بمراقبة الهيئة التنفيذية المؤقتة. أما السيد حسن آيت أحمد، فإنه رفض الالتحاق بالمكتب السياسي. وعلى الرغم من صعوبة العمل في هذه الظروف، فإنه تم تنصيب اتحادية لجبهة التحرير الوطني في كل واحدة من عمالات الوطن (¬4) كما تم تنصيب جميع الدوائر والقسمات في ظروف قصيرة جداً ودون أن يقع الحسم فيما يتعلق بالأولوية والسلطة هل تكونان للهيئات السياسية أم للهيئات التنفيذية، ولقد قاد الخلاف حول هذه المسألة إلى استقالة الأمين العام في شهر ماي سنة ثلاث وستين وتسعمائة وألف (¬5). إن رئيس الحكومة لم يكن يجهل أهمية التنظيم السياسي بل إنه كان يدرك ¬

_ (¬1) نفس المصدر، انظر قائمة أعضاء الحكومة في الصفحة 87. (¬2) النصوص، الأساسية لجبهة التحرير الوطني (1954 - 1962)، ص53. (¬3) حديث أجريته يوم 04/ 07/1984 مع العقيد محمدي السعيد في بيته بالقبة. (¬4) العمالة هي الترجمة العربية لكلمة D'epartement وقد أصبحت فيما بعد استرجاع الاستقلال تسمى الولاية. (¬5) خيضر (محمد) الحديث المشار إليه سابقاً.

جيداً أن إقامة الدولة لن يكون متأنياً إلا بوجود حزب قوي بمناضليه المهيكلين والمتواجدين على رأس جميع المناصب الحساسة، وإيمانه بهذه الضرورة هو الذي جعله يقول ذات يوم لوزير الدفاع العقيد هواري بومدين: إنك لن تكون كل شيء بفضل الحزب، ولن تكون شيئاً بدونه (¬1). لكن هذه الأداة التي يتوقف عليها مصير الحكم لايجب أن تكون بأيادي أخرى وعليه، فإن الرئيس بن بلة لم يتردد في صنع الظروف التي أدت، بالتدريج، إلى استقالة رئيس جبهة التحرير الوطني وأمينها العام وفي نفس الوقت أسندت مسؤولية المنظمات الوطنية إلى السيد الحاج بن عله الذي تم تعيينه وزيراً للدولة حتى يسهل ابتلاعه. إن الرغبة في جمع كل السلطات قد حجبت عن الرئيس أحمد بن بلة مخاطر ماكان يقوم به. لقد أدت قراراته الارتجالية إلى إبقاء المكتب السياسي محصوراً في شخصيتين اثنتين (¬2) لم يسبق لهما أن مارسا مسؤوليات سياسية ودفعت برفاق النضال والمعتقل إلى المعارضة التي سوف تتخذ أشكالاً متعددة، كما أنها همشت نظام الولايات الذي برهن على فعاليته أثناء المعركة (¬3) وجعلت من الإدارة منافساً قوياً رغم أن معظم إطاراتها كانوا من نتاج الترقيات الاستعمارية المختلفة وبالتالي فهم أقرب إلى مصالح الاستعمار منهم إلى المصلحة الوطنية. ففي مثل هذا الجو المكهرب شرع في تجنيد القواعد النضالية لمناقشة مشروع الدستور الذي أعدته الحكومة والذي يعطي لرئيس الجمهورية جميع السلطات بما في ذلك القيادة العليا للجيش. وكانت أربعة أيام كافية للاثراء ولإجراء جميع التعديلات ثم صادقت الإطارات السياسية على المشروع وقدم للتزكية إلى المجلس الوطني مما أثار سخط مجموعة من النواب وقاد إلى استقالة الرئيس فرحات عباس في مستهل شهر أوت (¬4). وبعد أسبوع من الاستفتاء الذي جرى في اليوم الثامن من شهر سبتمبر، استدعى المواطنون من جديد لانتخاب المرشح الوحيد لرئاسة الجمهورية. هكذا، إذن، استطاع السيد أحمد بن بلة، في ظرف عام واحد، أن يقضي ¬

_ (¬1) فرانكوس (أنيا) وسيريني (جب) جزائري يسمى بومدين، باريس 1976، ص154. (¬2).هما العقيد محمدي العيد والسيد الحاج بن علة. (¬3) انظر الباب الثاني وخاصة منه الفصل الثاني (¬4) الاستقلال المصارد ص62 لقد نشر السيد فرحات عباس ابتداء من هذه الصفحة نص الرسالة التي ضمنها أسباب استقالته من رئاسة المجلس الوطني التأسيسي، وهي مؤرخة بيوم 12 آوت 1963.

على كل خصومه وأن ينفرد للحكم، لكنه في نفس الوقت أحدث حوله فراغاً سياسياً وأيديولوجياً مهولاً وشتت الطاقات الحية في البلاد وأرغمها على اللجوء إلى تشكيل معارضات سياسية وأخرى مسلحة، وبذلك يكون قد تسبب من حيث لايدري في إيقاف قطار الثورة وأرسى قواعد الفوضى والاضطراب في الجزائر وفتح فيها الأبواب للانقلابات تتواصل متشابهة إلى أن وقع إجهاض الثورة في اليوم الخامس من شهر أكتوبر سنة ثمان وثمانين وتسعمائة وألف. وكان الحزب الشيوعي الجزائري هو المستفيد الوحيد من كل هذه الأوضاع إذ تمكن، رغم عدم الانصهار في الثورة طيلة فترة الكفاح المسلح ورغم معارضته الشديدة لمنطلقاتها الأيديولوجية، أن يظل محتفظاً بوجوده طبقاً لتوجيهات لينين (¬1). وأن يعود للنشاط العلني كقوة دافعة تقف إلى جانب الرئيس أحمد بن بلة. وحتى عندما منع في اليوم التاسع والعشرين من شهر نوفمبر سنة ثلاث وستين وتسعمائة وألف عن الظهور ولم تتعرض إطاراته لأية ملاحقة أو مكروه، وهو الأمر الذي جعل أمينه العام السيد العربي بوهالي يصرح بأنه لايوجد أي نص رسمي فيما يتعلق بحله أو بمنعه من مواصلة تحركاته السياسية. لقد كان الحزب الشيوعي الجزائري يدفع إلى التعفن في الجزائر كما صرح بذلك السيد آيت أحمد عندما لاحظ في شهر أكتوبر (¬2) أن مواقفه من المعارضة مزدوجة وغير واضحة، وبالفعل، فإنه كان يعلن عن مساندته لجبهة التحرير الوطني وفي نفس الوقت يَعِدْ، سراً، بالوقوف إلى جانب القوات المعارضة لها والعاملة على تغيير نظام الحكم. وكانت أهم القوات المعارضة وأخطرها متجمعة حول اثنين ويدعو إلى إقامة نظام ديمقراطي وثوري في الجزائر، وكلاهما، أيضاً، عين لعضوية المكتب السياسي. أما الرفيق الأول فهو السيد محمد بوضياف الذي كان من المفروض أن يشرف على العلاقات الخارجية ضمن تشكيلة المكتب السياسي لكنه لم يلبث أن قدم استقالته وأعلن غداة انتخاب المجلس التأسيسي عن ميلاد حزب الثورة الاشتراكية معللاً إقدامه على ذلك بانتشار الفوضى وانعدام الأمن وإفلاس جبهة التحرير الوطني التي لايمكن أن تكون حزباً ثورياً بسبب تركيبتها البشرية ¬

_ (¬1) بوي (فرانسوا) الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، باريس 1965، ص47. (¬2) نفس المصدر، ص54.

ونتيجة تحالفها مع الرأسمالية العالمية (¬1). لقد ذكر مؤسسوا حزب يناضل من أجل القضاء على استغلال الإنسان ابن بلة مجانب للديمقراطية والشعبية والاشتراكية في آن واحد، ودعا إلى التنكر لاتفاقيات إيفيان باعتبارها مجهضة للثورة الجزائرية. وقد قابل رئيس الحكومة نشر هذا المشروع باعتقال السيد محمد بوضياف في اليوم السادس من شهر جوان 1963 ومعه مجموعة من الإطارات السياسية. وأما الرفيق الثاني فهو السيد آيت أحمد الذي رفض عضوية المكتب السياسي من البداية لكنه قبل المشاركة في أعمال المجلس التأسيسي، وفي إطار هذا الأخير أعرب عن استنكاره للاعتقال المذكور أعلاه وقرر الانسحاب إلى عين الحمام (¬2) مسقط رأسه استعداداً للمرحلة المقبلة التي استهلها في اليوم التاسع والعشرين من شهر أوت سنة 1963 بالإعلان عن ميلاد جبهة القوى الاشتراكية التي قررت حمل السلاح لإسقاط النظام القائم وبذلك اندلعت حرب أهلية فيما يسمى بمنطقة القبائل، ولم تتوقف إلا بعد إلقاء القبض على آيت أحمد في اليوم الثامن عشر من شهر أكتوبر. وعلى عكس هاتين التشكيلتين السياسيتين، فإن الحزب الشيوعي الجزائري قد أعلن عن وقوفه إلى جانب الحكومة لكنه ظل متمسكاً بآرائه واستقلاليته ومن الغريب في الأمر أن كل من هذه الأطراف الأربعة يدعي لنفسه الثورية هذه التشكيلات لم تكن سوى منابر مستعملة لأغراض شخصية وبقصد الوصول إلى الحكم أو المحافظة عليه. ولو لم تكن كذلك لاستطاعت أن تجد أرضية للتفاهم فيما بينها من أجل إقامة جبهة وطنية تتضافر جهودها لتجسيد ما يمكن من تحسين برنامج طرابلس على أرض الواقع في انتظار المؤتمر الوطني الذي من حقه التعديل والتغيير. ولأن الصراع لم يكن سياسياً ولا أيديولوجياً، فإن الشعب ظل ينظر إليه من بعيد، ووظفت الحكومة قوات الجيش الوطني الشعبي، فظهرت جبال القبائل من مراكز التمرد وقررت منع جميع الأحزاب من النشاط، معتمدة على قرارات طرابلس الأخيرة ولكون "الاشتراكية التي تعني انصهار جميع الفئات الاجتماعية في واحدة، تتطلب الحزب الواحد كأداة، وإذا كان هناك معارضون فيكون عليهم ¬

_ (¬1) Boudefa (Mohamed) Ou val'Algerie? Librairie de I etoile, Paris 1964. P172. (¬2) مدينة صغيرة تقع على قمة جبل جرجرة على بعد 40 من مدينة تيزي وزو بدورها إلى بعدها 30 كلم شمال شرقي العاصمة.

الانزلاق نحو الحكم الفردي

أن يتحركوا في إطار ذلك الحزب، والمطالبة بالتعددية الحزبية جزء من عقلية البرجوازية الليبرالية". الانزلاق نحو الحكم الفردي: إن القيادة الجماعية مبدأ في التسيير يحتل مكانة رئيسية في أيديولوجية الحركة الوطنية، ولقد أدى عدم احترامه والتهاون في تطبيقه إلى تمرد اللجنة المركزية لحركة الانتصار والحريات الديمقراطية على زعيم الحركة السيد مصالي الحاج وإلى انقسام جبهة التحرير الوطني. وإذا كانت جبهة التحرير الوطني قد أحرزت على مجموعة الانتصارات قادت بالتدريج إلى تحقيق الأهداف المسطورة في بيان أول نوفمبر، فلأن القيادة المختلفة قد وقعت في أزمة ووجدت نفسها مضطرة لأن تقدم تضحيات جساماً من أجل تجاوزها (¬1). إن الزعماء الخمسة لم يستفيدوا من هذه التجربة، ربما لبقائهم مدة طويلة في المعتقل بعيداً عن ممارسة المسؤولية على أرض الواقع وتحت تأثير الإشهار الإعلامي الغربي الذي لم يتأخر عن استعمال شتى الوسائل لتغذية روح الانقسام بينهم. وفي تلك الصائفة من سنة اثنين وستين وتسعمائة وألف، ضاعفت وسائل الإعلام المذكورة حملاتها المسمومة التي قادت شيئاً فشيئاً، إلى توسيع الهوة بين الأشقاء الذين أصبح كل واحد منهم يبحث عن أنصار يستعين بهم ضد الآخرين حتى ولو كان أولئك الأنصار من بين أعداء الأمس وطلقاء اليوم. فالتخلي عن مبدأ القيادة الجماعية هو الذي دفع ابن بلة إلى العمل من أجل الانفراد بالمكتب السياسي، وجعل محمد بوضياف يؤسس حزب الثورة الاشتراكية وآيت أحمد يتزعم واحداً من أخطر التمردات المسلحة في الجزائر، وحتم على فرحات عباس الاستقالة من رئاسة المجلس الوطني التأسيسي وأخطر من كل ذلك شتت أفضل الطاقات الحية في البلاد والمتمثلة في إطارات وجنود جيش التحرير الوطني الذين لم يغادروا ولاياتهم طيلة فترة الكفاح المسلح معبرين بذلك عن إخلاصهم للوطن وتفانيهم في الدفاع عنه. لأجل كل ذلك، فإن انتصار الحكومة برئاسة السيد بن بلة، كان في الواقع، ¬

_ (¬1) إن عودة سريعة إلى سائر الأزمات التي عرفتها جبهة التحرير الوطني خلال فترة الكفاح المسلح تدل بما لا يدع المجال للشك على أن التخلي عن مبدأ القيادة الجماعية هو الأساس في جميع الخلافات مهما كان شأنها.

هزيمة بالنسبة لجبهة التحرير الوطني وللجزائر بصفة عامة، وتتمثل هذه الهزيمة، بالإضافة إلى ماذكرنا أعلاه، في تمكين الإطارات المتشبعة بالفكر الماركسي والبعيدة كل البعد عن واقع الشعب، من اختراق الصفوف والارتقاء إلى مناصب الحل والربط في سائر قطاعات الدولة الجزائرية الفتية، ومع تمكن تلك الإطارات ظهرت قوات سياسية جديدة لاعلاقة لها بأيديولوجية الثورة وهي نفس القوات التي سوف تستولي بالتدريج على زمام السلطة في البلاد. وهناك وجه آخر للهزيمة التي منيت بها جبهة التحرير الوطني ويتمثل في فتح الأبواب واسعة للانقلابات العسكرية التي سوف تتواصل في جزائر ما بعد إجهاض الثورة. وفي الحقيقة، فإن الإطاحة بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية لايوجد له اسم آخر غير الانقلاب العسكري، لأن القيادة العليا الشرعية التي هي المجلس الوطني للثورة الجزائرية لم يسمح لها بالاجتماع للنظر في شأنها قانونياً. هكذا، إذن، فإن الحكومة المنبثقة عن المجلس الوطني التأسيسي المنتخب في اليوم العشرين من شهر سبتمبر سنة اثنين وستين وتسعمائة وألف، لايمكن أن نقول عنها أنها حكومة جبهة التحرير الوطني ولايمكن أن تحظى بتأييد المناضلين الحقيقيين الذين يرفضون الصراعات والانقسامات من أجل السلطة. ولأنها لم تكن حكومة جبهة التحرير الوطني، فإنها وضعت برنامج طرابلس على الرفوف وأدارت الظهر لنصوص الثورة الأساسية ثم راحت ترتجل البرامج المتناقضة وتقضي جل الوقت في سد الثغرات ومغازلة المشاكل العويصة التي تكمن حلولها في وحدة الصف وفي الالتزام بأيديولوجية أثبتت، على الميدان، نجاعتها وجدواها. ومن سوء حظ الجزائر أن هذه الحكومة هي التي استطاعت أن تستولي على السلطة بعد أن ألغت كل من حاول معارضة سياستها. ولم يكن الإلغاء مقصوراً على الشخصيات والتشكيلات السياسية، بل تعداها إلى المنظمات الوطنية التي صيغت، بمختلف الوسائل، من جميع العناصر التي أبدت بطريقة أو بأخرى، مناهضتها لسلوكيات ابن بلة وتصرفاته. ومن جديد، أقيمت المحتشدات في الجنوب الجزائري لاستقبال المخلصين من أبناء الشعب، وفتحت السجون أبوابها لإيواء المئات من المناضلات والمناضلين، وعادت عمليات القمع والتعذيب ضد الوطنيين بواسطة نفس الجلادين الذين كانوا يعملون في إطار الأجهزة الاستعمارية. ولم يكن ذلك

غريباً، لأن الحكومة الجزائرية أسندت مهمة تكوين ضباط شرطتها لقيادة الشرطة الفرنسية كما أنها في اليوم السادس والعشرين من شهر سبتمبر، أي مباشرة بعد تشكيلها، طلبت من الجنرال الفرنسي قائد الجندرمة أن يسرح جميع الضباط وصف الضباط الجزائريين ليشكلوا النواة الأولى لسلك الدرك الوطني في الجزائر، ثم التمست منه اتخاذ الإجراءات اللازمة لتكوين أعداد كبيرة من الدرك الجزائريين. وإذا أضفنا إلى تنظيم الشرطة وتكوين ضباطها وإنشاء سلك الدرك الوطني من أوله إلى آخره، واستقدام مجموعة من الضباط السامين في الجيش الفرنسي لاستكمال تكوين ضباط الجيش الوطني الشعبي ومباركة الرئيس أحمد بن بلة لكل ذلك، أصبح جلياً أن الجزائر قد تخلت نهائياً عن خطها الثوري الذي يدعو إلى ضرورة قطع جميع العلاقات مع المستعمر السابق (¬1)، وصارت تطبق سياسة الاستعمار الجديد التي ترمي إلى إسناد المناصب الأساسية في الدولة إلى إطارات كونتهم المدرسة الاستعمارية من أجل الحفاظ على مصلحة فرنسا. ففي هذه الأجواء المشحونة بالضغائن والأحقاد والمليئة بالتناقضات ومختلف أنواع اللامعقول، والمتميزة بالفوضى وانعدام الأمن والاستقرار، أعطت الإشارة الخضراء لتكوين اللجنة الوطنية لتحضير المؤتمر الأول لجهة التحرير الوطني، وأطلقت نفس الأيادي الماركسية تعبث من جديد بالنصوص الأساسية للثورة. ومرة أخرى تكونت لجنة صياغة مشروع المجتمع تحت إشراف أهم العناصر الماركسية التي كانت هي أساس الانحرافات الأيديولوجية الأولى. ورغم مقاومة العناصر الوطنية، صادق المؤتمر الذي أنهى أشغاله في اليوم الواحد والعشرين من شهر أبريل سنة أَربع وستين وتسعمائة وألف على ميثاق الجزائر الذي اعتبر تعميقاً لبرنامج طرابلس ومرجعاً أيديولوجياً وحيداً للثورة الجزائرية. إن المؤتمرين الذين دامت أشغالهم ستة أيام قد حللوا أوضاع البلاد التاريخية والسياسية والاقتصادية والثقافية، ثم صادقوا على عدد من المقررات: تحويل جبهة التحرير الوطني إلى حزب طلائعي في الحكم يسير وفقاً لمبدأ ¬

_ (¬1) ليس هذا رأي الدكتور بوريلا أستاذ القانون بكلية حقوق الجزائر الذي شارك يوم 24/ 01/1963 في ملتقى تصنيع شمال أفريقيا وأكد على ضرورة تعامل البلد المستقل حديثاً مع البلد المستعمر سابقاً لأنه الوحيد الذي يفهمه جيداً انظر: الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، ص79.

قراءة فاحصة لميثاق الجزائر

المركزية الديمقراطية ويهدف إلى بناء الدولة الاشتراكية في الجزائر، وينتهج سياسة عدم الانحياز ويعمل على تدعيم القضايا العادلة ومساندة حركات الشعوب المناضلة في العالم أجمع. إن تحويل جبهة التحرير إلى حزب طلائعي في مثل هذه الظروف يُعّد انقلاباً سياسياً لامبرر له، خاصة وأن الحزب لايمكن أن يكون في الحكم بإدارة موروثة عن الاستعمار وإطارات مسيِّرين مكوِّنين وفقاً لبرامج استعمارية وبواسطة مكونين لاعلاقة لهم بالأيديولوجية الثورية، وحتى العناصر التي تكونت في صفوف جبهة التحرير الوطني فإنها، في معظمها كي لانقول في مجملها، ترفض بناء الدولة الاشتراكية لأنها لم تنته بعد من إقامة الدولة الديمقراطية الاجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية التي حددها بيان أول نوفمبر كهدف رئيسي. فالحزب الطلائعي بدون إمكانيات بشرية يظل حبراً على ورق بل يتحول بالتدريج، إلى مجرد جهاز يوظف لخدمة الأغراض الشخصية ولمنع الشرائح الوطنية في المجتمع من التصدي بحزم وجد للقوات المناهضة للثورة. قراءة فاحصة لميثاق الجزائر: وعندما نعود، اليوم، إلى ميثاق الجزائر، نلاحظ بكل سهولة أنه مليء بالمغالطات التاريخية والتناقضات السياسية والطموحات اللامشروعة، غير أن كل ذلك لايعني أنه خال من بعض التحاليل الصحيحة والمقررات الموضوعية التي تأخذ في الاعتبار الإمكانيات الحقيقية من أجل تغيير الواقع. فالجزائر بلد إسلامي، هذه حقيقة تضمنتها كل الوثائق الأساسية لجميع الأيديولوجيات الوطنية. لكن الذي يشكل مغالطة تاريخية هو تأكيد ميثاق الجزائر على أن الجماهير الجزائرية كانت عميقة الإيمان وأنها "قاومت بصلابة لتخليص الإسلام من كل الشوائب والخرافات التي شوهته أو خنقته، كما أنها لم تناهض الدجالين الذين كانوا يريدون أن يجعلوا منه مذهباً للخشوع والتوكل، وتسعى لربطه بإرادتها في إنهاء استغلال الإنسان للإنسان" (¬1) والواقع، أن الذي قام بهذا الدور هم العلماء سواء كأفراد منذ أن وضعت الحرب الامبريالية ¬

_ (¬1) جبهة التحرير الوطني، اللجنة المركزية للتوجيه، ميثاق الجزائر، مجموع النصوص المصادق عليها من طرف المؤتمر الأول لحزب جبهة التحرير الوطني 16 - 21 أبريل 1964، الجزائر 1965، ص35.

الأولى أوزارها أو كتنظيم بعد أن تأسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في اليوم الخامس من شهر ماي سنة واحد وثلاثين وتسعمائة وألف. ولم يكن ذلك بالأمر الخفي على الذين صاغوا الميثاق، لكنهم كتبوا بعواطفهم فضيعوا على البلاد فرصة ثمينة كان يمكن أن تكون منطلقاً لتحقيق مصالحة وطنية جديدة تعيد الثقة إلى شريحة واسعة من المجتمع الجزائري في تلك الظروف التي كان أحوج ما يكون فيها إلى وحدة وتجاوز الحزازات السياسية. فالاعتراف بدور العلماء في تخليص الإسلام من الشوائب التي علقت به وفي تحرير الإنسان الجزائري من المعتقدات الفاسدة كان من شأنه أن يقود إلى تقييم الإصلاح الديني في الجزائر وهو إصلاح يختلف كلية عن الإصلاح الديني في المشرق العربي وفي العالم الإسلامي عامة، وبعد التقييم الموضوعي، كان لإيديولوجية جبهة التحرير الوطني أن تخصص مكانة مرموقة للجانب الروحي الذي يستحيل بدونه التوصل إلى تعبئة جماهير الشعب الجزائري. لكن ميثاق الجزائر تعمد عدم الاعتراف بأهمية ذلك الدور، وراح ينسبه، تعسفاً، لغير أصحابه حتى يهمش الإسلام ويمنع الفكر الإسلامي من الانتشار في جميع الأوساط المؤثرة في عمليات البناء والتشييد، وبذلك تعطى الغلبة للنظام الاشتراكي في بناء الدولة (¬1). ولقد أخطأ ميثاق الجزائر في تقديره، لأن تحييد العلماء وتهميش دورهم في إطار منظم، قد جعلهم يجنحون، شيئاً فشيئاً، إلى العمل السري دفاعاً عن العقيدة وحماية لها من الاعتداءات التي تريد محاصرتها في المسجد وإبقائها مقصورة على العلاقة بين الإنسان وربه كما هو الأمر بالنسبة للديانات الأخرى، ووفاء لأرواح الشهداء الذين ضحوا بأنفسهم من أجل إقامة الدولة الديمقراطية الاجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية (¬2). والمغالطة التاريخية الثانية تتمثل بأن الكفاح من أجل انتصار المبادئ الديمقراطية قد تغلغل في أوساط الجماهير الشعبية وحفز عملها وحدد سلوكها وآفاقها (¬3). وفي الحقيقة، فإن اندلاع الثورة من نوفمبر إنما كان من أجل ¬

_ (¬1) عباس (فرحات) الاستقلال المصادر، ص124، يقول السيد عباس: إنني، فيما يخصني، آمل أن تتخلى الجزائر عن النهج الاشتراكي حتى تتمكن من أن تستعيد شخصيتها وتبني من جديد وحدتها الروحية والاقتصادية والاجتماعية. وسوف يكون ذلك أفضل الحلول لأنه يتلاءم مع مفهومها للمغرب الواحد كما وضعت معالمه ندوتا طنجة وتونس سنة 1958. (¬2) انظر الملحق رقم 8. (¬3) جبهة التحرير الوطني، اللجنة المركزية للتوجيه، ميثاق الجزائر، ص36.

التحرير الوطني الذي يشمل تحرير الإنسان وهو أكثر قيمة من انتصار المبادئ الديمقراطية التي أراد ميثاق الجزائر أن يجعلها منطلقاً أساسياً لبناء الدولة الاشتراكية. إن جبهة التحرير الوطني لم تقرر الكفاح من أجل انتصار المبادئ الديمقراطية ولكنها أعلنت عن ميلاد حركة جهادية دعت إليها جماهير الشعب من أجل استرجاع السيادة الوطنية المغتصبة، وعلى هذا الأساس يجب على الدارس أن يتوقف عند الملاحظات التالية: 1 - إن جماهير الشعب التي وجه إليها النداء لم تتجاوب معه في اللحظات الأولى، بل كان لابد من مرور وقت يتفاوت من حيث الطول بين منطقة وأخرى وحسب وعي الفئات الاجتماعية المختلفة (¬1). وهناك شرائح واسعة من الشعب الجزائري قد ظلت موالية للنظام الاستعماري وتتعامل معه بكل ثقة إلى أن تأكد من عجزه عن حمايتها ولاحظت أنه اعترف لجبهة التحرير الوطني بحق تقرير المصير على أساس الاستقلال الوطني. إن هذه الشرائح الواسعة جزء من الجماهير الشعبية ولايمكن أن نقول أن المبادئ الديمقراطية قد تغلغلت إلى أوساطها أثناء فترة الكفاح المسلح وإلا أصبح الاستعمار هو داعية الحرية والديمقراطية. 2 - إن الكفاح من أجل انتصار المبادئ الديمقراطية لايكون إلا بعد استرجاع الاستقلال الوطني ولذلك فإن جبهة التحرير الوطني لم تجعله من أهدافها الرئيسية أثناء فترة الكفاح المسلح خاصة وأن متطلبات الحرب كثيراً ماتتناقض مع الممارسة الديمقراطية. 3 - لقد كانت السيادة الوطنية المغتصبة مبنية على مجموعة من الثوابت أهمها الإسلام ولغة القرآن. وأن الكفاح من أجل استرجاعها يعني بالدرجة الأولى السعي بجميع الوسائل لإعادة تأهيل تلك الثوابت التي عملت السلطات الاستعمارية على تشويهها أو إلغائها تماماً كما كان الأمر للغة العربية، وبدلاً من أن يهتم ميثاق الجزائر بدين الجزائريين ولغتهم باعتبارهما أفضل وسيلة لتكوين الإنسان، فإنه انطلق من النظرة الماركسية للديانات السماوية وراح يخطط لتهميش الإسلام، ولعزل اللغة العربية عن ميادين الإدارة والعلم والتكنولوجيا. ¬

_ (¬1) عباس (فرحات) الاستقلال المصادر، ص31، وما بعدها.

4 - إن ميثاق الجزائر لم يزد عن تقليد الحلول النظرية التي أوجدتها الثورة الروسية لمشاكل المجتمع السوفياتي. ولو أن المشرفين على الصياغة لم يكونوا متشبعين بالفكر الماركسي دون غيره، لانطلقوا، في تحليلاتهم، من الفكر السياسي الإسلامي ومن الواقع الجديد الذي أحدثته الثورة في الجزائر ثم أوجدوا نظاماً للحكم مستقلاً ومتطابقاً مع المنطلقات الأيديولوجية لجبهة التحرير الوطني. أما المغالطة التاريخية الثالثة فتتعلق بمجموعة من التفسيرات للمراحل التي قطعتها ثورة نوفمبر منذ اندلاعها. وهذه التفسيرات تبدأ من برنامج طرابلس الذي أشار إلى أن وعي الجماهير قد جعل الثورة تتحول من ديمقراطية اجتماعية إلى ديمقراطية شعبية وأن هذه الأخيرة عبارة عن تشييد واع للبلاد في إطار المبادئ الاشتراكية (¬1). إن برنامج طرابلس، إذن جعل المبادئ الاشتراكية تحل محل المبادئ الإسلامية، ولقد فعل ذلك خلسة ولم يطلب رأي الجماهير الشعبية التي ما كانت لتوافق لو استشيرت. ثم جاء ميثاق الجزائر ليؤكد أن "الكفاح من أجل تدعيم الاستقلال والكفاح من أجل انتصار الخيار الاشتراكي لا انفصام بينهما، والفصل بينهما يعد تذويباً للدور القيادي لجماهير العمال والفلاحين (¬2). فبهذه الكيفية تجاهل ميثاق الجزائر المكانة التي مافتئ الإسلام يحتلها في مسيرة الجزائر التاريخية، وكذلك الدور الحاسم الذي أداه في تشكيل الشخصية الوطنية أولاً، وصيانتها ضد محاولات المسخ والتشويه ثانياً، وتمكينها في نهاية المطاف من أن تتحرك من جديد لتقويض الأركان الاستعمارية وتؤكد الهوية الوطنية وتطلق العنان لثورة أصيلة إسلامية الروح عربية اللسان وإنسانية المسعى. إن الربط بين الكفاح من أجل تدعيم الاستقلال والكفاح من أجل انتصار التيار الاشتراكي عمل نظري ينطلق من دوغمائية عميقة ولا يأخذ في الاعتبار بعدين أساسيين لابد منهما لكل حركة تريد أن تصل إلى مداها دون انحراف ولاجمود، وهما بعد الاستمرارية وبعد التجديد والإبداع. وإذا كانت الاستمرارية تعني المحافظة على خيوط التواصل التي ظلت تنظم مسيرة الشعب الجزائري، فإن التجديد والإبداع يعطيان للمسؤول والمناضل قدرة التحلي بالمرونة اللازمة لتكييف عملية الانتقال من المجال النظري إلى ¬

_ (¬1) النصوص الأساسية لجبهة التحرير الوطني 1954 - 1962، ص71. (¬2) ميثاق الجزائر، ص36.

دائرة الفعل حسب الظروف والإمكانيات التي تتحكم في تشكيل الواقع. ومغالطة تاريخية رابعة وتتمثل في اعتبار أن البؤس المدقع الذي كانت تعيش فيه الأغلبية الساحقة من الفلاحين والعمال كافة لجعل هذه الأخيرة "تناضل من أجل تحويل المجتمع تحويلاً جذرياً" (¬1) في اتجاه البناء الاشتراكي. ولو كان هذا الادعاء صحيحاً لما انتظرت الجزائر سنة أربع وخمسين لإشعال فتيل الثورة ولما لاقت في فترتها الأولى تلك الصعوبات الكبيرة في جعل جماهير الشعب تقبل فكرة التغيير وتساهم بأشكال مختلفة في الكفاح المسلح. ويزعم ميثاق الجزائر، أيضاً، أن التسيير الذاتي الذي لجأت إليه الثورة الجزائرية في العام الأول بعد استرجاع الاستقلال هو تعبير عن إرادة الفئات الكادحة في البلاد في الصعود إلى المسرح السياسي الاقتصادي وفي أن تتشكل كقوة قيادية. وهذا التعبير يدل، مرة أخرى، على أن الذين تولوا صياغة ميثاق الجزائر لم يكونوا يعرفون الواقع الجزائري، لأن التسيير الذاتي في الواقع لم يكن نتيجة تخطيط مدروس، ولكنه فرض على السلطات الجزائرية الفتية بسبب رحيل الجالية الأوربية التي كانت تمتلك وسائل الانتاج وفي مقدمتها المساحات الشاسعة من الأراضي الخصبة، ولكي لاتبقى تلك الوسائل مهملة، وحتى تتم عمليات الحرث والبذر في خريف تلك السنة والتي أعطيت الإشارة الخضراء إلى الفلاحين والعمال فانتظموا في لجان للتسيير الذاتي ثم جاءت قرارات مارس ثلاث وستين وتسعمائة وألف لتجعل من المبادرة إجراءات رسمية (¬2). إن لجان التسيير الذاتي لم تكن، كما توهم المنظرون الماركسيون، استمرارية للثورة ولا واحدة من الخاصيات الرئيسية للانفتاح نحو الاشتراكية، لكنها كانت حتمية وكانت من البداية مبنية على أسس غير سليمة لأن تركيبتها البشرية لم تكن لتساعد على تحويله إلى أداة ثورية، ذلك أن أعضاء لجان التسيير لم يكونوا سوى نفس العمال والفلاحين الذي ظلوا في معظمهم أوفياء للكلون الذين كانوا يستغلون الجزائر، إذا كانت جبهة التحرير الوطني، لم تتمكن، طيلة سنوات الكفاح المسلح، من فصلهم نهائياً عن مستغليهم ومؤيدي السيطرة الأجنبية في بلادهم، فإن من المستحيل على قرارات مارس المرتجلة أن تحولهم إلى قوة قيادية. وإلى جانب هذه المغالطات التاريخية وغيرها هناك التناقضات السياسية ¬

_ (¬1) المصدر نفسه، ص40. (¬2) Benamrane (Djillai) Agriculture et debeloppement en Algerie, SNED, Alger 1980 - 101 et suivantes.

التي لم تتفطن إليها لجنة صياغة ميثاق الجزائر والتي سوف تكون هي أساس جزء من الانحرافات التي وقعت فيه أيديولوجية جبهة التحرير الوطني والتي شكلت بالتدريج، واحداً من العراقيل الرئيسية التي منعت الثورة من التقدم في انتظار إجهاضها. ومن جملة هذه التناقضات ما يلي: 1 - إن ميثاق الجزائر، عندما يتحدث عن بنية المجتمع واتجاهه، يذكر أن "نواة برجوازية أكثر أهمية قد تشكلت في نهاية مائة وثلاثين سنة من الاستعمار، من كبار التجار وبالأخص من كبار ومتوسطي ملاك الأراضي، ولم تكن الفئات البرجوازية بمعناها الحقيقي تتجاوز 2.5% من عدد السكان العاملين (¬1) ويرى أن هذه البرجوازية كانت مؤثرة في الميدان الاقتصادي" وكان لها نفوذ أيديولوجي وثقافي وسياسي في أوساط العمال والفلاحين (¬2). إن هذا الكلام يتناقض في جوهره مع ماورد في الباب الخاص بالأسس الإيديولوجية للثورة الجزائرية والذي جاء فيه "إن الكفاح من أجل انتصار المبادئ الديمقراطية قد تغلغل بين الجماهير وحفز عملها وحدد سلوكها وآفاقها ومن خلال المقاومة المسلحة ضد الامبريالية الفرنسية أصبحت الجماهير واعية بقوتها وقدرتها على حل مشاكلها بنفسها (¬3). فإذا كان الأمر قد وصل فعلاً إلى هذا الحد، فإن تأثير البرجوازية غير ذي بال خاصة وأن التحليل يتعلق بفترة زمنية واحدة هي نهاية النظام الاستعماري. 2 - إن ميثاق الجزائر يؤكد على ضرورة إبراز الديمقراطية الاشتراكية بواسطة الإدارة الفعالة التي تراقبها الجماهير، وفي نفس الوقت يعترف أن الدولة الجزائرية "احتفظت بالهياكل الإدارية التي أقامها الاستعمار من أجل تأطير اقتصاد ليبرالي تترك فيه الوظيفة الاقتصادية لمالكي وسائل الإنتاج والمقاولين ومثقفي المهن الحرة (¬4). وإذا كان ميثاق الجزائر يعترف للبرجوازية، على ضآلة نسبتها، بتأثيرها البالغ أيديولوجياً وسياسياً وثقافياً في أوساط الجماهير الشعبية، فكيف يمكن التصديق بأن هذه الأخيرة سوف تتمكن من مراقبة الإدارة التي أنشئت في أساسها لتكوين أداة مناهضة للسياسة الاشتراكية. ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص38. (¬2) نفس المصدر، ص39. (¬3) نفس المصدر، ص36. (¬4) نفس المصدر، ص39.

3 - يرى ميثاق الجزائر أن إبراز الديمقراطية الاشتراكية يكون، كذلك "بواسطة هيئات شعبية حميمية تسيّر بلديات ديمقراطية (¬1). لكن هذه الهيئات الشعبية مدعوة، لتأدية دورها، إلى استعمال البيروقراطية الإدارية التي تشكل أكبر حكر على التكور الاشتراكي والديمقراطي للثورة (¬2) وذلك بوصفها قوة اجتماعية سهر الاستعمار على تكوينها لتأييد سيطرته وللقيام بدور اقتصادي يتلاءم فقط مع مصالحه. 4 - يؤكد ميثاق الجزائر أن "الجماهير الكادحة في المدن والأرياف قادرة على قهر الصعوبات الناشئة على مقاومة وتخريب القوى المناهضة للاشتراكية (¬3). ومما لاشك فيه أن هذا التأكيد يعبر عن مدى الوعي الذي تتحلى به تلك الجماهير لتكون في مستوى المهمة المسطورة لها. لكن الميثاق يذكر في نفس الصفحة "أن الكفاح من أجل انتصار الاشتراكية لايجري بطريقة منسجمة وأن التناقضات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ناجمة عن المستوى المنخفض للقوى الإنتاجية وتأخر الوعي الاجتماعي للعمال والتشويهات البيروقراطية لجهاز الدولة وضعف تمركز النقابات والحزب (¬4). فكيف يمكن للجماهير الكادحة أن تقهر الصعوبات وهي تعاني من تأخر الوعي الاجتماعي ومن التشويهات البيروقراطية التي يقوم بها جهاز الدولة. 5 - إن ميثاق الجزائر يجعل في مرتبة واحدة الحزب والحكم الثوري في الجزائر، وإذا كان الحزب معرفاً بواسطة نظامه الداخلي وقانونه الأساسي ومن خلال مشروع المجتمع الذي يعمل على تجسيده على أرض الواقع، فإن الميثاق اكتفى بالنسبة للحكم الثوري بقوله: "إنه المدافع عن مصالح الفئات الكادحة المشكلة لقواعده الاجتماعية، ولذلك فهو لابد أن يصطدم بالفئات ذات الامتيازات التي تضم من جهة، أولئك الذين يملكون وسائل الإنتاج ومن جهة ثانية البرجوازية البيروقراطية (¬5). فإذا كانت الفئات الكادحة هي القواعد الاجتماعية للحكم الثوري، فما هي القواعد الاجتماعية لحزب جبهة التحرير الوطني الذي تنص المادة الثانية من نظامه الداخلي على أنه "يستمد قوته من الجماهير الفلاحية، والجماهير العاملة ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص41. (¬2) نفس المصدر (¬3) نفس المصدر، ص42. (¬4) نفس المصدر، ص43. (¬5) نفس المصدر، ص41.

ومن المادة الثانية من نظامه الداخلي على قائد الشعب في المعركة من أجل الاستقلال التام والاشتراكية والديمقراطية ومن أجل السلم الذي هو مربوط بمقتضيات تحرير الشعوب (¬1). وبالإضافة إلى هذه المغالطات التاريخية والتناقضات السياسية، فإن ميثاق الجزائر قد عبر عن طموحات غير مشروعة لأنها طموحات لجنة صياغته لاغير. ولأنه يدعو، لتحقيقها إلى اعتماد أداة لم يوفق في تعريفها بالوضوح اللازم. أما عن الطموحات اللامشروعة فإن الميثاق يذكر أن الشعب الجزائري "وجد نفسه، قبيل الاستقلال وبعد حرب تحريرية طويلة، مدعواً إلى اختيار النظام الأنسب لخصائصه من أجل تنظيم حياته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وبما أن ثورتنا كانت، منذ ميلادها، ديمقراطية وشعبية بأوسع معاني الكلمة، فإن الجماهير الكادحة قد فتحت الطريق الموصلة إلى بناء مجتمع قائم على المبادئ الاشتراكية (¬2). فإن هذا المؤتمر الأول للحزب "يجب أن يكون أول نوفمبر جديد، أول نوفمبر الاشتراكية (¬3). كل هذه التنصيصات غير صحيحة، لأن الشعب لم يشترك في عملية اختيار النظام الأنسب لتنظيم حياته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولأن إقرار الثورة الاشتراكية لم ينطلق من تحليل معمق للواقع الذي كان عليه الشعب الجزائري، ولا من تقييم موضوعي لمختلف المراحل التي قطعتها ثورة أول نوفمبر. وأما عن الأداة التي لابد منها لانتصار الثورة الاشتراكية في الجزائر، فإن ميثاق الجزائر يحصرها في حزب جبهة التحرير الوطني الذي ينبغي أن يكون طلائعياً ومن تركيبة اجتماعية قوامها الفلاحون والعمال والمثقفون الثوريون. وإذا كان هناك اختلاف في التسمية بين الحزب في برنامج طرابلس وفي ميثاق الجزائر، إذ الأول جماهيري والثاني طلائعي، فإن التركيبة الاجتماعية لم تتغير وفي ذلك أكبر دليل على عدم جدية المنظرين، وسوف نرى أن عدم الحسم في مثل هذه الموضوعات الهامة هو الذي سيمنع حزب جبهة التحرير الوطني من تأدية دوره على الوجه الأكمل وهو الذي سيؤدي به إلى التحول ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص121. (¬2) نفس المصدر، ص14. (¬3) نفس المصدر، ص171.

الخاتمة

شيئاً فشيئاً إلى جهاز إداري تابع للإدارة في أحسن الحالات. وبعد اختتام المؤتمر الأول للحزب ودراسة مختلف اللوائح والمقررات الصادرة عنه، يحق لنا القول: إن الأيديولوجية لجبهة التحرير الوطني قد جمدت عملياً غداة استرجاع البلاد سيادتها الوطنية، وأن الجزائر قد انطلقت، في جمع عملية البناء، بأيديولوجية جديدة هي، نظرياً، الأيديولوجية الاشتراكية. الخاتمة إن الذين تعاملوا ويتعاملون مع تاريخ الثورة الجزائرية، حتى الآن، لم يفعلوا ذلك إلا وكأنهم يؤرخون لحرب تحريرية أو لأحداث دموية، أو لشكل من أشكال الحرب الأهلية التي ليست لها منطلقات أيديولوجية واضحة، بل إن معظم من كتب إلى يومنا هذا، لايقرون بوجود ايديولوجية خاصة بجبهة التحرير الوطني، وأكثر من كل ذلك، فإن ثلة من إطارات الدولة الجزائرية أنفسهم وممن تقلدوا مناصب سياسية عليا يسيرون في هذا الاتجاه ويدعمون هذا الادعاء. وإذا كان يقبل من المؤرخين والمفكرين والسياسيين أن ينكروا على جبهة التحرير الوطني كونها حركة سياسية أصيلة تمتلك مشروع مجتمع متكامل، مغاير، تماماً لصورة المجتمع الذي أقامته فرنسا الاستعمارية، فإن ذلك مرفوض من الجزائريين الذين يفترض فيهم أن يكونوا أكثر إدراكاً لحقيقة مايجري في بلادهم وأقرب إلى فهم غيرهم خاصة إذا كان هؤلاء ينطلقون من موقع المدافع عن المصلحة العليا لوطنهم. فالمثقفون الفرنسيون وفي مقدمتهم المؤرخون يعرفون في قرارة أنفسهم، إن الحركة الوطنية الجزائرية قبل سنة أربع وخمسين وتسعمائة وألف، كانت تنطلق من أيديولوجيات متقاربة جداً وأنها جميعاً تتناقض مع الواقع الاستعماري، لكن مصلحة فرنسا لاتمكن في العمل على بلورة ذلك التقارب حتى لاتتشكل الوحدة التي تقود إلى تعبئة الجماهير الشعبية من أجل استرجاع السيادة الوطنية، ولذلك، فإنهم كانوا، بكتاباتهم المتنوعة، يهدفون، بدلاً من البلورة، إلغاء ذلك التقارب بإبراز الاختلاف الصارخ الذي يميز الوسائل المعتمدة من طرف كل تشكيلة سياسية وطنية لتقويض أركان الاستعمار، وبالتركيز على توسيع الهوة بين التيارات السياسية الوطنية العاملة على الساحة الجزائرية، لايثنيهم شيء عن العمل من أجل تحقيق ذلك، ونظراً لسيطرتهم على مختلف الكليات التي تستقبل الإطارات الجزائرية في مرحلة ما بعد التدرج

الجامعي، فإنهم قد ضموا استمرارية فكرهم بواسطة الأقلام الوطنية. ولقد شاهدنا، في الربع الأخير من هذا القرن، تقاسم الأدوار بين العسكريين والسياسيين الفرنسيين، الذين جردوا أقلامهم لتقديم تاريخ فترة الكفاح المسلح في شكل مذكرات وشهادات حية تحاول تجريد الحركة الجهادية في الجزائر من كل مقوماتها، وبين المؤرخين الذين أصبحوا يوظفون تلامذتهم الجزائريين لتقرير آرائهم التي لاتختلف في جوهرها عن آراء العسكريين والسياسيين المذكورين آنفاً. هكذا وقع غزو المكتبات الجزائرية بمطبوعات تتفق في معظمها على أن ماوقع في الجزائر ابتداء من ليلة الفاتح من نوفمبر سنة أربع وخمسين وتسعمائة وألف لم يكن ثورة بل مجرد حرب تحريرية استهدفت الحصول على الاستقلال الوطني (¬1). وإذا كان هذا التعبير يبدو بريئاً، في ظاهره، فإنه، في الواقع، يتجاوب مع أهداف المدرسة الاستعمارية التي ترمي إلى إجهاض الثورة التحريرية من جهة وإلى تبرير الغزو الاستعماري من جهة ثانية. وبالفعل. ورغم مقاومة بعض الأقلام الوطنية، فإن التعبير المذكور قد أصبح هو السائد سواء في معظم الأبحاث العلمية أو حتى في أغلبية الوثائق الرسمية، وأكثر من ذلك، فإن استرجاع الاستقلال الوطني، وهو التعبير الصحيح (¬2)، لم يتحقق، في منظور تلك الكتابات، بفضل ماقدمه الشعب الجزائي من تضحيات جسام في إطار حركة جهادية شاملة قادتها جبهة التحرير الوطني، لكنه جاء نتيجة حتمية تاريخية وبفضل تفهم الجنرال ديغول، ومن ناحية أخرى، فإن "العروبة والإسلام لا دخل لهما في تحرير الجزائر"، ومن هذا المنطلق فإن الدولة الجزائرية التي تقام بعد "الحصول" على الاستقلال يجب أن تكون لائكية ومتوجهة نحو الغرب المسيحي عبر حضارة البحر الأبيض المتوسط. فلدحض كل هذه المزاعم الزائفة، شرعنا في إنجاز هذه الدراسة التي قادتنا بالتدريج إلى تسليط الأضواء على العديد من المواضع الغامضة وإلى الخروج للقراء بمجموعة من الاستنتاجات التي لاتثبت وجود مشروع مجتمع خاص ¬

_ (¬1) TRIPPER (PHILIPPE) AUTOPSIEDE LA GUERRE D'ALGERIE. P.54 et suivantes. (¬2) إن استعمال: الحصول على الاستقلال يثبت الموقف الاستعماري القائل: إن فرنسا في الجزائر لم تعتد على دولة قائمة بذاتها ولكنها جاءت لإنقاذ مجموعة من القبائل كانت تعاني من سيطرة الاحتلال التركي. والاستعمار الفرنسي هو الذي ساعد على تكوين الأمة الجزائرية من مجموعة من العناصر أهمها: العرب والبربر والأوربيون واليهود.

بجبهة التحرير الوطني فحسب ولكنها تكشف، أيضاً، عن وجود مؤامرة كبرى شرع في تنفيذها منذ ماقبل وقف إطلاق النار قصد إجهاض الثورة وإفراغها من محتواها الحقيقي، وفيما يلي نوجز أهم هذه الاستنتاجات: 1 - أن جبهة التحرير الوطني بنت شرعية لنجم شمال أفريقيا (¬1)، ولم تكن أيديولوجيتها، عشية بدء الكفاح المسلح سوى نفس أيديولوجية النجم التي راجعتها وآثرتها مؤتمرات حزب الشعب الجزائري وحركة الانتصار للحريات الديمقراطية. ولقد كانت هذه الأيديولوجية، منذ صياغتها الأولى، بينة، واضحة المعالم تنطلق من واقع الشعب الجزائري فتضبطه بدقة ثم تحدد سبل تغييره وتضع الخطوط العريضة للمجتمع الجديد المزمع بناؤه بعد التخلص من الهيمنة الأجنبية. أما واقع الشعب الجزائري المشار إليه فتميزه أوضاع الظلم والتعسف والاستبداد والاستغلال المفروضة على الجماهير الشعبية بواسطة قوانين وأوامر لاتخضع لأي منطق (¬2)، بل همها فقط خدمة مصلحة غلاة المعمرين الذين يجمعون بين أيديهم الأراضي الخصبة والأموال الطائلة والسلطة المطلقة، ويتميز ذلك الواقع، أيضاً، بوجود أصناف من الجزائريين فطموا على حب الاستعمار، وتشبع جزء منهم بأفكاره فصاروا يطالبون بالمساواة الموهومة مع الأوربيين تارة أخرى، ولإبقاء هذه الأصناف تعيش على الأوهام وتجري وراء الأحلام، كانت السلطات الاستعمارية تصدر من حين لآخر قانوناً إصلاحياً يبقى حبراً على ورق بسبب معارضة الكولون له. وزيادة على كل ماتقدم، فإن واقع الشعب الجزائري يعني كذلك أمية أكثر من 90% من السكان، وتجهيلاً منظماً من أجل فصل المجتمع الجزائري عن أسسه التاريخية ومنطلقاته الحضارية، وبطالة فعلية بالنسبة للأغلبية الساحقة من المواطنات والمواطنين، واغتصاباً متواصلاً لملكية الأعراش والأفراد. وإذا كان هذا هو الواقع، فإن سبل تغييره تمر حتماً بضرورة العمل على تقويض أركان الاستعمار الذي يؤبد حالة التبعية ويسد طريق التطور والتقدم في وجه الشعب الجزائري، وفي هذا المجال، فإن توجه نجم شمال أفريقيا واضح للغاية إذ تدعو إلى استعمال جميع الوسائل الممكنة للقضاء على النظام ¬

_ (¬1) الملحق رقم3. (¬2) انظر الباب الثالث، حيث تفاصيل الأسس التاريخية لجبهة التحرير الوطني.

الاستعماري، ويرى أن الكفاح المسلح يأتي في مقدمة هذه الوسائل، لأن التاريخ القريب أثبت أن غلاة المعمرين لايفهمون سوى لغة العنف لكن الكفاح المسلح وحده لايكفي، ولذلك يجب أن يكون مشفوعاً بعمليات واسعة النطاق لتوعية الجماهير الشعبية بحقيقة الواقع المفروض عليها ولتكوينها سياسياً بحيث تسهل تعبئتها في الوقت المناسب ففي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى فتح المدارس الحرة لاستقبال ماأمكن من أبناء المواطنين قصد تعليمهم مبادئ اللغة العربية والتاريخ والجغرافيا ومن أجل غرس الروح الوطنية في نفوسهم (¬1)، وإلى تكوين فروع الكشافة الإسلامية في مختلف أنحاء الوطن وإنشاء الجمعيات الخيرية لمواساة الفقراء والمساكين ولتكوين قنوات مفتوحة في اتجاه الجماهير الشعبية الواسعة، أما أكبر إنجاز فيبقى هو تأسيس المنظمة الخاصة التي أسندت لها مهمة تكوين المناضلين الشباب تكويناً عسكرياً وأيديولوجياً استعداداً لخوض المعركة الحاسمة. وعلى إثر استرجاع الاستقلال الوطني وإجلاء قوات الاحتلال، فإن الجزائر تشكل حكومة ثورية وتنشئ جيشاً وطنياً مباشرة بعد انتخاب المجلس التأسيسي بواسطة الاقتراع العام، وفي الجزائر المستقلة تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية وتستعيد الدولة جميع البنوك والمناجم والسكك الحديدية والموانئ والمصالح العمومية التي كانت مغتصبة من طرف الغزاة، كما أنها تصادر الملكيات الكبيرة التي استحوذ عليها الإقطاعيون والمعمرون والجمعيات المالية، وتوزعها على الفلاحين الصغار مع احترام الملكية الصغيرة، والمتوسطة واسترجاع الأراضي والغابات التي استولت عليها الدولة الفرنسية، وفي مجال آخر، يكون التعليم مجانياً وإجبارياً وعربياً في جميع المراحل، وتعترف الدولة الجزائرية لمواطنيها بالحقوق النقابية وتكوين التنظيمات العمالية وتنظيم الإضرابات وتسن القوانين الاجتماعية، وتقدم المساعدات الفورية للفلاحين وذلك في شكل قروض معفاة من دفع الفوائد تخصص لشراء الآلات والبذور والأسمدة ولتنظيم الري وتحسين المواصلات إلى غير ما تحتاج إليه الزراعة العصرية لأن الجزائر بلد زراعي بالدرجة الأولى. وخلاصة القول، فإن مشروع المجتمع الذي وضعه نجم شمال أفريقيا والذي جاءت جبهة التحرير الوطني لتجسيده على أرض الواقع، يحمل في طياته دعوة إلى العمل من أجل القضاء على واقع يثقل كاهل الشعب الجزائري ¬

_ (¬1) انظر الفصل الثالث من الباب الأول.

وذلك دون التوقف عندما يسمى بالقواعد الأخلاقية أو الشرعية الوسائل أو عند أية حقيقة غير حقيقة العمل، وإلى استرجاع الاستقلال الوطني ليس كحادث متوقع ومرغوب فيه وكاف ولكن كحادث أكيد وضروري يندرج في إطار تسلسل تاريخي من أجل إنجاز ثورة شاملة تؤدي إلى تغيير الجزائر تغييراً جذرياً في هياكلها وهيآتها وفي ثرواتها الطبيعية والبشرية، وتستهدف تحرير الأرض وتحرير الإنسان باعتبار العمليتين متكاملتين ولايمكن لإحداهما أن تتم بدون الأخرى. 2 - إن أيديولوجية الحركة المصالية تلتقي في خطوطها العريضة مع باقي الأيديولوجيات الوطنية التي كانت سائدة في الجزائر قبل سنة أربع وخمسين وتسع مائة وألف، لكنها تختلف معها حول مجموعة من النقاط الجوهرية التي يأتي في مقدمتها الكفاح المسلح كوسيلة لابد منها لاسترجاع السيادة الوطنية. 3 - إن الحزب الشيوعي الجزائري لم يكن حركة وطنية، بل تنظيماً تابعاً للحزب الشيوعي الفرنسي وحريصاً على تطبيق تعاليم الذين تدعو الأممية الشيوعية إلى عدم الانضمام إلى الحركات الثورية في المستعمرات. وعلى هذا الأساس، ظل محافظاً على كيانه المستقل ورافضاً الذوبان في جبهة التحرير الوطني حتى كان وقف إطلاق النار. ومما لاشك فيه أن ثمة عوامل كثيرة منعت الحزب الشيوعي الجزائري من أن يصبح تشكيلة سياسية وطنية وفي مقدمتها سيطرة العنصر الأوروبي على الهيئات القيادية ثم أيديولوجيته التي ترفض الاعتراف بثورية الفلاحين الجزائريين وتؤمن باستحالة تحرير الجزائر قبل انتصار البروليتاريا في فرنسا. إن هذه الحقيقة لم تمنع بعض الشيوعيين الجزائريين من، الالتحاق فرادى بصفوف جبهة التحرير الوطني، قد جاء في وثيقة وادي الصومام أن ذلك الالتحاق لم يكن بريئاً في غالب الأحيان، إذ كانت القيادة الوطنية تهدف إلى توظيف أولئك العناصر في فترة ما بعد استرجاع الاستقلال الوطني، ولقد تبين، بعد اتفاقيات أيفيان، أن تحليل مؤتمري وادي الصومام كان صحيحاً، لأن الشيوعيين الذين شاركوا في الثورة سرعان ما انفصلوا عن جبهة التحرير الوطني وراحوا يعملون مع رفاقهم على التآمر ضدها مما جعل الرئيس أحمد بن بلة يصرح قائلاً "إننا لانريد اتخاذ إجراءات المنع ضد الحزب الشيوعي الجزائري لكننا نرى أن نشاطه يتناقض مع مصلحة البلاد ولايعتمد إلا على الديماغوجية" إننا لانعترف للشيوعيين بحق التقييم لأنهم لم يقوموا بشيء يذكر

في سبيل تحريرنا" (¬1). وعلى الرغم من عدم المشاركة الفعلية في ثورة التحرير، فإن الحزب الشيوعي الجزائري قد تمكن، بواسطة مجموعة من إطاراته المندسين في صفوف جبهة التحرير الوطني في الخارج، من العبث بالنصوص الأساسية وجعل الانحراف الأيديولوجي يصبح حقيقة ملموسة ابتداء من الدورة الثانية للمجلس الوطني للثورة الجزائرية (¬2). 4 - إن مؤتمر وادي الصومام لم يكن انحراف كما يدعي البعض، بل كان منعطفاً حاسماً في تاريخ الثورة. وقد تمكن بحكمة وذكاء كبيرين من إثراء أيديولوجية جبهة التحرير الوطني انطلاقاً من تقييم واقعي للمرحلة المقطوعة منذ أول نوفمبر عام أربعة وخمسين وتسعمائة وألف، واعتماداً على الإمكانيات الوطنية بالدرجة الأولى. وكانت أهم عناصر الإثراء هي: أ-إقرار مبادئ القيادة الجماعية وأولوية الداخل على الخارج والسياسي على العسكري. ب-تزويد الثورة بهيآت قيادية عليا وموحدة. جـ-فتح المجال أمام الإطارات المتشبعة بأيديولوجيات وطنية أخرى غير أيديولوجية جبهة التحرير الوطني لتولي مسؤوليات قيادية على جميع المستويات، وذلك حتى يحال بينها وبين السلطات الاستعمارية التي قد تلجأ إلى توظيفها ضد الثورة. ولكي يتحقق الإجماع الوطني حول مبدأ الكفاح المسلح من أجل استرجاع السيادة الوطنية المغتصبة. د-توحيد النظام العسكري بالنسبة لجميع الولايات. هـ-وضع الخطوط العريضة لهيكلة جميع شرائح المجتمع الجزائري قصد ضمان مشاركتها الفعلية في العمل الثوري بجميع أنواعه وعلى كافة مستوياته. و-ضبط السياسة الخارجية للثورة. ز-تأكيد شروط التفاوض مع العدو، وهي نفس الشروط المنصوص عليها في بيان أول نوفمبر مع توضيحات بالنسبة لتعيين المفاوضين الذين ¬

_ (¬1) BUY (francoid) LA REPUBLIIQUE ALGERIENNE DEMOCRATIOQUE ET POPULAIRE DIFFUSION LA LIBRAIRIE FRANCAISE. PARIS 1965.P 50 ET SUIVANTES. (¬2) لمزيد من التفاصيل حول الموضوع، انظر الفصلين الثاني والثالث من الباب الثالث.

لا يمكن أن يكونوا من غير جبهة التحرير الوطني الممثل الوحيد الشرعي للشعب الجزائري، وبالنسبة لوحدة التراب الوطني التي تحتفظ بالحدود المسطورة عشية اندلاع الثورة بما في ذلك الصحراء. 5 - إن الحكومة الفرنسية المتتالية قد حاولت، بجميع الوسائل، إرغام جبهة التحرير الوطني على تعديل مواقفها الأساسية لكنها لم تفلح. وبهذا الصدد تجدر الإشارة إلى مساعي قيمولي وإدكارفور وأخيراً الجنرال ديغول. 6 - إن جزءاً هاماً من أيديولوجية جبهة التحرير الوطني قد تجسد على أرض الواقع خلال فترة الكفاح المسلح ويتمثل ذلك في الانقلاب الجذري الذي حصل في ذهنية المواطنين والمواطنات وفي التمكن من توعية الجماهير الشعبية وتعبئتها من أجل تحقيق الأهداف المسطورة في النصوص الأساسية للثورة. 7 - إن جبهة التحرير الوطني قد تمكنت من تزويد الشعب الجزائري بمؤسسات قارة وهياكل اقتصادية ثابتة وإدارة وطنية وتسيرها مجالس شعبية منتخبة ديمقراطياً كما أنها أنشأت مجالس القضاء والصحة والتعليم بالطريقة التي تضمن الثورة لكن اتفاقيات إيفيان حملت في طياتها بذور الإجهاض لكل ذلك. 8 - إن الانحرافات الأيديولوجية قد ظهرت عندما أعطيت لمجموعة من المثقفين المعروفين بنزعتهم الماركسية فرصة التجمع بتونس في إطار أسرة تحرير اللسان المركزي لجبهة التحرير الوطني،، فراحوا يفلسفون الثورة انطلاقاً من مشاربهم الفكرية والثقافية غير آبهين بواقع الشعب العربي المسلم في الجزائر. وإذا كانت تلك الانحرافات قد ظهرت بكيفية محتشمة سنة ستين وتسعمائة وألف من خلال النصوص التي صادق عليها المجلس الوطني للثورة الجزائرية خلال الدورة التي دامت أشغالها في طرابلس من يوم 16/ 12/1959 إلى يوم 18/ 1/1960، فإنها تجذرت بواسطة برنامج طرابلس الذي أعلن على الورق انتقال الثورة الجزائرية من ديمقراطية اجتماعية في إطار المبادئ العربية الإسلامية إلى ديمقراطية شعبية لاتكون متناقضة مع المبادئ الإسلامية. 9 - إن برنامج طرابلس قد حافظ على كثير من الخطوط العريضة لأيديولوجية جبهة التحرير الوطني، لكنه وضع إلى جانبها مفاهيم ومصطلحات جديدة منقولة عن الأيديولوجية الماركسية ولا علاقة لها بحقيقة الثورة وواقعها

في الجزائر. ولقد أدى ذلك بالتدريج لجعل الجماهير الشعبية تتخلى شيئاً فشيئاً عن التزاماتها تجاه جبهة التحرير الوطني إذ لم تعد تجد نفسها في مشروع المجتمع المعبر عنه بواسطة البرنامج المذكور. 10 - إن انتقال الثورة الجزائرية من ديمقراطية اجتماعية في إطار المبادئ العربية الإسلامية إلى ديمقراطية شعبية اشتراكية لم يحصل إلا على الورق ولم يأخذ في الاعتبار ضرورة أولوية الجماهير الشعبية الواسعة واشتراكها في اتخاذ القرار حتى تشعر بمسوؤليتها على الإسهام بفعالية في تطبيقه. 11 - إن ميثاق الجزائر، بدلاً من أن يضع حداً للانحراف، فإنه عمل على تعميقه بواسطة ما أضافه من مغالطات تاريخية وفكرية وانطلاقه، في إثراء برنامج طرابلس من تقييم سطحي للواقع الجزائري غداة استرجاع الاستقلال الوطني، ومن اعتماد دراسات نظرية لاعلاقة لها بطموحات الشعب العربي المسلم في الجزائر. فالقرار المتعلق ببعث الثورة الاشتراكية في الجزائر والذي صادق عليه المؤتمر الأول لحزب جبهة التحرير الوطني المنعقد في فترة مابين السادس عشر والواحد والعشرين من شهر أبريل سنة أربع وستين وتسعمائة وألف لم يكن متوقعاً من طرف المناضلين ولامنتظراً من قبل الجماهير الشعبية الواسعة، لقد كان، فقط، استجابة لرغبة بعض المثقفين المتشبعين بالفكر الماركسي والبعيدين كل البعد عن واقع الشعب. 12 - إن ترسيخ الانحراف الأيديولوجي قد ترتب عليه تجميد القواعد المناضلة وتحييد الجماهير الشعبية. ولقد كان على القيادة السياسية لجبهة التحرير الوطني أن تعتمد قبل كل شيء، إلى تكوين الإطارات والمناضلين فكرياً وثقافياً ثم تسند إليهم مهمة رفع مستوى الوعي لدى الإنسان الجزائري قصد إعداده للدخول إلى مرحلة جديدة من مراحل البناء ذلك أن المواطن لايعرف نوع وطبيعة البناء المطلوب منه المساهمة في تشييده فإنه يكون عاجزاً عن القيام بدوره وغير مهتم بما يجري من تغيير حوله. 13 - إن عدم التصدي للانحراف الأيديولوجي وعدم التفطن إلى ضرورة تزويد إطارات جبهة التحرير الوطني ومناضليها بالتكوين الفكري والسياسي اللازم لتأدية مهامهم في ميادين التوجيه والتخطيط والرقابة والتوعية هما اللذان أديا بالتدريج إلى تهميش الجماهير الشعبية وإلى إجهاض ثورة نوفمبر بواسطة الأحداث التي وقعت في اليوم الخامس من شهر أكتوبر سنة ثمان وثمانين

وتسعمائة وألف. 14 - على الرغم من انعقاد المؤتمر الأول للحزب وانتخاب اللجنة المركزية والمكتب السياسي، والمصادقة على القانون الأساسي والداخلي، وعلى كثير من المقررات واللوائح القيمة: وعلى الرغم كذلك، من إيجاد برنامج عمل دقيق وواسع، وتسليط كثير من الأضواء على بعض المفاهيم الغامضة، ومحاولة وضع سلّم إجمالي لتوضيح العلاقات بين مختلف هيئات الدولة وأجهزتها، رغم كل ذلك فإن الوضع لم يتغير، إطلاقاً، بل إن انفضاض المؤتمر كان منطلقاً جديداً لمزيد من التناقضات والمشاكل الوطنية التي ترجع في أساسها إلى مجموعة من الأسباب التي يمكن تلخيصها كالآتي: أ-إن التشكيلة البشرية للهيئات المنبثقة عن المؤتمر لم تكن قادرة على التغيير، فكرياً خاصة، عن مطامح الجماهير الشعبية، بالإضافة إلى كونها، رغم كل ماوقع، لم تتخلص من تناقضات الماضي وسلبياته التي كانت من الأسباب الرئيسية التي فجرت الأزمة السياسية التي عرفتها البلاد بعد الاستقلال مباشرة. فالتشكيلة على هذا الأساس، تحملت مسؤولية قيادة الثورة قبل أن تتمكن من حلّ مشاكلها الخاصة، التي لها صلة متينة بالقضايا الوطنية، وزيادة على هذا الداء العضال فإن الأمين العام للحزب كان ضعيفاً جداً أمام جاذبية الزعامة والحكم الفردي، لأجل ذلك، وبمجرد أن تم تنصيب الهيئات المنتخبة، راح يدير المبادئ ويتعسف في تصرفاته مع المؤسسات والإطارات، فاتحاً المجال من جديد لأشباح الخوف وعدم الاستقرار ومستحوذاً على صلاحيات الحزب والدولة من القاعدة إلى القمة، الأمر الذي انتهى، بدون إطالة ومن جديد إلى تكريس سياسة الارتجال في جميع الميادين، وإلى تمييع نتائج المؤتمر وإيجاد كافة المبررات للتغيير بجميع الوسائل. ب-إن المعارضة، رغم مشاركتها فعلياً في المؤتمر، ورغم كل ماقامت به من مناورات على جميع الأصعدة، وعندما لم تحرز على ما كانت تتأمله من مكاسب في جميع الميادين، وعوضاً عن أن تخضع لمبدأ المركزية الديمقراطية الذي يخضع الأقلية لرأي الأغلبية، فتتخلى عن النزاع لتناضل داخل الأطر الشرعية التي حدّدها المؤتمر، بدلاً من كل ذلك، فإنها لم تلق السلاح وستظل المعارك المتقطعة تهدّد بنشوب الحرب

الأهلية إلى نهاية عام 1964م حيث تمكن الجيش الوطني الشعبي من السيطرة على المناطق المشوّشة. ج-إن تمكين بعض الماركسيين من الاستيلاء على مناصب حساسة في الحزب وفي الدولة لم يكن من شأنه أن يحدث الثقة والاطمئنان في نفوس مناضلي حزب جبهة التحرير الوطني الذين بدأوا يتذمرون من الوضع وينادون بالتغيير منذ الساعات الأولى التي تلت اختتام أشغال المؤتمر. د- إن المنظمات الجماهيرية، على الرغم من التغيير، لم تتحول نهائياً، إلى هيئات تستجب فقط للخاصيات المميزة لكل فئة من السكان، ولضرورة مضاعفة إمكانيات حركة الحزب في عمله الهادف لتعبئة الجماهير من أجل إنجاح الثورة الاشتراكية في الجزائر. فبدلاً من ذلك، استمرت تلك المنظمات في اعتبار نفسها كياناً سياسياً يمكن أن يستقل بذاته، ومن حين لآخر، صارت تقوم كثيراً ما تخدم أغراض المعارضة، مساهمة بذلك في عملية كبح إدارة المناضلين في التصدي لكل التناقضات المشار إليها أعلاه. هـ-تعرض العديد من الشخصيات السياسية إلى أنواع من الظلم والاضطهاد، ابتداء من المضايقات والملاحقات وانتهاءً بالوضع تحت الرقابة الجبرية والسجن أو النفي إلى الصحراء، وتدهور الحالة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الأمر الذي أدى إلى تكاثر البطالة وانتشار الفوضى والفساد في جميع المجالات، وانعدام الأمن والاستقرار. وخلاصة القول، فإن أيديولوجية جبهة التحرير الوطني قد أثريت مرات عديدة خلال الفترة التي حددناها لهذه الدراسة لكنها، تعرضت إلى مجموعة من الاعتداءات التي قادت إلى انحرافها بالتدريج وإلى تجميدها الفعلي من طرف المؤتمر الأول للحزب الذي انعقد بالجزائر في الفترة مابين 16 و 21 أبريل سنة 1964م، وكما لايخفى على أحد، ليس هناك مثل التجميد خنقاً للإبداع وإجهاضاً للتجربة وإفراغاً للنصوص من مضامينها الإيجابية. وعلى الرغم من كل ذلك، وبعد كل الوقت الذي قضيناه مع النصوص الأساسية لجبهة التحرير الوطني، ونؤكد أن المشروع الذي وضعته ثم أثرته هذه الأخيرة مازال صالحاً لتحقيق المستقبل الأفضل بالنسبة للجزائر، وأن الأهداف

الرئيسية المسطورة فيه لم تتحقق بعد رغم مرور أكثر من ثلاثين سنة على استرجاع الاستقلال الوطني. وبالفعل، فإن الثورة الجزائرية قد استهدفت "محو النظام الاستعماري في الجزائر" بواسطة تحرير الأرض وتحرير الإنسان. ولأن الإنسان الجزائري لم يتحرر بعد، ولأن الأرض في الجزائر مازالت تشكو آثار العدوان الاستعماري عليها، فإننا نعتبر أن نظام الاستعمار الجديد قد وظف عناصره في مجالات التربية والإعلام والثقافة من أجل تكوين إنسان جزائري تابع وعاجز عن الارتقاء إلى مستوى أيديولوجية جبهة التحرير الوطني التي أدار لها ظهره في أول فرصة أتيحت له، وكان ذلك بمناسبة أحداث الخامس من شهر أكتوبر سنة ثمان وثمانين وتسعمائة وألف •••

الفهرس

الفهرس

_ مقدمة الجزء الثاني .................................................................................. 5 الباب الثاني: بناء المجتمع الجزائري الجديد وتطويره .................................................. 7 الفصل الأول: الخطوات الأولى في التطبيق الميداني لأهداف الثورة ................................... 8 التوجهات الأساسية .................................................................................. 9 1 - التوجه السياسي ................................................................................ 9 2 - التوجه الاقتصادي والاجتماعي .................................................................. 10 3 - التوجه الحضاري ............................................................................... 10 *موقف الحكومة الفرنسية من الثورة وتطورها .......................................................... 15 * مواجهة الصعوبات الأولى .......................................................................... 29 * هجومات العشرين أوت 1955 أهدافها ونتائجها .................................................... 37 الفصل الثاني: المجتمع الجزائري الجديد وكيفية تنظيمه ............................................... 44 أ - في مجال السياسة الداخلية ..................................................................... 46 1 - هيئات قيادة الثورة ............................................................................ 52 2 - أولوية السياسي على العسكري ............................................................... 55 ب- في المجال العسكري 70 .................................................................... 70 ج- في مجال الثقافة والاقتصاد 71 .............................................................. 71 د- خلاصة الفصل ............................................................................. 78 الفصل الثالث: التطبيق العملي لأهداف جبهة التحرير الوطني بعد مؤتمر وادي الصومام .......... 80 تقييم أخر لنتائج وادي الصومام ................................................................. 81 الدورة الأولى للمجلس الوطني للثورة الجزائرية .................................................... 98 من حرب العصابات إلى حرب الواقع ........................................................... 102 التخطيط للعمل السياسي ....................................................................... 107 1 - في اتجاه الأمم المتحدة ..................................................................... 116 2 - في اتجاه المنظمة الأفرو آسيوية ............................................................. 117 3 - في اتجاه الحلف الأطلسي .................................................................... 118 خلاصة الفصل: ................................................................................... 119

_ الباب الثالث ................................................................ 123 التحولات الفكرية الكبرى .................................................... 123 الفصل الأول: الإثراء الثالث لنصوص جبهة التحرير الوطني ............... 124 - الضباط الجزائريون القادمون من الجيش الاستعماري ..................... 125 مناورات الجنرال ديغول وحق الشعب الجزائري في تقرير المصير: .......... 127 دوافع رضوخ ديغول للتفاوض مع 132 .............................. G.P.R.A المجلس الوطني للثورة الجزائرية في دورته الثانية: ........................... 135 الفصل الثاني: من ثورة التحرير إلى الثورة الديمقراطية الشعبية .............. 144 الفعل ورد الفعل قبل التفاوض: ........................................... 145 الثورة الجزائرية في مرحلتها الثالثة: ....................................... 151 المفاوضات ووقف إطلاق النار: ........................................ 156 الحزب والمنظمات الجماهيرية: ........................................ 189 الفصل الثالث: أوضاع الجزائر غداة استرجاع السيادة الوطنية .......... 194 المنافذ الاستعمارية: ................................................... 195 التسابق إلى السلطة: .................................................. 200 مواجهة الأوضاع الموروثة عن الاستعمار: ............................. 209 الانزلاق نحو الحكم الفردي: ........................................... 217 قراءة فاحصة لميثاق الجزائر: ......................................... 220 الخاتمة .............................................................. 228 •••

رقم الإيداع في مكتبة الأسد الوطنية تاريخ الجزائر المعاصر: دراسة/ محمد العربي الزبيري- دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 1999 - ج (1)، ج (2)؛ 24سم. 1 - 961.5 ز ب ي ت ... 2 - العنوان 3 - الزبيري ع- 1338/ 8/ 2000 - ... مكتبة الأسد ••

§1/1